دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني

أبو إسحق الحويني

استثمار الوقت عند العلماء

استثمار الوقت عند العلماء إن الوقت هو من أكثر ما يغبن فيه المرء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وما من مسلم إلا ويعد الوقت في حياته هو رأس ماله، فإن استغله واستثمره كان ذلك فوزاً وفلاحاً له في الآخرة، وإن فرط فيه وضيعه كان حسرة عليه وندامة. ولقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في استغلالهم لأوقاتهم، فلا يكاد الواحد منا يسمع تلك الروايات التي تحكي لنا عن كيفية استثمارهم لأوقاتهم في العمل والعلم، وقبل ذلك كله في العبادة إلا ويخال تلك الروايات من الأساطير لما يظهر فيها من جدهم واجتهادهم وجعلهم الآخرة نصب أعينهم.

احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم

احتساب السلف لأعمارهم وجهدهم في طلب العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن أشرف ما يستثمر باتفاق العقلاء، هو الوقت؛ لأن الوقت هو العمر، وبمقدار ما يستثمر المرء هذا الوقت بمقدار ما تكون له المكانة في الدار الآخرة؛ لأن حياته في الآخرة إنما هي باستثماره لعمره، فإذا ضيعه خسر هناك، وإذا استثمره حق استثماره ربح. ولا أفضل ولا أجود من ضرب المثال في استثمار الوقت بحياة العلماء؛ لأنهم هم الذين عرفوا شرف هذا العمر، فلذلك نضرب المثل بهم، فهم القدوة، وهم الذين نأخذ عنهم الفتوى. لقد وجدنا في علمائنا السالفين أشياء يتعجب المرء منها، عندما ينظر إليهم وهم يستثمرون الثواني والدقائق في أعمالهم، وكان يتخلل ذلك كله إخلاص في طلب العلم؛ لذلك استطابوا المعاناة واحتسبوها في سبيل وجه الله تبارك وتعالى في طلبهم لهذا العلم. وهذا الذي يفرق بين هؤلاء وبين كثير من الأجيال من بعدهم، وهي مسألة الحسبة في الطلب، فإذا احتسب الرجل جهده في الطلب لا يشعر بأي شيء من المعاناة؛ لأنه إنما يحتسب وجه الله تبارك وتعالى، وأضرب مثلاً بالقصة المشهورة في سبيل التثبت من لفظة واحدة أو من حديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقله هؤلاء العلماء إلى جميع الأمة بعدهم، ولولا ثبات هؤلاء وحسن بحثهم لما كان بأيدينا شيء ذو بال من تراث النبي عليه الصلاة والسلام: من أحاديث وأسانيد وأقوال علماء. ذكر ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه المجروحين، عن نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بدار شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فخرج شعبة فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فخرج -أي: بعد ذلك- فوجدني قاعداً أبكي، فقال: هو بعد يبكي، فقال له: عبد الله بن إدريس إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، سمعته من عبد الله بن عطاء فغضب ولم يجب، غضب؛ لأن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس. ومعروف أن من أنواع التدليس -وهو تدليس أبي إسحاق السبيعي - أن يسقط الراوي شيخه الضعيف أو الصغير فيعلو بسنده، وقد يكون هذا الرجل ضعيفاً أو كذاباً أو متروكاً، لذلك لم يكن العلماء يقبلون من المدلس حديثاً إلا ما صرح فيه بسماعه من شيخه، وكان من أشد المنكرين للتدليس والمدلسين شعبة بن الحجاج صاحب هذه القصة، حتى أنه كان يقول: لأن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس، وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلس، وكان شديداً جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب، فـ أبو إسحاق السبيعي كان شعبة لا يأخذ من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع. وهنا فائدة في خصوص رواية شعبة عن ثلاثة نفر من شيوخه وهم من المدلسين، قال شعبة كما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار بسندٍ صحيح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة: كفيتكم تدليس قتادة، والأعمش، وأبي إسحاق السبيعي، فحيثما وجدت سنداً فيه شعبة عن واحد من هؤلاء ولو قال: (عن) فخذه ولا تعله بالتدليس، أي: إذا وجدت: شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن فلان، فلا تقل: أبو إسحاق مدلس وقد عنعن، لماذا؟ لأن الراوي عنه شعبة، وشعبة لا يروي عن هؤلاء إلا ما ثبت أنهم سمعوه من مشايخهم. إذاً: يروي شعبة عن هؤلاء رواية خاصة فلا تعل الحديث بتدليس واحد من هؤلاء، وفي صحيح أبي عوانة بسندٍ صحيح قال: عن شعبة قال: (كانت همتي من الدنيا شفتي قتادة، فإن قال: حدثني كتبتُ، وإن قال: قال، تركته)، فلأن أبا إسحاق السبيعي يدلس خاف أن يكون دلس في هذا الحديث فسأله: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء، فغضب، وغضبه هذا يدل على أنه دلس؛ لأنه لو كان سمع حقيقةً لبادر وقال: نعم. سمعته، فما الذي يجعله يغضب ويتوقف؟! فهذا دليل على أنه لم يسمع، فأصر شعبة على أن يأخذ جواباً سمعت أو لم تسمع؟ وأَبى أبو إسحاق السبيعي أن يعطيه جواباً، فقال مصعب بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -وشعبة هذا بصري- قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث. قال: فذهبت، فدخلت على عبد الله بن عطاء فإذا رجلٌ شاب، قلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر قال: نعم. قلتُ له: سمعته من عقبة بن عامر، قال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال شعبة: فذهبت إلى مالك فسألته: حج سعد بن إبراهيم هذا العام؟ قال: ما حج العام! قال: فقضيت نسكي وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر، قال: نعم. فقلت سمعته منه؟ قال: لا. إنما حدثنيه: زياد بن مخراق -وهو بصري- قال: من عندكم خرج، حدثني زياد بن مخراق قال شعبة: حديث مرة بصري، ومرة مدني، ومرة مكي، دمر عليه لا أصل له. قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء عن عقبة بن عامر، قال: نعم، فقلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ فقال لي: إنه ليس من حاجتك! أي: أنه ضعيف، فقال له شعبة فما بد؟ قال: فلا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل، فتغسل ثيابك، ثم تأتيني، قال: فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، قلت: حديث الوضوء، قال: نعم. قلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. حدثنيه شهر بن حوشب، فقلت: شهر عن من؟ فقلت: عن أبي ريحانة عن عقبة به، فقال شعبة: حديث صعد ثم نزل دمر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي. فأنت ترى رحلة شعبة من البصرة إلى مكة إلى المدينة، ثم إلى البصرة لأجل أن يتثبت من حديث واحد فيه هذا الثواب العظيم، كم من الليالي أنفقها شعبة في سبيل طلب صحة هذا الحديث الواحد؟!! وكان شعبة من أمراء المؤمنين في الحديث -يعني: ممن يحفظون ألف ألف- فكم من الأحاديث له فيها نفس هذه القصة؟ ألف أو ألفان أو أربعة آلاف من ألف ألف؛ لترى أن هؤلاء الناس عندما كانوا يطلبون الحديث كانوا يطلبونه تديناً لا تكثراً، لذلك طال نفسهم لحسبتهم، فكان أحدهم يتحمل كل هذا النصب حتى يؤدي إلى أمة النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً صحيحاً يتعبدون به جميعاً. ولذلك فنحن عندما نذكر شعبة بن الحجاج -وقد مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة عام- وغيره من أهل الحديث، فإننا نترضى عليهم أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكان كثيرٌ منهم في المسافات الطويلة بين البلدان يؤجر نفسه خادماً للقوافل نظير أن يحملوه، فإذا كان مثلاً بصرياً وأراد أن يخرج إلى مكة فإنه يذهب إلى بعض القبائل التي تتوجه إلى مكة، أو بعض القوافل التي تتوجه إلى مكة فيعرض نفسه خادماً يخدمهم ويقوم عليهم نظير أن يحملوه إلى مكة، وقد يكون قلامة ظفرٍ من هذا الإمام تساوي القافلة كلها؛ لكنه لا يهمه ذلك، والمهم أن يصل إلى بغيته. فهؤلاء ما كانوا يضيعون أعمارهم، وكانوا يستثمرون العمر بشكل عجيب. قال ابن أبي حاتم الرازي: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو مضطجع، وهو يمشي، وهو داخلٌ إلى الخلاء. وذكر ابن الجوزي أن الخطيب البغدادي كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه. وذكروا عن ابن أبي حاتم الرازي أنه قال: دخلنا مصر فظللنا فيها سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلنا ننسخ، حتى ذهبنا إلى بعض الشيوخ، فقالوا لنا: تأجل موعد الدرس، فقلنا: نأكل، فذهبنا إلى السوق فاشترينا سمكة، فما إن ذهبنا إلى الدار حتى حان موعد درس شيخ آخر فتركنا السمكة، وظللنا في نهارنا ندور على الشيوخ وفي ليلينا ننسخ، فمكثنا ثلاثة أيام ما استطعنا أن نقربها -أي: السمكة- ولم نتفرغ لشيها فأكلناها نيّئة، وهذا بسبب أنهم لا يجدون وقتاً. فإذا نظرت إلى مثل هؤلاء لوجدت أن ابن أبي حاتم الرازي كتب المصنف المسند في ألف جزء، مسند كبير في ألف جزء!! فما يستطيع أن يكتب ألف جزء من مروياته ولا الكتب الأخرى للجرح والتعديل وغيره إلا من كان يعد الدقائق والثواني. وذكروا عن ابن أبي داود أنه قال: خرجت إلى أبي سعيد الأشج لأكتب عنه -وهذا من كبار مشايخه- قال: فاشتريت ثلاثين مداً باقلة -يعني (30) كيلو فول- فكنت آكل وأكتب عن أبي سعيد، فما نفد الفول

تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية

تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية إنك عندما تنظر إلى هؤلاء الأعلام وإلى عزائمهم، وتنظر إلى المتأخرين مع توفر الإمكانات وسهولة الحركة والتنقل، ومع ذلك لا ترى عند هؤلاء -المتأخرين من أهل العلم- عشر معشار ما عند المتقدمين، فالواحد لا يستطيع أن يحفظ مائة حديث مسند، فيدخل حديثاً في حديث، ويدخل متناً في متن، وتضطرب عليه الكلمات. أما أولئك فكانوا يحفظون الألوف المؤلفة من الأسانيد، وقصة البخاري المشهورة لما دخل بغداد فقلبوا عليه الأحاديث خير دليل على ذلك، فـ البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف، ولم يكن في وجهه شعرة، حتى كان بين المستملي والمستملي عشرون متراً، وعشرات الذين ينتظرون حتى ينقلوا كلام البخاري إلى هؤلاء الذين لا يسمعون صوت البخاري، فطار ذكره إلى بغداد قبل أن يدخلها، وكانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية وكل العلماء فيها، والكل يحرص أن يدخل إلى بغداد حتى يقابل العلماء الكبار كـ أحمد وابن معين وغيرهم. وكان من عادة أهل بغداد أنهم ينتقصون الأفاضل، فلما رأوا البخاري استقلوه، فعمدوا إلى مائة حديث وقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا إسناد هذا الحديث في متن ذاك، وإسناد هذا المتن ذاك، وأعطوا عشرة رجال كل رجل عشرة أحاديث، وقالوا: قوموا واتلوا عليه هذه الأحاديث. فبعد أن انتهى المجلس قام أحدهم، وقال له: ما تقول في الحديث: حدثنا فلان عن فلان عن فلان وساق متنه، فقال: لا أعرفه، طيب: والحديث الثاني، قال: لا أعرفه. والثالث: لا أعرفه. وهكذا، وقال الثاني، فأخبره بأنه لا يعرف العشرة، إلى تمام المائة وهو يقول: لا أعرفه، فأما الجهلاء الأغماط فقالوا: لا يعرف أي شيء؟!! فقضوا عليه بالعجز، وأما العلماء فقالوا: فطن الرجل. فبعد أن انتهى العشرة من تمام المائة، قال للأول: أما حديثك الأول، فمع الثاني، هذا السند للمتن الفلاني، وسندك الثاني للمتن الفلاني، وسندك الثالث للمتن الفلاني، حتى رد المائة حديث إلى أسانيدها وإلى متونها، فما قام من مجلسه حتى شهدوا له بالفضل. يقول الحافظ ابن حجر: ليس العجب أن يحفظ الصواب، فإن الصواب يحفظه كل أحد، إنما العجب أنه حفظ الخطأ على ترتيب ما ألقوه، يعني يقول له: سندك الأول مع الخامس رقم أربعة، وسندك الثاني مع الثالث رقم تسعة، وهكذا، فكيف حفظ هذا الخطأ على هذا الترتيب بمجرد أن ألقوا عليه الحديث مرةً واحدة. فكان هؤلاء العلماء يحفظون، كما صح عن البخاري أنه قال: (أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح)، لا يدخل عليه متن في متن، بل بلغ من ضبطهم -سواء كان ضبط الصدر أو ضبط الكتاب- مبلغاً عجيباً جداً. فيذكر ابن حبان وغيره في مقدمة المجروحين بسند صحيح إلى أحمد بن منصور الرمادي، قال: جاءني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وفي يد يحيى ورقة، فقال: أعط هذه أبا نعيم الفضل بن دكين، وهذا من مشايخ أحمد وابن معين، ومن مشايخ البخاري، لأنه عمر فأدركه البخاري، فترى أن أحمد شيخ البخاري، والبخاري أدرك شيخ أحمد، إذاً: كأنه مثل أحمد في الطبقة في هذا الشيء، لأن كلام الرجلين يأخذ عن شيخ واحد، مع أن أحمد شيخ البخاري وهذا الذي يسميه العلماء العلو. فقال: يحيى بن معين أعط هذه الورقة لـ أبي نعيم إذا خف المجلس، قال: فنظر أحمد في الورقة فإذا يحيى بن معين خلط أحاديث لـ أبي نعيم بأحاديث ليست من حديثه، فخلطها ببعضها وأدخل أسانيد في المتون، على أساس أن يعطيها للفضل، فإذا نظر الفضل وأقر بما فيها فقد اختلط؛ لأنه لا يميز حديثه من حديث غيره، وكان الفضل بن دكين إذا جلس في تلك الأيام على الكرسي كان يجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره لجلالتهما، وكان بقية الطلبة يجلسون دونيهما. فبعدما خف المجلس قال أحمد بن منصور الرمادي: فناولته الورقة، قال: فنظر إليها وجعلت عيناه تلتفت أي: أنه قد فطن لهذا الأمر- ثم أطرق ساعة -أي: لحظة- ثم قال لي -يعني لـ أحمد بن منصور الرمادي -: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا وأشار إلى أحمد فآدب من أن يفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا، يعني عمل يحيى، ثم أخرج رجله ورفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: أعلي تعمل؟! قال: فقام يحيى فقبله بين عينيه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فلامه أحمد، وقال: قد نهيتك أن تفعل ذلك، وقلت لك: إن الرجل ثبت، فقال له يحيى: والله لرفسته أحب إلي من رحلتي. فكانوا يحفظون حفظاً عجيباً، وهذه الأمة تميزت من بين سائر الأمم بهذا الحفظ، يعني رجل يحفظ ألف ألف حديث ولا يدخل له إسناد في متن أبداً، هذا مما يقطع عليه بالعجب، فهؤلاء ما كانوا يفعلون ذلك إلا لأنهم ما كان يشغلهم عن ذلك شيء، فحياتهم وهمتهم في هذا الطريق. لذلك فطالب العلم إن لم يتأس بهؤلاء ضاع عمره هباءً، وإلا فأنت الآن عندك من الكتب والإمكانات التي ما كان يحلم بتوفرها أي إنسان، فالحافظ ابن حجر ما كان عنده هذه الكتب، وإنما كان أمين المكتبة العامة، كان هو صاحب الخزانة، فكان ينتفع بها، وإلا فقد كانوا فقراء، لا يستطيعون أن يستأجروا ناسخاً لينسخ لهم كل الكتب الموجودة، وأنت الآن عندك هذه الكتب، لكن متى ستحفظ؟ العز بن عبد السلام لم يكن عنده المحلى ولم يكن عنده المغني، وكان إذا أراد أن يستخرج مسألة من هذين الكتابين يرسل إلى محيي الدين بن عربي الصوفي المعروف ليستعير منه الكتابين، وقال: ما استطبت الفتيا حتى صارت عندي نسخة من المحلى والمغني، يعني: ما حصّلها إلا بعد زمن طويل، والآن أصغر الطلبة عنده هذين الكتابين وزيادة. وأقرب مثال الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر في تعليقه على المحلى لما نقل ابن حزم أثراً من مصنف عبد الرزاق، فجعل يتحسر، ويقول: أين هذه الكتب عند صبيان الكتاتيب ونحن لا نسمع لها بخبر ولا أثر، بل مات رحمه الله ولم ير موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، وهو يتكلم في ابن حبان قال: وعلمت أن للهيثمي كتاباً في ذلك، ولو اطلعنا عليه لكان كبير الفائدة ينفعنا في إخراج الصحيح. والآن الكتب كثيرة والمخطوطات كثيرة، ولكن كما يقول ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم!! لا يبكى على ضعف الإمكانات؛ لأنه إذا آتاك الله تبارك وتعالى همةً عالية فما من شيء يمكن له أن يعترضك، كان الحافظ الحازمي رحمه الله يكتب طوال الليل يصنف ويؤلف ويتعقب وينسخ طوال الليل، فأشفق عليه جارٌ له من هذا السهر، فكلما نظر رأى السراج يضيئ، فقال لجاريته يوماً، قولي له: ليس بالقنديل زيت، لعله ينام أو يستريح. فقالت الجارية: ليس بالقنديل زيت، فقال: لا بأس، وطبعاً: الرجل يريد أن يراقب هل ينام أم لا. قال: فنظرت إليه فوجدته يقوم الليل، سُمع صوته وهو يقرأ القرآن إلى هذا الجار حتى أذن مؤذن الفجر. كانوا أناساً لم يتعودوا على عيشة البطالين، وإنما كانت حياتهم كلها إما عبادة وإما طلب علم، والحافظ الحازمي هذا مات وعمره ستة وثلاثون سنة، وابن عبد الهادي مات وعمره تسعة وثلاثون سنة، وأعجب من ذلك سيبويه الإمام المشهور، صاحب الكتاب في النحو، مات وعمره ثنتان وثلاثون سنة. وسيبويه هو صاحب الكتاب في النحو، الذي ما جسر كبار النحاة وكبار العلماء أن يدخلوا على هذا الكتاب حرفاً واحداً، ولا زالوا يلتزمون عباراته حرفياً حتى الساعة. وهذا كله بسبب الهمة العالية التي كانت عند الأسلاف: ومسلم رحمه الله روى في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير، مع أن هذا ليس من موضوع في كتابه، إنما موضوع كتابه الصحيح المسند، روى بسنده إلى يحيى بن أبي كثير، أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. إذا كنت ذا همةٍ عالية فيظل بدنك متعباً بصفةٍ دائمة، لماذا؟ لأن روحك طموحة، تحتاج إلى بدن وبدن وبدن، يعني بدنك هذا لا يصلح لهذه الروح الفتية. وأعجب من ذلك ما ذكروه عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له كتاب اسمه (الفنون) طبع منه مجلدان، وهذا الكتاب يقع في ثمانمائة مجلد، قال ابن رجب في ذيل الطبقات: حدثني فلان أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة، وهذا كتاب واحد!! فكيف صنف كتاباً بهذه الضخامة؟ إلى جانب كتبه الأخرى، إلى جانب الدروس التي كان يلقيها، إلى جانب حياته، فكان له زوجة وأولاد وكان عنده مشاكل وكان له رحم، فمن أين وجد الوقت حتى يصنف مثل هذا الكتاب. اسمع إليه يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلّ لساني عن مناظرة وبصري عن مطالعة، استرحت فأعمل فكري حال استراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإنني أسطر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار خث الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فرجل يلاحظ الوقت ما بين مضغ الخبز والكعك، لا يمكن أن يضيع ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً وهو يحرص على دقيقتين، فكانوا يحرصون على الأنفاس؛ لأن الأنفاس هي العمر، وبقدر استكمالك للعمر يكون جزاؤك في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله تبارك وتعالى إلى عبدٍ بلّغه ستين سنة)، فإذا بلغ ستين سنة بلغ عذره، لأنه

فوائد أخذ العلم عن المشايخ

فوائد أخذ العلم عن المشايخ قد يقول قائل: نحن الآن صارت عندنا همة، ونريد أن نطلب العلم، فما هي أقصر السبل إلى طلب العلم وقد ضاع من عمرنا الشيء الكثير؟ فيقال: إنك إذا أردت أن تقصر عمرك أو تختصره في طلب العلم فاحرص على لقاء المشايخ، فإن لقاء المشايخ والتعلم والأخذ عنهم سنةٌ ماضية، وانكبابك وحدك على الكتب له مضار كثيرة، وهذه المضار لا توجد إذا تلقيت العلم عن شيخ، فإن ميزة الأخذ عن شيخ أنه يقصر لك العمر، ويصحح لك الفهم، ويعطيك الأدب. لذلك تجد أن أكثر الذين تعلموا على الكتب وحدهم ليس عندهم من الأدب ما عند الذين تعلموا على المشايخ، لماذا؟ لأنه يقرأ في كتاب، فيرى العلماء يتعصب بعضهم لبعض، فيعيش في نفس الدور. فإذا ذكر النووي أو ذكر ابن حجر أو ابن تيمية أو غيره وقد رأى رد العلماء عليهم يتجاسر أيضاً فيرد عليهم، وما لاحظ الفرق بين الراد والمردود عليه، لكن لو تعلم على شيخ فإنه يتأدب بأدب طالب العلم.

اكتساب الأدب من أهم فوائد التعلم على المشايخ

اكتساب الأدب من أهم فوائد التعلم على المشايخ من أعظم ثمرات الأخذ عن الشيخ: الأدب، والمشايخ كانوا ينقلون الأدب مع العلم، فما كانوا يعلمون فقط، وإنما كانوا يؤدبون، فممن أذكرهم في هذا المضمار الإمام العلم المشهور سليمان بن مهران الأعمش، وقد كان يؤدب تلاميذه أدباً ما نعرفه عن كثير من المشايخ، كان يذلهم إذلالاً في طلب الحديث، وكان عسراً جداً فما يكاد يعطي واحداً حديثاً إلا بشق الأنفس، حتى أن واحداً سأله سؤالاً فكلح وجهه، فقال له: والله لقد علمناك كالح الوجه إذا سئلت حديثاً كأنما تنتزع روحك، مع أن الأعمش من المتقنين، يعني: أحاديثه كثيرة جداً في دواوين الإسناد، فلم يكن على عُسر في الحقيقة، وإلا لو كان عسراً ما حفظنا عنه كل هذه الأحاديث، لكن كان إذا رآهم مقبلين على الحديث تمنع عليهم، حتى إذا كان فيهم مستكبر أو من يظن نفسه ابن أمير أو وزير فسيقول: أيظن أنه يذلنا؟ فينصرف، ومثل هذا لا يفلح، فهو كان يعالج فيهم الكبر بهذا الإذلال. حتى أن رجلاً ذات مرة جاءه وقال له: يا أبا محمد! -وهذا الراوي: كان يبكي في تذكره، لأنه كان إماماً كبيراً- قال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده، فأخذه من حلقه ورجزه في الحائط وقال: هذا إسناده، فما قال: الأعمش هذا سيئ خلق، والمشايخ غيره كثير، وكان بدل الأعمش ألوف؛ لأنهم كانوا يريدون الأعمش لعلو سنده وثقته وضبطه. وذكر الخطيب في شرف أصحاب الحديث عن الأعمش مقالات كثيرة جداً، وخص الأعمش بالذات بهذا الكم، فذكر من ضمن ما ذكر أنه اشترى كلباً لأصحاب الحديث، حتى إذا جاءوا واقتربوا من الباب أطلق عليهم الكلب، فكان إذا سمع همهمتهم وأصواتهم وأصوات أقدامهم يرسل عليهم الكلب فيفرقون، وهم في كل ذلك لا يكلون ولا يملون، أي: ليس إذا رأوا الكلب يعتبرون ذلك اليوم عطلة، لا. وإنما إذا دخل الكلب الدار رجعوا مرة أخرى، فإذا خرج الكلب عليهم فروا مرة أخرى وهكذا، حتى دخلوا عليه ذات يومٍ وإذا بالكلب غير موجود، فلما رآهم الأعمش بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الذي هو الكلب! وذات مرة كان يمشي في جنازة -وكان الأعمش كفيفاً رحمه الله- فأخذه رجلٌ من أصحاب الحديث، وقال: أصاحبك يا أبا محمد!، فصحبه لكنه أخذه وانحرف به عن طريق الجنازة، وطبعاً كان هناك صمت فلم ينتبه الأعمش أنه خرج من طريق الجنازة، فما زال يمشي ويمشي حتى قال له الرجل: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا. قال له: أنت في جبانة كذا وكذا، والله لا أردك البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً، فقال له: اكتب، فكتب! فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان حتى ملأ الألواح، وهذا الذي لا يستطيع أن يأخذ حديثاً من الأعمش، فأخذ منه هذه الأحاديث كلها، فرجع به والأعمش متغيظٌ عليه، وهو يعلم ماذا سيفعل الأعمش به إذا رجع إلى الدار، فدفع الألواح لأول صاحب لقيه في الطريق، فلما ذهب إلى الدار قال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد! فأمسك بعنقه، وقال: خذوا الألواح من الفاسق!! فقال: لقد مضت الألواح يا أبا محمد؟ فقال له: كل ما حدثتك به كذب!! حتى يزهده فيها، فقال له: أنت أعلم بالله من أن تكذب. فكان عسراً جداً رحمه الله. فهذا كان يربي تلاميذه، وكان تلاميذه يجلسون فما يستطيع الواحد منهم أن يتنفس، فلو تكلم رجل في الحلقة فإنه يوقف مجلس التحديث وينصرف، حتى إن رجلاً من الغرباء جاء وجلس بجانب الأعمش، وكان الأعمش يكره أن يجلس أحد بجانبه، ولكن الرجل لا يعرف أن العادة أنهم لا يجلسون بجانب الأعمش، فجلس، فأحس به الأعمش، فكان يقول: حدثنا فلان ويبصق عليه ومن ينهونه أن يتحرك؛ لأنه لو قال للأعمش: ماذا تعمل؟ فسوف يوقف مجلس التحديث، فصبر على هذا حتى انتهى المجلس. فأي ذل أكثر من هذا؟!! إنها تربية فكان رحمه الله شديداً، والمربي يحتاج في هذه المواضع إلى الشدة، حتى لا يفلت منه الحبل كما يقولون، وليس هذا فقط، بل كان هذا شأنه حتى مع الحلاقين، فكان إذا دخل عند الحلاّق وأمره بشيء فخالفه قام، حتى ذكروا أنه قال لأصحابه: أبغوني حلاقاً أخرس، لأن الحلاق معروف بكثرة الكلام، فهو يريد حلاقاً أخرس لا يتكلم يحلق له فقط، لا يجلس الوقت بعد الآخر يقول له: الحديث الفلاني يا أبا محمد والحديث العلاني، فبحثوا له عن حلاق وأخذوا على الحلاق المواثيق ألا يتكلم، ولا يسأله في حديث، فحلق له رأسه حتى بلغ النصف، قال: يا أبا محمد! حديث ولم يكمل! فقفز الأعمش من على الكرسي بنصف رأسه، ودخل الدار، فظل ثلاثة أيام ونصف ورأسه محلوق، حتى كانوا يقولون له: الرجل لن يتكلم بعد ذلك، فبعد ثلاثة أيام من المراجعة دخل إلى الرجل فحلق له النصف الآخر ولم يتكلم. فكان عند الأعمش رحمه الله حدة، كان يستخدمها مع طلاب الحديث، ولم يكن الأعمش وحده هكذا بل كان كثير من المشايخ على هذا النحو، فذكر ابن عساكر في ترجمة يحيى بن معين في تاريخ دمشق: أن رجلاً جاء لـ يحيى بن معين وقال: يا أبا زكريا! أنا مستعجل، حدثني بحديثٍ أذكرك به، قال له: اذكرني إذ طلبت مني حديثاً فلم أفعل، وأبى أن يحدثه، وأبو بكر بن عياش أيضاً ورث هذه الشدة عن الأعمش، كان عسراً جداً، لا يكاد يعطيهم حديثاً، حتى إنهم قالوا له ذات يومٍ: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، قال: ولا بنصف حديث، قالوا: حدثنا بنصف حديث، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: أنت عندنا اثنان، يعني: كبروه من أجل أن يحنّ عليهم، فقال لهم: (كان إبراهيم يدحرج) فقال الخطيب: فانظر إليه كيف أنه حدثهم بشيء لا ينفعهم. يعني ضن عليهم حتى في نصف حديث أن يحدثهم بشيء ينفعهم، فكانوا يربون، ما كانوا يعطون علماً فقط، فلذلك إذا لزمت المشايخ تأدبت كثيراً وراح عنك كثير من الأخلاق الجاهلية، ويظهر هذا في طلبة العلم لاسيما إذا تعددت مشايخهم؛ لأن الذي يلزم شيخاً واحداً إذا وقع الشيخ في حفرة سقط وراءه، وكما قال الأول: الذي يقتصر على شيخٍ واحد كمن له زوجة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، وإذا مرضت مرض معها؛ أما الرجل الذي يعدد فليس كذلك، فكذلك الرجل إذا طلب العلم عن عدة مشايخ فإنه لا يستطيع أن يعرف خطأ شيخه الأول إلا إذا جالس شيخه الآخر، ولذلك ترى السماحة والإنفاق في البحث عند من له أكثر من شيخ أكثر ممن له شيخ واحد. فالذي له شيخ واحد يكون وراءه بقضه وقضيضه يقول بقوله، ويجمع جراميزه في سبيل نصر قول هذا الشيخ، بخلاف إذا كان له أكثر من شيخ، فطلب العلم على المشايخ مهم جداً.

اختصار الوقت في الطلب من فوائد التعلم على المشايخ

اختصار الوقت في الطلب من فوائد التعلم على المشايخ التعلم على شيخ يقصر لك العمر، ويختصر لك الوقت، في مجلس واحد يلخص لك كتاباً لو أنك قرأته وحدك لعلك تظل فيه شهراً، ويحِل لك كثيراً من الإشكالات؛ يعني مثلاً: مرت عبارة من العبارات في كتاب، كان قالها أحد الذين يردون على بعض العلماء، بعدما أبدى بعض الاحتمالات على دليل من الأدلة، فقال بعد أن ذكر ذلك: والقاعدة تقول: (إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال). فأنت تذهب وتفتش في الكتب عن هذه القاعدة، هل أفردها أحد بذكر فما تجد أن أحداً أفردها بذكر، فكل دليل يمكن أن يطرقه الاحتمال، وكل دليل تستطيع أن تورد عليه أي احتمال، فهل إذا أوردت احتمالاً على أي دليل يسقط الاستدلال بالدليل، إذاً: لم يسلم لك من الأدلة شيء، فأي إنسان يقول: يحتمل أن الموضوع كذا وكذا، يحتمل كذا، ويحتمل كذا. إذاً: هذه القاعدة هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟ ولو سلمنا أنها صحيحة فما هو الحد الفاصل في الاحتمال؟ ما هو الاحتمال الذي يسقط الاستدلال بالقاعدة؟ هل هو كل احتمال أم لابد له من وصف معين؟ هذه المسألة لن تجد لها حلاً إلا إذا كنت تدرس الأصول على شيخ، وكنت ذكياً بحيث تمر عليك مثل هذه العبارات فتسأله وتناقشه، فيعطيك عصارة عمره في هذه القاعدة، وهذه القاعدة ليس لها فصل مفرد في كتب الأصول، ولكن هو من خلال استقرائه ومناقشته يعطيك ثمرة عمره، ولعله ظل السنوات حتى حصل على العشر كلمات التي أزجاهن لك في عشر دقائق. وأنت تطالع كتاب الفروق للقرافي أول فرق هو الفرق بين الشاهد والراوي، وقال: إنما بدأت بهذا الفرق لأني ظللت ثماني سنوات أطلبه، ولا أجد أحداً من مشايخي يكفيني حتى وقفت على كتاب، ثم كتبها في نصف صفحة. فالنصف صفحة هذه تساوي ثماني سنوات من عمر القرافي، فالشيخ يقصر لك العمر، ولا زلت أذكر أنني في بداية طلب علم الحديث ما كنت أعرف أن هناك شيئاً اسمه مشايخ، ولا أن هناك شيئاً اسمه علم، ما كنت أعلم إلا أني قرأت أشياء، فقلت: هذا العلم من أين آتيه؟ فقالوا: عليك بكتاب الباعث الحثيث أو آخر مختصر عنه. لكن ما كنت أعرف أن هناك مشايخ ولا طلب وما دلني أحد، فجعلت أقرأ في الكتب وأنا لا أفهم شيئاً، نعم هو كلام عربي لكن لا أفهم شيئاً من هذا الكلام، فقلت: سأدخر هذا الكتاب إلى الإجازة الصيفية ثم أقرأ فيه، فجعلت أقرأ فيه ولا أفهم أي شيء، وأجهد نفسي حتى أخذ مني الحديث الصحيح نحو واحد وعشرين يوماً؛ حتى فهمت، وبعدما بدأت أقرأ في مصطلح الحديث بدأت أفهم معنى المصطلحات، والمسألة يسرت لي، لكن اعترضتني عبارة في حد الحديث الضعيف، وحتى أساعد نفسي على الفهم كنت آتي ببعض الأولاد الصغار من القرية الذين في الإعدادية وأشرح لهم، وإنما أشرح لنفسي؛ لأنهم لا يفهمون، فأنا آتي وأصلي بهم ثم أسلم وأشرح، والإنسان عندما يشرح يصبح عنده شيء من النشاط، ويتوقد ذهنه ونحو ذلك. فكنت أشرح لهم؛ لأنني لا أعرف أحداً يدلني على هذا العلم، حتى جاءت هذه العبارة في هذا الكتاب، والضعيف: هو الذي لا يحتج به، والذي تقاعد به الجابر، والضعيف غير المنجبر هو الذي تقاعد به الجابر عن مرتبة الذي لا يحتج به، فما معنى (جابر) و (منجبر) و (تقاعد به)؟ فلم أفهمه قط، وكان موعد الدرس بعد العصر، فبعدما صليت الفجر جلست أفكر وآتي العبارة من اليمين والشمال لأفهم؛ لأني سأشرحها، وحاولت فهم العبارة ولكن دون جدوي، كانت مغلقة تماماً، وكانوا يجلسون أمامي وأنا خجلان بيني وبين نفسي ماذا أقول لهم، فجعلت أقول: الحديث الضعيف والمنجبر وغير المنجبر والكلام واضح، وهو ليس واضحاً بالنسبة لي، فأنا أتكلم لعلها تأتي من هنا أو تأتي من هنا، فقلت: تعرفون (المجبراتي)، وأول ما نطقت بكلمة (المجبراتي) افتتح علي التعريف، فقلت: يعني هل عرفتم عظم الإنسان إذا كُسر، فيأتي بالعظم على بعضه ويجبره، حتى يرجع العظم إلى مكانه، فإذا لم تنفع الجبيرة فلا يستطيع هذا الرجل أن ينتفع بعظمه؛ كذلك الحديث الضعيف يجبر؛ لأن كل طريق من طرقه ضعيف، فإذا ضممت هذا إلى هذا إلى هذا فكأنما جبرته، فيعطيه نوعاً من القوة. فالحديث الذي لا ينجبر وهو شديد الضعف الذي تقاعد به الجابر، يعني: أن هذا الجبر لا ينفعه؛ فلذلك لا يحتج به، فتصور أني لو وجدت شيخاً في مطلع هذه الدراسة، وإنما عثرت على الشيخ بعدما قطعت شوطاً طويلاً في الكتاب، ثم بدأت أعرف أن هناك طلبة ومشايخ، ولزمت شيخاً من مشايخ المنوفية رحمه الله تبارك وتعالى. فلو أني وجدت شيخاً في أول العمر لكان لخص لي هذا العلم واختصر علي المدة في اللبة التي أنفقتها في معرفة الحديث الصحيح من الحديث الضعيف -وهي مجرد تعريفات فقط- فضلاً عن أن أصير متمرساً في هذا العلم. فقراءتك على المشايخ يختصر لك العمر، ويصحح لك الفهم؛ لأنك ربما تقرأ فتقلب العبارة، ولذلك جرى على لسان كثير من العلماء التحذير من أخذ العلم من الصحف؛ لأن رب كلمةٍ تنقلب عليك، وأنت تنقلها على الخطأ وتفهمها على الخطأ بدون تدقيق لفظ وتدقيق معنى، وقد ذكروا في أخبار المصحفين أشياء مخجلة، وهي مخجلة مضحكة في آنٍ واحد. يذكرون أن رجلاً كان يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى بدون شيخ، وتعرفون قديماً أن الكتابة لم يكن فيها إعجام (لم يكن فيها نقط)، فالذي لا يتلقى القرآن على المشايخ يخطئ، فهذا الرجل كان هو أحفظ من في القرية، فزاره في القرية شيخ كبير ماهر، فدعاه للغداء عنده، فلما تغدى انتحى به جانباً، وقال له: إني والحمد لله أقرأ من كتاب الله الشيء الكثير، لكن أشكلت علي بعض أحرف في الحمد -يعني: في الفاتحة- فقال له: وما أشكل عليك فيها؟ قال له: (إياك نعبد وإياك تسعين أم ستين)؟! -لأن (نستعين) إذا أزلت منها النقاط وأتى رجل لا يعرف شيئاً فسوف يقرؤها هكذا- فقال له: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!!! ويروي أعداء حمزة بن حبيب الزيات -صاحب القراءة المشهورة، قراءة حمزة - عنه أنه لماذا لقب بـ الزيات؟ مع أنه ليس في لقب الأسرة لا زيات ولا زيت ولا أي شيء؟! قال: لأنه أول ما بدأ يقرأ القرآن الكريم قرأه وحده، وليس على شيخ فسمعه أبوه يقرأ ويقول: ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه، قال: قم، فالزم شيخاً، فلقبوه بالزيات، وأنا أقول أعداء حمزة لأنهم شنعوا عليه وعلى قراءته. أما في الحديث فحدث ولا حرج، فذات مرة سمع رجل ابن معين يقول: حدثني فلان عن فلان عن طاوس فقام ونفض نفسه، وقال: تحتجون علينا بالطيور، ما يعرف أن هناك رجلاً اسمه طاوس. ويقال: إن بعض الناس قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فليأت بسكينة ووقار، فأراد أن ينفذ الحديث فأخذ سكيناً وفأراً -وهذا حكاه لنا الشيخ المطيعي - فذهب إلى المسجد فقالوا له: ما هذا الذي جئت به؟! فقال: تنفيذاً للسنة! وما في الأحاديث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليأت بِسِكّينَةٍ وَقَار! وإنما قال: (بِسَكِينَةِ وَوَقَار)، فصحفها. وهكذا أخبار التصحيف عار يلحق صاحبه، لاسيما في الأسماء التي لا يدخلها القياس. ولا أنسى محاورةً جرت بيني وبين بعض الناس في مسألة وضع اليدين قبل الركبتين، وهذه المسألة كانت منذ أكثر من عشر سنوات هي شغلي الشاغل، فلا أذهب إلى بلد إلا وأذكرها وكأنها من أصول الدين، فقلت: من ضمن الأشياء أن ابن عمر في مستدرك الحاكم كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) فقال: هذا الحديث مقلوب، قلت: ومن ادعى القلب فيه؟ قال الحاكم! فقلت: هذا غير موجود! فقال: هذا في المستدرك، ففتحنا المستدرك فإذا بـ الحاكم يقول بعد هذا الأثر: (وهذا الذي روي عن ابن عمر القلب إليه أميل)، فالقلب إليه أميل يعني: قلبه يميل إليه، فأين القلب في هذا، فقال: القلب يعني الحديث مقلوب، أي: أنه انقلب على راويه، فبدل أن يقول: الركبتين قبل اليدين، قال: اليدين قبل الركبتين، فقلت: سبحان الله! أنت تذكرني بالشيخ الذي مر على قارئ يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم!! فقال: لا عقل ولا قرآن!! لأن السقف لا يكون إلا من فوق، فكيف يخر عليهم السقف من تحت، فلا عقل ولا قرآن. فهذا الرجل يقول: (والقلب إليه أميل) فهل يعني هذا أنه مقلوب؟ فالحضور على الشيخ يقيك من مثل هذا الفهم الخطأ، سواء كان فهماً أو تصحيفاً جلياً. وقرأت لبعض الناس، وهو يبدو من الذين انتحلوا نحلة الخوارج في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يقول: هذا الحديث ليس معناه أهل الكبائر الذين يرتكبون الكبيرة من الذنب، وإنما الذين يفعلون الكبيرة من الطاعات، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، فهذا هو المقصود بالكبيرة في الحديث، فأهل الكبائر هم: أهل الصلاة والزكاة والحج، يعني الأعمال الكبيرة من أعمال البر والطاعات. فإذا قرأ رجل مثل هذا الكلام ولم يكن له شيخ يصححه وقع في مثل هذه المتاهات، وأخذ العفن الموجود في الكتب؛ لأنه لا يميز، وليس عنده شيخ يقول له: هذا صحيح، وهذا غير صحيح.

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب من الأسباب المعينة على الاستفادة منها

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب من الأسباب المعينة على الاستفادة منها ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة؟ لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك، فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدراً من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص، يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني، فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتابٍ وأشده تحريراً، وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن، فافترض مثلاً أنك تبنيت كتاباً فقهياً، فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار، أو سبل السلام -وله متن أيضاً- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها. فكيف تنتفع بكتاب سبل السلام؟ الذي يعتمد فقه الدليل، فيأتي لك بالدليل ثم يأتي لك بالفوائد المستنبطة منه؟ عليك أن تفعل الآتي: فمثلاً أول حديث في كتاب سبل السلام، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). فيبدأ يأتي لك بكلام أبي بكر ابن العربي، فيقول لك: وهذا من محاسن الفتيا، الذي يسميه العلماء الجواب الحكيم، وهو أن يزيد المفتي في كلامه على حاجة السائل، فأنت تحرر هذا الكلام في دفتر خارجي: أن يزيد المفتي على حاجة السائل في الجواب، ثم تبدأ بجمع أدلة وأحاديث تقابلك تحت هذا المعنى، وكل حديث يقابلك أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد للسائل في الجواب، تأخذه وتضعه في مكانه، وهذا لا يتأتى لك بمرة أو مرتين أو ثلاث، ولكن تظل طيلة عمرك وأنت تجمع في هذا الشيء، فقد تمر عليك عشر سنوات ولم تجمع سوى عشرة أدلة فقط؛ لأن قراءتك متناثرة متنوعة، فكلما وقفت على فائدةٍ تنفعك في هذا الموضع وضعتها، ولعلكم جربتم كم من الفوائد مرت عليكم واستملحتموها لكن حرتم أين تضعونها، فيقول أحدكم: ما مكانها حتى أستحضرها إذا أردتها، لكن لما لم يكن لك منهج في الكتب فقدت الفائدة، فإذا احتجتها ندمت عليها، وقلت: ليتني كتبتها، لكن إذا كتبتها فلن تنتفع بها إذا لم يكن لك منهج. فتنظر في كل الاعتراضات على كل حكم من الأحكام في الكتب الفقهية، أي: عندما تقرأ كتاب أدب المفتي والمستفتي تجد قول العلماء: لا ينبغي للمفتي أن يزيد على حاجة السائل في الجواب، ويجعلون هذا من سوء الأدب، فأنت تفاجأ بهذا الكلام، إذا سبق عند كلام أبي بكر بن العربي أن الزيادة في الجواب على سؤال المستفتي من الجواب الحكيم. فإياك أن ترد كلام الفقهاء وتقول: لا. هذا الكلام بخلاف القاعدة، وعندنا الأحاديث ترد هذا الكلام، فالمسألة أهون من ذلك، فلو أنك تمعنت قليلاً لعلمت أنه لا منافاة بين هذا ولا ذاك. فعليك أن تبحث عن جواب تخرج به قول الفقهاء الذين يمنعون، وتجمع بينه وبين قول أبي بكر بن العربي والأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في الجواب عن حاجة السائل؛ لأنه قال للسائل لما سأله عن ماء البحر، قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أن الرجل لم يسأل: هل ميتة البحر حلال أم لا؟ لكنه زاده حل ميتة البحر؛ لأنه إذا كان استشكل على السائل طهورية ماء البحر فاستشكاله لميتته أولى وأشد، فلعله يستشكل ميتته وهو رجل يركب البحر، فيحتاج إلى أن يصطاد، فيقول: إن هذا داخل في جملة الميتة فلا آكله. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال له هذا الحكم ليستحضره وينتفع به، فيحمل كلام العلماء على أن الزيادة في الجواب تشوش على السائل -يعني: لا تنفعه- وإنما تشوش عليه، كأن يسأل عن مسألة من المسائل: كالقراءة خلف الإمام، أو التكبيرات الانتقالية يرفع فيها أم لا، أو النزول على الركبتين واليدين، فيقول له المفتي: فيها أقوال: أما القول الأول: فقد قال فلان وفلان وعلان، واعترضوا عليه بكذا، ولم يكن ذاك الدليل صريحاً في المسألة والقول الثاني: فيه وفيه، فالرجل في الأخير لا يفهم شيئاً، ويقول: ثم ماذا؟!! يعني: أقرأ أو لا أقرأ؟ أرفع أو لا أرفع؟ لأنه ما استطاع أن يحصِّل جواباً من خلال هذه الأجوبة الكثيرة. فهذا هو الذي يمنع منه المفتي، فإذا زاد زيادةً تشوش على السائل فلا ينبغي له أن يزيد، وعلى هذا ينزل كلام العلماء الذين منعوا المفتي من أن يزيد. فعندما تتبنى تفصيل الكتب بهذه الطريقة تكون فقيهاً ضليعاً، فكل مسألة لها عندك أدلة كثيرة، بخلاف ما إذا اقتصرت على الدليل الوارد في كتاب الأصول، فلو سلمنا أنك قابلت رجلاً أمهر منك في هذا العلم، فقال لك مثلاً في علم الحديث: نريد أن نعرف الفرق بين الشذوذ وزيادة الثقة، فتقول له: نعم، هناك فرق، وتضرب له مثالاً أو مثالين فيهدم لك هذه الأمثلة، ويقول لك: ليس لك فيها حجة لكذا وكذا وكذا هات أمثلة أخرى، فتقف أنت عند هذا الحد!! لماذا؟ لأنك لا تحفظ إلا الموجود في الكتب، بخلاف ما إذا كنت تبنيت هذا المنهج، وكلما مررت بحديث ووصفه العلماء بالشذوذ وضعته بجانب، فيصير عندك في بحث الشاذ مائة أو مائتين مثلاً، فإذا هدم لك دليلاً أتيته بثانٍ وثالث ورابع وخامس وسادس. أضف إلى ذلك أنه بكثرة الأمثلة يتضح الفرق، ولذلك أكثر الذين يخطئون في التفريق ما بين الشذوذ وزيادة الثقة بسبب أنهم لم يمارسوا ذلك عملياً، والفرق بين المفهومين دقيق جداً يحتاج إلى كثرة أمثلة لكي يتضح. مثاله: حديث التحريك بالسبابة في التشهد، فالبعض يقول: يحركها وآخرون يقولون: لا يحركها، هذه هي المخالفة؛ إنما هل زائدة خالف فعلاً، أم تفرد؟ الواقع أنه تفرد، ولذلك ابن خزيمة رحمه الله لما روى هذا الحديث في صحيحه، قال: (خبرٌ تفرد به زائدة) ولم يقل: شذ؛ لأن هناك فرقاً بين التفرد والشذوذ، فمطلق التفرد ليس لعلة، وإنما ينظر في حال المتفرد: فإن كان ثقة ثبتاً أميناً يقبل تفرده، وإن كان ضعيفاً يرد عليه تفرده، مثل حديث عبيد الله العمري الضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرجل يجد البلل في ثوبه ولا يذكر احتلاماً، أو الرجل يذكر احتلاماً ولا يجد بللاً، وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى بللاً ولم يذكر احتلاماً يغتسل، وإذا ذكر احتلاماً ولم يجد بللاً لا يغتسل)، فجعل مناط الأمر رؤية البلل. فتفرد عبيد الله العمري بهذا التفصيل: (إذا رأى البلل وإذا لم يره)، في حين أن الذين رووا هذا الحديث لم يذكروا هذا، فهو تفرد بهذا التفصيل فيرده العلماء عليه، دليل على أنه ضعيف. إذاً: التفرد ليس بعلة، فـ ابن خزيمة لاحظ هذا، فلم يقل: شذّ، وإنما قال: تفرد. مثاله: حديث رواه جماعة منهم الطفيل بن سعيد وعمرو بن علي الفلاس وغيرهم عن حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بإناء رحراح -والرحراح هو الواسع- فوضع يده عليه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه)، قلت: إنه روى جماعة عن حماد بن زيد، فقالوا: (بإناء رحراح)، روى هذا الحديث أيضاً أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس؛ لكنه قال: (في إناء زجاج) ولم يقل: (رحراح)، قال الحافظ ابن حجر: حكم جماعة من الحذاق على أحمد بن عبدة أنه صحفه، أي: رحراح وزجاج حصل فيه تصحيف. ابن خزيمة رحمه الله لم يسلك هذا المسلك؛ لأن الجمع أولى من الترجيح، فلا نرجح إلا مع عدم إمكان الجمع، فقال ابن خزيمة: والرحراح هو الواسع من إناء الزجاج لا العميق منه، فجمع بين الروايتين، فما هو المانع، فيحمل على أن هؤلاء رووا هذا الحديث، فقالوا: (رحراح) فذكروا صفته، أما أحمد بن عبدة فذكر جنسه، فهو إناء زجاجٍ رحراح، وهذا أولى من توهين الثقة لغير حجة، فنحن هنا لا نستطيع أن نقول: إنه شذ، لكن نقول: إنه تفرد بقوله: زجاج، ولا منافاة بين هذه الرواية وبين رواية الذين قالوا رحراح؛ لإمكان الجمع بينهما. كذلك حديث زائدة بن قدامة عندما قال: يحركها، وهم قالوا: يشير بها، فالجمع بين الروايات المتناثرة يلزمه على الأقل إتقان بحث التعارض والترجيح لأصول الفقه؛ لأن هذه المتون تحتاج إلى قوانين لضبط الفهم والاستنباط، إذ حققت أن زائدة ثقة ثبت كان يعيد السماع ثلاث مرار، لم يغمزه أحدٌ قط بوهن، فإن لم تقبل زيادة هذا فمن الذي تقبل زيادته، فهنا: هل هناك منافاة بين الذين قالوا: يشير، وبين زائدة عندما قال: يحركها، لا؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالباً، ولا نقول: دائماً، لماذا؟ لأن الإنسان قد يشير ولا يحرك، فمثلاً لو سأل سائل: أين فلان؟ تقول: هو ذاك، فأشرت ولم تحرك، لكن الإشارة تجامع التحريك غالباً، وإن أبيت أنها تجامع التحريك غالباً فهي تجامع التحريك، ذلك أنك إذا أشرت ولم تحرك راح المعنى الذي تريده من الإشارة، فإنك إذا قلت لرجلٍ: تعال! تشير إليه، فماذا عساك أن تفعل، تقول: تعال! وتحرك عندما تشير، ولا يتصور أنك لو قلت له: تعال! أنك لا تحرك، فما يفهم الذي تريد إلا إذا قرنته مع الإشارة بالتحريك، وإذا قلت: اخرج! أو قم! أو تعال! لا بد من التحريك في هذه المسائل. فالإشارة لا تنافي التحريك، فما هو المانع أن يكون هؤلاء ذكروا الإشارة أنه إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ثم ذكر زائدة بن قدامة التحريك، ولا منافاة بين هذا وذاك، فهذا الجمع أولى من أن نواسي زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت لا مجال لتوهيمه. إذاً عندما تورد مثل هذه الأمثلة، وتجمع كل ما مر بك من الأمثلة على هذه المسألة وتضعه في مكانه، فيصير عندك بكثرة الجمع قناعة أن الشذوذ لابد أن تتوفر فيه المخالفة، والمخالفة لا تتأتى مع إمكان الجمع، فلو أنك وأنت تقرأ كتب الأصول كان هذا في ذهنك، وكل فائدة تقرؤها في الكتب توظفها لهذه الفنون؛ ستخرج بع

تصنيف الفوائد بعد تقييدها مما يعين على حفظ العلم

تصنيف الفوائد بعد تقييدها مما يعين على حفظ العلم إن قلت: هذه الكتب الكثيرة كيف أنتزع منها الفوائد؟ نقول: يجب أن يكون عندك طريقة منظمة في قراءة الكتب، وهذا على حسب اهتمامك، فمثلاً تقرأ في السير مثل سير أعلام النبلاء، فكلما مر بك تعليق لطيف للذهبي أو موقف من أحد العلماء في السلوك أو في الفتوى أو في الخوف أو في الورع أو في هذه الأشياء تدونه في بصورة مختصرة، وتكتب له عنواناً مناسباً ملائماً، حتى إذا أردت هذه الفائدة تستطيع أن تصل إليها. فمثلاً: تقرأ في ترجمة عبد الله بن وهب قال: نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم، نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة. فتأتي وتكتب على هذا المقطع: الإخلاص، أو أن الرجل إذا أخلص لا يهمه المدح والذم، فيستوي عنده المدح والذم، أو تقول مثلاً: هضم حظ النفس، لأن هذا فضح، والعادة أن الإنسان دائماً يكثر من ذكر نفسه بالجميل، لكنه فضح نفسه، فتعمل عدة عناوين لمثل هذه الفائدة وتضعها في بطاقة، وتكتب: (سير أعلام النبلاء، الجزء كذا، صفحة كذا). وتمر مثلاً فتجد في ترجمة الدارقطني يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له، فهذه أيضاً تفيد الإخلاص، فأصبح عندك مثالين في الإخلاص. وعندما تقرأ الكتاب ستكتب كلمة الإخلاص عشرين أو ثلاثين مرة، وفي نفس الوقت تكتب: كيف نعامل الشيطان، أو أي عنوان آخر مثلاً، وما وجه معاملة الشيطان في قصة ابن جريج؟ وتتمثل معاملة الشيطان في أن كثيراً من الطلبة ينصرفون عن العلم، يقول: أنا أخشى أن يقال عني: فقيه أو عالم فيحبط عملي، فنقول له: إن الدارقطني قال: طلبنا العلم لغير الله، أي: أنه لما كان حديث عهد بالطلب، ولم يكن عنده من فقه العمل شيء، لما طلب العلم طلبه من أجل أن يقال: الدارقطني المحدث الفقيه؛ لكن لما كان عنده من الإخلاص في الجملة صار كلما قرأ حديثاً انتفع بما فيه، فنفعهُ الله بهذا في الإخلاص، حتى صار فقيهاً وصار مخلصاً إلخ. فإذا وجدت في نفسك صدوداً عن هذا العلم خوفاً من أن يكون من الرياء؛ فاعلم أن الشيطان يريد أن يصدك من هذا الباب، فتستخدم هذه في الرقائق والدروس. وتمر مثلاً على جرح الأقران: فتجد أن قريناً جرح أخاه، مالك يقول في فلان من أقرانه: دجال من الدجاجلة، فتكتب أن جرح الأقران لا يضر، وبعدما تنقل فوائد هذا الكتاب تأتي بالبطاقات، وتضع كل عنوان مشترك مع أخيه، فتضع الإخلاص مع بعضه، وجرح الأقران مع بعضه، وهكذا فاقرأ الكتب على هذا الاعتبار، ستجد بعد نهاية القراءة أنه أصبح عندك بطاقات كثيرة في موضوعٍ واحد، ثم تبدأ بتصنيف هذه الموضوعات: فإذا أردت أن تتكلم عن الإخلاص فلديك بحر من الأمثلة، فأنت بهذه الصورة تكون قد استطعت توظيف هذه القراءة إذا كنت خطيباً، أو مدرساً، أو مؤلفاً، تستطيع أن تطعم كتبك أو تطعم دروسك بما يحار الإنسان في إيجاده من تلك الأمثلة والنكت. وإذا قرأت كتاباً في الحديث ككتاب التهذيب فتجد أحياناً تنبيهاً على بعض مصطلحات العلماء، أو تقرأ في كتاب مثل علل الحديث لـ ابن أبي حاتم فتقف على أشياء لا تقف عليها أبداً إذا اقتصرت على كتاب من كتب أهل العلم، يعني: هناك شيء اسمه كلمات الثناء التي ظاهرها الجرح، فإذا لم تقف على أصل مغزاها حكمت على ظاهرها، فيكون خطأً، فمثلاً في ترجمة إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في تهذيب التهذيب آخر كلمة في الترجمة ذكرها الحافظ ابن حجر، قال: وذكر عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: إسرائيل لص يسرق الحديث. فكلمة يسرق الحديث معروف أنها جرح، فإذا ذهبت لكتاب ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فتجد العبارة بخلاف ما فهمت، فـ ابن أبي حاتم رواها عن أبي بكر بن أبي شيبة وليس عثمان، وعثمان أقوى من أبي بكر وأبو بكر أوثق الرجلين، فرواها عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: كان إسرائيل في الحديث لصاً، وليس هناك (يسرق)، فقال ابن أبي حاتم: أي: يتلقف العلم تلقفاً، إذاً: هذا مدح؛ كما أن اللص إذا دخل تلقف؛ لأنه مستعجل، فهذا إسرائيل بن يونس يتلقف العلم تلقفاً، وكما أن السارق إذا دخل انتقى الجيد من المتاع؛ ما خف وزنه وغلى ثمنه، فكذلك إسرائيل ينتقي حديث مشايخه، فترى أن الحافظ ابن حجر روى الرواية بالمعنى، فسواءٌ كان الحافظ هو الذي ذكرها أو عثمان بن أبي شيبة هو الذي ذكرها بالمعنى فقد أفسد الكلام، فبوقوفك على هذا تكون قد وقفت على فائدة، لكن إن لم تقف على هذه الفائدة فمن الممكن أن تقول في أي حديث مثلاً: ولكن إسرائيل يسرق الحديث، فتتهم الرجل ولا تهمة عليه. كذلك في كتاب علل الحديث لـ ابن أبي حاتم كلمة في ترجمة إسماعيل بن أبي رجاء خلت منها كتب التراجم وهي أن شعبة سئل عن إسماعيل بن أبي رجاء فقال: ذاك شيطان!! والشيطان لا يفهم منه إلا الذم، فقال ابن أبي حاتم: يعني من حسن حديثه. يعني: هل رأيت الجن عندما تأتي بالخوارق، حتى إنهم ذكروا أن يحيى بن معين قال في راوٍ: أظن أن أباه تزوج بجنية؛ لأنه كان صاعقة في الحفظ، يعني هذا الحفظ ليس لآدمي، فيقول إسماعيل بن أبي رجاء شيطان، يعني: من حسن حديثه، فلولا هذا التخصيص لقلنا: إنه شيطان، وقال شعبة: إنه شيطان! فإذا نظمت هذه الفوائد وعرفت كيف تجمعها في بطاقات سلِم لك جمعك، لكن عندما تقرأ على غير هدى، وليس عندك خطة في الكتب فتمر بك الفائدة فتستملحها، ولكن تحتار أين تضعها؟ وكيف تحفظها؟ حتى إذا احتجت إليها أخذتها. إذاً: لابد من القراءة المنهجية في أي كتاب وأي فن، وهذه الطريقة هي أسلم الطرق، وهي أن يكون لك منهج في قراءة الكتب كلها، فتمسك بالكتب كتاباً كتاباً وتقرأ، فما مر بك كتبته بعنوان يناسبك، حتى وإن خالف عنوان الكتاب، المهم أن يناسبك أنت حتى إذا أردت أن تستحضر هذه المادة استحضرتها، وهذه هي أجود وسائل الطلب واستخراج الفوائد من الكتب، وجرب هذه الطريقة ستجد أنك بفضل الله تبارك وتعالى ستحصِّل فضلاً غزيراً لم يخطر لك على بال، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

استحباب خروج طالب العلم إذا لم يجد من يعينه على الطلب في بلده الذي يسكنه

استحباب خروج طالب العلم إذا لم يجد من يعينه على الطلب في بلده الذي يسكنه السؤال: ما العمل في حالة عدم وجود طالب علم متمكن في العلم في المنطقة التي أعيش فيها لآخذ عنه؟ A لن يعدم؛ لأنه من غير الممكن ألا يكون في المنطقة كلها طالب علم جيد، لا نقول: إنه شيخ، والإنسان إذا فقد الماء فليتيمم، أي: يستفيد من خبرة من سبقوه في هذا المضمار في تذليل بعض الصعوبات التي تواجهه، وإلا فيستحب لمثل هذا أن يرحل لطلب العلم، وطبعاً لا يفعل هذا إلا رجلٌ نذر نفسه لأجل هذا الدين، أي: يستهين بالمصاعب في سبيل الله، أما أنه يجد لنفسه الأعذار ويقول: أنا لا أستطيع، وعندي من الشواغل كذا إذاً: فليترك هذا العلم، لكن الدراسة على المشايخ فيها الفوائد العظيمة.

عدم بذل العلم لمن لا يستحقه لا يعد من كتمان العلم المنهي عنه

عدم بذل العلم لمن لا يستحقه لا يعد من كتمان العلم المنهي عنه Q ما نقلته عن الأعمش رحمه الله تعالى هل هو من الشرع النبوي في معاملة الشيخ لتلاميذه؟ أليس في هذا شيء من كتم العلم؟ A لم يكتم علماً، بدليل أنني قلت في مطلع الكلام: إن دواوين الإسلام مليئة بحديث الأعمش، لكنه كان بعد أن يشتد عليهم يعود فيحدثهم، ونسيت أن أذكر في هذا الكلام أنه بعد أن يشتد عليهم ويعود ليحدثهم كان يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني؛ -لأنه كان في عينيه عمش- إنما رفعني الله بهذا العلم، فهو كان يحدث، وما كان يكتم علماً، ولكن كان يؤدب. فالأخ يقول: نخشى أن يقوم بعض الشباب بنفس هذه الأفعال، فيقال: لا. نحن ضربنا المثل بهذا لنعلل لماذا كان يسلك هذا المسلك، وإلا فلكل مقامٍ مقال، وأحياناً بعض الناس لا ينفع معه إلا الشدة، وبعضهم لا ينفع معه إلا اللين، فكلما كان هناك إقبال على الشيخ وكان طلابه يحتملون منه جاز له أن يفعل مثل هذه الأشياء، لكن إذا كان الإنسان متروكاً، أو ليس له تعظيم في قلوب الناس إذا عمل هذا العمل تركه الناس، فالإنسان يستخدم ما يسميه المتقدمون بالفقه النفسي والله أعلم. مداخلة: هل يقال في هذا: إنه من باب عدم إذلال العلم؟ الشيخ: نعم. فيما مضى كان العلماء يتعففون أن ينتقلوا بكتب العلم إلى أحد، حتى إن الإمام البخاري لما قال له الأمير عبد الله بن طاهر: إني أريدك أن تقرأ كتابك على أولادي -يعني: كتاب التاريخ الكبير وكتاب الصحيح- فقال: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كان لأولادك حاجة فليأتوني في المجلس، قال: يأتوك ولكن خصهم بمجلس! قال: لا أخصهم بشيء دون المسلمين، فإن شئت فامنعني حتى يكون لي حجةٌ عند ربي. والإمام البخاري يقول هذا الكلام في عز دولة العلم، وكان الأمراء يوقرون أهل العلم؛ لكن الآن أنت تحمل علمك على كتفك، وتترصد الطلبة لعلهم يقبلون منك، وهذا بسبب اختلاف الأحوال، فلو وضع الإنسان رجلاً على رجل، وقال: من أراد العلم فليأتني فلعله يفوت الناس الكثير، فهو يأخذ هذا العلم ويمضي به إلى الناس يعلمهم، وطبعاً اختلاف الأزمان والبيئات له علاقة في الحكم بلا شك.

القول المجمل في حكم حديث شهر بن حوشب

القول المجمل في حكم حديث شهر بن حوشب Q ما هو القول الصحيح في شهر بن حوشب هل يحسن حديثه أم لا؟ A القول المجمل أنه يحسن حديثه إلا في المخالفة، يعني: هو حسن الحديث كـ محمد بن عمرو بن علقمة.

قبول زيادة الثقة لا يكون على الإطلاق

قبول زيادة الثقة لا يكون على الإطلاق Q هل زيادة الثقة مقبولة على الإطلاق؟ A لا. إنما تقبل بشروط، ليس هناك شيء اسمه على الإطلاق، كل شيء مقيد، فزيادة الثقة لا تكون مقبولة على الإطلاق إلا عند الأصوليين والفقهاء، لكن عند أهل الحديث لا يقبلون الزيادة على الإطلاق.

ضابط الجمع والترجيح بين الروايات

ضابط الجمع والترجيح بين الروايات Q هل الجمع بين الروايات لازم، أم لابد من توافر ضوابط معينة لذلك؟ A مثلما ذكرنا في المثالين، مسألة تحريك الإصبع ومسألة الإناء الرحراح والإناء الزجاج، فذكرنا الضابط وهو ألا تكون هناك مخالفة، فإذا تحققت المخالفة وتعذر أو استحال الجمع ففي هذه الحالة لابد من الترجيح بالحكم على إحدى الروايتين بالشذوذ إن كان راويها ضعيفاً.

الأحوال التي يقبل فيها جرح الأقران

الأحوال التي يقبل فيها جرح الأقران Q هل جرح الأقران بعضهم بعضاً يغض من قدرهم، بغض النظر عن أسباب الجرح؟ A لا. جرح الأقران لا يقبل إذا لاح أنه لعصبية أو هوى، إنما لو تكلم سني في صاحب بدعة فهذا مقبول منه، لأن هذا من باب البيان والتبليغ، ولا يقال: إن الحامل له على أن يتكلم فيه هو أنه من أقرانه، وإنما إذا لاح أنه لعصبية أو هوى فهذا الذي يرد، أما لغير ذلك فلا.

اعتبار الصحيحين أصح كتابين بعد كتاب الله لا ينفي وجود أحاديث ضعيفة فيها

اعتبار الصحيحين أصح كتابين بعد كتاب الله لا ينفي وجود أحاديث ضعيفة فيها Q تلقت الأمة الصحيحين بالقبول، فماذا يقال لمن ادعى أنهما يحويان أحاديث ضعيفة؟ A أما عامة الناس فلا أظن أن لهم شغلاً في هذا الفن، وإذا قصد أن بعض المتخصصين أو من لهم أهلية تكلموا في بعض أحاديث الصحيحين؛ فيناقش كل إنسان تكلم، يعني: المسألة تكون مسألة علمية؛ لأنه ليس هناك من ادعى العصمة لكتاب البخاري ومسلم بحيث أنه لا يناقش في لفظة من ألفاظ الكتاب، ما قال بهذا أحد والحمد لله، ومن قال به فهو غالٍ، لكن ينظر في دعوى المدعي، فمثلاً: إذا كانت الدعوى قوية لاسيما وأن هذا المتأخر كان مسبوقاً إليها، ومع ذلك فنحن لا نفتح الباب لكل من يريد الكلام في الصحيحين، فكلام الجهلاء غير مقبول، وإنما كلامنا الآن في أهل الفن، الذين هم أصحاب القواعد وأولى الناس بالكلام في الصحيح والضعيف، فحينئذٍ ننظر إلى ما جاءوا به، فإن كانت أشياء غير مقبولة رددناها، مثلما فعلنا في حديث ابن عباس في صحيح مسلم لما قال أبو سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أعطني ثلاثاً؟ قال: نعم، فكان منها: (وأن أزوجك أم حبيبة أجمل العرب) فتكلم العلماء وقال الذهبي: إن هذا منكر، لماذا؟ لأن أم حبيبة تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبو سفيان بدهر، حتى ثبت أنها طوت البساط من تحته وما تركته يجلس على بساط النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول: (أزوجك أم حبيبة)، فالعلماء أجابوا بعدة وجوه واستضعف هذه الأوجه كلها ابن القيم. لكن إذا اتهم على هذه الجزئية بنكارة لمخالفتها ما هو معلوم في السيرة بالاطراد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل إسلام أبي سفيان فإنما نحكم على هذه الجزئية دون غيرها، هذا إذا لم نستطع أن نأتي بوجهٍ غير مقبولٍ من وجوه الجمع، وإلا فالأصل إن استطعنا أن نجمع ما بين هذا وما بين الروايات الأخرى التي ظاهرها التناكر بوجه من وجوه الجمع المعتبرة؛ فهذا الذي يشار إليه، ولا ينبغي أن يصل إلى الترجيح إلا مع تعذر الجمع أو استحالته.

أسباب تثبيت الحفظ لطالب العلم

أسباب تثبيت الحفظ لطالب العلم Q هل صح أنه يوجد دواء يساعد على الحفظ ويقوي الذاكرة؟ A سُئل الإمام البخاري رحمه الله وقد قيل: إنه يتعاطى دواءً يثبت الحفظ فسأله ابن أبي حاتم الوراق عن ذلك وعن قول الناس؟ فقال: ما أعلم شيئاً من ذلك إلا نهمة الطالب ومداومة النظر، يعني: الرغبة الشديدة لطلب العلم مع مداومة النظر، فهذا الذي يثبت الحفظ، والله أعلم.

اشتغال السلف بطلب العلم مع عدم تقصيرهم في السعي لطلب الرزق

اشتغال السلف بطلب العلم مع عدم تقصيرهم في السعي لطلب الرزق Q هلا علقتم على قول البعض: كيف نفعل فعل السلف في الطلب مع مشاغل اليوم الكثيرة، وقد نقل عن الشافعي قوله: لو كلفني أهلي بشراء بصلة لما طلبتُ العلم. A أولاً: هم كانوا في الشغل أكثر منا، بل لم يكن عندهم من الفراغ وسهولة الحركة مثل ما عندنا في حياتنا اليوم، أي: أنت تستطيع الآن أن تصل إلى أبعد بلاد الدنيا في ساعات قليلة، بينما هو إذا خرج من بلده ولتكن مصر مثلاً أو الشام، أو كان مثلاً من بلاد الأعاجم وأراد أن يصل إلى مكة والمدينة كان يقضي شهوراً، وأنت الآن تقطعها في ساعات، فهذا الوقت المختصر ماذا تفعل به؟ لا شيء، فهم كانوا أكثر شغلاً منا، وكانوا مع ذلك أرق حالاً منا، لكن المسألة تتوقف على الهمة. وقول الإمام الشافعي لو صح عنه يشير إلى أن المرء لو اشتغل بالمعاش عن العلم، ولكن هل كان الإمام الشافعي عاطلاً، ما كان يعمل شيئاً قط؟ كان الإمام الشافعي يسعى في معاشه، لكن كان يختصر غالب حاجاته ويستغني عنها لطلب العلم، فتجد أنه قد يقصر في حظ نفسه، وفي جلب الطعام الجيد والفراش الوثير وهذه الأشياء لطلب العلم. وأذكر في هذا العصر للشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، أنه قال: إنه كان لديه محل ساعات، ولكن كان يعمل في اليوم ساعة واحدة أو ساعتين، بمقدار ما يعيشه ذلك اليوم، ثم يغلق المحل وينطلق إلى المكتبة الظاهرية، فيقضي فيها عامة يومه ولا ينقلب إلا قرابة نصف الليل. لكن عندما يكون للإنسان مطامع، يريد أن يحسن هنا ويفعل هنا وكذا ما تفقه، فلعل قول الإمام الشافعي يحمل على أن المرء إذا جعل همته في طلب الدنيا لا يفلح في طلب العلم. فلو أن أحدنا يسعى في معاشه كل يوم ثماني ساعات، فيبقى عنده ثماني ساعات ينام فيها، ويبقى له ثمان ساعات، فلو كان عنده ذهن وإقبال ونهم فهذه الساعات تكفيه.

صحيح البخاري

صحيح البخاري إن ما نشاهده اليوم من تفلت ديني، وتولية زمام الأمور غير أهلها، وانتشار الجهل في الدين، وإحياء البدع وإماتة السنن لهو مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر أن من علامات الساعة ضياع الأمانة، وتوصيد الأمر إلى غير أهله سواء أمر الولاية أو أمر الإفتاء والعلم والدعوة، أو أمر الحكم والقضاء، فبهذا كله ينتشر الفساد والظلم، ويفشو الجهل، وتكثر الفتن، وتقوم الساعة بعد ذلك على شرار خلق الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث أبي هريرة في سؤال الأعرابي عن الساعة

شرح حديث أبي هريرة في سؤال الأعرابي عن الساعة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: باب (من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل) حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح ح وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). وهذا الحديث رواه الإمام البخاري أيضاً في كتاب الرقاق من حديث محمد بن سنام عن فليح بن سليمان.

اللطائف الحديثية في سند الحديث

اللطائف الحديثية في سند الحديث الإمام البخاري رحمه الله روى هذا الحديث عن شيخين له: الشيخ الأول هو محمد بن سنام. والشيخ الآخر هو إبراهيم بن المنذر. لكن بين رواية الشيخين فرق: الفرق الأول: أن رواية محمد بن سنام عالية، ورواية إبراهيم بن المنذر نازلة، وأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الإسناد فيه عال ونازل، العالي أنك تصعد إلى فوق، ولنفترض أن هذا القلم إسناد، فهذا طرفه الأول، وهذا طرفه الآخر، هنا الإمام البخاري في هذا الطرف، والطرف المقابل صحابي، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثني محمد بن سنام، هنا الإمام البخاري الطرف الأسفل، وهنا في العلو الصحابي على أساس أن الزمان نازل، فالإمام البخاري متأخر، والصحابي هو أعلى طبقة في السند، وينقسم هذا السند إلى فترات زمنية تسمى طبقات، ولنتخيل أن هنا -مثلاً- طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، وهنا طبقة، فالإمام البخاري عندما يقول: حدثنا محمد بن سنام، حدثنا فليح بن سليمان، وبعد ذلك هلال بن علي ثم عطاء بن يسار، ثم أبو هريرة، فهذا اسمه علو كلما صعد إلى فوق. السند الأول عندنا فيه محمد بن سنام، ثم فليح بن سليمان، وبعده هلال بن علي، وبعد ذلك عطاء بن يسار، وبعد ذلك أبو هريرة إذاً: بين الإمام البخاري وبين النبي عليه الصلاة والسلام في السند الأول خمسة رجال. السند الثاني: قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ستة. فيبقى السند الأول أعلى من السند الثاني؛ لأن البخاري نزل فيه درجة، فأشرف أنواع العلو أن يقل عدد الوسائط بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما اقتربت من الضوء ومن المصباح كان أفضل، وكان المحدثون يسعون إلى تحصيل هذا النوع من العلو مهما كلفهم من الجهد والمال. قيل لـ يحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ، وإسناد عالٍ، فالإسناد العالي مطمح للمحدثين؛ لأنه يقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرحلون الفراسخ البعيدة لتحصيل السند العالي، لكن علو الإسناد مشروط بصحته، وإلا فالإسناد الصحيح النازل خير من الإسناد العالي الضعيف، والعلماء أحياناً كانوا يتجاوزون عن هذا الشرط في الأحاديث العالية من باب الإغراب الذي كانوا يعدونه للمذاكرة. فالمحدثون كان لهم مذاكرات يأتون فيها بكل غريب وعجيب ومنكر، لأجل أن يغرب بعضهم على بعض، وليس المقصود أن يحتجوا بالحديث في إثبات حكم شرعي، لا. فهذه الأسانيد الغريبة العالية من منح العلم، ما كانوا يحتجون بها في دين الله عز وجل ولا يأخذون منها الأحكام ولا الآداب، إنما كانوا يدللون على حفظهم وعلى رحلتهم وعلى سعة علمهم بمثل هذا النوع من العلم. الإمام البخاري رحمه الله أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق بالسند العالي، وسنبين لماذا نزل الإمام البخاري في السند الآخر. قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح -ثم ذكر حرف الحاء، وهذا الحرف مأخوذ من كلمة (تحويل) فهو فن ابتكره المحدثون يساوي الاختزال في العصر الحديث- وحتى أبين لك كيف اختصر الإمام البخاري السند، أسرده لك بكامله: قال: حدثنا محمد بن سنام قال: حدثنا فليح بن سليمان قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: ويسوق المتن كله، وبعد ذلك يبتدئ من جديد فيقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثني أبي قال: حدثني هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. فحتى يعفي نفسه من هذه الإعادة يذكر السند الأول بالمتن، أو يذكر السند الأول كله، وبعد ذلك يذكر السند الثاني بالمتن، وهذا للاختصار، والاختصار في التحويل يبدأ من عند الراوي المشترك في السند. فالإمام البخاري اختصر فقال: حدثنا محمد بن سنام حدثنا فليح وحدثنا إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه. يعني: عن فليح فالراوي المشترك فليح، ولو وضع حرف الحاء في موضع آخر غير هذا الموضع لكان غلطاً. إذاً: أنا لو أريد أن أختصر اختصاراً آخر، سأقول: قال البخاري: حدثنا محمد بن سنام وبعد ذلك أكتب (ح) وبعد ذلك أقول: حدثني محمد بن إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح كلاهما عن فليح قال: حدثني هلال بن أبي ميمونة. والإمام البخاري نادراً ما يحول، والإمام مسلم أكثر منه تحويلاً، والسبب أن الإمام مسلم رحمه الله يكثر من ذكر الأسانيد للحديث الواحد بخلاف البخاري، فأول حديث في صحيح مسلم ذكر له أسانيد كثيرة، فمع كثرة الأسانيد يحتاج إلى حرف التحويل، والأسانيد المكررة عند الإمام البخاري قليلة، ليست كما هي عند الإمام مسلم رحمه الله، وهلال بن علي هذا هو هلال بن أبي ميمونة وهو هلال بن أبي هلال، كل هذه الأسماء الثلاثة إنما هي لرجل واحد. مداخلة: فائدة تحويل سند الحديث؟ A الله أعلم. مسألة التحويل هذه مسألة فن، الإمام البخاري لم ير حاجة إلى ذلك، لكن أنت لو حولت من بعد محمد بن سنام جاز لك ذلك وربما الإمام البخاري لم يحول، لأنه لو حول بعد محمد بن سنام سيكون التحويل قيمته قليلة فهو راوٍ واحد فقط، لأنه إنما نحول إذا كثر عدد الشيوخ فخشينا الالتباس، فهو لو حول من بعد محمد بن سنام يبقى التحويل ليس له تلك القيمة. مداخلة: هل هناك فرق بين أدوات التحل؟ الجواب: بالنسبة لأدوات التحمل: (حدثنا) و (حدثني)، فالعلماء يقولون: إن (حدثنا) تكون من لفظ الشيخ، وذلك إذا قرأ الحديث بنفسه تبقى أنت كمستمع تقول: (حدثنا)، وإذا قرأه رجل على الشيخ وهو يسمع ويقر تقول أنت: أخبرني، لكن هذا مجرد اصطلاح، وقد اتفق العلماء على أنه لا فرق بين (حدثنا) و (أنبأنا) و (أخبرنا)، فكلها بمعنىً واحد. ولفظ (حدثنا) بالجمع إذا الشيخ هو الذي قرأ وسمع أكثر من واحد، أما إذا الشيخ حدث رجلاً على انفراده فيقول: حدثني، هذا هو المشهور عند جماهير العلماء. ولا فرق عند العلماء ما بين أن يقرأ الشيخ من لفظه، أو أن يُقرأ على الشيخ وهو يسمع، فالقراءة على الشيخ وهو يسمع تُسمى عرضاً، أي: أن التلميذ عرض على الشيخ حديثه فأقره، وحصل خلاف ما بين أهل العراق وأهل المدينة في مسألة العرض والسماع، فكان أهل المدينة يرون أن العرض مثل السماع، وكان أهل العراق يقولون: لا. بل ما كان من لفظ الشيخ يكون أرفع من العرض، فالإمام مالك رحمه الله رد عملياً على أهل العراق بأنه لا يقرأ الموطأ على أحد، إنما يقرأ عليه وهو يسمع؛ ولذلك حديث مالك في صحيح مسلم كله عرض، ما جاء من طريق يحيى بن يحيى عن مالك في صحيح مسلم كله عرض، يقول مسلم: حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، هكذا في صحيح مسلم، يعني: أنه أخذ الحديث عرضاً. وقال إبراهيم بن سعد وهو أحد أئمة المدينة: يا أهل العراق! لا تدعون تنطعكم! العرض مثل السماع. وبالغ بعض أهل المدينة وقال: بل العرض أقوى من السماع، لكن العرض كالسماع وإن كان احتمال دخول الوهم في العرض أقوى من دخوله في التحديث المباشر، لأن الشيخ قد يسهو والتلميذ يقرأ عليه، وتدركه سنة أو نحو ذلك فلا ينتبه، فلا شك أن التحديث يمتاز عن العرض بمثل هذا، لكن المشهور والمعروف عند جماهير العلماء أن العرض والسماع كلاهما صيغة واحدة. مداخلة: هل الكتابة مع الإجازة أقوى من السماع؟ الجواب: لا. هذا خطأ بل التحديث أرفع أدوات التحمل، وهو أن يصرح الشيخ بلفظ التحديث، ربما يقول لك: الكتابة أحد أدوات التحمل، والإجازة أحد أدوات التحمل، فإذا اجتمعا هذا مع ذاك يبقى كأنه نور على نور، لا. أقوى صيغ التحمل (حدثني) و (حدثنا) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (أخبرني) و (أخبرنا)، وثم (قال لي)، فهي ملتحقة بحدثنا وحدثني، ولفظة (قال لي) أكثر من يستخدمها الإمام البخاري، يعني: لم أقف لأحد من الأئمة الستة على استخدام هذه العبارة إلا عند الإمام البخاري ذكرها في الصحيح قليلاً، لكنه أكثر منها في كتاب التاريخ الكبير. وأحياناً يروي في التاريخ الكبير حديثاً يقول فيه: قال لي مثلاً قتيبة بن سعيد، ويكون روى هذا الحديث بعينه عن قتيبة في الصحيح لكنه قال: حدثني قتيبة، فالعلماء قالوا: إن لفظة (قال لي) عند الإمام البخاري هي بمنزلة: (حدثني)، أو (أنبأني) أو (أخبرني). والطحاوي له رسالة اسمها: التسوية بين حدثنا وأخبرنا، يرد فيها على من يفرق بينهما ويقول: إن أخبرنا للعرض وحدثنا للقراءة. وأيضاً من أدوات التحمل (عن) وهي من أدوات التحمل التي تحتمل ا

الفوائد الفقهية والأصولية من الحديث

الفوائد الفقهية والأصولية من الحديث

استحباب الرحيل في طلب العلم

استحباب الرحيل في طلب العلم وقوله (جاءه أعرابي) فيه دلالة على استحباب الرحلة في طلب العلم والأعرابي: هو من يسكن البادية، يعني: ليس من أهل الحضر فالرسول عليه الصلاة والسلام يعقد المجلس لأصحابه وهذا الأعرابي رحل من بلده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليسأله عن أمر جلل، والرحلة في طلب الحديث أشهر من فعلها هم المحدثون، وأكثر من (95%) من الذين رحلوا من مكان إلى مكان إنما هم أهل الحديث، وتبقى (5%) لأهل الفقه وأهل اللغة، وسائر الذين يطلبون فنون العلم الأخرى. فيمكن أن يكون في بلدك اثنين أو ثلاثة من الفقهاء تتخرج عليهم، وتكون فقيهاً (100%)، وتأخذ ما عندهم، لكن في الحديث قد لا تجد. لماذا؟ لأن الأسانيد فرقت ووزعت بسبب رحلة الصحابة إلى الأمصار، وتركهم المدينة ومكة، فانتقل هؤلاء الصحابة ومعهم حديث كثير عن النبي عليه الصلاة والسلام، ففي كل بلد طلاب علم يسمعون عن شيوخ البلد، فكل واحد من هؤلاء معه من الأسانيد ما ليس مع الطرف الآخر، فلذلك وزعت الأسانيد كلها في صدور مئات بل ألوف من طلاب العلم في مختلف الدنيا، فهذه الرحلة اختص المحدثون بها لحاجتهم إليها بسبب تفرق الأسانيد في البلاد، وبذل المحدثون جهداً عظيماً كبيراً في سبيل جمع كل هذه الأحاديث من صدور طلاب العلم الذين أخذوا عن العلماء، والخطيب البغدادي له كتاب اسمه: الرحلة في طلب الحديث، ذكر فيه نماذج من رحيل الصحابة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رحيل التابعين إلى الصحابة، ومن رحيل العلماء إلى المشايخ في البلاد الأخرى، فمجيء الأعرابي يدل على الحرص على طلب العلم، وأنه كلما بدا لك سؤال يستحب لك أن ترحل إلى العالم الذي يشفيك. وقصة شعبة بن الحجاج في سبيل التثبت من حديث واحد مشهورة، ذكرها ابن حبان في كتاب المجروحين، وذكرها الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وهي مشهورة، وقد نوه بها الحاكم النيسابوري في المستدرك في آخر حديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) بعدما روى هذا الحديث وذكر له طرقاً كثيرة، نوه برحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله إلى طلب هذا الحديث الواحد، أراد أن يقول: إنني تعبت واستقصيت جمع طرق هذا الحديث، ولا مانع من ذلك؛ فقد فعل شعبة مثل هذا، فرحلة شعبة بن الحجاج رحمه الله استغرقت منه نحو شهرين أو ثلاثة في سبيل التثبت من حديث واحد، فعن نصر بن حماد الوراق قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة؛ فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء) قال: وبينما أنا أحدث بهذا الحديث خرج شعبة من الدار فسمعني فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فجلست أبكي فدخل شعبة الدار ثم خرج فوجدني أبكي، فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث قلت له: حدثك إبراهيم بن سعد؟ فغضب وأبى أن يخبرني، فقال لي مسعر بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق: يا شعبة! إبراهيم بن سعد حي بالمدينة إن أردت أن تستثبت فارحل إلى المدينة واسمع الخبر من إبراهيم بن سعد. وشعبة بصري من أهل البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث فقال: فلقيت مالكاً في الحج قلت له: حج إبراهيم بن سعد؟ قال لي: لا. ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على إبراهيم بن سعد، فقلت له حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: لا. قلت: ممن سمعته؟ فذكر أنه سمعه ممن -أدركني سوء الحفظ- قال: حدثني زياد بن مخراق قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عبد الله بن عطاء؟ قال: ما هو من حاجتك، قلت له: لابد، قال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام وتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، قال: فذهبت فاغتسلت وغسلت ثيابي وأتيته، فقلت له: حديث الوضوء، قال: حدثني شهر بن حوشب، قلت: عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، فقال شعبة: حديث مرة مكي! ومرة مدني! ومرة بصري لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي. وهذا الحديث صحيح لكن من غير الطريق الذي أنكره شعبة، والحديث إنما صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، لكن الذي يقرأ هذه القصة عن شعبة بن الحجاج لا يتصور أنه بذل ثلاثة أشهر من عمره في سبيل أن يتأكد من حديث واحد فيه مثل هذه الفضيلة، وهو يقول: (والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي). فالحمد لله رب العالمين أنه قد صح هذا الحديث. فالعلماء كانوا يسافرون هذه الأشهر الطويلة في سبيل التثبت من لفظة واحدة، يأتي من بعدهم لا يشعر بقيمة الجهد الكبير الذي بذلوه. ومن أمثلة الرحلة أيضاً في طلب العلم أو في طلب الحاجة: ما رواه الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إذ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، ونفقت الماشية فادع الله أن يسقينا، قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء وقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -يعني: ليس فيها سحابة- قال: فما إن دعا صلى الله عليه وسلم حتى تكاثر الغمام في السماء، وما نزل من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة، قال: وفي الجمعة التي بعدها وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه هذا الأعرابي فوقف على الباب وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادع الله أن يحبس عنا الماء، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والضراب ومنابت الشجر، قال: فكان على المدينة شمس وحول المدينة مطر). وكذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أيضاً أن رجلاً جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإحسان والإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فلم يكن تميز عنهم فكان الجائي يجيء فيسأل عنه أين محمد؟ فجاء أعرابي فسأل عنه، فقالوا له: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فذهب إليه وقال: يا بن عبد المطلب! قال: قد أجبتك، فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقالوا له: يا رسول الله! لو اتخذنا لك منبراً، قال: إن شئتم، ومن هنا اتخذوا له منبراً كان يجلس عليه ليتميز فلا يحتاج السائل أن يسأل عنه إذا جاء، بل إذا وجده يجلس على هذا المكان المرتفع عرف أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرفق بالسائل خصوصا إذا كان جاهلا

الرفق بالسائل خصوصاً إذا كان جاهلاً قال هذا الأعرابي: (متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث)، هذا فيه إعراض من النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن السؤال غير عاجل، هذا سؤال ما له كبير قيمة، أن تعرف متى الساعة، لذلك صرف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إلى ما ينفعه، وهذا فيه من الأدب أنه ينبغي على الشيخ أن يرفق بالسائل، لأنه قد يكون جاهلاً، أو قد يكون من الذين لا يحسنون السؤال، فيعلمه إحسان السؤال، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما أجابه إنما سأله، فرد على السؤال بسؤال، كأنما قال له: السؤال الذي ينبغي أن تطرحه ليس الذي ذكرت بل الذي أنا أذكره، والذي ينبغي أن تهتم به. وروى الإمام مسلم عن أبي رفاعة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فدخل رجل فقال: رجل غريب يريد أن يتعلم دينه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وجلس على كرسي وأدنى هذا الرجل وجعل يعلمه ما يلزمه من دينه، وبعد أن انتهى صعد المنبر فأكمل خطبته)، فهذا رجل متعجل لا يدري شيئاً عن دينه، فربما إذا أقيمت الصلاة لا يدري كيف يصلي، فالإجابة هنا عاجلة بخلاف الرجل الذي يقول: متى الساعة؟ فينبغي للعالم أن ينظر إلى سؤال السائل إذا كان الرجل متعجلاً فليعجل له بالجواب فهذا أرفق، وإذا كان السؤال يحتمل التراخي أقبل على شأنه وعلى كلامه ثم بعد ذلك لا يضره إن هو رجع له مرة أخرى. لماذا؟ لتحاشي حصول مضرة من تأخير الجواب. فهو يقول هنا: متى الساعة؟ فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يحدث، فالناس الذين يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم انقسموا إلى فريقين، جماعة قالوا: سمع ما قال، فكره ما قال، وجماعة قالوا: بل لم يسمع. أما الفريق الأول الذي قال: سمع فكره، عرفوا من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كره الشيء لا يجيب، مثل الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت ولم يجبه، -حتى كرر الرجل المسألة أكثر من مرة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وفي اللفظ الآخر قال: لو قلت نعم لوجبت ولما أطقتم) فالرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا كره السؤال لا يجيب، لكن يضاف إلى عدم الإجابة شيء آخر هو الذي جعل الفريق الآخر يقول: لم يسمع، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا كره لم يجب ويحمر وجهه، يظهر عليه علامات الكراهة، فعدم احمرار وجه الرسول عليه الصلاة والسلام أغرى طائفة أخرى فقالوا: لم يسمع، لأنه لو سمع وكره ما قال لتغير وجهه عليه الصلاة والسلام كما هي عادته، وكذلك فإن الفريق الآخر غلب حسن الخلق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن من عادته أن يهمل من يريده، لاسيما إذا كان الرجل من البادية، رحل وجاء من مسافة بعيدة، فقالوا: لا. لم يسمع، لأن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم في استقبال الغريب يمنعه ألا يجيبه، فالأولون غلبوا ما رأوه من عادته عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا كره لا يجيب، لاسيما أن هذا السؤال وجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجب على السائل. (حتى إذا قضى حديثه وأكمله، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ فقال: ها أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)

استحباب عقد مجالس التحديث

استحباب عقد مجالس التحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي) قلنا: إن هذا فيه دليل على استحباب عقد مجالس التحديث لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعقد المجالس لتعليم أصحابه

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها، هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها وفي حديث حذيفة قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال). الجذر الذي هو الأصل، أي: أن تعظيم حرمات الله عز وجل إنما يكون محله القلب، وهذا يصدقه قول ابن عمر وقول حذيفة أيضاً: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) فهذا الإيمان هو الأمانة، وعادة لا ينشط الرجل إلى فعل ما أمره الله عز وجل إلا والإيمان رائده، فالذي يفرط في أوامر الله عز وجل خائن، إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، ليس المقصود بالأمانة أن يعطى رجل آخر مبلغاً من المال فيأكله لا، هذا لون من ألوان الخيانة، لكن أعظم الخيانة أن يخون الرجل ما أمره الله عز وجل بحفظه لاسيما العقد الأول الذي أنت وقعت عليه، ووقعه كل إنسان على وجه الأرض، فخانه أكثر الناس قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذا هو التوقيع، شهدوا لله عز وجل بالوحدانية، أعظم الأمانة خيانة توحيدك، فكل البشرية جميعاً شهدوا على أنفسهم ووقعوا هذا العقد، قالوا: بلى شهدنا، فقال الله عز وجل لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، أي: إنما أشهدتكم حتى لا يقول قائل: إني غافل عن هذا. هل أحد منا يذكر هذه المراجعة؟ لا أحد على الإطلاق يذكر هذه المراجعة؛ لأن الله عز وجل إنما فعل ذلك ونحن في عالم الأرواح، كما في الحديث الصحيح الذي يفسر هذه الآية أن الله تبارك وتعالى مسح ظهر آدم فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيام، ثم خاطبهم في عالم الأرواح -في عالم الغيب- جعل لهم أرواحاً وخاطبهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا، قال: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] فلما لم يذكر العباد هذا الميثاق أرسل الله عز وجل الرسل تذكر العباد بهذا الميثاق إذ جزاء العقاب والثواب إنما هو مرهون ببعثة الرسول. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] وأخطأ من زعم أن هذا الميثاق حجة على كل العباد، ولا يعذر بالجهل بسبب هذا، أن الكل أقر في عالم الغيب أن الله عز وجل هو ربهم لا. بل العذاب والثواب كله مرهون ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم بوصول البيان والبلاغ، قال تبارك وتعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغته النذارة انقطعت حجته، وانقطع عذره، أما إذا بعث الرسول عليه الصلاة والسلام ومع ذلك لم يصل كلامه إلى إنسان معين، فهذا الرجل يعذر بجهله حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها فأجل الأمانة التوحيد لذلك حفاظك على توحيدك أمانة، وتفريط الإنسان في معرفة التوحيد خيانة لهذه الأمانة.

من ضياع الأمانة: تصدر أهل الجهل للفتوى والعلم

من ضياع الأمانة: تصدر أهل الجهل للفتوى والعلم هل الصحابة كانوا يفعلون مثل هذا؟! لا. القرآن عند الصحابة كان غالياً هذه هي الأمانة أن تعظم كلام الله عز وجل الذي أنت تأخذ منه الأحكام والآداب، الذي هو رائدك إلى الجنة، فإذا وجدت مثل هذه الخيانات في شتى المجالات، في الأحكام الشرعية، وفي التوحيد، وفي الآداب، وفي السلوك وفي مثل هذه الأشياء فاعلم أن الساعة قد اقتربت (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). فاللفظ مجمل -وأغلب الإشكال يأتي من الإجمال- فلم يقنع هذا الرجل بهذا الإجمال فكرر السؤال مرة أخرى يستفسر، فقال هذا الأعرابي: (كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). إذاً: كل شيء من الخلاف سببه كلام الجاهل في غير فنه، ولله در من قال من علمائنا: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، فمثلاً لو أن شخصاً في زماننا لا نشهد له بالعلم ألف كتاباً، وأتى فيه بأقوال شاذة. ثم مر عليه خمسمائة عام فعثر على الكتاب شخص وقال لك: وجدنا مخطوطة لأحد أئمة الإسلام، وأخرج المخطوط وحققه، هذا الشخص الذي هو كان عندنا في زماننا لا يساوي فلساً، بعد خمسمائة سنة سيبقى شيخ الإسلام الإمام العالم العلامة، الحبر الفهامة، البحر، قوي العارضة، شديد المعارضة، ألقاب يضعونها لهؤلاء، فيقوم هذا الرجل الذي ما كان يساوي شيئاً فيصير حجة بعد الزمن الطويل، لماذا؟ لأن كل يوم يمر علينا العلم يتناقص، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من أشراط الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، ويكون للقيم الواحد خمسون امرأة). فهناك مناسبة ما بين كثرة الجهل والنساء، لماذا؟ لأن العلم هذا تبع الرجال، والجهل يكثر في أواسط النساء جداً أكثر من الرجال بألف درجة، فمن كثرة الجهل بأحكام الشرع أصبح لهذا الرجل خمسون امرأة، يعني: الحكم الشرعي أن الرجل له أربع حرائر فقط، لكنه من شدة الجهل بالأحكام -فهذا أحد المعاني في الحديث- أن الرجل يتزوج خمسين امرأة بسبب الجهل، لأن الكل جاهل والعلم رفع. والمعنى الثاني: أن هذا يدل على قلة الرجال حتى أن الرجل الواحد تلوذ به خمسون امرأة، فيطعمهن ويرعاهن لعدم وجود من يقوم بحال النساء في ذلك الزمان. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)، فهذا الزمان عندما ترى مفتياً جاهلاً يتصدر للإفتاء للعوام، كم سيحصل من الشر المستطير بسبب فتوى هذا المفتي، ولا نقصد بهذا المفتي أنه لابد أن يكون له منصباً رسمياً لا. أي رجل تصدى للإفتاء، والعلماء عندما يقولون: (مذهب العامي مذهب مفتيه) ليس المقصود مفتي البلد، بل مذهب المفتي الذي سأله السائل، فعندما يأتي جاهل يفتي في دين الله عز وجل وهو لم يحط بالمسألة علماً يضل الناس، والسلف كان لهم كلمة تقال: (إذا زل العَالِم زل بزلته عَالَم). ومن أكبر وسائل الإضلال عدم التمييز ما بين العالم وشبيه العالم، مثل العالم الجاهل كشخص يلبس فروة أسد وهو جبان، فهو أخذ سمت الأسد ورسمه، لكنه ما أخذ قوة قلبه ولا شجاعته، كذلك المدعون للعلم يلبسون العمامة والزي الذي هو زي العلماء، لكن ليس عندهم علم تحت هذا الزي! فهذا يذكرني بقصة لطيفة جداً ذكرها أصحاب الأدب، ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك، لقبه تأبط شراً، هذا لقبه المشهور به، واسمه ثابت بن جابر وهذا الشاعر أحد ثلاثة من أشهر طبقة الشعراء الصعاليك منهم الشنفرا صاحب اللامية الرائقة الجميلة الذي أولها: أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل وفي هذه اللامية بيت جميل آخر يقول: وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خالف الخِلى متحول فـ الشنفرا أحد الشعراء الصعاليك، وتأبط شراً أيضاً أحد الشعراء الصعاليك، لقب بهذا اللقب لأنه كان يمشي في طريق فوجد الغول على هيئة خروف، فأخذه ووضعه تحت إبطه، فلما ذهب به إلى أهله، قالوا له: يا ثابت! قد تأبطت شراً، فنفضه فإذا هو الغول، يعني: قصة خرافية، المهم أن تأبط شراً كان قصيراً ونحيفاً وذميماً، ولكنه كان مرعباً مثل الأسد المفترس، الناس كلها تخاف منه، فقابله رجل ثقفي أحمق، فقال: بم ترعب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ قل لي: ما هو السر الذي معك حتى ترعب به الكل؟ قال له: ليس هناك سر أبداً، إنما اسمي هو الذي يرعبهم، عندما ألقى الرجل، أقول له: أنا تأبط شراً؛ فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد قال له: بهذا فقط! قال له: بهذا فقط. ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ فقال تأبط شراً: بكم؟ فقال الثقفي: بهذه الحلة الجديدة -وكان قد اشتراها في ذلك الوقت- وباسمي، وهو كان يكنى بـ أبي وهب قال له: أعطيك القميص هذا الجديد وأعطيك اسمي كذلك، قال له: موافق اخلع، خلع الثقفي القميص الجديد، وتأبط شراً قام فخلع ثيابه وأعطاها للشنفرا، وبعد ذلك تأبط شراً قال له: أنت من اليوم تأبط شراً، وأنا أبو وهب، فبعد هذه المبادلة كتب تأبط شراً ثلاثة أبيات إلى امرأة الثقفي الأحمق يقول فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسم اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبي هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قلبي؟ هل أخذ جرأتي وثباتي على الأحداث؟ لا. ليس المعنى أني أعطيته اسمي أنه أخذ الشجاعة والقوة التي هي رأس المال. وهذا الرجل الذي أخذ لقب تأبط شراً، قام وظهر على مجموعة من الناس وأخذ يقول لهم: أنا تأبط شراً، هل يتصور أنه ممكن يقولها كمثل ثابت بن جابر؟ لا. لأنه يقول لهم: أنا تأبط شراً، وهو في نفسه خائف، لماذا؟ لأن قلبه ضعيف، فالقوة قوة القلب وليست قوة العضلة، ولذلك قوة العضلات تستمد من القلب فأحياناً تجد الرجل الثابت القوي عندما تعطيه خبراً كالصاعقة يسقط على طوله، لماذا خانته رجلاه ولم تحمله عضلاته؟ لأن قلبه ضعيف، فقوة العضلة أصلاً منبعثة من قوة القلب فهذا ثابت بن جابر كانت عنده جرأة وشجاعة يدخل مباشرة على الرجل فيقول: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه. فمن أكبر الأشياء التي تهدد العلم عدم تمييز العوام بين العالم وشبيه العالم، فيأتي العامي يذهب إلى شبيه العالم يظنه عالماً، فيسأله وقد وسدت الفتوى إلى غير أهلها بسبب ضياع الأمانة. وهذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، أول ما سأل سأل على أعلم أهل الأرض، قالوا: نعرف فلاناً عمامته كبيرة وكل ما يقف في الصلاة يبكي هذا أحسن واحد عندنا، وهذا الرجل كان عابداً ولم يكن عالماً، فأول ما ذهب إليه سأله، قال له: قتلت تسعة وتسعين نفساً، قال: لا توبة لك. فقتله فأكمل به المائة، وبعد ذلك دُلَّ على راهب عالم، فقال له: قتلت مائة نفس هل لي من توبة؟ قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا وأفتاه بالفتوى الصحيحة. إذاً: فالعوام الذين دلوه على الراهب لا يعرفون الفرق بين الراهب العالم وبين الراهب العابد، بسبب اشتباه الأزياء واشتباه السمت. فمن جملة توسيد الأمر إلى غير أهله أن يسأل الناس من له سمت العالم، ولكن ليس بعالم في الحقيقة، فكم من الشر المستطير يكون إذا وجد في بلد من البلدان خمسة عشر واحداً من هؤلاء المتصدرين للإفتاء. سيضلون الناس، لماذا؟ لأن الأمر وسد إلى غير أهله. فتوسيد الأمر إلى غير أهله تضييع للأمانة، فإذا كان الأمر كذلك فمن علامات الساعة أن يرفع العلم، وأن يكثر الجهل، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وفي اللفظ الآخر عند الإمام أحمد قال: (حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله) يصل الجهل بالبشرية أنها ترجع إلى عبادة اللات والعزى كما رواه الإمام مسلم في صحيحه، ولا يعرفون الله. تقوم الساعة على هؤلاء الذين لا يعرفون شيئاً من دين الله تبارك وتعالى، بسبب أن الأمر وسد إلى غير أهله على سائر العصور، تراكمت هذه النقائص وهذه المحن شيئاً فشيئاً حتى وصلنا إلى الجهل المطبق نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

من ضياع الأمانة: التلاعب بالقرآن وتحريف آياته

من ضياع الأمانة: التلاعب بالقرآن وتحريف آياته كان عمر بن الخطاب يشدد غاية التشديد في الذي يلعب بمعنى آيات القرآن ليس بالقرآن أنت تعرف أن ابن عربي في تفسيره آيات القرآن، ليس المعنى فقط، بل الآيات نفسها، فهو يقول في قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] معناها ليس كما تفهمون ولا تقرءون، هذه فيها إشارة إلى الذل في العبادة، ما هو مفهومها؟ قال: من ذل ذي يشف عِ. يعني: (من ذل) من الذل (ذي) اسم إشارة إلى النفس، أي: من ذل نفسه يشف من الشفاء (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام ويعتبر هذا تفسيراً. هذا عمر بن الخطاب كاد أن يقتل صبيغ العراقي ضرباً بسبب مسألة ليست كهذه؛ فإنه كان يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) والذاريات: هي الريح، وصبيغ العراقي ما كان يسأل عن (الذاريات ذروا) لأنه يجهل معنى هذا اللفظ، لا. العرب كانوا يفهمون القرآن، لكن صبيغاً أراد شيئاً آخر غير المعنى اللغوي، وهذا ما فهمه أبو موسى الأشعري، لذلك أرسل إلى عمر بن الخطاب وقال له: إن هنا رجلاً يسأل عن معنى (الذاريات ذرواً) فقال عمر: ابعثه إلي. وبعد ذلك قال له: أرسله لي على إكاف بعير، وانتبه أن تبعثه على بردعة لينة طرية، إنني أريدك أن تكسر عظمه في الطريق، والإكاف نوع من الخشب فإذا قفز البعير وهو ماشٍ يكسر عظمه في الطريق، وهذا نوع من العقوبة العاجلة. فأرسل إليه صبيغ العراقي ومعه رسول، ولما جاء صبيغ العراقي كان عمر بن الخطاب قد جهز الجريد الأخضر فأول ما دخل قال له: صبيغ العراقي!! تعال فسحبه وجعل يضربه بالجريد الرطب الثقيل المؤلم، فظل يضربه إلى أن أدمى ظهره، ثم تركه يومين أو ثلاثة حتى بدأ الجرح يخف ثم جاء به وضربه مرة أخرى حتى أدمى ظهره، ثم تركه، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام جاء به كذلك لكي يضربه قال له: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، يعني: أموت مرة واحدة وانتهى الأمر، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت. ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل لـ أبي موسى الأشعري وقال له: لا أحد يكلمه، ولا يسلم عليه، فطال عليه ذلك فشكا إلى أبي موسى الأشعري ما يجد من الوحشة -فلا أحد يكلمه، ولا أحد يسامره- فأرسل أبو موسى الأشعري إلى عمر يخبره أن الرجل قد تاب وحسنت توبته، فأذن بالكلام معه. فانظر إلى الصحابة كيف كانوا يعظمون القرآن؛ ولذلك لم يحدث التفسير الباطني ولا التفسير بالإشارة إطلاقاً على عهدهم أبداً، وهذا اللعب بآيات القرآن والضياع التي الأمة المسلمة تجرعته في القرون التي أتت بعد ذلك سلم منه عصر الصحابة لشدة حرصهم، وفي نفس الوقت حزمهم بالنسبة للقرآن، انظر في صحيح البخاري في كتاب الحدود ستجد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، وأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائلهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ولولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله -هذا رواه البخاري وغيره، لفظ البخاري لا أحفظه فربما زدت شيئاً من الروايات الأخرى- لكتبته على حاشية المصحف) انظر التوقي! لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتب حكم الرجم على حاشية المصحف، فحفاظاً على القرآن لم يكتب عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره، وكان حكم الرجم آية تتلى ثم رفعت كلها فكان الصحابة حريصين غاية الحرص فالرجل صبيغ لما قال: (والذاريات ذرواً) قصد نفس المعنى الذي قصده عمر كما رواه البخاري وغيره من حديث أنس (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ مرة (وفاكهة وأباً) ثم قال: الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟! ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر وما عليك أن لا تدريه) نحن نعرف (الأب) وعمر يعرفه قبلنا كذلك، (الأب) هو العشب، {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:31 - 32]، فالأب -الذي هو العشب- طعاماً للأنعام، لكن عمر بن الخطاب لم يقصد مطلق اللفظ من أنه لا يدري ما معنى (الأب)، الصحابة كانوا عرباً أقحاحاً، والقرآن نزل بلغتهم لكن عمر قصد شيئاً زائداً على المعنى المعروف لديه يعني: أصله أين؟ وكيف البذرة تلقح؟ والرياح تأخذ ماذا؟ قصد الكلام هذا الذي الآن هم يدرسوه ويسمونه: الإعجاز العلمي للقرآن، ما هو أصل نبات (الأب)، عمر بن الخطاب قصد هذا المعنى، وصبيغ العراقي قصد (والذاريات ذرواً) مثل عمر في تفسير (الأب)، لذلك أنكر عليه عمر بن الخطاب وعاجله بهذه العقوبة. فالصحابة كانوا يبجلون القرآن ويكبرونه ويحافظون عليه، إنما الذين ورثوا الكتاب بعد ذلك هان عليهم القرآن، يعني: انظر إلى ابن عربي وتفسيره لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، صح عن ابن عباس أنه قال: (إن الله عز وجل أنزل آيتين في المؤمنين، وآيتين في الكافرين، وثلاث عشرة آية في المنافقين فبعدما ذكر ربنا سبحانه وتعالى المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، ذكر الكافرين، ابن عربي قال: لا. الآيتين هذه (إن الذين كفروا) نزلت في أهل الورع الذين هم أفضل المؤمنين، وقال: إن معنى (الذين كفروا) أي: كفروا إيمانهم وغطوه لأن أصل الكفر التغطية، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان، وسمي الزارع كافراً؛ لأنه يغطي البذرة في بطن الأرض ويواريها كقوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] فالكفار هنا هم الزراع، وسميت الكفور كفوراً، لأن الكفور هي البيوت التي كفرتها الأشجار فغطتها عن العيون، أشجار متكاثفة فتغطي البيوت عن السائر، فسميت كفوراً لأجل ذلك. فقال: (إن الذين كفروا) أي: غطوا إيمانهم حتى لا يحبط بالرياء والسمعة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون تهددهم بالناس أو لا تهددهم بالناس لا يصدقون هذا التهديد لماذا؟ لأنهم في معية الله ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غيره -بالشمع الأحمر- وعلى سمعهم فلا يسمعون إلا منه وعلى أبصارهم غشاوة يعني: لا يرون غيره، ولهم عذاب عظيم من المخالفين. انظر! إذا جاز للإنسان أن يفهم الكلام بهذه الصورة لا يبقى حق على وجه الأرض، لماذا؟ لأن كل حق يمكن أنك تقدر محذوفاً وينقلب إلى باطل فمثلاً لو أن شخصاً يقول: لا إله إلا الله فأي إنسان ممكن أن يقدر أي تقدير ويضيع هذه الكلمة، فلو قال: لا إله إلا الله ولم يقدر (لا إله بحق إلا الله عز وجل) وقال: لا إله إلا أن يأذن الله يحط أي تقدير، الكلام كله يضيع الدين كله يضيع عندما نقول: الذين كفروا إيمانهم، ولهم عذاب عظيم من المخالفين، وختم على قلوبهم فلا يدخلها غيره ولذلك تفسير الإشارة كله لعب بهذه الطريقة. فالقرآن كان عند الصحابة أعز عليهم من أن يفعلوا به هذا الفعل، ولذلك انظر الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] يرتكبون الموبقات ويقولون: سيغفر لنا. أحد المقرئين الكبار في عام (65) تقريباً زار مصر رئيس يوغسلافيا جوزف تيتو، فشخص من الجماعة القراء يمازحه ويقول له: أنت اسمك ورد في القرآن، تيتو الله أعلم هل يرد على الجنة أو لا. فيقوم يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. وهذا شخص كان يمتحن طلبة في القرآن قال لأحدهم: أنا سأسألك سؤالاً واحداً في القرآن، اذكر لي الآية التي فيها ثلاث (لمون) -أي: ليمون- في القرآن؟ ولو أجبت عن هذا السؤال سأعطيك الدرجة النهائية طبعاً الطالب حافظ، لكنه عصر دماغه لكي يعثر على الآية فلم يعرف يأتي بها نهائياً، وفشل الآخر أنه يأتي بهذه الآية ويقوم الفالح يقول له: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104].

من ضياع الأمانة: ضياع الأحكام والفرائض

من ضياع الأمانة: ضياع الأحكام والفرائض كلمة: (إذا ضيعت الأمانة) لفظ عام يشمل دين الله تبارك وتعالى كله، يعني: إذا ضيع دين الله عز وجل فانتظر الساعة، وقد ورد في أحاديث كثيرة أن من علامات الساعة ضياع الصلاة، وضياع الحكم، فأنت ترى أن ثلث الأمة لا يصلي مثلاً وربما أكثر من الثلث، والصلاة فرض عين على كل إنسان ومع ذلك هؤلاء لا يصلون. حتى أن صلة بن زفر راجع حذيفة بن اليمان في هذا الصنف من الناس يقول حذيفة (إنه في آخر الزمان يكون قوم لا يدرون ما الصلاة ولا الزكاة ولا الحج)، ولا يدرون شيئاً من أوامر الله عز وجل، إنما يقولون: لا إله إلا الله، -هذه الكلمة كما لو كانت كلمة تراثية أو شيء موضوع في متحف- ما معنى لا إله إلا الله؟ قالوا: لا ندري إنما أدركنا آباءنا يقولوها فنحن نقولها يعني: هم ورثوا لا إله إلا الله فهم يقولونها كما قالها أسلافهم، لكن لا يدرون شيئاً عن مقتضياتها. وبكل أسف فهذا هو الفرق بين الوارث والعامل، الذي ورث الكتاب ليس كالذي تلقى الكتاب وناضل من أجله، هناك فرق {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] هناك فرق بين من قاتل على تنزيل آيات الكتاب، وبين من ورث الكتاب، فرق كبير جداً الذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، فانظر الربا مثلاً المعصية الوحيدة التي ذكر الله عز وجل فيها الحرب: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} [البقرة:279]، ومع ذلك فهناك أحد المفتين جاءه رجل فقال: والله أنا مضطر أن أقترض بالربا ولا أجد أحداً يقرضني إلا بالربا، فهل تجد لي مناصاً وخلاصاً من إثم الربا؟ قال: نعم. هو يعطيك مثلاً المائة بمائة وعشرة، أنت تقول: هذا ربا، لكن تتخلص من الربا، قل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار نذراً واجب الوفاء -فهذا لعب بالشرع-، يقول له: أنت العب واجعله نذراً، وقل: لله علي أن أعطيه عن كل مائة عشرة، فصار النذر في حقك فرضاً، إذاً: أنت في هذه الحالة تؤدي ما افترضته على نفسك وليس هذا من الربا بسبيل. لو كان هذا من الصحابة الذين تلقوا الكتاب هل ممكن يهون عليه أن يفعل هذا؟ أبداً. لا يمكن، وأنت اعتبر بسيرة أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام فأرسل أبو ذر أخاه يسأل عن هذا الرسول وما صفته؟ وماذا يقول؟ وما رسالته؟ ونحو ذلك، فذهب وسمع وبعد ذلك رجع إلى أبي ذر وقال: وجدته يأمر بمكارم الأخلاق، ويدعو لعبادة الله، قال له: ما شفيتني، ثم ركب أبو ذر راحلته ورحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ودخل مكة وإذا أهلها أشد حرباً على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، فـ أبو ذر رأى الأوضاع سيئة وأنهم يضطهدون أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فأحب أن يتخلص من العنت والمشقة، فأراد أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام دون مشاكل، قال: فتضعفت رجلاً منهم قال: أسأله لأنه لن يعمل شيئاً حتى لو غضب مني، فهو ضعيف لا يستطيع أن يدخل معي في مبارزة ولا قتال، أتعرفون! هذا الضعيف وضعوه فخاً، أي واحد يدخل مكة ويسأله عن النبي عليه الصلاة والسلام يشير إشارة فقط فيأتي كل كفار قريش فيضربونه. فـ أبو ذر يقول: فتضعفت رجلاً منهم؛ لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً، قال: فقلت له: أين ذلك الصابئ الذي يدعو إلى كذا وكذا؟ فقال ذلك الرجل: الصابئ الصابئ قال: فانقلب علي القوم بكل مدرة وعظم، هذا جاء بلحي بعير، والثاني جاء بعظمة حمار، قال: وانهالوا علي جميعاً، فما تركوني إلا وقد جعلوني نصباً أحمر، والنصب التمثال إذا سكب عليه دم، أي: أن الدماء سالت منه بسبب الضرب الذي هم ضربوه، قال: فمشيت إلى زمزم، وليس له إلا ماء زمزم يشرب منها، هو طعام وشراب، قال: حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع، صار ذو كرش، وزال أثر الجوع تماماً من على كبده. فالمهم عندما خرج مر عليه علي بن أبي طالب وكل منهم ينظر إلى الآخر ولا يكلم الآخر، ثم في اليوم الثاني جاء علي بن أبي طالب فجعل يقول له: أما آن للغريب أن يعرف مثواه، يعرض عليه الكلام، حتى أمن لـ علي بن أبي طالب فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: اتبعني امش خلفي، فإذا خفت عليك جلست كأنني أصلح نعلي. يعني: إذا قعدت كأني أصلح نعلي فاستمر في المشي كأنك لا تعرفني. وبعد ذلك أخذه علي بن أبي طالب ومضى خلفه حتى ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأسلم أبو ذر وسمع آيات القرآن، فأخذته الحمية ورجع مرة أخرى إلى المسجد الحرام وقال: والله لأصرخن بها بينهم، وصرخ بها بينهم في المسجد الحرام، فانهالوا عليه مثل المرة الأولى، وما خلصه إلا العباس مثلما خلصه في المرة الأولى، وقال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجارتكم يمر من غفار فأنتم إذا قتلتموه وقفت لكم غفار بالمرصاد، وقطعوا عليكم الطريق، وأخذوا التجارة منكم. فلما ذكر لهم ذلك سكتوا وكفوا عنه. فمثل أبي ذر هل من الممكن أن تهون عليه آية من آيات الكتاب فيحرفها لمأرب شخصي أو لعرض من أعراض الدنيا؟ هذا مستحيل، لذلك الفرق بين الذي أنزل عليه الكتاب والذي تلقاه وورثه كبير جداً، وأنت اعتبر في الدنيا بالرجل المكافح الذي جمع ماله حال شبابه، وكان قبل ليس له مال، بدأ من الصفر وجعل يجتهد في جمع المال، ولا يمكن أن هذا الرجل ينفق المال بسفه، كل مسألة ومشروع يريده يعمل له دراسة جدوى؟ هل هو أفضل أم الفلوس أفضل، ودائماً تجده حكيماً في التصرف والنفقة، حتى جمع ألوفاً وملايين ثم مات، وورث ابنه هذا المال، فلو أنفق المال كله في ضحوة من نهار ما ذرف عليه دمعة واحدة، ولو المال كله احترق لا يبكي عليه لماذا؟ لأنه ما جمع هذا المال، ولا تعب عليه.

ففروا إلى الله

ففروا إلى الله إن النفس البشرية جبلت بطبيعتها على الهروب مما تخافه وتخشاه، إلا أن علاقة المسلم بربه نقضت هذه القاعدة الفطرية، فصارت علاقة المسلم بربه قائمة على الخوف والرجاء. فالمسلم حين يفر من الله تعالى فإنما يفر إليه راجياً استشعار الأمن في كنفه تعالى، طامعاً في رحمته وجوده. ومن الأسباب المؤدية إلى صدق فرار المسلم إلى ربه تعالى فراره من المعصية إلى الطاعة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكسل والدعة إلى العمل والسعي لنيل مرضاة الله عز وجل.

الفرار من الله لا يكون إلا إليه

الفرار من الله لا يكون إلا إليه إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. إن عنوان هذه المحاضرة (ففروا إلى الله). ولقد بدا لي أن أعطي إطلالة عامة أمهد بها للدعاة الذين يأتون فيما بعد إن شاء الله عز وجل بتبيين معنى الفرار إلى الله، وأيضاً ذكر أقسامه، وكيف نفر إلى الله تبارك وتعالى، فقد رأيت أن هذا أعون على فهم مضمون هذا الأسبوع بما يتفق مع هذا العنوان. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] آية وردت في سورة الذاريات لكنها من أعجب الآيات، إذ إن الفرار لا يكون إلا (من)، ولا يكون (إلى)؛ لأن الذي يفر إنما يفر لأنه خائف هارب، فالمناسب أن يفر (من)، لا يفر (إلى)، وقد عُدي هذا الفعل بحرف الجر (من) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] وقال موسى لفرعون: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21]، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] فالفرار لا يكون إلا (من)، والعجيب أن الآية السابقة عُدي فيها هذا الفعل بـ (إلى) وهذا غير معهود، فترى ما هي النكتة في تعدية هذا الفعل بحرف الجر (إلى)؟!! إذا استعرضت الآيات التي سبقت هذه الآية، والآيات التي تلت هذه الآية ظهر لك هذا المعنى بجلاء. إن الله تبارك وتعالى هو الوحيد الذي تفر منه إليه؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] هذا تمام الإحاطة بالعباد، فالله محيط بالسموات والأرض فإذا أردت أن تفر منه فإلى من تذهب وهو محيط بالعالمين؟! تفر منه إليه، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلن هذا الفرار إلى الله كل ليلة، الأذكار الموظفة التي علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذكار النوم كما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على شقك الأيمن، وقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) هذا هو الفرار (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت). لما تقول هذا الذكر في كل ليلة فكأنك تستحضر هذا الفرار إلى الله عز وجل، وسنذكر النكتة بذكر لفظ الفرار (إلى) دون غيره، مع ما في الفرار من إشارات الرعب والهلع. فأنا عندما أفر فإنما أفر (من)؛ لأن الذي يطلبني يريد إهلاكي؛ فأنا أفر منه، فإذا توجهت إلى الله عز وجل وهو غاية المطلوب فالمفترض أن أستريح، والمفترض أن يطمئن قلبي، فيعبر بلفظ آخر غير لفظ الفرار الذي يقتضي الرعب والهلع والفزع، فلماذا عبر أيضاً بلفظ الفرار وعدي بـ (إلى)؟ أي رجل فار له جهتان: مهرب، ومطلب؛ مهرب يهرب منه، ومطلب يرجوه. من أول قول الله عز وجل: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:31 - 37] هذه أول واحدة. {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38 - 40] وهذه الثانية. {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:38 - 42] وهذه الثالثة. {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:43 - 45]. {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46]. فما سبق كان هذا كله إهلاك، ثم قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] والله إن ترتيب هذه الآيات عجيب! {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:47 - 50] (ففروا) يعني هناك إهلاك مستمر، فهذا هو مقتضى الفرار. والعجيب أنه لم يذكر الجهة التي تفر منها، إنما ذكر الجهة المطلوبة، وفي هذا نكتة حدد الجهة المطلوبة، ولم يذكر الجهة التي تهرب منها لماذا؟ لأنها واضحة، من أول قصة قوم لوط عليه السلام بيان من الله بوجود إهلاك فبعدما تقرأ هذه الآيات، وتعلم أنك إن أعرضت مثل هؤلاء حاق بك ما حاق بهم، إذاً قد وضحت الجهة التي منها تهرب وهي العذاب. لكن تخلل السياق -ما بين (ففروا إلى الله) وإهلاك القوم- آيتان {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] بـ (أيدٍ) أي: بقوة، (وإنا لموسعون) هذا اللفظ إما من التوسعة أو من السعة، واللفظ يحتمل، (وإنا لموسعون) من التوسعة على العباد، ومنه قول الله عز وجل: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]، أو من السعة التي هي البسط: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]. فإذا استحضرت قول الله عز وجل: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] ظهر لك عظمة الله عز وجل، وأن إهلاك القوم من أيسر ما يكون، إذ إن السماء -وهي أعظم خلقاً من الأرض ومن الإنسان- الله عز وجل يوسع فيها، يوسِّع أرزاقها، ويوسِّعها هي نفسها، فهذا إظهار لقدرة الله عز وجل وعظمته، وتأكيد بأن إهلاك الخلق من أيسر الأمور عليه عز وجل {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48] فإذا كان الأمر كذلك {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].

مراتب الفرار إلى الله

مراتب الفرار إلى الله لما ذكر أبو إسماعيل الهروي منزلة الفرار قال: الفرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو على ثلاث مراتب:

الفرار من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة

الفرار من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة المرتبة الثالثة للفرار: (ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً) وهذا هو نهاية المطاف، (من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ثقة ورجاءً) إذ أنك فررت إلى الله عز وجل، وهذا الفرار إلى الله ترجمه الصحابة -أيضاً-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] تعلموها واستخدموها حتى في كلامهم. روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمَّر عليهم رجلاً -وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل كان فيه دعابة- فضايقوه، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى. قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا الحطب. قال: أججوه ناراً؛ فأججوه ناراً. قال: ادخلوا فيها. فلا زال بعضهم يدفع بعضاً -قاموا لكي يرموا أنفسهم في النار- فقال قائلهم: إنما فررنا إلى الله ورسوله من النار! فلا زال يدفع بعضهم بعضاً حتى انطفأت النار وسكن غضب هذا الأمير، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف). وفي الصحيحين أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما وقع الطاعون أيام عمر بن الخطاب أراد عمر ألا يدخل الأرض التي هو فيها، فقال له أبو عبيدة: (يا عمر! أفرار من قدر الله؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فهذا هو معنى: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) (نفر من قدر الله إلى قدر الله). وفي سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث عدي بن حاتم قال: كنت بالعقرب -العقرب هذا اسم مكان متاخم لأرض الروم- وذلك لأنه لما انتشر الإسلام وعم الجزيرة، هرب عدي بن حاتم من الإسلام، وخاف أن يسلم، وهذا كحال بعض الناس فهو يخاف أن يقتنع بما عندك فيتحاشاك. وأورد هنا قصة رجل كان ابنه يحضر بعض الدروس، وكان هذا الابن يعد من الأوتاد، فصار يحضر معنا دروساً في شرح كتاب رياض الصالحين في منطقة بجانبنا، وبدأ يسمع كلام الوحي، وبدأ يحس بسعادة وعلم لأول مرة يتعلمه، ثم صار يذهب إلى أبيه يجادله في ما كان يعتقد من قبل، فجاء الرجل إلى المسجد وأحدث بعض الفوضى، فلما كلمناه قلنا له: يا فلان! نحن على استعداد أن نجلس معك، فإذا كان الحق عليك تركت ابنك، وإذا كان لك أخذته منا؛ فأبى علينا، فأخبرنا الشاب فيما بعد أن أباه استشار أناساً قبل أن يأتينا فقالوا له: لا تجلس مع هؤلاء فإنهم سيلبسون عليك من حيث لا تشعر ونحو ذلك. فالرجل لا يجلس معك خشية من أن يقتنع، كما فعل عدي بن حاتم، فلما هرب إلى مكان اسمه العقرب والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل خيله في غزوة، فأخذوا من ضمن السبايا عمة عدي بن حاتم، فأرسلوا إليه في العقرب وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سبى عمتك. قال: فقلت في نفسي: فلآتينه، فإن عرض علي أمراً والله لا يخدعني، إن وجدت كلامه حسناً قبلته وإلا لم أقبل. يعني: هو منَّى نفسه وجاء من العقرب. وقبل أن يجيء اعترضت المرأة العجوز رسول الله، وقالت: (يا رسول الله! والله ما بي من خدمة -يعني: أنها من السبي وستقع في نصيب واحد من الصحابة وستبقى أمة، وهي عجوز لا تقوى على الخدمة- منَّ عليَّ منَّ الله عليك -يعني قل: أنت حرة لوجه الله- قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الذي فر من الله ورسوله؟ فجاء عدي بن حاتم فقال: يا عدي بن حاتم! ما أفرك أن يقال: لا إله إلا الله، وهل من إله إلا الله؟ ما أفرك أن يقال: الله أكبر، وهل شيء أكبر من الله؟ قال: فأسلمت، فاستبشر وسر، واستنار وجهه، وقال: يا عدي بن حاتم! إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون) فانظر إلى قوله: (ما أفرك) ثم إلى قوله: (الذي فر من الله ورسوله). فالصحابة كانوا يعرفون أنهم إنما يفرون من الله إليه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] فمن هذا نفر نفر من الله عز وجل ومن عذابه، كما قال ابن عباس: (نفر من معصيته إلى طاعته، ومن سخطه إلى رضاه) وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فالمهاجر من السيئة إلى الحسنة فار إلى الله عز وجل. إذاً المنزلة الأخيرة من منازل الفرار بالنسبة لعوام الخلق هي: الفرار من الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.

الفرار من الكسل إلى العلم

الفرار من الكسل إلى العلم المرتبة الثانية للفرار: الفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، وهذه محنة يشتكي منها كثير من إخواننا، ويسأل البعض فيقول: أقرأ في سير السلف فأرى جدهم في العبادة، فأحاول أن أقلدهم لكن سرعان ما تفتر همتي، فما هو السبب؟ أريد كلما قرأت شيئاً عن السلف أن أكون مثلهم في الجد والعبادة، مثلاً أبو مسلم كان يصلي من الليل، فكلما تعبت قدماه كان له عكاز -عصا- يتعكز عليه، وكلما أدركه الفتور والتعب وأحس أن قدميه عجزتا عن حمله، يأخذ العصا ويضرب رجليه، ثم يقول: (والله إنكما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟! والله لأزاحمنهم على الحوض) ثم يقوم يستأنف الصلاة. فإذا قرأ القارئ منا مثل هذه الحكاية، وقام يريد أن يصلي ويطيل في الصلاة، فبعد نحو نصف ساعة يشعر بالملل ويشعر أن الألم بدأ يدب في ساقيه، ثم سرعان ما يفتر وهو متألم أنه لم يكن كـ أبي مسلم، ثم يسأل: ما هو السبب في هذا الفتور؟ نظهر السبب، ونذكر العلاج في هذه المنزلة من منازل الفرار (والفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً). إننا أمرنا أن نأخذ أوامر الله ورسوله بقوة وبلا تردد {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93] لا تتردد {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] بقوة، لا تتردوا في الأخذ {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145] (أحسنها) هنا على نحو ما شرحناه في قوله عز وجل: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. فإذا صح عن الله عز وجل قول، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول فلا تتردد في الأخذ به. العزم ثم الجد، العزم هو: عقد الإرادة، والجد هو: عقد العمل. إذاً يلزمك عزم وجد. إن زادك أيها الفار الهارب من النار إلى الله عز وجل هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين، ولذلك نحن نوصي إخواننا بقراءة كتب التراجم التي عنيت بذكر سير العلماء، وأخص بالذكر منها الكتاب العظيم كتاب الإمام شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء. وكان أخذ الأمر بالقوة والعزم هو ما أمر الله به كل الأنبياء والأمم، وقد جاء هذا الأمر منه عز وجل لبني إسرائيل ولموسى عليه السلام وليحيى عليه السلام أن يأخذ الكتاب بقوة، وهذا يوجهنا إلى ألا نتردد في إظهار القوة في أخذ كلام الله ورسوله؛ لأن هذا له فوائد: الفائدة الأول: أنك تشد من عضد أخيك الذي ينتظر إظهار هذه القوة. الفائدة الثانية: أن عدوك يخشاك إذا أظهرت القوة في أخذ كلام الله عز وجل. فهما فائدتان: فائدة لحبيبك، وفائدة لعدوك. فعدوك يخافك إذا رأى منك القوة، وصاحبك الذي ينتظر من يأخذ بيده يستفيد أيضاً من إظهار هذه القوة، ومن متابعة الأحداث على الساحة نحن نعلم علماً قطعياً لا يشوبه شك أن اليهود هم أجبن خلق الله عز وجل لأن هذا حكم الله عليهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فنحن نعلم أن هؤلاء الناس ضعاف جداً وجبناء، فبينما يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتلويح بالقبضة الحديدية ويصر على دق أجراس الحروب، بينما سائر اليهود يطالبون بمواصلة عملية السلام حتى لا تضيع عليهم المكاسب التي حصلوا عليها من هذه العملية. فهم بشكل عام يسيرون وفق مخطط مدروس، وبناء على خطة السلام المزعوم فكان من الواجب أن يتفق العرب مع اليهود على مكاسب معينة، ولكن هذا (النتن) جاء وشدهم إلى ما قبل الاتفاق، حتى إذا وصلوا إلى ما اتفقوا عليه أول مرة إذا بالعرب يفرحون به ويعدونه مكسباً؛ لأنهم ضعفاء لا حيلة لهم، فبعد هذا الشد القوي أول ما يبدأ يرخي فإنهم يعتبرون أن الجلوس معه -مجرد الجلوس معه- مكسب؛ وما ذاك إلا لأنه أظهر قوة أمام أناس في غاية الضعف. ووفق المخططات اليهودية فإن حرباً توشك أن تندلع بيننا وبين اليهود، خلال عشر سنوات، وهذا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ترجمت للعربية، إلا أن المسلمين لا يقرءون، فكل الذي جاء في تلك البروتوكولات من سنوات طويلة يحدث الآن بالحرف الواحد، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، فالذي يحدث الآن على الساحة مكتوب، وهم يخططون قبل سنة ألفين أو بعد سنة ألفين بحولي سنتين لانقضاضة قوية على بلاد الإسلام، لكن لا يمكنهم الله عز وجل أمام هذا التنامي للصحوة الإسلامية في ديار المسلمين؛ لأن الدنيا تغيرت، ووجه الساحة تغير بهؤلاء الشباب هذا الجيل الذي استعبده الله عز وجل وخلقه لطاعته، فهذا يظهر القوة؛ فالضعيف يخاف، والقوي يضع يده في يده. فكذلك أمر الله عز وجل إيانا أن نأخذ أوامره بقوة لا تخف؛ لأن الله عز وجل الذي أنزل هذا الكتاب هو المهيمن على أقدار الناس جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. إذاً المنزلة الثانية من منازل الفرار -بعدما صححت معين الأخذ، ووقفت على أول طريق النجاة-: أن تبدأ في العمل بهذا العلم الذي خرجت به من ظلمات الجهل. السبب في أن عزمنا ينفسخ، ولا نستطيع أن نقلد أسلافنا: أن الدين على ثلاثة أنحاء: إسلام، وإيمان، وإحسان. اجتناب للحرمات -المحرمات- وفعل للواجبات والمستحبات. أبو مسلم -الذي ضرب رجليه بالعصا، وهب منتفضاً كله عزم ونشاط ليواصل الصلاة- تمم الواجبات واجتنب المحرمات؛ فسهل عليه أن يصل إلى درجة الإحسان، لكن بعضنا مقصر في الواجبات، ملابس للمحرمات، لكن يدركه علو الإيمان في فترة من الفترات، فيقرأ مثل هذه الحكايات فيريد أن يرتفع، فإذا بالأغلال تشده. من أراد أن يكون كهؤلاء السلف فليتمم أبواب الواجبات، وليكف عن أبواب المحرمات؛ ليصل تلقائياً إلى درجة الإحسان. لذلك يسيخ عزمنا بسرعة؛ للفرق الذي بيننا وبينهم. ومن الأئمة الكبار، أبو حصين رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عالماً، وكان شديد الورع في الفتوى، حتى أنه كان يقول: (إنكم لتفتون الفتوى التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر) يعني: يقول ما أجرأكم! لو عرضت هذه المسألة على عمر لخاف أن يفتي، ولجمع لها أهل بدر يستشيرهم، وكان أبو حصين من أعلم الناس. وكذلك الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكان له مذهب مثل مذاهب الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الفقهية ليست محصورة في أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي لا، المذاهب الفقهية كانت كثيرة، كان هناك مذهب لـ سفيان الثوري، وكان هناك مذهب لـ سفيان بن عيينة، وكان هناك مذهب لـ إسحاق بن راهويه، وكان هناك مذهب لـ داود بن علي، وكان هناك مذهب للإمام الأوزاعي -الذي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - وكان عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي من أقران الإمام مالك، فـ مالك كان في المدينة والأوزاعي كان في الشام، وكان الأوزاعي جليلاً كبيراً، عظيماً معظماً عند العلماء، لدرجة أن سفيان الثوري -رضي الله عن سفيان كان شامة في جبين الزمان- لما رأى الأوزاعي في السوق يركب دابته أخذ سفيان الثوري بلجام دابة الأوزاعي يسله من الزحام، وهو يقول: أوسعوا لبغلة الشيخ. وجاء رجل لـ سفيان الثوري وقال: يا أبا محمد! رأيت كأن وردة خرجت من أرض الشام إلى السماء. قال: ويحك! لو صدق ما تقول فإن الأوزاعي قد مات. فجاءه نعي الأوزاعي في آخر النهار. وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: لا زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي. كان هذا الإمام الكبير قواماً بالليل، تالياً لكتاب الله عز وجل، سريع الدمعة، غزير العبرة، حتى قال مترجموه: أن أجفانه ذبلت من البكاء، فكان إذا صلى بالليل وأراد أن يخرج اكتحل، وشد أشفار عينيه حتى لا يظهر هذا الذبول. وكذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني -وهو من طبقة الإمام مالك أيضاً، وإن كان أكبر منه في السن- كان إذا ذكر بالله عز وجل جرت العبرة من عينه فتخللت أنفه، فكان إذا شعر بذلك قال: سبحان الله! ما أشد الزكام! حتى لا يسأل عن هذا الماء الذي يتساقط من أنفه. أنت إذا أردت أن تصل إلى مثل هذا كيف تصل وقد لابست بعض المحرمات؟! فهذه الأخبار وردت عن التابعين، والصور في حال الصحابة أجل وأعظم! عبد الله بن عمرو بن العاص لولا صحة الأسانيد إلى حكايته ما كاد المرء أن يصدقها، عبد الله بن عمرو بن العاص كان يختم القرآن كل ليلة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أختمه كل ليلة) وكان رضي الله عنه شديد الاجتهاد في العبادة، وكان يشتاق للصلاة، فلما تزوج ترك امرأته وقام يصف قدميه لله عز وجل، حتى عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجد في العبادة، وهذا الجد في الصيام، فقد كان يصوم كل يوم، ويختم القرآ

الفرار من الجهل إلى العلم

الفرار من الجهل إلى العلم المرتبة الأولى: الفرار من الجهل إلى العلم عقداً وانسياقاً، ومن الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً. فالذي يريد أن يفر إلى الله عز وجل يتأكد من تحقق هذه المنازل، فمطلع كلامه: (الفرار مِن من لم يكن) أي: من المخلوق، والمخلوق لم يكن له وجود قبل ذلك، أو الفرار من النار، والنار مخلوقة، فأنت تفر مِن من لم يكن إلى من لم يزل وهو الله عز وجل {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وهو هنا يترجم معنى الآية، فرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو ثلاثة مراتب: الفرار من الجهل إلى العلم، وهذا الذي ذكره أبو إسماعيل مذكور في نفس الآية {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] والنذارة لا تكون إلا بعلم {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فكيف تفر من شيء لا تعلم أنه يعطبك ويهلكك؟ إذن لابد من العلم للفرار، وشرط النجاة بالفرار العلم. والملفت للنظر أيضاً: أن هذا المقطع من آخر الآية تكرر بألفاظه في الآية التي بعدها! {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51] فهذا يدل على أن الفرار أول ما يكون من الشرك إلى التوحيد، إذ إن آية الفرار أعقبت بهذه الآية: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الذاريات:51] إذاً: على هذا كيف نصل إلى التوحيد؟ {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:51]، هذا يقتضي منا أن ندرس الوحي؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] إذاً الفرار من الجهل إلى العلم. والعلم بالله عز وجل وصفاته أول ما ينبغي على العبد أن يطلبه للفرار إليه، ولذلك يقلب المرء كفيه عجباً لما يقرأ مذاهب أهل البدع في معرفة الله عز وجل، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم ركبوا عقولهم في طلب معرفة الله عز وجل، حتى إن المعتزلة جعلت للعقل منزلة فوق منزلة الوحي، فهم يقولون: إن الله عز وجل تعبدنا بالعقل، وإذا لم يكن عندنا عقل سديد ما انتفعنا بالوحي، فيقولون: العقل ثم النقل. فقاسوا قياساً من أعجب ما يكون؛ إذ قاسوا الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل بإجماع أهل العلم، قياس الغائب على الشاهد هذا قياس باطل؛ لانفكاك الجهة، فإن الله عز وجل ما رآه أحد، فإذا أثبت لنفسه صفة فكيف تنفيها أنت لأن لك نفس الصفة؟! فحادوا بذلك عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وأنت إذا أردت أن تفر لابد لك من طريق تسير عليه، وهذا الطريق لا يتعدد، بل هو طريق واحد فقط، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر به في كل خطبة يخطبها أمام الصحابة، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) الطريق الذي يسلكه الفار إلى الله عز وجل طريق وحيد، إذا لم تعرف رسم هذا الطريق ضلت بك السبل. أيها الهارب الذي طرفك منتبه دائماً، لا تكاد تغمض عينك، إن هناك من يطلبك، والطريق إلى الله عز وجل ليس كما قال المبتدعة بعدد أنفاس البشر، بل الطريق إلى الله عز وجل طريق واحد فقط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي). إذن إذا أردت النجاة لابد أن تعرف ماذا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تكلم هذه الكلمة، ثم ضم إليها قول الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: (يا إمام! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة. قال: إني أريد أن أحرم من عند القبر -قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ومن مسجده، فقال مالك له: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: يا إمام! بضعة أميال أزيدها؛ أبتغي الأجر بها أفتتن؟! فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله؟! ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ثم قال قولته اللامعة المضيئة: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً). فأنت انظر إلى سائر ما تعبد الله عز وجل به، هل كان هذا ديناً في القرون الثلاثة الأُول أم لا؟ فإذا بحثت فوجدت أن هذا الذي يأمرك به أي إنسان -كائناً من كان- ليس له وجود في القرون الثلاثة الأول، فإياك أن تعبد الله به (فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً أبداً). إن اعتقادك أن هذا الشيء الذي لم يكن في القرون الثلاثة الأول ديناً طعن على كل تلك القرون، أنه فاتهم كل هذا الخير، وهذا فيه غمط لأشرف أمة أمة الوسط الذين مقدمهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. تعال إلى باب العقيدة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) هؤلاء الثلاثة والسبعون تركز اختلافهم إلا في تعريف المؤمن والمسلم، والكافر والفاسق، فخلافهم كان في مسائل الإيمان والتوحيد، ولم يتركز على المسائل الفرعية، كالمسح على الخفين، والمسح على الجوربين، ومسح الرأس، وصفة الوضوء والتيمم. إذاً بمقتضى هذه الكلمة: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أيها الخوارج! الذين تخرجون الرجل من دائرة الإيمان بالمعصية، من سلفكم في هذا من القرن الأول؟! إن الخوارج -كما تعلمون- ظهروا في آخر القرن الأول. فمن سلفكم أيها الخوارج من الصحابة؟ ومن منهم قدوتكم؟ وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من وقع في المعصية، فعلى ذلك فإن الذين رجمهم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم تكفرون بالمعصية فيلزمكم أن تستدركوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتقولوا: يا رسول الله! كيف لم تكفر هؤلاء؟ يعني: المرأة التي رجمها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فهل النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرها؟ لم يكفرها. لما ذهب إليهم ابن عباس وناظرهم وجادلهم، في تلك المناظرة المشهورة رجع منهم أربعة آلاف بعد مناظرة ابن عباس، وقد كانوا ستة آلاف قبل تلك المناظرة. تصور أن هؤلاء يكفرون علي بن أبي طالب المقطوع له بالجنة، وهذه جرأة متناهية: أن يعرض للنص القطعي برأيه الفاسد! ويقول: هو إمام الكافرين؛ لأن المسألة عندهم إما أبيض أو أسود، قالوا: محا عن نفسه صفة أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. والخوارج أتباعهم هم جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التوقف، وقد جربناهم ووجدناهم من أجهل الناس بالاستدلال، وبمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المعتزلة والجهمية الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟! أنا أبين لك لماذا تشعبت السبل بهؤلاء؟ لأنهم تركوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وركبوا عقولهم؛ فضلوا. وأنا هنا أبين لك طريق الفرار، فأنت تريد لنفسك النجاة، وأمامك ثلاث وسبعون طريقاً، فأي الطرق تسلك لتنجو؟ أنا أضع لك الآن ملامح الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وأنت هارب إلى الله عز وجل، فهذا هو طريق النجاة الوحيد. هؤلاء الجهمية الذين نفوا صفات الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟ الصحابة الذين نقلوا لنا أحاديث العقائد تكلموا فيهم، فكان عمرو بن عبيد إذا ذكر سمرة بن جندب يقول: وما تفعلوا بـ سمرة، قبح الله سمرة يقول هذا عن صحابي! هذه خطة جهنمية شيطانية، أول معول هدم في العلماء. وجماعة التكفير أول شيء كانوا يفعلونه هدم العلماء، بحيث أنك لا تجد عالماً معتمداً تستطيع أن تنقل كلامه إليهم، فنقول لمثل هؤلاء: عاملونا بأصولكم لا بأصلونا، أنت يا بني تقرأ عليَّ مذكرة شكري -وهي مذكرة كانوا يحفظونها كالقرآن- وتقيم عليَّ الحجة بعالمك أنت، فلماذا أخذت بقول لعالمك ورميت بعالمي؟! خذ المسألة على أصولك. وحتى إن منهم من كانوا لا يحسنون القراءة، مرة أحدهم ونحن نتكلم معه، يقرأ أمثلة، ثم قال: وعلى هذا فَقَس. قلت له: يعني البيض؟! بينما الصحيح هو (على هذا فقِس) فهو رجل لا يحسن حتى القراءة. فأقول: عاملني بأصولك هذا هو العدل، أنت لك عالم تحتج به وتقيم عليَّ الحجة به، وأنا لي أيضاً عالمي، فيقول: لا، هم رجال ونحن رجال. فأول لبنة يهدمونها أنهم لا يرفعون الرأس بعالم، بل ينبذونهم نبذ النواة، وهكذا المبتدعة، يأتي عمرو بن عبيد مع ما كان فيه من الزهد، حتى أن المأمون كان إذا رآه تمثل ببعض أبيات يشيد فيها بـ عمرو بن عبيد الزاهد الورع، يقول: كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد كلكم يمشي رويد، اللص لا يسير بسرعة، إنما يسير سيراً هادئاً لماذا؟ لأنه يترقب ويتلفت، ماذا يسرق، ماذا يخطف، فيقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد رجل متجاف عن دار الغرور، ورجل زاهد وعابد وورع؛ ولذلك أهل البدع يخطفون قلوب العوام بهذا الزهد الذي يظهرونه. فيقول: من سمرة؟ قبح الله سمرة. والذين تكلموا في أبي هريرة وقالوا: (إنه يكذب) هم الرافضة الذين هم أشر الشيعة وغلاتهم، وقد كذبوا أبا هريرة في حياة أبي هريرة، فقال لهم: (يا أهل العراق! تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهنأ وعليَّ المغرم!! أشهد عدد هذا الحصى) كان يحدثهم بحديث فردوه عليه، وكانوا يكذبونه. فأول لبنة: أنهم لا يحترمون الصحابة ولا يوقرونهم. فنقول: هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا إلينا بيان الوحي، كم من ال

عدم ركون العبد إلى عمله الصالح من مقومات الفرار إلى الله

عدم ركون العبد إلى عمله الصالح من مقومات الفرار إلى الله لكن يبقى أن نسأل: لماذا ذكر الفرار في الطلب؟ فالفرار عادة ما يذكر في المهرب، وهو مناسب، لكن هل يذكر في الطلب! نعم، إذا كان الفرار يحمل معنى الخوف والفزع فإن الفار إلى الله عز وجل لا يجب عليه أن يثق بعمله وأنه مقبول، بل يعمل العمل وهو خائف ألا يقبل منه، ففراره إلى الله عز وجل -وهو غاية كل طالب- فيها معنى هذا الخوف، وهو: عدم الوثوق بعمله، ولذلك الصحابة الأكابر كانوا يخافون، فهذا عمر بن الخطاب حين تقرأ سيرته وما قاله عند موته تشعر أن هذا الرجل ما فعل حسنة قط، حتى إن بعض الرافضة نشر كتاباً محققاً اسمه كتاب أسنى المطالب في مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب، وكتب مقدمة كلها تنضح بالسم الزعاف؛ وهذا المؤلف من مدينة قم في إيران، وهو أحد آيات الله، وطبعاً عند علماء الحديث عندما يقال (فلان آية) يعني: في الكذب، فهذا مصطلح إخواننا المشتغلين بالحديث. فكل الآيات عندهم تتنزل على مصطلح أهل الحديث، فلما جاء هذا الرافضي يعلق على كلام عمر بن الخطاب لما قال: (ليت أم عمر لم تلد عمر) قال: فانظر إلى هذا الهالك لو كان يعلم أن له عند الله شيئاً ما قال هذا الكلام! يعني: لولا أنه موقن بالهلاك ما قال هذا الكلام؛ لأن عمر بن الخطاب قال: (لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل) في نفس الحديث، فبالتالي يقول: هذا كلام رجل غير موقن بالنجاة فنقول: إنما خرج كلامهم هذا المخرج لشدة خوفهم من الله عز وجل. ولذلك عائشة رضي الله عنها لما خرجت في الفتنة الكبرى رجعت وندمت ندامة كلية على خروجها في الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عن الجميع، وكانت إذا ذكرت هذه الفتنة بكت حتى تبل خمارها. وعمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى الإمام مسلم في صحيحه -قال- من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال عبد الله ولده: يا أبتي! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فاستدار إلينا وقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاثة: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إليَّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلئن مت على هذه الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمت، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، فلما بسط يده قبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أردت أن أشترط، قال: وتشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو! أوما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها؟ قال: فأسلمت، فوالله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك -لأنني ما كنت أملأ عيني منه؛ إجلالاً له- فلئن مت على هذه الحال -لم يقل: لكنت من أهل الجنة إنما قال:- لرجوت أن أكون من أهل الجنة). في الأول قال: لكنت من أهل النار، وقطع به؛ لأن الكافر مقطوع له أنه من أهل النار، إنما الرجل المسلم لا يعلم أيقبل عمله أم لا؟ لو وثق بعمله لقطعنا أنه من أهل الجنة، لكنه ما يدري أيقبل عمله أم لا هذا هو الشاهد، ولذلك لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون منه؛ لأنهم سيرجعون إلى الله فيحاسبهم، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق -يعني: يفعل الفعل وهو خائف أن الله يحاسبه-؟ قال: لا يا ابنة الصديق! هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وصدقة، ثم يخشون ألا يتقبل منهم). فإذاً الفار إلى الله عز وجل يخشى عدم قبول عمله، لذلك فهو يعبد الله عز وجل ما بين الخوف والرجاء. نسأل الله تبارك وتعالى أن يحسن ختامنا وإياكم، ويتقبل منا سائر أعمالنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حكم التشبيه لصفات الله بصفات الخلق لاستحضار المعنى

حكم التشبيه لصفات الله بصفات الخلق لاستحضار المعنى بقيت بعض الملاحظات على ما سبق: ففي الحديث الذي ذكرته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وأشار إلى أذنه، وأشار إلى عينه) أنا رددت بهذا الحديث على قول الزمخشري الذي قال: تقطع يد من فعل ذلك؛ لأنه شبه. فطبعاً يفهم من كلامي أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما خرج مخرج التشبيه؛ لأنني إنما سقته رداً على الزمخشري الذي يقول: تقطع يده؛ لأنه شبه إذ أشار. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما شبه الله بخلقه إذ أشار، فماذا قصد بالإشارة؟ هو لا يقصد التشبيه قطعاً؛ لأن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فماذا قصد بالإشارة عند ذكر السمع والبصر؟ القصد من التشبيه التمثيل واستحضار المعنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلوبه في عظته لأصحابه أنه كان يستحضر المشهد أمام الصحابة، فمثلاً: يمر مع الصحابة على جدي أسك، مقطوع الأذنين ميت، ملقى على قارعة الطريق، فيقف هو وأصحابه أمام الجدي ثم يقول لهم: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لا أحد يشتريه، وهو لا يعرض، إنما أراد أن يجسد المعنى تمهيداً للموعظة (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) فالجدي من أنفس أموال العرب فحين يباع بدرهم فإن هذا الذي يبيعه يكون مغبوناً، غبن الرجل الذي عناه الإمام الشافعي رحمه الله في أبياته الرائقة التي قال فيها: لقلع ضرس وضرب حبس ونزع نفس ورد أمس وقر برد وقود فرد ودبغ جلد بغير شمس ونفخ نار وحمل عار وبيع دار بربع فلس ومن الذي يبيع داره بربع فلس؟! كل هذه الأشياء تعد مما يصعب على النفس تحمله. (لقلع ضرس وضرب حبس): يعني أن يحبس المرء ويوضع في السجن، و (نزع نفس): أي أن تنزع يطلع روحه من جسده، (ورد أمس): أي أن يلزم بإرجاع يوم فائت، (وقر برد): أي الموت من البرد، (وقود فرد): أي أن يحكم عليه بالقتل قصاصاً، (ودبغ جلد بغير شمس)، (وحمل عار): أي أن يصبح مفضوحاً، يحمل عاراً عظيماً، و (بيع دار بربع فلس) كل هذا أهون على الحر كما يقول الشافعي: أهون من وقفة الحر يرجو نوالاً بباب نحس يعني: أن الإنسان الحر يمكن أن يحتمل كل ذلك ولا يرضى أن يقف على باب لئيم يطلبه نوالاً، فمن الذي يبيع داراً بربع فلس؟! ومن الذي يشتري جدياً أسك بدرهم؟! فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الصحابة يستحضرون هذا المشهد، فقالوا: (يا رسول الله! لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسك- فكيف وهو ميت؟ قال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله) فوضعه صلى الله عليه وسلم للصحابة في هذا الموقف تكون الموعظة فيه أشد أثراً، ولذلك قيل: ليس المخبر كالمعاين.

مكفرات الذنوب

مكفرات الذنوب أعظم الآفات التي تصيب الإنسان هي آفة الذنب، يتولى كبر ذلك كله الشيطان، حيث يبدأ عداوته معه منذ نزوله من رحم أمه إلى أن يفارق الحياة، ومع ذلك فإن مكفرات الذنوب كثيرة، دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، والله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدنا كان في صحراء ففقد راحلته عليها طعامه وشرابه ثم وجدها، وما على العبد إلا أن يرحل إلى الله بأعمال صالحة مقرونة بالخوف والرجاء، وليعلم عظم الثمرة والأجر الذي يعطيه الله له مقابل البذل والجهد والعطاء القليل المطلوب منه.

فرح الله بتوبة عبده

فرح الله بتوبة عبده إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال العلماء: لكل شيء آفة تجتثه، ومن أعظم الآفات التي تصيب الإنسان آفة الذنب، كما صح في الحديث: (إن الشيطان ذئب الإنسان) ذئب الإنسان ينتظر منه أي غفلة ليفترسه. نظرت في الكتاب والسنة فوجدت أن مكفرات الذنوب عشراً، لا تكاد الأدلة تخرج عنها، أربع من الله، وثلاث من العبد، وثلاث من الناس. أما الأربع التي يبتدئها الله عز وجل: فالمصائب في الدنيا والبرزخ والقيامة، ثم عفو الله عز وجل برحمته بغير كسب من العبد، يعفو عنه هكذا بلا مقابل. وثلاث من العبد -المكلف-: التوبة، الاستغفار، الحسنات الماحية. وثلاث من الناس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإهداء العمل الصالح من الناس له -على قول للعلماء-، ثم دعاء المؤمنين له. وكل الأدلة تقريباً أو غالباً جزماً لا تخرج عن هذه العشر المكفرات. هذا إنما ابتدأت به لأقول: إن باب الذنب بمقابله عشرات من أبواب التوبة، لاسيما إذا رجعت إلى ربك تبارك وتعالى فإنه يعاملك بمعاملة الأكرمين، لا يعنفك، إنما يعفو، كما في الحديث الصحيح: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به. ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به. ثم أذنب ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فليعمل عبدي ما شاء) ليعمل ما شاء ليس إذناً أن يفعل ما يشاء، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] مع أنه لم يرخص في الكفر لأحد، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] لكن هذه صيغة زجر. كما لو قلت لولدك: ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر. هل قوله: (أنت حر) يعد إذناً منه ألا يذاكر؟ هذا تهديد، لكنه خرج مخرج التخيير، وهذا يكون أبلغ في الزجر كما قال الله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] وهل العذاب يبشر به! لا تكون البشرى إلا لشيء حسن، فلما توضع كلمة البشرى في العذاب؛ فيكون هذا تقريعاً أقوى مما لو قرعه بألفاظ التقريع نفسها. مداخل الذنوب لا حصر لها، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] (بذنوب) ما قال: (بحسنات)، إنما قال: (بذنوب)، إنما خص الذنب هنا بالذكر للدلالة على الإحاطة؛ لأن أغلب الذنوب تكون سراً، هل المؤمن بلا ذنب؟ التقي بلا ذنب؟ لكن لا يستطيع أن يجهر به هكذا أمام الناس، فأغلب الذنوب تكون سراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والإثم: ما حاك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس) كم من الأشياء التي يفعلها الإنسان وهو يخشى أن يعلمها الناس، هي كثيرة لا حصر لها عند الفرد الواحد، انظر كم فرداً من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل واحد لديه صندوق أسرار، يستحي أن يبرز جزئية منه للناس. فربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} [الفرقان:58] كفى بهذا دلالة على الإحاطة، وهذه الآية تشعرك بأن أغلب الذنوب تكون في الخفاء؛ لأن الله عز وجل ذكر الآية للدلالة على إحاطته بفعل العبد، فهذه الآية آية مدح لإحاطته عز وجل، فلا يمكن أن تكون الذنوب صغيرة أو حقيرة؛ لأن الإحاطة حينئذ تكون ضعيفة. ثم هناك عدوك الذي لا يغفل عنك، والذي أعلن عداوته لك منذ نزلت من رحم أمك، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند الإمام مسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم يولد؛ لذلك يستهل صارخاً) يبكي الولد الذي نزل من رحم الأم؛ لأن الشيطان نخسه (إلا مريم وابنها)، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:36 - 37] لذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان، وهذا الحديث من الأحاديث القوية؛ لأن فيها لفظة (كل) التي تفيد العموم، ثم ذكر اسم الجنس، الذي يقوي أكثر هذا العموم، ينخسه؛ هو يقول له: من أجلك أنت خلقت أنا ألا ينبهك مثل هذا؟! ما قصر النبي صلى الله عليه سلم في البلاغ أبداً، لقد أوتينا من جهلنا وإهمالنا، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخذ بحججكم، وأنتم تتهافتون على النار تتفلتون مني) كأن إنساناً يريد بكل قوته أن يدخل جهنم، وأنت ممسك به بكل قوتك، ومع ذلك غلبك ودخل جهنم. فإذا كان الشيطان ذئب الإنسان، ونحن نعلم أنه لا يموت إلى يوم القيامة حتى تستريح من شره، ونحن نعلم أنه لا يغفل عنك طرفة عين، وأنه في كل يوم يرسل سراياه تترا إلى بني آدم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء كل صبح، ثم يرسل سراياه تترا -أي: بعضها يتبع بعضاً- كموج البحر إلى بني آدم) ليسوا ذاهبين لشرب الشاي بل لإضلال الناس، فنحن لو نعمل كعمل الشياطين في منتهى الجد لكنا من الأبرار، الشيطان بنفسه يتابع أعوانه الصغار، يجلس على الكرسي كل واحد يعرض تقريره ماذا فعلت؟ ما تركته حتى فعل كذا وكذا، أي: يمثل له بأي معصية. ما تركته حتى زنى لم تصنع شيئاً، وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى سرق لم تصنع شيئاً. وأنت؟ ما تركته حتى قتل أخاه وهل هذا شغل! وأنت؟ ما تركته حتى ضرب أباه. وأنت؟ ما تركته كل المعاصي. حتى يأتي أحدهم، ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله حينئذ يقوم إبليس من على الكرسي، ويأخذ الشيطان هذا بالأحضان، يلتزمه ويعتنقه، ويقول له: نعم أنت، أنت أنت! هذا هو الشغل. قلنا قبل ذلك: الطلاق مباح، لو أن رجلاً طلق امرأته الصوامة القوامة المخبتة الخاشعة -إلى آخرها من الصفات الحسنة- لا يكون آثماً، لكنه لو زنى؛ لكان آثماً، وإذا كان غير محصن؛ يجلد محصن؛ يرجم قتل؛ يقتل، يقاد منه أو يدفع الدية سرق؛ تقطع يده، هذه كلها ذنوب، ومع ذلك هذه الذنوب لا يكترث بها إبليس، وعند الشيء المباح ينبسط لماذا؟ لأن إبليس يعلم أن العبد لو ظل في المعصية مائة عام وتاب، تاب الله عليه، فذهب كل عمل إبليس أدراج الرياح؛ لأن الذي يسقط الذنب يريد لك المغفرة والنجاة، ولا يعجل كعجلة أحدنا، لذلك كتب ربنا في كتابه الذي عنده: (إن رحمتي تغلب غضبي)، أين تجد هذا الرب؟ لا يسخط، ولا يبادر كمبادرة أحدنا، ولا حتى يجزي السيئة بعشر أمثالها، بينما الحسنة بعشر إلى سبعمائة، والسيئة مثلها ويمحو، وهذا الرب الجليل لا يستحق أن يعصى، ولو لم يتفضل عليك بكل شيء ما استحق أن يعصى، هو الذي لا يحب إلا لذاته، هو الله عز وجل. فإبليس -الذي هو ذئب الإنسان- يعلم أن العبد إذا رجع من المعصية رجع إلى رب غفور، فما الذي يجعلك تتوانى؟ ومكفرات الذنب كثيرة، ولو لم يكن من فائدة تعود عليك إلا أن الله يفرح برجوعك لكان الواجب عليك أن ترجع. أتستقل بفرح الله برجوعك؟! قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال: أشد عليهم من عذاب النار: أن يحرموا رؤية الله. وإنما أخذ مثل هذا الفهم من بعض الأحاديث التي فيها أن أهل الجنة لم يرزقوا شيئاً في الجنة أجل من رؤية الله عز وجل. كذلك إذا حُجب العبد عن ربه كان أشد من عذاب النار، وفي صحيح مسلم -والحديث أيضاً في صحيح البخاري لكن سياق مسلم أوسع- قال صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة، معه راحلة عليها طعامه وشرابه) وجد شجرة، وأراد أن يستريح، فنام وترك الراحلة، وعليها أكله وشربه، فلما استيقظ لم يجد الراحلة، والصحراء سيموت إذا لم يتجاوزها، وهذا الطعام الذي أعده يبلغه المنزل، بحث عنها، يئس من وجودها، أيقن بالهلاك، فقال لنفسه: أرجع إلى مكاني وأموت -يموت في الظل- فلما رجع إذا به يجد الراحلة، فقال ممتناً ذاكراً: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح). الله عز وجل إذا رجعت يكون فرحه برجوعك أشد من فرح هذا الرجل بوجود الراحلة، تضن على نفسك أن يفرح الله برجوعك وهو مستغن عنك، فرح المفاجأة جعله يقسم، بعد أن أيقن بالهلاك، فلما وجد الراحلة لم يتماسك، وكذلك المفاجآت دائماً تفتت عزم القلب أو تشده، ولذلك

العبودية بين الطاعة والذل

العبودية بين الطاعة والذل تنازع العلماء في مسألة قد تبدو عجيبة، قالوا: أيهما أفضل: العبد التائب، أم العبد الذي لم يعص الله قط؟ الذي لم يعص الله أفضل بلا شك، وهذا هو البدهي، لا ننازع ولا نناقش في هذه الجزئية. لكن نقول: مما يفضل به العبد التائب على العبد الطائع أبداً: أن العبد الذي عصى الله تبارك وتعالى ثم تاب إليه زاد عبودية في نفسه على عبودية الطائع أبداً، وهي عبودية الذل والانكسار، والرجل الذي لم يعص الله قط -على افتراض وجوده- قد يدركه العجب بعمله يوماً ما، يقول: أنا رجل لي سنين أقوم الليل، وما مر علي خميس ولا إثنين أبداً إلا وأنا صائم، وكذلك ثلاثة أيام من كل شهر، وأتصدق والحمد لله، فهذا قد يدركه العجب من هنا. إنما العبد العاصي إذا تاب توبة نصوحاً يجعل الذنب دائماً أمامه، يخشى ألا يقبل الله عمله لهذا الذنب، كيف لا وأنبياء الله عز وجل أدركهم مثل هذا الشعور، فلفظوا به في عرصات القيامة، كما في حديث الشفاعة المشهور، الناس يبحثون عن أي شفيع، يذهبون إلى آدم عليه السلام: أنت أبونا، صورك الله ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا عند ربك. يقول: نفسي نفسي، أمرني ألا آكل من الشجرة فأكلت. مع أن آدم عليه السلام تاب الله عليه، بل اجتباه الله بعد الذنب، لكنه تذكر ذنبه وخشي أن يؤخذ به. إبراهيم عليه السلام نوح عليه السلام موسى عليه السلام، كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي! هذا حال الأنبياء المغفور لهم، يدخلون الجنة قبل أممهم، ولا يدخلون الجنة إلا بعد شهادتهم لهم أنهم آمنوا، ومع ذلك يقولون مثل هذا الكلام. العبد إذا تاب، ووضع الذنب أمامه، وخشي هذا الذنب كان سبيله إلى الجنة. ولذلك قال من قال من السلف: رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً. وقال الآخر: إن العبد ليفعل الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لا يزال ينظر إلى الذنب، ويجّود عمله ويحسنه حتى يلقى الله محسناً. هذه عبودية الذل والانكسار، العبد التائب من العصيان شارك العبد الطائع دائماً عبودية المحبة، وعبودية التسليم، وعبودية الرضا، وزاد عليه على الأقل عبودية الذل والانكسار وبهذا الأصل ينحل الإشكال. رأى جماعة رجلاً من الصالحين يوم مات ولده يضحك، فاستشكلوا هذا الأمر لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم مات إبراهيم بكى، وهذا يضحك! فهل هذا راض أكثر من الرسول عليه الصلاة والسلام! إذا راعينا هذا الأصل انحل الإشكال، إذا مات الولد؛ العبد مطالب بأكثر من عبودية: مطالب بعبودية التسليم والرضا، وهو مطالب أيضاً بالرحمة والرأفة، فقلب ذلك العابد لم يتسع إلا لعبودية الرضا، إنما النبي صلى الله عليه وسلم قلبه اتسع، أعطى الرحمة حقها فبكى على الولد، وأعطى التسليم حقه: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن ولا نقول ما يغضب الرب، ولما رأوه يبكي قالوا: تبكي! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)، هذه عبودية التسليم والرضا، اتسع قلبه فأعطى هذا وذاك، وضاق قلب هذا العابد، فلما تزاحمت عليه أكثر من عبودية لم يستطع إلا أن يقدم عبودية الرضا. عبودية الذل والانكسار من أجلِّ ما يحصله الإنسان، كل شر في الأرض أحد أسبابه ضياع هذه العبودية، هذه العبودية هي المدخل الحقيقي الواضح لصفة العبادة المقبولة؛ لأن العبادة المقبولة هي أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء، كما يقول ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء بالنسبة للعبادة كجناحي طائر، لا يبلغ الطائر المنزل بجناح واحد، كذلك لا يبلغ العبد الجنة -التي هي المنزل- إلا إذا حقق هذين النوعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

غلبة الرجاء على الخوف سبب في التهاون

غلبة الرجاء على الخوف سبب في التهاون الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أغلب المفرطين في زماننا الآن يعبدون الله بالرجاء، والعجيب أنه يوجد من ينسب إلى هذا الدين من يغذي هذا الشعور، على صفحات الجرائد والمجلات فيقول: الله! انتم تخوفون الناس من النار، ألا يوجد جنة، كله (وبئس المصير). فهم لا يريدون أن نتكلم عن النار إطلاقاً! هل هذا مجتمع رباني كل أفراده أبرار أخيار، أو هو مجتمع ملآن بالمخالفات، بلا شك أنت محتاج أن تقول له: ستدخل النار. إذا كان هناك ولد منحل، يخرج مع البنات، ويشرب الحشيش، ويشرب الكوكايين والسجائر، لو أن أباه جاء له بسيارة لخطّأه كل الناس حتى أهله، يقولون: هذا دلع، يجب أن تشد عليه. كذلك الواعظون عندما يرون هذا الانحلال كله؟ هل تريدهم أن يقولوا له: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] وما الذي عمله؟! أن لكل مقام مقال. فهناك من يغذي في الناس هذا الشعور، يعبد الله بالرجاء، والطمع في رحمته، ولذلك ستجد إنساناً لا يصلي، ولا يعمل أي شيء، تقول له: يا أخي صل. يقول لك: يا أخي! إن الله غفور رحيم. لماذا غفور رحيم فقط والله قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] لما لم تكملها؟ وقد قدم تبارك وتعالى الرحمة على العذاب؛ لأن هذه كما قال في الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي) لكي يكون باب العذر واسعاً بالنسبة للعبد، فعبادته لله بالرجاء، يجعله يقصر أكثر، ولو عبد الله بالخوف فقط يكفر؛ لأن مهما فعلت من حسنات لا تكون ثمناً للجنة أبداً. الرسول عليه الصلاة والسلام لو لم يقل لنا: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) لظننا أن أعمالنا تبلغنا المنزل؛ لأننا نقرأ في كتاب الله عز وجل ذلك {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] (الباء) هنا (باء) السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، إذاً السبب أدخلك الجنة، إذاً عملك بلغك المنزل، الآية هكذا، والرسول عليه الصلاة والسلام المبين لكلام الله عز وجل صحح لنا هذا المفهوم المغلوط، فقال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، ولا أنت يا رسول الله؟ ولا أنا) هذا منتهى اليأس، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مشى على الأرض بقدميه، ولا يوجد رجل في الدنيا عبد الله مثل عبادته، ولا جوّدها تجويده، يقول: أنا لا أدخل الجنة بعملي! إذاً: أنت مهما فعلت لن تدخل الجنة، وماذا تكون النتيجة؟ لماذا أعمل، لماذا أترك الفراش الوثير وأقوم الليل، لماذا أجوع نفسي وأصوم، لماذا أخرج من مالي الذي هو من كدي وعرقي لفلان، أنا أولى، إذا علم أن كل طاعة مردودة يئس. هذه القاعدة موجودة في أماكن كثيرة، ومن أبرزها في الجيش: السيئة تعم والحسنة تخص، طيب أنا رجل مستقيم ومنضبط، وأنت تعلم هذا، فلماذا تعاقبني؟ أنا أسأل نفسي: لماذا أنا واقف انتباه وشادد عظمي؟ حتى لا أنام، أي خلاص لا جزاء، فهذا العمل يفقد الانتماء، والمحبة، والولاء، وهذه حقيقة، ولذلك في السابق عندما كان الناس يدخلون الجيش ولا يخرجون منه، فكان الكثير منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب حتى يعفوا من الجيش، وكان الذي يدخل الجيش مفقود، والذي يخرج منه مولود، عندما يكون الواحد هذا شعوره هل يمكن أن تنتصر به؟ تنتصر بواحد يرى أن وجوده في الجهاد أو في هذا الرباط مغرم؟ طبعاً لا يمكن أن تنتصر بهم، شيء طبيعي جداً أن يهزم. لذلك من يعبد الله بالخوف فقط، فيرى أن كل طاعة لا قيمة لها، لن يضل هكذا على طول، بل سيسأل نفسه: ولماذا أعمل وأنا غير مستفيد من عملي، ثم ستجده يكف عن العمل. كذلك الذي يقول: إن الله غفور رحيم، يا أخي! مهما تركت؛ ربنا رحمته واسعة، هو غفر لأكثر مني وأشد عتواً وعدواناً على حرماته ويضل هكذا؛ فيضيع. لكن العبادة الحقة صفتها: أن تعبد الله عز وجل بالخوف والرجاء معاً، فتلقى الله محسناً. طيب: أنا أريد أن أبلغ المنزل ماذا أفعل؟ المرة القادمة لن أتصدق علانية، أتصدق في السر، لعل هذا الشعور يزول، هو تصدق أول مرة، حمله هذا الخوف مع مداومته للطلب على أن يتصدق مرة ثانية، فتأتيه نفسه: مالك هذا حلال، لا تنس أنه كان فيه شبهة يوماً ما اقترفتها. طيب: إذاً ما الحل؟ اتق الشبهات، اجعل مالك حلالاً، فيذهب إذا كان هناك أي مبايعات فيها حرام أو شبهة يتجنبها. إذاً: كلما قدم طاعة؛ لامته نفسه وشككته فيها، فيقوم يحسن الطاعة أكثر لعلها تقبل، فما إن يفعل حتى يرجع إلى نفسه فيشك أنها قبلت أو حيزت بالقبول، فيجود عمله أكثر لعله يقبل وهكذا يلقى الله تبارك وتعالى دائماً محسناً. وأريد أن أنبه إلى جزئية مهمة، في قوله تبارك وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] إذا كان (الباء) هنا (باء) السببية، فكيف نوفق بين الآية وبين الحديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)؟ A أن هذا من تمام تفضل الله عليك، يعطيك الكثير بما تبذله من القليل الذي أمرك به. نضرب مثالاً: أصعب شيء في الدنيا أنك تجمع ما بين قلبين لماذا؟ لأن القلب ليس في ملكك ولا في ملك أحد، فلما يكون أحدهم رأس ماله العصافير التي في الدنيا؛ إذاً هو فقير؛ لأنها ليست في يمينه، والقلب معروف أنه ملك الرب تبارك وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان أكثر يمينه (لا ومقلب القلوب) إعلاناً عن عجز الإنسان التام إزاء هذا القلب، وهذه حقيقة لا يمكن دفعها، لأنك أنت أحياناً تُغلب على حب إنسان وددت أنك أنت تكرهه، كم من العشاق الذين تلفوا فعلاً أو كاد بعضهم أن يتلف بعدما ذهبت نفسه وراء حبيبه! قيل له: انس. قال: لا أستطيع. لو كان قلبه بيده ما عذب إنسان نفسه طرفة عين. إذاً: أصعب شيء أن تجمع بين قلبين، وقد قال الله تبارك وتعالى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63]. لنفرض إن إنساناً لديه ما في الأرض جميعاً، ولكي يحصل ما في الأرض جميعاً ويصبح ملكه، هو يحتاج جهداً جباراً، ولو أنه تاجر في التراب لربح، وبعد ذلك أتحداه أن يوفق ما بين قلبين، قام وأتى بكل تعبه وقسمه نصفين، وقال: أنت تأخذ النصف والآخر يأخذ النصف الآخر، بشرط أن تحبوا بعضاً هو لا يستطيع أن يفعل هذا؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] إذاً هذه تحتاج معجزة، ليست بملك أحد. إذاً: ما قولك في أن هناك شيئاً يسيراً جداً يمكنك به أن تجمع بين القلبين وأنت واضع رجلاً على رجل، وأمرت به! قال صلى الله عليه وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم -وفي رواية- بين قلوبكم) هل تسوية الصفوف أسهل أو أجمع بين قلبين؟ انظر إلى هذا اليسر! أن تسوي البدن بالبدن فقط. إذاً: هل بمجرد أننا نسوي الصف تتساوى جميع القلوب؟ لا تتساوى، لكن انظر إلى ما أمرت به وهو في ملكك ويمينك ما أيسره! وانظر إلى ما أعطاك في مقابله لا تستطيعه أبداً مهما فعلت، فقصر في ما في يمينه، وأراد أن يفعل الذي يعجز عنه، كل الذين يوفقون الآن بين القلوب، يقول لك: توفيق بين الجماعات، ونقعد مع بعض، ونعمل اجتماعات، ونعمل أي شيء. يا أخي! افعل ما أمرت به، نحن نعلم أن ما أمرت به في ملكك ويمينك، فهو ميسور؛ لأنه على قدر قوتك {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] لكن الثمرة التي يعطيكها الله عز وجل في مقابل هذا الذي تبذله أعظم بكثير جداً من بذلك وعطائك. أنت مطلوب منك سبب لابد أن تفعله؛ حتى يعطيك الثمرة، وإذا لم تفعله لا يمكن يعطيك. أشياء يسيرة يجب الالتفات لها، بعض المسلمين الآن يقولون عن مثل هذه الجزئيات أنها قشور، تصور: تسوية الصف عند بعض المسلمين قشور! يقول: يا أخي! أي تسوية صف الذي أنت مهتم بها ربع ساعة والمسلمون يذبحون في لبنان، إذاً: نم على ظهرك، حلت مشكلة لبنان، حررت البوسنة والهرسك انظر التهريج! ترك ما أمر به، ولو فعل ما يوعظ به لكان خيراً له {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. أحياناً قد يعمل الإنسان عملاً تراه في منتهى الجمال، مع أنه يسير ولم يقصده، والله تبارك وتعالى، لا يستصغر معصية ولا يستقل بطاعة، وفي الحديث: (إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة) نحن قصرنا فيما أمرنا به فحرمنا الثمرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الأجور الكثيرة المترتبة على الأعمال القليلة

الأجور الكثيرة المترتبة على الأعمال القليلة إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. قال العلماء: كل ما أوجبه الله تبارك وتعالى على العبد ففي إمكانه أن يفعله؛ لذلك أوجبه عليك، وكل طاعة دخلت في دائرة الاستحباب؛ يبلغه الله عز وجل إياها بجده وحسن قصده وإن كان ضعيفاً. أقول هذا الكلام؛ لأن هذا ملتصق بما ذكرته آنفاً: أن ما تؤمر به قد يكون شيئاً يسيراً، لكن ما تعطاه بامتثالك بهذا اليسير يكون أعظم بكثير جداً من الذي بذلته. هذه مسألة أدندن عليها؛ لأن بعض الناس استقلوها، وأراد أن يدخل في المنطقة الصعبة التي ليست له، يرجع دائماً منها بخفي حنين. إذاً: دائرة المستحبات أوسع جداً من إمكانات العبد؛ لأن الورع ليس له آخر، ولو كنت سيد الورعين في هذا الزمان لما استطعت أن تأتي على كل ما ينبغي أن يتورع منه، نعم أنت بإمكانك هذا النهار ألا تأكل أي فاكهة أو لحماً أو أي شيء فيه شبهة، مثلما حكي عن بعض العلماء أنه لما سرقت شاة في أيامه؛ ذهب إلى قصاب وسأل عن العمر الافتراضي الذي تعيشه الشاة، قال له -مثلاً-: عشر سنين؛ فحرم على نفسه أكل لحوم الشاة عشر سنين، حتى يضمن أنه لن يدخل بطنه شيء من لحم الشاة المسروقة. إن ديننا وضع هذا الحرج، أنت غير مطالب أن تذهب إلى كل جزار لتنظر إلى كباشه من أين مصدرها، بل لو تحريت ذلك لدخلت في باب التنطع المنهي عنه، فلو تجاوز ذلك الأمر به لدخل باب الحرام مباشرةً، لكن أنت بينك وبين نفسك ترى أن صلاحك في ذلك افعل، لكن لا تأمر أحداً به؛ لأن الورع غير ملزم، بمعنى أنا مأذون لي أن أتمتع بالحلال، فأنت إن شئت تورعت، أنت حر، لكن لو أردت أن تفتح باب الورع في كل جزئية هذا مستحيل؛ إلا أن تكون نبياً. إذاً: دائرة المستحبات واسعة جداً، وهذه التي نحن نخصها بالذكر الآن، طالما أنها واسعة جداً، ولا تستطيع تحصيلها كلها، فجهدك القليل كيف تأخذ به ثواب كل هذا المستحب الذي لم تفعله؟ هنا تأتي الأمثلة التي سوف نضربها الآن، والبيان الذي ذكره العلماء في كتبهم، أنك تفعل الشيء اليسير الذي أنيط بك فعله، وما عليك من الباقي. مسألة تسوية الصف هذه السنة صارت غريبة تحتاج إلى تهيئة من الإمام الراتب الذي يصلي دائماً، مع أن الناس الآن كل واحد يسوي نفسه بنفسه، والإمام يقول: (استووا) ووجهه إلى القبلة، لكن لو أن إماماً جعل يسويهم ثلث ساعة، ويمر على الصفوف المتطاولة، ويحاول يعمل مثل ما ورد في بعض الآثار، يأتي بجريدة خضراء، ومن ثم أنت ركبتك بارزة قليلاً، أنت كوعك هل أنت متصور أن المصلين يسلمون له بذلك؟ طبعاً لا يسلمون له بذلك. بل قد تصير مشكلة كبيرة لو أن هذه الجريدة أوجعت إنساناً. فمثل هذه السنة تحتاج إلى تهيئة. كذلك بعض الأئمة مثلاً لما نصلي وراءه الجمعة يطيل في القراءة، ويطيل في الركوع، ويطيل في مواضع لم يتعود العامة أن يطيل فيها، لو كان حافظاً فيها ذكراً واحداً فقط لانتهى في خمس عشرة ثانية، مثلاً الجلسة ما بين السجدتين، كثير من الناس يتصور أن ترفع رأسك فقط، وليس فيها ذكر، بل فيها: (اللهم عافني واجبرني، وارحمني واهدني، وارزقني وتولني). النبي عليه الصلاة والسلام كانت صلاته واحدة، يقرأ خمسين آية، يركع بمقدار خمسين آية، يرفع (سمع الله لمن حمده) ويقعد يذكر الله بمقدار خمسين آية، يسجد بمقدار خمسين آية، يرفع ما بين السجدتين بمقدار خمسين آية، يسجد سجوداً ثانياً بمقدار خمسين آية كانت صلاته هكذا عليه الصلاة والسلام. هو يقول لك ماذا؟ ليس خمسين آية، عشر آيات فقط، أحياناً يمد المد المتصل والمنفصل، يأتي لك بأربع حركات في المنفصل وست حركات في المتصل ويشبع، بدل ما تأخذ القراءة عشر دقائق تأخذ لها خمس عشرة دقيقة، بسبب المدود، فهو يقعد ما بين السجدتين خمس دقائق، والخمس الدقائق هذه تفقع مرارة تسعين بالمائة من المصلين، لاسيما إذا أضفت إلى ذلك وجود الأولاد الذين يبكون، أحد المصلين يقول في نفسه: أنا قرأت حديث: (إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي) وهذا هل يسمع أم ماذا؟ فيخرج متغيضاً من الصلاة. هذا الإمام ينبغي أن يعرف المسجد الذي يصلي فيه، صلاة الإمام الراتب كيف هي؟ ويسأل ويرى، اتركه يصلي كيفما يريد، لكن إذا سمع صوت بكاء يتجوز، الخطأ هنا خطأ الإمام الراتب الذي لم يعلم رواد المسجد هذه السنن، يأخذها شيئاً فشيئاً، بحيث لو جاء رجل فأطال؛ تكون المسألة غير مستغربة. ولذلك كان من أغرب الغرائب أن مسجداً من المساجد التي تقام بها السنة الناس لا يعرفون أن المسافر يصلي ركعتين، طيب وهذه من أين أتت؟! أنا مرة صليت في مسجد من المساجد التي تقام فيها هذه السنن في محافظة من المحافظات، وبعد أن انتهينا من المحاضرة ذهبت أتوضأ للعشاء، وقد كان المسجد مكتظاً إلى آخره، ثم جئت لأصلي، فلم أجد مكاناً لأصلي فيه، فنظرت فإذا بي أجد فرجة تحت سرير السلم في آخره، فمشيت بين الصفوف، وليس في ذلك قطع لسترة المأمومين. المهم: وأنا ذاهب وجدت أحدهم يقطع بيده طريقي، فتجاوزته برفق ومررت، أنا قلت في نفسي: بعد أن أكمل الصلاة أذهب وأقول له: يا عم الحاج! وجهك منور، والسنة كذا وكذا. هو ما أمهلني، انتهينا من الصلاة: ما الذي فعلته؟ كيف تمر من بين المصلين؟ قلت له: هناك حديث في البخاري. قال: أي بخاري؟!! المفزع إلى الآن أنه ليس هناك أي إثارة، الإثارة ستأتي قريباً، ذهبنا نتعشى، فلقيت الجماعة الذين اعترضوا علي هم الذين يضعون الأكل، طيب: نتعرف فلان رئيس مجلس الإدارة، وفلان عضو مجلس الإدارة، وهم الذين قالوا: أي بخاري؟! وأي كلام تتحدث عنه! فهل يعقل أن رئيس مجلس إدارة مسجد يقيم السنة لا يعرف مثل هذا؟ طيب: هذا خطأ من؟ خطأ الإمام الراتب، الذي لم يبذل جهداً في تعليم رواد المسجد الأصليين مثل هذه الأشياء. أنا أقول هذا الكلام حتى نعرف أننا سندخل معارك من أجل تسوية الصفوف، فأنا لو أردت أن أسوي الصف ممكن الذي لا يعترض يسكت، لكن بينه وبين نفسه غير راض على هذا الأمر، فما بالك بالعوام، فانظر سنة خفيفة ممكن نفعلها، انظر كيف صارت بإهمالنا صعبة الآن! لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فهذه الجبال التي هي التفات القلوب عن بعضها الآن؛ سببها الحصوة التي تركناها، حصوة مع حصوة وصارت جبلاً، ليس بالسبب تنال، لكن الله عز وجل -كما قلت- يعاملك بالفضل، فقط افعل ما أمرت به وإن كان ضئيلاً. الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب المواقيت باب وقت صلاة العصر، روى ثلاثة أحاديث في هذا الباب، الحديث الأول عن أبي هريرة: (من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك) وهذا واضح الدلالة، والحديث الثاني حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث الثالث حديث أبي موسى الأشعري. حديث ابن عمر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) عمر هذه الأمة بالنسبة لأعمار الأمم السالفة مثل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، (أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى إذا انتصف النهار -لصلاة العصر يعني- وعجزوا؛ فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأوتينا القرآن، فعملنا من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس؛ فأعطانا قيراطين قيراطين، اعترض اليهود والنصارى قالوا: أي ربنا! كنا أكثر عملاً منهم وأقل أجراً. فقال: هل ظلمتكم من أجوركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) فهذه الأمة تعامل بالفضل. لكن ما علاقة هذا الحديث بتبويب الإمام البخاري (باب من أدرك ركعة من العصر) مع أن الحديث هذا ما فيه لا ظهر ولا عصر، إلا لضرب المثل فقط؟ الإمام البخاري وضع هذا الحديث في هذا الباب برغم خفاء دلالته؛ ليقول: إن الله تبارك وتعالى عاملك بالفضل يوم أن قبل منك ركعة في الوقت وثلاث ركعات في غير الوقت، فعاملك بالفضل؛ لأنك عندما تصلي ركعة واحدة من العصر، ويدخل عليك المغرب، إذاً هناك ثلاثة ركعات من العصر وقعت في وقت المغرب، إذاً أنت ما صليتها في وقتها، إذاً المفروض أن الثلاث الركعات هذه لا تحسب لك لا، تكرماً منه تبارك وتعالى وهب لك الثلاث الركعات في غير الوقت للركعة التي أدركتها في الوقت! البخاري رحمه الله يريد أن يقول هكذا، فكما أننا أقل أعماراً إلا أننا أعظم أجراً، وكما أن الركعة هي أقل القليل في صلاة العصر فقد أعطاك أجر العصر كله بإدراك ركعة واحدة، وما عاملك بالعدل، فقبل منك ركعة وحرمك أجر ثلاث ركعات إذاً نحن نعامل بالفضل. الله عز وجل يعطيك الشيء الجزيل على الشيء اليسير الذي أمرك أن تفعله، وأنت ترى هذا في أعمارنا من الستين إلى السبعين، وقليل من يصل إلى مائة، ومع ذلك تستطيع أن تلقى الله عز وجل بعبادة أربعة آلاف سنة، قال تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] ألف شهر، أي: ثلاثاً وثمانين سنة وبضعة أشهر، الغ الكسر واجعلها ثلاثاً وثمانين سنة، فأنت مثلاً إذا أعطاك الله من العمر ستين سنة، فُرض عليك رمضان وأنت ابن خمس عشرة سنة، فتكون قد أدركت خمسة وأربعين رمضاناً، ولنفترض أنك صمته، وقمت ليلة القدر في كل رمضان إيماناً و

الأسئلة

الأسئلة

درجة حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)

درجة حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) Q ما صحة حديث (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هل هو على سبيل الأفضلية؟ A هذا الحديث اختلف العلماء في رفعه ووصله، والصواب أنه مرفوع، والرواية الموقوفة لا تقدح في الرواية المرفوعة، لكن هذا الحديث على الأفضلية، وليس على نفي الذات، والذي جعلنا لا نقول بذلك: أنه لم يتبن أحد من العلماء -حتى الذين صححوا هذا الحديث- القول بنفي الذات، وصرفوا (لا) -هذه (لا اعتكاف) - على نفي الكمال. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

مواطن رفع اليدين في الدعاء

مواطن رفع اليدين في الدعاء Q ما هي المواطن التي لا يجب رفع اليدين فيها بالدعاء؟ A أما (المواطن التي لا يجب) فالسؤال هكذا صعب. لا، مسألة تحريم رفع اليدين في الدعاء هكذا لا، ارفع في الاستسقاء، ربما يكون مقصود السائل في غير المواضع التي ورد فيها الرفع، فنحن نقول: إذا كان هناك موضع مشتهر فيه جمع، وفيه دعاء، ومع ذلك لم ينقل رفع الأيدي فالصواب عدم الرفع لماذا؟ لأنه لو كان لنقل ولتوافرت الهمم والدواعي على النقل، مثل الرفع في خطبة الجمعة. والجمع التي صلاها الرسول عليه الصلاة والسلام كثيرة ولم ينقل في حدود ما أعلم، وفي حدود علم علماء المدينة الذين أخذت عنهم هذه الفتوى أن الصحابة كانوا يرفعون أيديهم في دعاء الجمعة -مثلاً-، مع أن الجمعة تجمع أكبر عدد من المصلين، أكثر من الصلاة العادية، وتتكرر كل أسبوع، فالصحابة الذين نقلوا أدق صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، مثلاً وهو ساجد عليه الصلاة والسلام يثني أصابع رجليه إلى القبلة، إذاً يرى هذا ولا يرى أحدهم ماذا يعمل كل جمعة. فلما توافرت الهمم والدواعي أو كان هذا الأمر بمكان تتوافر الهمم والدواعي على نقله، ومع ذلك لم ينقل، فنقطع بعدم حدوثه، بخلاف ما يكون خفياً عن ذلك، مثلاً: إذا أراد أن يدعو الله عز وجل بدعاء في أي موطن وفي أي وقت فرفع يديه فدعا، فهذا لا نقول له: لا ترفع يديك لماذا؟ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً خائبتين) فهذا رفع اليد، اجعله أيضاً في المواطن العامة، لكن المواطن الخاصة بالذات التي تتوافر الهمم والدواعي على النقل ومع ذلك لم ينقل، فنحن لا نقول برفع اليد فيه والله أعلم.

عوامل بناء المجتمع

عوامل بناء المجتمع إن النفاق لا يظهر إلا عندما يكون الإسلام قوياً، أما إذا ضعف الإسلام، فإن الكفر يظهر بصراحة كما هو الحال في وقتنا الحاضر، فقد ضعف الإسلام، وتفرق المسلمون إلى دويلات متناحرة، فاشرأب الكفر بعنقه واضحاً جلياً، فترى من أدعياء الإسلام من يظهر الكفر والسخرية من الإسلام والمسلمين صراحة، كما يحصل في الإذاعات والقنوات، وما يبث فيها من مسلسلات تسعى لهدم الدين وتمكين الكفرة الملحدين من مسخ أجيال المسلمين.

سبب انهزام الأمة الإسلامية

سبب انهزام الأمة الإسلامية إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فهذه خطبة عارضة أسوقها تعليقاً على الأحداث الجارية، وإذا كان تأخير البيان عن وقت الخطاب يجوز، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه لا يجوز. إن الأحداث الجارية التي تمر بها الأمة المسلمة تستحق وقفة جادة، وكم وقفنا هذه الوقفات، لكن الجماهير العريضة لا تجعل الإسلام قضية حياة. ولو استطعنا أن نجعل قضية الإسلام كرغيف الخبز لكنا أعز أمة، ورغيف الخبز أهم عند الجماهير من الإسلام، ولو أن رغيف الخبز غداً صار بعشرة قروش، لحصلت المظاهرات، ولصار الحديث في كل بيت عن رغيف الخبز، وقد حدثت مظاهرات في الثامن عشر والتاسع عشر من يناير (77 م) عندما ارتفع كيلو السكر من أربعين قرشاً إلى ستين قرشاً، وقامت مظاهرات، وحرقت قاطرات وسيارات كلفت ملايين، وسبب ذلك زيادة عشرين قرشاً في كيلو سكر. فلو استطعنا أن نجعل قضية الإسلام كقضية الخبز، ما قتل منا مائة رجل ساجد كالأبقار بل دم الأبقار -الآن- أغلى من دم المسلمين، وأتحدى أي رجل أن يذبح بقرة في الهند، فقد تطير عنقه في مقابل بقرة، لكن ما وصلنا إليه هو بتفريط كثير منا، وكم قام الداعي يحذر هؤلاء العوام من مغبة ذلك، ولكن لا يحبون الناصحين.

فضل المداومة على الأعمال الصالحة وإن قلت

فضل المداومة على الأعمال الصالحة وإن قلت رمضان شهر عظيم، لكنه يكشف بسرعة أدعياء الإيمان، يكشف أصحاب العبادة الموسمية، والله عز وجل يكره العبادات الموسمية، إن الله تبارك وتعالى يحب أن يكون العمل دائماً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل)، وقالت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن عمله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (كان عمله ديمة) وكان آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). إن العمل الموسمي يدل على الفتور، والله تبارك وتعالى يحب الطالبين له دائماً، فالذي يداوم على الذكر وإن كان قليلاً يدل ذلك على أنه حسن القصد، أما الذي يعمل بقوة ثم يفتر، يدل دلالة واضحة على أن مطلوبه ليس بذاك، ولذلك فتر عنه، من هنا كان أحب العمل إلى الله أدومه. فيا تُرَى الذين يصلون في رمضان ويقطعون الصلاة في شوال يعتقدون أن رب رمضان غير رب شوال، أو أن الله عز وجل يسمع ويرى ويحاسب في رمضان فقط؟! عجب والله! العمل الموسمي عمل خطير، يكرهه الله عز وجل، والصحابة رضوان الله عليهم ما جعل الله عز وجل الأرض تحت أقدامهم في عشر سنوات فقط، فعشر سنوات في عمر أمة كطرفة عين، أعمار الأمم لا تقاس بالسنين أعمار الأمم دهور متطاولة فكم يا تُرى تشكل عشر سنوات في حياة أمة وكانوا قلة مستضعفين إلا لأنهم حققوا العبودية لله عز وجل على الدوام. وما وصل اليهودي إلى هذه الجرأة ودخل بسلاحه، واطمأن أنه سيقتل مائة أو مائتين إلا لأنه يعلم أنه لن يكون هناك رد فعل، لكنه يعلم أن أقصى ما يمكن أن يفعله المسلمون هو الشجب في الجرائد، وأقوى بيان شجب لوزارة الخارجية. ماذا استفدنا من ذلك الشجب؟! على الأقل لو يطردون السفير، لكنهم لا يستطيعون فهم أجبن من ذلك.

دأب الكفر في النكاية بالإسلام وأهله

دأب الكفر في النكاية بالإسلام وأهله نحن لا ننسى تصرف إنجلترا في قضية سلمان رشدي لما أهدرت إيران دم سلمان رشدي الذي يسب النبي عليه الصلاة والسلام، ويتهم أزواجه بالزنا، إذا بريطانيا تسحب سفيرها. لماذا يسحبون السفير؟ من هو سلمان رشدي؟ كم يساوي سلمان رشدي في الخريطة؟ ما له قيمة إلا أنه مواطن إنجليزي من أصل هندي. بالرغم من أن إيران قتلت عشرات الإنجليز في قلب لندن ولكن القضية ليست قضية مواطن، بل القضية قضية الإسلام والكفر، فرئيس أمريكا لماذا يستقبل سلمان رشدي؟ نكاية في المسلمين، وهذه تحديات سافرة جداً. ومع ذلك يتكلم عن الإرهاب الداخلي، فما هي نسبة الإرهاب الداخلي بجانب الإرهاب اليهودي؟!

المسلسلات الهابطة وأثرها على الأمة الإسلامية

المسلسلات الهابطة وأثرها على الأمة الإسلامية هناك مسلسل اسمه العائلة، يحرمون فيه الخيار وغير ذلك من الأشياء، ويقولون: إن هذا فكر الجماعات الإسلامية. هل هذا حق؟ أنا أُسَلِّم أنه يوجد من يحرم الخيار، لكن هل يقال: إن هذا فكر شريحة عريضة من المجتمع. لا. هذا تهريج؟! ومع ذلك فهم ينفقون الأموال الطائلة على مقاومة الإرهاب {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، إن الذي يحارب الله لا ينتصر، وهؤلاء الذين يحرمون الخيار مع ما فيهم فهم أجود ممن يحارب الله ورسوله، ويكفيك أنت -يا من تتولى حرب الإرهاب- يكفيك الذي أنت فيه من اختلاسات ولصوصية؛ لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وإذا غضب الله على العبد حرمه التوفيق. لو أنهم يريدون الفتوى الشرعية في الخيار، فأنا أفتيهم الآن أن الخيار يمكن أن يكون حراماً، لأن الخيار والموز والفلفل الذي مثل البطيخ محقون بالهرمونات التي تسبب أمراض السرطان، وكل الزراعة الآن تالفة، وهذا ليس كلامي، فأنا لا أفهم في هذا المجال، إنما أنقل كلام المختصين في ذلك، فالموز الإسرائيلي محقون بالهرمونات، والخيار والفلفل كذلك محقون بالهرمونات؛ فلذلك يسبب أمراض السرطان، وعلماء الزراعة يقولون هذا، فإذا كانت المسألة كذلك، كانت الفتوى أن هذا أقرب ما يكون إلى التحريم. هب أن رجلاً مجنوناً زعم أن الخيار حرام فهل نعمل عليه مسلسلاً كاملاً ونتهم شريحة عريضة من المجتمع أنها تحرم الخيار، وأن هذا فكرها؟ وهل تعالج القضايا بمثل هذه المسلسلات والتهريج؟ أليس هذا من الظلم البين والعدوان الواضح؟ إن هذا المسلسل يتهم العقائد، وينفي عذاب القبر، ويقول: الأزهر لا يراجع؛ لأن هذا مسلسل درامي، والأزهر لا يفهم إلا في مسلسل تاريخي. إن هذا المسلسل يسب الله فيه ويقول: إن عذاب القبر ليس فيه نص من القرآن. وهذا جهل؛ لأن عذاب القبر وارد في القرآن الكريم في آية صريحة جداً، ومع ذلك فإجماع علماء المسلمين أن السنة تنفرد بتقرير الأحكام، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، أنه سمع رجلاً يقول: أوجد لي كذا في كتاب الله، قال: يا أحمق! أوتجد الظهر في كتاب الله أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والصبح ثنتين؟! تجد في كتاب الله عز وجل أن هذا يسر به وهذا يجهر به؟! قال تبارك وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، هذه هي آية إثبات عذاب القبر {غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46]، غدواً وعشياً قبل قيام الساعة، أين يا ترى؟! في البرزخ، وهو عذاب القبر، مع ثبوت عذاب القبر في الأحاديث المتواترة، والنبي عليه الصلاة والسلام استعاذ من عذاب القبر، وأحاديثه في ذلك مشهورة: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا، وأعوذ بك من فتنة الممات، وأعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر ومن عذاب القبر). و (سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل). وحديث البراء بن عازب الطويل في إثبات عذاب القبر وفي إثبات سؤال الملكين. وقوله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] في عذاب القبر، وفي الثبات على كلمة التوحيد داخل القبر. فحين يأتي هذا الرجل في مسلسله ويقول: إنه لا يوجد عذاب قبر، ولا يوجد نص من القرآن على ذلك، ويختم الحلقة على هذا، فماذا يعني هذا؟! أهو يخاطب الصم البكم العمي؟! لا. ومع ذلك تجد الجماهير مستمرة في السماع. ألا من رجل يغار على أحكام الله! إن جهاز التلفزيون وما يبث فيه سرطان ينخر في جسد الأسرة والمجتمع والأمة، فهو الذي ضيعنا ودمرنا، واقتناؤه حرام، حتى ما يبث فيه من المسلسلات التي يزعمون أنها دينية، من الذي يؤديها؟ أليس ممثلاً داعراً فاجراً كان يمثل عاشقاً في الحلقة الأخرى؟! فهل نرضى أن يمثل دور عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب، أو عمار بن ياسر؟! هذا طعن في هؤلاء السادة العظماء وتحقير لهم، ومع ذلك لم يحرك المسلمون ضد هذا العفن ساكناً. وقد رفعت الشكوى للوزير شخصياً -وزير الإعلام- فقال: (ما الجهاز ليه زرار، مش عاجبك. اقفل) فنقول له: أنتم لماذا تقاومون أصحاب المخدرات؟! أليس كل شخص يعرف مصلحة نفسه، ويعرف أن المخدرات حرام؟! إذاً: اتركه يشرب، وكذلك دع السارق يسرق، ودع شارب الخمر يشرب الخمر؟!! لماذا جعل السلطان إذاً؟! هل كل الخلق يعرفون مصلحتهم؟! هل كل الخلق يمكن أن يقفوا على حدود الله عز وجل؟! والجماهير يجب أن تتنبه أن اليهود لا يلعبون، فألف مليون مسلم على وجه الأرض لا يستطيعون أن يقفوا أمام اثني عشر مليون يهودي في العالم كله، لا يستطيعون أن يرفعوا رءوسهم، وتتم المجزرة أمام أعينهم كما حصل في البوسنة والهرسك، وأريقت دماء الآلاف المؤلفة من المسلمين، وحتى الآن لم يستطع المسلمون أن يصدروا قراراً بضرب الصرب، القضية واضحة جداً. نقول: إن النفاق يوجد في حال قوة الإسلام، أما في حالة الضعف فلا نفاق، وإنما كفر صريح، إذا ضعف الإسلام وجدت الكفر ظاهراً جداً، وصوته عالياً، وحينما يكون الإسلام قوياً جداً يظهر النفاق، والآن الكفر طافح صريح، والأحداث الجارية مؤلمة جداً، صار الإنسان لا يدري من أي سهم يتألم، وأي سهم يرد: تكسرت النصال على النصال ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث فهل نرد سهم المسلسلات الهابطة التي تنخر في جسد الأمة، أم قتل المسلمين وهم سجد ركع، أم سهم البوسنة والهرسك، أم سهم إرتيريا؟! فيا ترى أي السهام أشد إيلاماً من صاحبه؟! سهام كثيرة جداً والمسلمون مع ذلك لا يتنبهون: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في الجحود والنكران، {ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في هذا الفتور رغم الحريق المشتعل. أنا كنت أتصور أن الإنسان يكون فاتر الهمة إذا كانت الأحداث فاترة، لكنها قوية جداً، ورد فعلنا -نحن المسلمون- لا يساوي الأحداث الجارية. فالواجب أن نربي أولادنا على صد الكفر ومكر اليهود، فأولادنا يقعون ضحية المخدرات، والتطرف الديني أهون ألف مرة من التطرف الدنيوي، وحينما يتطرف المرء في دينه فذلك أفضل من أن يشرب المخدرات -والمخدرات قد طفحت في المدارس، والجامعات، والبعثات التي تذهب إلى إسرائيل- وأفضل من الوقوع في الفاحشة والإصابة بالإيدز؛ كما حصل لسبعين من كفر الشيخ هنا ذهبوا في بعثة ورجعوا يحكون عن الليالي الحمراء، وقد عشعش الإيدز في أجسادهم، وبهذا تقتل الأجيال القادمة. وقد قرأت في مذكرات أحد الساسة الإسرائيليين أنهم كانوا قد نشروا أسرار حرب سبعة وستين قبل وقوع الحرب بخمسة عشر يوماً في الجرائد الأوروبية، وبعدما حصلت الحرب سألوهم عن ذلك، لأن نشر أسرار الحرب على جريدة يعني أنها مناورة لا أقل ولا أكثر، ولا يمكن أن تكون خطة حرب، فلما وقعت الواقعة سألوهم عن هذه الجرأة، فكان ردهم: (إن العرب لا يقرءون وإذا قرءوا لا يفهمون). وما صرنا إلى هذا إلا بعد أن تركنا ديننا وخالفنا أمر ربنا، وإلا فالمسلمون هم أهل العقول النيرة، وأذكى الناس هم المسلمون، لكن العرب هم الجنس الوحيد الذين لا يصلحون إلا بدين، فغيرهم يصلح بغير دين، لكن العرب لا يصلحون إلا بدين، ويعرف هذه الحقيقة من قرأ التاريخ. فقد كانت قبل الإسلام قبائل متناحرة لا قيمة لها، فلما جاء الإسلام فجر طاقاتهم، ولم شملهم، وجعلهم قادة أمم، ولا يمكن أن يعود للإسلام مجده إلا من بلاد العرب، ولا يمكن أن يخرج من بلاد الغرب، بدلالة النصوص الكثيرة، فالعرب هم الشجعان بالإسلام، وبلادهم مهبط الديانات. فهل يتصور لو قامت حرب أن أي أمة تستطيع أن تقاتل قتال العرب المسلمين؟ أبداً. لا يمكن ذلك، لذلك في حرب الخليج قدموهم. إننا نحتاج إلى يقظة، فكل امرئ حجيج نفسه، أنت رب بيتك، فما الذي يمنعك من الإصلاح؟! ما الذي يمنعك؟! فالحكومة ليس لها دخل في بيتك، ما الذي يمنعك أن تصلح بيتك؟! ربِ أولادك، فالجيل القادم سيمكن له إن شاء الله، أما جيل آبائنا فقد شرب كل الهزائم، لذلك هو غير مستعد للتضحية، والتضحية عنده جنون، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن لا ينتصر الإسلام بنا، لكن إذا تربى أبناؤك على التربية الصحيحة، فالوضع يختلف، والمسألة مسألة وقت فقط، وسوف يمكن الله لهم. الإنسان عندما ينظر للمسلمين في بقاع الأرض يشعر بحسرة، فأين الحرارة التي كانت موجودة -مثلاً- عند الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله؟! فقد كان هذا الرجل مهموماً بالمسلمين دائماً، رأته أمه يوماً مكتئباً في ذات صباح، فقالت له: يا بني! مالك، أمات مسلم في الصين؟! رجل همومه تتجاوز -لا أقول: مصالحه الشخصية- إنما تتجاوز بلده إلى البلاد الأخرى، فقد كان نبيلاً ذا همة. لو أن فينا ثلة من طراز الصحابة لفتح الله بنا، ولكننا ما عَبَّدنا أنفسنا لله عز وجل كما ينبغي. واعلم أنك لن تحكم العالم وأنت عاجز أن تقيم أسرتك على طريق الله، خمسة أفراد لا نستطيع أن نضبطهم على أمر الله فكيف سنقود أمة؟! إذا عجزت أن تقول للولد: صل، وللمرأة: البسي الحجاب، فأنت إنسان عاجز، وتعجز بداهة عن الأقوى والأكثر، نحن نحتاج إلى تجديد العهد الذي بلي، وإقامة شرع الله في حياتنا: بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات رئيس تحرير جريدة الوفد يكتب بالخط العريض: القرآن غير صالح لكل زمان ومكان! فهو يطعن في هيمنة الكتاب المجيد، والله عز وجل حكم أنه مهيمن على كل الكتب السابقة، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وهو يقول: غير صالح، فلا نفاق الآن -ك

قصة فتح عمورية

قصة فتح عمورية الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قصة فتح عمورية قصة مشهورة، وكلنا نعرفها، لكن في وقت الضعف يحتاج الإنسان لمن يذكره بانتصارات المسلمين، وقصة فتح عمورية تتلخص في: أن رجلاً يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة، فقالت المرأة: وامعتصماه! وبين المرأة وبين المعتصم بحار ومفاوز، لكن النخوة كانت تجري في العروق، فسمعها رجل مسلم فقطع الفيافي وعبر البحار حتى وصل إلى المعتصم، فقال له: إن رجلاً يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة فقالت: وا معتصماه! وكان المعتصم رجلاً تدب النخوة في عروقه، وتجري في دمه، فجرد جيشاً كاملاً وفتح البلد -عمورية- لأن يهودياً كشف عورة امرأة مسلمة. واليوم كل العرايا من نساء المسلمين بسبب اليهود، فهم الذين كشفوا عورات كل نساء المسلمين إلا من عصم الله منهم، وهم قلة، برغم الرجوع الحميم إلى الله عز وجل في السنوات الأخيرة. فبيوت الأزياء، والموضة كلها يهودية، فهم الذين كشفوا عورات المسلمين، حتى وصل الأمر إلى (الميكروجب والميني جب والميني ميني واللاميني) وصل الأمر إلى هذا. فيجب الحذر كل الحذر.

خطر ذم الصحابة والتنقص منهم

خطر ذم الصحابة والتنقص منهم وفي الآونة الأخيرة إتماماً لما بدأه الرافضة والمستشرقون؛ نسمع صيحات ولافتات على صفحات الأهرام لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي؛ لأن المؤرخين المسلمين -حسب زعمهم- خونة، فقد كانوا يرضون الحكام، فإذا كانت الدولة أموية، شتموا في العباسيين، وإذا كانت الدولة عباسية شتموا في الأمويين، وهكذا خرجوا بأن علماء المسلمين خونة. وأخرجوا كتباً في ذلك، وقالوا: تريدون أن تحكمونا كما حكمنا معاوية؟! إن معاوية بن أبي سفيان، ذاك الرجل الحليم الحكيم الذي حكم المسلمين عشرين سنة وما اشتكى منه أحد، وكان كاتباً لوحي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استخلفه عمر على الشام، وقد كان يضرب به المثل في الحلم والسياسة، وهو داهية من دهاة العرب رضي الله عنه. فهم يصورون الخلاف الذي حصل بين علي ومعاوية أنه خلاف دنيوي، ويقولون: هؤلاء هم الصحابة الذين أنتم تريدون أن تتأسوا بهم، هم هؤلاء الذين وردت فيهم الأحاديث المكذوبة -حسب زعمهم-. والمسلسلات الدينية التي ينشرها أصحاب التنوير المزعوم -وفيها بعض الصحابة- يقصد منها تشويه صورهم الجليلة، لأنه حين ينطبع في ذهن المشاهد أن عمار بن ياسر هو فلان الفلاني الذي يمثل في هذا المسلسل، تذهب الأسوة به، فلذلك العلماء يقولون: القضايا العظيمة لا يتكلم فيها إلا بإتقان؛ لأن صورتها تضعف. مثلاً: في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تكلم فيها أي إنسان لا يفقه شيئاً، فالقضية نفسها تذوب، وقيمتها تقل، إنما حين يتكلم فيها الراسخون تظل قيمتها كما هي. الصحابة رضوان الله عليهم يعتدى الآن -وبكل وقاحة- على شخصيات منهم كما حصل في جريدة في مصر، بأن كُتِب: أن أبا هريرة كذاب يكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس مقصودهم أبا هريرة، وإنما يقصدون سد باب الإسلام وإبطال نقل الوحيين عن هؤلاء الصحابة الكرام، وقد تسمع في غدٍ أن شخصاً آخر غير أبا هريرة يكذب. فالكلام عن الصحابة رضوان الله عليهم واتهامهم بالكذب أخطر على الدين من خطر الإيدز على أصحابه. أمة تهين أسيادها هذه الإهانة تذل والله. إن المجتمع الغربي يلمع أناساً على أساس أنهم عمالقة، وهم سذج أصحاب شهوات وجنس، وأعظم واحد عندهم لا يساوي شراك نعل واحد عند المسلمين، ومع ذلك لا يسمحون إطلاقاً بتشويه سير العظماء عندهم. المهم: أن الخرق اتسع على الرَّاقِع، والمسألة تحتاج إلى وقفة جادة، وهاهو رمضان شهر مبارك قد أقبل، وفيه تعرض أكبر نسبة من البرامج والمسلسلات التي تهدم دين الله عز وجل، فأين حرمة رمضان؟! الناس يقبلون على الله عز وجل، وهؤلاء ينفقون الملايين في هذا الشهر ليشغلوهم عن عبادة الله، برغم تحذيرات المفتي وشيخ الأزهر واعتراض العلماء على ذلك، لكن ليس له أكثر من أن يعترض فقط. وبقي الأمل على الجماهير، فالمسألة بأيديهم، فأنت ابدأ أول خطوة من البيت، رب ولدك على النهوض بالأمة والدعوة، لأن اليهود يربون أولادهم على خدمة المصالح والأهداف والمبادئ، ففي حرب (67م) كانوا لا ينامون وهم يملكون مائة وعشرون رأساً نووياً، ونحن محرومون من أي مفاعل نووي حتى للأغراض السلمية، وتفتيش دوري، وإسرائيل عندها مفاعلات نووية وتنتج القنبلة الذرية، وهم أربعة مليون فقط، ورحمة الله على الشيخ المطيعي فقد كان يقول: (لو كل واحد منا بصق بصقة لأغرقناهم) أي: اليهود، لكنه الخور، خور القلب. وليس لنا إلا طريق الله عز وجل، وقد جرب زعماؤنا كل الطرق الفاشلة، ونحن نقطع أنها فاشلة، فليس هناك إلا طريق واحد فقط لا غير، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وليست الطرق إلى الله كعدد أنفاس البشر -كما يقولون- فالطريق واحد فقط، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم نسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

القلب ملك البدن

القلب ملك البدن لقد بين الله عز وجل أن القلب السليم هو الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، فلا ينفعه مال ولا بنون، بل ينفعه القلب السليم من الشهوات والشبهات، فكان لزاماً علينا أن نحافظ على هذه المضغة التي بصلاحها تكون نجاتنا يوم القيامة، وبفسادها يكون هلاكنا يوم القيامة والعياذ بالله. ومادة حياة القلب في اثنتين، المادة الأولى هي: الوحي، وهو الكتاب والسنة، وذلك باتباعهما والاعتصام بهما، والمادة الثانية هي: المحن والابتلاء، فبالمحن يشتد القلب ويزداد الإيمان.

وجوب الاهتمام بالقلب والمحافظة عليه من الأمراض

وجوب الاهتمام بالقلب والمحافظة عليه من الأمراض إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! إن المرء يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، ولذلك دعا إبراهيم الخليل ربه تبارك وتعالى بدعوات، أبان لنا بهذه الدعوات أن الأمر كله معلق بسلامة القلب، فقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. القلب: هو ملك البدن، وإذا طاب الملك طابت رعيته، وإذا فسد الملك فسدت رعيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعضاء تكفر اللسان، تقول له: يا لسان! اتق الله فينا فإنما نحن بك، إذا استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا). واللسان هو آلة التعبير عن القلب، فالقلب هو ملك البدن، فمن العجبٍ أن أكثر الناس لا يهتم بقلبه الاهتمام الروحي، من حيث زيادة الإيمان ونقصانه. إنما يهتم بجوارحه. إننا نقرأ في لافتات الأطباء: أن هذا أخصائي أو (دكتور) في أمراض القلب وضغط الدم، وإذا مرض الواحد منا بمرض ظاهري في القلب فإنه يتخذ مستشاراً له، وإذا حدثت أي تغيرات عليه، فإنه سرعان ما يتصل بالطبيب، فيقول له: البصر فيه ضعف، ويوجد أيضاً ضعف في أطرافك، فتراه يتعاهد بدنه غاية التعاهد، هل هذا له علاقة بالقلب، أم لا؟ نحن في أمس الحاجة أن يكون لكل واحد منا مستشار في أمراض القلب وضغط الهم، أمراض القلب التي تتلفه، نحن في أمس الحاجة لهذا المستشار، كلما شعر المرء بقسوة في قلبه، هل فكر أن يتجه إلى عالم من العلماء فيذكر له هذه القسوة مثل ما كان يفعله العلماء الكبار. روى أبو العلي القشيري محمد بن سعيد الحراني، في تاريخ الرقة، في ترجمة ميمون بن مهران، وميمون هذا كان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. شعر ميمون بن مهران بقسوة في قلبه، وكان قد تقاعد، فقال لابنه عمرو: يا بني! خذ بيدي وانطلق بنا إلى الحسن، قال عمرو: فأخذت بيد أبي أقوده إلى الحسن البصري، قال: فاعترضنا جدول ماء -قناة- فلم يستطع الشيخ أن يعبرها، فجعلت نفسي قنطرة عليها فمر من فوق ظهري، ثم انطلقت به أقوده، فلما وصلنا إلى بيت الحسن، وطرقنا الباب خرجت الجارية، فقالت: من؟ قال لها: ميمون بن مهران، فقالت له الجارية: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء، فبكى ميمون، وعلا نحيبه، فسمع الحسن بكاءه فخرج، فلما رآه اعتنقا فقال ميمون للحسن البصري: يا أبا سعيد: إني آنست من قلبي غلظة، فاستلم لي -استلم لي: يعني: قل لي شيئاً يلينه أو قل لي شيئاً أصمت له وتزول القسوة التي أشعر بها. فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، فأغشي على ميمون، فجعل الحسن يتفقد رجله كما تتفقد رجل الشاة المذبوحة، يظن أنه مات، وبعد مدةٍ أفاق، فقالت الجارية لهما: اخرجا، لقد أزعجتما الشيخ اليوم. نفهم من كلام الجارية: أن هذه الآيات فتتت كبد الحسن هو الآخر، وبمجرد ما تلاها انهار هو الآخر، وانخرط في بكاء، حتى قالت الجارية: ازعجتماه، اخرجا. قال عمرو: فلما خرجت بأبي أقوده، قلت له: يا أبي! هذا هو الحسن، قال: نعم يا بني، قال: قلت: كنت أظنه أكبر من ذلك. قال عمرو: فضرب أبي بيده في صدري، وقال: يا بني! لقد قرأ عليك آيات لو تدبرتها بقلبك لأرسلت لها، لكنه لؤم فيك؟ هذه الآيات لا تغادر سمعك حتى تجرح قلبك: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]. كل حيٍ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها السادر قل لي أين ذاك الجبروت كنت مطبوعاً على النطق فما هذا الصموت ليت شعري أخمود ما أراه أم قنوت أين أملاكٌ لهم في كل أفقٍ ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القول ولا حي يصوت عمرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت لم تزد عنهم نحوت الدهر إذ حالت بخوت خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت إنما الدنيا خيالٌ باطلٌ سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:206 - 207]. في أمثالنا في الدنيا، يقول بعضنا لبعض: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته)؛ لأن الله عز وجل خلق فينا التأسي، وكل إنسان يتأسى بغيره. قالت الخنساء لما قتل أخوها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي أي: إنما كانت تسلي النفس عنه بالتأسي، فكلما رأت رجلاً يبكي أو امرأة تبكي على ميت هانت عليها المصيبة. قال الله عز وجل مخبراً لنا عن هذا الخُلق وأنه لا يكون في الآخرة، فقال تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، لا تتخيل أنك إذا دخلت النار فوجدت رجلاً يعذب بجانبك أن هذا يخفف عنك؟ لا. هذا كان في الدنيا، إذا رأيت مصيبة غيرك هانت عليك مصيبتك، لكن في الآخرة لا، فإن هذا الخلق يزول، ولا ينفعك أن ترى غيرك يعذب: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]، المتعة: هي جاه أو سلطان أو غير ذلك، فهي لا تنفع المجرم آنذاك: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. الحسن البصري لما ذكر هذه الآيات، فتتت كبد ميمون، والموت ما ذكر في ضيقٍ إلا وسعه، ولا في واسعٍ إلا ضيقه. جَرِّب: وأنت جالس مع أولادك في جلسة سمر، جرب أن تذكر الموت بينك وبين نفسك، يعكر عليك المتعة. تذكر الموت وأنت جالس مع أولادك، وأنتم تأكلون وتشربون وتضحكون، أول ما تتذكر أنك تحمل إلى دار البلى وتدفن بجانب ابنك في قبرٍ واحد، وهذا لا يشعر بهذا ولا ذاك يشعر بذاك، وهذا منعم، وهذا معذب، ولا أحد يحمل عن أحد، أول ما تتذكر هذا تنغص عليك الجلسة، ويضيق عليك الواسع، ويحطم عليك الآمال، ذكر الموت في المستقبل، ويتذكر أن غداً سيدفن ويتذكر مصرعه، فعندها يضيق عليه الأمر. وما ذكر الموت في ضيق إلا وسعه: أي رجل مبتلى بمرض، وصار هذا المرض ملازماً له لسنين طويلة، فهو يعذب ويتألم منه، لكن أول ما يتذكر القبر، ووحدة القبر، وعذاب القبر والسؤال يقول: ما أنا فيه نعمة؛ فيوسع عليه الأمر، ويخفف عليه المرض. نحن لا نذكر الموت في بيوتنا، فالرجل منا إذا قال لامرأته: إذا أنا مت تقول: لا تكمل الله يطول عمرك، يطول عمره إلى متى؟ دعيه يوصي، أقول: إذا أنا مت، افعلي كذا وكذا ولا تفعلي كذا وكذا. فقد أصبح ذكر الموت في بيوتنا غريباً، لا نكاد نذكر الموت أبداً، كأننا لا نعد له، وإذا ذكر الرجل الموت، يقولون: يوم نكد، الله المستعان عليه، ضيع علينا المتعة. قابل رجلٌ الإمام أحمد رحمه الله فقال له: أطال الله في عمرك، فقال له: سألت الله في آجالٍ مضروبة. أي: سألت الله في أجلٍ مضروب مقسوم.

مادة حياة القلب: الوحي والمحن

مادة حياة القلب: الوحي والمحن إن مادة حياة القلب في اثنتين: في الوحي: كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، -فحياتك في الوحي قرآناً وسنة- {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، هذه مادة الحياة الأولى. ومادة حياته الثانية: المحن: تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف؛ وبهذا يحصل إشكال يواجه كثيراً من الناس وهو: لماذا جعل الله البلاء قرين الأنبياء وأتباع الأنبياء؟ لماذا لا يمكّن الله لأنبيائه، ويترك السوقة والرعاع من الناس يتطاولون عليهم ويعذبونهم؟ لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ موسى عليه السلام أكثر الأنبياء تعرضاً للخوف، من حين ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، لماذا لا يؤمن الله عز وجل وليه وكليمه. وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يتطاول عليه أبو جهل وأبو لهب، وسفهاء قريش، لماذا لا يمكن له؟ لأن العبد يوزن عند الله بقلبه، فلأن يبتليك في بدنك حتى يستقيم لك قلبك، أفضل من أن يعافيك في بدنك ويضعف قلبك. إذاً حياة القلب في المحن، فالإنسان الممتحن المبتلى من أقوى الناس قلباً، وأضعف الناس قلوباً هم أهل الترف. لماذا صاحب الترف خائف دائماً؟ لأنه سينتقل إلى أقل مما هو فيه، وربنا سبحانه وتعالى: قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، بعض الناس استشكلوا ظاهر الآية، فقالوا: كيف يأمر الله بالفسق حيث قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا)؟! فقال العلماء: الآية لها معان: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]. أول هذه المعاني للآية: أن الآية فيها أمر، أمرنا مترفيها: يعني: بالطاعة: فبدلوا. المعنى الآخر والأقوى في الآية: أن (أمرنا) بمعنى (كثرنا)، وهذا المعنى وارد في كثير من الأحاديث، مثل الحديث الذي رواه البخاري في مطلع صحيحه، من حديث ابن عباس (لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل، وأراد أن يؤلب هرقل على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ممن هاجر إلى هرقل. قال أبو سفيان: فسألني هرقل عدة مسائل: المهم بعدما أجاب أبو سفيان على أسئلة هرقل، وعلت الأصوات في الجلسة، قال أبو سفيان: لقد أَمِر أمرُ ابن أبي كبشة) أمِر: يعني: فشا وذاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المال تركةٌ مأمورة)، مأمورة: يعني: كثيرة النتاج. فبالله عليك: تصور منطقة من المناطق كل أهلها أو غالبهم مترفون فسقة -مترف وفاسق في نفس الوقت- ما الذي تتصوره؟ يطلقون العنان لشهواتهم! لذلك العلماء لما تنازعوا: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ انفصل محققوهم: على أن الغني الشاكر أفضل، قالوا: لأن الصبر في أهل الفقر كثير، والشكر في أهل الغنى قليل، قلّ مَا تجد غنياً شاكراً يقوم بحق الله في المال، والمال وسيلة الطغيان، فقالوا: إن الغني الشاكر أفضل، لا يقوم بشكر المال إلا أفذاذ من الرجال. حياة القلب في المحن، فإذا أصبت بمصيبة فلا تخف ولا تجزع؛ فإن الله عز وجل أراد سلامة قلبك، وفي نفس الوقت، يجب أن تسد على قلبك باب الهوى، كل منفذٍ إلى القلب سده، منافذ القلب: الحواس: الذوق، والشم، والسمع، والنظر، فالجوارح لها طريق إلى القلب، وهي تتفاوت في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس النار: الأجوفان: الفم والفرج)، اعلم أن مدة بقاء الطعام في فمك ثلاثون ثانية فقط، وتنتهي لذة الطعام، ولكن تجد كثيراً من الناس يحرص في هذه الدنيا على كثرة الأكل. والمثل المشهور: (نحن نعيش لنأكل)، فجعل حياته كلها مطعماً، يشتغل فترة، ويشتغل فترتين وثلاثاً لماذا؟ ليوفر المال الذي يشتري به ما يريد من الطعام، فهذا همه. هذه اللذة والمتعة التي ضيعت عليك قلبك هي لذة نصف دقيقة وهي مدة بقاء الطعام في فمك، فلو أنك ألغيت هذا الباب استرحت ولربما رضيت بالفتات.

نماذج من صبر العلماء على المحن وخوفهم من فساد قلوبهم

نماذج من صبر العلماء على المحن وخوفهم من فساد قلوبهم لما ابتلي الإمام أحمد في المحنة المشهورة، وجلد ثلاثمائة جلدة في يوم الإثنين وهو صائم، دخل عليه عمه، فقال: يا أحمد قلها- أي: أجبهم إلى ما يريدون- يعجبك المكان الذي تنام فيه، وهذا الطعام الدون الذي تأكله. فقال له يا عم: إنما هو طعامٌ دون طعام، وكساءٌ دون كساء، وإني عرضت نفسي على السيف وعلى النار، فلم أتحمل النار. وظل الإمام أحمد سنتين والقيد في رجله، إذا أراد أن يصلي خلع القيد وصلى، وبعدما ينتهي يضع القيد في رجله، امتثالاً للأمر. إنما هو طعام دون طعام وكساءٌ دون كساء، وإنما هو وقت معدود معلوم، فالدنيا خطوة رجل، هذا المسجد الذي نصلي فيه الآن كان مقبرةً للذين سبقونا، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]، (كفاتاً): مأخوذ من الكفت وهو الجمع، وكما تقول العوام: (الكفتة) وهي التي تجمع من أخلاط وتفرم مع بعضها، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، يعني: جمعناهم على ظهرها، ثم جمعناهم في بطنها. خفف الوطء، فما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجساد. ما من مكانٍ في الأرض إلا كان قبراً لرجلٍ سبقنا، إذاً: هي خطوة، ثم تلقى الله عز وجل. سفيان الثوري مات هارباً: أرادوا أن يولوه القضاء فهرب؛ لأن القضاء تبعاته كبيرة، فخاف أن يأتي الله عز وجل بمظالم العباد، فبحث الخليفة عنه فلم يجده، ومات سفيان الثوري رحمه الله في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي، وكان معه في لحظة الموت تلميذه الآخر: يحيى بن سعيد القطان، كان سفيان الثوري نائماً واضعاً رأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وفجأة انخرط سفيان في بكاءٍ عميق، فقال له: يحيى بن سعيد: ما يبكيك يا أبا عبد الله، ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ الذي أفنيت حياتك فيه ولأجله، فأنت قادم عليه، وتخرج من الضيق إلى السعة، وأنت ممن قضى حياته في عبادة ربه، أتخشى ذنوبك؟ فأخذ سفيان الثوري تبنة -قشة من على الأرض- وقال: لذنوبي أهون عليّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة، ما أخشى ذنبي، إنما أخشى سوء الخاتمة. سفيان العابد الزاهد الورع الكبير، يقول: أخشى سوء الخاتمة، لا يزال المرء يذكر الموت والبلى فيرق قلبه، فينتفع به، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فكل طريق يفيد القلب يفسده سده، حتى تنتفع بالوحي؛ فإن صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، إما وحيٌ وإما هوى، صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، وإذا أردت أن تنتفع فسد كل طريق يفسد القلب، سواء عن طريق الذوق أو طريق الشم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأةٍ خرجت مستعطرة فشموا ريحها فهي زانية، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، كم أردى هذا الشم من رجال، فلو أنه أغلق هذا الباب على نفسه استراح قلبه من عناء التصور، واعلم أن السمع والنظر هما أخطر طريقين إلى القلب قاطبةً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

مفسدات القلب وطرق الوقاية منها

مفسدات القلب وطرق الوقاية منها الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أخطر طريقين إلى القلب يفسدانه هما: السمع، والنظر، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أنجشة، وكان يحدو الإبل، وكان يركب بعض هذه الإبل بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أنجشة حسن الصوت جداً، ومعروف أن الإبل إذا حدوت خلفها جدت في السير، فقال عليه الصلاة والسلام: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)، القوارير في هذا الحديث هن النساء، والقارورة أرق الزجاج وأخفه، وأسرعه كسراً، (رفقاً بالقوارير). وفي مستدرك الحاكم، بيان لمعنى هذا الأمر: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة هذا أحد المعنيين في الحديث، خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة، وهن زوجاته وأمهات المؤمنين، العفيفات المؤمنات، خاف عليهن، فكيف يترك الرجل امرأته وبناته يستمعن إلى الخنا في ألفاظ الغناء، وهو يأمن عليهن؟! والله لقد رأيت عشرات بل مئات المشاكل كانت سبباً في انهدام بيوت بأكملها، والمشكلة هي الاستماع إلى المحرمات. رجلٌ له مركز مرموق، جاءني يوماً وقال: إن امرأتي تطلب الطلاق، وأنا متزوجها منذُ خمسة وعشرين سنة، وأولادي في الجامعة، وله منصب عالٍ. يعني: أن طلبها الطلاق منه يهز منصبه؛ لأنه يعتمد على سمعته في هذا المنصب، وهي مصرة على الطلاق. لماذا يا أخي؟ قال: بدون أي أسباب. واستمرت المشاكل بينهم فترة ستة أشهر، والمرأة كل يوم تهينه وتسبه حتى ترغمه على الطلاق، وهو صابر محتمل لأجل الأولاد ولأجل السمعة، ولم يجد بداً في النهاية من تطليقها، وبعد انقضاء العدة بيوم واحد تزوجت المرأة، فجاء الرجل وقد تغير وجهه. فقال: تصور أن المرأة تزوجت، وهل تدري بمن؟ قال: بأعز أصدقائي، تعرف أن صديقي هذا كنت وأنا غائب آذن له في دخول البيت؛ فخانني، كنت أوصي امرأتي وأقول لها: لو جاء فلان: أدخليه في (الصالون) حتى آتي، فكان يخلو بها الساعة والثنتين والثلاث والأربع والله أعلم ماذا يجري؟! وكما يقولون: يذهب الشوق ويبقى الحب والاحترام. يعني: أن البعض أول حياته الزوجية يكون مقبلاً على امرأته، يسمعها كلاماً جميلاً، وبعد ذلك يبدأ الكلام الجميل يذهب، والرجل ليس كلما دخل على امرأته قال لها: الدنيا من غيرك لا تساوي شيئاً، كأنه لا يعرف إلا هذا الكلام، لقد كان يقول هذا الكلام في أول شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين وانتهى، ويبقى الاحترام والمودة والمعاملة بالمعروف. ليعلم أن المرأة محتاجة لهذا الكلام، فبسبب خلو الحياة الزوجية من الثناء المتبادل بينهما تجد الرجل يقول: والله أنا تعبت مع زوجتي، وأبحث عن الراحة والسعادة، وهي تقول: والله وأنا تعبت مع زوجي، ولم يعد يقول لي الكلام الجميل الذي كان يقوله لي وبدأ الرجل بعد خمس وعشرين سنة مع زوجته الأولى يبحث عن أخرى. يعني: أن المرأة الأولى صار سنها ثلاثة وخمسين سنة، ما بقي من الكرم إلا الحطب. الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قارورة، يعني: أن المرأة يستطيع أي رجل يحسن الكلام أن يستميلها، ولو كان زوجها من أفضل الأزواج، فهي معرضةً لذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير)، يخشى على قلوب زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، أن تتأثر بهذا الحداء الجميل الذي ليس فيه خناً ولا فجور ولا فيه شرك، لا يحلف بعينيها ولا يحلف بحياتها، وإنما هو كلام جميل موزون، ومع ذلك خشي عليهن، وخشي على قلوبهن بأن تنصدع بهذا الصوت الجميل، فهذا خطير جداً، أغلق هذا الطريق عن القلب تستريح كثيراً. ثم النظر وهو أخطر الطرق كلها، فكم أردى من قتيل؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الدارمي في سننه، قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله، فإن معها مثل الذي معها)، خَلْقٌ واحد، إنما هو الحلال والحرام، والعلماء لهم قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، النظر ليس ممنوعاً لذاته، إنما هو ممنوع لما يجلبه من الفاحشة بعد ذلك، فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم حتى لا يقعوا في الزنا. إذاً: منع النظر إلى النساء سداً لذريعة الزنا. أما لو وجد في النظر مصلحة راجحة كالنظر إلى المخطوبة، كرجل أراد أن يخطب امرأة أجنبية، فالأصل أنه لا يجوز له النظر إلى المرأة الأجنبية، لكنه يريد أن يحطب ويختار شريكةً لحياته، فيقال له: النظر الذي منعناه سداً لذريعة الزنا أبحناه لك في هذا الموضع؛ تحقيقاً للمصلحة الراجحة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمغيرة بن شعبة لما قال له: (إني خطبت امرأة من الأنصار، قال: هل نظرت إليها؟ قال: لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، يؤدم: أي: يدوم الود. وفي الرواية الأخرى قال: (فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، شيئاً: يعني صغراً، كانت عيون نساء الأنصار ضيقة، فلعلها لا تعجب المغيرة، فلماذا يتزوجها بدون نظر وبعد ذلك لا تعجبه فيطلقها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن ننظر إلى المرأة الأجنبية للمصلحة الراجحة، أما فيما عدا ذلك فسد علينا الباب وحذرنا منه. قال صلى الله عليه وسلم: (النظرة الأولى لك) أي: النظرة الأولى ليست ربع ساعة، يبقى ينظر ويقول: أنا في النظرة الأولى، لا. النظرة الأولى ورد تفسيرها في الحديث الآخر، التي هي نظرة الفجأة، رجل يمشي رفع رأسه فوجد امرأة؛ فإنه يغض طرفه، هذه هي النظرة الأولى التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (فإن النظرة الأولى لك والثانية عليك)، فإذا رفع الرجل طرفه مرةً أخرى إلى المرأة كتبت عليه، وكل هذا لسلامة القلب؛ لأن هذا كله يفسد القلب، ويجعل كل جزء منه في كل وادٍ. فالله اللهَ في قلوبكم؛ فإن العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، وصدق ابن القيم رحمه الله، لما قال: (يأتي الرجل البدين السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ويأت الرجل النحيف تكون ساقاه أثقل في الميزان من أحد؛ لأن الله يزن العباد بقلوبهم). وأقرب مثال إلينا: ابن مسعود رضي الله عنه: كان من نحافته لو هبت ريح قوية تكفأه على ظهره، ولما صعد على شجرةٍ ذات يومٍ فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم منه؟ قالوا: يا رسول الله! يضحكنا دقة ساقية، -رجلاه نحيفتان جداً- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، إنما هذا لسلامة قلب ابن مسعود. نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا قلوبنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.

حاجتنا إلى طلب العلم

حاجتنا إلى طلب العلم طلب العلم فريضة على كل مسلم، وبالعلم يعبد الله على بينة وبصيرة ولا يشرك به شيئاً، وفضل طلبه عظيم كما اشتهر في الأحاديث والآثار. ولكي يؤتي الطلب ثمرته؛ لابد من التزام الطالب آداب المتعلم مع العالم ومع إخوانه المتعلمين كذلك. ثم لابد له من الإخلاص في الطلب، وعدم التهاون في السؤال عما أشكل عليه، وهناك أمر يعين على التأدب بآداب العلماء وطلاب العلم: ألا وهو قراءة سير العلماء وطلاب العلم من السلف الصالح: كالشافعي وأحمد وغيرهما.

شرح حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين

شرح حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. روى الإمام الترمذي في سننه -وصححه- من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، فلما رآني قال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم، فقال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب، فقال له: إنه قد حك في صدري شيءٌُ في المسح على الخفين، وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟ قال: نعم، أمرنا إذا كنا سفْراً -أي: مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، فقلت له: هل تذكر في الهوى شيئاً؟ قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرٍ، إذ ناداه أعرابيٌ بصوتٍ له جهوريٍ: يا محمد، فقلت له: ويحك، اغضض من صوتك، أولم تُنْه عن هذا؟ فقال: والله لا أغضض، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوٍ من صوته: هاؤم، فقال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب، فما زال يحدثنا حتى أخبرنا أن لله تبارك وتعالى باباً لا يغلقُ حتى تطلع الشمس من مغربها، عرضه سبعون -أو قال: أربعون ذراعاً- جعله الله تبارك وتعالى للتوبة).

حسن السؤال نصف العلم

حسن السؤال نصف العلم فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، فقال له زر: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين)، وفي هذا دليلٌ على مشروعية أن يسأل المرء إذا حاك في صدره شيء، أن يسأل أهل العلم، ولا يسأل أي إنسان له سمت العالم، إنما يسأل أهل العلم فقصة حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما أراد أن يتوب، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب فلما سأله: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً؛ ألي توبة؟ قال له: لا، فقتله، وفي بعض طرق الحديث قال: (فدلوه على راهب عابد) ومن أخطر ما يقع فيه اللبس عدم التفريق بين العالم وشبيه العالم، فكثير من الناس لا يفرقون بين العالم الحق وبين من يتزيا بزي العالم؛ فيحدث الخلط، فهذا شد رحاله إلى الصحابي الجليل وسأله سؤالاً، وهذا السؤال دل على فقه زر بن حبيش حيث قال فيه: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين) قال له: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟) نِعمَ السؤال! ما قال له: ما رأيك في هذا الموضوع؟ أو أنت ما ترى من فتوى؟ وكما قال القائل: ومن طلب البحر استقل السواقيا. مباشرةً رفع المسألة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (هل عندك عنه شيءٌ؟) وكما قيل قبل ذلك: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا أحسن الرجل السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، وعادةً تجد أكثر الفتاوى التي تخرج من العلماء الأعلام لا توافق الفتوى الصحيحة، والسبب في ذلك أن السؤال لم يكن صحيحاً. ونحن نقف على فتاوى لبعض العلماء، فنتعجب كيف أفتوا بذلك، لكننا نقف على جواب العالم، ولا نقف على السؤال الذي وُجِّه إليه، وعادةً يكون في الجواب من الخلل بقدر ما يكون في السؤال من الخلل؛ لأن الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت. وقديماً ذكروا أن صبياً خرج إلى الغابة يصطاد فبينما هو يصطاد إذ صرخ، فلما صرخ رجع له صدى الصراخ، فظن أن ولداً آخر في الغابة يغيظه، فقال له: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي: من أنت؟ فرجع الصدى: قل لي: من أنت؟ فأخذ غصناً وجعل يبحث عن هذا الولد الذي يحاكي صوته ليضربه، فلما تعب فقال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له الصوت: إنك حقاً قبيح، فزاد في غيظه، فجعل يبحث عن هذا الولد، فلما يئس أن يجده رجع إلى أمه كسيف البال حزيناً، فلما رأته حزيناً قالت: ما لك يا بني؟ فحكى لها القصة، فتبسمت الأم، وقالت: يا بني إنه لم يكن شيءٌ مما ذكرت، ذلك صدى صوتك، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً! وتعني بذلك حين قال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له صدى الصوت: إنك حقاً قبيح، فهو لو قال كلمة جيدة، لرجعت له الكلمة الجيدة أيضاً. فكذلك الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت تماماً، فإذا خرج السؤال سيئاً خرج الجواب على مقتضى سوء السؤال. أما زر بن حبيش فقد سأل سؤالاً يدل على علمه، وهو أنه يرفع السؤال بأن يطلب دليلاً: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟)، وكذلك كان جميع علمائنا بحمد الله تبارك وتعالى، كما أنهم ويتبرءون من مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياءً وأمواتاً.

الاهتمام بالنفسيات من سمات العلماء

الاهتمام بالنفسيات من سمات العلماء هذا الحديث يشتمل على جُملٍ من العلم، أول هذه الجمل: أن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم من فقه بعلم النفس ما لم يكن عند أي جيلٍ جاء بعدهم، والمقصود بعلم النفس هو تنزيل الكلام على مقتضى حال المخاطب، هذا هو فقه النفس أن تضع الكلمة في مكانها، سواء كانت بشدةٍ أو كانت بلطف، كما قال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى بمعنى أ، الإنسان الرقيق إذا عاملته بالسيف فهذا مضر، لكن إذا وضعت السيف في مكانه، فحسن وجميل؛ برغم أنه شديد، والشدة في موضعها هي اللطف، كما أن اللطف في موقعه هو كذلك، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقهاء، يظهر ذلك من سؤال صفوان بن عسال المرادي -وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام- لما رأى زر بن حبيش جاء وقد قطع هذه المسافات لأجل أن يسأل مسألةً، قال: ما جاء بك يا زر؟ قال: ابتغاء العلم، قال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب). فهذا هو فقه النفس، أن بشره بالجائزة، فطالب العلم الذي يقطع المسافات الطويلة في سبيل طلب العلم، حين يعلم أن الملائكة تضع أجنحتها له رضاً بما يطلب؛ يهون عليه كل شيء. الله تبارك وتعالى جبل الناس على أن يعملوا لأجر، لذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، تصور الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المعارك وبين رجل كان يأكل تمرات قال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فرمى بالتمرات وقال: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات)؛ لأن الذي يفصل بينه وبين الجنة هو أن يموت، فاستكثر هذه الدقائق التي يكمل فيها التمر، ورمى بها وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم قاتل حتى قتل. لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سأله هذا الرجل وقال له: مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: ليس لك شيء؛ هل كان يرمي بالتمرات ويستعجل الموت؟ A لا، إنما لأن هناك نتيجة وجائزة، رمى بهذه التمرات. كما جاء رجلٌ إلى عبد الله بن الزبير أيام حربه مع الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فجاء رجل كان مشهوراً بالقتال، فقال لـ عبد الله بن الزبير: أنا فارسٌ مغوار، وصنعت كذا وكذا، وجعل يعدد له أمجاده، ما تعطيني إذا قاتلت معك الحجاج؟ فقال: أعطيك كذا وكذا من الأموال، قال: أنقدني، فقال له: عندما نرجع، فتولى عنه الرجل وقال: أُراك تأخذ روحي نقداً، وتعطيني دراهمك نسيئة! فالله عز وجل جبل الناس على أن يعملوا لشيءٍ لأجر، ولذلك جعل الجنة وجعل النار، وجعل يبشر المتقين بالجنان، ويبشر الكافرين بالنار، كل هذا لأنه جبل الناس على أن يعملوا لشيء، وهذا البحث يظهر بشيءٍِ من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). (فسيلة) أي: نخلة. لماذا قال: (فليغرسها)؟ لأن الإنسان لكونه لا يعمل إلا لأجل هدفٍ، فإنه لا يغرس النخلة عادةً إلا ليأكل منها من يأتي من بعده من أولاده وأحفاده، فلما تقوم الساعة لن يأكل منها أحدٌ، فلربما تجاوب الرجل مع ما هو مجبول عليه، فيرمي هذه الفسيلة، ويقول لنفسه: من الذي ينتفع بها؟ فيرميها، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال له: خالف ما جبلت عليه واغرسها. وأضرب مثلاً يقرب المقصود من الحديث: أعرف طبيباً غنياً، وكان عنده عيادتان، وعنده عدة عمارات، وتزوج بابنة خالته وكان شديد الحب لها، والله تبارك وتعالى كأنه قضى عليها بالعقم، وهو يريد الولد منها، فدار تقريباً في أكثر دول العالم المتقدمة في الطب، رجاء أن يرزقه الله تبارك وتعالى الولد منها، وفي آخر مرة ذهب بها إلى النمسا، رجع وقد قضي على آخر أملٍ له في الإنجاب، فلما رجع جعل يبيع العمارات، وباع عيادة من عيادتيه فلما سئل: لماذا تفعل ذلك؟ قال: ولمن أترك كل هذا؟ هو لو علم أنه عقيم من أول ما تزوج، أو امرأته عقيم من أول ما تزوج، ما كان عنده ذاك الأمل في هذا البنيان ولا هذه الاستزادة من المال، لكنه كان يؤمِّل يقول: لعل الله تبارك وتعالى يرزقني ويهب لي مولوداً، فلما علم يقيناً أنه لا أمل في ذلك، صار يبيع كل هذا، وصار يستمتع بالمال ويقول: لمن أتركه؟ إذاً: الإنسان مجبول على حب المكافأة، فـ صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه -وهو فقيه عالم بالنفس- بمجرد أن رأى زر بن حبيش قد قطع كل هذه المسافات حتى يسأل عن مسألةٍ، أعطاه الجائزة الذي تهون عليه كل صعبٍ لقيه في سبيل هذه المسألة.

تبرؤ الأئمة الأربعة من مخالفة الحديث الشريف

تبرؤ الأئمة الأربعة من مخالفة الحديث الشريف وما أجمل ما ذكره بعض المعاصرين -وقد توفي منذُ نحو أربعين سنة- في أرجوزة له لطيفة اسمها: أرجوزة المهدي، أو أرجوزة الهدى، فذكر الكلام المنقول عن علماء المسلمين الأربعة في تبرئهم من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرضا على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتم قولي مخالفاً لما رويتم من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر مقالات الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم! بل قال في هذه الأرجوزة -برغم أنه حنفي المذهب-: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب يعني: وصلت المسألة لدرجة الاعتقاد أن المسيح عليه السلام حين ينزل سوف يحكم بالمذهب الحنفي، بناءً على خرافة أن المسيح عندما ينزل لا يجد شيئاً من الإسلام إلا فقه أبي حنيفة رحمه الله، وهذا موجود في صندوق في نهر جيحون، ثم يذهب ليبحث عن هذا الصندوق حتى يتسنى له أن يحكم بالإسلام. كم من سنوات التخلف التي عاناها المسلمون بسبب عدم وقوفهم عند النص الشرعي، لو أننا تبنينا هذا السؤال الذي سأله زر بن حبيش رحمه الله لـ صفوان بن عسال المرادي، لقل الخلل، لو أنا نقول: ماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسألة الفلانية؟ بدلاً من أن نقول: ما فتوى العالم الفلاني في المسألة الفلانية؟ لقل الكلام، ولسقطت كثير من الأقوال التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة. لقد أحسن زر بن حبيش جد الإحسان بذاك بقوله لما قال في سؤاله: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟) أي: في المسح على الخفين، فقال له: (أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم إذا كنا سفْراً -أو مسافرين- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من غائطٍ أو بولٍ أو نوم) أي: لكن لا ننزع الخف من غائط أو بولٍ أو نوم.

طالب العلم يتحمل التعب والهوان في طلب العلم

طالب العلم يتحمل التعب والهوان في طلب العلم وطالب العلم إذا ظفر بعالم فليستكثر، طالب العلم الذكي إذا ظفر بعالم يستكثر من السؤال، فما بالك إذا كان هذا العالم هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبة العلم كانوا يتجرعون الهوان أحياناً في استفادة مسألة من المشايخ، فقطعوا مسافات طويلة جداً وقد لا يظفرون. جاء رجلٌ إلى الأعمش رحمه الله وقال: يا أبا محمد أنا رجلٌ فقير اكتريت حماراً بدينار لأسألك مسألة، فقال له الأعمش: اكترِ حماراً بدينارٍ آخر وارجع، وأبى أن يجيبه. وجاء رجلٌ إلى يحيى بن معين وقال له: يا أبا زكريا أنا مستعجل، أنا ذاهبٌ إلى بلدي، حدثني حديثاً أذكرك به. قال: اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل، وأبى أن يعطيه. بل اشتُهر عن الأعمش رحمه الله أنه كان شديداً جداً على الطلبة، لدرجة أنه كما قال الخطيب البغدادي في "كشف أصحاب الحديث" روي أن الأعمش اشترى له كلباً، مجرد أن يسمع وقع أقدام أصحاب الحديث اقتربوا من الدار يطلق عليهم الكلب، انظر حين يجري أحد كـ شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري، هرباً من الكلب، ثم إذا ما الكلب رجع، رجعوا مرةً أخرى إلى بيت الأعمش، لا يملون أبداً، قال الخطيب في الرواية: حتى ذهبوا إليه ذات يوم فلم يخرج إليهم، فدخلوا الدار فلما رآهم الأعمش بكى، قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! فقال لهم: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الذي هو الكلب) وجاءه رجل مرة من سفر، وقال له: يا أبا محمد حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولصقه في الحائط، وقال: هذا إسناده. وكان إذا حدّث رحمه الله لا يحب أحداً أن يجلس بجواره، فجاء رجلٌ من الغرباء، ولا يعرف طبع الأعمش، فجلس بجواره، فأحس به الأعمش وكان كفيفاً، فلما أحس به، صار يقول: حدثنا ويبصق عليه، فلان ويبصق عليه، قال: حدثنا ويبصق عليه، وهم جميعاً يحذرونه أن يتكلم؛ لأنه لو تكلم لقطع الأعمش مجلس التحديث، فكان طلاب العلم يلقون الهوان، والمشايخ بطبيعة الحال ما كان قصدهم الإذلال لمجرد الإذلال، بل كانوا يقصدون كسر الكبرياء والشموخ الذي عند التلميذ، لأن التلميذ إذا جاء إلى الأستاذ وهو يستحضر نسبه ويستحضر أسرته فإنه لا يفلِح أبداً، بل يجب أن يتزيا بزي التلميذ طالما أنه تلميذ.

تواضع الإمام الشافعي وإجلاله لأهل العلم

تواضع الإمام الشافعي وإجلاله لأهل العلم الإمام الشافعي رحمه الله، كان بلا شك عند جميع العلماء أفضل من محمد بن الحسن الشيباني، فـ محمد بن الحسن الشيباني ليس مجتهداً مطلقاً، حيث كان ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، أما الشافعي فقد كان مجتهداً مطلقاً، ومع ذلك لمّا أراد الشافعي رحمه الله أن يأخذ فقه أهل العراق ذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني، وجلس أمامه بسمت تلميذ، حتى أن الشافعي -وقد كان يخالف كثيراً من فتاوى محمد بن الحسن - من أدبه أنه لم يبادر بالاعتراض على الأستاذ، لكن إذا قام محمد بن الحسن الشيباني ناظر التلاميذ، وأظهر لهم أنه أخطأ في المسألة؛ لأن فتواه مخالفة للحديث، ويسوق الأسانيد المتكاثرة بأن المسألة خطأ ومخالفة للأثر، فكانوا لا يجدون جواباً، وكان الشافعي يظهر عليهم كل مرة، فشكوا ذلك إلى محمد بن الحسن فعندها قال له: محمد بن الحسن: إنه بلغني أنك تعترض، وأنك قلت كذا وكذا، فناظرني، فقال له الإمام الشافعي: إني أجلُّك عن المناظرة! لاحظ الأدب! قد يكون التلميذ في يوم من الأيام أعلم من شيخه أو أستاذه، لكن لا يحمله ذلك على أن يهضم حق شيخه الذي فتح ذهنه على طلب العلم، مهما كان حجم أستاذه ضئيلاً، فالنبلاء يحفظون الجميل، فقال له: لابد لك من ذلك، فناظره الشافعي فظهر عليه؛ لأن الشافعي كان عنده الاهتمام بالحديث والأثر أكثر من أهل العراق. ثم تناظروا في الماء المطلق، فقال له الشافعي رحمه الله بعد انتهاء البحث: (إنكم لتقولون في الماء قولاً) انظر لكلام الشافعي، والحقيقة أنه قال كلمة شديدة في محمد بن الحسن الشيباني، ولكنه صاغ الكلمة في أسلوب جميل، تسمعونه فلا تشعرون أنه طعن فيه، قال له: (إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: تخاطأ، فقال بقولكم، لكان قد أحسن التخاطؤ). لاحظ، قد تظن أن الكلمة رقيقة، وهي في منتهى الشدة، ملخصها أنه قال له: إنكم لتقولون في الماء قولاً، لو قيل لعاقلٍ: ادَّعِ الجنون، فمثّل دور المجنون، لما فعل أحسن من قولكم في الماء، لاحظ فإنه كلام شديد جداً. وكان محمد بن الحسن الشيباني سميناً بديناً، فكان الشافعي يقول: (ما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن)، وكان يقول: (إن العلم يُزيل الدهن (لأن المعتاد أن طالب العلم الجيد يكثر من السهر، ومن كثرة استغراقه في الطلب باستمرار يضمر، لكنه مازال محتفظاً بهذا السمن، فمعنى ذلك أنه يأكل جيداً وينام جيداً، وهذا ينافي ما كان عليه العلماء، كما روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: (لا يستطاع العلم براحة الجسد)، وطالب العلم يحتاج إلى قوة أكثر للجسد حتى يتحمل روحه الفتية التي تحرمه النوم.

شدة حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

شدة حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وفي غزوة الخندق أصاب الصحابة جوع كما في الحديث، فذبحوا داجناً، وعجنوا كف طحين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باللحم، فجيء به فبصق فيه وبارك ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هي، وإن العجين ليخبزُ كما هو. الشاهد قول جابر: لقد رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، مع أنه أيضاً كان جائعاً، لكن من شدة حبه نفى جوع نفسه لما رأى الجوع في وجه الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فقال ابنه: يا أبت! ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ قال: فالتفت إلينا وقال: (لقد رأيتني على أطباقٍ ثلاث) أي: مررت في حياتي بثلاث مراحل: (لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُّ على هذا الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمت جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك فلأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ فقلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال: فوالله ما كان أحدٌ أحب إلي قط من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووالله ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولئن سئلت أن أصفه لكم لما أطقت ذلك، لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلو متُ على هذا الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة) من كثرة هيبة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله لم يملأ عينيه من النظر إلى وجهه. فلذلك حين سمع الصحابة رضوان الله عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، طاروا فرحاً، لأنه المحبوب الأعظم في البشر، فما كانوا يحبون أحداً أكثر منه، ولذلك أنس بن مالك قال كما سمعتم: فما فرحنا بعد إسلامنا كفرحنا بهذا؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فآفة الآفات عندنا أننا لا نعظم النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم الواجب، دعك من أصحاب الدعاوى، فأسهل شيءٍ أن يدعي المرء أنه يحب الرسول عليه الصلاة والسلام. مرةً جمعني مجلس برجل كان يدخن، فقلت: يا أخي أما تعلم أن التدخين حرام؟ فأخذ نفساً عميقاً وأخرجه من خياشيمه، ثم قال لي: يعني ليس مكروهاً فقط؟ فقلت له: هب أنه مكروه ما يحملك على أن ترتكب مكروهاً؟ ثم بدأ يناقش وهو يدخن دون احترام، بدلاً من أن يطفئ السيجارة حتى يقتنع أحدنا بكلام الآخر أو على الأقل احتراماً لمن يخاطبه. وفي الحقيقة فإنا نجد هذه الأفعال كثيراً؛ لأننا لم نوقر النبي عليه الصلاة والسلام ذاك التوقير الواجب الذي كان ظاهرةً ملفتة في جيل الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. نسألُ الله أن يجعلنا وإياكم من محبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يرزقنا حبه، وحب من يحبه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، واعذروني إذا كنت قد أطلت عليكم، فإن الكلام في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ذو شجون.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكفير من أنكر معلوما من الدين بالضرورة

حكم تكفير من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة Q هل لابد من إقامة الحجة على من أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك الذي يصدر منه كفرٌ بواح؟ A المعلوم من الدين بالضرورة لا نحتاج إلى إظهار الحجة عليه، لأن معنى (معلوم من الدين بالضرورة) أنه ليس هناك جهلٌ به. نحن مثلاً في ديار تنتسب إلى الإسلام، ما هناك أحدٌ قط يجهل أن الصلاة من فرائض الإسلام، هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. لكن إقامة الحجة واجبة في المسائل التي لا تعلم من الدين بالضرورة، لأنها قد تخفى مثل مسألة التشبه بالمشركين، قد توجد بعض أشياء يُنازع أن فيها تشبهاً بالمشركين، بسبب جهل المتشبه حيث يقول: لا، لا يوجد دليل على أنها من التشبه، فحينئذٍ نثبت أن هذا من التشبه، ونقيم عليه الحجج، لماذا؟ لخفاء معنى التشبه على هذا الإنسان، فإذا أقمنا الحجة التي يكفر تاركها، وتبين لنا أن هذا الإنسان معاند يريد برأيه أن يطعن في نحر النص؛ فلك أن تحكم عليه بما يناسب الحال. لكن إذا كان الأمر معلوماً من الدين بالضرورة -وأنا أركِّز على هذه الكلمة (معلوماً من الدين بالضرورة) - فإقامة الحجة ليست بواجبة، بخلاف ما إذا كان خفياً أو يحتاج إلى بحث، فهذا يجب فيه إقامة الحجة قبل التكفير والله أعلم.

حكم إقامة الحد من آحاد الناس

حكم إقامة الحد من آحاد الناس Q ما حكم المرتد؟ وهل فعلاً يجوز لغير الحاكم إقامة الحدود؟ يرجى توضيح المسألة، وما هو القول المشهور في ذلك؟ وما تقول في من يقول: إذا سب الرجل النبي صلى الله عليه وسلم أمامي أَقتله، أو إذا سجد لغير الله أَقتله؟ A بالنسبة لإقامة الحد ونحن نتكلم عن الواقع. إقامة الحد في الأصل إنما تكون للسلطان ولذي الشوكة أو من ينيبه هذا هو المشهور في كتب أهل العلم، والمسألة مرتبطة بالمصالح والمفاسد، فإذا غاب السلطان، فهناك لفيف من أهل العلم يجوِّزون لأحد الرعية أن يقوم بالحد، بشرط أن لا يترتب عليه مفسدة أعظم من المصلحة الناجمة من إقامة الحد. وأنا أتصور أن مسألة الكلام في جواز إقامة الحد لآحاد الرعية ليست مربط الفرس، إنما مربط الفرس مسألة تقدير المصالح والمفاسد، كثيرٌ من الذين يرون إقامة الحد لآحاد الرعية لا يقدرون المصالح والمكاسب كما ينبغي. لكن سنفترض مجرد افتراض: لو أن آحاد الرعية أقام الحد على رجلٍ بعد إقامة الحجة عليه، وهذا الرجل أصر على ذلك، فاستطاع أن يقيم عليه الحد بغير حدوث مضرةٍ أعظم من إقامة الحدِ جاز له، لكن الواقع يقول: إن إقامة الحد على أي إنسان في ظل الظروف الحالية التي نحن نمر بها يكون فيه من المفسدة ما هو أعظم من قتل هذا الإنسان، أو من جلده أو نحو ذلك. لذلك أنا في اعتقادي وقناعتي بما أراه من الواقع الآن أن إقامة الحد لآحاد الرعية فتح باب لشر عظيم، لذلك إذا غلبت المفسدة على المصلحة يجب أن يتوقف. بالنسبة للسؤال الآخر: إذا سب رجلٌ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الذي عليه جماهير العلماء أنه يقتل ولو تاب، وتفصيل هذه المسألة في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول". وهذه المسألة تختلف عن مسألة السجود لغير الله، قد يجهل الإنسان أن السجود لغير الله تبارك وتعالى من الكفر، كما حدث لـ معاذ رضي الله عنه، حين جاء فسجد بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ما هذا؟ قال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن يسجد لك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). فمسألة السجود لغير الله تختلف عن مسألة سب الرسول عليه الصلاة والسلام. هناك ثلاثة أشياء يكفر مرتكبها ولا يعذر فيها بالجهل: سب الله تبارك وتعالى، وسب دين الله عز وجل، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن هذه الثلاثة: توقير الله عز وجل، وتوقير الرسول عليه الصلاة والسلام، وتوقير الدين؛ لا تحتاج إلى علم؛ فنقول: إنه جاهل؛ فنحتاج أن نعلمه أن الله عز وجل لا يجوز له سبه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سب رجلٌ النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا يقتل ولو تاب؛ بخلاف الرجل الذي سجد للصنم، أو سجد للقلم فقيل له: إن هذا شركٌ، أو إن هذا كفرٌ فتب منه، فقال: تبت، فلا قتل عليه أبداً؛ لأنه كان يجهل، بخلاف ما إذا سب فقال: تبت، العلماء يقولون: لا تقبل توبته حفاظاً على جناب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إذا فتحنا هذا الباب فيمكن لأي إنسان أن يسب ثم يقول: أنا تُبت، وهو لم يتُب في الحقيقة فيسب، ويقول: أنا تُبت! فحينئذٍ تضيع هيبة الرسول عليه الصلاة والسلام، مع كثرة السب، فحمايةً لجنابه عليه الصلاة والسلام يقتل، فلو تاب حقاً، نفعه ذلك بينه وبين الله، أما إذا لم يتب فقد قتل وسيلقى جزاءه عند ربه، فهناك فرق ما بين المسألتين، والله أعلم.

نصيحة للشيخ حول التخصص في طلب العلم

نصيحة للشيخ حول التخصص في طلب العلم Q أجد في نفسي الميل إلى تعلم علم واحد فقط من علوم الشريعة الإسلامية، أما تعلم العلوم الأخرى، فلا أميل إليها؟ A العلوم تتبعض وتتجزأ، لكن عادةً علوم الشريعة قنوات بعضها يؤدي إلى بعض، فإذا تعلم الرجل نوعاً واحداً فقط من العلم، وجهل الباقي فأنا أظن أنه سوف يكون عنده شيء من مزلة الأقدام في ذلك العلم، لكن هو يتبحر في ذلك العلم الذي يحبه، ويكون له مشاركات في العلوم الأخرى، يعني لا أتصور مثلاً رجلاً يتعلم الفقه، ويجهل علم المصطلح تصحيحاً وتضعيفاً، وإلا فعلم الفقه كله قائم على افتراض صحة الحديث، فإذا لم يكن عنده خبر بصحة الحديث من ضعفه، فيستطيع المخالف له أن يهدم دليله، وأن يهدم له حكمه بادعاء ضعف دليل المسألة، وحينئذٍ لا يجد بين يديه دليلاً. ولذلك أنا لا أظن أن هناك رجلاً يستقيم له الأمر في أي علم إلا إذا ضرب بسهم وافر في علم الحديث، لأنه كما يقول أرباب العلوم: علم الحديث علمٌ خادم، والعلوم الأخرى مخدومة، فعلم الحديث ومصطلحه هو مهيمن، فمثلاً: لو أن هناك إنساناً مرفهاً لا يستطيع أن يعيش بغير خادم، فمرض خادمه، فقد يموت من الجوع، فهو لا يستطيع أن يصنع لنفسه طعاماً؛ لأن الخادم هو الذي يفعل له كل شيء، فإذاً حياة هذا الإنسان إنما هي بالخادم، فلو مات الخادم، أو ذهب وتركه؛ فهذا الإنسان لا يساوي شيئاً، كذلك علم الحديث كل علم يحتاج إلى هذا العلم، فأنا أنصحه إذا كان العلم الذي يميل إليه، بخلاف علم الحديث، فله ذلك، لكن لابد من أن يضرب بسهمٍ في علم الحديث حتى يضمن سلامة أدلته، والله أعلم.

تقسيم البدعة إلى بدعة مفسقة ومكفرة

تقسيم البدعة إلى بدعة مفسقة ومكفرة Q هل تقسيم البدعة إلى بدعة مفسِّقة وبدعة مكفِّرة تقسيمٌ صحيح؟ وما هو الدليل على هذا التقسيم؟ حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بدعة إلخ)؟ A بالنسبة لتقسيم البدعة إلى بدعة مفسِّقة وبدعة مكفرة صحيح، فلا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الفسق والكفر كلاهما من الضلال، فلا تعارض أصلاً، (كل بدعةٍ ضلالة)، فالضلال كلمة جامعة للفسق والكفر، إذاً لا تعارض، إنما الحقيقة الحكم على شخصٍ ما بأن بدعته مفسِّقة أو مكفِّرة، وهذا يكون بالنظر إلى ذات البدعة نفسها، يعني: هل تخرِجه من الملة أم لا؟ فمثلاً قد يبتدع رجلٌ بدعةً، وينسبها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: أنا أعلم أنها ليست من الشرع، لكنني أضيفها مثلاً إلى الشارع أو نحو ذلك، فهذا قد يفسَّق، وقد يئول الأمر به إلى الكفر. فأنا أعتقد أن واقع كل إنسان هو الذي يفرق ما بين إذا كان كفَر -أي: خرج ببدعته التي ابتدعها من الشرع- أم ما زال ينتسب إلى الشرع ولكنه فسَق؟ أنا أعتقد أنه لا يوجد حد فاصل تستطيع أن تجعله قانوناً ما بين البدعة المفسقة والبدعة المكفرة، بل الملابسات التي تحيط بذات الشخص هي التي تجعله يلتحق بهذا القسم أو ذاك والله أعلم.

فقه الواقع

فقه الواقع Q هل نحن ملزمون بتعلم فقه الواقع؟ A فقه الواقع كان يسمى على ألسنة العلماء القدامى بفقه النفس الذي أشرت إليه قبل في الدرس، فهو هنا مجمل، والجواب: ليس الإنسان ملزماً بتعلم فقه الواقع، كما أنه ليس ملزماً بتعلم كل شيءٍ في الشرع، بل هناك أشياء هي فرائض الأعيان التي لا يجوز للمسلم أن يجهلها، فيما يتعلق بالتوحيد، وفي عبادته ونحو ذلك، هناك فرائض الأعيان وهناك فرائض الكفايات، فإذا كان كثير من علوم الشرعية -ومنها فقه الواقع- من فروض الكفايات فمن الذي يقول: نحن ملزمون جميعاً أن نتعلمه؟! لكن هذا إذا تعلمه جماعة سقط عن الباقين، وأنا ما أريد أن أخوض كثيراً في المسألة لاسيما كلمة (في الواقع) الآن إذا أطلقوها، يطلقها الذي سيسأل على معرفة واقع المسلمين الآن بالنسبة لأعدائهم، ولا أظن أحداً من أهل العلم يقول أن هذا الباب ليس مهماً، بل هو بابٌ مهم، لكن الاشتغال به عما هو أولى هو الذي يجعل المسألة فيها نظر، إنما ليس المسلمون جميعاً ملزمين بتعلم فقه الواقع؛ لأنه من فروض الكفايات، إذا علمه جماعة سقط عن الباقي والله أعلم.

نبذة عن طلب الحويني للعلم

نبذة عن طلب الحويني للعلم Q نرجو من فضيلتكم إعطاءنا نبذة مختصرة عن كيفية طلبكم للعلم؟ A والله لا تؤاخذوني في فتح الجواب عن هذا السؤال، لأن أخاكم ليس بذاك، يعني ما حصّل شيئاً يذكر حتى يمكن أن يقول: أنا! فأنا أعترف بقصوري وقصور باعي وتطفلي علي هذا العلم، وأمثالي لو كان موجوداً في زمن علم لما صلح إلا لأن يحمل إبريق الشيخ، لكن نحن بكل أسف صرنا في زمانٍ نتفاضل فيه بالجهل، بينما كان أسلافنا يتفاضلون بالعلم، فكن يقال: فلان أعلم من فلان، نحن الآن نقول فلان أخف جهلاً من فلان، فأنا أستحيي أن أتكلم لأني ما عندي شيء يستحق الذكر، إنما إذا أردتم أنكم تبحثُوا عن حياة شيخٍ أو رجل يستحق الذكر، فعليكم بالشيخ محمد ناصر الدين الألباني ومن جرى مجراه في هذه الحلبة؛ لأنهم أهلٌ لأن يحتذوا، إنما أنا مثلكم، لا فرق بيني وبينكم إلا أنني أجلس في هذه المنصَّة وأنتم تحتها!.

لابد لطلب العلم من الهمة والمثابرة

لابد لطلب العلم من الهمة والمثابرة Q ما رأيكم بمن يقول: لن أطلب العلم حتى ألتحق بالجامعة، وهناك سأتفرغ وأهتم وأجد وأجتهد؟ A الذي يظن أن الدراسات الجامعية تؤهله لأن يكون عالماً أو طالب علم فهو مخطئ، إن الكتب الجامعية لا يمكن أن تخرِّج نصف طالب علم، ولا ربع طالب علم، إذا رأيتم طالباً على مستوى عال في بعض هذه الجامعات، فاعلموا أن هذا من جهده في المقام الأول، وأنه خرج عن حيز الدراسة. فالذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة ضيع أحلى سنوات العمر وأفضلها، وكما يقال: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. وأنت لا تضمن أن تكون بصحتك عند دخولك الجامعة، ولا تضمن أن تكون خالياً من المشاكل والمشاغل إذا وصلت إلى الجامعة، ابدأ الآن في طلب العلم، حيث أن الله تبارك وتعالى أفاء عليك بالوقت، وأفاء عليك بالراحة، ووسائل المواصلات المريحة، وأفاء عليك بالمال، فتستطيع أن تشتري الكتب، وأفاء عليك بالمواصلات الحديثة كالهاتف والفاكس وهذه الأشياء، وبدلاً من الرحيل إلى الشيخ في أقصى بلاد الدنيا، تستطيع أن ترفع الهاتف وتكلِّم الشيخ، أسلافنا ما كانوا كذلك. دعوني أحكي لكم قصة لـ شعبة بن الحجاج رحمه الله أراد أن يتأكد من حديثٍ واحد. وهذه القصة مذكورة في مقدمة كتاب المجروحين لـ ابن حبان، ورواها الخطيب البغدادي أيضاً في كتاب الكفاية من طريق نصر بن حماد أبي الحارث الوراق، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت لهم: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فما أن انتهيت من الحديث حتى خرج شعبة من الدار فلطمني فدخل، وكان معه عبد الله بن إدريس، قال: فقعدتُ أبكي، فخرج شعبة فوجدني أبكي، فقال: هو بعد يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدِّث به، ثم استقبل شعبة الحديث يسرده -سيحكي قصته مع هذا الحديث- قال: (إني سألت أبا إسحاق: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء)، ولعلكم تعلمون أن أبا إسحاق السبيعي كان يدلِّس، والمدلِّس يعمد إلى شيخه أو إلى شيخ شيخه فيحذفه، وينظم الرواية بالعنعنة، وكان شعبة شديد النكير على هؤلاء المدلسين، وكان يعلم أن أبا إسحاق السبيعي مدلس، وهو القائل كما صح عنه: كفيتكم تدليس ثلاثة، وذكر منهم أبا إسحاق السبيعي. (فلمّا سمع أبو إسحاق السبيعي كلمة شعبة غضب، وأبى أن يجيب)، فإذاً لابد أنه دلِّس في السند؛ فطالما أنه أبى أن يجيب فيكون قد دلّس؛ لأنه لو كان سمع حقاً لبادر، وقال: سمعت. فقال مسعر بن كدام -وهو إمامٌ ثقة كبير القدر-: يا شعبة عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة -إذا أردت أن تتأكد فاذهب إلى مكة- وشعبة أين؟ شعبة في البصرة، أهي مسافة قصيرة؟!! شعبة في البصرة، وعبد الله بن عطاء في مكة، قال شعبة: (فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث)، قال: (فلما ذهبت إلى مكة دخلت على عبد الله بن عطاء، فإذا رجلٌ شاب فقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا، إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم هذا مدني يسكن في المدينة، قال: فذهبت إلى مالك -الإمام المشهور- فسألته عن سعد بن إبراهيم فقال لي: ما حج العام -إذاً سيكلِّفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فقابلت سعد بن إبراهيم قلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، من عندكم خرج -أي: من البصرة-، قلت: من حدثك؟ فقال: زياد بن مخراق، فقال شعبة: حديثٌ مرةً مكي، ومرةً مدني، ومرة بصري، دمِّر عليه لا أصل له. قال: وانحدرت إلى زياد في البصرة وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ما هو من بابتك، قلت له: فما من بُد، هذه حاجتي، قال له: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتيني، فذهب واغتسل وغسل ثيابه وجاء، قال: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال له: لا، سمعته من شهر بن حوشب، وشعبة كان سيئ الرأي في شهر بن حوشب، قال: شهر بن حوشب عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر، لاحظ كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وسقط زياد بن مخراق، وسقط شهر بن حوشب، وسقط أيضاً أبو ريحانة، أربعة سقطوا، مما يبيِّن لك خطورة التدليس، فقال شعبة رحمه الله: (حديثٌ صعد ثم نزل، دمِّر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي)، وطبعاً هذا الحديث صح، لكن من طريق آخر غير الطريق الذي وقع لـ شعبة. فهذا مثال رحلة من شعبة بن الحجاج يطوف فيها على بلدان وتعلمون المسافات الشاسعة بين تلك البلدان وبعضها؛ لأجل أن يتأكد من حديثٍ واحد، قد يصيب بعض طلبة العلم المتخصصين الكسل أن يدير قرص الهاتف حتى يتّصِل بالشيخ الفلاني، يسأله مسألة في علم الحديث أو علم الفقه، انظر إلى الهمم!! كان ابن الجوزي يقول: (إنما البكاء على خساسة الهمم) المسألة ليست قلة إمكانات أبداً، أي كتاب مهما كان تستطيع أنك تشتريه، إن لم تستطع أن تشتريه تستطيع أن تصوِّره في الحال، تصور لو أننا في زمن ابن حجر، وأردت أن تنسخ فتح الباري، وكلفت ناسخاً ينسخه لك، تريد أشهراً لنسخه، أما الآن فأنت تستطيع أن تصوِّره في ليلة واحدة، لو وقفت وقفة رجل حازم، وعندنا من الكتب ما لم يكن عند كثير من هؤلاء، ومع ذلك لا نعلم منها شيئاً، هذا بسبب ماذا؟ بسبب التأخر في طلب العلم، تأخر زمان طلب العلم كلما قلت الهمم، والذي يؤجل طلب العلم إلى أن يدخل الجامعة الإسلامية أو غيرها من الجامعات، فليستبشر خيراً أنه لن يكون الذي يحلم، لن يكون ذلك. لو أنفقت في طلب العلم عمرك كله من وقت أن نطقت إلى أن تموت، ولو عمِّرت عمر نوح عليه السلام لمُتَّ مليئاً بجهلك، تموت وأنت جاهل فهناك مسائل أنت ما عرفتها. ابن جرير الطبري رحمه الله، دخل عليه بعض أصحابه يعوده في مرض الموت، فتذاكروا مسألة أظنها في الفرائض، فدعا ابن جرير الطبري بقرطاس ودواة وقلم، وأراد أن يكتبها، فقال له صاحبه: أفي هذا الحال؟ أي: رجل يعاني من مرض الموت، قال له: أَخرُج من الدنيا وأنا عالمٌ بها، خيرٌ من أن أخرج منها وأنا جاهل بها، مع أنه لن يكون عنده من الوقت ما يستطيع أن يفيد غيره بذلك، لكن هي محبة لطلب العلم، الذي يحب طلب العلم يُغلب على حبه، فلا يضيع شيئاً من وقته، وأخيار العلماء كانوا حريصين على الوقت وعلى طلب العلم أشد الحرص وأعظمه. فأنا أنصح هذا السائل إن كان عنده حب للعلم، أن يبدأ من الآن، وكفاه ما ضاع من عمره، فلا ينتظر حتى يضيع سنوات أخرى هو أحوج ما يكون إليها، والله أعلم. مداخلة: إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة من أعلى الجامعات الإسلامية، تخرج ما يربو على الألف أو الألفين سنوياً، ولكن كأنهم في خبر من يبحث عن الدنيا ويبحث عن المادة، ولا تسمع منهم إلا القليل القليل الذين فادوا وأفادوا واعتمدوا على الله تبارك وتعالى.

الإحسان وأثره في التمكين

الإحسان وأثره في التمكين إن الله عز وجل أمر بالإحسان في كل الأمور، حتى حين يذبح المرء ذبيحته، وأولى الناس بالإحسان هم الدعاة؛ لأن الدعوة إلى الله تعالى شرف للقائم بها، فلابد للداعية من اتخاذ الأسلوب المناسب الذي يمكن له في قلوب الناس، وبالتالي يتمكن من نشر دعوته بين الناس وإيصال الحق إليهم، ولنا في أنبياء الله أسوة حسنة، فقد كانوا يتدرجون في دعوتهم ويتخذون الطرق المناسبة لذلك.

التمكين في القلوب بالمحبة قبل التمكين في الأرض

التمكين في القلوب بالمحبة قبل التمكين في الأرض إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. القرآن الكريم معين لا ينضب؛ لكنه يحتاج إلى إعمال النظر، إذ إن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن القرآن حمالٌ وجوه)، وقد اخترت أن لا يكون الموضوع مباشر مع العنوان، ولكن جعلت هذا الموضوع تأملات في سورة يوسف عليه السلام، وهذا التأمل خاص بموضوع في غاية الأهمية والحيوية، ألا وهو موضوع الإحسان ومكانه من التمكين للمسلمين في الأرض. سُئل ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري- عن أجمع آية للخير والشر في القرآن؟ فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، فهذه أجمع آية للخير والشر في القرآن الكريم.

تمكين الله لنبيه يوسف في القلوب

تمكين الله لنبيه يوسف في القلوب وسورة يوسف عليه السلام هي سورة الإحسان، ونحن سننظر كيف مكن ليوسف عليه السلام، يخطئ من يتصور أن التمكين أن تحوز الأرض من تحتك، ونحن نقول: إن التمكين في الأرض يسبقه تمكين آخر في غاية الأهمية هذا التمكين هو الذي أحرزه يوسف عليه السلام. وانظر معي في قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] أين هو التمكين؟ قد استخرجوه من غيابة الجب، وبيع بثمن بخس دراهم معدودة، أعني أنه لا يظهر لنا أثر التمكين، ومع ذلك بمجرد أن بيع بهذه الدريهمات، ودخل قصر العزيز، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21]. أما التمكين فلأنه دخل قلب العزيز، هذا هو التمكين: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، هذا هو التمكين المهم الذي لا يتم التمكين للمسلم في الأرض إلا به. إذا دخل المرء قلب إنسان استعبده، وصار ولده وماله، وصار هو نفسه مِلكاً لهذا الإنسان، وذلك لأن المرء كلف بمن يحب، ألم تر في سيرة المحبين إلى هذا المعنى الظاهر، وهو أن المرء إذا أحب كلف، وإذا كلف ذل، والمحبة والذل قرينان، كلما كنت في قاع الذل صرت على قمة الحب، فالمسألة لا تنفك، كلما زاد حبك زاد ذُلّك. والشاعر المشهور في دواوين العاشقين وهو قيس، يقول في الأبيات التي طارت كل مطار لما فقد المرأة -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من داء العشق؛ لأنه داء قتال- قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا أحب الرجل حتى وصل إلى درجة الكلف، الرسول عليه الصلاة والسلام أحبه قومه قبل أن يأتي بدعوته، لذلك نحن نقول للدعاة إلى الله عز وجل، الذين أغفلوا هذا الجانب: لماذا تأخر التمكين حتى الآن؟ إذا أردت أن تمكن فأحسن، فإنك بالإحسان تسترق قلوب العباد. وها هو يوسف عليه السلام يضرب به المثل، الله عز وجل جعل له مكاناً في قلب العزيز فأحبه، فهذا بداية التمكين أن تدخل قلوب الخلق، ونحن نعلم أن بعض الناس كفروا بسبب محبتهم للذين يدعونهم، أي: أنه لا يفكر، فقد وصلت به الثقة العمياء إلى أن يضع حياته بين يدي هذا الإنسان فأضله، فكما قلت: الحب داعية الاتباع، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. دخل يوسف عليه السلام قصر العزيز وبدأت المحن تتوالى عليه، وكانت محنة في غاية القوة تلك التي تعرض لها، ولكنه صبر عليها صبر النبلاء، لأن الصبر عن معصية الله عز وجل هو أرفع أنواع الصبر فيما يتعلق بالمكلف. ولك أن تتأمل: داعي المعصية موجود، فيوسف عليه السلام كان غريباً، والغريب يفعل في دار الغربة ما يأنف أن يفعله الحاضر بين أهله وخلانه، هذا أول داع لأن يفعل المعصية، لأنه غير معروف. ثم هو شاب أعزب فتي لم يتزوج ولم يتسر، وهذا أيضاً باعث على أن يقع في المعصية. ثم هو مملوك، والمملوك لا إرادة له، وهو حريص على إرضاء مالكه، فهذا أيضاً داعي الوقوع في المعصية. ثم المرأة جميلة، وهي الداعية إلى نفسها، وقد غلقت الأبواب، ومع ذلك يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] وتكرر لفظ الإحسان والمحسنين ومشتقات الإحسان في سورة يوسف كثيراً، بحيث إنك تستطيع أن تسميها (سورة الإحسان) لأنه يطهر فيها الإحسان جلياً. أول موقف وقف فيه يوسف عليه السلام هو هذه المحنة القوية، ومع ذلك تجاوزها بهذا النبل، فأعلى الله عز وجل كعبه. ماذا حدث بعد ذلك؟

الموقف الثاني ليوسف عليه السلام في التمكين

الموقف الثاني ليوسف عليه السلام في التمكين المرأة اتهمته، ودخل السجن مع ظهور براءته، فهو ظلم أولاً من المرأة، ثم ظلم بالقرار الجائر أن يدخل السجن بعد ظهور الآيات ببراءته، فدخل السجن، ودخل معه فتيان، وبدأ الموقف الثاني الذي يدلك على محبة يوسف عليه السلام لدعوته. {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]. والإحسان ينطبع على الوجه، لا تتصور أن صاحب الغل ينجو، بل يظهر غله على وجهه، وصاحب الإحسان ينطق الإحسان على وجهه، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف). أحياناً قد تنظر إلى الرجل الذي تراه لأول مرة فتشعر أنك تحبه، وتريد أن تقترب منه، وأنت مستريح له، ورجل آخر أيضاً لا تعرفه، وما دار بينك وبينه حوار، ولا أساء إليك، ومع ذلك تبغضه، وتشعر بهذا البغض في قلبك، وتود أنه لو لم يتكلم، ولم يكن بينكما حوار، إذاً: ما هو الضابط بين هذا وذاك؟ إنها أسارير الوجه التي تعبر عما يكنه القلب، لذلك قال الرجلان ليوسف عليه السلام: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] نطق الإحسان على وجهه عليه السلام. لم يبدأ يوسف عليه السلام البداية التي قد يجهلها من يدعو إلى الله عز وجل، بأن يلبي لهم حاجاتهم؛ لأن المرء إذا حصل حاجته ذهب، ولذلك لما تنازع العلماء في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ رجح كثير من المحققين أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغنى داعية الطغيان وداعية الاستغناء، كما قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، ما طغى إلا بعد أن استغني. انظر إلى حياتنا ترى هذا الشيء موجوداً، فإذا ما الابن ينفق عليه أبوه أو أخوه الكبير فهو لا يكاد يخالفه، وينفذ أحياناً بعض ما يكره إذا أمره أبوه أو أخوه، فإذا استقل براتبه بدأ يستقل بقراره، وبدأ يكون له رأي، وبدأ يعارض. ولذلك نهى الإسلام المرأة عن العمل، وقال علماء المسلمين: إن الأصل في المرأة أنها لا تعمل، لأن الله عز وجل جعل قوامة الرجل على المرأة بشيئين: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]؛ فإذا عملت المرأة وصار لها راتب، كأنما انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأنها تنفق على نفسها. وكثيراً من النساء اللواتي يعشن في ذل الرجل العنيف الذي يضرب والذي يسب، لماذا يعشن؟ ولماذا يقبلن الذل؟ لأنهن يخفن على أنفسهن من التشريد، كثير من النساء يقبلن الذل لأجل لقمة العيش، أول ما يكون للمرأة راتب وتستقل براتبها، فكأنها انتزعت نصف القوامة من الرجل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، إذاً: بداية استغناء المرأة عن الرجل كان سببه الحصول على الراتب، إذاً: طبيعة الاستغناء أنه يوصل إلى الطغيان. فهذا الغني الصحيح الذي يجد الأموال الطائلة أمامه، فلا يتعرض لضائقة مالية ولا يتعرض لأزمات، فلذلك يخف ذكر الله من لسانه، قلما يقول: يا رب، قلما ينام وهو يؤمل في الله خيراً؛ لأن دفتر الشيكات موجود، والأموال موجودة في البنوك، وهذه المسألة لا يكاد أحد منا يحتاج إلى كبير بحث فيها. فالشكر مع هذا الغنى الذي هو داعية الطغيان نادر جداً، أما الصبر فكثيراً ما يلازم الفقر؛ لأن الإنسان إذا افتقر فإنه يوازن بين أن يسخط وبين أن يصبر، فيجد أن الصبر أجود وأفضل، وقد يصبر صبر المضطر؛ لذلك تجد الصبر كثيراً ما يلازم الفقر، ولا تجد الغنى يلازم الشكر إلا نادراً. لذلك ذهب كثير من العلماء على أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لعدم وجود باعث الشكر عند الغني. فيوسف عليه السلام يعرف هذه الحقيقة من نفوس بني آدم، لذلك لم يبدأ بتعبير الرؤيا لهم، وقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، وياء الإضافة في (ربي) تكررت كثيراً في سورة يوسف، وهي تشعر بالاعتزاز وصحة الانتماء إلى الله عز وجل، قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101]. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37]، فبدأ يعرفهم بإلهه الذي يعبده وبدأ يعرفهم بأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:37 - 40].

دروس للدعاة في كيفية الدعوة بالإحسان والتأليف

دروس للدعاة في كيفية الدعوة بالإحسان والتأليف انظر إلى الترقي في المناظرة، هذا الدرس يحتاج إليه الدعاة إلى الله عز وجل أكثر من غيرهم، انظر إلى يوسف عليه السلام كيف ترقى لم يبدأ مهاجماً؛ لأنه سيقوض دعوته، إنما جعل الهجوم آخر مرحلة، فبدأ يعرف بنفسه، ويعرف بحقيقة الذي يعبده، وأنه ينتمي إلى آباء كرام ورثوا النبوة، ثم طرح سؤالاً لا يخطئ الإجابة فيه من له عقل مستقيم. فيوسف ترقى بهم شيئاً فشيئاً، كأنما قال لهم: إن الذي يكلمكم ليس بجاهل، إنه ورث النبوة، وهو سليل بيت العلم، يُعرِّف بقدره، وشتان بين الافتخار بمثل هؤلاء الآباء، وبين الافتخار بالآباء الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الافتخار بهم. فبعدما عرف بنفسه سأل السؤال المنطقي الطبيعي الذي لا يخطئ في الإجابة عليه إنسان له عقل سوي: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] وتأمل في الخطاب: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب؛ لأن هذا فيه أنس؛ لأنك إذا خاطبت رجلاً وبينك وبينه حواجز فلا يكاد يعي كلامك.

تجربة دعوية فيها عبرة

تجربة دعوية فيها عبرة سوف أسوق لكم تجربتي، ولا أسوقها لأنني في موضع الحجة، بل أسوقها لأنني عاينتها، كيف أن الإحسان إلى الخلق يمرر دعوتك بأسرع من حجتك، كم من أناس بلغاء وقف الحاجز في النفس مانعاً دون وصول الدعوة إلى قلوب الخلق. أول ما بدأنا نتعلم العلم الشرعي وذلك في أوائل السبعينات، كانت هناك عاطفة، ولم نكن نعلم أن هذه العاطفة ينبغي أن يواكبها علم، ولم نكن نعلم أيضاً أن النصوص الشرعية تتفاوت في القوة، فبعض النصوص تكون واجبة، وبعض النصوص تكون مستحبة، وبعض النصوص تكون مباحة. فكنا إذا علمنا شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام في اعتقادنا أنه يجب فعله، ولو طارت فيه رقاب، لم نكن نعرف أن المستحب يترك، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الذهبية التي ذكرها في مجموع الفتاوى: (إن من المستحب ترك المستحب لتأليف القلوب). فكنا نقرأ في كتاب شيخنا أبي عبد الرحمن ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأطال في عمره ومتع به- تحريك الإصبع في الصلاة، وتحريك الإصبع كما علمني شيخنا بأن تجعل يدك على صورة واحد وخمسين، ثم تضعها على ركبتك، ثم ترسل إصبعك هذه إلى القبلة، ولا تحركها هكذا بل حركها هكذا ولا تصرف هذه الإصبع عن القبلة. نحن قرأنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك إصبعه فكنا نحركها هكذا وكل واحد يحركها على اجتهاده، فأنا كنت أحركها هكذا فوقت الصلاة أنت تفعل هكذا والرجل الذي بجانبك لم يعتد على هذا، بل اعتاد على التحريك في النفي والإثبات. فبدأنا نحرك الأصبع بهذه الصورة ونحن نصلي، فقال لي الرجل الذي صلى بجانبي: (هُوَّ انته طول الصلاة) وأشار بأصبعه. فقلت له: أنت تستهزئ بالسنة، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، استغفر الله، وكنت أكلمه بعصبية، كيف تستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضعته في خندق المستهزئين. وكنا أيضاً نجلس جلسة الاستراحة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاة لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: بعد الركعة الأولى وبعد السجدة الثانية قبل أن يقوم من الركعة الثانية يجلس ثم يقوم، ثم في الركعة الثالثة التي هي الوتر -والوتر في الصلاة هي الركعة الأولى والركعة الثالثة- قبل أن يقوم من الركعة الرابعة يستوي جالساً، ثم يقوم. وبعد السجدة الثانية سأقوم إلى الركعة الثانية بهدوء، وأعرف أنني سأجلس، وصاحبي بجانبي كان ساهياً فقام للركعة الثانية فرآني قاعداً فقعد ظناً منه أنه سها؛ لكنه سرعان ما رآني قمت فقام، كل هذا بحركة عصبية لم يرتب لها، لكن أنا أعرف أنني سأقعد ثم أقوم بهدوء، لكن كبر عنده هذا الأمر. فهذه الأشياء كلها تدينه في صلاته أنه ساه، وغير منتبه لصلاته، فبعد الصلاة تقوم معركة بيننا، يقول: هذا دين جديد، وأنتم غيرتم الدين، ويحصل نوع من النفور الشديد، ونحن في غاية الإصرار على هذا الفعل، ولا ندري أن جلسة الاستراحة مستحبة، وتحريك الإصبع مستحب. وتنفير قلوب هؤلاء لا يجوز، ومحرم أن ننفر قلوب هؤلاء، وظللنا خمس سنوات نحاول عبثاً أن نقنع الناس بسنة واحدة، وهي صلاة سنة المغرب القبلية، والناس في اعتقادهم أن المغرب غريب، فتؤذن للصلاة وتقيم بنفس واحد، ونحن نريد أن ننشر هذه السنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! صلوا قبل المغرب! ثم قال: لمن شاء) فقوله: (لمن شاء) كانت كفيلة أن تردعنا عن الإصرار على صلاة ركعتين قبل المغرب، لكننا كنا نعتقد أننا نعامل أناساً جهلة، ولابد من تعليم الجهلة ولو بالسلاسل. فكنت أنا الإمام وكان المؤذن من أصحابنا، فاتفقنا وقلت له: بعد أن تقول: (لا إله إلا الله) سيقولون لك: أقم الصلاة، ونحن لا نريد ضجة، فأنا سوف أكون متوجهاً إلى القبلة، فأول ما تنتهي من قول: (لا إله إلا الله)، فسأقول أنا: (الله أكبر) وأصلي، وأنت أيضاً بعد أن تنتهي من الأذان ارجع إلى الخلف وصل، حتى لا تتيح الفرصة لأي أحد فيقول لك: أقم الصلاة. وفعلاً نفذنا ما اتفقنا عليه، فكنا أول ما ينتهي صاحبي من الأذان أكبر، ثم يكبر ونصلي، فما الذي كان يحصل؟ كانوا لا يصلون، إنما كانوا يشتموننا حتى نفرغ من الصلاة، وعجزنا أن نقنعهم بصلاة ركعتين سنة قبل المغرب، وظل الوضع هكذا لمدة خمس سنوات، فبدأت أحضر دروس الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وبدأنا لأول مرة نتعلم في أصول الفقه أن مراتب النصوص الشرعية مختلفة، فهناك ما هو واجب قوي، وفيه ما هو مستحب يمكن تركه، وفيه ما هو مباح على استواء طرفيه ونحو ذلك. وبدأ الإنسان يعرف شيئاً من العلم، فلما رجعت إلى البلدة مرة أخرى، لم تمض ستة أشهر إلا وقد أمضيت دعوتي في وسط هؤلاء الناس، وفي هذه المدة الوجيزة التي عجزت على مدار خمس سنوات أن أفعلها معهم.

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس لقد سلك الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلك، فأنت إذا قرأت أن بعض الصحابة أراد أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)،لم يقل: صاحبه مع أنه رجل واحد؛ لكن قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) هكذا بالجمع، لماذا؟ لأن الناس لا يتحرون النقد، فعندما يصل الخبر إلى آخر رجل واحد في جزيرة العرب يكون الرسول عنده قد قتل مائتين، مع أنه قتل رجلاً واحداً، فإذا نقل الناس فإنهم لا يتحرون النقل. ولذلك صدق شعبة بن الحجاج لما قيل له: لم لا تحدثون القصاص؟ القصاص هم أصحاب الموالد الذين يخترعون قصصاً كاذبة ليأخذوا ما في جيوب العوام، فمثلاً: كان أحدهم يقول للناس: هل تعرفون لماذا الشفة العليا للجمل مشقوقة؟ قالوا: لا، فقال: سبب ذلك أنه كان هناك جمل حزين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أصحابه يحملونه ما لا يطيق، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يشتكي أصحابه، فقال له: خذ، ووضع يده على شفته فانقطعت نصفين، فالعوام يعجبهم مثل هذا. فـ شعبة بن الحجاج سئل: لماذا لا تحدثون أمثال هؤلاء؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً. أي: يعمل له سيناريو، فيكون الحدث الحقيقي قد ذهب؛ لأن العوام تستهويهم القصص والحكايات الغريبة الخيالية، فهذه طبيعة الناس. أحدهم يقول: قُتل عشرون وتصل إلى الثاني يضيف صفراً فتصبح مائتين، والثالث يضيف صفراً فتصبح ألفين، فالرجل الذي هو في آخر الجزيرة، والذي كان يفكر أن يرحل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول: نحن أسلمنا، ونريد أن نرحل لننال شرف الصحبة ونتعلم العلم، فيقوم يسرج اللجام ويستعد بالبعير للسفر، فيأتيه أحد أصحابه ويقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول له: أنا ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له صاحبه: لقد قتل يوم أمس أكثر من خمسمائة من أصحابه، فيقول: الحمد لله أنني لم أذهب. فالرسول عليه الصلاة والسلام يعرف أن الناس لا يتحرون النقل، فما هي المفسدة أن يبقى رجل واحد حي ونحن نعرفه، لذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وقال في هذا المنافق المعلوم النفاق: (صاحب). وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن عبد الله بن أبي ابن سلول خرج من أكمة، فقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة. وأبو كبشة هذا جد أم الرسول عليه الصلاة والسلام، هل منكم أحد يعرف أبا كبشة؟ لا يعرفه أحد، لكن كلنا نعرف عبد المطلب، وكانت العرب إذا انتقصت إنساناً نسبته إلى جد غير مشهور، لذلك قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، لأن النسبة إلى الجد المشهور شرف. قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرجز: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ولم يقل: أنا ابن عبد الله؛ لأن عبد المطلب كان أنبل وأشرف وأظهر عند العرب من عبد الله. وجاء في صحيح البخاري: (أن أعرابياً جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس بين أصحابه -لا يميز دونهم قبل أن يتخذ منبراً- فقال: أين ابن عبد المطلب؟ فقالوا: ها هو الرجل الأبيض، قال: أنت ابن عبد المطلب؟ قال: قد أجبتك) فنسبه إلى جده. وجرى انتقاص الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة بهذا اللقب، فروى البيهقي في دلائل النبوة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قص على المشركين أنه أسري به إلى بيت المقدس، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى ابن أبي كبشة ماذا يقول!

تدرج يوسف عليه السلام في الدعوة وحكمته فيها

تدرج يوسف عليه السلام في الدعوة وحكمته فيها وهذا من ذكاء الداعية وفطنته إذا دخل على أناس لا يعرفهم، يهش ويبش لهم، ويمد جسور الود، هكذا كان صنيع الأنبياء، ولكل غريب دهشة، فيكون بينك وبينه حاجز لا يكاد يوصل كلامك، لذلك ناداهما يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سؤال منطقي جداً، يبدأ يزلزل عقائد هؤلاء بمثل هذا السؤال البدهي، الذي لا يحتاج إلى كبير علم؛ لأننا نعرف هذا من أنفسنا. لو أن هناك خادماً وله أكثر من سيد، فهو أشقى الناس، هذا يأمره وهذا ينهاه، وإذا تخاصم السادة شقي أكثر؛ لأنه كلما أرضى أحداً غضب عليه غيره، ولكنه إذا كان له سيد واحد استراح. ثم بدأ يتدرج في الهجوم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40]، وأكثر أهل الأرض أدعياء حتى في الآلهة التي يسمونها، أي: كثيراً ما يذكرون الشيء بلا مضمون، كم من الذين سموا بأمين الصندوق فظهر أنه خائن! والشاعر الأندلسي كان له حق أن يتوجع من كثرة ألقاب ملوك الأندلس، الذين ضيعوا الأندلس، تجد الواحد منهم يشرب خمراً ولقبه محيي الدين، ورجل آخر يتعامل مع الأعداء ويلقب بعضد الدين، وآخر سيف الملة، فقال الشاعر الأندلسي يتوجع من هذه الظاهرة: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد اسم لكن لا مضمون تحته. ماذا يعبدون من دون الله؟ يعبدون حجارة، يعبدون موتى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] إذاً: هذه مجرد أسماء، سمه القوي! القادر! العزيز! لكنه مهزوم، ما هو بقوي ولا قادر ولا عزيز، فهي مجرد أسماء وشعارات جوفاء لا مضمون تحتها. ماذا تعبدون يا أصحاب السجن؟ مجرد أسماء: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

استئناس عمر في دخوله على النبي حين هجر أزواجه

استئناس عمر في دخوله على النبي حين هجر أزواجه وفي حديث ابن عباس في الصحيحين: (لما طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، وكان الصحابة يبكون بجانب المنبر على اهتمامه عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر وتكدر خاطره، ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى باب المشربة، وكان هناك غلام النبي صلى الله عليه وسلم -واسمه رباح - فقال عمر: فجئت الغلام فقلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت، قال: فجلست بجانب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت إلى جانب المنبر فجلست، ثم غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر! فدخل ثم خرج، فقال: ذكرتك له فصمت، قال عمر: فهممت وانصرفت، فبينما أنا عند الباب إذ الغلام يناديني، فقال: قد أذن لك، قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان الرسول عليه الصلاة والسلام غضبان من نسائه، وأقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فـ عمر عرف الموقف- قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فأردت أن أستأنس قبل أن أجلس -هذا هو الشاهد، ومثل عمر لا يحتاج إلى إحداث أنس بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هناك حاجز وهو أن خاطر الرسول عليه الصلاة والسلام متكدر، وهو يريد أن يستأنس قبل أن يتكلم- قال: فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار، فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، قال: فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوضأ منكِ -أي: أجمل- قال: فتبسم أخرى، قال: فجلست).

اختيار الزوجة الصالحة

اختيار الزوجة الصالحة المجتمع أساس قوامه الأسرة الصالحة، ولا تستقيم الأسرة إلا بوجود الأم المستقيمة الصالحة، ومن النماذج التي سجلها التاريخ للمرأة الصالحة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فقد كانت امرأة صالحة بكل ما تعنيه الكلمة.

أهمية اختيار المرأة ذات الدين

أهمية اختيار المرأة ذات الدين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا زال حديثنا متواصلاً عن جيل التمكين وكيف السبيل إليه، ولقد ذكرنا أن أهم غراسٍ يغرسه الإنسان هو الولد، وهذا الغراس يحتاج إلى ثلاثة أشياء: إلى أرضٍ خصبة، وعاملٍ جيدٍ، وماءٍ عذب، وقلنا في الأرض -والمقصود بها المرأة-: يشترط فيها أشياء: أولها ومحور ارتكازها هو: الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث على اختيار ذات الدين فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا مانع أن تضم صفةً أو صفتين أو أكثر مع الدين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فذات دينٍ جميلةٍ أفضل من ذات دينٍ فقط، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دينٍ جميلة فقط، وهكذا

حث الشباب على الزواج بامرأة ودود

حث الشباب على الزواج بامرأة ودود نذكر اليوم صفتين ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار، الذي رواه النسائي وأبو داود قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) الودود الولود: انظر إلى هذا الجمع! إن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين الود وبين ولادة المرأة، إن الرجل قد يحب المرأة لأجل أولادها، ويحب الأولاد لأجل أمهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة إذا أنجب منها الولد أقوى وأمكن من العلاقة بين الرجل والمرأة التي لا ينجب منها؛ ولذلك جمعهما معاً: (الودود الولود) الودود: كثيرة الود، عروب، محبةٌ لزوجها، لا تنغصه ولا تكدره. وإنه ليطول عجبي أن تدفع المرأةُ زوجها دفعاً إلى العمل لفترة وفترتين وثلاث، ثم يأتي الرجل إليها في آخر اليوم يشتكي ألم مفاصله، وظهره، ويشتكي صداعاً في رأسه، ومع ذلك لا ترضى عنه المرأة!! أي ودٍ هذا؟! وأي وفاء؟! كيف تسعد المرأة بحياتها وهي ترى زوجها يعاني كل هذه المعاناة، ولا تعيش معه على ذات يده؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح نساء قريش، كما روى ذلك الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)؛ لذلك كنَّ خير النساء

خديجة نعم المرأة الصالحة

خديجة نعم المرأة الصالحة تريد أن تعرف المرأة الودود؟ انظر إلى حال خديجة رضي الله عنها، سيدة النساء، ورد في الصحيحين من حديث عائشة ذكر بدء الوحي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء؛ ولما جاءه الملك وقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. وهزه هزاً عنيفاً، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يرجف فؤاده، وقال: زملوني زملوني، وقال لـ خديجة: لقد خشيتُ على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً -وفي روايةٍ وقعت في بعض روايات صحيح البخاري، قالت-: كلا. والله لا يحزنك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلْ، وتقْري الضيف، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) فانظر إلى كمال عقلها وصدقها وحسن مواساتها لزوجها! أما كمال عقلها: فلأن الإنسان إذا أصابه الروع والفزع احتاج أن يذكره أحد بمآثره وصفاته، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن كماشة النهري رحمه الله قال: دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فأقبل عليه ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أبتِ! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فواساهُ وذكره بالبشارات وهو بين يدي الموت، وهذا أدعى لأن يطمئن قلبه، فلما سمع ذلك أقبل عليهم، فقال: لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحلٍ في حياتي- رأيتني وما أحدٍ أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن متُ على هذا الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمتُ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله! ابسط يدك لأبايعك، فبسط يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو! أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبلهُ، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال: فما كان أحدٌ أحبّ إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأُ عيني منه إجلالاً له، ولئن سُئلت أن أصفه لكم ما استطعت ذلك؛ لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فلئن متُ على هذا الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة؛ ثم حدثت أشياء لا أدري ما الله صانعٌ بي). لما حضرت سفيان الثوري رحمه الله الوفاة انتفض وبكى، فقال له عبد الرحمن بن مهدي -تلميذه الوفي- ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ اسكن، فسكن، ففزع من الموت، فذكره أنه قادمٌ على الذي سجد له وركع، والذي كان يقوم له الليالي، والذي كان يتحمل الهجير في الصيام من أجله، فذكره وما كان سفيان يغفل وقد قضى حياته كلها لله عز وجل، لكنه الفزع الذي ينسي الإنسان حلمه ويزيل عنه عقله. فإذا وقع المرء في مثل هذا الفزع احتاج إلى حسن المواساة، وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده مما رأى وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي، فقالت -وصدرت ذلك بالقسم من قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) واستدلت بكريم شمائله، وجميل نعوته على أنه لا يخزيه، فقالت: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: العالة يحمله حملاً- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فكيف يخزى من هذه صفاته؟!!

خديجة من أكمل النساء

خديجة من أكمل النساء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة، ومريم، وفاطمة وامرأة فرعون) إن لـ خديجة رضي الله عنها الشرف في أن تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة؛ لأنها أول من آمنت به مطلقاً، قبل أبي بكر الصديق؛ ولأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، فآمنت به، فلها أجر كل مؤمنٍ إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فـ خديجة هي التي سنت سُنة الإيمان. وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً لهذه القاعدة: (ما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها)؛ لأنهُ أول من سن القتل، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه، يحمل كفلاً وتبعةً من كل رجلٍ قتل ظلماً إلى قيام الساعة. والذي يسن وينشر الدين والعلم والسنة في بلدٍ ليس فيها شيءٌ من ذلك؛ له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة.

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك واحذر أن تسقط من عين امرأتك بالكذب أو بالخداع أو بالمماراة الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، واعتبر بما رواهُ البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول من اتخذ المنطق هاجر، ثم ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام من الشام إلى مكة، وقد حمل هاجر وابنها إسماعيل إلى مكة، ولم يكن بها إنسان قط، فحملها وتركها في مكة ورجع إلى الشام، فنادته: يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يلتفت ولم يرد، ومضى، فتركت ولدها ومضت تعدو خلفه، حتى أدركته في عوالي مكة إلى من تتركنا وليس بمكة إنسي؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. فقالت: رضيت بالله) ورجعت هاجر وبقيت في مكة وحدها، تمضي عليها الليالي والأيام وهي وحدها، قضت فترة طويلة، ليس بمكة إنسان تأنس به لما قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وفي روايةٍ: (فلم يرد عليها، ولكن أومأ برأسه -أي: نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) وفي رواية البخاري: (قالت: رضيت بالله)، صدق الرجل له أثرٌ عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالُنا، وما نشزت امرأةٌ في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها، لأنه لم يقم عليها بحق القوامة. نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأت فيه رجلاً أميناً صادقاً وفياً، وكان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيرهُ- (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي على خديجة). يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء أن تغار من امرأةٍ ميتة، ولا تغار من نسوة يعشن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تغار من أم سلمة، ولا من أم حبيبة، ولا من حفصة، ولا من زينب وتغار من امرأةٍ ميتة! وهذا من لطف الله بنبيه حتى لا يتكدر عيشه. تقول عائشة: (ما غرت على امرأةٍ قط غيرتي من خديجة لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يذبح الذبيحة فيقطع الأعضاء ثم يرسل إلى صديقات خديجة، فقلت له يوماً: كأن ليس في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد). وفي إحدى المرات -كما في صحيح البخاري-: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة -وكان صوتها يشبه صوت خديجة، واستئذانها يشبه استئذان خديجة، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان- استأذنت هالة بنت خويلد، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -ارتاع أي: فزع، وهذا فزع الشوق واللهفة، وفي رواية أخرى: ارتاح لذلك- فقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعلها هالة، نفس الاستئذان ونفس الصوت- قالت عائشة: فغرت -مجرد الصوت يذكره بها فقلت له: وما تفعل بعجوزٍ حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها؟) قولها: (حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، وعديم الأسنان لا يبقى في فمه إلا حمرة اللثة وقولها: (أبدلك الله خيراً منها) أي: تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ليس عند البخاري: (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها عندما منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء).

المرأة الصالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله

المرأة الصالحة قانتة حافظة للغيب بما حفظ الله قال الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، ثم ذكر صنفي النساء أمام هذه القوامة. فالصنف الأول: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. والصنف الثاني: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]. فانظر بعدما ذكر القوامة قال: (فَالصَّالِحَاتُ) أي: اللواتي لا يهدرن قوامة الرجل، ويطعن أزواجهن، ووصفهن بذلك، وقد أتى بالفاء العاطفة التي تفيد الترتيب مع سرعة المبادرة. (فَالصَّالِحَاتُ) أي: يمتثلن مباشرةً إذا أمر الزوج بالمعروف وفي قدر الاستطاعة. (قَانِتَاتٌ) أي: طائعات لربهن. والمرأة التي تعصي ربها يسهل عليها أن تعصي زوجها، كيف تطيع زوجها وقد نكثت على ربها؟ لذلك ذكر أول صفةٍ إذا كانت فيها أتت بقية الصفات بعد ذلك. (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ): (تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فسُئل: من خير النساء يا رسول الله؟ قال: التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمتَ عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك). (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ): أي: لغيبة أزواجهن، إذا غاب الزوج تحفظ ماله وعرضه. قوله: (إذا نظرت إليها سرتك) ليس المقصود من هذا جمال الوجه؛ إنما المقصود به جمال الروح، فكثير من النساء يعشقن النكد، فلا يرى الرجل من زوجته إلا وجهاً عابساً يوحي عن عدم الرضا. (إذا نظرت إليها سرتك): دائمة البشر والابتسام، عندما تدخل عليها تشعر أن الدنيا كلها رجعت إليها وحازتها، وتفقد أغلى ما لديها إذا غبت عنها، فإذا ما رجعت ارتاحت وسكنت. قوله: (وإذا أقسمت عليها أبرتك): لا تحنثك في يمينك أبداً، مهما كان الذي حلفت عليه شاقاً عليها، هذه هي خير النساء، الذي يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود)، كثيرة الود، دائمة البشر. ويدخل في قوله تعالى: (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أن تحفظ المرأةُ غيب زوجها فلا يطلع عليه أحد، نساءٌ اطلعنَ على بعض عورات أزواجهن من فعل المعاصي، فإذا غضبت تفشي كل ذلك وتفضحه، تقول: إنه يفعل كذا وكذا، وتعدد ما غاب عن الناس، لماذا تفضحين زوجك عند الخلاف؟ هذا لا يجوز أن يقال إلا في حضرة القاضي أو المفتي، بشرط: أن يكون لهذا القول تأثيرٌ في الحكم، وإذا لم يكن له تأثيرٌ في الحكم؛ فلا يجوز للمرأة أن تفشي سر زوجها.

وفاء المرأة الصالحة وحسن شمائلها سبب لمحبتها

وفاء المرأة الصالحة وحسن شمائلها سبب لمحبتها في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحطم وثناً فوق الكعبة، فانطلق مع وعلي بن أبي طالب، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد فوق أكتاف علي ليكسره، فعجز علي عن حمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، له: اصعد أنت، فصعد علي على أكتاف النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بالوثن فكسره) فقالوا: إن من خصائص علي أن النبي صلى الله عليه وسلم، حمله ولم يحمل أحداً غيره، فرد شيخ الإسلام ابن تيمية -العالم الرباني المفتوح عليه- بقوله: لا شك أن من انتفع به النبي صلى الله عليه وسلم خير ممن انتفع بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان أبو بكر الصديق أفضل من علي بن أبي طالب؛ لأنه نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وليس لأحدٍ علينا منة ولا يدٌ إلا أبو بكر فله عليّ يدٌ يجزيه الله بها) وكأنه يقول: أنا لا أستطيع أن أجزيه بها، إنما الذي يجازيه هو الله تبارك وتعالى، فانتفاع النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي بكر أكثر من انتفاعه بأي أحدٍ؛ فلذلك كان هو الأفضل، فـ خديجة كانت أفضل النساء؛ لأنها نفعت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد نصرته في وقت عزَّ فيه النصير، وأنت إذا أردت أن تعرف شمائل الناس ونعوت الخلق فاختبرهم في وقت المحن ووقت الشدائد. جزى الله الشدائد كل خيرٍ عرفت بها عدوي من صديقي وقال آخر: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عَرْفِ العود فخديجة رضي الله عنها أفضل النساء، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما قالت له: (لقد أبدلك الله خيراً منها، قال: لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها)، وفي صحيح مسلم: (أنها أكثرت على النبي صلى الله عليه وسلم من اللوم في الثناء على خديجة، فقال لها: إني رزقت حبها) فحب الرجل للمرأة رزق كالولد والمال، فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! لا تلوميني، فأنا مغلوبٌ على الثناء عليها؛ لأني رزقت حبها). وحب الرجل للمرأة هو بسبب شمائلها. المرأة -أحياناً- تريد أن تسمع الثناء من الرجل بلسانه، مع أن الرجل يعاملها معاملة جيدة، وهي تلمس الحنان في تصرفاته وفي كرمه وعطفه وإغضائه عما يرى منها من المكروه، لكنها تحتاج إلى الكلام الحسن، فإذا الرجل لم يتكلم معها بكلام معسول تبدأ المرأة بلومه ومعاتبته وتقول: لماذا لا تقول لي كذا وكذا، فتلقنه كلاماً تريد أن يقوله لها، فالرجل قد يكون مقراً بفضلها ومعروفها لكنه لا يحسن صناعة الكلام، أو ربما لم يتكلم من علةٍ عنده، فالمرأة العاقلة لا تحمله على الكلام حملاً، وكل إنسان قد لا يعترف بالمعروف علانيةً، ولكنه يعترف بينه وبين نفسه في لحظة الصفاء، عندما يسكن يبدأ يقلب الأحداث، فتمر عليه المواقف، فيعرف الوفي من غير الوفي، ويعترف بذلك بينه وبين نفسه. إنك قد تخدع كل الناس في بعض الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، كل إنسان له لحظات يصفو فيها، فالمرأة لا تكدر صفو زوجها، لاسيما إذا لمست منه العشرة بالمعروف، وهنا قصة أذكرها لكم، وهي: رجل مرضت امرأته، فبكى عليها بكاءً شديداً، فقال له بعضهم: لِمَ تبكي عليها هذا البكاء؟ فقال: إنني أخشى لو ماتت ألا أجد مثلها، ثم شرع يقص بعض شأنها معه، يقول: لقد كانت ابنة مقاول كبير وشهير وصاحب مال، وكنتُ عاملاً عنده، فلما لمس المقاول مني الإخلاص والأمانة والجد والتفاني جعلني رئيساً للعمال، فمارست عملي الجديد بكل إخلاص وود، فأراد الرجل الذكي أن يحتفظ بماله عند يد أمينة، فقال: أزوج ابنتي من هذا الرجل، فزوجني ابنته، فحفظت هذا المعروف، وكنت فقيراً، لم يكن عندي من المال ما أستطيع أن أجعلها في مستوى معيشة أبيها، فكانت الأيام تمضي علينا لا نأكل لحماً، وكان موعدنا كل يوم جمعة عند أبيها على مائدة الغداء، فيأتي والدها بما لذ وطاب وما تشتهيه الأنفس وتسر به الأعين، قال: فكانت لا تأكل شيئاً من اللحم ولا الدجاج ولا البط، فيقولون لها: لِمَ لا تأكلي؟ فقالت: لقد تعبنا من كثرة أكل هذه الأشياء، نأكل دجاجاً ولحماً وبطاً كل يوم، رغم أنها تأكله ولا تراه، فهذه ليست من النساء اللواتي كلما حصل لهن شيء قدمن الشكاوى إلى أهلهن. يقول: وظلت على ذلك زمناً وأنا لا أعرف، حتى قالت لي والدتها: لا تجعل ابنتي تأكل لحماً دائماً حتى لا تأتي إلينا ولا تأكل معنا، فذرفت عيني، وصرت آخذ لها جزءاً من اللحم، فقلت له: يحق لك أن تبكي، فالمرأة لا تفضح زوجها ولا تكشف ستره أبداً. ليت نساءنا يتعلمن من خديجة رضي الله عنها، فقد استدلت على جميل نعوته فقالت: (إن الله لا يخزيك) فقد يبتلي الله عز وجل المؤمن، لكن لا يخزيه. ولذلك لم تقل: لا والله، لا يبتليك الله أبداً، بل قالت: لا والله، لا يخزيك الله، يبتلى المؤمن لكن يخرج من الدنيا بشرف، يخرج من الدنيا بالثناء الجميل والذكر الحسن بين الناس، مثل: الإمام أحمد بن حنبل. كان الإمام أحمد بعد المحنة أفضل منه قبل المحنة، وأخذ لقب إمام أهل السنة بجدارة، كما كان داود عليه السلام أفضل بعد المعصية منه قبل المعصية -المعصية التي ذكرها الله عز وجل في سورة ص- كما يقول ذلك ابن تيمية رحمه الله. فالإمام أحمد زكا ونما وصار اسمه علماً مع كثرة نظرائه في زمانه، كان هناك ألوف العلماء مثل أحمد بن حنبل في الذكر والعلم؛ وصار إماماً يقتدى به في علم الحديث وفي غيره من العلوم؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. استدلت خديجة على قولها: (كلا، لا يخزيك) بقولها بعد ذلك: (إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق) وفي غير صحيح البخاري، قالت: (وتؤدي الأمانة، وتصدق الحديث)، المرأة تعلم كل هذا من زوجها بالعشرة، لأن الرجل قد يخدع الناس في الخارج؛ لكن إلى متى يجامل امرأته؟ فهذه المرأة هي التي تعرف أسرار زوجها، ولذلك عندما يموت أحد الكبراء يذهبون إلى امرأته فيسألونها عنه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته من الذي جلاها لنا إلا أزواجه، إذا كنت تريد أن تعرف صدق الرجل ونبله فاسأل امرأته، بشرط أن تكون امرأة تتقي الله تبارك وتعالى وتخشاه، فلذلك خديجة كانت أفضل من عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سر فضلها على عائشة، نصرته في وقتٍ عزَّ فيه النصير. يقول صلى الله عليه وسلم: (وواستني بمالها)، وليس على الرجل غضاضة أن يستفيد من مال امرأته؛ لكن الرجل -أحياناً- لا يأخذ المال من امرأته لعلةٍ عنده، لكن إذا انتفت العلل فلا غضاضة عليه أن يستفيد من مال امرأته، كما استفاد ابن مسعود من مال امرأته، ومن قبله سيده وسيدنا صلى الله عليه وسلم عندما استفاد من مال خديجة، إذا كنت لا تخشى من امرأتك المن والأذى فاقبل مالها.

معرفة المرأة الودود

معرفة المرأة الودود إذا كان الود له الثقل الكبير في استقرار الحياة الزوجية، فكيف يعرف ود المرأة؟ أقول: كما أنك تستطيع أن تعرف المرأة ولود، فيمكنك أن تعرف أنها ودود أيضاً، فمن أين علمت أنها ولود؟ لا شك أنه بالنظر إلى أمها وأختها وعمتها وخالتها، فيندر أن تكون الأم ولوداً كذلك الأخت والعمة والخالة وتكون هي عقيماً، هذا شيء قد يحدث لكن نادراً، ومعروف أن الشاذ النادر لا يقاس عليه، إنما يقاس على الأعم الأغلب. كذلك إذا رأيت أمها تحب أباها وتكرمه وترفعه، فاعلم أن ابنتها تكون مثلها، وهذه مسألة مهمة جداً، أما الأسرة التي فيها مشاكل، الرجل يسب زوجته، والمرأة تسب زوجها، والمرأة تشتكي من زوجها لابنتها؛ فلو كان الزوج رجلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فالأم تحدث ابنتها بما حصل وتسب الرجل وتجترئ عليه، وتقول لابنتها: لولاكِ وإخوتكِ لتركت المنزل، فينطبع في ذهن البنت الخوف من الرجال، وتظن أن كل الرجال كأبيها، فيبقى عندها شهوة الانتقام أو بغض الرجل واستحقاره وعدم الوفاء له، كل هذا بسبب الأم، لكن إذا كان الرجل يتق الله عز وجل والمرأة كذلك، فيندر أن يخرج من هذا الجو الأسري الجميل بنت ناشز، وهذا يؤكد عليك وأنت تبحث عن المرأة أن تبحث عن البيت الذي يظلله الدين. كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، فيقول: أريد أن أتزوج فلانة، وقد كانت متبرجة ولكني أقنعتها بالحجاب، لكن أباها يتعاطى الحشيش، أو أمها كانت أوجدها كان إلخ، فأنصح هذا الشاب دائماً أن يبحث عن ذات الدين في البيت الذي يظلله الدين، صحيح أن يمكن أن تكون سيئة جداً ومتبرجة وراقصة، ثم قد تصبح من أفضل المؤمنات، وقد تكون امرأة في قعر الفاحشة ثم تصعد إلى قمة العفاف، لكن الشاذ لا يقاس عليه. أنت -مثلاً- لو جئت إلى امرأة متبرجة تكشف زينتها للأجانب، وقلت: أنا سأكسب فيها أجراً وسأتزوجها وأكون سبباً في هدايتها، فلما تزوجتها ما رأيت منها سعادة قط، فبعد ذلك تأتي وتشتكي، فنقول لك: يا أخي! العينة بينة، أنت تعرف أنها كانت كذا. وقد يتزوج الرجل امرأةً متحجبة، لكنها تريه النجوم في عز الظهر، فعندما يأتي ويشتكي؛ نقول له: أنت فعلت الذي عليك، وحظك هكذا، انتقيت وأخذت بالأسباب ولكن لم توفق. فانظر إلى الفرق بين الحالة الأولى وبين الحالة الثانية، الحالة الأولى: يلام؛ لأنه لم يأخذ بالأسباب الشرعية، والحالة الثانية، يحط عنه اللوم، ويُعزى ذلك إلى الغيب {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، فالذي عليك أن تبذل وتذهب إلى بيت يضلله الدين، الأب ملتزم والأم كذلك، فإذا تزوجت منهم ووجدت أن هذه المرأة تشقيك فعلى الأقل تكون مستريحاً بينك وبين نفسك؛ لأنك بذلت ما في وسعك.

الأولاد سبب في تقوية العلاقة بين الزوجين

الأولاد سبب في تقوية العلاقة بين الزوجين مسألة الود هي مسألة خفية، وكذلك مسألة الولادة مسألةٌ خفية، يستدل عليها بشيء خارج، وهذه القاعدة قلناها في أكثر من مناسبة، لما ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، هذا السرور عمل قلبي، ونحن لا نستطيع أن ندرك أعمال القلوب، فما الذي يؤكد لي أن هذا الرجل مسرور أو غير مسرور؟ فقال العلماء: ينصب لذلك دلالةٌ وعلامةٌ في الخارج يعلق عليها الحكم، فإذا لم تقم له غضب، فالغضب علامةٌ خارجية أنت تراها، يجدر بك أن تعلق الحكم عليها، فإذا غضب لأنك لم تقم له، دل ذلك على مدلول قلبه وأنه يسر إذا قمت له، فلما كان عمل القلب خفياً لا يعلمه إلا الله، نصب لك دليلاً خارجياً تراه بعينك فتعلق عليه الحكم، كذلك الودود الولود. الود والولادة نحن نصبنا شيئاً من الخارج مثل: البيت الذي يظلله الدين، والأم الولود، والأخت الولود، والخالة والعمة، فهذه كلها أشياء يصح أن تعلق الحكم عليها: (خير نسائكم من أهل الجنة الودود الولود). ذكرت كلاماً مجملاً في الخطبة وهو: أن الولد يمثل الأواصر بين الزوج والمرأة، والرجل كلما أحب المرأة فإنه يحب أولاده منها، وإذا كره المرأة قد يكره أولاده منها، والعبارة دقيقة؛ لأن الرجل عادةً لا يكره ولده، لكن قد يكره أولاده منها، وأولاد الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة -ما عدا إبراهيم، فمن جاريته مارية - ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ورزقني الولد منها إذ حرمني أولاد النساء) وأولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها هم: القاسم، وبه تكنى صلى الله عليه وسلم، والطاهر، والطيب -على قول لبعض أهل العلم- وقال بعضهم: بل هو عبد الله وكان يلقب بـ الطاهر والطيب واتفق العلماء جميعاً على أن كل الذكور ماتوا صغاراً، والباقي نساء، وهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، كلهن من خديجة رضي الله عنها. ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً لثمانٍ وثلاثين سنة، منها: خمس وعشرون سنة مع خديجة، ومن كرامتها عليه أنه لم يتزوج امرأةً معها أبداً، وليس معنى هذا أن الرجل إذا تزوج على امرأته أنه لا يكرمها أو يضيع كرامتها، لم يتزوج عليها وهي حية، وبعد خمس وعشرين سنة تزوج بعدها النساء، أولهن: سودة، ثم عائشة نكحها بعد موت خديجة بثلاث سنوات، رضي الله عنهن جميعاً. فالولد يمتن الآصرة، والمرأة إذا لم تلد تبحث عن كل سبيل ليرزقها الله الولد حتى تمتن الآصرة بينها وبين زوجها، وتظل خائفة إلى أن تلد.

أهمية دور الآباء في الإصلاح بين الزوجين

أهمية دور الآباء في الإصلاح بين الزوجين جاءت عمة شريح القاضي تزوره بعد سنة من زواجه بابنتها، قالت له: كيف وجدت امرأتك؟ قال: على ما يحب الصديق ويكره العدو، قالت له: يا أبا أمية! إن المرأة لا تكسد إلا في حالتين: أن يكون لها حظوةٌ عند زوجها، وأن يأتيها الولد. تعني بذلك: أن المرأة تتكبر وتكثر من طلباتها عندما يكون لها حظ عند زوجها، أي: يحبها كثيراً -لكن المرأة التي لم يرزقها الله الولد تتودد؛ لأنها تريد أن تعيش، لذلك يقل نشوزها عن المرأة التي لها حظوة ولها ولد، فالمرأة إذا كان لها أولاد، فإنها تعرف أن الرجل يحب الأولاد، فدائماً عندما يدخل الأب ويرى الولد ويقبله ويحاول أن يسمع صوته عبر سماعة الهاتف -إذا كان خارج المنزل- فتقوم وتعزف على وتر الأولاد، فتنشز عن زوجها وتأخذ الأولاد معها؛ لأنها تعرف أن زوجها لا يستطيع أن يعيش بدون أولاده؛ فيضطر أن يذهب إليها ليسترضيها ويخطئ نفسه ويعتذر حتى تعود إلى بيتها مع الأولاد، فهذه المرأة تعين شريح القاضي على ابنتها، وهذه من خير النساء. إن الأب الجيد عندما تأتي ابنته إليه غاضبة من زوجها فإنه يرجعها إليه مباشرة دون تحقيق ولا انتظار، ولا عقد محاكمة للزوج، ويكون قد أعلم ابنته قبل أن تتزوج أن المرأة إذا تزوجت فليس لها إلا بيت زوجها، ويعظم الزوج عند زوجته، بخلاف الذي يجمع ابنته وزوجها ويقول له: أنت مخطئ لماذا لا تعاملها بالمعروف؛ فيشجع ابنته على زوجها، وهذا خطأ، فهو بهذا الأسلوب يهدر قوامة الرجل، لكن إذا أراد أن يعاتبه فليعاتبه لوحده منفرداً، ويعيد إليه زوجته ويحفظ له كرامته، وقد يكون الزوج معوزاً فقيراً فأعطه بعض النقود أو هدية، وقل له: اعط هذا ابنتي عن طريقك، فأنت بهذا الأسلوب تكسب قلب الزوج، وفي نفس الوقت الهدية ستصل إلى ابنتك. هكذا كان خلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنته حفصة، كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث ابن عباس عندما قيل: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، قد كن هجرنه من الليل حتى الصباح، فجاء عمر بن الخطاب وقال لـ حفصة: أي: حفصة! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره من الليل حتى الصباح؟! قالت: نعم. قال: ما يؤملك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، ثم أوصاها بوصية -ينبغي لكل والد أن يوصي ابنته بها- فقال لها: لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك). ويقول عليه الصلاة والسلام: (نساء قريش خير نساءٌ ركبن الإبل، أحناه على ولدٍ، وأرعاه لزوجٍ في ذات يده).

تحديد النسل مخالف للشرع

تحديد النسل مخالف للشرع سئل: الرسول عليه الصلاة والسلام: (عن امرأةٍ جميلةٍ لا تلد، وعن أمةٍ تلد، فنصح بزواج الأمة التي تلد). لأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم)، إذاً كثرة النسل مطلوبٌ شرعاً، وتحديد النسل بالطريقة التي يدعو إليها المتهوكون لا تجوز شرعاً باتفاق العلماء، وما يجوز للفرد في ذاته أن يعمم على المجموع، فمثلاً: اتفق العلماء على أن الأذان فرض كفاية، وأنه لا يجب الأذان وجوب عينٍ على كل فرد، واتفقوا على أن رفع الأذان من أي فرد واجب، إذاً رفع الأذان بوقت الصلاة متعينٌ على مجموع الأمة، ساقطٌ عن كل فردٍ فيها إذا قام به أحدهم، فإذا جئت فقلت: إن هذا واجب عليهم جميعاً، فهذا منكر، كما قال العلماء. فالرجل يجوز له أن يباعد ما بين فترات الحمل بمانعٍ من موانع الحمل، فإذا جئت فقلت: هذا الجواز للفرد واجبٌ على المجموع، قال العلماء: هذا منكر ولا يجوز، إنما المسألة لكل فرد بقدر ظروفه وحالته، فالدعوةُ العامة إلى تحديد النسل من أنكر الدعاوى، وجريمة من أعظم الجرائم، ويتعذر هؤلاء المدعون أنه لا يوجد طعام ولا شراب، كأنهم هم الذين يرزقون الناس، لكن نحن نقول: دع الناس الذين بدون أعمال يعملون.

الإصلاح الإداري هو الحل لا تحديد النسل

الإصلاح الإداري هو الحل لا تحديد النسل في كل ميل مربع من الوطن العربي يعيش فيه ثمانية وسبعون فرداً، وفي أوروبا كل ميل مربع يعيش فيه مائة وثمانية وعشرون فرداً، نحن لا نعاني من كثرة الناس، فمثلاً: يبلغ عدد سكان مصر نحو الستين مليوناً، ويعيشون على (4%) من مساحتها، وهو الشريط الأخضر حول النيل وبعض البقاع المتناثرة القليلة. إذاً: المسألة فساد إداري لا كثرة أنفس، الضربات المستمرة الجائرة الظالمة لتوظيف الأموال كانت سبباً في هروب رأس المال إلى الخارج، فالمصريون كانوا يحولون كل عام أربعة مليار دولار، فتقلص هذا المبلغ كثيراً، وصاروا يودعون أموالهم في البنوك الخارجية. رجال كانوا من الأغنياء، كان معهم ستمائة ألف مليون، فصاروا يستحقون الآن أموال الزكاة بسبب ضرب شركة توظيف الأموال، وفي خلال ثلاث سنوات كان رأس مال بعض الشركات ثلاثة مليار وواحد من العشرة، أي: أن الناس كانوا يودعون كل سنة ملياراً، أين هذه الأموال؟ وهذه الصحراء ألا تحتاج إلى رأس مال؟ لماذا لا يقال للناس: اخرجوا إلى الصحراء، (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. قرأنا في جريدة الأهرام -قبل حوالي ثلاث سنوات- محنة أربعة إخوة جاءوا من سويسرا بعد خمس وعشرين سنة عمل، أول ما أعلنت الثورة الخضراء، وأن الذي يصلح أرضاً يأخذها، فذهبوا واشتروا ألف فدان، وظلوا يعملون أربع سنوات أو خمس، أنفقوا فيها تقريباً جلّ المال الذي جمعوه على مدار خمس وعشرين سنة، وبعد أن اخضرت الأرض، ذهبوا من أجل أخذ عقود التمليك، فأبوا أن يعطوهم عقود التمليك، لماذا؟ قالوا: سنبيع الأرض لكم بمبلغ وقدره كذا وكذا، لماذا تبيعونه، والصحراء مد البصر؟ يريدون أن يبيعوا لهم الأرض بعد أن أصبحت خضراء! ثم عجزوا عن أخذ عقد تمليك الأرض. أنا عندما أكون رجل أعمال وأقرأ هذا الخبر في الجريدة الرسمية، وأنهم عجزوا عن أخذ عقد تمليك للأرض، فلا أفكر أن أضع مالي أو رأس مالي كله في أرض ثم يأخذونها مني بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له). إذاً: المسألة فساد إداري فقط، (96%) من أرض مصر صحراء، وهناك رءوس أموال ضخمة جداً، فلماذا لا يطلق للناس العنان؟ نظموها واعملوا لكل رجل ألف فدان، ويدفع رسوماً معينة كنوعٍ من المعونة للصرف على الإداريين والموظفين القائمين على المشروع، ثم تطلق يدك فيها وتدعها للناس، بعدها سنخرج من مشكلتنا، أما أننا نقلص من نسلنا، والنصارى يعطون للرجل الذي يأتي بالولد الرابع علاوة إضافية، فهذا لا يوجد عندنا، بطاقة التموين التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لو أن أحداً لديه خمسة أولاد فإنه لا يكتب في البطاقة إلا اسم ولد واحد مع الأب والأم، مع أنهم قد جعلوا أربعاً وعشرين خانة للأولاد، من أجل تحديد النسل، ولقد صرفوا على تنظيم الأسرة الملايين، لو أحيوا بها أرضاً لأكل كل أولاد الدنيا منها، لكن كل هذا من أجل التنفير من كثرة الولد التي هي نعمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة) أفلا تحقق أمنية النبي عليه الصلاة والسلام؟ إذا كان هو يريد أن تكون الأمة كثيرة فمحبة له نتكاثر.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إمامة من به مرض سلس البول

حكم إمامة من به مرض سلس البول Q إمامٌ يصلي بالناس وعنده سلس بولٍ، فماذا يفعل في الوضوء، علماً أنه يتوضأ عند كل صلاة مباشرةً؟ A هذا لا شيء عليه، إذا كان هو أحفظ الناس لكتاب الله تبارك وتعالى، أو هو الإمام الراتب للناس، فمن صحت صلاته لنفسه، صحت لغيره، بشرط أن يتوضأ لكل صلاة.

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر Q عندنا شيخٌ يجيز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، ويستدل بأن السيدة عائشة كانت تصلي في الغرفة المدفون بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وسيدنا عمر عندما وجد الرجل يصلي إلى القبر قال له: القبر القبر، فمال يميناً أو يساراً ولم يأمره بإعادة الصلاة، إذاً: صلاته صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد من بعدي) إذاً: القبور التي لا تعبد يجوز أن يصلي المرء بجانبها؟ A هذا الكلام كله غير صحيح؛ لأننا نقول: هل لدى المدعي دليلٌ على أن عائشة كانت تصلي في الحجرة بعدما دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر؟ وهل كانت تسكن فيها؟ كل هذا كذب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأعداء الثلاثة

الأعداء الثلاثة أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة! هل لي بمحنك خطة تواجه بها ما ابتلاك الله به في هذه الحياة؟! إن هناك ثلاثة من الأعداء يتربصون بك. فهل حصنت جبهاتك النفسية والأسرية والاجتماعية ضد أولئك الأعداء؟! هل تعرف كيف تدافع عن نفسك إذا ما داهمك الشيطان؟ غزا دينك في عقر داره -القلب- مزيناً لك ما فيه هلاكك؟! هل تعرف ما تصنع ضد شياطين الإنس الذين يزينون لك الفواحش والمعاصي؟! ثم ألا تعلم أن نفسك هي ثالث أعدائك؟ وأنك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؟!

أهمية التخطيط للعمر

أهمية التخطيط للعمر إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فهل يروم النصرَ رجلٌ يقاتل عدوَّه بلا خطة؟! إن الجيوش إذا دخلت في حرب تضع خطة للنصر وأخرى للهزيمة. إذا انتصر ماذا يفعل؟ إذا استولى على أرض عدوه ماذا يفعل؟ إذا أخذ نصفها ماذا يفعل؟ كيف يحتفظ بالنصف الذي أحرز؟ وكيف يحرز النصف الذي أخفق في إحرازه أول مرة؟ وكذلك: إذا انهزم وولى وأدبر أينهزم هكذا خَبْطَ عشواء، أم ينهزم بخطة حتى لا يُدَمَّر، حتى يقلل الخسائر؟ أي جيش في الدنيا يدخل معركةً لابد أن يضع خطة يواجه بها كل احتمال.

شياطين الإنس

شياطين الإنس عدو الإنس قد يكون من أقرب الناس إليك {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14]، قد يكون من أقرب الناس إليك من يصدك عن الله، تريد أن تلتزم يصدك، خائن يريد أن يأكل رزقك، يريد أن يعيش عيشة الأنعام فيصدك لتكون مثله. يقول لك: التزامك يضرني فلا تلتزم. فإن قلت له: هل ودخولي النار لا يضرك؟! تعرضني لعذاب الله ولا يضرك؟! إن كنت تحبني أجب عن هذا السؤال. - يقول: إن التزامك يؤثر على منصبي. وتقول له: وانحرافي أنا يعرضني لعذاب الملك، أهذا يرضيك؟! - يقول: نعم. بلسان الحال وإن لم ينطق بها. كذلك قضى الله عز وجل على هؤلاء، على هذا النمط: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]، أعز ما يملك، يقول: يا رب! أدخلهم النار ونجِّني، فإن لم يكفِ هؤلاء {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12]، خذ امرأتي وأخي ونجَِّني، فإن لم يكف هؤلاء {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13]، خذ الأسرة كلها ونجِّني، فإن لم يكفِ ذلك {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] اعرف هذا! وبعض هؤلاء الأعداء لهم لسان جميل، ومنطق عذب، وقد يصادف عِيًّا في المريد فيضل ويهلك. وأنا أعطيك مثلاً لتعتبر به، كعب بن مالك كان أحد الأمراء في الجاهلية، فلما أسلم وتخلف عن غزوة تبوك ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجاء المنافقون يعتذرون إليه جاء كعب بن مالك من جملة من يعتذر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما خَلَّفك؟ قال: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الأرض لرأيتُ أنني أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -أي: أنا رجل مجادل صاحب لسان لا أُغلب، لكن الشوكة التي في ظهري أنني أمامك، لو كنت عند غيرك لعرفت كيف أخرج، وكيف أعتذر، وكيف أبكيه على حالي بالمنطق المقنع واللسان العذب- لكنني لو حدثتك حديثاً ترضى به عني يوشك الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، والله! ما كان لي من عذر. -إلى آخر كلامه- ثم خرج من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فقابله بعض أقربائه: ماذا قلت؟ قال: قلت: كذا وكذا وكذا. فقالوا له: والله! لقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله، ما نعلم أنك أذنبت إلا هذا الذنب- ألم تكن تقدر أن تقول له: اعتذر لي، هو ذنب واحد فقط، لو قال: اللهم اغفر لـ كعب ذهب الذنب، أنت ما الذي ورَّطك هذه الورطة؟ وجعلك تعمل من نفسك صادقاً، فرحت تدين نفسك هنا بلسانك- قال: فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي) هذا نموذج من رجل عنده جدل، فكيف بشخص ضعيف لا يستطيع أن يتكلم ولا يستطيع أن يدلي بحجة؟! ماذا سيفعل فيه مثل هذا الكلام؟ عدو الإنس يزين لك وهو أخطر من عدو الجن من أوجه: أولها: أن عدو الجن إذا استعذت بالله فر، وعدو الإنس ماكث لا يفر. ثانيها: أن عدو الجن لا تراه؛ لكن عدو الإنس يراك وتراه، وفي المشافهة والمخاطبة إقناع، بعض الناس يقتنع لمجرد أن يرى وجه المتكلم، وانفعاله وأساريره، وهذا له دخل كبير في الإقناع، ولذلك ليس مَن رأى كَمَن سمع، إذا كنت تستمع لخطبة الجمعة فإنك تنفعل بها وتؤثر فيك؛ ولكن خذ الشريط واسمعه بعد شهر، ستجده لا يؤثر فيك مثلما يؤثر فيك، وأنت تسمع الكلام المباشر. فشيطان الإنس أخطر، ولذلك احذره ألف مرة. ثم احذر نفسك التي بين جنبيك، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].

الأعداء الثلاثة الذين يتربصون بالإنسان

الأعداء الثلاثة الذين يتربصون بالإنسان أيها السائر الغريب التائه في دروب الحياة! هل لك خطة، تواجه بها أعداءك التقليد بين الثلاثة؟!! أولهم: شيطان الجن الذي قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، يأتيك من كل جهة ويحاصرك، ليس له هدف إلا أن يدخلك النار، يتربص بك الدوائر ليل نهار، ولا يفتُر عنك طرفة عين. العدو الثاني: عدو الإنس الذي يزين لك الباطل، ويُضْعِف قلبك ويسرق لبَّك. العدو الثالث: نفسك التي بين جنبيك تتقلب بها ليل نهار. هل لك خطة وأنت سائر على الطريق؟ ألك خطة تنجو من هؤلاء الثلاثة، وأنت وحدك لا تقوى على مواجهة واحد منها؟ يُفْجِعُ المرءَ أن يكون جواب أغلب الكافة: أن لا خطة! ثم يروم بعد ذلك أن يصل إلى الله سالماً! كيف الوصول وقد يسترقونك وأنت في الطريق.

الشيطان وعداوته للإنسان

الشيطان وعداوته للإنسان شيطان الجن الذي يزين لك كل قبيح، وهو الذي حادّ الملك، حادَّه ورفع عقيرته بخلافه، ولم يأبه به، فمن أنت؟ ما هي قيمتك، وأنت صيده الثمين؟ شيطان الجن، الله عز وجل ملكك أكتافه ونصرك عليه. إذا قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولى. مهما كان مارداً عاتياً لا يقف ولا يثبُت. فأنت بربك، وقوتك به، وإلا غلبت، ولو اجتمعوا عليك غلبوك يقيناً، فأنت عُذْ بالله لتنجو، فهل عرفتَه؟! إن دروب الحياة مهلكات، يتربص بك هذا الذي أظهر لك عداوته قبل أن يكون لك سن تقطع أو يد تبطش، أرأيتَ نذالة في عدو مثلما رأيت في الشيطان!! قال صلى الله عليه وآل وسلم: (ما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً) كل ولد أول ما ينزل من بطن أمه يصرخ، لماذا يصرخ؟ مسه الشيطان، وكزه، طعن في خاصرته، وهو طفل ضعيف، ما له سنه تقطع، ولا يد تبطش، ولا يدري شيئاً. مهلاً! يا عدو الله: لماذا تظهر عداوتك له من أول لحظة؟! وكزه، فلما وكزه صرخ، لهذا يبكي الولد إذا وُلِد. (ما من مولود إلا يستهل صارخاً ذلك أن الشيطان مسه إلا مريم وابنها)، ذلك أن امرأة عمران قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35]، خالصاً، محرراً من أية مصلحة، لا أريد الولد ليحمل اسمي، لا أريد الولد ليرث أملاكي، لا أريد الولد ليكون بصري إذا فقدتُ البصر، أو عكازي إذا فقدت قوتي، لا أريد الولد إلا لك، {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] من أية مصلحة، هل فعل نساؤنا ذلك؟ هل خطر على بال الواحدة وهي تنظر إلى بطنها أن تقول ما قالت امرأة عمران، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]. فلما أخلصت نيتها لله عز وجل امتن عليها بأربع نعم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37]. قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض رِيَّا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر ولياً فكيف وقد تقبلها بقبول حسن؟! {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:37]، تعاهدها منذ الصغر، {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]، موت الرجل من أعظم المصائب في حياة المرأة، وطلاق المرأة كسرها كما قال عليه الصلاة والسلام. لا يحس بما أقول إلا المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة وتنفق على أيتام لها، أو المرأة التي طلقها زوجها وضيَّعها أهلها. معنى: {كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37]: صانها ورفع قدرها وجنبها عناء مصارعة الخلق في الحصول على الرزق. وهذه نعمة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى امرأة لا تشكر زوجها). لماذا؟ لأنه يكفلها، ينتزع رزقها ورزق أولادها من مئات الأيدي والأفواه، ثم يأتي براتبه فيضعه بين يديها، فهي لا ترى غيره، وهو يرى ألوفاً، منهم اللئام، ومنهم الكرام، هذا الراتب مجهود فَعَلَه الرجل، لذلك إذا جَحَدَت خير زوجها مقتها الله ولم ينظر إليها. مريم مات أبوها الكفيل، فلم يُسْلِمْها ربها إلى الخلق، بل رزقها بغير حساب، وصان لها ماء وجهها. لقد أنعم الله على مريم بهذه النعم الأربع لماذا؟ لأن أمها أحسنت بأن وهبتها لله {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، ولذلك مريم وابنها عليهما السلام ما مسهما الشيطان. إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الشيطان يعلمك بعداوته برغم أنك لا تعقل، يقول لك: تذكر عداوتي، أنا ما نسيتك، ولذلك قال الله عز وجل {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]، أمعقول هذا الكلام؟! تتخذه ولياً وهو عدوك وتترك وليك الله الملك الحق فلا تواليه؟! {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]. فهذا عدو لدود ما هي خطتك في مواجهته؟!

زاد على الطريق

زاد على الطريق ما الذي يخفف عليك جفاف الدروب المهلكة؟ محبة الله عز وجل، إن الحب يطيل النَّفَس فيعطي القلب قوة، ويعطي الجوارح قوة. فما هي حقيقة الحب الذي نقول: ينبغي أن نعلمه أولادنا ليصدق انتماؤهم إلى الله ورسوله؟ وَقُود الانتماء: الحب، وجناحاه: الولاء والبراء. فما هو الحب؛ لأن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره؟ قال الناس: الحب إشارة إلى الصفاء والضياء. والعرب تقول إذا رأت أسناناً بيضاء متلألئة، تقول: حبب الأسنان. أو هو من الحباب وهو الشيء الذي يطفو على ماء المطر إذا نزل، فكأن الحب هو هيجان القلب وثورته إلى لقاء المحبوب. أو هو من اللزوم والثبات والاستقرار يقال: (أحبّ البعير) إذا برك ولم يقم؛ فكأن الحب هو لزوم قلب المحبوب، فلا يروم عنه تحولاً. أو كأنه من الحَب الذي هو أصل الشيء، كما أن الحَب هو أصل الزرع. فالحب هو إيثار المحبوب على المصحوب. وهو رعاية الحبيب في المشهد والمغيب. وهو إيثار الخدمة مع وافر الحرمة. الحب أن لا يكون لك إرادة مع من تحب، تنفعل له ولو كان بضد رغبتك. يخط الشوقُ شخصَك في ضميري على بُعد التزاوُر خَطَّ زوري ويُوهم منك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعُد فإنك نورُ عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنتَ مسروراً بهجري فإني من سرورك في سرور مسرورٌ أنك هجرتني! فأنا راضٍ وأنا مسرور، برغم أن الهجر للحبيب قوي وشديد؛ لكني مغلوب على ما تحب، فلا أرى إلا ما تحب، حتى لو كان بضد رغبتي. هو هذا معنى أن لا يكون لك إرادة، ولذلك ترى المحبين مهانين ليس لهم كرامة، ولو قال المحب: كرامتي، فليس بمحب، لكنهم مُهْدَرُو الكرامة، يُهان المحبُّ ويَذِل وهو راضٍ مستكين. وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما مَن يهون عليك ممن يُكْرَمُ شاكلتَ أعدائي فصرتُ أحبهم إذا كان حظي منك حظي منهمُ أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ أهنتني فأهنت نفسي جاهداً؛ لأن إهانتي ترضيك، ماذا يفعل بي عدوي أكثر من أن يهينني، فلما أهنتني وأهانني عدوي صرت مثل عدوي، فأحببت عدوي لأن فيه صفة منك، كما أن حظي منهم الإهانة، وحظي منك الإهانة أحببتهم لذلك. الحب: أن لا يكون لك إرادة مع من تحب. كان مالك بن نويرة رجلاً مسلماً، فلما تنبأت سجاح الكاذبة التي ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وفي أول خلافة الصديق، تابعها مالك بن نويرة، فلما أرسل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد ليؤدب المرتدين، وبلغه أن مالك بن نويرة تابع سجاح الكاذبة، وقال بعض المسلمين لم نسمع منهم أذاناً ولا إقامة، ورأى أنه كفر، أمر به فقُتِل وتزوج امرأته. أخوه متمم بن نويرة كان شديد الحب له، ما رأيت رجلاً تفجع في رثائه على أحد مثلما تفجع متمم على أخيه، فلما قتله خالد بن الوليد رثاه متمم بن نويرة بأبيات، فكان دائماً يبكي لا يُرى إلا باكياً، فمن شعره: فقال: أتبكي كل قبر رأيتَه لقبر ثَوَى بين اللوى فالدكادك فقلتُ له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك لا يرى قبراً على وجه الأرض إلا هو قبر محبوبه الذي دفنه فيه. دعني لا أرى قبراً على وجه الأرض إلا قبر من مات من أحبتي. فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك هذه طبيعة الحب وطبيعة المحب. فهل لما أرسل الله عز وجل نبيه بالهدى ودين الحق تأدبتَ بتأديب الله عز وجل إيانا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]؟ هذا هو معنى أن لا يكون لك إرادة مع محبوبك. إذا أمرك بضد هواك تسارع أكثر مما لو كان وفق هواك. هذا عنوان الحب؛ ولذلك جعل الله عز وجل الفعل علامة قائمة على ثبوت الحب فقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. تُحب! لابد أن تقيم دليل المحبة وهو الاتباع، وهو أن لا تخالف أمره في دقيق ولا جليل، ذلك عنوان الحب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

المحبة في القرآن الكريم

المحبة في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قد أكثر الله عز وجل في كتابه من ذكر المحبة: فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4]. وفي المقابل نفى الحب: فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]. {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، ولا المشركين. {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. فلما وقفت على الصيغة: (لا يحب)، ففتشت في القرآن عن لفظة (يكره) مسندة إلى الله. ما وجدتُ إلا مكاناً واحداً {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، وتعلق هذا الكره بالفعل. فلماذا (لا يحب) بدل (يكره)؟ قضيت ليلتي متفكراً، ما اكتحلتُ بنوم حتى أذن الفجر، وظللت بعد الفجر ساعتين لا أنام، أريد أن أصل إلى هذا المعنى، وفتشتُ في كتب أهل العلم في المظان، فما وجدت، فانقدح في ذهني معنى إن كان صواباً فمن الله عز وجل وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله مما يسبق إلى الخاطر، ووالله! لقد كان أحب إلي أن أقرأه لعالِم فأنسبه إليه ليزداد شرفاً. (لا يحب) أفضل مِن (يكره) مِن وجه واضح: أن ذكر الحب حتى في طريق نفيه يهيج على الحب، يبعث عليه ويذكر به، والله عز وجل لا يرضى لعباده الكفر، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء:147]. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب في كتابه الذي هو عنده أن رحمته تغلب غضبه). إذاً: هو يذكرهم بنعمه، فلما يذكر (لا يحب) فهذا يهيج على الحب بخلاف ما إذا قيل: يكره التي ليس فيها تهييج ولا تذكير بالحب؛ لذلك كان عدم الحب أفضل في الذكرى والتذكير لصالح العبد من الكره، مع أن الذي لا يحبه الله عز وجل يكرهه، لذلك قال (لا يحب).

اسم الله (الودود)

اسم الله (الودود) باب الأسماء والصفات ربما وقفنا عنده طويلاً لنعلم الناس كيف يحبون الله، لنعلم الناس صدق الانتماء إليه. أرأيت إلى هذه الصفة ما أجملها! وأرقها! وأحنها! الودود، لم تتكرر في القرآن إلا في موضعين اثنين، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90] وفي الآية الأخرى في سورة البروج: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، الصفات حين تقترن ببعضها تؤدي معنى عظيماً. رحيم من الرحمة؛ لكن صفة الرحمة اقترنت بصفة العزة في مواضع من القرآن، وتستغرب؛ فإن العزة معناها القهر والانتقام والبطش، فكيف اقترنت بالرحمة؟ تأمل في سورة الشعراء بعد ذكر قصة كل نبي، ويذكر الله عز وجل لنا كيف أهْلَكَ المكذبين، يُتْبِع كلَ قصة بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، عزيز لأنه أهلك المجرمين، رحيم لأنه الطائفة المستضعفة، فصفة الرحمة من الممكن أن تقترن بالعزة، وصفة العزة دائماً صفة استعلاء، {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:23]، {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4]، {الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود:66]، {عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42]، صفة العزة صفة هيمنة وجبروت واستعلاء؛ لكن من الممكن أن تقترن بالرحمة. الغفور من الممكن أن تقترن بالعزة {الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]. لكن الود لم يقترن إلا بالرحمة والمغفرة، فإذا ذكر الود فاعلم أن كله رحمة أوله وآخره. فانظر: ودود (فعول)، كثير الود، والود من المستغني جميل، إذا تودد الضعيف يقال عنه: يتزلف، منافق، له مصلحة، إذا تودد المحتاج لم يكن لِوُدِّه ذلك المعنى الذي يكون للمستغني، ولذلك قال العلماء: الزهد من الأمير حَسَن، رجل فقير وزاهد، أنت تقول: وهل هو لاقٍ شيئاً؟! فبالطبع لابد أن يزهد، ليس عنده شيء؛ لكن إذا رأيت أمير المؤمنين يزهد عَظُم في نظرك الزهد ورأيتَ له طعماً. والقادر إذا عفا وغفر كان لغفرانه طعم. فالله عز وجل المستغني العزيز له الأسماء الحسنى والصفات العلا يتودد إليك، وهو لا يحتاجك، فما أجمل هذه الصفة في موضعها! لا سيما إذا سُبِقت بالرحمة وسُبِقت بالمغفرة. أتفر منه؟! يهون عليك ويقوى قلبك على مشهد العصيان له؟! والله! ما هذا بالنَّصَف، ما هذا بالإنصاف، وهو المتفضل عليك، نعمه عليك من شَعَر رأسك إلى أخمص قدمك.

التوكل على الله وحسن الظن به

التوكل على الله وحسن الظن به إن الذين تنفك عزائمهم في المحن لا ينظرون إلى الله حال الابتلاء؛ لكن ينظرون إلى كيد العدو، لذلك تنفسخ العزائم؛ إذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا اخرج، سأل نفسه سؤالاً: أنا لو خرجت فمن أين آكل؟ أين أبيت؟ هذه هي الجهة التي نظر إليها! هل لما ولى وجهه قال: الله يؤويني ويسترني، ولا يضيعني وقد أطعته، وقد حفظني وأنا عاصٍ له. فلا تظْنُن بربك ظن سَوء فإن الله أولى بالجميل لكن الجهة التي ينبغي أن يَنْظُر إليها ليس فيها أحد؛ لذلك انفسخ عزمه. التوكل على الله عز وجل أصله اعتماد القلب على الله. أيها المبتلى! أنت عبده، وأنت من خلقه، وإنما أنزل إليك الكتب وأرسل الرسل ليحمِيَك من عدوك، فاطمئن، لن يُسْلِمَك، وسيذكرك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. الله حسبك وكافيك، وانظر ما أجمل هذه الصفة! صفة الحَسْب، حَسْب، كل حَسْب ورد في القرآن مَعْزُوٌّ إلى الله عز وجل فهو خالص له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، لم يشركوا مع الله أحداً في الحَسْب. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62]. ثم انظر إلى هذا الموضع الجميل الجليل الدقيق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فلما ذَكَر الإيتاءَ ذَكَرَه لله ورسوله، ولما ذكر الحَسْبَ أفْرَدَ نفسَه به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا الله} [التوبة:59] لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل أفردوا الله بالحَسْب، إذ لا يقدر على رفع الضر إلا الله، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18]. فالحَسْب اعتماد القلب على الله، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، هذا هو الحَسْب، فإذا اعتمدت في وقت المحن بقلبك على الله عز وجل لا يُسْلِمُك إلى عدوك. إن العرب في الجاهلية وهم جهلاء كفروا بالله ورسوله، كان الرجل الضعيف إذا استجار بواحد قوي، وقال الرجل: هو جار لي، لا يقدر أحد على إيذائه لِمَنَعَتِه وقوته، فإذا دخلت في جوار الله عز وجل تظن أن الله يُسْلِمُك؟! تظن ذلك؟! لله در أبي بكر -رضي الله عن أبي بكر - لما خرج -كما في صحيح البخاري- مهاجراً وولى وجهَه شطر البحر قابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومك، أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال: يا أبا بكر مثلك لا يَخْرُج ولا يُخْرَج، ارجع وأنا جار لك -أنت في حمايتي- ثم ذهب ابن الدغنة إلى الكعبة ونادى في الناس: ألا إني أجرت أبا بكر، فما تعرض أبو بكر بعدها لأذى. وكان أبو بكر يصلي وقد اتخذ مسجداً في داره، فكان يصلي داخل الدار، فمضى وقتٌ، فبدا له أن يبني بيتاً في فناء الدار -خارج الدار- وكان أبو بكر رجلاً أسيفاً كثير الأسف سريع الدمعة، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، فكان إذا قرأ وبكى اجتمع النساء والولدان عليه يتفرجون -ما هذا الشيء العجيب؟ أول مرة يرون رجلاً يبكي، ويسمعون كلاماً يقطع نياط القلوب- فلما رأى المشركون هذا المنظر، قالوا لـ ابن الدغنة: ما على هذا اتفقنا، مر صاحبك يدخل الدار؛ لأننا نخشى على نسائنا وأبنائنا أن يفتنوا، وإلا فرد جوارك، لن نسكت، لا نرضى أن نخفر جوارك، فجاء ابن الدغنة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال: يا أبا بكر صل إن شئت في دارك ولا تستعلن وإلا رد علي جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أنني أخْفِرْتُ في جواري، قال أبو بكر: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل. فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل باب الأسماء والصفات باب خطير في زيادة الإيمان، وتأمل الأسماء المقرون بعضها إلى بعض، تزدد بها إيماناً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسَنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هَزْلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الغربة والتمكين

الغربة والتمكين الغربة الحقيقية ليست هي الغربة عن الأوطان والأحباب، لأن صاحب هذه الغربة قد يجد من يؤنسه في غربته، وقد يرتاح فيها أكثر مما هو في وطنه، ولكن الغربة الحقيقية هي غربة الدين، فغريب الدين غريب بين أهله وذويه، وبقدر الصبر والاحتساب في هذه الغربة يكون الاستخلاف والتمكين؛ تصديقاً لموعود الله جل وعلا.

اقتران الغربة بالاستضعاف

اقتران الغربة بالاستضعاف إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فسورة القصص سورةٌ مكية، جميعها خلا آيتين تنازع فيها أهل العلم؛ لكن الطابع العام لهذه السورة يدور حول ذكر الله الاستضعاف، وحول أخذ أسباب القوة، ونحن في أشد الحاجة إلى طرح هذا الموضوع، لاسيما وقد صرنا الآن في مفترق الطرق، وكثير من الناس لا يدري أين يقف بعدما حدث تغريب شامل. وصف الغربة وصف لازم للاستضعاف، فالاستضعاف والغربة قرينان، قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7]. التمكين يحتاج إلى التفكير في هذا الموضوع من وقت الرضاعة، هذه الأجيال المنهزمة التي لا تستطيع أن تجد لها الآن موضعاً على وجه الأرض؛ السبب قديم: من أراد أن يمكن له في الأرض فليبدأ بتربية ولده من وقت وضع النطفة. ذكر الله عز وجل أنه يريد أن يمن على بني إسرائيل، ويرفع هذا الاستضعاف ويمكِّن لهم، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] هذا هو بداية التمكين لبني إسرائيل، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذا هو الوضع العام، الناس شيع وأحزاب ومستضعفون، لا يملكون لساناً ولا يداً مع فرعون، فالغربة والاستضعاف قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر. وإنما ساق الله عز وجل هذه القصة للنبي عليه الصلاة والسلام ليقول له: إننا كما مكنا لموسى ومكنا لبني إسرائيل فإننا سنمكن لك وذكر في آخرها قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]. سورة القصص هي السورة الوحيدة التي تعرضت لميلاد موسى عليه السلام، وقصة موسى عليه السلام ذكرت كثيراً في القرآن، لكن ما عرفناها إلا من بدء رسالته إلى فرعون، فتطرقت هذه السورة إلى ذكر ميلاد موسى. ما أحلم الله عز وجل! لو أراد أن يأخذ فرعون لأخذه، لكن ربى له رضيعاً، ما أحلمه عن عباده! ولو كان الله عز وجل يعجل كعجلة أحدنا ما أبقى على ظهرها من دابة. فقه هذا الأمر ضروري: أن تعرف أنك غريب، يعني: مستضعف، ومستضعف يعني: غريب. إن رجوع الجيش المنهزم رجوعاً صحيحاً، وانسحابه انسحاباً صحيحاً يُعَدّ باباً من أبواب الانتصار، حتى ولو لم يحرز تقدماً، لكن يكفي أن يرجع بلا هزيمة وبلا خسائر جسيمة، لأن المسألة كلها مناورات، فإذا وجدت الفرصة أمامك فتقدم، ولا تندم ولا تحزن إذا رجعت أضعاف ما تقدمت، المهم: أن تكون كما أمرك الله عز وجل {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] لا يضرك أن ترجع مائة خطوة إلى الوراء طالما أنك مستقيم على الأمر، فإن الله عز وجل إذا أراد أن يمكن للمسلمين مكن لهم في أقل من طرفة العين، لكن لابد من وضع الكلام في مكانه الصحيح، والفعل في مكانه الصحيح، مسألة التقدم والتأخر هذه مسألة ترجع إلى الضغط الذي نعيشه، نحن الآن نعيش في زمان الغربة الثانية، لكنَّ هناك فروقاً جوهرية بين الغربة في الأوائل الغابرين، والغربة في الخالفين. إن فشل الجماهير الغفيرة في الإجابة على سؤال بدهي هو السبب في هذه المأساة التي نعيشها الآن، سؤالٌ مكوّنٌ من كلمتين اثنتين، إذا سألته لأي رجل كأنما باغته، ويضل فترة يفكر في الجواب. تعثر الجماهير في الإجابة عن هذا السؤال هو سبب المحنة التي يعيشها المسلمون من قرون، هذا Q لماذا نتزوج؟ اسأل أي رجلٍ هذا السؤال يشعر بمفاجأة، ويفكر قليلاً، معنى هذا الوقوف: أنه لا يدري لماذا تزوج، كبر وبلغ ويريد أن يتزوج، هذه كل الحكاية؛ لذلك كانت هذه الجماهير الغفيرة هم أولاد الذين تعثروا في هذه الإجابة، فخرجوا للحياة بلا هدف. اليهود خمسة عشر مليوناً فقط، لو بصق كل رجلٍ مسلم بصقة لأغرقناهم، يملكون المال والسياسة والإعلام والاقتصاد والزراعة كل أسباب الحياة في أيدي اليهود. لما اطلعت مرة على مذكرات جولدا مائير هذه المرأة التي رأست الحكومة في إسرائيل، قالت: إنها بدأت تفكر في محنة الشعب اليهودي وعمرها أربع عشرة سنة، وبدأت تعد نفسها لتحمل المسئولية وهي في هذا السن ماذا يشغل أحلام نسائنا؟! أنا لا أسوق هذه القصة على أساس أن جولدا مائير في موضع الحجة لا، إذا أردنا الحجة إنما هم الصحابة الأكارم، الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أضرب مثلاً معاصراً. امرأة كافرة استطاعت أن تصل إلى قمة الهرم -الحكومة- بدأت هذا الشعور وعمرها أربع عشرة سنة! لماذا يحتقر الإنسان نفسه؟ إنك لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، سل أي عظيم: هل كنت تتوقع أن يقال: فلان الفلاني إمام الأئمة؟ يقول لك: أبداً، ما خطر ببال أي إمامٍ تعقد عليه الخناصر أنه سيكون إماماً، فلو كل إنسان احتقر نفسه، واستسلم للفساد الإداري الذي قتل العباقرة ودفن الأذكياء؛ لما ارتقت أمةٌ أبداً. لذلك قد تجد اختلافاً في تحديد ميلاد العالم، لأنه يوم ولد كان مولوداً مثل مئات المواليد، لا نباهة له ولا ذكر، ولا ندري أيكون عالماً أم قاطع طريق؟ لكنه يوم مات دونوا وفاته بالساعة، بل بالثانية لماذا؟ لأنه ما مات حتى كان علماً كبيراً ملأ الأرض. فنحن في زمان الغربة، لكن نوعية الغريب اختلفت، الغريب الأول يختلف عن الغريب الذي بعده.

حقيقة الغربة

حقيقة الغربة أصل الغربة هو التفرد، ألا يكون لك شكلٌ ولا نظير، هذا هو معنى الغريب، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله يتوجع من هذه الغربة التي شعر بها في بلده وبين أهله لما كان يدعو إلى السنة، وقام له أصحاب التعصب، فأنشد متوجعاً: وما غربة الإنسان إلا في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بدٍ وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي هذا هو معنى الغربة، ليس الغريب هو الذي يترك بلده ويسكن في بلدٍ أخرى، فإن الغريب قد يأنس في دار الغربة، ويتخذ له أصحاباً وأخداناً أفضل من الذين تركهم، وهذه القاهرة أغلب الذين يعيشون فيها ليسوا من أهلها، فكيف استقر بهم المقام حتى أنهم نسوا مسقط رأسهم؟! إن الغريب قد يأنس في دار الغربة، لذلك لما نصح النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر أن يتجافى عن دار الغرور، قال له: (يا ابن عمر! كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) و (أو) ليست تخييراً أن يختار الغربة وأن يكون عابر سبيل لا، إنما ترقى النبي صلى الله عليه وسلم به، (أو) هنا: بمعنى بل، يعني كن في الدنيا كأنك غريب بل عابر سبيل، كقول الله عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77]، يعني: بل هو أقرب من لمح البصر، وكقول الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] يعني: بل يزيدون، لأن الغريب قد يأنس في دار الغربة بأن يجد له شبيهاً أو نظيراً. والمقصود من الموعظة أن يتجافى ويشعر بالوحشة الدائمة وهو في الدنيا، فالغريب قد يأنس، فقال له: لا، لا تكن غريباً، بعدما قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب} ثم كأنما استدرك فقال له: لا تكن غريباً؛ لأن الغريب قد يأنس، بل عابر سبيل؛ فإن عابر السبيل مستوحشٌ دائماً، لا يكاد يضرب فسطاطه فينام حتى ينقصه ويمضي، ومثل الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، فلو أن صاحب الشقة المفروشة تعطل عليه (صنبور) الماء فإنه لا يصلحه فإذا قلت له: لماذا لا تصلح (الصنبور)؟ يقول لك: أصلاً هي مفروشة، وأنا سأتركها وأمضي. لا يهيئ فيها شيئاً، لكن إذا رزقه الله عز وجل، واستطاع أن يشتري شقة تمليك فإنه يتصرف تصرف الذين لا يموتون، كل شيء يخطر بباله من أسباب الرفاهية والنعيم يأتي به الدنيا والآخرة كمثل الشقة التمليك والشقة المفروشة، المفروض أن العبد العاقل يكون مستوحشاً دائماً وهو يمضي إلى الله؛ لذلك ترقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام: لا تكن غريباً بل كن عابر سبيل، فليست الغربة أن تترك بلدك وتترك أهلك وتدخل مع آخرين، ليست هذه هي الغربة، وهذا هو معنى كلام الخطابي رحمه الله: وما غربة الإنسان في شقة النوى أي: في البعد. ولكنها والله في عدم الشكل ألا يكون لك نظير.

غربة أهل السنة والجماعة

غربة أهل السنة والجماعة أهل السنة والجماعة في وسط المبتدعة غرباء، فهم يعاملون في وسط المبتدعة معاملة الأقليات المسلمة في بلاد النصارى، فهذا نوعٌ من الغربة، ولذلك عندما تقرأ عقائد أهل السنة تجد أنهم يذكرون من جملة العقائد مسائل فقهية، يعني يقول لك مثلاً: ومن عقائدنا: أن نصلي خلف كل برٍ وفاجر -مع أن هذه ليست عقيدة- ومن عقائدنا: أن نجاهد مع كل برٍ وفاجر، ونرى المسح على الخفين. متى ذكر المسح على الخفين في العقائد؟! هذه كلها أحكام فقهية. إذاًَ لماذا ذكروها في العقائد؟ لأنها مباينة لسنن المبتدعة في ذاك الوقت. لو كتبنا عقائدنا الآن لقلنا: ومن عقائدنا؛ إعفاء اللحية، ومن عقائدنا؛ النقاب فلماذا نذكر هذا؟ لأن هذا هو شعار الغريب وشعار الغريبة، شعار الغريب: أن يعفي لحيته، وشعار الغريبة: أن تلبس نقابها، والحرب الضروس قائمة على الاتجاهين، وقائمة على النساء بصورةٍ أشد، وهذا من جملة الغربة. إنسان يركب حافلة فيها أكثر من خمسين رجلاً، وعندما تقف الحافلة في أي نقطة تفتيش، ينظر المسئول في وجوه الركاب، فإذا رأى رجلاً أعفى لحيته قال له: تعال وإن عامله بالحسنى نظر في البطاقة وتحقق، هذا إن أحسن إليه، وإلا فإنهم يأخذونه وينزلونه. ما هي جنايته؟! أنه حمل شعار الغربة، ورفع هذا الشعار، فقط هذه جنايته. المرأة المنتقبة تحرم من دخول الجامعة، لماذا تحرم من دخول الجامعة، ومحكمة القضاء الإداري العام قبل الماضي أخرجت حكمها، ونشر في جريدة الأهرام -الجريدة الرسمية- أنه لا يوجد قانون يحدد زياً معيناً؟ فمن حق المرأة المنتقبة أن تدخل الجامعة، وصدر القرار، واستحدثوا قرارات جديدة، تمنع المرأة المنتقبة من دخول الجامعة فرفعنا قضية فكسبناها، ثم بعد فترة ينزل قرار جديد فتمنع من دخول الجامعة وهكذا، هو هذا الجديد في الموضوع، فهذه غربة! يسمح للمرأة أن تمشي (بالمايوه) على شاطئ الإسكندرية أو في المصايف، ويقال: هذه حرية شخصية! حرية العري، اجعلوا في مقابلها حرية التستر فهذا أيضاً من العدل. هذه غربة، بعض الغرباء يفرون منها، فنراه يحلق لحيته ليستريح، وهذه تخلع نقابها لتستريح نقول: لا، إن شعار الغربة شرف، لا تتركه! إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، ويعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) هذا هو الجزاء، وهذا هو الشرف لماذا تتركه؟ (إن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة). طوبى لهم وحسن مآب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، يمشي الجواد المضمر -المسرع- في ظلها مائة عام لا يقطعها) فهذه شجرة الغرباء. فنحن عندما نذكر المسح على الخفين في جملة عقائدنا فإننا نذكره كما ذكره العلماء قبل ذلك، وكان من شعار المبتدعة ألا يمسح على الخفين، فاضمحل هذا الخلاف، وصار في الكتب، وقلما يتنازع عليه أحد. اللحية تصلح أن تكون جزءاً من عقائدنا وإن كانت حكماً فقهياً، لكنها صارت قضيةً، وصار يميز بها الغريب في زمن الغربة.

الفرق بين غربتنا وغربة الأوائل وسبب تمكينهم

الفرق بين غربتنا وغربة الأوائل وسبب تمكينهم هناك فرقٌ بين الغرباء الأوائل وسبب تمكينهم، وبين غربتنا نحنُ وعدم تمكيننا. انظر إلى مؤتمر صانعي السلام والذي كان أحد أعضائه الرئيس الروسي الذي حارب الشيشان ودهسهم بالدبابات، أهذا يوضع في صانعي السلام؟ وشمعون بيريز الذي ما زالت يده تقطر من دماء المسلمين! إنها المأساة، أو قل: هي الملهاة، فأي غربةٍ للإسلام والمسلمين أعظم من ذلك؟! إن هذا المؤتمر كان سرادق عزاء للقتلى في إسرائيل، كأنما يقولون لهم: لا تخافوا حتى وإن قتل منكم مائة رجل؟ قد حشرنا لكم الدنيا كلها لتؤيدكم، وليقولوا لكم: نحن معكم. لماذا لم يعقد هذا المؤتمر يوم قتل الوغد الكافر - شمعون - مائة مسلم ساجد في المسجد الإبراهيمي؟ وهناك نشروا بعد حرب الخليج أنهم يفكرون في الدولة البترولية الجديدة التي تخضع للنظام العالمي الجديد، وإن لم يستيقظ المسلمون من غفلتهم فإنهم سينفذون هذا المخطط كما نفذوا حرب الخليج -حرب الخليج تطبق من سنة خمس وسبعين- ما عرفنا هذا إلا بعد نشر المذكرات السافرة، والمفروض أن هذه المذكرات تكون سرية؛ حتى ينفذوا الدولة البترولية الجديدة على الأقل، لكنهم يعلمون أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نفعل، هم متأكدون من ذلك، لذلك ما عندهم سر، السر عندهم علانية، والعلانية سر، إذا كان عدوه بهذا الاستضعاف وهذا الهوان! فالدولة البترولية الجديدة -التي هي المنطقة الشرقية في السعودية مع الخليج- قالوا: ليس معنى أن البترول في أرضكم أنكم ستتحكمون بنا لا، البترول هذا ملك البشرية، وليس من العدل أن توضع مصادر الطاقة في يد جماعة من الأعراب، لابد أن النظام العالمي الجديد والمقصود به هيئة الأمم المتحدة متمثلةً باللجنة الثلاثية والرباعية والخماسية، توزع البترول على العالم، فمثلاً: أمريكا تحتاج الكثير من البترول، فنعطيها، والدول العربية لا تحتاج إلى بترول بالمرة فلا نعطيها، هذا هو النظام العالمي الجديد، وهذه هي الدولة البترولية التي ستكون منزوعة رغم أنف مالكي الأرض، هل توجد غربة أكثر من هذه؟! ويظهرون علينا كل يوم بمثل هذا ونحن نشجب ونستنكر، فلو سمعت عن محجمة دم أريقت في أي مكان في الكرة الأرضية فاعلم أنه دم مسلم، حتى عبّاد البقر الذين هم أذل الخلق أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، وكأنه لا يوجد مليار مسلم على وجه الأرض، كأنهم موتى جميعاً. هذه غربة طاحنة، أين الغرباء الذين ما عرفوا حقيقة غربتهم؟! اختلف بعضهم مع بعض في قضايا جزئية وسع السلف الخلاف فيها، تعجب لغريب يتشاجر مع غريب وعدوهما ممسك بالسلاح، لابد من دراسة الخلاف، ولابد من معرفة أدب الخلاف، ما وسع السلف الخلاف فيه يسعنا، لسنا أفضل منهم ولا أورع، ولا أفقه في دين الله منهم، ما يسعك فيه الخلاف امض واترك أخاك، وادخر هذا الجهد لعدوك وعدوه أيضاً، نحن غرباء ليست لنا رسالة، وليس لنا هدف واضح. الصحابة الأوائل كان هدفهم واضحاً كالشمس؛ فانصرفوا بقوة قلبٍ لا يلوون على شيء، إذا لم تستطع أن تعبد الله في أرض، فاتركها، فأنت ما خلقت لتكون مصرياً ولا لتكون سعودياً ولا فلسطينياً، خلقت لتكون عبداً، فإذا عجزت عن تحقيق العبودية في مكانٍ ما وجبت الهجرة، وهذه الهجرة الواجبة إلى يوم القيامة والتي لا تنقطع؛ هجرة تحقيق العبودية لله، الهجرة من السيئة إلى الحسنة، ومن المعصية إلى الطاعة، هجرةٌ دائمة. قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن على فتوى لشيخنا الإمام، حسنة الأيام، وعالم بلاد الشام، بل عالم ديار الإسلام، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ومتع به، لما سأله سائل: قال له: نحن في فلسطين لا نستطيع أن نقيم شعائر ديننا، فماذا نفعل؟ قال: اتركوها. فقال السائل مستنكراً: نتركها لليهود؟! قال: نعم، اتركوها ثم ادخلوا عليهم الباب. قامت الدنيا ولم تقعد، وحرفت فتوى الشيخ، فقيل: إن الشيخ يقول هاجروا من فلسطين ودعوها لليهود. وتعرض للطرد من الأردن بسببها لولا شفاعة الشافعين، أهو قال ذلك أم أن المفتي أسير السؤال؟ صار عندي قناعة: إذا أخطأ عالمٌ في فتوى يكون السؤال خطأً، فنسبة الخطأ للسائل أولى من نسبتها للعالم، فلو لم يكن في المسألة إلا خطأ السائل أو خطأ المجيب لكان إلصاقه بالسائل أولى، السؤال خطأ، فخرج الجواب على مقتضى الخطأ. لا تستطيع أن تقيم أو تحقق العبودية في أرض ما، لا تكن أسير الأرض، وخذ الأسوة والقدوة من أبي بكر رضي الله عنه، كما رواه البخاري في صحيحه أن زيد بن الدغنة قبل أن يسلم رأى أبا بكر متجهاً إلى ناحية البحر: - فقال له: إلى أين يا أبا بكر؟ - قال: أسيح في الأرض وأعبد ربي. أخرجني قومك. - قال: يا أبا بكر! مثلك لا يَخرج ولا يُخرج -خروج مثلك خسارة، سواء خرج من تلقاء نفسه أو أخرج- إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، ارجع وأنا جارٌ لك. أنت في حمايتي وفي عهدي، لكن لا تخرج، وذاك مسلم وهذا كافر. فرجع أبو بكر، وذهب زيد إلى الكعبة ونادى: - يا معشر قريش! أبو بكر في جواري. خلاص كلمة شرف، والعرب كانوا يحترمونها، فابتنى أبو بكر له مسجداً داخل الدار، ثم بدا له أن يبني مسجده في فناء الدار، وكان أبو بكر رجلاً بكاءً رقيق القلب، إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه، وكانت هذه صفة عنده رضي الله عنه، حتى لما مرض النبي عليه الصلاة والسلام مرض الموت، وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -كثير الأسف، كثير الحزن، متصل العبرة- إذا بكى لا يتبين الناس قراءته من البكاء. فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). (صواحب يوسف): عائشة خشيت أن يتشاءم المسلمون بـ أبي بكر؛ لأنه هو الذي خلف النبي عليه الصلاة والسلام فيتشاءموا به، فأرادت أن تجنب والدها هذا الشعور الذي تشعر به، فقال: إنكن صواحب يوسف: أي تقلن غير الذي في بطونكن، ليست المسألة أن المسألة أنه يبكي أو لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فهذه كانت طبيعة الصديق الأكبر رضي الله عنه. فلما كان يصلي في الفناء كان يبكي، ويتجمع النساء والولدان عليه ليشاهدوه، منظر غريب! أول مرة يرون رجلاً يقرأ ويبكي، فلغرابة المنظر كانوا يتقذفون عليه، فخشي كفار قريش أن يؤمن الناس إذا رأوا هذا المنظر، وسمعوا آيات الذكر تخرج من قلبٍ حار بلسان حار أن يدخل هذا في القلوب، فقالوا لـ زيد: مر أبا بكر فليصل داخل بيته، ولا يستعلم، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال زيد لـ أبي بكر: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، صل داخل الدار وإلا فرد علي جواري، فإني لا أريد أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري، أي شخص يضربك، أو يمتهنك فهذا امتهان لـ زيد، إذاً لم يستطع حماية الذي كان في جواره، فيتحدث العرب أن زيداً لا يستطيع أن يحمي أحداً، فتضيع كلمته، ولا يستطيع أن يجير أحداً. - فقال: إما أن تصلي في الداخل، وإما أن ترد علي جواري. - قال: بل أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل. ورد عليه جواره. أهذا الغريب يهزم؟ أهذا الغريب يرجع القهقرى؟ لا والله، لو عندنا مائة رجل كالصحابة لفتحنا العالم.

نماذج من أصحاب الغربة الأولى والغربة الثانية وبيان الفرق بينهما

نماذج من أصحاب الغربة الأولى والغربة الثانية وبيان الفرق بينهما إن القوة قوة القلب، فـ جعفر الطيار تقطع يده وفيها الراية، فيأخذ الراية باليد الأخرى، فتقطع يده الأخرى، فضمها بعضديه أي قوةٍ هذه؟! لا يشعر بهذا الألم ولا بذاك، ويضمها إليه؛ لأنها راية، والراية رمز، فلا يجوز أن تنكس!. إن القوة قوة القلب، ليست قوة الجوارح، القلب هو ملك البدن، وهذه العضلة تستمد قوتها من القلب، فإذا ضعف القلب لم تنفع العضلة. ولذلك ترى الرجل البدين القوي مفتول العضلات إذا سمع خبراً شديداً كالصاعقة يقع عليه تجده ينهار لماذا؟ خانته عضلاته؛ لأن عزم قلبه انفسخ، وهذه العضلة جندي مأمورٌ من القلب الذي هو ملك البدن. الذي كان يميز الجيل الأول من الغرباء عن الأجيال التي جاءت بعد ذلك: قوة القلب، ووضوح الهدف، وصدق الانتماء. جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع لفيف من الصحابة فيهم خباب بن الأرت، فقال عمر: والله ما أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال. يعني: أولى رجل أن يكون أمير المؤمنين هو بلال بن رباح لماذا؟ لأنه أوذي في الله، فقال خباب: انظر يا أمير المؤمنين! وكشف خباب عن ظهره ففزع عمر لما رأى هذا المنظر، وقال: ما رأيتك اليوم. قال: أوقدوا لي ناراً عظيمةً، والله ما أطفأها إلا ودك ظهري ومع ذلك لا يتحولون. فلماذا أيها الغريب إذا تعرضت لأي بلاء، وخيِّرت بين الدين والدنيا، اخترت الدنيا وضحيت بدينك؟ إن سليمان عليه السلام لما استعرض الخيل، وكان يعدها للجهاد في سبيل الله كما قال الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:30 - 31]، الخيل الممتازة، فظل يتفقد الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فقال: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] (توارت): يعني الشمس، بالحجاب: غربت، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] هذه الخيول التي ألهته عن ذكر الله عز وجل، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33] عقرها جميعاً. لماذا؟ قال: ((إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي)) [ص:32] فالله سبحانه وتعالى زكاه، وقال في أول الكلام: ((نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) [ص:30]. إن العبد الذي يحقق معنى العبودية إذا حصلت مفاضلةٌ بين الله وبين غيره ينحاز إلى جنب الله، هذا هو العبد المزكى، الذي يقال فيه: ((نِعْمَ الْعَبْدُ)) [ص:30]. لو قيل لأحدهم: إما أن تحلق لحيتك أو نفصلك من العمل. فإنه سيقول: لا. بل أحلق لحيتي، أليست هذه الصورة منتشرة؟ ويخدع نفسه فيقول -إذا كان مدرساً-: أنا لا أريد أن أترك التدريس، فالتدريس رسالة، ونستطيع أن ننشر الدعوة من خلاله. أيها المتوهم: الحصة أربعون دقيقة، والمنهج يحتاج إلى الأربعين دقيقة كاملة، فلو كان المدرس ملتزماً ومتمسكاً بدينه، وأراد أن يظهر الشعار يبتدئ الحصة بقوله: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، نستفتح بالذي هو خير، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، فإنك لا تستطيع أن تقول هذا في الحصة؛ لأن في الطلبة جواسيس، ومن الطالبات جواسيس. الذي يريد أن ينشر الدعوة حقاً ينظر في حاله؛ فإذا كان يسكن في عمارة مؤلفة من خمسة طوابق، في كل طابق شقتان نقول له: - كم عمرك؟ - يقول: اثنان وثلاثون سنة. - ثلاثون عاماً ولم يلتزم أحد من سكان العمارة على يديك؟! لو كنت حقاً تحمل هم الدعوة حملاً حقيقياً؛ لبدأت تعمل في إطار العمارة؛ لأنهم يعرفونك ويعرفون ابن من أنت، فأنت ستعفي نفسك من تعريف نفسك للناس، بعض الناس لا يلقي بقلبه ولا بسمعه لبعض الدعاة، يقول لك: لا أسمعه، حتى أعرف أهو متطرف أم لا؟ أهو معتدل أم لا؟ فيظل يتردد سنة أو سنتين أو ثلاثاً إلى أن يحبه ويثق في معلوماته فيبدأ يعطيه قلبه. لا. أنت رجل تسكن في العمارة وهم يعرفونك، أين جهدك؟ إذا كنت صادقاً في دعوى عدم ترك التدريس لنشر دعوة الله، نقول: الدعوة مجالها واسع جداً، فلماذا تقول: لا، أنا أحلق لحيتي، وأظل مدرساً لمصلحة الدعوة؛ فإنه ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، فإذا عرِّضت لهذه المفاضلة افعل كما فعل سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:32 - 33]، لذلك زكاه الله عز وجل، ونعتُ العبدِ بالعبودية أشرف نعتٍ، وهو أن يقال له: أنت عبد، أو يقول الله عز وجل: {يَا عِبَادِيَ} [الزمر:53]، {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17]، ولو كان هناك وصفٌ أشرف من العبودية لوصفه الله للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به، قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، فوصفه بهذا الشرف، فتحقيق العبودية يقتضي الانحياز إلى جنب الله عز وجل عند أي مفاضلة، لا تتردد في هذا الانحياز؛ فإن الله ناصرٌ من التجأ إليه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الإرادة الشرعية والكونية والفرق بينهما

الإرادة الشرعية والكونية والفرق بينهما الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال الله عز وجل: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ)) [القصص:5]، الإرادة في هذه الآية: هي الإرادة الشرعية، التي باعثها محبة الله عز وجل ورضاه عن العبد، وهذا هو الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية. الإرادة الكونية: هي إرادة القهر والغلبة، وهي تشمل كل الخلق؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] هذه الإرادة الكونية التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجر، إرادة القهر والغلبة، وأن الله يفعل ما يريد ويحكم ما يريد، لكن الإرادة الشرعية خاصة بالمؤمنين قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، هذه كلها الإرادة الشرعية، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] هذه الإرادة الشرعية، وهي خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، فالله عز وجل يقول: ((وَنُرِيدُ)) [القصص:5]-التي هي الإرادة الشرعية- ((أَنْ نَمُنَّ)) [القصص:5]. الذي له حق المن وحده هو الله: {لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، لذلك كان جرم المنان من أعظم الجرائم عند الله يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليهم: المنان، والذي ينفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره خيلاء). فهذا المنان لماذا عوقب بكل هذه العقوبات؟ لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم، لماذا عوقب بهذه العقوبات؟ لأنه نازع الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني فيهما أدخلته النار)، ليس من طبيعة العبد أن يلبس رداء الكبر، هذا اسمه (عبد) ويقال: (طريق معبد): يعني مذلل للأقدام، عبد يلبس رداء الكبر هذا منظر نشاز، إنما المتكبر هو الله، والجبار هو الله، إذاً العبد يلزم موضع قدمه ولا يفارقه، لأن اسمه (عبد) فإذا نازع الله عز وجل في هاتين ألقاه في النار مثل المنان. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ فقالوا: الله ورسوله أمنُّ) فهذا المن من الله عز وجل كائنٌ واقع، وهذه الإرادة وقعت ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)) [القصص:5]، قال تعالى: ((وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) لمن؟ لهؤلاء المستضعفين {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137]. أيها الغريب: عدتك الصبر الجميل، وإياك أن تسوي بين فتنة الله وعذابه وبين فتنة العبد وعذابه، فإنه {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].

الهدف من الزواج

الهدف من الزواج التمكين يبدأ من الرضاعة، أيها العبد! لماذا تتزوج؟ لا تقل لي: ليخلد اسمي عبر القرون، فوالله ما نعرف أولاد ابن حجر العسقلاني، ولا نعرف أولاد سائر العلماء، ما عرفنا العلماء إلا من علمهم، إن فرعون خلد اسمه عبر القرون، وكذلك قارون خلد اسمه عبر القرون، يصير من قرنٍ إلى قرن، لكنه مصحوب باللعنات. الرجل الذي بال في ماء زمزم زمن الحجيج، فسألوه: لماذا فعلت ذلك؟ فقال: أردت أن أذكر ولو باللعنات. يريد أن يذكر، ويكون له اسم! وإذا قلت له: ماذا تريد من الولد؟ يقول لك: لكي يرث المصنع، ويرث العقارات، شبابي كله عبارة عن مصانع، أتركها لمن؟ ولذلك تجد الرجل العقيم ليس عنده طموح في ترك أي شيء وراءه، لو علم أنه عقيم يبدأ يبيع ملكه ويتمتع به. لماذا تتزوج؟ تتزوج لتنجب عباداً لله، عندك من الأولاد خمسة، هل خطر ببالك أن تقول: هذا الولد وقف لله؟ هل خطر في البال ذلك؟ لا. لكن يخطر بالبال كثيراً أن تقول: هذا الولد -ما شاء الله- عبقري وذكي، هذا يصير طبيباً، وهذا يصير مهندساً، وهذا أعلمه الكمبيوتر؛ لأنني أريده أن يعمل في محطة الفضاء، وكل ولد من أولادك عملت له دراسة جدوى، ورسمت له حياته، ليت على الخريطة أن هذا الولد مكتوب أمام اسمه: (وقفٌ لله تعالى، لا يجوز استخدامه إلا في الدعوة)، كم رجل خطر على باله هذا الأمر؟! حتى أريكم هذه المحنة، وأنها عميقة الجذور، والتمكين إنما يكون من وقت الرضاعة: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]. رجلٌ ابنه في سنة ثاني ابتدائي، ثم بعد فترة أصابه العمى، فقام أبوه بإخراجه من المدارس الأهلية وأدخله الأزهر لماذا؟ يقول لك: القرآن أولى به! حتى جاءت فترة من الفترات كان علماؤنا وخطباؤنا من أرباب العاهات، فكأنه صدق عليهم قوله عز وجل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]، لماذا لم يحفظ القرآن قبل ذلك وله عيون البقر؟! لماذا حفظ القرآن لما عمي؟! عرفتم -أيها الكرام- كيف تعثرنا في الإجابة على هذا Q لماذا نتزوج؟ اعلم أنه لا ينفعك إلا الولد الصالح في الدنيا والآخرة، هذا هو رصيدك، لو كنت عاقلاً: ادرس هذا الموضوع دراسةً صحيحةً؛ تعلم جدواه. الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -منهم- ولدٌ صالح يدعو له). العلماء يقولون: إن الكلام إذا قيد بصفة ثبتت الصفة للحكم، وانتفت عما عداه. قصر استجابة الدعاء على الولد الصالح، إنما الفاسد لا، فصارت الصفة مقصورة على جنس معين من الولد، لو قال: (ولدٌ يدعو له) هكذا مطلقة؛ لدخل فيها الفاسد، فلما حددها وضيقها دل على أن الفاسد لا ينفع أباه لا في الدنيا ولا في الآخرة. استدعاني جماعة من أقاربي بعد وفاة والدهم، قالوا: احضر معنا القسمة، الرجل ترك سبعة أولاد: ثلاث بنات وأربعة أولاد، وهذه المهزلة حصلت بعد ثلاثة وعشرين يوماً، يعني كما يقول العوام: أن أربعينه لم تكتمل، ثم قسمنا التركة فكان نصيب البنت من التركة خمسة وسبعين ألف جنيه، ونصيب الولد مائة وخمسين ألف جنيه، لو أن الموظف الحكومي من أول يوم عُيّن أخذ مائتي جنيه، فإنه سيكون مجموع ما استلم خلال ثلاثين سنة هو سبعون ألفاً، وهو لا يبتدئ بمائتين، وإنما يبتدئ بستين، يعني حياته رخيصة جداً. فقال أحد الأولاد والذي يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة وكان طائشاً: قبل أن تقسموا أخرجوا تكاليف زواجي. كيف يا بني؟ الوالد وهو حي له أن يعطي ماله لأي أحد، وقد كان يزوج أولاده ولداً ولداً، وقبل أن يزوجك مات! فقال الابن: لا. أنا أريد مثل إخوتي تماماً. فكان كلما هدأه إخوته يزداد أكثر، فإنه لم يقتنع بالمائة والخمسين ألف بل يريد أيضاً خمسين ألف جنيه حق الزواج وكان يقول له إخوته: إن أبانا لم يكمل الأربعين يوماً منذ موته فقال: الله يرحمه، افرشوا له طوبة تحت رأسه، دعونا في الموضوع، لا تخرجوا من الموضوع! انظر إلى الولد! انظر كيف يتكلم على أبيه!! لو قدر لأبيه فأحياه الله ورأى هذا الولد يتصرف هكذا لقال: ليته مات وهو صغير؛ لكنت وفرت كثيراً من المال. أهذا هو الولد الذي أنت تريده أن يكون دكتوراً أو مهندساً وما علمته العبودية لله عز وجل، فإنك ما انتفعت به لا في الدنيا ولا في الآخرة. ومن هذا نعرف أن سبب المحنة التي نعيشها فشل الجماهير في الإجابة عن (لماذا نتزوج)؟ ليس عندنا هدف واضح، ولا رؤية جلية، وعندنا ضعف الانتماء. العلاج: وضوح الهدف، تعامل مع هذا الدين كما لو كان أنزل إليك وحدك، وأنت المسئول عن إقامته وحدك، واجعل هذا فرض عينٍ عليك، وألزم نفسك به. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.

أمريكا التي رأيت

أمريكا التي رأيت إن دين الإسلام دين عزة ونصر. فحين دان العرب بهذا الدين والتزموا به؛ ارتفعوا وعزوا بين الأمم، بعد أن كانوا أذلة متناحرين. ونحن نرى أمريكا اليوم التي تزعم أنها راعية السلام، وصاحبة الوصاية على العالم، حرصت على تمييع الدين في قلوب المسلمين، فغرست في قلوب أبناء الأمة الإسلامية الإعجاب برعونتها -التي سموها حضارة- فأهانوا الأمة بذلك؛ وهم أهون وأذل، وحضارتهم في الحقيقة حضارة متهاوية، تقوم على تقديس الملذات، وتعيش سمساراً في سوق الانتفاع والاستغلال.

عزة المسلمين في دينهم والتزامهم به

عزة المسلمين في دينهم والتزامهم به إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك كافراً- قال لقريش: ألست منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى. قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى. قال: فدعوني آته -يقصد النبي عليه الصلاة والسلام- فأعرض عليه. وقد عرض عليهم خطة رشد، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ بديل بن ورقاء قبل أن يأتي عروة بن مسعود: إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت. وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد أهلوا بالعمرة، فصدتهم قريش عن البيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بديل بن ورقاء: (إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فوالله لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي). فهذا الكلام لم يعجب قريشاً، وظلت القضية في شد وجذب، فلما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الشد والجذب قال: دعوني آته فربما تكون هناك أمور أخرى في المفاوضات، فيقول قولاً آخر بخلاف ما قال لـ بديل بن ورقاء. ثم إن عروة بن مسعود قال ذلك القول ليؤكد أمانته في رفع التقرير، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل بن ورقاء. فجاء عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا محمد! إنها واحدة من ثنتين: إذا قامت الحرب بيننا وبينك، واجتحت قومك وغلبتهم، ووضعت أنوفهم في الرغام، فهل علمت أحداً اجتاح قومه قبلك؟). كأنه يذكره بأن هذا ليس من مكارم الأخلاق فيقول: إنك إذا ظفرت بقومك وأهلك وعشيرتك كنت تفعل فيهم كل هذا، أو كأنه أراد: وما أخالك تستطيع أن تفعل ذلك. فلو قامت الحرب -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال أبو بكر رضي الله عنه: (أنحن نفر وندعه؟! امصص بظر اللات). فقال عروة بن مسعود: من هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه ابن أبي قحافة. فقال: والله! لولا أن لك علي يداً لأجبتك. وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: (ولكن هذه بتلك)، يعني: هذه الإساءة منك أكلت جميلك السابق، وليس لك عندي الآن جميل، ومعنى الكلام: أنك لو تكلمت في حق آلهتنا لرددت عليك؛ لأنك استوفيت جميلك السابق بهذه الكلمة العظيمة (امصص بظر اللات). ثم حان وقت صلاة الظهر، فجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، وتركهم النبي عليه الصلاة والسلام يفعلون ما كان ينهاهم عنه قبل ذلك، وهذه سياسة حكيمة! هذه هي السياسة الشرعية: رعاية المصالح، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى الصحابة عن القيام عليه وهو جالس، فقد فعلوا في هذا الموقف ما هو أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم، لماذا؟ حتى يرى عدوه أن هؤلاء لا يسلمونه أبداً، وأن هؤلاء لو دخلوا في حرب لا يهزمون. ثم جيء بوضوء فتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام، فاقتتل الصحابة على وضوءه، كلما سقطت قطرة ماء من أعضائه على الأرض. أقول: كان ينهى عن أقل من ذلك، مثلاً: عندما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله) فهذا مجرد كلام! وهو كذلك، هو سيدنا لا شك في ذلك، ومع ذلك يقول: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله). تركهم يقتتلون على وضوءه، فما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة -والنخامة عادة يتأفف المرء منها -وهي البلغم- إلا وقعت في يد رجل منهم منهم -الكل يطير على النخامة حتى تكون من نصيبه- فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له -يعني: لا ينظر أحدهم إليه فيملأ عينيه منه، بل كان يصوب وجهه إلى الأرض- ولا يرفعون أصواتهم عنده. فلما رأى هذا المنظر رجع إلى قريش ورفع التقرير لهم على الأمانة التي أشار إليها في مطلع كلامه، فقال: يا قوم! لقد وفدت على الملوك -كسرى وقيصر والنجاشي- فوالله! ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة إلا وقعت في يد رجل فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. يعني بالخطة: الهدنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرض على بديل بن ورقاء حلين: الحل الأول: (إن شاءوا ماددتهم مدة) يعني: هدنة لمدة عشر سنوات، (وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي) والسالفة: صفحة العنق، يعني: كأنه قال: لو مات من حولي جميعاً سأقاتل وحدي، ولا أدع هذا الأمر أبداً، فالمسألة فيها إصرار، وليست هزلاً: (لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي)، فلما رأى حوله مثل هؤلاء الرجال؛ عرف أن المسألة ليس لها حل سوى الهدنة، أما لو دخلت قريش في حرب معه انتهى أمرها. فرجع عروة بن مسعود يقول: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها -أي: الهدنة- لأنه لا قبل لكم بهؤلاء. إنما قدمت بهذا الكلام حتى أضع تقريراً لكم عن رحلتي إلى أمريكا؛ لتستفيد منه أمتي، لاسيما ونحن في سنوات الضعف والهزيمة والقزامة، ويظن كثير من الناس أننا لا نستطيع أن نقاوم هؤلاء.

حضارة الغرب حضارة عوراء مزيفة

حضارة الغرب حضارة عوراء مزيفة أيها الإخوة الكرام: إن المجتمع الأمريكي مجتمع مهلهل، ممزق ساقط بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولا يحمل عوامل الحضارة أو عوامل القيام. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أرسل جيشه ليقاتل في جهة ما، كان قلقاً إذ لم تصله تقارير عن حالة الجيش: هل انتصر أم انهزم؟ فجاء البشير ليلاً يبشر أمير المؤمنين بالفتح، فقال له: متى فتح لكم؟ قال: بعد العصر. فبكى عمر، وقال: (لا يقف كفر أمام إيمان هذه المدة إلا لأمر أحدثتموه)، أي أن هناك أمراً حدث أخر النصر. وكان يوصي الجيش إذا خرج، فيقول: (اتقوا الله! واجتنبوا معاصيه، فإنكم إذا عصيتم ربكم فاقكم عدوكم بالعدد). هذا المجتمع الساقط المنحلّ لماذا لم يغزه المسلمون حتى الآن؟! وهو مجتمع منهار فعلاً بطبعه، لماذا لم يمكَّن للمسلمين حتى الآن؟ لأنهم أيضاً مهلهلون، ففاقونا بالعدد، وفاقونا بالعدة، لكن ما قام هذا المجتمع على قدمه؛ لأنه قوي في ذاته، بل لأننا ضعفاء جداً. هذا المجتمع فيه من يتزوج الحمير، ومن يتزوج الغنم والنعاج والبقر، ويعرض هذا في البرامج التلفزيونية! وهي ليست حالات فردية، إنما هي ظاهرة عامة في المجتمع الأمريكي. جموع كبيرة في النمسا منذ عدة سنوات قامت بمظاهرات تطالب بإباحة أن يتزوج الولد أمه وأخته وابنته وخالته وعمته وابنة أخيه وابنة أخته، واستطاعوا الحصول على قانون، والآن هذا يغزو أمريكا، فهم أيضاً يطالبون بزواج الأمهات!

من مقومات هذه الحضارة الشوهاء

من مقومات هذه الحضارة الشوهاء أما حالات الشذوذ فحدث عنها ولا حرج، فالجيش الأمريكي تجتاحه حالات الشذوذ، وما انتخب الأمريكيون كلينتون هذا إلا بعدما وعدهم في البرنامج الانتخابي أن يبيح الشذوذ في الجيش الأمريكي: أن يتزوج الرجل الرجل، وتتزوج المرأة المرأة. وهذه كما قلت لكم ليست حالات فردية، إنما حالات تجتاح المجتمع الأمريكي، البنية الاجتماعية ممزقة هناك، مهلهلة، وأنا لا أهون من شأن عدوي، فإنه ليس من الأمانة أن نتغافل عن مواضع القوة عنده، طالما أننا نضع تقريراً أميناً لهذه الأمة حتى تستفيد، وحتى لا يدركها روح الهزيمة، كثير منا مهزوم في مكانه قبل أن يتحرك،؛ بسبب الخونة الذين في الإعلام بكل صوره: الإعلام المرئي الإعلام المقروء والمسموع، كل هؤلاء خونة، وسيلقون الله عز وجل خونة، يحاسبهم أشد الحساب عن هذه الصورة المكذوبة التي وضعوها عن هذا المجتمع الأمريكي. معروف أن الأمم لا تتقدم بناطحات السحاب، ولا تتقدم بالقوة العسكرية المحضة، إنما ترتقي الأمم بالأخلاق، ما قيمة أن تؤسس مصنعاً وتجعل على الآلة رجلاً خائناً أو رجلاً مغفلاً أو رجلاً لا يدري شيئاً، سيفسد الآلة بلا شك.

بعض المغترين بتلك الحضارات الزائفة

بعض المغترين بتلك الحضارات الزائفة قال لي صاحبي يوماً -ونحن ذاهبان إلى السوق-: الأسواق هناك ضخمة جداً، فيها كل شيء، تشتري وتنتقي ثم تذهب إلى البوابات، وهناك من يحاسبك ويأخذ الثمن. مع هذا الترتيب وهذه الضخامة لا تجد أحداً يسرق. قلت: يا أخي! هذا المجتمع ليس أميناً، هؤلاء هم الذين سنوا طرائق القتل في العالم، وهؤلاء يقابلك الواحد منهم فيقتلك لأجل دولار واحد، هذا الذي يتزوج الحمير والبقر والغنم ما الأمانة التي لديه؟! إنما هناك مراقبة إلتكترونية في كل مكان، فأنت لما تضع شيئاً في جيبك هناك كاميرات تلفزيونية ورجل مراقب ينظر من خلال هذه الدوائر التلفزيونية يراقب اللصوص المنتشرين في كل مكان، وأيضاً على البوابات أجهزة حساسة دقيقة صنعوها أيضاً خصيصاً لأجل السرقة. أضرب مثالاً: شخص اشترى ساعة، وبعض الأشياء في كيس بلاستيكي، فسُرق الكيس من يده، ثم أراد السارق أن يخرج بما سرق، وهو يجتاز البوابة انطلقت الصفارة، مباشرة جاء شرطي وأمسكه، قال له: أين ورقة الحساب؟ فاعتذر وقال له: الحساب هنا -وهو يتلعثم- وما إلى ذلك. فيوقفه ويأخذ منه الكيس إلى حين التحقيق. ثم بعد هذا يأتي أقزام مغفلون يقولون: المجتمع هذا مجتمع أمين، ليس فيه خونة وليس فيه لصوص، بدليل أن الواحد يدخل الأسواق ويشتري ما يريد. لكن ما يذكر أبداً أن هناك دوائر تلفزيونية، وما يذكر أبداً أنهم احتاطوا ضد هؤلاء اللصوص (100%)، فمجتمعهم مجتمع كله خونة ولصوص. قلت لكم: قد تذهب روح الإنسان ضحية دولار واحد في ذلك المجتمع. هذا المجتمع متماسك -كما قلت لكم- ليس لأنه يحمل مقومات الحياة في ذاته؛ لكن لأننا ضعاف -مثل الذي يعيش على سمعته- وهم ملوك دعاية، فقد يصل الأمر بهم إلى أن يقنعوك بأن هذه الأسطوانة من ذهب، وأنت تقتنع برغم أنك رجل عاقل ورشيد، ومتأكد (100%) أن هذه خرسانة وليست ذهباً، بسبب هذه الدعايات التي تضلل مجتمعاتنا. أذكركم بقانون تحريم الخمر الذي أصدرته الحكومة الأمريكية عام (1930م) وإحصائيات وتبعات هذا القانون، حيث استعانت بكل طاقة وموهبة في المجتمع الأمريكي: بأساتذة الإعلام والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والاقتصاد والسياسة ورجال الدين، كل واحد من هؤلاء تكلم من منظور علمه عن مضار الخمر، وأنفقوا أموالاً طائلة: ستين مليون دولار على الدعاية، وعشرة ملايين دولار على مكاتب إدارية لمتابعة العمل، وكتبوا تسعة آلاف مليون ورقة -تسعة مليار ورقة- كل واحد يكتب في مضار الخمر، وسنوا قانون تحريم الخمر سنة (1930م) وفي سنة (1933م) ألغوا قانون تحريم الخمر؛ لأنهم وجدوا أن الناس ازدادوا شراهة في الشرب، وأن هناك خسائر بالجملة: مليار دولار أموال مصادرة، وأربعة ملايين دولار غرامات، ومائتين وخمسين ألف سجين، وأربعمائة أو أربعين ألف قتيل - لا أذكر الرقم الآن- وقاوم الناس أشد المقاومة، وعجزوا في النهاية أن يحرموا الخمر فأباحوه. نحن الذين نضلل أنفسنا؛ لأننا نرى أننا أقزام! ونتصور أن عدونا لا يهزم. يا إخوة! انظروا إلى الصومال ما استطاع الجيش الأمريكي أن يفعل شيئاً في الصومال، والصوماليون الواحد منهم جلد على عظم، المجاعة اجتاحت بلادهم، ومع ذلك عجز الأمريكان عن فعل شيء فيه، وانظروا إلى فيتنام! أنا أريد واحداً يدلني على معركة انتصر فيها الأمريكان، الأمريكان لم يحققوا أي انتصار في العالم حتى الآن، في فيتنام انهزموا وخرجوا، وفي الصومال انهزموا وخرجوا، لا تنظروا إلى أنهم يضربون جزيرة أو يمكنون منها حاكماً فهذا ليس انتصاراً. وما انتصروا في حرب الخليج، وما حاربوا، نحن الذين حاربنا في حرب الخليج، ثم إن العراق ما قاوم أصلاً، ولو دخل العراق المعركة بما عنده من الأسلحة؛ أظن أن الأمريكان كانوا سيصابون بخسائر فادحة، وكانت الصورة ستتغير. ليس معنى هذا الكلام أن العراق يدخل الحرب، وتكون القضية برمتها صحيحة. قال الله عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، وجاءت (حياة) منكرة للدالة على أنهم يرضون بأي حياة مهما كانت دنيئة، هو يتمنى أن يعيش فقط؛ لأن المترف والغارق في الملذات والشهوات كيف يقاتل وكيف يفقد روحه، وما لديه أية شجاعة، ثم هذه الآلات وهذه الطائرات والصواريخ إنما يطلقها الإنسان، فلو جبن المرء ما استطاع أن ينتفع بنفسه، ولا بالسلاح الذي في يده، فهذا الجيش جيش ضعيف مهما كان يملك من الأسلحة، فكيف تخلف النصر عنا طيلة هذه المدة؟ قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، إذاً هذه هي شروط التمكين. قبل عشرين سنة كان ستون بالمائة من الأمة لا يصلون، الآن حوالى ثلث الأمة لا يصلون، النسبة انحسرت قليلاً، لكن ثلث الأمة لا يصلي، خذ مثلاً عينة عشوائية، هذا المسجد في هذا المكان في العزبة الجديدة، هذه العزبة يقدر عدد ساكنيها بنحو أربعمائة ألف، لو أنهم جميعاً يصلون، هل ستجد لك مكاناً في المسجد؟ لا. ولا حتى في الشارع، حتى مع انتشار هذه الزوايا الموجودة تحت البيوت، لو أنهم يصلون على الأقل المغرب والعشاء، لا نقول الظهر والعصر؛ لأن كل واحد يكون في عمله، فيصلي في المسجد المجاور للعمل، لكن في الفجر وفي المغرب والعشاء أن يكون الجميع قد أنهى العمل وجلس في البيت، لو أنهم جميعاً إذا سمعوا صوت المؤذن بادروا إلى المساجد؛ ما وجدنا مكاناً لأحد، بالرغم من أن هذا المسجد يعتبر من أكبر المساجد في البلد، ومع ذلك يمتلئ في صلاة العشاء والمغرب، اذهب إلى مساجد أخرى تجد صفاً أو صفين، وتجد نصف صف في حي مكتظ بالسكان. فإذا كانت الأمة ضيعت أهم ركن عملي في الإسلام بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهؤلاء ضيعوا الصلاة، وضيعوا الزكاة، ويمرون بالفواحش ولا ينكرونها ولا يجرءون؛ لأن الإنسان قد ينكر المنكر فيدفع ثمن هذا الإنكار، أنا لا أقول: لابد من الإنكار باليد، أو باللسان فقط، بل هناك إنكار بالقلب إذا لم تستطع بيدك أو بلسانك، فهل تمعر وجهك عندما ترى معصية؟ هذا إنكار. أضرب مثالاً على ذلك: المدخن هل إذا رأيته يدخن كرهته واشمأززت منه؟ الدخان حرام، وهو مبارزة لله بالمعصية، والمصيبة العظمى انتشار الدخان والمجاهرة به. فلابد من الإنكار ولو بالقلب، أم أن المسألة طبيعية جداً؟

حال من يساكن الكفار في بلادهم

حال من يساكن الكفار في بلادهم إخواننا العرب الذين يعيشون في أمريكا يعانون من هذه الحالة، كنت في مدينة منهاتن، مدينة تتبع نيويورك، بها مجموعة من إخواننا من الإسكندرية، وشباب كانوا هنا على خير عظيم! فلما ذهبت إلى السوق لأشتري جهاز هاتف، وإذا بي أجد طابوراً أمام سينما، بنات مع شباب يتمازحون ويتبادلون القبل، يسلون أنفسهم حتى يصلوا إلى شباك التذاكر. فعندما رأيت المنظر اقشعر بدني، وأحسست أن قلبي يتمزق، فأول ما رأيت هذا المنظر، حولت بصري فوقع بصري على أصحابنا وهم يضحكون، اشتريت الجهاز ورجعنا إلى السكن، فقلت لهم: ما سبب ضحككم عندما حدث ذلك الموقف؟ قالوا: لاحظنا منك تصرفاً كالذي حدث لنا أول مجيئنا إلى هنا؛ فعرفنا أننا تغيرنا. إذاً: هو أول ما جاء إلى هذا المجتمع القذر كان يتمعر وجهه، وكان يجد ألماً في قلبه، ما الذي جعله يعتاد مثل هذه المناظر؟ لأنه ساكن في بلاد الكفر، واعتاد على هذه المناظر ولا يستطيع أن ينكر، لا بيده ولا بلسانه لماذا؟ لأن المجتمع هناك منفتح، كل واحد يعمل الذي يريده، واحد يصلي وبجانبه واحد يزني، هو حر وأنت حر!! لكن إياك أن تنكر عليه ممنوع! وهذا طبعاً مجتمع متفلت؛ لأن تربية الأولاد هناك لها شأن غريب جداً، لا يستطيع أب أن يؤدب ابنه بالضرب، وقد سمعت هذه المرة حكايات عجيبة! ضحكت ملء فمي وأنا أسمعها؛ لأنها نكت، حيث لا يستطيع أي أب أن يضرب ولده إذا فعل أي خطأ مهما فعل، فإذا ضرب الوالد ولده؛ سجن قانوناً لأنه تدخل في حريته الشخصية، ولا يخرج إلا بتعهد مكتوب ألا يتعرض للولد مرة أخرى. فأي شيء يخطر بباله يفعله.

مثال يبين حقوق الأفراد في مجتمع الحضارة الأمريكية

مثال يبين حقوق الأفراد في مجتمع الحضارة الأمريكية من الأشياء التي يضحك لها الإنسان أشد الضحك ما حدث في ولاية تكساس الأمريكية وقد كانت تابعة للمكسيك، هي وكاليفورنيا، فالأمريكان اشتروا كاليفورنيا بالمال، مثل ألاسكا اشتروها بالمال، وتكساس في الجنوب منطقة للصعايدة، حيث كل من يعيش في الجنوب فهو صعيدي، وهذا في العالم كله، تجد أن لهم عادات وتقاليد ظاهرة، فالتمسك بالأخلاق عندهم ظاهر، بخلاف الشمال والوسط. قال سكان هذه الولاية: لا، أمريكا ليس لها حق أن تأخذ هذه الولاية، فهيا بنا نعمل استقلال، وهذه تصير ولايتنا، وسنحاول أن نعمل حكومة وقضاء ومحاكم مستقلة -مع العلم أن هذه أمة معتادة على التمثيل- تخطر في رأس واحد منهم فكرة فيسعون إلى تنفيذها، والحكومة تسمع هذا الكلام كله ولم تتعرض لهم كل واحد يمارس هوايته. ومن الأشياء المضحكة والغريبة: أن امرأة دخلت مقهى وطلبت قهوة، فأعطوها قهوة ساخنة في كوب مغطى، فوضعت الكأس بين فخذيها حتى تفتح الغطاء، وهي تفتح الغطاء انسكبت القهوة عليها فسلخ الجلد، فرفعت قضية على صاحب المقهى، فأخذت -تعويضاً- عشرين مليون دولار! هل رأيت في حياتك أعجب من هذا! غير أن القاضي الذي حكم استكثر المبلغ فتم الأمر على مليونين. ثم يأتي إنسان حقير عندنا في الإعلام يقول: انظر الحقوق بائنة! لا أحد يضيع حقه. أين حق هذه المرأة؟ من الذي أعطاها هذا الحق حتى بالمفهوم الإنساني؟! دعك من الحكم الشرعي في الدين، وانظر إلى هذه الحادثة بالعقل: امرأة أخذت كأساً من القهوة لكي تشربها فانسكب على فخذيها فانسلخ الجلد ما ذنب الرجل؟! ولو أعطاها إياها باردة ترفع عليه قضية! لماذا؟ كيف يعطيها القهوة باردة؟! وهل هناك شخص يشرب قهوة باردة؟! شيء عادي، ويعرض لك المسائل هذه كأنه مجتمع متماسك، والقضاء فيه على أحسن حال إلخ! وإخواننا المسلمون هناك مظلومون ظلماً فضيعاً، بعضهم في السجون بلا جريمة؛ إلا أنك تعيش في بلده بدينك، وهو لا يريد ذلك. فهؤلاء الناس عملوا حكومة بينهم وبين بعضهم، واتخذوا لأنفسهم مقراً، وبدءوا يرفعون قضايا على أصحاب البيوت، وفعلاً طردوا أناساً من بيوتهم، ولأنه مجتمع مغرور صار ينضم إليهم أناس من رجال الأعمال حتى صار لهم شوكة، وصار عندهم طائرات (هيلوكبتر) يطيرون بها يتفقدون أمر الجمهورية الجديدة، ولما وجدوا أن العملية صارت حقيقة، حتى الأطفال كبرت المسألة في عقولهم؛ دخلوا عليهم فاجتاحوهم وخلصوهم، ووضعوهم كلهم في السجون، ومازال أصحاب البيوت يرفعون قضايا لكي يثبتوا أنهم مظلومون، ويريدون أن يسترجعوا بيوتهم! فإخواننا هؤلاء عندما يعيشون في وسط أولئك، تنتقل إليهم كل أمراض المجتمع الأمريكي، ويا ليتهم يجلسون لعلم نافع يفيدون به الأمة، وإنما أغلبهم سواقين سيارات أجرة، ولو قلنا أنهم يريدون تحصيل رأس مال ثم يعودون إلى البلد لإقامة عمل تجاري لهان الأمر، ولكن نقول لهم: يا جماعة! عندكم رءوس أموال، يقولون: لا تكاد تكفي للعيش في هذه البلاد. لماذا؟ لأنه مجتمع مفتوح، لو معك مائة دولار، أو عشرة ألف دولار، أو مائة ألف دولار ستصرفها، مجتمع فيه كل ما تريد.

انتشار التعامل بالربا في كل شيء

انتشار التعامل بالربا في كل شيء ثم إنهم سهلوا مسألة الشراء بطريقة اليهود الرهيبة بتسهيل أكل الربا، هناك كرت يحوز عليه الإنسان الأمين من وجهة نظرهم، الكرت هذا تتفاوت أسعاره من مائة ألف دولار إلى مائتين وخمسين ألف دولار إلى خمسمائة ألف دولار إلى مليون دولار، الكرت هذا بمقتضاه تدخل تشتري ما تشاء، ممكن تشتري بمائة ألف وتخرج ولا تدفع قرشاً واحداً، إلا أنك تريهم الكرت فيأخذون رقمه، ويعرفون عنوانك، وتدفع كل شهر قسطاً على حسب المشتريات، فمثلاً لو تأخذ بمائة ألف دولار تدفع مائتين دولار في الشهر، أو ثلاثمائة أو خمسمائة دولار، فمثلاً لو أراد شخص أن يشتري بمائة ألف بضائع، يدفع خمسمائة دولار في الشهر وإلا فلا. طبعاً لما يأخذ بهذا المبلغ عليه فوائد، فيظل هذا الإنسان يقضي فوائد الديون فقط؛ لأن المائة ألف دولار فوائدها كم؟! فأنت عندما تدفع خمسمائة دولار في الشهر، فهذا جزء من فوائد الديون، والديون على حالها، والجزء الباقي من الأرباح يتراكم على رأس المال على الدين الأصلي، في الأخير تجد نفسك قد أفلست وحجزت أموالك لقضاء دينك، وربما لا تكفي. فتخيل لما يكون هذا الكرت مع شخص تعرفة، ولما تذهب تزوره إلى أمريكا تجده يركب أفخم سيارة في أمريكا؛ لأنها بدون مقابل!! لديه كرت بمليون دولار مثلاً، يدخل يشتري سيارة -مثلاً- بثلاثمائة ألف دولار، والسيارات هناك رخيصة جداً، فالسيارة الفولفو مثلاً -التي يسمونها عندنا الفلفل- هذه بألفي دولار، سيارة موديل (97) بألفي دولار. فلما تذهب وترى صاحبك -الذي كان هنا فقيراً- تجده يركب سيارة فخمة جداً، وتدخل مسكنه فتجده ساكناً في شقة فيها كل الكماليات تقول ما هذا؟ هذا يجد المال كالتراب، فكل الناس يأخذون فكرة مغلوطة، يظن أحدهم أنه لو ذهب إلى هناك فسيكون غنياً، لكن هذا الإنسان يعيش بالربا، هذا الإنسان يتمتع بالربا، ووجد نفسه مبسوطاً وميسوراً، وبعضهم قال: هذا شيء عادي جداً جداً، أول ما أحس أني متورط سأركب طائرة وأتوجه إلى مصر، ليست مشكلة، وهم كما قال: (يخرج من المولد بلا حمص)، ونكون هكذا قد ضحكنا عليهم! وأخذنا حقنا، هم يأخذون حقهم من الحكومات، ونحن نأخذه من الحكومات أيضاً، هم لصوص ونحن لصوص، لا أحد أحسن من أحد، هم يسرقون الدول ونحن نسرق أفراد، نحن بهذا أفضل الناس! هذا منطق الأخ الذي كان يكلمني، ما الذي غير هذا المنطق وجعله يستحل الأكل بالربا؟ الفقير ليس محروماً كما يتصور بعض الناس، يمر مثلاً على محلات العصير يشرب عصير قصب، والمانجو معلق لم ينتبه له، ولم يخطر بباله شرب المانجو مثلاً، فهذا هو الغني، لا تقل هو فقير، أنت تدخل تشرب مانجو وتنظر إليه يشرب عصيراً تقول: الحمد لله الذي متعنا، وأعطانا الذي نشتهيه. وأعطاه الذي يشتهيه أيضاً، فأنت قد استويت معه، لكن أنت دفعت ثمناً غالياً فقط، هكذا تحسب المسألة. مثلاً: وقع لشخصين حادث، أحدهما يركب سيارة -مرسيدس العيون- والتي يقدر ثمنها بثلاثمائة ألف، طبعاً بثلاثمائة ألف رخيصة رخص التراب؛ لأنها صنعت هنا، لما جيء بها من ألمانيا كانت بخمسمائة وخمسين ألفاً، فلما دخلت فيها إضافات مصرية والعجلات المصرية، نزلت النزلة الكبيرة هذه. المهم: السيارة اصطدمت بسيارة أجرة (131)، من التي عجلاتها تدق وهي تمشي، طبعاً السيارة الثانية مازالت نظيفة وبعافيتها، والأخرى منتهية، فالذي حدث أن (الفوانيس والشبكة والكبود والرفرف)، وكل مستلزمات السيارة الشبح هذه دمرتها السيارة الأخرى، فنزل صاحب السيارة الأجرة يولول، فقال صاحب (الشبح): أنت تولول لماذا؟ أنت لديك سيارة لا تساوي شيئاً، المفروض أني أنا الذي أحزن! فكان رده عليه أن قال له: أنت بإمكانك أن تشتري غير هذه السيارة، لكن سيارتي هذه هي كل ما أملك، هي لا تساوي عندك ثمن عجلة، ولا تساوي عندك قيمة الباب، لكن هذه كل ما أملك، هذا كل رأس مالي! فمسألة رأس المال والغنى والفقر تؤخذ بهذا الاعتبار، لا يقال: إن الإطار بثمن السيارة، نعم، أنت بإمكانك أن تشتري سيارة كاملة، لديك مال، لكن أنا لا أستطيع، فمسألة الغنى والفقر على غير ما يتصوره الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) هذا هو الحساب الصحيح. سألت إخواننا في المؤتمر -مؤتمر القرآن والسنة- سؤالاً وأنا أتكلم عن الطبقات وبناء المساجد، فقلت لهم: رجل معه عشرة دولارات في جيبه تصدق بدولار، كم بقي؟ قالوا كلهم: تسعة -وأكيد أنتم تعرفون هذا الحساب- قلت لهم: لا، خطأ، وسأعطيكم مهلة لكي تفكروا، فلم يستطع أحد منهم أن يصل إلى الجواب الصحيح. (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة)، فأنا عندي عشرة جنيهات تصدقت بجنيه، فلا تقل: معي تسعة، إنما قل: معي تسعة عشر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، تسعة جمع عشرة بكم؟ بتسعة عشر، والحسنة بعشر أمثالها. الرجل هذا تصدق بجنيه، صار معه عشرة في ميزان حسناته، والتسعة التي في جيبه فتصير تسعة عشر، هذا هو الصحيح. هناك حساب صحيح وحساب خطأ، الحساب الصحيح أنك تستصحب النصوص الشرعية، أنا رجل معي مائة جنيه وليس عندي أية تطلعات، ما دخلت في بيت تجاري، وما رأيت النجف، وما رأيت السجاد ولا ورق الحائط والأثاث إلخ، ولا تمنيته قط، فأنا غني، حتى إذا تمنيت ما في يد غيري، هنا يبدأ مشوار الفقر، فقر العاجز. سفيان الثوري كان يقول: (من استطاع أن يصبر على أكل الخبز والملح لم يستعبده أحد) وجرب جرب أن تشبع بالخبز والملح فقط، ستكون أغنى الناس لماذا؟ لأن أول ما تتطلع إلى ما في يد غيرك يبدأ الفقر {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وانظر كلمة (زهرة) هذه، فالزهرة عمرها قليل ونفسها قصير، أول ما تقطعها من غصنها لا تعيش إلا يسيراً وتذبل، ولن تعود فيها تلك النظارة. فالناس هناك يعيشون الشهوات وعليها، فأنصح كل مسلم أن يرجع إلى بلاد المسلمين ويترك بلاد الكفر، تجد بعضهم إذا نصحته بهذه النصيحة يقول لك: أول ما يبدأ الولد يميز سأرجع إلى البلاد. وكل الموجودين الآن في المجتمع الأمريكي صار لهم خمسة وثلاثون أو أربعون أوخمسة وعشرون سنة، كلهم كان يقول هذه المقالة. فهذا مجتمع خاوٍ على عروشه، الذي يعرض علينا في بلادنا مع حالة القزامة التي نعيشها هو الذي جعل هذا المجتمع يتماسك. أول ما ظهرت شواطئ أمريكا لنا وأنا على الطائرة ورأيت شواطئ نيويورك؛ لم أتمالك نفسي من البكاء، ودمعت عيني رغماً عني، وقلت في نفسي: بين بلادنا وبين هذه القارة ست ساعات بالطائرة التي تسير بسرعة ألف ومائتين كيلو في الساعة، كيف يحكموننا وهم في بلادهم؟!! والمسافة بيننا وبينهم طويلة! ما قام هذا المجتمع إلا بضعفنا، ليس بقوته، ليس لهذا المجتمع أية قوة اجتماعية يتماسك بها، ولذلك حجم المؤامرات علينا بلغ أشده. الميزانية الأمريكية ترصد بمليارات الدولارات، الأموال التي تعطيها لبلاد المسلمين كمساعدات تعادل ميزانية التسليح، فالمعونات التي يعطونها لبلاد المسلمين نظير أن يتحكموا في اتخاذ القرار.

من أسباب ذل المسلمين المنح المالية المشروطة

من أسباب ذل المسلمين المنح المالية المشروطة مثلاً: إحدى المنح اليابانية المتأخرة لمصر مثلاً، لا يعطيك المنحة ويتركك تتصرف فيها، بل هي منحة مشروطة، يقول لك: تعمل ثلاثمائة دار سينما، وتعمل -مثلاً- مائتي مسرح، وتعمل مستشفى، وتربط مثلاً طريقين أو ثلاثة، وتفتح عدداً من الأندية للتنس والكرة إلخ، فهنا يقول أصحابنا: يا أخي! أحسن من لا شيء، هات هات، دعنا نبني الفلل ونعمر البلاد، فهذا كله مجان، والواقع أنه ليس مجاناً، الواقع أن ثمنه غال، لما أنا آخذ منحة ويُشترط علي أن أعمل مثلاً مائة سينما، وخمسين مسرحاً وعشر مدارس مثلاً، وآخذ القرض أو المنحة متصور أن المانح لا تحكم فيه، وهذا الشرط الذي وضعه للمنحة شرط ليس له قيمة، لكن هؤلاء أنفاسهم طويلة وممتدة، هم لا يستعجلون في إفساد هذا الجيل، فعندهم تحمل وصبر حتى إلى الجيل الثالث؛ لأن عملهم مترابط. نحن لدينا حاجة ملعونة اسمها الخطة الخمسية -لعنة الله عليها- وهي تُعمل لخمس سنوات، الوزير يجلس في الوزارة أربع سنوات ثم يتركها، ولم يكمل أكثر الأعمال، فيأتي الذي يليه بخطة خمسية، فنظل في خمسية ثم خمسية طوال عمرنا، لا نستطيع أن نخرج منها، كل واحد يأتي يبدأ بالعمل من جديد، ملايين ومليارات الأموال مهدرة، هذا ينجز مشروعاً والآخر يأتي يهدمه. لكن أولئك عملهم متواصل، هناك خطة معينة، كل واحد يأتي فترة زمنية يؤسس، ثم يأتي الذي بعده يبني على ذلك الأساس وهكذا، أما نحن فكلما جاء مسئول هدم ما قبله، وأسس خططاً يترك الوزارة قبل أن ينجزها، ويأتي التالي ليهدم ما أسسه السابق، ويؤسس من جديد وهكذا دواليك. والشيء الذي يحترق لأجله القلب أن عندنا وزارة اسمها وزارة التخطيط، وهذه الوزارة مهمتها أن تنسق بين الوزارات، لكي لا يقابل القطار قطاراً آخر، وحتى لا يتكرر العمل، لكن كل وزارة في الحقيقة تعمل على حدة. يذكرني ذلك بسنة سبعة وسبعين عندما أمر السادات الناس بالتقشف، ولابد أن يعيش الوزراء مشاكل الشعب. ولأن الرأس قدوة؛ قام مباشرة وركب سيارة (فولتك) وأخذ له المصورون صورة وهو متجه إلى الإسماعيلية على سيارة رخيصة، وأحدهم أوقفه وأخذ وأعطى معه، وهكذا القدوة إلخ. وفعلاً صرف لكل وزير سيارة (خنفسة) مع الاحتفاظ بالسيارة المتقدمة، وهكذا فليكن التقشف. فهناك أناس يسيرون على خطط، مثلاً: إسرائيل تجد كل شخص في واد، له طريقته الخاصة في التعامل، لكن لا يترك رئيس الوزراء الوزارة إلا وإسرائيل قد ارتفعت، كل واحد يمسك بما معه، لكن كل واحد حر في تصرفه في طريقة التعامل، مثلاً شامير كان شديد اللهجة متشدداً مثل نتنياهو بالضبط أما رابين فكان خفيف اللهجة، لكن كان الاثنان متفقين بقصد الوصول إلى الهدف، لماذا؟ لأن كل واحد يصل بطريقته الخاصة، وكل شخص حقق مكاسب لإسرائيل بالجملة. مثلاً شامير بنى مستوطنات وعمل مصالح كثيرة لإسرائيل، ولم نستطع أن نوقفه، نشجب ونستنكر قائلين: نحن نحذركم، أنتم ستضيعون السلام، وأنتم الذين ستدفعون الثمن. فالعملية ساحت وصارت خطيرة جداً، عملية شجب واستنكار ثم يأتي رابين فيقول: أنا ضد المستوطنات، نريد أن نضع أيدينا في أيدي بعض ونعمل سوقاً نعمل سوق نتعاون مع بعض في الزراعة والاقتصاد والثقافة، وتجري زيارات ومؤتمرات متبادلة، شبابكم يأتي يتفرج علينا، وشبابنا يتفرج عليكم؛ لأن سياسة التعاون والتبادل تريد نوعاً من إذابة الجليد.

أثر المنح الدراسية في مسخ الشباب دينيا

أثر المنح الدراسية في مسخ الشباب دينياً ثم تقدم منح دراسية وزيارات لمجموعة من الطلاب المراد إفسادهم، وفعلاً لا يرجعون إلا وقد تغيرت طباعهم وأخلاقهم، هذا إذا لم ينسلخوا عن دينهم. ثم يأتي أولئك الشباب وهم يمجدون اليهود والنصارى، وهم معجبون بثقافاتهم وحضاراتهم انظر قاسم أمين الذي ذهب إلى باريس وهو شاب غر لا يعرف شيئاً، وكان يعيش في مجتمع متحفظ، فلما ذهب إلى باريس اصطادوه وقربوا له امرأة لعبت بعقله وفكره، وكانت مصدر إلهام له، وهو نفسه قال في مذكراته: إن علاقتي بها كانت بريئة، أي: لم يكن يزني بها؛ لأنه لو زنى بها لاحتقرها، لكن يظل حباً عذرياً، تظل معه حتى تكون مصدر إلهام له، تثمر توجيهاتها، وتؤثر فيه. رجع قاسم أمين بفكر آخر لكنه متحفظ، قال: المرأة غير متعلمة وينبغي أن ننشئ لها مدارس فلما رأى الناس هاجوا عليه؛ انزوى وانكمش في بيته إلى أن جاء سعد زغلول فأخذ بيده وقال له: اخرج وأنا سأحميك. فخرج وكتب كتاب (المرأة الجديدة) وهي المرأة التي أريد تحريرها، ولكن أيضاً كان فيه متحفظاً، ومازال يتكلم بالإسلام، وكان يقول: أتمنى قبل أن أموت أن أرى المرأة بجانب الرجل، والمرأة تعمل في المصنع والمتجر وو إلى آخره، وظل يعدد المصالح الحكومية. ويقول موضحاً: إن هنا مرضاً أريد علاجه، ألا وهو أن الرجل إذا رأى امرأة كان بينهما شيطان فيريد أن يزيله بالاعتياد والاختلاط. فتصبح النظرة بريئة والاختلاط شيئاً طبيعياً. ثم جرب من ناحية الثروة السمكية حيث أنهيت بسبب (الاستكوزا) التي ينشرونها في البحر، وكذلك التربة لم تعد صالحة للزراعة بسبب السمادات والهرمونات المصنعة لديهم والمتخصصة في تدمير التربة تماماً. ظهر لنا نتنياهو وبنفس اللهجة الشديدة يتعامل معنا، ما وجدنا حلاً، نريد (13%) من الأرض، فيقول أتباع اليهود والمصلحون (كذبوا): لا، هذا كثير، فيقول الفلسطينيون: نلتقي في النصف (10%) لكن لكن هذه الـ (10%)، السلطة الحقيقية لها في يد اليهود، وهي مقابل أن تقوم السلطة الفلسطينية بتحجيم حركة حماس، وتطوعت الشرطة الفلسطينية بالقبض على أفراد كثيرين من حركة حماس وأودعتهم السجن. أناس مع اختلاف مذاهبهم لكن كلهم يمسك بخطة واحدة وطريق واحد، لا تعارض أبداً في الأعمال، نحن نعاني من حالة ضعف رهيبة، لو رجعنا إلى الله -تبارك وتعالى- لغلبناهم في ضحوة من نهار، والله -وأقسم بالله! غير حانث إن شاء الله- أنا لو رجعنا إلى الله -تبارك وتعالى- وعبَّدنا أنفسنا لله في بيوتنا أولاً، ورفعنا تلك المخالفات؛ لمكن لنا سبحانه في أرضه!! فرجوعنا إلى الله تبارك وتعالى، وتعبيدنا أنفسنا لرب العالمين هو أول خطوة حقيقية في طريق الانتصار وهزيمة الأعداء. أمريكا تنفق على محاربة المسلمين والصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين، مثلما تنفق على التسليح؛ لأنها تعرف جيداً أن المسلمين لو خرجوا من هذا الضيق فلا يستطيع أحد أن يقف في مواجهتهم؛ لأنهم أشجع الناس قلوباً، وأعظم الناس فداءً وتضحية بأرواحهم ولا ترى هذا اليأس أبداً في أمة من الأمم، هذا دين عظيم لاسيما إذا كان المرء يتحرك بعقيدة سليمة. إن خطواتنا متعثرة، ونحتاج إلى تثبيتها، فنريد من كل واحد منا أن يرجع اليوم إلى البيت فينظر إلى المخالفات الموجودة في البيت، ويعيد حساباته من جديد بحزم. لابد للرجل أن يتخذ القرار ويحزم أهل بيته وأولاده، ويربيهم تربية صحيحة متصلة بالله تعالى، وأن يجعل له هيبة في بيته، حتى يتم تقبل كلامه وإرشاداته.

شروط جيل التمكين

شروط جيل التمكين كنت -مرة في القاهرة- تكلمت عن جيل التمكين وعلاماته وشروطه وما أشبه ذلك، فكان مما قلت: إنه ينبغي علينا أن نوقف أولادنا لله مثلما نوقف المصاحف وسبيل الماء وغيرها. امرأة حضرت لأول مرة خطبة جمعة كما حدثني ابنها -وهوأخ ملتزم نحسبه على خير- وأخوه لم يكن ملتزماً بذلك القدر، وحضر معه أيضاً هذه الخطبة، فبعدها تأثرت الأم وجمعت أولادها ووعظتهم وأحسنت القول لهم. ورجل آخر كان يصلي الجمعة منذ زمن طويل، عندما سمع الخطبة وانفعل لها، قال ولده: توجه إلى البيت ينادي امرأته: أين الأولاد فكلهم جاءوا يظنون أن هناك مسألة خطيرة من وجهة نظرهم، قال لهم: أنتم كلكم وقف لله تعالى، ثم اهتم بتربيتهم وواصل ذلك معهم. وابنه حتى الآن لما يتصل بي أسأله: ما أخبار أبيك؟ فيقول: ما شاء الله، استقام على شرع الله. سبحان الله! قد ينفتح القلب أحياناً من كلمة لا تظن أن تؤثر ذلك التأثير، وربما قد سمع هذا الشخص مواعظ تهز القلوب هزاً، وتصعقها صعقاً، لكن ما بلغ القلب لم يكن هو المطلوب. إنني أنصح الآباء الذين يخوفون أولادهم من المجيء إلى المساجد، ويحذرونهم من السجن والإرهاب وغيرها من هذه الأوهام التي ليس لها حقيقة، ولئن يبتلى المرء في الله خير له من أن يبتلى في الدنيا. ثم هناك فرق بين المسجون جنائياً والمسجون لله وفي الله، أو المسجون السياسي أو الفكري. فالمسجون جنائياً ذليل مهان، يلعن نفسه ويلعنه الناس. بخلاف المسجون في قضايا الفكر مثل الشباب المسلم الملتزم، لما يسجن تجده محترماً عزيزاً يدعو له الجميع بالفرج والعاقبة الحسنة، وهو مع ذلك مأجور بصبره، وقدوته الأنبياء والصالحون والعلماء، فهذه فروق بين من يبتلى في الله ومن يبتلى في الدنيا. لابد للجميع من أن يبتلوا في هذه الدنيا، ولكن تختلف الابتلاءات، هذا يبتلى بامرأته تؤذيه، وهذا بابنه، وهذا بجاره، وهذا بمديره في العمل إلى آخر ما هنالك. فكل إنسان مبتلى. فلما يكون بلاؤك في الله سبحانه وتعالى فهو شرف لك؛ لأن هذا اصطفاء من الله، اصطفاء لا ابتلاء فقط، اصطفاء من الله أن تبتلى فيه تبارك وتعالى. فالمفروض أن يتشرف الآباء إذا ابتلي أبناؤهم من هذه الابتلاءات في سبيل الله. ولابد أيضاً أن نكون أذلاء مع إخواننا المؤمنين، لا أن نتخاصم وكل يعرض عن الآخر حتى لو كان الاختلاف سائغاً فلا داعي لأن نحمل على بعض الحملات والتباغض وغير ذلك. فنحن نحتاج إلى أن نعد نظرة تقييمية لهذا المجتمع: إنه لا يتحمل وكزة واحدة من ساعد شخص قوي؛ لأنه متهالك. تعرفت على ولد أمريكي سنه اثنين وعشرين سنة، من خيرة الشباب الذين قابلتهم، شاب أمريكي أبيض، مسلم مذ كان عمره خمسة عشر سنة، ويتكلم اللغة العربية جيداً، ولسانه منطلق بالعربية، إذا تحدث معك لا تشعر أبداً أنه أمريكي، ففي الحقيقة أعجبتني طريقته في الكلام فسألته: كيف تمكنت من تعلم العربية؟ قال: أنا أسلمت وسني خمسة عشر سنة، وأحببت هذا الدين حباً لا نهاية له، فوجدت لساني يذل له. وقال: وجدت نفسي أستوعب العربية بسرعة ملحوظة، في أقل من سنة تمكنت من التحدث بالعربية. أقول: حينها شعرت بمدى ما نحن فيه من النعمة أننا عرب، ليس بيننا وبين القرآن حاجز، ترغب أن تقرأ القرآن؛ تفتح المصحف وتقرأ، ترغب أن تقرأ في السنة تفتح الكتاب وتقرأ. كانت محاضرتي لهؤلاء الأمريكان حول صدق الرجاء في الله، وأن من صدق رجاؤه في الله لا يخيبه؛ لأنه أكرم من أن يخيب رجاء من رجاه. إن الله عز وجل إذا وعد عبداً فإنه منجز له ما وعد، وإذا أوعد فهو له: إن شاء عذب، وإن شاء غفر. خلف الوعد شين وعار، وخلف الوعيد كرم، إخلاف الوعد لا يليق بالله، فتعالى الله الملك الحق أن يخلف الوعد، لكن يخلف الوعيد، فيلتقي كرمه في إنجاز الوعد، وكرمه في إخلاف الوعيد، بأن لا يعذب، فهو أكرم الأكرمين تبارك وتعالى! وذكرت قصة جريج، وقصة أصحاب الغار، وقصة الساحر والراهب، وأنا أتكلم برغم أن أكثرهم لا يفهم اللغة العربية، لكن كانوا مشدوهين، وكان بعضهم يبكي، فلما ترجم صاحبنا لهم ما قلت صارت مناحة، فأحسست بغربتهم، فهم قلة. مثل هؤلاء ومثل العرب كمثل البصير والأعمى، الأعمى يريد أن يعبر الشارع ينادي: خذ بيدي. لا يستطيع أن يعبر الشارع وحده، لا يستطيع أن يخرج من البيت لقضاء حوائجه وحده، دائماً محتاج، وهذا ذل، فكذلك هذا الإنسان الذي يريد أن يفقه كلام الله ورسوله. هزتني جداً كلمة قالها أحدهم هناك، لما كان آخر يوم في المؤتمر بكى بشدة! وقال: نحن من الآن يتامى!! من بعد ذهابكم وانطلاقكم ونهاية المؤتمر نحن يتامى!! والله -يا إخواننا- إن هذه الكلمة تتردد في جنبات نفسي حتى هذه الساعة، ما استطعت أن أنساها أبداً، ولن أنسى شكله وهو ينتحب، ويقول: نحن يتامى. فهذا المجتمع الكافر لا يحمل أسباب الحياة في ذاته، وإنما قام على ضعفنا، فإذا تخلصنا من ضعفنا سقط؛ لأننا الذين أعطيناه مقومات البقاء، فالبدار البدار قبل الفوات! وهذا تقرير أمين أضعه بين أيديكم حتى يتصرف كل إنسان بما يليق بدينه، كل إنسان في عنقه أمانة، فلا نلقى الله عز وجل خونة يوم نلقاه، إنما نورث هذه العزة وهذا الدين ونحن أقوياء ومعنا أسباب الحياة، وهم يعلمون هذه الحقيقة جيداً، يعلمون أن هذا القيد لو انكسر، فلن يقف دوننا أبداً وما نريد حاجزاً، وإننا يوم نرجع إلى الله عز وجل سنطأ هذه الأرض بأقدامنا. أمريكا قارة كاملة، ما بين نيويورك في الشرق وولوس أنجلس في الغرب سبع ساعات طيران، مثل ما تصل من الشرق إلى الغرب. ونحن نطير فوق الولايات كنت أقول: ما أحلم الله! كل هذه الولايات تعج بالكفر والفسوق والعصيان، والذين يركبون في الطائرة معنا كذلك، ونحن أيضاً مذنبون، وهذا الأسطول الطائر ما بين السماء والأرض سبحان من يمسكه في جو السماوات! ومع ذلك يحلم عنا، ويمسك هذا الأسطول الطائر، وهؤلاء يرتعون في نعمه ويعصونه وهو حليم. وإذا رجع واحد من هؤلاء قبله وما يعاتبه، وقد يرفعه من مستنقع المعاصي إلى قمة الولاية ويصطفيه. فما أحلم الله تبارك وتعالى! فلا نريد أن نغتر بالله ولا بحلمه علينا، وأنه لم يعاجلنا بالعقوبة حتى الآن مع كثرة معاصينا، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

جيل التمكين

جيل التمكين إن التربية الإسلامية هي الطريق الصحيح إلى التمكين، وأما الذين ينشدون التمكين من خلال التغيير من قمة الهرم فلن يصلوا إلى أي نتيجة؛ إذ من السهل عليك أن ترغم الناس على الالتزام بتعاليم الإسلام الظاهرة؛ لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الولاء والمحبة للإسلام.

الطريق الصحيح للتمكين

الطريق الصحيح للتمكين إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فحديثنا سيكون عن جيل التمكين؛ مواصفاته، وكيف السبيل إليه. إن الذين ينشدون التغيير من قمة الهرم لن يصلوا إلى أي نتيجة؛ لأن التغيير لا يكون إلا من قاعدة الهرم وهي كفيلة بأن تخرج لنا القمة التي تحكم شرع الله، ماذا يغني عن رجل وصل إلى قمة الهرم، وهو يتأمر على أناس ليس لهم ولاء للإسلام؟ قد يقهرون، لكنك لا تستطيع أن تجبرهم على الولاء والمحبة للإسلام. قال رجل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لماذا كثرت الفتن في عهدك ولم تكن كذلك في عهد عمر؟ قال: لأن عمر كان أميراً على مثلي، وأنا أمير على مثلك) فأشار إلى النوعية، وإلى وجود الفرق. ماذا يغني لو أن رجلاً وصل إلى قمة الهرم وهو لا يستطيع أن يحكم أمثال هؤلاء؟ الذين كتب أحدهم في الشهر الماضي تحت عنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟) يعرضون شخص الرسول عليه الصلاة والسلام للتشريح والأخذ والرد، فتزول الهيبة والاحترام مع الأيام. امرأة تقول لعاشقها: وأنا بين أحضانك كأنني زرت قبر الرسول. وقد كتب أحدهم مقالاً يستنكر ذلك فقال: كيف يكون هذا الكلام في مسرحية أو في فيلم، ولكن هل تم معاقبة القائل؛ حتى نعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام -صاحب الجناب العالي- له من ينصره، ويغار عليه؟ هؤلاء لم يصلوا إلى ما قالوه طفرة، وإنما وصلوا إلى هذا نتيجة الاعتداءات الآثمة التي تتكرر ولا نكير ولا أحد يعاقب. إذا وصل الأمر إلى تشريح جثة الرسول عليه الصلاة والسلام على صفحات الجرائد والمجلات، إذاً غداً يعلن الكفر جهاراً نهاراً. في إحدى المرات تكلموا عن النعجة (دوللي) التي أخذوا منها الخلية الحية بلا رحم وعملوا نعجة، فقالوا في الجرائد والمجلات: هذا أعظم من ولادة المسيح. تصور (أعظم من ولادة المسيح)! معنى هذا الكلام أن العباد فعلوا ما عجز الله عنه، يعني أن هذا أعظم من ولادة المسيح من غير أب، ومع ذلك لا يلتفت أحد إلى مثل هذه الطوام العظيمة التي تقدح في الله عز وجل، وتقدح في كتابه وفي ديننا كله. لو جاء رجل وهو في قمة الهرم، وحكم أمثال هؤلاء أينتصر بهم؟ لا ينتصر بهم أبداً، لأن الواحد منهم قد يسكت عندما يرى بارقة السيف، ويعلم أنه إذا تكلم عوقب وقتل، أو عزر وسجن، لكن لا يكون ولاؤه للإسلام. إننا نريد جيلاً يحب الله ورسوله، بيت يرفرف عليه الإسلام. إن جيل التمكين يحتاج إعداده إلى وقت، لقد عشنا قروناً متطاولة في الفوضى والبعد عن مصدر عزتنا، فنحتاج إلى قرن على الأقل إن لم نقل قروناً حتى نصل إلى الاستقامة، فالذين يستعجلون ويقولون: لو بدأنا التغيير من قاعدة الهرم لطال الطريق، فهؤلاء لن يصلوا إلى شيء أبداً. كلمة التوحيد التي ينطقها الناس يغفلون عن أول كلمة فيها، ولو حققوها لحققوا التوحيد، فقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله). ما معنى (أشهد)؟ لو حقق القائل معنى كلمة (أشهد) لاستقامت له الكلمة كلها؛ لأن الشهادة من المشاهدة، وهي الرؤية، (أشهد أن لا إله إلا الله) يعني: أراه، وهي ضد الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، الغيب: ضد الشهادة، فإذا اعتقد القائل في كلمة "أشهد" وحققها فعلاً، وقصدها لما نطق بها -يعني: أرى الله- لاستقامت أحوالنا. تُرى لو كان يعتقد فعلاً أنه يرى الله تبارك وتعالى، أيقوى قلبه على معصية الله؟ لا يقوى أبداً، وفي الحديث الذي قواه بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل لما قال له: أوصني، قال: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك). لا يستطيع الإنسان أن يقيم على معصية يراه فيها رجل صالح، بل إذا أراد المعصية أغلق الباب، وأغلق النافذة، واطمأن على المداخل والمخارج، وظن ألا أحد يراه أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك؛ لأنك لا تستطيع أن تظهر ما في ضميرك أمامه أبداً. نقل المعاني المجردة إلى المحسوس يتكرر في القرآن وفي السنة؛ الضلال والهدى معانٍ، والبيع والشراء حس، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، شيء محسوس، فنقل المعنى إلى باب الحس مقصود حتى يتم التصور، قال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً)، فنقل الرضا الذي هو من المعاني إلى باب الحس الذي هو التذوق. فأنت عندما تقول: (أشهد) أن لا إله إلا الله يعني: أراه، كان متعذراً عليك أن تراه، انزل درجة، (فهو يراك)، هذه الدرجة التي نزلتها هي قمة الإسلام كله، وهي الإحسان، فبرغم نزولك درجة إلا أنك لما نزلت كنت على قمة الدين (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). هذا إذا نزلت درجة، فكيف إذا بقيت على أصل الكلمة؟ مع أنه عند نزولك كنت على قمة الإسلام، وهو تحقيق باب الإحسان (أن الله يراك)، ولذلك لما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) أضاف الصوم إليه سبحانه وتعالى، مع أن الصوم لابن آدم أيضاً؛ لأن فيه تحقيق مرتبة الإحسان. قد يرائي المرء في صلاته، يأتي المسجد ليراه الناس، ويخشع في صلاته ليراه الناس، لكن الصائم في رمضان قد يكون الباب مغلق عليه، ويكاد يموت من العطش، والماء البارد أمامه، لكن لا يستطيع أن يشرب، برغم أنه وحده، إذاً لا يستطيع أحد أن يرائي في الصوم أبداً، فلما كان الصوم محققاً لمرتبة الإحسان قال الله عز وجل: (فإنه لي وأنا أجزي به) إذ أن إضافة هذا الجزاء إلى الله سبحانه وتعالى فيه دلالة على التعظيم. فالصيام تحقيق لمرتبة الإحسان -أن الله يراك- فكيف إذا حققت معنى الكلمة (أشهد)، فإذا كنت تعتقد فعلاً أنك تراه لا تقم على معصيته طرفة عين، هذا هو معنى كلمة (أشهد). و (أشهد أن محمداً رسول الله) معناها: إذا وصلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فاعتبر نفسك واقفاً أمامه وهو يشافهك؛ هو الذي يأمرك وليس الناقل، أنا إذا نقلت لك حديثاً صحيحاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فبادرت إلى الامتثال، فأنت لا تطيعني، وإنما تطيع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهل إذا وصلك حديث اعتقدت واستحضرت بقلبك أنك واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما أجمل ما قاله السبكي الكبير علي بن عبد الكافي رحمه الله في جزء له لطيف، اسمه "بيان قول الإمام المطلبي- يعني الإمام الشافعي - إذا صح الحديث فهو مذهبي"! سئل: إذا وقف الإنسان على حديث يخالف مذهبه -هو مذهبه شافعي- فكان المشهور في المذهب: لا تفعل، وجاءه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: افعل، فإذا كانت الصورة هكذا، أيطيع الحديث أو المذهب؟ فقال: ليفرض أحدكم نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تفعل كذا، أو افعل كذا، أيحل له خلافه؟ هذا هو معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) كيف يقوى قلبك على مخالفة أمره إذا وصلك الأمر؟! هب أنك الآن أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وقال لك: طلق امرأتك التي تحبها ولك منها أولاد -كم من الناس الذين يأكلون الربا، ويأخذون الرشاوي بحجة أن لديهم أولاداً، مع وضوح الآيات ووضوح الأحاديث في تحريم ذلك -واترك مالك، وهذا من أعظم المصائب، فهل تقول له: لا؟ إذا كنت واقفاً أمامه ما أظنك تقوى على ذلك أبداً، فما بالك وقد وصلك ما هو أدنى من ذلك الأمر بألف درجة، فإذا قيل لك: لا تلبس خاتم الذهب، وقيل لك: هذا حرام، لا يحل لك لبسه، ومع ذلك بقي الخاتم في يدك، أهذا تحقيق معنى (أشهد أن لا إله إلا الله)؟ هذا تحقيق (أشهد أن محمداً رسول الله)؟ رأى الرسول عليه الصلاة والسلام في يد رجل خاتماً من الذهب، فنزعه من يده وطرحه على الأرض، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)، ثم فارق النبي صلى الله عليه وسلم المجلس، وقام الصحابة أيضاً من المجلس، فذكّر بعض الحاضرين الرجل أن يأخذ خاتمه، وقالوا له: خذ خاتمك وانتفع به، فقال الرجل: ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله، طالما رماه على الأرض لا تمتد يدي إليه، هذا هو معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) أي أنني إذا وصلني حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أستحضر أنني واقف أمامه، كيف يكون وقع كلامه علي، هذا هو الجيل المنشود الذي نريده، هذا هو جيل التمكين، لو كان هناك مائة رجل أمثال الصحابة لفتحوا القدس، أما الآلاف من المسلمين اليوم الذين ينطقون بالشهادتين دون أن يحققوا معنى الشهادة فإنهم لن يحركوا ساكناً.

مواصفات جيل التمكين

مواصفات جيل التمكين البيئة المسلمة تؤثر في الساكنين فيها، حتى لو كانوا من الكفار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل)، يجر أحدهم إلى الجنة وهو مسلسل، فتعجب الصحابة من ذلك: كيف يسلسل ويجر إلى الجنة، والكل يطمع في الجنة، ولو فتحت أبوابها لدخل البطالون قبل المؤمنين، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة بالسلاسل هم الأسرى، الذين وقعوا أسرى بعد الحرب، فجيء بهم مسلسلين في العبودية وفي الرق إلى بلاد الإسلام، فلما رأوا الإسلام ورأوا سلوك المسلمين أسلموا، فكان إسلامهم الأول بالسلاسل. أما اليوم لو نزل رجل كافر في أي مطار من مطارات البلاد الإسلامية لما وجد فرقاً بينها وبين البلاد الكافرة، ولو مشى في شوارع البلاد التي تنتمي إلى الإسلام ما وجد كبير فرق بينها وبين البلاد التي يظللها الكفر، فنريد إرجاع الحياة الإسلامية مرة أخرى. روى الإمام العجلي رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة الحسن بن صالح بن حي رحمه الله: أنه باع جارية له، فلما ذهبت الجارية إلى البيت الجديد استيقظت في نصف الليل، وصارت تنادي أهل البيت: يا أهل البيت! الصلاة الصلاة! فقاموا فقالوا لها: أُذن للفجر؟ فقالت لهم: ولا تصلون إلا الفجر؟! قالوا: نعم. فلما أصبحت ذهبت إلى الحسن وقالت له: ردني إليك، لقد بعتني إلى قوم سوء لا يقومون الليل. هذه جارية، لكن تربت في بيت الحسن. تأمل معي بيت الحسن بن صالح: كان للحسن بن صالح أخ توأم اسمه: علي بن صالح بن حي، وكان علي أوثق الرجلين وأفضلهما في الحديث والرواية والضبط، فكان الحسن وعلي وأمهما، يقسِّمون الليل ثلاثة أثلاث، فكانت الأم تقوم الثلث الأول، ثم توقظ الحسن فيصلي الثلث الثاني، ثم يوقظ الحسن علياً فيقوم الثلث الأخير. فلما ماتت الأم صار علي يصلي نصف الليل، والحسن يصلي النصف الآخر، فلما مات الحسن قام علي الليل كله؛ بيت بهذه المثابة تربت فيه تلك الجارية، فكيف لا تقول هذا الكلام؟!

المرأة الصالحة وأثرها في إعداد جيل التمكين

المرأة الصالحة وأثرها في إعداد جيل التمكين جيل التمكين له ثلاثة ركائز: الأب، والأم، والولد -الذي هو الثمرة-. أي زرع لا يمكن أن يقوم إلا بثلاثة أشياء: خصوبة الأرض، وعذوبة الماء، ومهارة الأيدي العاملة. وبقدر الخلل في واحد منها يكون الخلل في الزرع، ولا خلاف بين الناس جميعاً أن أجل غراس يغرس هو الإنسان، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]، وأجل ما يغرسه المرء منا هو الإنسان. إن الأرض البور لا قيمة ولا سعر لها في الواقع، ومع ذلك فأكثر المسلمين تزوج من تلك الأرض، والأرض الخصبة أغلى ثمناً، وأعلى قيمة، فهل لهذه الأرض من مواصفات؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا حديث معروف مشهور، لكنه خرج مخرج الخبر: أي أن الناس إذا أرادوا اختيار المرأة فإنهم يراعون المال والجمال والحسب، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لم يحض إلا على ذات الدين، وترك الباقي، لم يقل فاظفر بها على أي صفة من هذه المواصفات لا، فالمواصفات الواردة في الحديث خرجت مخرج الخبر، أي: من الناس من ينشد جمال المرأة، ومنهم من ينشد مالها، ومنهم من ينشد حسبها، فحض على ذات الدين وحدها، ولكن لم ينكر عليك بعد اختيار ذات الدين أن تأخذ صفة من هذه الصفات الثلاث، فذات دين جميلة أفضل من ذات دين قبيحة، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقيرة، وذات دين جميلة غنية ذات حسب أفضل من ذات دين جميلة وغنية وليس لها حسب، لكنه حض على ذات الدين فقط. وقوله: (تربت يداك) يعني: تعلقت يداك بالتراب، والتراب هو مصدر الخير والبركة والنماء، وليس المقصود تعلقت يداك بالبركة إذا اخترت ذات الدين، فأول صفة يجب على المرء أن يبحث عنها المرأة ذات الدين. انظر إلى خديجة رضي الله عنها الكاملة الودود الولود، كيف ثبتت زوجها صلى الله عليه وسلم، وكيف استدلت بكمال عقلها على أن من كان فيه هذه الصفات لا يخزيه الله أبداً، مع أنه لم يكن نزل دين آنذاك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) يعني: لم يكمل من النساء إلى أن تقوم الساعة إلا أربع فقط، منهن خديجة وابنتها فاطمة، فقد أخذتا نصف الكمال في النساء. لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام يرجف فؤاده قال لـ خديجة: (لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فاستدلت بكمال عقلها أن مثل هذا لا يخزى، لم تقل له: كلا، لا يبتليك الله أبداً؛ لأنه قد يبتلى الأخيار، ولكن لا يخزون (كلا لا يخزيك الله أبداً) فشدت من أزره. إن أعظم ما يبتلى به الداعية إلى الله أن يتزوج بامرأة غايتها غير غايته؛ غايته الآخرة وغايتها الدنيا. قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات التي تكتب بالذهب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها كأنها نشيد ينشده، وكان يكثر من الثناء عليها وفاءً لها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على امرأة قط غيرتي من خديجة) لكثرة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها، يقول الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء، أن تغار من امرأة ميتة، ولا تغار من عدة نسوة يشركنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو العجب!! ولقد كان رسول الله يذبح فيرسل اللحم إلى صديقات خديجة، ويقول: (إن حسن العهد من الإيمان) تعلموا الوفاء. فلما أكثر من الثناء عليها قالت له مرة: (وما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟). (حمراء الشدقين) كناية عن سقوط أسنانها، فالمرء الذي ليس في فمه أسنان إذا ضحك فإنه لا يظهر إلا حمرة اللثة، تقول امرأة سقطت أسنانها، ذهب شطر الجمال، مثل العين، والشعر، فالمرء الذي ليس له أسنان يذهب بهاء وجهه. (ما يعجبك منها؟) أي ما يعجبك من امرأة عجوز، قد سقطت أسنانها، ليس لها جمال، وهلكت في الدهر، (وأبدلك الله خيراً منها) تعني نفسها، شباب وجمال، فيرد عليها قائلاً: (ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها) امرأة ذات دين تعين زوجها على نوائب الحق، والمؤمن مبتلى؛ قد يسجن الزوج؛ فتقوم الزوجة الصالحة بدور الأب في غيابه، وهي لا تتضجر من المعيشة ولا ترسل رسالة تطلب الطلاق هذا هو الوفاء! طالما الرجل صاحب دين، صاحب منهج مستقيم؛ فتصبر المرأة معه، هذا هو مقتضى الوفاء، فهذه المرأة هي ذات الدين، فلا يقوم بهذه الخلال إلا ذات الدين. ثم عدد النبي صلى الله عليه وسلم الأسباب التي جعلته يكثر من الثناء عليها، وعلى النساء اللواتي يردن الحظوة عند أزواجهن بلا تضحية ولا ثمن أن يتعلمن من هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبدلني الله خيراً منها) قال: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمته من باقي النساء)، كيف لا أحبها، وكيف لا أجلها، وكل شيء يذكرني بها. في صحيح البخاري ومسلم: (أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم -كان استئذانها كاستئذان خديجة - فلما استأذنت ارتاع لذلك النبي صلى الله عليه وسلم -شخص يذكرك بحبيبك، نفس الصوت، نفس الاستئذان، فأول ما سمع صوتها ارتاع لذلك، وفي الروايات الأخرى: فارتاح لذلك- وقال: اللهم هالة -يعني: اللهم اجعل المستأذن هالة - قالت عائشة: فغرت -حتى هؤلاء يذكرنه بها، فغارت، وقالت له هذه المقالة-: ما يعجبك من امرأة حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟) فهي ذات الدين، ولا تجمل الحياة إلا بها، فكيف قصرت وكيف فرطت في اختيار الأرض التي ستضع فيها بذرتك، ويخرج منها ولدك. أول شيء في الطريق لإعداد جيل التمكين: المرأة ذات الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود)، فربط بين هاتين الصفتين (الودود الولود)، ولذلك المرأة إذا لم تنجب تشعر في قرارة نفسها أنها ليست امرأة، وتكاد تجن أحياناً سعياً وراء الولد؛ لأن الولد يقوي الود والروابط بين الرجل والمرأة ويمتنها، فإذا أحب الرجل امرأته أحب أولاده منها، وإذا كره امرأته قد يكره أولاده منها. القصص التي نسمعها كل يوم والد لديه مال وفير، وأولاده من أفقر الناس في البلد -فأغنى الناس وأفقرهم في ذات الوقت هو البخيل- ويذهب الولد يستجدي أباه قائلاً له: لا أجد مسكناً، وعندك بيت، وعندك مال، ابن لي مسكناً. فيقول الأب: أنا رجل عصامي، وبدأت ثروتي من الصفر، لم لا تبدأ أنت الآخر كذلك؟ هل هناك أب يخاطب ابنه بهذه اللهجة، وبهذه الطريقة؟! فلما بدأت تشتكي وتسرد تاريخها مع زوجها، مشاكل من أول يوم، فكرهها وكره أولاده منها، ومن ثم يولي الدفء من البيوت بسبب عدم الانسجام بين الرجل والمرأة، وبالتالي لا يفرز لنا جيل أبداً. فـ خديجة رضي الله عنها مثال للمرأة الوفية، فهي صاحبة الدين المتين، فقد وقفت جوار زوجها لما كان وحده، في وقت عز فيه النصير، كان وحده وهي امرأة، وهي التي قوت من عزمه، واعترف لها بالفضل والجميل، ولذلك تنازع العلماء: أيهما أفضل خديجة أم عائشة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع أردف هذا بقوله: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) إنما ذيل بهذا حتى لا يضيع فضل عائشة. خديجة لها الكمال، وعائشة بالنسبة لسائر النساء ما عدا هؤلاء الأربع الكمّل كفضل الثريد على سائر الطعام، فقطعاً هذا أنزل درجة من الكمال، والتحقيق: أن خديجة رضي الله عنها أفضل للنبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة أفضل لأمته، فقد نقلت الكثير من الأحكام عائشة رضي الله عنها! وكم نقلت من الحديث والعلم! عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة تفتي وتنقل العلم، وتعلم وتهذب وتربي، والذي ينفع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل. ولذلك استدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يناقش الرافضي ابن المطهر الحلي، حينما قال: إن علياً أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما، واستدل على ذلك بحديث منكر، وهو: (أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يكسر صنماً فوق الكعبة انطلق هو وعلي بن أبي طالب، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق أكتاف علي، فعجز علي عن حمله، فصعد علي على أكتاف النبي صلى الله عليه وسلم وتناول الصنم فكسره، فاستدل الرافضي على فضل علي أنه صعد على منكبي النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ولا يوجد أحد صعد على منكبيه إلا هو). رد شيخ الإسلام رحمه الله قائلاً: كلا، بل الذي ينفع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الذي ينفعه النبي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: (ما منكم من أحد له عليَّ يد إلا جزيته بها إلا أبا بكر، فله عليَّ يد يجزيه الله بها) كأنه قال: أنا لا أستطيع أن أجزيه، فالله يتولى جزاءه، فـ أبو بكر نفع النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان شرفاً له أنه الذي ينفع لا الذي ينتفع. فـ خديجة رضي الله عنها نفعت النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك نال

المؤامرة على الحجاب

المؤامرة على الحجاب الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. التربية الإسلامية هي الباب الذي نلج منه إلى التمكين، الحروب التي تقوم في أطراف الأرض، وتنشب في كل زمان، المقصود من ورائها التمكين. لماذا يقوم النظام العالمي الجديد؟ من أجل السيطرة والتمكين، لكنهم تنكبوا الغزو عن طريق السلاح؛ لأنهم علموا أن المسلمين شجعاناً أبطالاً، أصحاب فداء، فنحوا القوة العسكرية جانباً، وبدءوا بالغزو الفكري وزعزعة العقائد، حتى استطاعوا أن يهزوا الثوابت التي يقوم عليها البنيان الإسلامي كله. لو هدم رجل جداراً من عمارة لا ينزعج أهل العمارة، لكن لو بدأ يهدم عموداً يقف الكل أمامه، وذلك لأنهم يعلمون أن العمارة كلها ستنهار، هذا الذي فعله أعداؤنا، ومكن لفكرهم هذا الطابور الخامس الذي ما نزال نعاني منه حتى الآن، والحملة مسعورة على أشدها، وازدادت على النساء بصفة خاصة، وبالذات على قضية الحجاب، وقد تركوا اللحى؛ لأنها كثرت جداً، فنقول للمنتقبات أيضاً: إذا كثر الحجاب جداً أيضاً كفوا عنه، مثلما كفوا عن اللحية. لماذا تمنع الفتاة المتحجبة من دخول الجامعة مثلاً أو دخول المدرسة بينما تدخل بنت أخرى بشعرها؟ لو اعترضت على البنت المتبرجة، لقالوا لك: حرية، فلماذا صادرتم حرية المتحجبة مع أن الدستور عندكم يقول: إن الحرية الشخصية مكفولة ما لم تضر بالآخرين؟! وأي ضرر من امرأة متحجبة؟ هي حرة. لكن هذه الحرب الضروس لا تستهدف الحجاب فقط إنما الحجاب رمز، مثلما حرقوه في ميدان الإسماعيلية الذي سموه الآن: ميدان التحرير، إشارة إلى تحرير المرأة من دينها وحجابها؛ لأنه رمز التخلف عندهم، نساء يخرجن على ثكنات الإنجليز في ميدان الإسماعيلية، ويخرجن يحاربن الإنجليز، نساء يحاربن الإنجليز!! تمثيلية لكن غبية، كاتب السيناريو غبي، ما استطاع أن يأتي بحبكة مقنعة، فقام الإنجليز يرمونهم بالرصاص، فماذا فعلت النساء؟ قمن بخلع الحجاب، وقد جهزن دلو بنزين وأضرمن النار في الحجاب فما دخل الحجاب بضرب الإنجليز إياكم؟ مسرحية غبية جداً، لكن كان المقصود حرق الحجاب كرمز. لكن هذا دين الله عز وجل، وهو الذي يرعاه ويكفله، فقد عاد الحجاب بسرعة لم يتخيلها أحد قط، والمدة التي غاب فيها الحجاب عن الساحة خمسين سنة فقط تصور، لم يزل الحجاب فجأة، إنما على مدار عشر سنوات، فمن سنة ألف وتسعمائة وثلاثين كان الزوال الحقيقي الواضح للنقاب، ورجع الحجاب سنة ألف وتسعمائة وثمانين، من سنة ثلاثين إلى ثمانين خمسين سنة -نصف قرن- ما قيمة نصف قرن في حياة الأمم؟ فلما رجع الحجاب بسرعة مذهلة فقدوا صوابهم، وصاروا يضربون ضرب عشواء في كل مكان، يريدون إيقاف هذا الزحف، كل يوم تنضم متحجبات إلى القافلة، هذا دين الله عز وجل، فالحجاب رمز، وهذا علامة الديانة. يجب أن تعتقد المرأة أنها أس البنيان كله، وأن تعرف عظم المسئولية الملقاة على عاتقها، وأنها مقصودة بهذه الحرب، وأنها المستهدفة في المقام الأول مع ضعفها، وقلة تربيتها، وعدم اعتناء أبويها بها. أيها الإخوة! اهتزت الثوابت حتى صرت تسمع في بلاد المسلمين من إذا أمر بالصلاة قال: حتى أقتنع، ومن إذا أمرت بالحجاب، قالت: حتى أقتنع، ويأتي الوالد فيعزز وجهة النظر، يقول: أنا لا أريد أن أضغط عليها؛ حتى لا تكره الحجاب، افترض أن هذه البنت لم تقتنع أبداً بالحجاب، والولد لم يقتنع بالصلاة، ما هو المآل؟ ترك الصلاة، هل هذه هي الوصية التي أوصانا الله عز وجل حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] وحياتنا في الوحي قرآناً وسنة؟ هل هذه هي الوصية؟ الله يأمر، أقول: لا حتى أقتنع!

الآثار السيئة لتقسيم الدين إلى قشور ولباب

الآثار السيئة لتقسيم الدين إلى قشور ولباب تعلمون أن هذا ترك آثاراً سلبية على دعاتنا، الذين واكبوا هذه المحنة وعاشوا أغلب أعمارهم فيها، هل تعرف كيف؟ الدعاة الذين استهانوا أو هونوا من إعفاء اللحية، ومن تطويل الإزار، وقالوا: إن هذه قشور، وكل الأحكام التي على هذا النمط قشور، تعرفون لماذا قالوا هذه الكلمة؟ لأنهم قضوا أكثر أعمارهم يقاتلون هؤلاء العلمانيين على فرضية الصلاة، فعندما يأتي أحدهم ويقول: لا توجد صلاة، فأنت تثبت أن الصلاة ركن، فإذا جاء أحدهم وقال لك: يا مولانا! ما رأيك في اللحية؟ يقول لك: أي لحية؟ الصلاة ضاعت، لا تكلمني عن اللحية، لا تكلمني عن الإزار هذه قشور بالنسبة لما نقاتل من أجله! فتركت هذه الظاهرة آثاراً سلبية حتى على الدعاة، مع أننا لا نقدح في إخلاصهم، وعندهم عاطفة ومحبة لله ورسوله، وقد قضوا أغلب أعمارهم يثبتون أن الصلاة ركن، وقالوا: هذه قشور. فتركت هذه الظاهرة آثاراً سلبية؛ إحدى هذه السلبيات: أنه لم يراع تغير الجيل، فقد جاء جيل آخر يعتقد فرضية الصلاة، إذاً فلابد أن تغير الأسلوب، أنت لا تكلم الجيل الذي كنت تكلمه في الماضي، هذا جيل جديد، ومع ذلك لا زال يقول حتى للجيل الجديد: أي لحية؟ أي إزار؟ هذه سلبية عانينا منها وما زلنا نعاني. وصل الحال ببعض المنتسبين إلى العلم أن يهاجم الحجاب أكثر من مهاجمة التبرج والسفور، ويقول: الفرض تغطية البدن كاملاً سوى الوجه والكفين، واتخذت هذه الدعوة سلماً إلى التبرج والسفور، وهذا كله بسبب التهوين، فحتى الذين يدعون إلى الله أصيبوا بسبب هذه المحنة. الثوابت تهتز ولا زالت تهتز حتى الآن، فالاعتداء على شخص الرسول عليه الصلاة والسلام موجود، والقائل أنه هل مات بالزائدة الدودية أم لا، كان ينبغي أن يعزر بأن يجلد، وقد يصل التعزير إلى القتل، إذا كان يستهزئ بشخص الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إذا قال كلاماً فيه استهزاء وإن لم يقصد، هذا هو القول الراجح من أقوال أهل العلم، من استهزأ بالله ورسوله، واستهزأ بدين الإسلام يقتل، حتى لو أظهر الرجوع؛ لأنه لو جاء رجل فسب النبي عليه الصلاة والسلام واستهزأ به، فلما رأى بارقة السيف قال: تبت؛ تركناه، فاستهزأ آخر، فلما أردنا أن نقيم عليه الحد قال: تبت؛ تركناه، فاستهزأ ثالث، فقال: تبت وهكذا تذهب حرمة نبينا صلى الله عليه وسلم، فحفاظاً على مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل هذا الشخص، وإذا تاب فتوبته بينه وبين الله، لكن يقتل تعزيراً، لأنه قد يصل التعزير في مثل هذه الحالة إلى القتل. واحتج العلماء لها بأحاديث منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد امرأة مقتولة، ولم يعرفوا من الذي قتلها، فقال: (أنشد الله رجلاً لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام، فقام رجل أعمى فقال: إني قتلتها، كانت زوجتي، وكانت بي بارة، لكنها كانت تكثر الوقيعة فيك، فكنت أنهاها فلا تنتهي، فقمت إليها فقتلتها، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا اشهدوا أن دمها هدر) دمها هدر، كانت تسب النبي عليه الصلاة والسلام. فكيف يترك هؤلاء دون أن يعاقبوا؟! ولم يصل هؤلاء إلى هذا طفرة، لكنهم لما رأوا أشياء كثيرة تهتز اهتزازاً عنيفاً ساغ لهم أن يهزوا هذا الأصل أيضاً بأسلوب غير مباشر، تقول له: تتكلم عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي! هذا كلام علمي، وأنا عندما أذكر النبي أقول: محمد أقول صلى الله عليه وسلم، وعليه الصلاة والسلام، لكن هذا كلام علمي. حسناً هل الجثة موجودة الآن وبإمكانك أن تشرحها حتى تفيد البشرية من هذا المرض، لو جاز لك أن تقول: أنا أشرح إنساناً، وآخذه من المشرحة وأسرقه من أجل أن أعمل أبحاثاً تفيد البشرية، ونطور من خلالها العلاج، ونعرف طبيعة المرض، لو جاز لك ذلك في إنسان له جثة، فما هي الفائدة العلمية التي تعود على هذا الكاتب حتى يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً؟! الفائدة أنك تتكلم عن الرسول فقط، وتتناول شخصه كأنه مثل أي شخص آخر، ممكن فيما بعد أن نشرح مواقفه وأخلاقه، ونعترض عليه، والأمر طبيعي، وهذا كله باسم المنهجية العلمية، وهذا كله علم، ونحن لم نسبه ولم نشتمه، لكن نتكلم كلاماً علمياً. وتصبح شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام -التي لم تمس- سهلة المسيس، وأي إنسان ممكن أن يتكلم عليها، وأي إنسان ممكن أن يتناول جانباً آخر من حياته، وقد يظهر شخص ويقول لك: هل مات باللثة -مرض في اللثة- ويستدل بحديث في البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما زلت أعرف أثر السم في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات) ويأتي لك بتشريح للثة وتشريح للأسنان ويتكلم، وكأنه يتكلم عن شخص عادي، فليس هذا من الوقار والهيبة والاحترام للنبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يشرح يتكلمون عليه، حتى الذين لا يصلون يتكلمون عنه. نحن أمام طوفان هائل، أين هذا الجيل الذي يقف ولاءً لله ورسوله في زمان الغربة، يدافع عن الله ورسوله، وعن دين الله ورسوله في زمان الغربة، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لا يستوي من نصر الله ورسوله في وقت عز فيه النصير مع الذي انضم إلى القافلة بعد رجوع الناس زرافات ووحداناً إلى دين الله تبارك وتعالى. جيل التمكين صار ضرورة، وبكل أسف بعض الذين ينسبون إلى الالتزام والتدين لم يراعوا هذه المسألة، فعندما تنظر إلى أولادهم لا ترى كبير فرق بينهم وبين أولاد غيرهم، كل هذا بسبب أن الأيدي العاملة القائمة على استصلاح الأرض ليست ماهرة، نحن قلنا: الصلاح له ثلاثة أركان: خصوبة الأرض، ومهارة الأيدي العاملة، مع عذوبة الماء إذا تجمعت هذه الثلاث أخرجت لنا زرعاً قوياً. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

خطر اليهود

خطر اليهود لقد بين الله عز وجل خطر اليهود على الأمة الإسلامية وذكر في كتابه العزيز أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وعداوتهم لهذه الأمة ليست أمراً جديداً، بل إنها بدأت منذ ظهور الدعوة الإسلامية، فقد كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله وألبوا عليه القبائل، وها هم في عصرنا الحاضر يكيدون لنا بشتى الوسائل والأساليب، فتارة بالسلاح كما يحصل في فلسطين، وتارة بالمسخ الأخلاقي والغزو الثقافي كما يحدث في كثير من البلدان، وتارة بالدعوة إلى السلام والحب والوئام، والذي باطنه التربص بالمسلمين وتغريبهم عن دينهم.

أعداء المسلمين في المرحلة المدنية

أعداء المسلمين في المرحلة المدنية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتوطيد العلاقة بين أفراد هذه الأمة وبين الله عز وجل ببناء المسجد، ثم وطد العلاقة بين أفرادها بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم بيَّن علاقة المسلمين بالذين لا يدينون دين الحق من أهل الكتاب ومن أهل الأوثان. فعندما ظهر الإسلام في مكة لم يكن هناك إلا عدو واحد ظاهر، وهم: أهل الأوثان فقط، وكانت عداوتهم ظاهرة سافرة، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ظهر صنف ثانٍ لم يكن إذ ذاك بمكة وهم: المنافقون. ولم يكن في مكة نفاق، وإنما ظهر النفاق في المدينة، وكان لظهوره عدة أسباب، وظهر في المدينة المنورة عدو قديم وهم اليهود، فصار الإسلام محاطاً في المدينة المنورة بثلاثة من أعدائه: المشركون الذين كانوا يسكنون أصلاً في مكة ولهم أذيال في المدينة، ثم اليهود، ثم هذا الصنف الجديد وهم المنافقون. وسورة البقرة سورة مدنية فضحت اليهود والمنافقين، ففي مطلع هذه السورة المباركة تجد أوصاف هؤلاء الثلاثة: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، فوصف الله عز وجل المؤمنين في أربع آيات، ووصف الكافرين في آيتين، ووصف المنافقين في ثلاث عشرة آية؛ لأنه صنف جديد، شديد الدهاء والمكر، واعلم أنك لا تؤتى من عدوك بقدر ما تؤتى ممن يدعي أنه صديقك وهو ليس كذلك.

خطر النفاق على الأمم والحضارات

خطر النفاق على الأمم والحضارات إن النفاق أمرّ وأمضى من السيف على رقاب الأمم، وإذا نظرت إلى هلاك أية أمة تجد أن النفاق لعب دوراً كبيراً في هلاكها، وقد حكم الله عز وجل أن المنافقين ليسوا بمؤمنين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9]. فالعجب أن بعض المسلمين يقول: إن المنافقين مؤمنون، والمنافقون الذين حكم الله عز وجل بكفرهم هم الذين كانوا ينافقون نفاق عقيدة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء:145].

أقسام النفاق

أقسام النفاق النفاق قسمان: نفاق عمل، ونفاق علم واعتقاد.

القسم الثاني: نفاق العمل

القسم الثاني: نفاق العمل نفاق العمل مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والحديث الآخر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً -وفي رواية: من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها- إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان). هذا النفاق نفاق العمل دركات، وكما أن الإيمان يزيد وينقص، والكفر أيضاً دركات، فكذلك النفاق دركات؛ فالذي يحدِّث ويكذب مرة أو مرتين لا يعتبر داخلاً تحت هذا الحديث، لأن كلمة (إذا): تدل على الاستمرار، هذا دأبه: وأنه كلما حدث كذب، فإذا هنا بمعنى: كلما، أي أن هذا صار شعاراً له؛ كلما حدث كذب، وكلما وعد أخلف، وكلما اؤتمن خان، وكلما خاصم فجر، وكلما عاهد غدر، هذا هو الذي يطلق عليه اسم المنافق، أما الذي يكذب مرة أو مرتين، أو يخلف مرة أو مرتين، ولم يكن ذلك له بخلق، فهذا لا يدخل تحت الحديث. ويدل على ذلك أن في بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام علق هذا الوصف بالذي ينوي أن يكذب إذا حدث، وينوي أن يخلف إذا وعد، أما إذا وعد، ثم جاء أمر خارج عن إرادته وقدرته، فهذا لا يدخل تحت نفاق العمل. فهؤلاء المنافقون الذين ملئوا الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كان لهم شأن عظيم جداً -كما ستعلمون- لاسيما في الغزوات، وقد قال الله عز وجل في بعضهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، في هذه الغزوة الله تبارك وتعالى ثبط أولئك عن الخروج؛ لأن خروجهم كان فيه مضرة عظيمة. لماذا وصف الله عز وجل الكافرين في آيتين فقط من مطلع سورة البقرة، ووصف المنافقين بثلاث عشرة آية؟ إن الله لما بدأ بالمؤمنين ثنَّى بالكافرين، وإنما يذكر الشيء ثم يذكر ضده، ثم ألحق المنافقين بالكافرين، ولو لاحظت الترتيب في السورة ستراه بدأ بالمؤمنين؛ لأنهم أهل أن يبدأ بهم، ثم ثنى بالكافرين الذين لا اختلاف عند المؤمنين بكفرهم، ثم ثلث بالذين يتصور بعض المسلمين أنهم من المؤمنين، فألحقهم بالكافرين، فهذا الصنف الذي يتردد فيه النظر أهو مسلم أم هو كافر؟ ذكره بعد الكافرين وألحقه بهم ترجيحاً لكفرهم.

القسم الأول: نفاق الاعتقاد

القسم الأول: نفاق الاعتقاد فالذي ينافق نفاق اعتقاد كافر، بل هو أشر من الكافر، وهو الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] أي: دون الكفرة بدركة أو بدركتين إلى ما شاء الله عز وجل، والذي ينافق نفاق اعتقاد بخلاف الذي ينافق نفاق العمل، فالذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ينافقون نفاق اعتقاد. ما سبب هذه الفئة الجديدة؟ معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل المدينة وادع كل من كان حولها ومن كان فيها -أي: سالمهم- لأنه لا قبل له بهم، وادعهم حتى موقعة بدر، فبدأ النفاق يظهر؛ لأن القوة الإسلامية بدأت تظهر. فما ظهر النفاق إلا لقوة الدولة الإسلامية بعد موقعة بدر؛ لأن موقعة بدر فصلت الأمور فصلاً تاماً، ورفعت المسلمين رفعاً عظيماً ما كانوا يتوقعونه، فبدأ المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول - يوادعون وينافقون ويظهرون خلاف ما يبطنون، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرف ذلك منهم، لكنه أعلم الناس أن الحكم إنما يكون بالظاهر، وحتى لا يفتات الناس على الله عز وجل، فيحكموا على العباد بما يظنونه في قلوبهم. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين، لاسيما بعد غزوة تبوك التي تخلف فيها أكثر من ثمانين من المنافقين وصاروا يعتذرون بشتى الاعتذارات كي لا يخرجوا في هذه الغزوة، بسبب شدة الحر، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاءه المعذرون يعتذرون إليه؛ برغم أنه كان يعلم نفاقهم وكذبهم، إلا أنه قبل منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل. ومما يدلنا على معرفته بالمنافقين: أنه لما جاء كعب بن مالك وقال: (يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين كما جمعتهما في هذه الغزوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أما هذا فصدق) ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن الثمانين الذين اعتذروا قبل ذلك كذبوا عليه، ومع ذلك قبل علانيتهم واستغفر لهم: (وأما هذا فصدق، فقم حتى يحكم الله فيك)، فكان يعرفهم؛ لكنه لا يستطيع أن يقول لرجل جاء وقال: أنا آمنت، أن يقول له: لا أنت كاذب، أنت تضمر خلاف ما تقول، فإن هذا يجرئ العباد بعده على أن يحكموا على ما في قلوب العباد، وهذا خطير جداً، ولو أن هذا الباب فتح، لفتح به شر مستطير لا يعلمه إلا الله. ولذلك لا يجوز للقاضي أو للحاكم أن يحكم بخلاف ما يسمع من لسان المتهم إلا إن كان عنده قرينة قوية تدل على كذبه، أما أن يحكم على ما في قلبه أو يقول: لا. أنت تضمر خلاف ما تقول بغير حجة ناهضة؛ فهذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وجميع أنبياء الله عز وجل إنما يحكمون بالظاهر. ألم تر إلى أسامة بن زيد لما كان في غزوة من الغزوات -كما روى البخاري في صحيحه - إذا به يرى رجلاً من المشركين أمامه، فعلاه بسيفه؛ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، فما تركه أسامة حتى قتله، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام مستنكراً عليه: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! قالها تقية، قالها خوفاً من القتل، قال: هلا شققت عن قلبه! أقتلته بعد أن قالها؟! قال أسامة: فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا حين ذاك). في موقف ترجح لـ أسامة أن هذا الرجل كاذب، وهو في موقف قتال ضد المسلمين، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فترجح لدى أسامة أن هذا الرجل كاذب، وأنه يريد أن ينجو من القتل بهذه الكلمة، فلم يعذره، وقد يكون أسامة معذوراً؛ لأن الظروف والملابسات المحيطة بهذا الرجل أدته إلى هذا الفعل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شدد عليه جداً، وهو يقول له: (أقتلته بعد أن قالها؟!) وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحكم بالظاهر، وأننا نقبل علانية الرجل وإن كان كاذباً في الباطن، حتى نعلم علماً يقينياً أنه كاذب، فإن دماء بني آدم معصومة لا تهدر إلا بيقين. ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ادرأوا الحدود بالشبهات) كان يرشد إلى أنه لو اشتبهت بأن هذا الرجل لابس الحد أو لم يلابسه، فاعتبر أنه لم يلابس الحد؛ فإذا وقعت للقاضي شبهة، فلا يحل دم المسلم بالشبهة، وإنما يهدر دمه بيقين، فلذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن المنافقين كاذبون، ومع ذلك ما أحل دماءهم؛ حتى لا يتجرأ من يأتي بعده، مع كونه عليه الصلاة والسلام المكلم من السماء. فهذا الصنف الذي ظهر في المدينة المنورة ظهر بسبب قوة الدولة وشوكتها، ولكم عانى المسلمون الأمرين من جراء هذا الصنف أما الصنف الآخر الذي ينافق نفاق عمل فهو كثير جداً، وهو الذي ابتلي المسلمون به، لاسيما في زماننا هذا ومع ذلك -والله أعلم- قد يكون هناك الذين ينافقون نفاق الكفر، ولكن ما أمرنا أن نشق عن بطن أحد.

كيد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته

كيد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته كان أكثر هؤلاء الذين ينافقون نفاق الاعتقاد من اليهود؛ لأنهم حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبغوا عليه وكذبوا عليه، ولا أدل على ذلك من أول واقعة حدثت قبل أن يبني النبي صلى الله عليه وسلم المسجد. إن الأنصار كانوا يخرجون كل يوم إلى طرقات المدينة ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مكة، فكانوا كل يوم ينتظرون حتى الظهيرة ثم ينقلبون إلى بيوتهم، فأول من رأى الرسول عليه الصلاة السلام قادماً رجل من اليهود، حبر من أحبارهم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام يزول به السراب؛ لأنه كان يلبس لباساً أبيض؛ صرخ بأعلى صوته وقال: هذا جدكم أيها العرب! فخرج المسلمون إليه بالسلاح. وأول موقف حدث بعدما وطئت أقدام النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مع هؤلاء اليهود يقصه لنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان حبر اليهود الأكبر، يقول: (إذ سمعت بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: فجئته فأول ما نظرت إلى وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسألته عن مسائل، فأجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، فأسلم عبد الله بن سلام، وقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي يكذبون ويفترون- وإنهم إذا علموا بإسلامي بهتوني ما ليس فيَّ، فادعهم وسلهم عني وأنا مختبئ في هذه الدار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود، فلما دخلوا عليه قال: يا معشر يهود! اتقوا الله؛ فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً. قالوا: ما نعلمك (ثلاثاً). فقال لهم: ما عبد الله بن سلام فيكم -أي ما منزلته-؟ قالوا: هذا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. فقال لهم: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشا لله أن يسلم! -وفي رواية قالوا: معاذ الله أن يفعل ذلك!! - فقال: اخرج يا عبد الله، فخرج من وراء الحائط وهو يقول لهم: اتقوا الله! فإنكم تعلمون أنه رسول الله حقاً. قالوا له: كذبت. فأنت شرنا وابن شرنا، ثم خرجوا). كان هذا أول موقف لليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبني المسجد، يكذبون ويفترون (اتقوا الله يا معشر يهود فإنكم تعلمون أني رسول الله حقاً) يقولون: ما نعلمك!! وهم يكذبون؛ لأن الله عز وجل قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أي: ليس هناك رجل يجهل ولده، فكما أنهم يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون صفته عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جحدوه، فكان لهم معه أمر عظيمٌ جداً، ونكل بهم بعد ذلك أشد التنكيل، كيف لا ينكل بهم الذين افتروا حتى على رب العزة، وتاريخهم مع نبيهم بل مع أنبيائهم جميعاً تاريخ معروف حافل بالغدر والخديعة؟!

صور من محاولات اليهود في إبعاد المسلمين عن دين ربهم

صور من محاولات اليهود في إبعاد المسلمين عن دين ربهم وهنا نتطرق لدراسة نفسية اليهود، وأخلاقهم لتعلموا الخطر المحدق بهذه الأمة بسبب مسالمتها لليهود.

الغزو الفكري والثقافي

الغزو الفكري والثقافي إن تاريخ الغزو الفكري يدل على دهاء اليهود وغفلة المسلمين، فلقد علم اليهود وكل الذين عادوا المسلمين أنهم في الحرب المباشرة يخسرون، والمسلم من أجسر الناس قلباً في الحرب، لاسيما إن استنفرته باسم الدين، فإنه يتطلع إلى جنة الله عز وجل، يشتاق إليها، لا ينظر إلى روحه، وهذه مسألة معلومة من وقائع السيرة النبوية والغزوات، والله عز وجل قال عن اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]. لقد دخل اليهود معنا في معركة، ونحن في هذا العصر لم نلتفت إليها بل لم نحسنها، وهي معركة الغزو الفكري. معركة الغزو الفكري هي أن يدمر دينك وأنت لا تشعر؛ فبدلاً من أن يدخل معك في حرب مباشرة، يحصل مقصوده وهو هناك على مكتبه، وأقرب الأمثلة على ذلك فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وأنتم تعلمون أن القائمين على جائزة نوبل هم اليهود، وقد علم اليهود أن المسلمين يتحرقون شوقاً إلى الفوز بجائزة نوبل، ويرون أنهم على سنار الكرة الأرضية، ولا قيمة لهم إن لم يفوزوا بجائزة نوبل، وعلموا هذا من الترشيحات المستمرة للأدباء المصريين والعرب وأنهم يفشلون في كل مرة، فنظروا وفتشوا، فإذا هذا الرجل نجيب محفوظ له هذه الرواية: (أولاد حارتنا) طبعاً اسم مضلل يضلل العوام؛ لأن هذه الرسالة أو القصة نشرت في جميع بلاد الغرب باسمها الحقيقي: (موت الإله)، واعترض عليها الأزهر سنة (58) وحرم هذه الرواية، وترجمت في جميع بلاد العالم بهذا الاسم: (موت الإله) الذي يصف الله عز وجل فيه بأنه ظالم، وأنه تزوج بامرأتين، وأنه ظلم إبليس؛ لأنه كان يقسو عليه، وكان ظالماً لأمه، وكان يدلل المرأة الأخرى، ومن فجره أنه سمى الأولاد بأسماء قريبة من أسماء الأنبياء. فالنبي صلى الله عليه وسلم اسمه في هذه الرواية (قاسم)؛ لأنه أبو القاسم، وصفه في هذه الرواية بأنه طيب وابن حلال، لكنه وإن كان كذلك فإن دعوته بالخير لم تثمر عند أحد؛ لأنه لا أحد يقتنع بدعوته في هذا الزمان مع ظلم هذا الإله الكبير، هذا الرب الذي يقعد في هذا البيت، وقد ظلم المرأة وظلم أولادها، يجعل جميع الأنبياء سفاكين، وإبليس مظلوماً؛ لأن أباه ظلم أمه، فهو مظلوم، فيعتذر عن إبليس ويتهم الأنبياء. ثم يزعمون أن هذه إشارات للخير والشر وأن هذا فن، فهذا العفن الذي أخذناه من اليهود فن. وكلية الفنون الجميلة تأتي فيها المرأة عارية كما ولدتها أمها -وحتى الآن- ثم يأتون بالشباب يرسمونها على كل وضع: على ظهرها، وعلى جنبها، واقفة وراقدة، ويزعمون أن هذا فن. وفي السياحة والفنادق يعلمون الشباب صنع الخمور، وكيفية التمييز بين الخمور المختلفة، وكيفية معرفة الخمور المسمومة أو الزائفة من غيرها، وكيفيه تقديم الخمور بلطافة للذي يشرب، كل هذا أتانا من اليهود. ولما علم اليهود أننا نتحرق شوقاً لجائزة نوبل، نظروا فوجدوا أولاد حارتنا، ووجدوا أن الأزهر صادر هذه الرواية، فقالوا: كيف ننشر هذه الرواية؟ -هذا سؤال يسأله اليهود لأنفهسم- كيف ننشر هذه الرواية ويعلمها القاصي والداني، ونحلل دينهم من خلالها؟ قالوا: نُعطيه جائزة نوبل! وفعلاً رشحوه لجائزة نوبل، وصفق الشرق العربي كله لفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وما هي إلا ثلاثمائة وتسعون ألف دولار قيمة الجائزة؛ يعني: مليون جنيه، ونستطيع بها تحليل عقائد ألف شاب أو مائة شاب. ونشرت الرواية على رغم أنف الأزهر، وتباع على الأرصفة، وصار لها شأن عظيم، وخرج الأدباء يكفرون المشايخ، ويتهمونهم على صفحات الجرائد بالجمود، ويقولون: هذه حرية رأي، ويأخذون حديثاً من نجيب محفوظ يقول فيه: أنا أرجو من علماء الدين أن يبعدوا الدين عن هذه الأشياء، فمسألة المصادرة والحجر هذه كلمات يجب أن تلغى من القاموس أصلاً، ويتهكمون أن رجال الدين أفقهم ضيق لا يفهمون الفن، ولا البلاغة ولا الإيماءات. وكذلك هذه الأغنية التي حصل عليها ضجة: أغنية (من غير ليه) ورفع بعض المسلمين دعوة على المغني وعلى الكاتب؛ لأنه يقول: (أنا مش عارف من أين أتيت ولم أتيت وما فائدة هذه الحياة)، فنسمع من الذين يسمون بالمؤرخين المسلمين -وهذه مصيبة كبيرة- يأتي على صفحات الجرائد ويقول: نصيحة إلى علماء الدين: يجب أن يجردوا الفن من الدين، فالفن هذا شيء والدين شيء آخر، لا يجوز أن يكون الدين حاكماً على الفن وإلا حكمنا على كثيرين بالكفر. فمثلاً: نحكم على الذي قال: (قدر أحمق الخطى) بالكفر، ألا يرى أن هذا كفر؟ وقام الأزهر من عشر سنوات وعمل ضجة حتى تلغى هذه الأغنية، ومع ذلك تذاع ليل نهار. فهذا الرجل يقول: يجب أن ننحي الدين عن الأغاني فهذا فن! وهذا امتداد لقولهم أن الدين لا يهيمن على الحياة، مع أنهم يعلمون أن كاتب الأغنية نصراني؛ فهو أصلاً كافر، واسمه: مرسي جميل عزيز. فهذا من مخلفات الغزو الفكري، أن ينشر هذه القضايا التي استدعاها اليهود في هذا البلد الآمن، ولنا مع هؤلاء وقفة ووقفات حتى نظهر كيدهم ونبصر المسلمين بالدور الكبير الذي يقوم به أذنابهم وعملائهم في بلاد الإسلام. نسأل الله عز وجل الرحمة، ونسأله العافية من كل داء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الدعوة للسلام

الدعوة للسلام إن أعظم كسب لليهود أن توادعهم الأمة المسلمة، ولا يحتجن أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود؛ كما قال بعضهم واحتجوا بقول الله عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] بل وخرج بعض الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا يطبلون لهذا السلام المزعوم. ونحن لسنا في شهوة لدماء البشر، ولقد عُرف المسلمون في كل مراحل التاريخ أنهم أقل الناس سفكاً للدماء، وأنهم أقل الناس ولوغاً في دماء الخلق، ولكن اليهود قوم لا خلاق لهم، قال الله عز وجل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] فنبذ العهد سمة معروفة من سمات اليهود، ثم إن جنحوا هم فسأجنح أنا، والآية لفظها صريح جداً: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] أما هؤلاء فلا يجنحون لسلم أبداً. أترى رجل يجنح للسلم وعنده سنة (1976م) مائة وعشرون رأساً نووياً. لماذا يسعى إلى تصنيع السلاح الذري؟! ولماذا يضرب بمنتهى البجاحة كل المفاعلات النووية في بلاد المسلمين؟! حتى البلاد التي لا تظهر عداوتها صراحة كالباكستان مثلاً، ضربوا المفاعل النووي في باكستان، بل وقتلوا علماء الذرة المصريين والمسلمين في باريس كالدكتور: يحيى المذهبي الذي كان يتعاهد المفاعل النووي العراقي، ومعروف أن المفاعل النووي العراقي ضرب سنة (1980م)، وخرجت الطائرات بمنتهى الاطمئنان وضربته ورجعت ولم تعتذر. إن السلام حقيقة مسلوبة والعدل فلسفة اللهيب الخاب لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالإرهاب لا يمكن أن يكون هناك سلام وعدوك يتربص بك، فهذه هدنة وليس سلاماً، يهادوننا حتى يسترجعوا أنفاسهم ويصنعوا أسلحتهم. قرأنا في الجرائد عن القنبلة الخطيرة التي تصنعها إسرائيل اليوم، وهي قنبلة آثارها لا تلحق بإسرائيل وتلحق بمصر مثلاً أو الشام وهذه البلاد، أرأيتم إلى القنبلة الموقوتة التي ضرب بها رشيد كرامي في لبنان، قنبلة موقوتة وضعت تحت الكرسي تنسف الرجل فقط ولا تنسف الطائرة، بالرغم من أن الطائرة حجمها صغير، فقتلت الرجل ولم تصب الطائرة بشيء. فإذا كانوا سنة (1976م) -أي: منذ أكثر من عشر سنوات- كان لديهم مائة وعشرون رأساً نووياً، وهذا الذي ظهر، والذي لديهم لا شك أنه أكثر من ذلك، ويصنعون القمر الإسرائيلي المعروف، حتى خرج بعض الذين لا يعون في هذا الأسبوع وقال: لا خطر علينا إطلاقاً من القمر الصناعي الإسرائيلي، ما شاء الله!! لا خطر إطلاقاً!! يعني: كأن إسرائيل هذه دولة حميمة صديقة جداً لا تتربص الدوائر بالمسلمين! يعني: اطمأنوا وناموا! والذي يدرس تاريخ هؤلاء يعلم علماً يقينياً أنهم لا يجنحون لسلام أبداً، اقرأوا مذكرات القادة الإسرائيليين عن حرب [73] كانت لحكمة بليغة، وكان نصراً مؤزراً. فهؤلاء اليهود الذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوا أمته قال الله فيهم مقالة صريحة تصم آذان الجهلة -إن لم يكن المعتدين على حدوده-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إذاً: القضية محسومة، طالما أنك على الإسلام فثق أنك في محل السخط من هؤلاء. هل نسيتم أيها المسلمون دير ياسين؟ ألم تقرأوا حتى التاريخ المعاصر؟ كان الرجل اليهودي يأتي على امرأة مسلمة حامل في الشهر الأخير، ثم يقول للذي بجانبه: الذي في بطنها ذكر أم أنثى؟ فواحد يقول ذكر والآخر يقول أنثى، فيتراهنون، ثم يبقرون بطنها حتى يعلم الذي في بطنها أهو ذكر أم أنثى!! إن كنتم قد نسيتم دير ياسين فأنا أظنكم لن تنسوا صبرا وشاتيلا، مذابح بالألوف المؤلفة. لقد رأينا مناظر يندى لها الجبين: طفل بريء وقد غطى الدم وجهه ورمي جيفة للكلاب، وما يحدث الآن في لبنان ليس ببعيد {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] كيف؟ لكننا ننسى بسرعة!

من كيد اليهود

من كيد اليهود الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن دور اليهود في حياة المسلمين المعاصرة يكاد يدخل في كل شيء، أرأيتم وأنا أدعو المسلمين أن يقرءوا التاريخ المعاصر قراءة متأنية، أرجو أن تقرأوا التاريخ المعاصر بدءاً من الحملة الفرنسية على الأقل. إن حرق الحجاب في ميدان الإسماعيلية -الذي هو ميدان التحرير الآن في القاهرة- كان بسبب اليهود أيضاً، فقد كان قبل سنة (1919م) النقاب منتشراً، ولعل الذين هم فوق سن السبعين الآن رأوا هذا النقاب الذي كانت المرأة تغطي به الوجه؛ ففي الريف -على وجه الخصوص- وفي بعض المدن، كان النقاب منتشراً ثم قامت ثورة التاسع عشر، وخرجت النساء وصفية زغلول التي يسمونها أم المصريين في مقدمة الركب، وذهبن ليتظاهرن على الإنجليز، ثم خرجت قوات الاحتلال الإنجليزي لتضرب هؤلاء النسوة، فما كان من النسوة إلا أن فعلن شيئاً في غاية العجب: خلعن جميعاً هذا الحجاب وحرّقنه بالنار. فما علاقة الحجاب بالاحتجاج على الإنجليز؟! يمثلون ولكن لا يحسنون حتى الكذب، ما علاقة هذا الحجاب بالاحتجاج على الإنجليز؟ فالمقصود من خروجهن حرق الحجاب وليس ضد الإنجليز، وماذا سيفعلن النساء ضد الإنجليز وقد خرجن عزّلاً من السلاح؟! كان المقصود أن يحرق هذا الحجاب، وأن يداس بالأقدام؛ ولذلك غيروا اسمه من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان التحرير، إشارة إلى تحرير المرأة، وكأن الإنجليز هم الذين فرضوا عليها هذا الحجاب؛ فنكاية فيهم نحن نحرق هذا الحجاب، وبدأ السفور من أيامها إلى الآن. هذا أيضاً من صنع اليهود، هؤلاء اليهود الذين عروا يوماً امرأة واحدة، فوضع يهودي ذيل المرأة في طرفها أو في عمود أو خشبة، فلما أرادت المرأة أن تقوم انكشفت عورتها، وهذا بفعل يهودي، صرخت وقالت: (وامعتصماه) ثم فتحت عمورية لأجل هذه المرأة. رجل عنده نخوة من المسلمين، سمع وامعتصماه فأخذته النخوة والعزة بالإسلام، وذهب إلى المعتصم يمشي على قدميه وهو يقول: رأيت كذا وكذا، وصرخت المرأة وقالت: وامعتصماه! ولأجل هذه المرأة جرد المعتصم جيشاً وفتح عمورية. ألا ترون أن اليهود هم الذين عروا جميع نساء المسلمين اليوم؟! ثم انظر إلى الفرق، امرأة واحدة فتحت بها عمورية، ونساء المسلمين اليوم عرايا كلهن، إلا من عصم الله، وهذا بسبب فعل اليهود، وما تحرك أولئك، كل شيء يدخلون النساء فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). وتجدون في مذكرات الذين حضروا الحرب العالمية الثانية: لماذا هزم هتلر مع أنه كان في أول الحرب قد انتصر انتصاراً عظيماً جداً؟ ستجدون أنه غُلب بالنساء؛ فقد كان هتلر رجلاً عسكرياً صارماً، فمنع الإجازات عن المتزوجين منهم -أي: ليس هناك أي إجازات إطلاقاً- حياة قاسية فعلم اليهود بذلك، فسربوا النساء إلى معسكرات الجنود ليلاً، بعد أن حقنوهن بحقن تجعل الذي يجامع هذه المرأة يفقد أعصابه، فأول ما رأى هؤلاء الجنود النساء كان حالهم كالجائع إذا رأى الطعام، وبعد أن يجامع المرأة يقعد وقد شلّت أعصابه. فاليهود قوم دهاة يحتاجون إلى ذكاء وحذر في معاملتهم. الاستراتيجيون العرب أبدوا مخاوفهم من هذا القمر الصناعي الإسرائيلي، وقالوا: إنه على ارتفاع شاهق جداً ويصور أي شيء في بلاد المسلمين، بحيث أنك إن أردت أن تتدرب سراً مثلاً لا تستطيع، لماذا؟ لأنه يكشفك، فبلادك كلها مشكوفة بهذا القمر، ومع ذلك يخرج رجل فيقول: ليس هناك إطلاقاً أي مخاوف من القمر الصناعي الإسرائيلي. ونحن منذ قبل سنة ثمانين نريد أن نصنع مفاعلات نووية في مصر، ونقول: إنها مفاعلات سلمية، يعني: لإنتاج الطاقة والكهرباء فقط، وإسرائيل معترضة على ذلك، هم يفعلون ما يشاءون ونحن لا نجرؤ حتى على الاعتراض، ولو اعترضنا لا قيمة لهذا الاعتراض، هذا كله بسبب تغلغل اليهود في حياة المسلمين، وبسبب ضعفنا نحن وبعدنا عن ديننا. فهؤلاء اليهود جندوا المرأة، واستوعبوا كل إمكانياتها في إضلال جميع الخلق، وعلى رأسهم المسلمون. فمثلاً: في الإعلانات هناك إعلان عن إطار سيارة -عجلة سيارة- فتجد الإطار ثم فخذ امرأة بجانب الإطار، ما علاقة فخذ المرأة بإطار السيارة؟! وهلا وضعتم فخذ رجل! أي شيء يضعون المرأة فيه؛ لعلمهم أن هذا هو الذي يقتل المسلمين فعلاً. فهؤلاء اليهود دهاة جداً وماكرون جداً، ولو استطعنا أن نأخذ حذرنا منهم، فهذه هي أولى درجات النصر. نسأل الله تبارك وتعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن ينصرنا على من بغى علينا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

رعاية المصالح

رعاية المصالح (جلب المصالح ودرء المفاسد) قاعدة شرعية متفق عليها بين علماء الإسلام، بل إنه ما أنزلت الشرائع إلا لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها. لكن بعض الناس يتخذ المصلحة صنماً يعبده، ويفهم هذه القاعدة على هواه، فيرد بها من أحكام الشريعة ما لا يقوم الإسلام إلا به، فيجيز لنفسه ولأتباعه الطواف بالقبور والتمسح بها، ويزعم أن ذلك من المصلحة الشرعية، وهذا الفعل قد علم من دين الإسلام أنه من الأعمال الشركية التي لا مهادنة فيها، ولا مصلحة مع بقائها.

حكم المصلحة إذا عارضت النص أو القياس أو الإجماع

حكم المصلحة إذا عارضت النص أو القياس أو الإجماع إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سمعت بعض الذين يجيزون الخروج والاعتكاف في المساجد، سمعت ممن سمع منه هذه الفتوى، قال: يجوز للمسلم أن يخرج في سبيل الله، وأن يعتكف في مسجد فيه قبر. فإن كانت المصلحة تقتضي ذلك لقال ما هو أبعد من ذلك، وقال لهم أيضاً: إذا رأيتم جماعة يطوفون حول ضريح، فطوفوا معهم بنية الدعوة، طف معه حول القبر، وأنت تمشي في الأشواط كلمه، ادعه، إن كانت المصلحة تقتضي ذلك، ثم احتج بقصة الغرانيق، ولقد طار لبي، وقفَّ شعري، واقشعر جلدي؛ أن يكون هناك مسلم يحتج بقصة الغرانيق، وأنا أعلم أن الجمهور الأعظم من الجالسين لا يعرف قصة الغرانيق. أولاً: نحن نعلم أن المصلحة المعتبرة شرعاً يشترط فيها ألا تصادم كتاب الله عز وجل، ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصادم القياس، وتحقق المصالح الخمسة، وهناك شرط أخير: وهو ألا يفوت بفعل هذه المصلحة ما هو أعظم منها. فمثلاً: لو أن هناك قطعة أرض، ولكنها معبر يمر الناس منها، فاستولى عليها بعض الناس أو أخذها؛ يريد أن يبني عليها بيتاً، لا شك أن هذا يحقق له مصلحة، لكن تحقيق هذه المصلحة ضيع مصلحة أعظم منها، وهو انتفاع الجمهور الأعظم بهذه القطعة، نحن نسلم أن فرداً واحداً أو اثنين أو ثلاثة انتفع بهذا المشروع، لكنه عاد بالضرر على ألف رجل أو مائة رجل أو خمسمائة رجل، فيشترط أيضاً في المصلحة: ألا يفوت بفعلها مصلحة أعظم منها. ولقد طار هذا الخبر -سجود المشركين في آية النجم- فرجع كثير من المسلمين من أرض الحبشة، وظنوا أن قريشاً أسلمت؛ لأنهم سجدوا، فلما رجعوا وجدوهم أشد أذىً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه؛ فهاجروا الهجرة الثانية. نخلص من هذا: أن ضابط المصلحة لا يكون بمعارضة الكتاب والسنة، فإن قلت: هذه مصلحة، وكانت في معارضة الكتاب والسنة، فاعلم أنها مصلحة فاسدة، ولا أعلم أحداً من علماء المسلمين أفتى بأنه يجوز العمل بالمصلحة وإن خالفت الكتاب والسنة إلا نجم الدين الطوفي، وقد رد عليه جميع العلماء بحثه هذا، وكان رجلاً مبتدعاً يجمع نحو خمس بدع، فردوا عليه بحثه هذا، والذي يقرأ في باب المصالح المرسلة يجد رد العلماء على نجم الدين الطوفي، فلا يغتر إنسان أو قارئ ببحثه وإن أدلى بشبهه هذه.

حكم وجود القبور في المساجد

حكم وجود القبور في المساجد إن الذي يجيز لمن يخرجون أن يعتكفوا في مسجد فيه قبر، قد خالف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال -فيما صح عنه-: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) قالها ثلاث مرات، وهو آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: (يحذر ما صنعوا) أي: يحذر المسلمين مما صنعه اليهود والنصارى، فإن هذا بضد التوحيد الخالص. عندما تقول: يا حسين! مدد أو: يا بدوي! مدد أو: يا دسوقي! مدد. أي: أنك تقول: إنني أريد منك أيها المقبور، أريد مدداً، أريد عوناً. فما صنعة الله إذاً في الكون؟! إن كان الدسوقي يمدك بمدد أو البدوي أو الحسين، فما صنعة الله في الكون؟! إن هذا بضد التوحيد الخالص، لذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (إن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام). لا يجتمع مسجد مع قبر في دين الإسلام، وكأنه أخذ هذا من قول عائشة رضي الله عنها: (فلولا ذاك -أي: فلولا نهيه عليه الصلاة والسلام- أبرز قبره) لكنا أبرزنا قبره وأظهرناه، وبنينا عليه قبة، لولا أنه لعن من فعل ذلك، ونهى عنه، فلولا ذاك أبرز قبره، لكنه خشي أن يتخذ مسجداً، خشي أن يبنى عليه، فكيف تطيب نفس امرئ يسمع مثل هذا الحديث ثم يقول لأتباعه: يجوز لكم أن تعتكفوا في مسجد فيه قبر إن ظهرت لكم فيه مصلحة؟! وأي مصلحة في مخالفة الشارع، وفي مخالفة أمره؟! كالذي يقول: يجوز حلق اللحى لمصلحة الدعوة أي مصلحة تعود على الدعوة إن كنت أنت بصنيعك هذا أول المخالفين لها، وهي تنهى عن ذلك؟! فنصوص الدعوة الكثيرة تنهى عن ذلك. يقول الشيخ محمد قطب: إني أخشى أن تكون مصلحة الدعوة صنماً يعبد. كلما أراد أن يرتكب مخالفة يزعم أنها لمصلحة الدعوة. ليس من مصلحة الدعوة أن تكون من المخالفين لها، بل المصلحة أن تثبت عليها حتى يعلم الناس أنها الحق، لا أن تخالفها وتترخص فيما لا رخصة لك فيه. والأدهى من ذلك والأمر أنه يقول: فإن رأيتهم يطوفون حول ضريح فطف معهم بنية الدعوة! تطوف مع قوم يطوفون حول الضريح طواف المسلمين حول البيت العتيق، حتى إنهم ليوقفون شرطياً، فمن طاف من الشمال إلى اليمين أرجعه حتى يطوف من اليمين إلى الشمال. وفي عهود الصبا الأولى وقعت في ذلك، فذهبت أمشي كيفما أحب فوجدت رجلاً يجذبني من ذراعي، يقول: امش مع الناس. وما فطنت إلا بعد سنين أنهم يجعلون هذا الضريح كالكعبة. وقد صرح بعض غلاة الصوفية بأن الطواف بهذه المقابر كالحج؛ ولذلك بدعة الطواف حول الضريح أخذت من هذا القول؛ أو أن هذا القول وُضع لها حتى تعطي قداسة لهذا الضريح.

بطلان قصة الغرانيق

بطلان قصة الغرانيق زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) قال له جبريل: أنا ما أتيتك بهذا، أنا ما أنزلت عليك هذا الذي تقرأ. فيزعمون أنه صلى الله عليه وسلم قال: قد افتريت على الله. فأنزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:52 - 53]. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) معنى (تمنى): أي تلا وقرأ، ومنه قول حسان بن ثابت في عثمان: تمنى كتاب الله أول ليلة ……………… أي: قرأ، فمعنى (تمنى) هنا: أي قرأ وتلا: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: قرأ (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه) أي: بينما هو يقرأ إذ الشيطان يدس شيئاً في قراءته: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) فلا يصير فيها لبساً ولا إدخالاً من الشيطان: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فيقولون: إنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل الشيطان على قراءته -وهو يقرأ-: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)) سجد المشركون والمسلمون جميعاً، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا قبل اليوم بخير، ولا نرى إلا أنه داهننا وامتدح آلهتنا؛ فسجدوا لذلك إلا رجلاً واحداً وهو أمية بن خلف، ما رضي أن يسجد، وأنف من ذلك، وأخذ حفنة من تراب ووضعها على جبهته. هذه القصة ليس لها إسناد صحيح، وهي باطلة. ولو جاءت بأصح الأسانيد لجزمنا أنها باطلة بغير تردد. إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للعصمة التي يمتاز بها الأنبياء. أرأيتم إلى نبي يدخل عليه الشيطان شركاً وكفراً صريحاً، ثم لا يعلم أن هذا من الكفر أو الشرك، ثم لا يعلم أن هذا من إدخال الشيطان عليه؟! إن في إثبات هذه القصة تضييعاً للقرآن ذاته، فيأتينا ملحد يقول: لعل هذه الآية من إدخال الشيطان على النبي وهو لا يدري. (((تلك الغرانيق العلا)))! (غرانيق): جمع غرنيق، أي: تلك الأصنام علية المنزلة. ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أن بعث؟ ألم يبعث بمحاربة هذه الأصنام وتحطيمها؟! كيف يأتي بعد ذلك فيمدحها بأنها علية، لها شأن علي؟! (تلك) اسم إشارة للبعيد، ويقولون: إن استخدام اسم الإشارة للبعيد يفيد علو المنزلة، كقول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] بخلاف: (هذا الكتاب لا ريب فيه)، (ذلك): اسم إشارة للبعيد، أي أنه يفيد بعد المنزلة وعلوها، فعندما يقول: ((تلك الغرانيق العلا)) فيشير إليها بهذا التعظيم الذي يحمل في طيات اسم الإشارة، ثم هذا التصريح (العلا) بأنها علية. ((وإن شفاعتهن لترتجى)) أي أنك إذا ذهبت إلى صنم وطلبت منه الشفاعة لكان ذلك مما يرجى منه! لو أن عبداً من عبيد الله من المسلمين صرح بهذه العبارة ثم اعتقدها؛ لكفرناه بلا خلاف. لو زعم أن هذه الأصنام تنفع وتضر، وأنه لو استشفعها لشفعت له؛ لكفرناه بلا خلاف. أيمكن أن يصدر هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يعلم أهذا شرك أم توحيد؟!! هل هذا معقول؟!! النبي عليه الصلاة والسلام الذي علم الناس التوحيد لا يعلم إن كان مدح الأصنام من جملة الكفر أو من جملة التوحيد؟!! ثم إن سياق سورة النجم يندد بهذه الأصنام، يندد بها، كيف يستقيم تنديد ومدح في ذات السياق؟! إن هذا لا ينطلي على أضعف الناس نظراً في العربية والسياق، فكيف ينطلي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! لم يصح سند لهذه القصة، ولو جاءنا (مالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد) لجزمنا ببطلان هذه القصة؛ لما فيها من الجور والحيف على إثبات العصمة له صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من العمد والخطأ والسهو في حال البيان، في حال إبلاغ القرآن: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. ذهب بعض العلماء إلى أن العصمة هنا هي العصمة في البلاغ، وأنه لا يدخل في تبليغه عليه الصلاة والسلام تحريف قط، لا عمداً ولا سهواً. والتفسير الثاني للعصمة: أن الله يعصمه من الناس، أي: لا يقتل، يضمن له أنه لا يقتله أحد، وهذا لعله التفسير الأرجح، أنه لن يقتله أحد حتى يبلغ ما أمره الله تبارك وتعالى به. يأتي رجل يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح الأصنام لأجل مصلحة الدعوة؟! ليحتج بهذا على إثبات طواف هؤلاء حول المقابر. يقول: لماذا تلوموننا وهذا النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأصنام حتى يستميل قلوب قريش؟! وقد حدث، فقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى)).

تفسير قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)

تفسير قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) فإن قلتَ -حيث أنك أثبت بطلان هذه القصة-: فما هو وجه تأويل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، فهذا يبين أن الشيطان يلقي في بعض التلاوة، فهذه الجملة في إثبات القصة؟ سأقول لك: لو سلمت معك جدلاً أن القصة ثابتة؛ فتأويلها على غير ما تقرأ، مع أنها لم تثبت، لكن سلمنا جدلاً أنها ثبتت، فالذي اختاره ابن كثير وغيره كالحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يقرأ قراءة متأنية يفصل بين الآيات، وهذه طريقته عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما كان رسول الله يسرد الحديث كسردكم، إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً تفهمه القلوب) فقرات وجملاً، بحيث أن السامع لها يفطن للمعنى الذي يريد، فإن السرعة في القول تفوت بعض مقصود المتكلم، بحيث أن السامع لا يستطيع متابعة المتكلم لسرعته، لذلك كان الأفضل أن يتكلم الإنسان كلاماً فصلاً بطيئاً؛ حتى يتيح للسامع التأمل. فكان عليه الصلاة والسلام يقرأ هكذا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] ثم يسكت {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:20] ثم يسكت، ففي هذه السكتة نطق الشيطان وحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((تلك الغرانيق العلا)) ((وإن شفاعتهن لترتجى))، فسمع المشركون صوتاً يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام، فظنوا أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي قرأ، وخرجوا بهذا من المشكل؛ لأن الحافظ ابن حجر في الفتح زعم أن هذه القصة لها قوة، قال: إن مجموع طرق هذه القصة يفيد أن لها أصلاً. يفيد أنها حدثت، لكن الحافظ ابن حجر أول هذا التأويل الذي ذكرته، وقال: يستحيل أن يجري هذا الكلام على لسان النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا مناف تماماً للعصمة في البلاغ، لكن الحافظ ابن حجر حمل على أن الشيطان هو الذي تكلم في أثناء هذه السكتات بصوت يشبه صوت النبي عليه الصلاة والسلام؛ فظن المشركون أن هذا من جملة التلاوة. ولذلك تتمة الآيات: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53] أي أن الذي ألقاه الشيطان بلسانه صار فتنة لهؤلاء، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحابي آلهتهم؛ ففتنوا فتوناً عظيماً لهذا. لكن العلماء يقولون: (إن التأويل فرع التصحيح). وهذه القاعدة مهمة، ومعناها: أنك لا تلجأ إلى تأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت صحتها، وإلا صار التأويل عبثاً. لماذا تؤول شيئاً ضعيفاً أو مكذوباً أو باطلاً؟ يكفي في رد الباطل أنه باطل؛ لذلك يقولون: إن التأويل فرع التصحيح، أي أنك لا تلجأ لتأويل رواية أمامك إلا بعد أن تثبت أنها صحيحة، فإن ثبت لديك أنها ضعيفة أو مكذوبة أو منكرة فلا تشتغل بتأويلها. لذلك نحن نضرب صفحاً عن هذه القصة، ونرى أنها باطلة، وقد صرح جمع من العلماء ببطلان هذه القصة، حتى قال القاضي عياض -بعد أن أثبت ضعفها وبطلانها- قال: (وعلى التسليم أنها صحيحة، فتأويلها كذا وكذا، ونعوذ بالله من صحتها). فإنه ليس لها إسناد يقوم على طريقة أهل الحديث، فكفانا الله مئونتها ومئونة تأويلها. فما هو التأويل الصحيح للآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: ما يقرأ نبي آية إلا أولها بعض البطلة والمبتدعة تأويلاً يعود على الآية بالإبطال (إذا تمنى): أي إذا الرسول قرأ؛ ألقى الشيطان في أذهان بعض السامعين تأويلاً يعود على الآية بالبطلان مثلاً: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، قال المشركون: انظروا إليه يأكل ما قتل ولا يأكل ما قتل الله، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] المنخنقة: أي التي تخنق، والموقوذة: أي التي تضرب بحديدة أو بخشبة على رأسها فتموت، والمتردية: أي التي تتردى من مكان عال إلى مكان منخفض؛ فتموت بأثر الصدمة، والنطيحة: أي: التي نطحتها أختها فماتت بسبب النطحة. فيقولون: إن هذه الأنواع كلها الله عز وجل هو السبب في قتلها، قدر عليها أن تموت فماتت، فكيف لا تأكلون ما قتل الله، ثم تأكلون ما قتلتم أنتم بالذبح؟! فيعودون لهذا التأويل بالبطلان على الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، أفتأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ما قتل الله؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يتلو، يتمنى في تلاوته فيلقي الشيطان الشُبه التي تعود على هذه التلاوة لإبطال معناها، وهذا في النهاية تكذيب صريح للتلاوة. وأيضاً لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، قالوا: إذاً عيسى في النار؛ لأن هناك من عبدوه، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، يعني: الذين يعبدون وآلهتهم التي كانوا يعبدونها في جهنم، فعيسى عليه السلام عُبد من دون الله؛ إذاً هو في النار فيعودون بمثل هذه الشبه على الآية بالإبطال. هذه الآية إنما تقال فيمن عبد وسلم أنه معبود، رجل قيل له: أنت إلهنا، قال: نعم، أنا إلهكم. فهذا رضي بذلك، فهو ومن عبده في النار، أما عيسى عليه السلام فيبرأ من هذا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فهناك بيان صريح أن عيسى عليه الصلاة والسلام تبرأ أن يكون إلهاً، لكن هؤلاء يعودون بتأويلهم هذا إلى إبطال هذه الآية، معنى أن تثبت أن عيسى عليه السلام ومن عبده في النار، إذاً أنت تعود بالبطلان على هذه الآيات من سورة المائدة: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116]. فالرسول يقرأ، والشيطان يلقي الشبه في أذهان المستمعين؛ فيعودون على الآية أو بعض الآيات الأخرى بالبطلان هذا هو التفسير الصحيح للآية. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] وهذا يدل على شمول هذا التزيين من الشيطان، سواء كان للرسل أو للأنبياء. ومعلوم أن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس العكس، ليس كل نبي رسولاً، فهناك بعض الأنبياء إنما آتاهم الله النبوة تشريفاً لهم، لكن ليس لهم رسالة يؤدونها إلى أقوامهم. فما من رسول أو نبي قرأ شيئاً من الوحي إلا ألقى الشيطان في هذا الوحي بالإيهام، فيعود على التلاوة بالبطلان، لكن أن يكون هذا فيما يتعلق بقصة الغرانيق حاشا لله، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم ومنزه عن أن يقع في هذا الكفر الصريح نعوذ بالله تعالى من اعتناق الباطل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

لا مداهنة في العقيدة

لا مداهنة في العقيدة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. هذه القصة -قصة الغرانيق- وإن كانت غير معروفة للسواد الأعظم، لكنها كانت فرصة حتى نجلي هذا البحث الذي يحتاج إلى نوع تأمل وتدبر وبحث في الكتب؛ لنعلم الوجه الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما فعل أقر التوحيد في نفوس أتباعه. لا يمكن أن نداهن هؤلاء المشركين على حساب العقيدة، فإن المواقف التي وادع المشركين فيها وسالمهم هي بعيدة تماماً عن حيز العقيدة، هي فيما يتعلق بإرساء دعائم بعض الأحكام الشرعية وليس التوحيد، ليس في التوحيد مداهنة. ولقد كان من اليوم الأول يبين لهؤلاء المشركين أن هذه الآلهة لا تغني شيئاً، ويجهر بها حتى أنه لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) أبوا أن يقولوها مجرد قولٍ، حتى عمه لما قال له: (قلها أحاج بها بين يدي الله عنك) (قلها أحاج لك بها) فانبرى أبو جهل وقال: يا أبا طالب! أترغب عن ملة آبائك؟ قال: لا أرغب عن ملة آبائي، ومات بغير أن يقولها. كان عليه الصلاة والسلام أثبت من الجبال الرواسي في تبليغ هذه الكلمة مع تبيين حدودها. إن المشركين الأول كانوا يفهمون هذه الكلمة أفضل من بعض علماء المسلمين الآن، ولا أقول السواد الأعظم من المسلمين. لو أن المسلمين الآن فهموا لا إله إلا الله كما فهمها المشركون الأوائل؛ لما وجدت هذه الوثنية عندهم، وليس بالضرورة أن نسوي بين المسلمين وبين المشركين نعوذ بالله من ذلك، إنما نتكلم في فهم الكلمة. لقد حارب العرب حروباً شديدة ضد المسلمين حتى لا يقولوا هذه الكلمة، ولو مجرد قول يخرج من أفواههم أبداً؛ لأنهم كانوا يفهمونها حق الفهم. معنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق سوى الله، ولا مشرع بحق سوى الله، و {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، فمعنى الاعتراف بهذه الكلمة: خلع الأنداد، خلع السلطان، خلع الصولجان، خلع هذا المنصب الرفيع الذي كان يتمتع به سادة قريش من أن يحكموا في دماء الناس بغير معقب لهم يعني تسلب كل السلطات من أيديهم إذا قالوا: لا إله إلا الله؛ لذلك كانوا يأبون أشد الإباء أن يقولوها أويعترفوا بها هذا معنى (لا إله إلا الله): أن الله تبارك وتعالى إن حكم فيك بحكم أن تنصاع له، ولا يجوز لك أن تقدم بين يدي الله ورسوله، فهذا كان واضحاً جداً من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام. ثم إنه قد ورد في بعض هذه الروايات الباطلة أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى في قلبه، وهذا تفسير آخر لمعنى (إذا تمنى)، قلنا: إن التفسير الأول -وهو المعتمد- (إذا تمنى): أي إذا تلا وقرأ، وهناك تفسير آخر (إذا تمنى): أي من الأمنيات التي تتردد في الصدر. فبعض هذه الروايات تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام تمنى أن لا يوحى إليه شيء في سب الأصنام حتى يستميل قلوب المشركين وهذا كفر أيضاً: أن تتمنى أن الله تبارك وتعالى لا ينزل قرآناً يسب فيه الأصنام، هذا ميل، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، لو خطر بباله أن يتقول علينا وأن يفتري علينا بعض الآيات {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:45 - 46] أي: لأهلكناه {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]، لا يمكن أن يتقول، حاشا لله أن يتقول من عنده، أو أن يتمنى ألا ينزل الله تبارك وتعالى آيات تندد بالمشركين وبآلهتهم هذا كله ورد في الروايات الباطلة. أهناك مسلم عنده مثل هذه المقدمات الأساسية الضرورية، يمكن أن يقول: إن هذه القصة صحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام جاهد المشركين وأثنى على أصنامهم لأجل أن يدعوهم، وأنه سلك هذا المسلك لمصلحة الدعوة؟! هذا لا يمكن أن يقوله رجل عنده هذه المقدمات أبداً.

سجود المشركين بعد قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم

سجود المشركين بعد قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم بقي سؤال أخير -وهو سؤال ضروري-: إذاً لماذا سجد المشركون؟ وسجود المشركين ثابت في صحيح البخاري، من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم، فبلغ آخرها {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] سجد المشركون والمسلمون إلا رجلاً واحداً أخذ بعض تراب ووضعه على جبهته) هو أمية بن خلف كما ورد في بعض الروايات، وهناك خلاف في تعيين اسم الذي لم يسجد، أنه أخذ بعض تراب ووضعه على جبهته. لماذا سجدوا إذاً؟ سجد المشركون لأن في آخر السورة ذكر الله تبارك وتعالى إهلاك عاد وثمود وقوم لوط {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * A=6004837> فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:50 - 54]، هذه آيات أرعبت المشركين، وظنوا أنهم لصدق النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يسجدوا سيحيق بهم ما حاق بهؤلاء الأقوام، وظنوا أنهم لو سجدوا -حتى ولو عن غير إيمان بهذه الدعوة- أنهم ينجون من العذاب، وقد كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، وأن الإنذار الذي يأتي به لا محالة واقع. وهذا شبيه بما رواه البيهقي في دلائل النبوة بسند حسن عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن أبا جهل قال: من يأتي محمداً -صلى الله عليه وسلم- ويكون عالماً بالسحر والكهانة، فيسمع الذي يقول؟ قالوا: إنك لن تجد أفضل من عتبة بن ربيعة -وكان رجلاً عالماً بالسحر والكهانة- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتلا عليه النبي عليه الصلاة والسلام (حم فصلت)، حتى إذا بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، وضع عتبة بن ربيعة يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أمسك لا تكمل؛ لأنه يعلم -وقد صرح كما سيأتي الآن- أنه صادق صلى الله عليه وسلم إذا جاء بالإنذار، قال: أمسك، أي: لا تكمل القراءة، وقعد في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وما استطاع الخروج، ففشا في قريش أنه صبأ وكفر، وأعجبه طعام محمد صلى الله عليه وسلم. فبعد أيام خرج، قالوا له: أعجبك طعام محمد؟ قال: يا قوم! إنكم لتعلمون أني من أغنى قريش، فما كنت لأقعد لطعام محمد، إنما خفت، فإنه لما قرأ (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: عن هذا البيان وعن هذا القرآن (فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قال: فأمسكت على فمه وقلت: اذكر بخير، وإنكم يا قوم لتعلمون أنه إن أنذركم بعذاب إنه لصادق. فكأن المشركين لما قرع أسماعهم هذه الآيات في إهلاك الأقوام السابقين ظنوا أنهم سيحيق بهم هذا العذاب إن لم يسجدوا {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، فظنوا -إن سجدوا ولو عن غير إيمان بهذا الذي سمعوا- أن هذا ينجيهم من العذاب، فهذا هو وجه سجود هؤلاء المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

حبائل الشيطان

حبائل الشيطان إن للشيطان وسائل شتى يسعى من خلالها إلى إغواء ابن آدم، فيجلب عليه خَيْله ورَجْله وعَدَد معاونيه وعُدَدِهم ليغويه ويضله، ولا ييأس؛ فكلما أعياه الدخول على الإنسان من باب بحث عن آخر وهكذا حتى يتمكن منه ويوقعه في حبائله، ويجعله ينحرف عن الصراط المستقيم.

بيان أن عداوة الشيطان لبني آدم عداوة ظاهرة

بيان أن عداوة الشيطان لبني آدم عداوة ظاهرة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]. إن موسى عليه السلام ذكر صفتين كاشفتين للشيطان، قال: (إنه عدو مضل مبين)، الصفة الأساسية -وصف الذات- بالنسبة للشيطان أنه عدو، فماذا ينتظر من العدو؟ أينتظر منه إيصال الخير؟! ثم ذكر صفتين كاشفتين لهذه العداوة (مضل، مبين) فأما أنه مضلٌ فواضح أما أنه مبين فهذا من أعجب ما يكون، قد أفهمه ويفهم أولو الألباب أن المرء يزل إذا كانت عداوة العدو خفية، أما إذا كانت العداوة بينة ظاهرة غاية الظهور ومع ذلك يزل المرء! فهذا شيء عجيب. إن الله عز وجل قال لآدم عليه السلام ولحواء: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وأظن أن العداوة مادامت بينة فمن السهل أن تكشف، فالشيطان له طريقة الخداع والمكر حتى يخفي هذه العداوة البينة الظاهرة، فهو يجر المرء ويستزله خطوة خطوة، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان في أربعة مواضع من كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168] بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان يذكر العداوة البينة حتى لا يلتبس عليك. الموضع الثاني: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] السلم هو الإسلام. الموضع الثالث: قال تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142] في ثلاثة مواضع بعد ذكر الخطوة يذكر العداوة البينة؛ حتى لا يلتبس عليك خطوه وجره. والموضع الرابع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] إذاً طريقة الشيطان الجر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الشيطان وشَرَكه، من أن ينصب له شَرَكاً -فخاً- وكل شر وضع في الأرض فالشيطان خلف هذا الشر، فعداوته بينة.

أجناس الشر التي يدعو إليها الشيطان

أجناس الشر التي يدعو إليها الشيطان إذا حصرنا أجناس الشر التي يدعو إليها الشيطان فهي لا تخرج عن ستة أجناس، قد يندرج تحت كل صنف مئات الجزئيات، لكن كل هذه الجزئيات توصل في آخر الأمر إلى ستة أجناس.

الدعوة إلى الشرك بالله

الدعوة إلى الشرك بالله الجنس الأول: الدعوة إلى الإشراك بالله والكفر به، فإذا ظفر الشيطان منه بذلك خف أزيزه، وقل مع المرء عمله، وهذا هو ما يصبو إليه الشيطان، وهي الغاية القصوى لما يريد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. المعنى: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، لكن حذف حرف الجر (على) أقوى، {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف:16] فإن الذي يعلو على الشيء قد يفارقه، إنما هذا معناه أنه لزم القعود على الصراط لزوماً أكيداً لا يفارقه ولا يغادره؛ حتى صار كأنه والصراط شيئاً واحداً: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وأحمد وابن حبان من حديث سمرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه) ما من طريق إلا وعليه شيطان بل شياطين، وقال الله تعالى أنه قال:: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] هي هذه الجهات الأربع التي يتحرك فيها ابن آدم. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان قعد لابن آدم على أطرقه) أي ما من طريق يتوجه ابن آدم إليه إلا كان الشيطان عليه. فجاءه من باب الإسلام، وقال له: أتسلم وتذر آلهتك وآلهة آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، فوقف له على طريق الهجرة قال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الصِول -الصول هو: الحبل الذي تربط به رجل الفرس ثم في نهاية الحبل وتد، فيكون الفرس في حدود طول الحبل، مثل المهاجر كالفرس في الصول، وأي مهاجر في بلاد الغربة مساحة حركته ضيقة، إما أن يكون فر هارباً فهو حريص على ألا يصل إليه أحد، إذاً دائرة معارفه ضيقة وليست كالذي يسكن في بلاده وبين أهله وماله. أيضاً: مساحة رزقه أقل من مساحة رزق الإنسان المقيم في بلده وبين إخوانه وأهله، فيقول له: إنك إذا هاجرت قيدت حركتك، فعصاه وهاجر. ثم قعد له في طريق الجهاد فقال له: تقاتل؛ فتقتل، وتنكح المرأة، ويقسم المال، يعني امرأتك التي تغار عليها ولا تتخيل على الإطلاق أن يتزوجها رجل غيرك، فنخوتك تمنع من الذهاب إلى الجهاد؛ لأن هذا معناه أنك ستقتل والمرأة ستنكح بعدك، فكيف تجاهد؟! فعصاه وجاهد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاهد في سبيل الله فقتل فله الجنة، فغرق فله الجنة، فوقصته دابته فله الجنة). إذاً: الشيطان يقعد على كل طريق لابن آدم، وأعظم ما يصبو الشيطان إليه ويدعو الناس جميعاً إليه: أن يشركوا بالله، ولذلك قدم الله عز وجل بالتنبيه على هذه العظيمة التي لا تبقي حسنة للعبد: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]. هذه السيئة التي تحيط بالعبد وبحسنات العبد هي الشرك، فذكر ربنا تبارك وتعالى هذه الفاقرة العظيمة بين يدي كيد الشيطان وطرقه وأساليبه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:116 - 120] تلخيص عداوة الشيطان: شباكه التي ينصبها، ومصائده التي يقيمها لأولاد آدم (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ) الذي يعبد الشيطان يأتمر بأمره، فكل من حاد عن حكم الرحمن عز وجل فهو تبع للشيطان، ولذلك أخر الأمر بعد الإضلال والأمنية (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) وهذا نوع من التنصيص على جملة من أوامره لا على كلها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) البتك: القطع، وكانت الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وكان آخر بطن أنثى، كانوا يقطعون أذنها ويتركونها لآلهتهم، وهذه هي البحيرة، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] ما جعل الله شيئاً من ذلك أبداً. يقول سعيد بن المسيب فيما رواه البخاري في صحيحه ومسلم: البحيرة كانوا يدعون درها للطواغيت -يعني: اللبن- والسائبة أي: التي يسيبونها لآلهتهم، تلد خمسة أبطن آخرها أنثى فيسيبونها لآلهتهم. الوصيلة: هي الناقة تلد البطن الأول أنثى والبطن الثاني أنثى، فإذا ولدت أنثيين في المرة الأولى والثانية قالوا: قد وصلت الأنثى بأنثى، وهذا من غيظهم على الله، لماذا يعظمون الأنثى وإذا ولدت أنثى يتركونها؟ لأنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثاً، وجعلوا لله البنات، فالأنثى عندهم نوع من الغيظ. الحام هو: فحل الإبل الذي يعدونه للضراب، وقد بقي في هذه الأمة شيء من هذا الفعل الجاهلي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك بالنص، ففي الحديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) وهذا كثير في بلاد الريف، رجل عنده أنثى فيذهب إلى رجل عنده فحل يضربها لتحمل؛ فالرجل الذي عنده الفحل يتعاطى أجراً على فعل الفحل، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحرم أخذ الأجرة على ذلك، ولا يتعللن أحد بأن الرجل يطعم الفحل؛ لأنه لابد أن يطعمه. فالحام: فحل الإبل الذي أعدوه للضراب، فإن ضرب عشر مرات تركوه وقالوا: هذا حام، ما جعل الله شيئاً من ذلك، لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، ويقولون: شرع كذا وكذا وكذا. فربنا تبارك وتعالى ذكر طرق الشيطان لكن نبه على أعظمها (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) وسنرجع إلى بسط هذا المقام فإنه مقام خطير زلت فيه أقدام.

الدعوة إلى البدعة

الدعوة إلى البدعة أول جنس من أجناس الشر يسعى الشيطان إليه: أن يشرك العبد ويكفر بربه، فإذا كتب للعبد وهو في بطن أمه أنه سعيد، وأنه لا يكفر، وأيس منه الشيطان انتقل إلى الجنس الثاني: وهو البدعة، فإن المبتدعة أعداء الرسل، وهم الذين غيروا دين الله عز وجل، وأمروا الناس أن يعبدوا الله بشرع لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن به رب العالمين، والبدعة بوابة الكفر، فهذا هو الشَّرَك الثاني. ومن أقل البدع التي يرتكبها الناس كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا وقف أحدهم بين يدي رب العالمين أتى بعشر بدع، يقف فيقول: نويت أن أصلي الظهر -بصوت مسموع- حاضراً، مستقبلاً القبلة، مأموماً، ثم يصرخ بذلك، وتنتفض عروقه، ويكبر بصوت عالٍ كأنه يكبر على عدو، ولو لبث ما لبث نوح -هذا كلام شيخ الإسلام - يبحث في الكتب عن حرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين أنهم فعلوا ذلك لا يجد إلى ذلك سبيلاً. وهذا من أقل ما يرتكب، وهو من تحصيل الحاصل الذي لو سمعه عربي -ينطق العربية سليقة- لضحك عليه، لأنه تحصيل حاصل. شخص جاء من بيته ليصلي الجمعة فيقول: نويت أن أصلي الجمعة، مستقبلاً القبلة أو مستدبراً، يعني يشك في نفسه أنه مستقبلاً القبلة أو لا؟! حاضراً! أيظن نفسه غائباً وعفريته يصلي؟! مأموماً! أيظن نفسه إماماً؟! أليس هذا كله من تحصيل الحاصل؟! فلو سمع رجل عربي هذا الكلام لضحك، ولظن السفه من المتكلم، فإن الرجل لو قعد على سفرة طعامه فقال: نويت أن آكل رزاً، نويت أن آكل خبزاً، نويت أن آكل مخللاً، فإن هذا شيء يضحك؛ لأنه إنما هو تحصيل حاصل. عندما يقف وهو بين يدي رب العالمين في أعظم شعيرة عملية فيرتكب مثل هذه البدع، فلا شك أنه يعبد الله بما لم يأذن به، وبما لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أدنى ما يذكر من البدع.

الدعوة إلى الصغائر

الدعوة إلى الصغائر إذا سبقت للعبد من الله الحسنى وعصم من الكبائر ساقه إلى الجنس الرابع: وهي الصغائر، شيء يسير، ومكوث العبد على الصغيرة أعظم من إتيانه الكبائر، (فمن القطر تدفق الخلجان): لا تستهن بصغيرة إن الجبال من الحصى وقد اتخذ كما قال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:118]، جماعة يعملون معه، وأناس يتكلمون بالقرآن ويجادلون، وأناس يقفون يأخذون الناس بالقوة، وأناس يهددونهم إذا سلكوا طريق الله (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) أي جرى في قدرك وفي علمك أن هذا لي، فكل هؤلاء يعملون لحسابه. فيأتي مثلاً رجل يزعم أنه يفسر القرآن، مع أن غالب تفسيره إلحاد في آيات الله، يقول: (إن الله جميل يحب الجمال)، صفة الجمال صفة من صفات الله عز وجل كما في حديث مسلم، ويقول: إن من يرمق الجمال فإنه يبحث عن آية الله في الكون، فهذا مؤمن وتدبر آيات الله عز وجل ليزداد إيماناً، ومن أمثلة ذلك: أن الرجل إذا رأى امرأة جميلة فجعل ينظر إليها ويقول: تبارك الخلاق العظيم! ما هذا الخلق؟! وما هذا الخد؟ وما هذا العضد؟ وما هذا الوجه الجميل؟ وما هذا الأنف الرشيق؟ وما هذه العينان الجميلتان؟ وجعل يتغزل وينظر ويملأ عينه، فهذا الرجل يتأمل!! هذا أحد الذين قال إبليس فيهم (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ولأضلنهم بمثل هذا القول، قال صلى الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن). ويقول: هل أتيت بشيء من كيسي؟! إنما أقول لك: قال الله قال الرسول يا أخي! اسم الله على لسان كل مؤمن، حتى الكافر مجبر على ذكر اسم الله عند رؤية الشيء الجميل، وقد اتفق أهل الأرض جميعاً على أنهم إذا رأوا شيئاً جميلاً يقولون: (الله الله)، فكل جميل ينسبونه إلى الله، ويذكر مثل هذا القول. وكثير من بني آدم ضعاف العقول، ضعاف التفكير يدخل عليهم مثل هذا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك، فإن النظرة الأولى لك والأخرى عليك)، إذا مشى المرء فوقعت عينه فجأة على امرأة فلا يؤاخذ به، إنما إذا نظر مرة أخرى بدأ عداد السيئات يرصد له. والرسول عليه الصلاة والسلام بين لنا خطورة الصغائر قال: (إياكم ومحقرات الأعمال، فإن مثل محقرات الأعمال كمثل قوم كانوا في صحراء، فذبحوا جدياً لهم والتمسوا حطباً لشواء هذا الجدي، فذهب كل رجل إلى وجهة، فأتى هذا بعود وذا بعود وذا بعود، فأشعلوا فيه ناراً فأنضجوه وأكلوه، فمثل محقرات الأعمال كمثل هذا، إذا اجتمعن على العبد أهلكنه).

التوسع في باب المباح

التوسع في باب المباح إذا سبقت للعبد من الله الحسنى ولم يصرّ على الصغيرة، واستغفر الله وتاب عليه؛ جره إلى الجنس الخامس من الشر وهو: التوسع في باب المباح، مثلاً: رجل تاجر طوال حياته يعمل، ويقول: التجارة حلال، وقد قال الله: (اسعى يا عبدي وأنا أسعى معاك)، ويذكر لك في فضل العمل، وفي فضل النفقة، والغنى أحاديث وآيات، فيوسع له دائرة المباح، لأنه لم يستطع أن يجعله يكفر ولا يبتدع ولا يقع في كبيرة، ولا يصر على صغيرة، إذاًَ: أفضل شيء أنه يجعله يعمل طوال عمره، حسناً: هذا العمل يلهي عن ذكر الله، ويشغله عما ينبغي للعبد أن يجعل له فيه ورداً ثابتاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا ندم عليها يوم القيامة)، والعمل هذا يشغل عن مثل هذا الذكر، ثم يلبس عليه ويقول له: يا أخي! طالما أنك هكذا فستكون غنياً وتملك الأموال، وبالتالي تستطيع أن تخرج الزكاة، وتكفل الفقراء، وتنفق هنا وهنا، وهذا شيء من أبرك الأعمال. التوسع في الأكل والشرب مباح، ولكن تصور رجلاً ملأ بطنه بأطايب الطعام والشراب، وأراد أن يعبد الله عز وجل، فإنك تجده يشعر بالكسل والخمول، هذا الكلام مجرب في إفطار رمضان، عندما تفطر وتشرب تقف في صلاة العشاء تتثاءب وتريد أن تنام، ويصد مثل هذا الكسل كثيراً من الناس عن مواصلة صلاة القيام، يقول: عندما تخف بطني سوف أصلي لوحدي، فإذا خفت بطنه لم يصل. وكم ضيع هذا الشبع على أناس العبادة في رمضان، مع أن الأكل مباح، ولكن يا أخي! اعلم أن الجواد الذي تعده للسباق لا يكون ذا بطن كبيرة، إنما هو الجواد المضمر، عنده قدرة على أنه يجري، فيفوز؛ فنحن في سباق إلى الله عز وجل: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وذو الكرش لا يسبق. إذاً: الأكل والشرب مباح، ولكنه يؤدي إلى الخمول، يقول له: افعل وافعل، وهذا كله حلال، قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]، هذا من الحلال الطيب، فإن الشافعي كان يذهب إلى بيت أحمد بن حنبل ويطعم ويقول: (طعام الكريم دواء)، كل ووسِّع على نفسك. فإذا اشتغل بالمباح الذي يستوي طرفاه -يستوي فيه المدح والذم- فوت على نفسه من الثواب ما هو أعظم من فعل هذا المباح. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الدعوة إلى الكبائر

الدعوة إلى الكبائر لو كان العبد من أهل السنة، ولا يفارق السنة قيد أنملة قاده الشيطان إلى الجنس الثالث من الشر وهو: الكبائر، فيجتهد في إيقاعه في الكبائر، ولا يستطيع أن يلبس على مثل الذي أفلت من الشرك وأفلت من البدعة إلا بالأمانيّ والتزيين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأت أهله، فإن معها مثل الذي معها)، وتخيل هذا الحديث: (المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)، قد تكون هذه المرأة أقبح امرأة على وجه الأرض لكنها صادفت شبقاً وشهوة عالية من الرجل؛ فلم يرها على صفة القبح، بل رآها جميلة، فإذا أقبلت عليه لم ير قبحاً فيها إنما يرى جمالاً وسمتاً، وإذا أدبرت رأى أيضاً رشاقة وجسماً، فلا يزال يشتهيها حتى إذا واقعها ظهر له قبحها، وهذا من التزيين الذي وعد به في قوله: (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) فعمل الشيطان أنه يزين ويمني. كم تتصوروا زمن وقوع الفاحشة؟ خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ساعة من حياة المرء الطويلة، وقد لا يرتكب في حياته إلا مثل هذا القبح الواحد، ويظل أسيراً له طيلة عمره. فالشيطان يوقع الذي نجا من الكفر ومن البدعة بتزيين المعاصي له، ثم ينفث في أذنه: إن الله غفور رحيم، وللشيطان أجناس من بني آدم يقومون بنفس الدور بإتقان؛ فيصغر له الكبيرة، كمثل الذي حدث لـ كعب بن مالك كما رواه البخاري ومسلم من حديثه في تخلفه عن غزوة تبوك قال: وجاء المعذرون من الأعراب يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم إن بيوتنا لعورة، وذكروا أعذاراً فقبل النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك قال: فجئت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟ قلت: والله! يا رسول الله! لو كنت عند غيرك من أهل الدنيا لخرجت بعذر فقد أوتيت جدلا. والله ما كان لي من عذر وما كنت قط أقوى مني كهذه الغزوة، وما جمعت بين راحلتين قط إلا في هذه الغزوة، قال: أما هذا فقد صدق، قم حتى يحكم الله فيك، قال كعب: فخرجت، فتبعني جماعة من أهلي فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً إلا هذا الذنب اليتيم، ولقد كان كافيك استغفار رسول الله لك، لماذا تفضح نفسك؟ يعني لو كنت قلت له: لي عذر، وقلت له: استغفر لي يا رسول الله! لقال: غفر الله لك. وانتهى الأمر، والرسول مستجاب الدعوة، ولم يكن هناك داعٍ لأن تفضح نفسك! قال: فلا زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع إليه فأكذب نفسي. هذا من عمل شياطين الإنس، يقولون: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً! وما أدراك؟ إذا خلا العبد بمحارم الله انتهكها، وخرج للناس جميلاً عفيفاً ذا سمت وذا ورع ودمعة، تقوى العبد تعرف بالخلوات. وكيف استقل نظر الله إليه وهو لا يغيب عن عينه، واستعظم نظر من لا يملك له موتاً ولا حياة ولا نشوراً، هذا بلا شك قدح في دين المرء، ويكون القدح على قدر الذنب، فالكبيرة لا يقع فيها المرء إلا إذا لبس عليه وزين له الأمر.

الاشتغال بالمفضول من الأعمال عن الفاضل

الاشتغال بالمفضول من الأعمال عن الفاضل الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إذا سبقت للعبد من الله الحسنى فلم يشتغل بمثل هذا المباح عن الذكر، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جره إلى الجنس السادس والأخير وهو: الاشتغال بالمفضول عن الفاضل، وأكثر الناس يقع في هذا، ولا يتفطن إليه إلا العلماء. الأعمال الصالحات درجات، مثلاً: إذا تخيلنا رجلاً تاجراً وعنده عشرة أصناف من ألوان التجارة؛ صنف بألف جنية والربح فيه خمسون جنيهاً، وصنف آخر الربح فيه ثلاثون، وآخر عشرون أو عشرة، فبالله عليكم هل هناك عاقل يترك الصنف الذي يكسب فيه خمسين ويأخذ الذي يكسب فيه عشرة؟ كثر سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هذا Q يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟ وكله خير، فلماذا لم يتوجهوا من تلقاء أنفسهم لأي خير؟ لأنهم يعلمون أن العمر قصير، والاشتغال بالخير الدون لا يكون لائقاً بالعقلاء، لذلك كان من أعظم الخير تعلم العلم وبثه لله عز وجل؛ لأن تعلم العلم توصيل لرسالة الله الذي وقف صناديد أهل الأرض ضدها، أعداء الرسل هم أصحاب الشوكة والمال، وأصحاب الشوكة هم الذين يستطيعون إيصال الضر، وقد قضى الله عز وجل في قدره أن يكون أتباع الرسل من المستضعفين. إذاً: لحوق الضرر بهؤلاء المستضعفين إذا كانت الشوكة في يد الصناديد أمر متوقع محقق، فمن الذي يبحث عن المتاعب لنفسه، ومن الذي يعرض نفسه لمثل هذا الضيق والإرهاق، لاشك أنه إذا صبر واحتسب وعلم فإن الأجر على قدر المشقة، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأشار إلى أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لابد أن يلحقه الأذى، فأمره أن يصبر على ما يصيبه. فهذا أقرب شيء في الدنيا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: -أي أنه إذا جاز أن يحسد أحدٌ أحداً فلا حسد إلا في خصلتين- رجل آتاه الله القرآن -أو (آتاه الله العلم) أو (آتاه الله الحكمة) ثلاث روايات- فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق). وهذا الرجل الثاني صاحب المال مفتقر افتقاراً أكيداً إلى الرجل الأول، فإن المال وحده ليس ممدوحاً، فلا يمدح المال إلا إذا سلطته على ما يهلكه في الحق، ولا يعرف الحق إلا عالم أو من يسأل العالم. إذاً: هذا الرجل الثاني ليس ممدوحاً؛ حتى يلتصق بواحد من أهل العلم فيسأله عن وجوه إنفاق المال، وما يحل له من ذلك وما يحرم؛ فحينئذٍ يكون من المحسودين؛ لأنه سلطه على هلكته في الحق، أما الجاهل الذي لا يعرف الحق من الباطل؟ فلا يتصور في رجل أن يهلك ماله في الحق إلا إذا كان عالماً أو ملتصقاً بعالم. فأنت عندما تريد أن تفعل الخير ابحث عن أعلى الخير وأفضله، قالوا: (يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟) يعني: نريد أعلى الأعمال وأتمها، وهذا أيضاً في العلم كما قال الراجح: العلم إن طلبته كثير والعمر عن تحصيله قصير فقدم الأهم منه فالمهم وكلما اشتغلت بفضول العلم ضاع عليك لب العلم، قليل من الناس من ينتبه إلى هذه المرتبة، قالوا: (يا رسول الله! ما أحب الأعمال إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قالوا: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قالوا: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). فمن أحب الأعمال: (الصلاة على وقتها)، وفي رواية: (الصلاة لأول وقتها) (على) حرف جر يفيد الاستعلاء والتمكن، تقول: ارتقيت على الدابة يعني: تمكنت من ظهرها، فكأن الرجل يأتي إلى الصلاة في أوائل الناس مستمكناً من أول الوقت، لا تفوته تكبيرة الإحرام، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله. فالشيطان يشغل العبد بالثواب الأقل؛ لأنه إذا لم يستطع أن يوقعه في الشر المحض فعلى الأقل أن يقلل خيره، ومن تقليل الخير أن يرشده إلى الأقل في باب الخيرات. فهذه يا عباد الله! ستة أجناس من الشر، كل عمل للشيطان مهما كان كثيراً ومهما كان دقيقاً لا يخرج عن واحدٍ من هذه الأجناس، وسنفصل هذه الأجناس كلها؛ لأن معرفة عداوة الشيطان من أفضل ما يحصله الإنسان، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فقدم الكفر على الإيمان، إذ لا إيمان إلا بعد كفر. ومثل الذي يؤمن بالله عز وجل ويعبد طاغوتاً كمثل رجل معه ماء رقراق ومعه إناء في أسفله طين، فإذا صب الماء الرقراق على الطين تعكر الماء كله، فإذا أردت أن يظل الماء رقراقاً نظف الإناء ثم صب الماء، كذلك التوحيد لابد أن يتطهر المرء من رجس الطواغيت، ولا يعبد شيئاً من دون الله عز وجل، فإذا وُجد التوحيد نفعه أقل العمل. أخلص دينك لله يكفيك العمل القليل. من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول نسأل الله تبارك وتعالى أن يقبضنا وإياكم على التوحيد الخالص، وأن يحسن خاتمتنا وإياكم أجمعين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء لقد عصم الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله من السهو والنسيان في تبليغ الوحي، فنسيانهم نسيان تشريع لا نسيان غفلة، كما أن الله عصمهم من ارتكاب كبائر الذنوب؛ لأن مقام النبوة لا يليق به ذلك، فهو مقام شرفه الله وكرمه، أما ما يحصل منهم من إتيان بعض الصغائر أو الاجتهادات الخاطئة فإنما هو لإثبات بشريتهم، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلمهم ويعاتبهم بواسطة الوحي حتى يبلغوا درجة الكمال بين البشر.

بلوغ موسى عليه السلام مرحلة الاستواء العقلي والجسمي

بلوغ موسى عليه السلام مرحلة الاستواء العقلي والجسمي إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:14 - 17]. الاستواء معناه: اكتمال القوة الجسمية والعقلية، وقد ظهر اكتمال القوة الجسمية في موقفين: الموقف الأول: في وكزة موسى عليه السلام والتي قضى بها على القبطي. الموقف الثاني: لما سقى لابنتي العبد الصالح الغنم، لما ورد ماء مدين ووجد عليه أمة من الناس يسقون، فوجد امرأتين تذودان الأنعام، ولا تستطيعان السقيا، فسقى لهما. لما دخل موسى -عليه السلام- المدينة (والمدينة مُحَلاة بالألف واللام إشارة إلى العاصمة آنذاك، وليست أي مدينة) - {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15]. فقوله تعالى: {وَدَخَلَ} [القصص:15] إشارة إلى أنه خرج منها، فيا ترى كيف خرج؟ ولماذا خرج؟ وهو ربيب فرعون الذي رباه في قصره، فكان المناسب أن يكون من أهل المدينة؛ لكن قوله عز وجل: {وَدَخَلَ} [القصص:15] إشارة إلى أنه فارقها، ويدل على هذا أيضاً قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]. إذاً: صار موسى معروف المذهب مخالفاً لفرعون، حتى إنه صار له شيعة وأتباع، ولا يقال: شيعة إلا إذا كانوا موافقين له في الدين والمذهب. ولو كان هذا الرجل يعرف أنه ما يزال ربيب فرعون يدخل معه ويخرج معه، ولا يفترق عن فرعون في شيء ما استغاث به، فهذا يدلنا على أن موسى عليه السلام بدأ يفارق البيئة العفنة: الظلم والقصر، وترك كل ذلك وخرج، وقال بعض أهل التفسير: إنه أظهر مخالفة فرعون فعلاً، فصار يخاف على نفسه فخرج. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص:15] ذهب كثير من أهل التحقيق إلى أن الوقت ذلك كان وقت القيلولة، فدخل المدينة في هذا الوقت: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] بضربة واحدة: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15].

الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر

الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر الذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافاً للشيعة الإمامية الإثني عشرية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر؛ دون الصغائر ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماعَ أهل السنة على ذلك. لقد اتفقت الأمة جميعاً لا خلاف بينها أن الأنبياء معصومون في الرسالة والتبليغ، لا يجوز عليهم الخطأ ولا التحريف، وإن كان يجوز عليهم النسيان، وهذا بأمر الله تبارك وتعالى، ليس نسيان غفلة؛ ولكنه نسيان تشريع. وهذا فيما يتعلق بإبلاغ الوحي والدين؛ إذا نسي شيئاً إنما ينساه لشرع. كما حدث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة ذي اليدين التي رواها البخاري ومسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً العصر فسلم من ركعتين، وخرج الناس وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه -وفي بعض طرق الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غاضباً- فقام رجل في يديه طول -لذلك قيل له: ذو اليدين لطول يديه- فقال: يا رسول الله! أقَصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيْتَ؟ قال: ما قَصُرَتْ وما نِسِيْتُ. ثم استقبل الناس، فقال: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: أجل يا رسول الله! فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسجد للسهو). فالنبي صلى الله عليه وسلم شرَّع لنا في سهوه في الصلاة أن من نسي في صلاته فصلى أقل من العدد المطلوب من الركعات أنه لا يعيد الصلاة مرة أخرى كما يفعل بعض الناس، إنما يتم الناقصَ فقط، ويسجد للسهو، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني). إذاً: ما يتعلق بإبلاغ الدين وكلام الله عز وجل، لا يجوز عليهم الخطأ ولا التحريف ولا النسيان وهذا بإجماع الأمة.

العفو عن الأنبياء في الاجتهاد الخطأ

العفو عن الأنبياء في الاجتهاد الخطأ بعض الأنبياء قد يخطئ في الاجتهاد ولا حرج عليه في ذلك، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (خرجت امرأتان في زمان داوُد عليه السلام، فجاء الذئب فعدى على ولد إحداهن فأكله، فاختصمت المرأتان على الولد الباقي، فرفعتا الأمر إلى داوُد عليه السلام، فقضى به للكبرى، فلما خرجتا قابلتا سليمان عليه السلام، فشكت له الصغرى حكومة أبيه، وقالت: إنه قضى بالولد للكبرى وهو ولدها، فقال سليمان عليه السلام: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين، فصرخت المرأة الصغرى، وقالت: لا أريده، أعطه لها، فحكم به لها) وقد قال تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:78 - 79] حتى لا يظن الظان أن داوُد عليه السلام لما لم يتفطن للحكم كان نقصاً فيه، قال تبارك وتعالى-: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] إصابة الحق منحة من الله تبارك وتعالى. فالأنبياء يجوز عليهم مثل هذه الصغائر لكن يتوب الله عز وجل عليهم.

محمد صلى الله عليه وسلم ومعاتبة الله له

محمد صلى الله عليه وسلم ومعاتبة الله له وكذلك قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]. وكذلك قال له تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] إلى آخر الآيات. ولما قبل النبي صلى الله عليه وسلم الفدية في أسارى بدر قال له الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].

نبي من الأنبياء يحرق قرى النمل

نبي من الأنبياء يحرق قرى النمل وكذلك روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبياً من الأنبياء نام تحت شجرة، فقرصته نملة، فأمر بجهازه، فأُخرج من تحت الشجرة، ثم أمر بحرق قرى النمل، فأوحى الله عز وجل إليه: ألا إن قرصتك نملة واحدة تحرق قرية من الموحدين؟! -وفي اللفظ الآخر قال له: فهلا نملة) أي: نملة فهلا عاقبت نملة؟! وعاتبه ربه تبارك وتعالى في ذلك.

داود عليه السلام وخطيئته في ميله عن الحق بين الحكمين

داود عليه السلام وخطيئته في ميله عن الحق بين الحكمين وكذلك في قصة داوُد عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:21 - 25].

كذب اليهود على داود في تخطئة الله له

كذب اليهود على داود في تخطئة الله له داوُد عليه السلام في الآيات السابقة ليس تفسيرها كما يقول اليهود في كتبهم. إن داوُد عليه السلام أرسل قائد جيشه لما رأى امرأة جميلة فأعجبته فأراد أن يتزوجها، فأحْكَمَ مؤامرةً على قائد الجيش وأرسله ليقاتل قوماً بلا حاجة إلى القتال؛ كل هذا ليُقْتَل هذا القائد، فيتزوج داوُد عليه السلام امرأته، فأرسل القائدَ إلى جهة معينة يقاتل قوماً، فقاتلهم وقتل نفراً كثيراً، ورجع قائد الجيوش، فأرسله إلى جهة أخرى فكان كما حدث، فقتل مئات الألوف ولم يقتل القائد، فلم يجد داوُد عليه السلام بداً من أن يقتله، فقتله وتزوج امرأته. فأراد الله أن يعلمه خطأه، فأرسل إليه مَلَكين في صورة رجلين يختصمان، وتسورا عليه المحراب يعني: تسلقا جدار المحراب الذي يصلي فيه، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:23] والنعجة: المرأة، فقال: {ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] أنت عندك تسع وتسعون امرأة وأنا لي امرأة واحدة، فأخذتَ مني المرأة الواحدة وغلبتني في الخطاب بالبيان والحجة، فغلَّط داوُد عليه السلام الرجل الذي ضم النعجة إليه، وقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] فغلَّط نفسه، فلما انتهت الحكومة اختفى الرجلان فجأة فعلم داوُد عليه السلام أنهما ملكان؛ فحينئذٍ انكشف له الأمر فاستغفر ربه مما فعل. هكذا تقول الرواية الإسرائيلية اليهودية، وحاشا لداوُد عليه السلام أن يفعل ذلك. وكذلك اتهموا لوطاً عليه السلام أنه شرب الخمر وزنا بابنتيه. واتهموا إبراهيم عليه السلام أنه أعطى امرأته لجبار مصر، مع أن القصة في صحيحي البخاري ومسلم عندنا تخالف اتهام اليهود تمام المخالفة. الأنبياء معصومون من الكبائر؛ لا يشركون بالله، ولا يقتلون، ولا يزنون، كل الكبائر لا يفعلها الأنبياء، إنما خطيئة داوُد عليه السلام أنه قضى لأحد الخصمين على الآخر بدون أن يسمع الطرف الآخر، هذه هي خطيئة داوُد عليه السلام التي استغفر منها.

آدم عليه السلام ومعصيته لربه في أكل الشجرة

آدم عليه السلام ومعصيته لربه في أكل الشجرة اتفقت الأمة على أنه لا يجوز لنبي من الأنبياء أن يرتكب كبيرة، وجوزوا الصغائر عليهم؛ ولكن مع تجويز الصغائر عليهم فإن الله لا يقرهم على ذلك، بل يستغفرون ويغفر لهم، وهذه ميزة لهم ليست لأحد من بني آدم، وفي ذلك آيات وأحاديث، قال آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. وقال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121].

آدم عليه السلام وجحوده لربه

آدم عليه السلام وجحوده لربه وكذلك روى الترمذي في سننه وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره بيده، فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: ذريتك، فرأى رجلاً منهم وبيص عينه أظهر من الكل، فقال: من هذا يا رب؟ قال: هذا ولدك داوُد يأتي في آخر الأمم، قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون عاماً، قال: رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما جاء الملك ليقبض آدم عليه السلام، فقال له آدم: قد بقي من عمري أربعون عاماً، قال: أوَلَم تعطها ولدك داوُد؟ قال: لا، فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم، فخطئت ذريته -وفي بعض طرق الحديث-: أن الله عز وجل أتم لداوُد مائة عام، وأتم لآدم عمره).

نوح عليه السلام وسؤاله الله ما ليس له به علم

نوح عليه السلام وسؤاله الله ما ليس له به علم وكذلك في قصة نوح عليه السلام قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:45 - 47].

دروس وعبر من قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي

دروس وعبر من قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي

استغفار موسى عليه السلام من قتل القبطي

استغفار موسى عليه السلام من قتل القبطي فإن قيل: إن كان لا جناح عليه فلم استغفر؟ ولا يكون الاستغفار إلا من ذنب؟ فنقول: إن موسى عليه السلام قتل نفساً خطأً لم يؤمر بقتلها، ولذلك عد هذا ذنباً بالنسبة إلى مقامه ومكانه. وفي حديث الشفاعة الذي في الصحيحين وغيرهما عندما يذهب الناس يستشفعون بآدم، فيقول: نفسي نفسي، فيحيلهم إلى نوح، ونوح عليه السلام يحيلهم إلى إبراهيم، وإبراهيم عليه السلام يحيلهم إلى موسى عليه السلام، فيقول موسى: نفسي نفسي! إني قتلتُ نفساً لم أومر بقتلها، فكذلك كل من فعل شيئاً لم يؤمر به فهو مذنب.

وقوع القتل من الأنبياء

وقوع القتل من الأنبياء فإن قلتَ: إن موسى عليه السلام قتل نفساً والقتل من الكبائر، وكبائر الذنوب لا يقع فيها الأنبياء؟ فأقول: نعم، إن موسى عليه السلام لم يعمد إلى قتل هذا القبطي أبداً، إنما أراد أن يكف بأسه عن الإسرائيلي، فلما وكزه ولم يرد قتله، لكن القتل وقع خطأ والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] فأثبت لهم الإيمان برغم الخطأ وهو القتل، ومع ذلك لا يزال مؤمناً ووصف الإيمان وصف له، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فأثبت لهم الأخوة الإيمانية مع وجود القتال. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال: يا أهل العراق! ما أسْأَلَكم عن الصغيرة وأرْكَبَكم للكبيرة -يعني: ما أشد سؤالَكم عن السفاهات وما أشد ركوبَكم للكبائر- أما أني سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الفتنة تجيء من هاهنا، وأشار إلى المشرق، وإن موسى -عليه السلام- إنما قتل القبطي خطأً، وقد قال الله عز وجل له: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]). فهو قتل هذه النفس خطأً.

البدعة تعريفها وضوابطها

البدعة تعريفها وضوابطها نقول هذا الكلام لأهل البدع الذين يفعلون شيئاً لم يؤمروا به، وليس لهم دليل ولا أثارة من علم، لا من كتاب منير ولا من سنة بينة، ويفعلون ذلك يتقربون به إلى الله، هؤلاء عصاة وإن قصدوا الخير، فالخير ما أمر الله به ورسوله، والله عز وجل قد أتم النعمة وأكمل الدين، فكل مفترٍ على الله عز وجل بإثبات أمر لم يأمر به الله عز وجل فهو مذنب: (إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها) لا تقل: هذا عمل خير، لو كان خيراً لدلك النبي صلى الله عليه وسلم عليه. إن المبتدع يقول بلسان حاله: أنا أستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم ما فاته، كل عمل يبتدعه المرء لا أجر له فيه بل هو مأزور، لا بد أن يسأل عن الهدى والإيمان كما يسأل عن رغيف الخبز. البدعة: فعل شيءٍ حادثٍ لم يؤمر به المرء بكيفيةٍ مخصوصةٍ في زمان مخصوص يتقرب به إلى الله، وهذا ضابط البدعة المذمومة. أن يفعل الشيء يتقرب به إلى الله. أما إذا فعل الشيء لا يقصد به القربى فهذا ليس من البدع المذمومة، مثل: التوسعة في ليلة عاشوراء كتجهيز كعك العيد أو المواسم التي يذبحون فيها ويوسعون على أنفسهم، بعض المتسننين يرفض الأكل والتوسعة في هذه الليلة، يقول: لا. هذا بدعة، نقول: البدعة لا تكون إلا إذا قصد بالأكل التقرب إلى الله، أما إذا قصد التوسعة على نفسه ويأكل فقط فهذا ليس من البدعة في شيء؛ لأنه يُشترط في البدعة المذمومة المستقبحة شرعاً أن يتقرب المرء بها إلى الله، لكن مثلاً كعك العيد ليست بدعة مذمومة ومحرمة؛ لأنهم لا يتقربون بأكل الكعك إلى الله، ولكن الآفة في هذا أنهم يضيعون على أنفسهم العشر الأواخر، يسهرون الليل في تجهيز العجين في هذه المعجنة وعباد الله المتقون يصفون أقدامهم بين يدي رب العالمين، هذه هي الآفة في هذا الأمر لكنها ليست بدعة، إنما البدعة -كما شاهدت بعض الناس يفعلها- أنه بعد الصلاة إذا أراد أن يدعو الله يسجد ويدعو، لماذا تسجد يا فلان وتدعو هكذا؟ يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فهذا الوضع اقتراب من الله، فأنا أريد أن أكون قريباً من ربي حال دعائي واستغفاري. فنقول له: لو كان المفهوم من الآية والحديث ما فهمتَ ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم، إنما المقصود بالسجود في الآية والحديث: الصلاة، والتعبير هنا عن الصلاة بجزء من أجزائها: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] أي: صلِّ، وقوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) أي: في صلاته؛ لكن السجود المطلق بعد الصلاة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، ولا أعلم أحداً من الأئمة المتبوعين أفتى باستحبابه، إذاً: هذه بدعة وإن قصد بها الخير. فكل فعل لم يؤمر به المرء فيفعله يتقرب به إلى الله عز وجل وليس عليه دليل فهذا مذموم.

استعظام الذنب عند موسى عليه السلام

استعظام الذنب عند موسى عليه السلام فلذلك استغفر موسى عليه السلام ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] بالنسبة لمقامه. قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح للتابعين: (إنكم لتفعلون الشيء هو أدق من الشعرة عندكم إن كنا نعده على زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر) لماذا؟ الكبائر معروفة، فهم يفعلون الفعل أدق من الشعرة يقول: هذا كان عندنا -أي: مع معاشر أهل الورع- من الكبائر، وإن كان ليس كبيرة في ذاته، ولكنه كبيرة بالنسبة لمقام الإنسان، كلما شرف صدر الإنسان ونبل استعظم الناس صدور الذنب منه، ولا يستعظمون الكبيرة من أهل الفسق، وهكذا عندما يفعل هذا نبي من الأنبياء -حتى ولو كان مباحاً له أن يفعله- لكن ليس لائقاً من مثله في مقامه ومكانته، فإنه يعتبر هذا ذنباً كبيراً يستغفر منه، وكذلك أهل النبل دائماً يستعظمون الشيء الدقيق، وكذلك أهل الإيمان كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن ليرى ذنبه الدقيق كالجبل العظيم، وإن الفاجر ليرى ذنبه العظيم كمثل الذباب يقع على أنفه فقال به هكذا فطار) الرجل المؤمن يرى الذنب الدقيق كالجبل العظيم، فلو قلت له: ماذا أذنبتَ؟ يقول: هلكت! ارتكبت موبقة من الموبقات، مع أن هذا الشيء في الميزان لا يساوي شيئاً إنما استعظمه بالنسبة لورعه ومقامه. وفي حديث البخاري في كتاب بدء الوحي من حديث ابن عباس (لما دخل أبو سفيان على هرقل وجعل يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى هرقل أصحاب أبي سفيان منه ليقرروه، وقال لهم: إن كذب عليَّ فأعلموني -أنا إنما جعلتكم معه حتى إذا كذب قلتم: كذب- فيقول أبو سفيان وكان كافراً إذ ذاك: ولولا أن يؤثروا عليَّ كذباً لكذبتُ) أي: لولا أن يعيروني يوماً ما بأنني كذبتُ لكذبتُ، مع أنه في أمس الحاجة إلى الكذب، هرقل يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار يعادونه ويقاتلونه ألا يفترون عليه؟ طبعاً سهل جداً أن يفتروا عليه يسألهم -مثلاً-: هل هو أمين؟ يتمنى أن يقول: هو خائن، لكن الذي صده عن ذلك خشية أن يأثر عليه قومه الموالون له الكذب. إن الإنسان النبيل لا يكذب وإن لم يأتِ نهي شرعي بذلك؛ لأن الكذب معروف أنه من الدناءات، أي إنسان يحترم نفسه لا يسقط في الدناءات ترفعاً لا ديناً، يترفع أن يسقط في المستنقعات، لو كان عنده نبل. فموسى عليه السلام استعظم من مثله وفي مقامه أن يقتل خطأً؛ لذلك فقد عد هذا ذنباً يجب منه الاستغفار، ولذلك بادر وقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [القصص:16] مع أنه ما قصد: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَه} [القصص:16]. وهنا شرط: من أراد أن يغفر الله له فلا بد أن يعترف بذنبه وظلمه أولاً؛ لأنه إذا لم يعترف فلن يتب، الاعتراف بالذنب فيه انكسار؛ لكن أن يذهب إلى ربه ويطلب المغفرة منه وهو شامخ رافع الرأس، فمثل هذا لا يُغفر له. ففي حديث الإفك الذي رواه الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها: (يا عائشة! إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه). فإذا أردت أن تخرج من ذنبك، قل: يا رب! إني مذنب، إني ظالم لنفسي، إني جاهل، فاغفر لي، فإذا قدمت بهضم النفس وكسرها ودق عنقها ضَمُن أن يستجاب لك، لذلك قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] فقال الله عز وجل: {فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] بفاء التعقيب، أي: غفر له فوراً بمجرد أن اعترف وخرج من ذنبه: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

معاداة موسى عليه السلام للمجرمين

معاداة موسى عليه السلام للمجرمين الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]. أيها الإخوة الكرام: ما أجمل الوفاء! لا يضيع الوفاء إلا لئيم، وصدق المتنبي إذ يقول: إن أنت أكرمت الكريم ملكتَه وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا لا تصلح صناعةُ خير مع لئيم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] هذا هو الوفاء، والاعتراف بالجميل، وبالنعم: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] إذ قبلت توبتي، وهذه أجل النعم على الإطلاق أن يقبل الله عز وجل توبة التائب، ويمحو حوبته، ويغفر ذنوبه. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] أقسم على نفسه، وقطع على نفسه عهداً في مقابل هذه النعمة الجسمية، وهي أنك أسقطت عني الذنب وغفرت لي، فلن أكون ظهيراً لمجرم عليك أبداً، لا أتولى الذين ظلموا من المجرمين والكافرين، وأكون على نقيضهم؛ إذ الكافر على ربه ظهير: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]. أيها الكرام! لماذا نهادن أهل المعاصي؟! لماذا نلقي إليهم بأيدي المودة وقد عصوا ربهم تبارك وتعالى، وكانوا عليه ظهرياً؟! فلماذا إذاً نواليهم؟! أليس هذا من كفران النعم؟! هذا من كفران النعم أن توالي أهل البدع، وأن توالي أهل العصيان والظلمة. قال عبيد الله بن الوليد سألت عطاء بن أبي رباح فقلت له: (إن أخي يأكل بقلمه يكتب ويحسب، قال: من الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: ألم تسمع قول العبد الصالح: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]) فاستعظم أنه يكتب الخراج، أي: أن هذا الرجل محافظ على بيت المال إذا خَرَجَ مالٌ، كتب: خَرَجَ مالٌ، وإذا دَخَلَ مالٌ، كتب: دَخَلَ مالٌ، الرجل هذا غلطان؟! الرجل هذا يرتكب محرماً؟! وعطاء بن أبي رباح كان عبداً أسود منَّ الله عليه بالعلم، وكم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم، كانوا إذا جاءوا عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي الجليل الشهير العالم العامل إذا سألوه فيسألهم عن بلدهم، فيقول لهم: (أتستفتوني وعندكم عطاء بن أبي رباح) وهذه تزكية ما بعدها تزكية لمثل هذا العبد الضعيف. فهذا الكلام نعطيه لكل من ارتكب مظلمة في حق إنسان لإنسان، قال عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. يقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29]. ويقول تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أكثر الذين يرتكبون المظالم يقول: أنا ماذا أعمل؟ أنا عبدُ الآمر. نقول له: أشركت بالله بهذا القول، فهلا قلتَ: أنا عبدٌ مأمورٌ، فحينئذٍ نسأل من الذي يأمرك؟ وبم أمرك؟ ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]. وهؤلاء الظلمة الذين يدخلون النار أفواجاً وأمماً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]. وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64] تصوَّر! يُعذَّبون ويَختَصمون ويسبُّ بعضهم بعضاً، ولو أنهم لا يعذبون لكفى عذاباً أن تكون مع من تكره في مكان واحد لا تستطيع مفارقته، وصدقت العرب عندما كانت تقول: (رب مملول لا يُستطاع فراقه)، أشقى الناس من اقترن بإلف لا يستطيع فراقه، مكتوب عليه. رجل تجوز امرأةً ناشزاً، كافرةً بالنعم، جاحدةً للفضل، وعنده أولاد منها، أو عليه مائة ألف أو ثلاثون ألفاً، أو أنه إذا طلقها أخذت كل ما جمعه في حياته، فمضطر أن يعيش ذليلاً، مضطراً، يتجرع الذل ليلاً نهاراً، ضاعت بهجة حياته؛ لأنه عاجز عن الطلاق، فكيف إذا كانوا في مكان واحد ويلعن بعضهم بعضاً. أنا أذكر أنه لم تضق علينا زنزانة قط إلا بعدما جمعوا بيننا وبين جماعة التكفير وبين الفرماوية وبين الجماعات المختلفة، عندما كنا جميعاً أصحاب عقيدةٍ واحدة، ومنهجٍ واحد، وفي مكان واحد، كنا متآلفين متحابين متآخين، وما شعرنا أبداً بالحد على الإطلاق، بدءوا يشكلون الأفراد: (10) تكفير، (5) فرماوية، (4) من الاتجاه الفلاني العلاني، وبدءوا يتناحرون ويتناقشون ويشتم بعضهم بعضاً، هنا شعرنا بالسجن والحبس: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص:64] يُعذبون ويسب بعضُهم بعضاً ويلعن بعضُهم بعضاً. فمن تمام اعترافك بنعمة الله عليك أن لا تنحاز إلى من يكفر به سواءً كان كفر جحود أو كفر نعمة. لا يحل لك أن تعطي لأهل المعاصي الود، ولا أن تستضيف أحداً منهم، ولا تبسط لهم يد المودة؛ لأن الله عز وجل سوى بين الفاعل وبين الراضي، قال عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] فهذا وعد قطعه موسى على نفسه كله وفاء: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17] بقبول توبتي؛ وغسل حوبتي؛ فلن أكون ظهيراً للمجرمين عليك. نسأل الله تبارك وتعالى أن يَجْتَبِيَنا إلى طاعته، وأن يغفرَ لنا ما فرطنا فيه، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عبدة الشيطان

عبدة الشيطان إن المتصفح لتاريخ الأمم السابقة مع أنبيائها يجد أن الذين عادوا الرسل وكذبوهم هم عبدة الشيطان وأتباعه شعروا بذلك أم لم يشعروا، وفي زماننا وجد من يصرحون بذلك، فيقولون: نحن نعبد الشيطان اتقاء غضبه وسخطه، ويختلقون له القصص والروايات من أنه مظلوم، وقد أراد أن يتوب فلم يقبل الله توبته، ورغم قلة هؤلاء إلا أنه لا يجوز السكوت عن باطلهم الذي أعلنوه وجاهروا به.

مذهب عبادة الشيطان قديم

مذهب عبادة الشيطان قديم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا زال حديثنا موصولاً عن جيل التمكين وعن صفات هذا الجيل، ولا زلنا نقول: إن التفريط في إيجاد هذا الجيل لَجُرْمٌ عظيم تحاسب الأمة عليه كلها في الدنيا والآخرة، ما خلق الله عز وجل السماوات والأرض إلا بالحق، وما أنزل كتابه إلا بالحق، فلم هذا التفلت؟ إن هناك آصرة قوية وعلاقة متينة بين الطفولة والتمكين، وكما قلنا مراراً ونقول: إن الله تبارك وتعالى لما ذكر التمكين لبني إسرائيل ذكر رضاع موسى عليه السلام: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7]. أولادنا ماذا فعلنا معهم؟ أطعمناهم كسوناهم أدخلناهم أرقى المدارس والجامعات لكنهم صفر! تعرفون جيل آبائنا حلقة مفرغة لا قيمة لها في عمر الزمن، والسبب يطول شرحه لكن سأضع لكم شيئاً تقيسون عليه بقية الأشياء. عبدة الشيطان الآن هم تفريخ طبيعي لذلك الجيل. في سنة (1900م) لما بدأت بذور العلمانية تظهر مع ضعف الدولة العثمانية، وبدأت تكون لهم صولة وجولة، وبدأ نور التدين يخفت، ظهرت طائفة من الكتاب يكتبون القصص والمقالات -وهؤلاء هم الذين شكلوا مسار الأمة- وقد كانت كل رواياتهم تنطق بالكفر والجبر -وهو نوع من الكفر- فالجبر: اتهام لله بالظلم، الله خلقني، قدر عليَّ المعصية لِمَ يدخلني النار؟ يعني: هو ظالم؛ لأنه لو كان عادلاً ما أدخلني النار بجرم ليس من يدي. فمذهب عبادة الشيطان مذهب قديم وليس مذهباً جديداً مستحدثاً، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] وقال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] ما غاب هذا المذهب عن الأرض طرفة عين، كل المعاصي التي وقعت في الأرض على مذهب عبادة الشيطان، وكل مخالفة لله ورسوله على مذهب عبادة الشيطان، لكن الجديد أن يقول رجل: أنا أعبد الشيطان، هذا هو الجديد في الموضوع، كان الرجل يفعل المعصية عامداً ويقول: أنا جاهل أنا لا أدري أن الأمر بخلاف ذلك ويقول: أنا غلبني هواي المهم لا بد أن يعتذر، ولا يصرح أنه يعبد الشيطان، الجديد في المسألة التصريح. الذين يقولون: نعبد العجل العجل عبارة عن لحمة وجلد. والذين يقولون: نعبد الشمس الشمس منبع الأشعة. فالذين يعبدون الشيطان أي ميزة فيه؟ وليس معنى الكلام أنني أجوز عبادة البقر أو عبادة الشمس؛ لكن مذهب ليس فيه أي ميزة على الإطلاق، من الذين أشاعوه؟

القصص العابثة وعبادة الشيطان

القصص العابثة وعبادة الشيطان مذهب الشيطان كتبه رجل ليس له من اسمه نصيب (توفيق الحكيم) لا توفيق ولا حكمة، كتبه في رواية، ونشرت وطبعت عشرات المرات عنوانها: (الشهيد) الرواية هذه خلاصتها أن الشيطان أراد أن يتوب فذهب إلى أعلى سلطة دينية شيخ الأزهر، وقال له: أنا مخطئ واعترفت بخطئي، وأريد أن أتوب. قال له: تريد أن تتوب؟! لا. كيف تتوب؟! سيبطل القرآن بتوبتك، القرآن يلعن الشيطان، والمؤمنون يستعيذون بالله من الشيطان دائماً، فلو تبت فمن نستعيذ؟! لا. بقاؤك ضروري. قال الشيطان: وأنا أكون ضحية من أجل أن يستعيذوا مني فأدخل النار؟ أنا أريد أن أتوب. قال: فأفحم شيخ الأزهر ولم يجد جواباً، ولما لم يجد جواباً، قال: والله توجد سلطة أعلى مني، وهذا ليس من اختصاصي، أنا اختصاصي إعلاء مجد الأزهر، وأن أنشر الدين بين الناس، إنما مسألة قبول توبتك هذا لا أقبلها، ليس من اختصاصي. قال: إذن دلني. قال له: عليك بجبريل. فيصعد ويجد جبريل فيقول له: أريد أن أتوب! أنا مخطئ. فيقول له جبريل: كيف تتوب؟ كيف نقبل توبتك؟ إن السماوات والأرض قائمة على لعنتك، لا نقبل منك توبة، على أي حال هذا ليس من اختصاصي. قال: فلمن أذهب إذن؟! قال: اذهب لربك. فلما ذهب إلى الله لعنه وطرده. نزل إبليس من فوق وهو يصرخ بأعلى صوته ويقول: أنا شهيد! أنا شهيد! أنا شهيد! وبعد ذلك يقول الكاتب: وتجاوبت معه السماوات والأرض والأشجار والأحجار والرمال كلها قالت: أنا شهيد! أنا شهيد! معنى هذا الكلام أن السماوات والأرض والجبال تقر أن الشيطان مظلوم. إذاً: النتيجة أن الله ظلم إبليس. هذه هي القصة، وهذا رجل فارس من الفرسان الذين شكلوا عقائد وثقافات الجيل المنصرم، أن الشيطان مظلوم!

لماذا يعبدون الشيطان؟

لماذا يعبدون الشيطان؟ ولكن أبين لكم إلى أين تذهب هذه القافلة التي تعبد الشيطان، نعم هم شرذمة قليلون ليسوا شيئاً بجانب سواد الأمة الذي رجع إلى الله؛ لكن معظم النار من مستصغر الشرر، وكان العرب يقولون: (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له) لا تنم لعدوك ولو كان نملة، فما جاءت الطامات الكبيرة إلا بهذا القول: إنهم شرذمة قليلون لا قيمة لهم، لا. نحن نندد بهذا إعلاءً لكلمة الله عز وجل، وإعذاراًَ إلى الله أننا أنكرنا عليهم وأننا تكلمنا. شاب من ضمن الشباب الذين يعبدون الشيطان قيل له: لماذا أنت تعبد الشيطان؟ قال: نحن نعبده لنتقي شره وغضبه. فكيف هان عليهم غضب الله؟! إذا كان الإنسان لا بد أن يعبد شيئاً ليتقي غضبه فلا، يعبد إلا الله؛ فإن الله عز وجل إذا غضب لا يقوم لغضبه شيء، والشيطان برغم قوته ملَّكك الله أكتافه، هو أقوى منك وأنت أضعف؛ لكن ملكك الله أكتافه، ولكن به تبارك وتعالى إذا قلت: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، لا يبقى أمامك أبداً، ولذلك كان شيطان الإنس أعتى من شيطان الجن في هذا الباب، شيطان الجن تتقيه بالاستعاذة، شيطان الإنس لو قرأت عليه القرآن كله ما يتحرك، فملكك الله شيطان الجن بالاستعاذة. وبعد ذلك يقول شاب منهم: إن الله لم يعطه فرصة للدفاع عن نفسه، لمجرد ما أبى قال له: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18] انظر! يتكلمون عن الله! يقولون: مجرد ما اعترض طرد. وربنا سبحانه وتعالى ذكر أن جنايات الشيطان ثلاث: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. ولا يقال عن إنسان أبى إلا إذا كان باختيار، فإن الذي يفعل مجبوراً لا يقال أبى، ولذلك تسقط الواجبات كلها بالعجز. نحن نقاوم مذهب الشيطان بكتاب الله، فهو كله ضد مذهب الشيطان، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ضد مذهب الشيطان. إن الذي أفزعنا هو هذا السكوت عن هذا المذهب، وأصحابه قد أعلنوه؛ وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: من أعلن عاقبناه، ومن أسر فهو إلى الله. إذاً: الإنسان العاصي إذا أظهر العصيان ارتكب جريمتين: جريمة المعصية، وجريمة إظهار المعصية. أما إذا أسر بالمعصية فهذا أمره إلى الله. الذين يتبعون الشيطان في الدنيا كثير؛ لكنهم يعتذرون ويبررون ويبرئون أنفسهم أن يكونوا تابعين للشيطان. نحن الآن مقبلون على مرحلة عصيبة بيننا وبين اليهود، كتبهم تنطق أنه قبل عام (2000م) ستكون هناك حرب عظيمة؛ لأن الدجال في اعتقادهم -والدجال هو إمام اليهود- سيظهر عام (2000م)؛ كما في تلمودهم وكتبهم التي كتبوها بهذا الشأن، فهم يسعون أن يجتمع اليهود جميعاً خلف إمامهم -وهو الدجال- وهم لذلك يعدون العدة، وتباشير الحرب قائمة. والقادة العسكريون في بلادنا كتبوا على صفحات الجرائد أنهم قبل عام (2000م) يتوقعون حرباً، ويقولون: نحن نتوقع بحسنا العسكري أنه ستكون هناك حرب قوية بيننا وبين اليهود قبل عام (2000م). فأين شبابنا الذين يدافعون عن دينهم؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمننا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

المعادون للأنبياء هم الطبقة الذين خرج منهم عبدة الشيطان

المعادون للأنبياء هم الطبقة الذين خرج منهم عبدة الشيطان الذين عادوا الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل هم الطبقة الذين خرج من صلبهم عبدة الشيطان، المترفون الذين أهلكهم الترف والمال وغرقوا في الجهل إلى الوحل، هذا نسلهم، ما لهم أي ميزة، بل هم وبال على الأرض، هم الذين كذبوا الرسل وهم الذين عادوهم: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون:33] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116] وفي مسند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه وأصل الحديث في الصحيحين لكن اللفظة التي أذكرها في المسند، في حديث الشفاعة: أن الناس يذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم، فلما جاءوا إلى نوح أحالهم إلى إبراهيم عليه السلام قال: عليكم بإبراهيم خليل الرحمن، فجاءوه فذكر كذباته ومن ضمنها أنه أتى على جبار مترف فقال إبراهيم عن امرأته: إنها أختي. أتى على جبار مترف عاث في الأرض فساداً بسبب طغيان المال مع الجهل، فاستغنوا عن الله وعن رسوله، واستغنوا عن دينه سبحانه وتعالى، وهذا نطق به الوحي المبين؛ قال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] لماذا؟ {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] لا يطغى إنسان إلا مستغنياً، ومصداق ذلك هذه الآية أيضاً: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] لماذا يبغون مع بسط الرزق؟ لأنه لا يحتاج أحد إلى أحد. تخطئ علي لماذا أداريك؟ تسيء إليَّ لماذا أتحمل إساءتك؟ أنا غير محتاج لك، فبسْطُ الرزق على العباد يودي بهم إلى الطغيان، لذلك جعل الله عز وجل هذا محتاجاً إلى ذاك، فأنا إنما ألاطفك لأنني أحتاج إلى رزقك وعونك؛ لذلك تحملت الإساءة.

العلماء جهاز الأمن والمناعة للأمة من الفتن

العلماء جهاز الأمن والمناعة للأمة من الفتن إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. إن جهاز المناعة للأمة المسلمة هم العلماء، وهذا القول مؤيد بالوحي ومؤيد بفتاوى العلماء الكبار؛ أن الأمة لا تصلح إلا إذا صلح علماؤها. والشاعر يقول في البيت المشهور: يا رجال الدين يا ملح البلد مَن يُصْلِحُ الملحَ إذا الملحُ فَسَدْ

أهمية الاعتناء بتراجم العلماء

أهمية الاعتناء بتراجم العلماء وهناك محنة أخرى جسيمة بلينا بها؛ لكن الجماهير من الناس لا تشعر بها، هذه المحنة هي ضياع علوم التراجم. معروف أن العلم لا يؤخذ إلا من العدل، الإنسان العدل التقي لا يؤخذ العلم إلا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] يعني: توقف في قبول خبر الفاسق. إذا كان العالم الذي يظل يعرف هؤلاء الناس، هل نتوقف في علمه؟ لا. لأن الأصل في العلماء العدالة؛ لكن إذا قلنا: إن ثمة عالماً فاسقاً إذاً: لا ينتفع الناس بعلمه لماذا؟ لأن الأصل في كلامه أننا نتوقف. إذاً: الأصل في قبول العلم العدالة، والعدالة هي: مَلَكَة تحمل صاحبها على ملازمة الدين مع البراءة من الفسق وخوارم المروءة، والمروءة ليس لها حد، فهي تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان. فمثلاً: ذكر أبو الطيب الوشا في كتابه (الظرف والظرفاء) أن من خوارم المروءة: الالتفات في الطريق. فهذا كان في الزمان القديم، أيام أبي الطيب الوشا في القرن الثالث الهجري، فكيف في هذا الزمان لو كنت في بلد مثل القاهرة إذا لم تلتفت ستروح في شربة ماء، لا بد أن تتلفت مثل السارق، لأنه ربما يعكس قائد السيارة الطريق فينهي حياتك في صدمة واحدة. لكن لو أكثرت الالتفات على أيام أبي الطيب الوشا يقبضون عليك مباشرة. لماذا؟ لأن عندهم لا يلتفت إلا السارق. وهذا شعبة بن الحجاج رحمه الله إمام أهل البصرة ترك الرواية عن أحد العلماء الثقات، لأنه رآه يركب برذوناً يجري بلا سرج. فالمروءة كانت عندهم هكذا، لكن المروءة عندنا مختلفة، فكلمة خوارم المروءة تختلف من زمان إلى زمان، ومن عصر إلى عصر، فنحن ننظر مثلاً في عصرنا، ما الذي يخرم المروءة؟ نقول: يخرم المروءة مثلاً كذا وكذا إذاً: لا يجوز للعالم أن يرتكب هذه الخوارم. لماذا؟ حتى تصل كلمته إلى الناس بلا عقبات. لكن في هذا العصر يوجد كثير من العلماء، ولا أحد يدون تراجم هؤلاء العلماء ولا يذكر أخبارهم، ولا يذكر عنهم أي شيء. يأتي بعد مائة سنة مثلاً وهناك من له كتب ومؤلفات وهو كان في زمانه لا يسوى شيئاً لكن بعد ستمائة سنة صار شيخ الإسلام، فينقل عنه من بعده ويقول: وقال شيخ الإسلام فلان الفلاني. ونحن كلما اقتربنا من الساعة يقل العلم ويظهر الجهل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشراط الساعة: أن يُرْفَع العلم، وأن يكثر الجهل، وأن يقل الرجال، وأن تزيد النساء، ويتبع الرجل خمسون امرأة) انظر إلى الفتنة العظيمة المدلهمة هذه! يُرْفَع العلم؟ (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الرجال ولكن يقبض العلماء). ولما دفنوا حماد بن سلمة قال عبيد الله بن أبي عائشة: لقد دفنا اليوم علماً كثيراً، وكم أخذت الأرض من العلوم!.

حياة الأمة لا تصلح إلا بالعلماء

حياة الأمة لا تصلح إلا بالعلماء العالم هو الذي يصلح حياة العوام، والعوام بغير عالم في محنة عظيمة جسيمة أعظم من عدم وجود طبيب في بلد يفشو فيها الوباء. العلماء هم البقية الباقية الذين يعرفون الناس برب الناس، لا أحد يعرف الله حق معرفته إلا العلماء كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]. فهذا العالم هو الذي يعرف العوام بربهم، فعندما يكون هناك طعن في العلماء وإزراء بهم يقل قدر العالم عند الناس. والعجيب أن هناك رجلاً نشر كتاباً فيه إزراء بالعلماء جمع فيه كل الشواذ والطوام التي وقف عليها في قراءته ضمن هذا الكتاب، فمن الأشياء التي ذكرها أنه: ذَكَر عن الشاطبي رحمه الله -وهذه الواقعة موجودة فعلاً في كتاب الموافقات للشاطبي - يقول: إنه كان هناك مفتٍ كبير في الأندلس، وكان صاحب مال كثير، وكان يحتال حتى لا يخرج الزكاة، وكان له أبناء، فقبل أن يحول الحول بيومين أو ثلاثة يجيء بأولاده ويقول: والله يا أبنائي أنا كبرت سني، والإنسان لا يعرف الحياة من الموت، وأنا قررت أوزع عليكم أموالي. والله يا أبانا فعلتَ خيراً -والعيال متفقون مع الوالد- عملتَ خيراً والله، وجزاك الله خيراً. ويأخذون الأموال، وبعد ما يحول الحول بشهر يزورونه ويقولون: يا أبانا! أنت ما زلت لم تمت إلى هذا الوقت، ونحن نؤمِّل طول عمرك، ونأمل سلامتك، ولا نقبل أبداً أن نستمتع بالفلوس وأنت حي، تفضل خذ مالك. فيرجعون المال إلى أبيهم ثانيةً بعد أن يحول الحول. الأندلس أو الأمة الإسلامية إذا كان فيها عالم أو اثنان أو ثلاثة يعمل مثل هذا الفعل، فأين بقية العلماء الصالحين الذين ما كانوا يداهنون ولا كانوا يبيعون دينهم أبداً بعرض من الدنيا. هذا الحسن البصري لما سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:187] قال: الثمن القليل الدنيا بأسرها. الدنيا بأسرها لا تساوي آية هدى ولا نصف آية هدى ينزلها الله تبارك وتعالى. فعندما يعرضون هذه النماذج السيئة ليس قصدهم إلا أن تقل مكانة العلماء في نفوس العوام، فإذا صدرت فتوى من عالم لا يعيرها الجماهير التفاتاً. وهناك مقال كتبه أحدهم يقول فيه: الرسول صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية! أنا أريد أن أعرف ما هو قيمة البحث في هذا؛ والعجيب أنك أول ما تأتي تنظر في الكتاب تجده بحثاً علمياً محضاً، نحن كلما نذكره نقول: عليه الصلاة والسلام، ونحن نوقره ونبجله أكثر منكم؛ لكن نحن ربما نتوصل إلى شيء يفيد العلم، فهؤلاء لم يجدوا إلا جثة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشرحوها؛ وربما غداً يطلع مرض جديد، وبعده يطلع مرض جديد، ومع كل مرض يتكلمون عنه عليه الصلاة والسلام كما لو كان إنساناً عادياً جداً. لابد من توقير الرسول عليه الصلاة والسلام ومهابته، وإن أحد مس من جنابه الشريف ولم تعترض الأمة على ذلك فإن توقير الرسول صلى الله عليه وسلم يزول شيئاً فشيئاً، فهذه المقالات بعد قرن تجني ثمارها يأتي أناس عندهم نفس طويل جداً. فيعرضوا حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه السرعة على الجرائد والمجلات، فيبقى عندهم من السهل جداً أن يقولوا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام مات بالزائدة الدودية، وقد يستطيل الكلام إلى أكثر من ذلك، فتتكلم الأمة في رسول الله كلاماً لا توقره ولا تبجله فيه.

رعاية طلبة العلم

رعاية طلبة العلم إذاً: فإصابة هذا الكيان الخطير المهم هو إصابة للأمة كلها، لكن نقول: يا جماعة! اهتموا بالعلم وطلبته، يا من تؤدون الزكاة! أنفقوا على طلبة العلم، انظروا إلى أي طالب علم، فهو أفضل من الفقير؛ لأن طالب العلم فقير بطبيعة الحال، إما فقير أو مسكين، والفقير هو الذي لا يجد شيئاً، إذاً: أكثر طلبة العلم مساكين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر المسكين قال: (هو الذي يجد ما لا يكفيه). والشيخ الألباني حفظه الله أفتى أن كل موظفي الدولة مساكين يستحقون أموال الزكاة، لماذا؟ لأنهم يجدون مالاً ولكن لا يكفيهم، وهذا الكلام نحن نقوله أيضاً، لأنه أحياناً يأتيني رجل يسألني فيقول: جاءني موظف له عشر سنوات وهو موظف هل يجوز أن أعطيه زكاة أم لا؟ ويستكثر عليه لأنه يجده في الصباح وهو لابس ومتأنق، وذاهب إلى الشغل فيقول لك: ها هو حالته ميسورة. لا، المسكين وصفه هو الذي يجد لكن لا يكفيه، فكل من يجد ما لا يكفيه في حدود المعروف يكون مسكيناً. إذاً: فطالب العلم الفقير عندما تفرغه وتنفق عليه وتقول له: الوقت الذي تعمل فيه فرغه لهذه الأمة. فما من رجل يهتدي على يد هذا الرجل إلا أنت قسيمه في الأجر، أفضل من أن تطعم فقيهاً له عمامة فقط، ولست عارفاً ماذا يعمل، فقد يكون هذا الرجل لا يصلي قد يكون عدواً لله ورسوله قد يحاد الله ورسوله!! إذاً: هذه مسئوليتنا جميعاً وليست مسئولية فرد أو اثنين، وهي: إيجاد العلماء. عندما يقرأ الواحد منا في الأسانيد، ويجد شخصاً يقول: حدثني أبي حدثني جدي، يشعر بغبطة أين هذا النمط الآن؟ هل يوجد شخص ما يقول: حدثني أبي، وينقل شيئاً من العلم الآن في جيلنا؟ هذه الظاهرة كانت منتشرة بكثرة عند السلف، حدثني أبي، حدثني جدي؛ لكن فقدت في هذا الجيل تماماً. لماذا؟ خلت البيوت من أهل العلم.

صلاح الآباء

صلاح الآباء إن للآباء دوراً هاماً في تنشئة الأجيال، وأثراً عميقاً في نفوسهم، فكان لابد من تبصير الآباء بحقيقة رسالتهم التي ينبغي أن يسيروا عليها ويعلموها أولادهم؛ لأن الولد يتابع والده في حركاته وسكناته، فصلاح الأجيال منوط بصلاح الآباء، وإذا فسد الآباء فسد الأبناء (ولا يستقيم الظل والعود أعوج) وإن الناظر إلى حال البشرية على مر العصور يجد أن الكفر بالله تعالى والصد عن سبيله إنما كان باتباع سنن الآباء واقتفاء أثرهم، فكان من الواجب بيان أهمية صلاح الآباء وأثرهم على أولادهم.

أثر الآباء في تربية الأبناء

أثر الآباء في تربية الأبناء إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:5 - 7]. إن جيل التمكين يبدأ من الرضاعة، وأي أمة تريد أن تنتصر على عدوها ويُمَكَّن لدينها ومذهبها، إنما يبدأ ذلك من الرضاع. والآباء الذين يتولون تربية الأبناء، إذا لم يعرفوا حقيقة رسالتهم، فلا يمكن أن يخرج جيل التمكين. فلابد من صلاح الوالد أولاً؛ لأن للوالد أثراً عميقاً في نفس ولده.

اتباع سنن الآباء سبب في الصد عن سبيل الله

اتباع سنن الآباء سبب في الصد عن سبيل الله إن شطر الكفر الموجود في الأرض سببه الآباء. أرسل الله عز وجل أنبياءه إلى الأرض، فأرسل نوحاً عليه السلام إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء، {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]، فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء. ثم أرسل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام فصدوا عن سبيل الله أيضاً بسنة الآباء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:51 - 53]. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:69 - 74]. ثم أرسل الله عز وجل موسى إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء، قال موسى لقومه: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:77 - 78]. وأرسل الله عز وجل صالحاً عليه السلام إلى ثمود، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]. وأرسل الله عز وجل شعيباً إلى مدين، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]. وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قومه فصدوا عن سبيل الله بسنة الآباء أيضاً، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:21 - 23]. وقال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود:109]. فسنة الآباء الصد عن سبيل الله عز وجل، اتخذوا سنة الآباء ذريعة؛ وذلك لأن للوالد تأثيراً عميقاً جداً في نفس الولد. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200]. فلو كان الواحد منا يذكر الله جل وعلا أكثر من الوالد، فكانوا يأتون في المواسم فيقول القائل: أبي كان على السقاية، وأبي أنفق كذا، وأبي أطعم كذا، ولا يذكرون شيئاً من أمر الآخرة، فقال الله عز وجل لهم ذلك: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200]، (أو) هنا بمعنى (بل)، جاءت لتحقيق الخبر وزيادة، يعني: اذكروا الله أكثر من ذكركم لآبائكم. وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، يعني: بل هي أشد قسوة. وكقوله تبارك وتعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: بل يزيدون. وكقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، يعني: بل أشد خشية. وكقول الله تبارك وتعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، يعني: بل أدنى. وكقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أقرب} [النحل:77]، يعني: بل هو أقرب. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يعني: بل عابر سبيل. فـ (أو) هنا جاءت لتحقيق الخبر وزيادة، يعني: اذكر الله عز وجل أكثر من ذكرك لأبيك. فهذا يدل على أن ذكر الواحد منا لأبيه أمر عظيم، يقضي حياتَه في ذكر الوالد.

صلاح الآباء أول طريق إلى جيل التمكين

صلاح الآباء أول طريق إلى جيل التمكين لما كانت سنة الآباء كذلك، كان واجباً علينا أن نبصر الآباء الذين يبحثون عن جيل التمكين بحقيقة الرسالة التي ينبغي أن يبصِّروا الأولاد بها. ولا تظن أن ولدك أعمى! ولدُك ينظر إليك مثل الكاميرا المسجلة، قد تفعل الفعل ولا تنظر إليه ولا تأبه له، فيأخذ الولد منه الأسوة والقدوة، كما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه ما ضيع أبا طالب إلا الآباء، ورفقة السوء، روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعيد بن المسيب بن حزن عن أبيه المسيب، قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أدفع لك بها عند الله -أُحاج لك بها- فقال أبو جهل: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، أترغب عن ملة آبائك، فلا زالا يقولان له ذلك حتى كان آخر قوله: أنا على ملة عبد المطلب). عبد المطلب كان رجلاً شريفاً في قومه، والفخر بالأنساب أصله الاعتزاز بالآباء، وقد جاء الإسلام فأبطله، وأنت تلحظ في دنيا الناس! يُسَب الله عز وجل بأقذع السباب، فيسمع السامع فيكتفي بأن يقول: أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم فقط، ولو أن هذا الساب سب والد ذلك السامع ما اقتصر على الاستغفار، بل لدخل معه في معركة، ولربما فقد حياته دفاعاً عن والده. لذلك قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] لما في نفس الولد من تعظيم الوالد، فـ عبد المطلب كان رجلاً شريفاً في قومه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتسب إليه، بل كان يرتجز ويقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ولما كان يجيء الرجل من البادية مسلماً، فكان يسأل عن محمد بن عبد المطلب، فكان لـ عبد المطلب هذا الشرف، وهذه العراقة عند العرب، وكان العرب إذا احتقروا إنساناً نسبوه إلى جد غامض لا يُعَرف، كما قال أبو سفيان في الحديث الذي رواه البخاري في أوائل صحيحه عن ابن عباس -حديث هرقل - قال أبو سفيان لما دخل على هرقل وجعل يسأله عن الرسول عليه الصلاة والسلام وماذا يقول، كان من جملة ما قال أبو سفيان بعد أن قال هرقل: (فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا -يعني أوردها على سبيل الاستنكار، أنحن نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد الآباء؟ أوردها أبو سفيان مستنكراً- فقال هرقل: لو كنتُ أعلم أني أخلص إليه -بلا مشاكل من قومي- لأتيته فغسلت موضع نعله، وإن صح ما تقول ليملكن موضع قدمي هاتين، فخرج أبو سفيان وهو يقول: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة)، من يقصد بابن أبي كبشة؟ يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو كبشة جد أمه الأبعد وهو غير معروف. فلما أحبَّ أن يسبه لم يقل: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن عبد المطلب؛ لأن النسبة لـ عبد المطلب شرف، وهو لا يريد أن يشرفه، هو يريد أن يسبه، فنسبه إلى جد غامض لا يُعْرَف. ولذلك الأنساب كانت لها قيمة عند العرب، وهذا كله طَبْعٌ على الافتخار بالآباء وتعظيم الآباء.

اتباع سنن الآباء سبب أول كفر على وجه الأرض

اتباع سنن الآباء سبب أول كفر على وجه الأرض روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَدَ اللات والعزى، فقالت عائشة: يا رسول الله! قد كنت أظن أن الله لما أنزل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] قد كنت أظنه تاماً، -يعني لن يعود الكفر مرة أخرى-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله عز وجل ريحاً طيبة فتقبض روح كل مؤمن فيبقى على الأرض من لا خير فيه، ويعودون إلى دين آبائهم). وأول كفر حدث في الأرض كان سببه الآباء، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، هؤلاء خمسة من صالحي قوم نوح عليه السلام، جاء الشيطان للآباء، فقال: هؤلاء الصالحون إذا ماتوا لم يعلم الأبناء بذلك، فما هو المانع أن تُصور صوراً لهم، فإذا سألك ولدك مَن هذا؟ قل: يا بني! هذا ود، هذا سواع، هذا يغوث. فيكون وجود الصنم مبرراً ومسوغاً لسؤال الولد إياه؛ فإذا لم يوجد ما يذكره بالماضين نسيهم، ولا تعرف الماضين إلا إذا رأيت أثراً. ولذلك تجد آثار الفراعنة، تلمح ويسمونهم: أجدادنا. ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذه النسبة، فليسوا جدودنا، لكن لماذا يلمعون هذه الآثار؟ إحياءً لتراث الفراعنة. لكن هب أنه لا يوجد هرم، ولا يوجد (أبو الهول)، ولا يوجد رمسيس فيطلع الناشئة من الجيل لا يعرفون من هو أبو الهول، لماذا؟ لأنه لا يوجد مقتضىً ليسأل عنه. فقال لهم: لما يجد الولد تمثالاً يقوم فيسأل: - ما هذا يا أبي؟ فتقول له: يا بني هذا فلان. فيقول الولد: من فلان؟ فتقول: فلان يا بني هذا كذا وكذا، وكان رجلاً صالحاً، يقوم الليل ويصوم النهار إلخ. فأدخل الشيطان عليهم الشبهة من هذا الباب، فصنع الآباء التماثيل وهم آمنون من عبادتها. فلما مات الآباء الذين كانوا يعرفون ذلك، جاء الأبناء الذين لا يعرفون الحامل للآباء على هذا التصوير، فقالوا: ما صوَّر آباؤنا هؤلاء إلا لأنهم كانوا يعبدونهم؛ فعكفوا على عبادتهم فكان هو أول كفر في الأرض. ما بين آدم عليه السلام ونوح لا يوجد كفر. بدأ الكفر في قوم نوح، وهذا كله بسبب تعظيم الآباء.

النهي عن الحلف بالآباء

النهي عن الحلف بالآباء روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، قال: (كانت قريش تعظم الآباء وتحلف بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بآبائكم)، ومعلوم أن الحلف تعظيم المحلوف به، ففشت هذه العادة -الحلف بالآباء- لأنه تعظيم لهؤلاء. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يقول: (وأبي، وأبي -يعني يحلف بأبيه، بـ (واو القسم) - قال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً) انظر إلى عمر! ما حلف بأبيه لا ذاكراً في نفسه ولا ناقلاً عن غيره، كأن يقول: أنا كنت مع فلان فقال: وأبي، يعني: ما قالها من نفسه ولا نقلها عن غيره؛ لأن الله يبغض ذلك: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم). فهذا هو موقع الوالد وخطورته في حياة ولده. أنت أيها الوالد! نريد أن يخرج من صلبك جيل التمكين، فهل يستقيم الظل والعود أعوج؟! وهل فاقد الشيء يعطيه؟! فلابد أن تكون -أيها الوالد- عالماً لماذا خُلِقت حتى تورث ولدك هذه المعرفة؛ لذلك كان تبصير الآباء بحقيقة خَلْقهم ضرورة من آكد الضرورات لاستقامة الولد.

حديث: (افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)

حديث: (افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي). أيها المبتلى الممتحن! -وأنت لا تدري- تعرف ما هي أعظم مصيبة تعترضك في حياتك؟! أعظم مصيبة ليست أن تمرض بمرض عضال، ولا ألاَّ تجد القوت، ولا ألاَّ ترزق الولد، ولا أن تضطهد في الدنيا، ولا أن تسجن، ولا أن تعذب. لا. فأعظم مصيبة تعترض الإنسان في حياته قطاع الطرق؛ قطاع الطريق إلى الله. فالطريق إلى الله فيه لصوص يسرقون قلبك ولبَّك، فلماذا تفرِّط؟ إن الذين ينشرون الشبهات كل يوم يسرقون لبَّك وقلبك. فهل تحققت وتمسكت بمذهب الصحابة الذي هو الباب الوحيد للنجاة. أمامك ثلاث وسبعون باباً مفتوحاً، والباب الوحيد الذي ينجيك ويوصلك إلى الله في وسط الثلاثة والسبعين باباً هو باب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل عرفت علامة الباب؟ إذا لم تعرف علامة الباب ربما دخلت من باب يوصلك إلى النار، وعلى كل باب من هذه الأبواب من يدعو إليه، ويزين مذهبه، ويقول: أنا على الحق، وسائرهم في النار. فهذه محنة من أعظم المحن. وإن بعض أهل البدع قد يأتيك من باب الجدل وبسطةٍ اللسان، فما يؤمِّنك أنك إذا أعطيت أذنك لهذا المبتدع شدَّكَ، فإذا دخلت من الباب ضعتَ؟! هذه هي المحنة حقاً؛ لأن أول خطوة لها تبعات فأخطر خطوة هي الأولى. فهل تحققتَ بمذهب القرن الأول: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي). إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه ليس شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته). إذاً: علامة الباب الوحيد معروفة، وليست بمجهولة، ودورك أن تبحث عن علامة الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة، والبحث عنه أولى من طلب لقمة الخبز، بل أولى من سفرك إلى الخارج تبتغي العلاج أو الرزق، فحياتك في الدنيا والآخرة مرهونة بالاستقامة على هذا الطريق، ولا تصل ولا تلج الطريق إلا من هذا الباب.

التظاهر بالزهد والورع من أساليب المبتدعة في جذب الناس

التظاهر بالزهد والورع من أساليب المبتدعة في جذب الناس إن المبتدعة لهم طرائق قدداً في خطف قلبك، منها: الورع وترك الدنيا، فلا يزاحمون أهل الدنيا. هذه علامة لهم، يقضي النهار في الذكر والليل في القيام، كما هو حال الخوارج، وقال بعض من رآهم: (رأيت في جبهته مثل ركبة العنز) من الصلاة والسجود، فيخطف قلبك، وأنت رجل أول ما ترى هذا الطراز وهذه العبادة تقول: هذا ولي لله؛ لكن لا تتحقق بمذهبه، ولا تعرف منهجه، فيخطف قلبك بهذا السمت، وهذا المنظر. ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، إذ جاء رجل قصير الثياب، عليه علامة الإخبات -والزهد والخشوع-، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحثو المال -كلما يأتيه أحد يعطيه- حثواً بغير عد، -المهم لما جاء الدور على هذا الرجل، كان المال قد انتهى-، واغتاظ وتغيَّر قلبه، وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله؟ يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل، فإنك لم تعطني، وأعطيت الناس حثواً، فلو عددت لكان قد نالني شيء، اعدل فإنك لم تعدل، فقال له: ويحك! ومَن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل، فقال عمر -وفي الرواية الثانية: خالد - يا رسول الله! مرني بضرب عنقه، قال: دعه -هذا الخطاب موجه إلى عمر -، قال دعه، فإن له أصحاباً، وفي الرواية الثانية: فإنه يخرج من ضئضئ هذا -والضئضئ: الخصية كناية عن الأصل، يخرج من أصل هذا الرجل- أقوام يحقر أحدكم -يا عمر - صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) يخرج بمنتهى السرعة، أين الصلاح؟ وأين الصيام؟ وأين قراءة القرآن إذا لم يستخدم المرء هذه العبادات للثبات على الحق؟ ما قيمة الصلاة إذَاً؟ هذا الرجل مع صلاته التي يحتقر عمر بن الخطاب صلاته إذا نظر إليها، ترى كيف يصلي؟ فهذا معناه: أنه لا يأكل ولا يشرب، واقف طول النهار يصلي، فإذا كان مثل عمر يحتقر صلاته مع صلاة هذا الخارجي، ويحتقر صيامه، وعمر بن الخطاب معروف وكذلك عبادته وزهده، وهذا الخِطَاب إذا وجه إلى مثل عمر فهو موجه إلى من دون عمر من باب أولى.

أحب الأعمال إلى الله أدومها

أحب الأعمال إلى الله أدومها إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من العباد قال عبد الله بن عمرو بن العاص -كما روى ابن حبان في صحيحه-: (جمعت القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة). كل ليلة يقرأ القرآن كله. يقول رضي الله عنه: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة، فزوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش. -وعند الإمام أحمد من رواية مجاهد عن عبد الله بن عمرو -: قال: فلما أُدْخَلَتْ علي -العادة أن الرجل يقول فلما دخلت بها، هذه هي العادة؛ لكن انظر إلى هذا التعبير- (فلما دخلت علي) -يعني هو لا يريدها، وما كان يريد أن يتزوج أصلاً، ولكنهم أدخلوها عليه. هذا كله يبين لك شدة إقباله على العبادة-، فلما أُدخلَت علي جعلت لا أنحاز لها، ولا أنظر إليها -إطلاقاً، وذهب إلى غرفة -مثلاً- مجاورة، وظل يقوم الليل، هذا حبه وهواه، وقد صارت صلاته متعة، كما يستمتع العصاة بالمعاصي يستمتع أهل العبادة بالعبادة، بل هم أشد استمتاعاً بالقرب من الله عز وجل، لأن هذا يورث ذكاء القلب- فكان عمرو بن العاص يعلم أو استشعر أن ابنه سيفعل ذلك- فلما أصبح جاء يسأل زوجة ابنه: كيف الحال؟ قالت: عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله: فجاء أبي فسبني وعزمني -أي لامني- وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأةً ذات حسب من قريش فعضلتها، وذهب يشكوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأرسل إليه النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل ليلة. قال: اقرأ القرآن في أربعين. قال: أقدر. قال: في شهر. قال: أقدر. قال: في جمعة. قال: أقدر. قال: في ثلاثة أيام. قال: أقدر. قال له: لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فإنه من قرأه في أقل من ثلاث لم يفقهه. وقال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم. -فظل ينزل به- في الرواية: قال: فجعل يرقى بي، فقال: صم ثلاثة أيام. (فقال: أقدر، فقال له: صم يوماً وأفطر يوماً). إذاً: الواقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينزل؛ لكن عبد الله بن عمرو قال: (فجعل يرقى بي) أتعرف لماذا (يرقى بي)؟ لأن الله عز وجل لا يمل حتى يمل العبد، فإذا صام كل يوم انقطع عزمه، فيكون قد نزل، تنزل عبادته إذا أدركه الفتور والملل؛ لكن إذا عَبَد الله عبادةً مقتصدة، فيُثْبِت عَمَلَه ويداوم عليه، هذا هو الرقي، فهو إنما ينزل به ليرقى عند الله عز وجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب العمل إلى الله أدومُه وإنْ قَل). تريد أن تتصدق؟ تصدَّق بجنيه واحد في الشهر؛ لكن ثَبِّتْه. تريد أن تكون محبوباً؟ صلِّ ركعتين فقط قيام ليل، وثبِّتها، لا تصلِّ (100) ركعة في ليلة وتظل تنزل عن ذلك حتى تترك ليس هذا محبوباً إلى الله تعالى. المحبوب أن تعمل العملَ ولو كان قليلاً، وتداوم عليه. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله -عز وجل- أدومُه وإنْ قَل). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

نماذج مشرقة من حياة الصحابة في الزهد والعبادة

نماذج مشرقة من حياة الصحابة في الزهد والعبادة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) وقد أريتكم نموذجاً لـ عبد الله بن عمرو. خذ نموذجاً آخر لـ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤىً فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم فيعبرها لهم) وهناك بعض الرؤى كانت بشارات مثل رؤيا عبد الله بن سلام أنه أمسك بحلقة في السماء، فقص على النبي عليه الصلاة والسلام الرؤيا، فقال: (عبد الله مستمسك بالعروة الوثقى). وفي الرؤيا الأخرى لما رأى نفسه على قمة الفسطاط؛ فقال له: (أنت تموت على الإسلام)، بشارة من أعظم البشارات. فـ عبد الله بن عمر كان يسمع تعبير الرؤيا وكبده يتفتت، يتمنى أن يرى رؤيا هو أيضاً، حتى يحكيها فيقول له: أنت من أهل الجنة، فيستريح، فتكون بشارة قال: (فقلت لنفسي ليلة: لو كان فيك خيراً لرأيت رؤيا. قال: فنمت ليلة فرأيت رؤيا، رأيتُ مَلَكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فلما وقفت على شفيرها، إذا أناس معلقون من أرجلهم عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فجاء ملك فأخذني منهما وقال لي: لم تُرَع -أي: لم تخف- فاستيقظت فاستحيا أن يقصها على الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصها على حفصة أخته -أم المؤمنين رضي الله عنها- فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم -فجاءت البشرى- فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، بشارة مشروطة، قال الراوي: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. هذا هو الجيل الفريد: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، هذا هو الجيل الناصع، غُرَّة في جبين الزمان، لا تجد مثلهم من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الزمان، لأنه جيل فريد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (نظر الله عز وجل في قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحابه له). اختارهم الله له، لذلك فهو جيل يشرف والأسوة به ممكنة، بل واجبة. مثال آخر عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا رأى عبداً صالحاً -من عبيده- عليه أمارات الصلاح والنجابة، والإخبات والخشوع، أعتقه. يقول له: أنت حر، فإذا قال لعبدٍ من العبيد: أنت حر، فكأنه تصدق بثمن العبد، فأعتق عدداً من العبيد، فلما رأى العبيد هذا تظاهروا بالصلاح والزهد والخشوع، فجاء ابنه -ابن عبد الله - قال له: (يا أبتِ! إنهم يخدعونك، وهذا تفريط. أي: تَحَقَّقْ من المسألة؛ لأن هناك بعض العبيد يخادعون، فقال: يا بني! من خَدَعَنا في الله خُدِعْنا له. ولم يأسف عبد الله بن عمر على خروج المال حتى وإن كان في غير مظنته. إنه يعامل ربه، ولا يعامل الخلق. هذا هو الوجه المشرق الناصع للجيل الفريد الذي مكن الله عز وجل له في عشر سنوات فقط، رأيتم رجالاً كوَّنوا دولة على وجه الأرض في عشر سنوات!! وما تكون السنون العشر في عمر الزمان؟! في عشر سنوات كانت لهم دولة. إذاً: الباب الوحيد له سمة وله علامة، ونحن نذكر علامات أبواب أصحاب البدع حتى لا تخطف قلبك، وهم على اثنين وسبعين باباً، وتبحث عن الباب الوحيد الذي ينجيك لتكون عارفاً بالعلامة؛ لأن صلاح ولدك لا يكون إلا بصلاحك؛ ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعلماء يقولون في المناظرات لَمَّا يكون الدليل غير مستقيم يكون الاستنباط غير مستقيم. يقولون: (لا يستقيم الظل والعود أعوج). العود الذي هو: الوالد؛ لأنه هو الأصل، والظل فرع عن العود، وهو أثر من آثار العود، والعلماء كانوا يقولون: ثبت العرش ثم انقش، تريد نقشاً حسناًَ؟ يعني واحدٌ شَغَّال في الزخرفة، إذا أحب أن يزخرف لوحة لا يضعها على سطح الماء ويزخرف، سطح الماء مُهْتَز، فلا يستطيع الزخرفة. إذاً: حتى يزخرف لابد أن يثبت العرش. يعني: يثبت مكان اللوح، فكأنهم يقولون بهذا المثال: إذا أردت أثراً جيداً فثبت الأصل. إذا: الأصل الوالد، والولد هو الأثر، فلا يكون مستقيماً إلا باستقامة الوالد.

الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة

الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة اعلم أن الهدى هو خير ما احتاجه الرجال، وشر البضاعة الضلال، ولمحبة الناس للأشياء المحسوسة جعل الله عز وجل المعاني محسوسة، فقال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]، فذكر لفظ الشراء في المسائل المعنوية لمحبة العباد للبيع والشراء، وتكرر هذا المعنى في كتاب الله عز وجل كثيراً: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة:175]، {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16]. إذاً: الهدى والضلال بضاعتان في سوق الحياة، فأنت إذا دخلت السوق انظر كيف تختار. واعلم أن الطريق الحق من (ما عليه اليوم أنا وأصحابي). إذاً: دراسة مذهب القرن الأول صار فرضاً وهو العلامة الوحيدة للباب الوحيد: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي). وهذا مترجم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وإن كان لفظ: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي) أوسع في الدلالة من حديث الخلفاء الراشدين، لأن حديث (أنا وأصحابي) يشمل التأسي بالصحابة جميعاً. إذاً: معرفة مذهب القرن الأول صار ضرورة فلننظر: كيف كان اعتقادهم؟ كيف كان سلوكهم؟ كيف كان فقههم؟ هذه مسائل ضرورية إذا كنا نريد النجاة. يا ليت الأبواب مفتحة بغير دعاة يدعون إليها، لهان الخطب إذَاً؛ لكن في بعض فترات الحياة قد يكون داعي البدعة أشد لساناً وأبسط وأقوى حجة من داعي الحق. يعني: من عدة سنوات كان صوت العلمانيين قوياً جداً، أما اليوم فرءوس العلمانيين يتساقطون الآن ويموتون، أما في سنة (1960م) وقبلها وبعدها، كان هذا العصر الذهبي لدعاة العلمانية، قمة الذروة بالنسبة لهم، أما الآن فبدءوا يتساقطون. لكن لماذا برز هؤلاء وظهروا؟ لضعف لسان أهل الحق في ذلك الزمان، مع قوة لسان أهل البدع. وأعظم بلية تبتلى بها الجماهير، أنه لا يوجد علماء يدلونهم على الطريق، كم من الذين ماتوا وهم يعتقدون أن العلمانية هي الدين الحق، ماتوا قبل أن يصل إليهم -أو يصلوا إلى- دعاة الهدى. فمحنة عدم وجود العالِم تعم الجماهير، إذ قد يموت الرجل ضالاً لا يعرف الهدى؛ لأنه لم ينتصب له رجل يقول: الطريق من هنا. إذاً: حاجة الجماهير إلى العالِم أعظم من حاجتهم إلى الطبيب، وأعظم من حاجتهم إلى لقمة الخبز. هذه الأبواب الثلاثة والسبعون، مرةًَ تجد على باب البدعة شخصاً ضعيفاً لا يستطيع أن يضبط الحجة، ومرةً تجده رجلاً قوياً، وباب الحق عليه رجل ضعيف، لا يضبط الحجة. فلو أن هذه الأبواب فارغة ليس عليها أحد لهان الخطب، فإذا تزامن أن يكون داعي البدعة في غاية القوة وحجتُه قوية، وقابَلَه ضعف علماء السنة فالخطب حينئذ يكون أشد. ومن السمت الذي يخطف به المبتدعةُ القلوبَ -كما قلتُ- التجافي عن دار الغرور، والسمت يسبق الكلام -كما قلنا قبل ذلك- سمت الإنسان وشكله يسبق لسانه، أحياناً ترى إنساناً فتعجبك هيئته، وترى عليه أمارات الصلاح ولما تسمع منه شيئاً، وقد يكون كما ظننت وقد يكون على خلاف ما ظنننت. وأنتم تعرفون طائفة السيخ الذين هم أذل الخلق، عباد العجول، الذين أخذوا المسجد وحولوه إلى معبد، ونحن ألف مليون لم تتقدم دولة باحتجاج رسمي إلى الهند: كيف حولتم المسجد إلى معبد؟ هؤلاء السيخ من علاماتهم طول اللحية وإعفائها، تلقى الواحد منهم لحيته ثلاث أو أربع قبضات، ويلبسون عمامةً، فلو رأيتَه وليس مكتوباً تحت صورته شيئاً ستقول: سبحان الله! كأنه واحد من الصحابة، شكله جميل وفيه رجولة. وهذا الرجل السيخي -إذا جازت النسبة- لو جاء ووقف أمام المسجد ورأيت عليه عمامة، ولفت نظرك لحية عظيمة، فلو وقف وجعل يفرك في يده، فإنك تظنه يسبح مثلاً، فصورته تخطف القلب، فتأتي فتقول -فأنت تريد أن تتعرف على هذا الإنسان-: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. العالِم من أين؟ لكن ما الذي جعلك تقبل عليه؟ شكله وسمته، قبل أن ينطق لسانه وتصور لو أنك ذهبت معه ووجدتما شخصاً يقود عجلاً فأول ما يرى العجل يخر راكعاً! ماذا يكون رد فعلك؟! صدمة لا توصف. ولذلك التربية تكون قبل التعليم؛ من أجل هذا نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى المتصدرين لتعليم الجماهير أن لا يتدنى ولا يتبسط مع الجماهير، والشيء المباح الذي قد يفعله في خلوته لا يفعله في جلوته، لماذا؟ لأن السمت والشكل يُعلِّم. قال بعض العلماء لابنه: (يا بني! اذهب إلى جعفر الصادق، وتعلم من سمته وشكله كما تتعلم من علمه)، فكان الواحد إذا ذهب يتعلم من شيخ ينظر إليه كيف يضحك! كيف يبكي! إذا نزل عليه خبر كالصاعقة ماذا يقول! إذا جاءه خبر مفرح، ماذا يقول! ينظر إلى علامات وجهه، ويتعلم منه. فالسمت سباق، وهذا السمت هو الذي غر الخليفة المنصور في رجل من رءوس البدعة، جمع بين الاعتزال والتجهم، أعوذ بالله من الضلال البعيد، وكان اسمه عمرو بن عبيد، فكان المنصور يخضع لفرط زهده وتجافيه عن الدنيا، فكان إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فقد كان زاهداً في أموال السلاطين، وزاهداً في القرب من السلاطين، والمنصور يبعث إليه ولا يأتي، يهرب منه، فأعجبه هذا الزهد والسمت، فقد يكون على باب البدعة من هذه الأبواب عمرو بن عبيد، أو خليفة عمرو بن عبيد، رجل قوي اللسان، عنده حسن عرض للشبهات، والشبهة السقيمة في زمان الجهل تكون عملاقة، مثل الإنسان الغير كفء، في غياب الأكابر يصير عملاقاً، فكذلك الشبهة التافهة في زمان الجهل تكون دليلاً.

شبهة أبي العلاء المعري في قطع يد السارق

شبهة أبي العلاء المعري في قطع يد السارق يعني: مثلاً: الشبهة التي قالها الشاعر الزنديق -على رأي كافة الفقهاء ومنهم من يكفره، وهم يخالفون الأدباء في ذلك؛ لأن هذا الرجل عند الأدباء قمة- أبو العلاء المعري في عبارة صريحة، وذكروا له بعض الأشياء التي كفروه بها، فمن ضمنها شبهة ألقاها -ولو أن واحداً من العلمانيين هذه الأيام لقي هذه الشبهة، فسيقول: كفى! هذا الذي سيخدمنا. رغم أن الفقهاء أجابوا عنها بكلمة ونصف- قال: اليد إذا سرقت ربع دينار تقطع، والمقصود من الدينار دينار الذهب، فدعنا نقول مثلاً: لو افترضنا أن الدينار بعشرة جنيهات. أي: لو أن شخصاً سرق مائة وخمسين جنيهاً تقطع يده. إذا دخل الرجل مع آخر في عراك فأخذ أحدهما السكين وقطع يد الآخر، فإنه يغرم الدية، فكل إصبع ديتها عشر جمال، وسيدفع ألوفاً مؤلفة. أما أبو العلاء المعري فقد اصطاد هذه النقطة، وقال: يد بخمسين مئينٍ عسجد وُديَت ما بالها قطعت في ربع دينار أي: يد غالية. عندما يعتدي عليها أحدٌ تكون ديتها ألوفاً مؤلفة، وإذا سرقت مائةً وخمسين جنيهاً يقطعونها، ما هذا التناقض؟! يد بخمس مئين عسجدٍ وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوتُ له وأن نعوذ بمولانا من النار أي: يريد أن يقول: هذا تناقض ولكن الله هكذا أنزلها فسلم بذلك، فرد عليه الفقهاء لما بلغتهم المقالة وطلبوه ليقتلوه فهرب، ومن ضمن ما رُد به عليه مقولة جميلة للقاضي عبد الوهاب المالكي، وكان من أعيان المالكية ومن فحول العلماء المحققين، قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. انظر: سطر أو نصف سطر، كلمة ونصف. وهذه الشبهة لو ألقيت اليوم لكتب عليها مقالات في الجرائد والمجلات، وتصير هذه الشبهة دليلاً من الأدلة وتصير عملاقةً في زمان الجهل.

شبهة امرأة تنكر حديث (إني رأيتكن أكثر أهل النار) وتطعن في حكم رجم الزاني

شبهة امرأة تنكر حديث (إني رأيتكن أكثر أهل النار) وتطعن في حكم رجم الزاني ألقت امرأة شبهة ظلوا يتكلمون عليها ثلاثين يوماً!! انظر! -امرأة وليست رجلاً- والمعروف أن الرجل هو الذي يستطيع الإتيان بالشبه، أما النساء فشبههن على قدرهن، ونزَّلت كتيباً صغيراً: (هل النساء أكثر أهل النار؟) وكأنها تظن أن الجنة والنار داخلة ضمن صلاحيات المرأة، وأنها تتدخل في حرية المرأة. وهي معترضة على حديث البخاري ومسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي النساء في يوم عيد فوعظهن وقال: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من وسط النساء. فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) يعني: تظل تلعن في زوجها وتشتم فيه، وتكفر بجميله، يطعمها ويسقيها ويحسن إليها، ومع ذلك أول ما تزعل منه تقول له: ما رأيت منك خيراً قط، وبذلك تدخل جهنم والعياذ بالله. فالمرأة كَبُر عليها قوله: (رأيتكن أكثر أهل النار) فقامت تعترض، تقول: أكثر أهل النار لماذا؟ هن قاعدات مع البصل والثوم في المطبخ، وتربية الأولاد. وتقول: من هم الذين صنعوا القنبلة الذرية؟! الرجال أم النساء؟ من هم الذين صنعوا الصواريخ عابرات القارات، يكون أحدهم جالساً يشرب فيضغط على زر، فيدمر مدينةً؟! أهم الرجال أم النساء؟ من هم الذين صنعوا أسلحة الدمار الشامل؟ من هم الذين ظلوا يخططون للحرب الشاملة الضروس في كل مكان في العالم؟ هم الرجال، إذاً: هم الذين يدخلون جهنم وليس نحن. هذا خلاصة اعتراض تلكم المرأة، وهي لكي تضع الصبغة العلمية على الكلام قالت أيضاً: لكي نبين أننا لا نتكلم من منطلق العاطفة، سنجيء بكلام علماء الحديث، فـ ابن الجوزي يقول: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن، وهذا ليس معناه أن كل ما في صحيح البخاري يكون صحيحاً، فمن الممكن أن يكون في صحيح البخاري وهو موضوع وكذب، وأمارة الكذب في الحديث -حسب زعمها- أن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحيم الرءوف يجيء إليهن في يوم عيد ويقول لهن: أنتن في جهنم وبئس المصير، بدلاً من أن يفرحهن ينكد عليهن، ويقول لهن: أنتن أكثر أهل النار! فهل هذا يليق بذوقه عليه الصلاة والسلام؟! فتقول: المتن منكر، وإن كان السند من رواية: مالك عن نافع عن ابن عمر، لكن المتن منكر، لا يمكن أن نقبله! أيضاً تقول تلكم المرأة: رجم الزاني المحصن -هو حكم الله عز وجل-. وتقول: هل الحيوان أغلى على الله من المسلم الموحد؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) أي: لا تجيء بسكين مثلوم وتظل تذبح الخروف، حرام عليك، بل لابد أن يكون السكين حاداً ماضياً لتنتهي من ذبحه بسرعة لماذا؟ لكي لا تعذب الحيوان. فتأتي هذه المرأة وتقول: هذا في الحيوان فكيف يرجم الزاني، ويظل يعذب ويتألم من الحجارة؟! إذ كان الحيوان يقول الرسول فيه: (فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فلماذا تأخذون في تعذيب ابن آدم هذا؟! أتكون البهيمة العجماء أقرب إلى أن ترحم من الإنسان الموحد؟! ولكنه ورغم أنفها حكم لله عز وجل -ولكن- في زمان الجهل تصير هذه الشبهة عملاقة، وتصير دليلاً. لماذا؟ لأن أصحاب الحق أضاعوا صوتهم وأقلامهم. لكن في زمان العلم كل الشبهات تتضاءل، بل الأحكام التي لا تقوم على فهم صحيح تتساقط أيضاً، مهما كان حجم قائلها. ونحن نجيب على هذا الاعتراض ونقول: إن الله عز وجل شرع الأحكام للمصالح، ولذلك الإنسان إذا عرض له حكم لا يفهم له معنى يقول: الله له حكمة في ذلك، وأفعال الله عز وجل لا تخلو من الحكمة أبداً، فكل فعل له حكمة سواء جلَّت عن أفهام العباد أو عرفوها. حسناً! الحيوان الأعجم -وربنا سبحانه وتعالى خلق حيواناً أعجم لك لتأكله- ما الحكمة في تعذيبه؟! ما هي الحكمة من تعذيب الحيوان، وأنت ستذبحه لتأكله؟! إذاً: لا حكمة على الإطلاق، فيتنزه حكم الله عز وجل أن يثبت العذاب للحيوان الذي يذبح، إذ أنه يخلو تماماً من الحكمة. أما الزاني الذي يضرب بالحجارة! وربنا سبحانه وتعالى قال في الحد: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، مع أن الأصل الستر على المسلم، وعلى أصحاب العصيان، هذا هو الأصل في الشريعة: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، قالوا: ومَن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين عصوا الله عز وجل فسترهم؛ فأصبحوا يهتكون ستر الله)، فيكون بهذا مستحقاً للتعذيب؛ لأنه كشف الستر، والذي كان من المفروض أنه يتركه مُغَطًّى. الأدلة متكاثرة على أن الأصل أن تستر على أصحاب العصيان، إلا إذا أنضاف إلى ذلك شيءٌ آخر يوجب عليك أن تظهر هذه المعصية. فإذا كان هذا هو الأصل وهو الستر، فربنا سبحانه وتعالى أمر بالفضيحة التي هي خلاف الأصل! لماذا؟ حتى إذا نظر الرجلُ ورأى الزاني يُجلد أو يرجم فهذه فضيحة ويقول: كنا نظنه مُتَّزِناًَ ومستقيماً، فظهر بخلاف ذلك فيسقط من أعين الناس، والذين يشهدون هذا العذاب يعتبرونه بهذه الفضيحة وهذا العقاب فيكون رادعاً لهم عن اقتراف المحرمات. قال الله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].

الرخص لا تناط بالمعاصي

الرخص لا تناط بالمعاصي حكْم علماء المسلمين في المرأة التي تحمل سفاحاً من الزنا أنه لا يحل لطبيب أن يجهضها؛ لأنها إذا حملت من سفاح ثم أجهضت، فإنها ستذهب مرة ثانية وتحمل من سفاح وتجهض؛ لكن إذا علمت المرأة أنها إذا حملت لا تستطيع الإجهاض تفكر ألف مرة قبل أن ترتكب هذا الفعل. ففضيحة المرأة الزانية جزءٌ أراده الشارع، ولا تقل: أنا أستر عليها، فإنه لا يجوز الستر هنا، كما قال الله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لا تنقل أحاديث الستر إلى أهل العصيان، ثم لا تقل: إن الإجهاض جائز أيضاً. لماذا؟ لأن العلماء يقولون: إن الرخص لا تُناط بالمعاصي، والأصل بقاء الحمل -الجنين- حتى تلد. إذاً: المرأة المتزوجة بعقد صحيح إذا حملت فقال أهل الطب: إن في حملها خطراً عليها، وعملوا بذلك تقريراً؛ تقف مقالة أهل الطب عند هذا الحد، ولا يجوز للطبيب أن يقول لها: أسقطي الحمل، فالطبيب يرفع التقرير إلى المفتي فقط، وليس شرطاً أن يكون مفتي الديار، بل إلى من له حق في الإفتاء، فالمفتي يقرأ هذا التقرير، ثم يقول: جائز شرعاً أن تُسْقِط، وإلا فلا يحل للطبيب أن يقول: جائز شرعاً أن تسقط. إذاً: الطبيب يعمل تقريراً ويرفعه للجهات المختصة صاحبة القرار، وهو الفقيه الذي يقول: جائز شرعاً أن تُسْقِط. فلما كانت المرأة حملت حملاً حلالاً جاز لها أن تستمتع بالرخصة؛ إذ الرخص لا تناط بالمعاصي؛ لأن الرخصة معناها توسعة وتسهيل، فكيف نسهل على أصحاب العصيان معاصيهم، يعني: لو أن شخصاً مثلاً مسافر لكي يذهب إلى المصيف، فيقول ماذا؟ هيا لنقصر الصلاة. فنقول له: لا. يا أخي! قصر الصلاة تكون في سفر المباح أو المشروع، وسفرك سفر معصية، فلا يحل لك أن تستمتع بالرخص، والرخصة هذه لعباد الله الطائعين؛ بينما أهل المعصية لا يستمتعون بالرخص. فالرخصة تناط بالطاعات ولا تناط بالمعاصي، وقد تفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بهذا القاعدة وهي أنه لا يجوز للمسافر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصُر الصلاة، وأفتى أن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما السنة والمستحب أن تشد الرحل إلى المسجد وليس إلى القبر، كما هو نص الحديث، وقال للذين عارضوه وقاموا عليه: أمهلتُ كلَّ مَن خالَفَني سَنَةً أن يأتيَني بحرف عن الصحابة والتابعين يخالف ما أقول. وكان رحمه الله إماماً متضلعاً كالبحر الهادر إذا تكلم. ومعاصرونا من المبتدعة شنعوا وقالوا: السلفيون يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل لهم لماذا؟ قالوا: لأن هؤلاء يقولون: لا تزوروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. لا. والله، بل هذا كان مذهب القرون الفاضلة، كان الواحد منهم إذا أراد أن يشد الرحل شده إلى المسجد ومِن ثَمَّ يزور، فزيارة القبر متحققة بزيارة المسجد؛ لكن نيتُك الأولى لا تكون إلا لشد الرحل إلى المسجد؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ونفي الاستثناء من أقوى صيغ الحظر. إذاً: فضيحة المرأة الزانية بجلدها أو رجمها جزءٌ أراده الشارع. وبهذا ذَهَبَ قولُ تلك المرأة واعتراضُها كضرطة عير في فلاة، لا قيمة لها.

غياب العلماء الربانيين عن المجتمع سبب البدع والضلالات

غياب العلماء الربانيين عن المجتمع سبب البدع والضلالات إن غيابَ العلماء الربانيين من أعظم المحن التي تبتلى بها الجماهير؛ لأنه بقدر غياب العالم يكون غياب علوم النبوة، وبقدر غياب علوم النبوة يكون الجهل الفاشي في الناس، فيَلْقَون الله عز وجل لا يعرفون كثيراً مما أمروا به، ولا يعرفون كثيراً مما سن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه المحنة -محنة الأبواب الثلاثة والسبعين باباًَ، والموجودة أمامنا جميعاً- محنة عظيمة جسيمة، والخلاص منها طريق: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي). إذاً: لابد من دراسة زمن النبوة، لنعرف كيف كانوا يفقهون ويختلفون؟ وكيف كانوا يتسامرون؟ ونحن نمثل مثالاً لذلك، وربما الكثير يعرفونه: فنقول: إن العلاقة بين الواقع والمثال مثل الهرم أو مثل المثلث حاد الزاوية. الواقع: الذي هو واقع المسلمين وتطبيقهم لدينهم. المثال: الذي هو النص: قرآناً وسنةً. الضلع الأول: الواقع. والضلع الثاني: المثال. طيب! النقطة التي هي رأس المثلث لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، ولا مسافات، وإذا سلَّمنا أن لها مسافات فهي مسافات لا تكاد تذكر في عالم الأرقام. نبدأ نلاحظ المسافة بين الضلعين النازلين من النقطة، فنجد أنه كلما تنزل تزداد المسافة بُعداً بين الضلعين. فما هو المطلوب منك؟ الطلوع أم النزول؟ إذا نزلت سترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وسترى الناس يدورون بين بدعة ورِدَّة. مثلاً: رجل لا يصلي، فلما تنصحه يقول لك: يا أخي! أنا رضي الله عني! يوجد من الناس من يزني، وفلان يسرق، وفلان يرتشي، وفلان يأكل الربا إلخ. أو أن تجد شخصاً يسبح -مثلاً- على المسبحة فتقول له: يا أخي! التسبيح بالأنامل أولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (اعقدن التسبيح بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات)، فيقول لك: رضي الله عني، فالناس غافلون عن هذا وهم سادرون في غيهم؛ في الملاهي والمقاهي! مع أن المسبحة كانت منكرة عند السلف رضوان الله عليهم. كلما نزلت إلى تحت ترى تدنياً، فأصبح من هذا حالهم يتأسون بالشر، مع أنه لا أسوة في الشر، يعني: الموظف الذي اختلس مائة ألف، ومسكوه أمام المحكمة وحاكموه، يقول: وما هي المائة ألف هذه؟ هناك شخص أخذ أربعة ملايين. فانظر: المقارنة هل تقبل منه؟! لكن الصحابة لم يكونوا هكذا، والصحابة مثالهم عالٍ رفيع، وإنما يحصل نوع من التدني في الأسوة كلما نزلت إلى تحت. إذاً: حتى تنجو أنتَ وينجو أولادك اطلع إلى فوق، وماذا يعني تطلع إلى فوق؟ فلنضرب لهذا مثلاً: وهو المثلث فهذه النقطة التي في الأعلى هي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أبعاد فيها، ولا اختلافات.

فقه الخلاف في حياة الصحابة

فقه الخلاف في حياة الصحابة ثَمَّة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة، وقد كانت عقول الصحابة كبيرة، وإيمانهم عالٍ، فكانوا يعذرون بعضَهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى الخطاب، وقالوا: هناك مفهوم ومنطوق، فالمنطوق وهو ظاهر الكلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) إذاً: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، حتى ولو لم ندخل إلا بعد العشاء، وجماعة أخرى قالوا: لا. نحن عندنا الأصل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]، فلا يحل إخراج الصلاة عن وقتها، وإلا ضيعنا الآية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقصد أننا نجد ونجتهد، وليس معناه أننا نؤخر الصلاة، وإنما المقصود المبادرة، وكلا الفَهمين سائغ على المنطوق والمفهوم. ولكنهم رضي الله عنهم -عندما اختلفوا- لم يتنازعوا ولم يكفر بعضهم بعضاً، ولم يتفرقوا. ثم مضت الغزوة ودخلوا بني قريظة، والذي صلى في الطريق صلى، والذي أجَّل الصلاة أجَّل. وبعد ذلك لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَكَوا له الخلاف، قال الراوي: (فلم يعِبْ على أحد). ورُبَّ شخص يقول: معنى ذلك أن الحق يتعدد، أي: لا يكون طرف منهم قد أخطأ. ويقول آخر: لا يمكن أن يكون الحق شيئاً وضدَّه أبداً، فالذين صلوا إما محقون أو مخطئون، والذين تركوا الصلاة وأجَّلوها إما مخطئون وإما محقون، والحق لا يكون إلا واحداً، ولا يكون ضدين أبداً. فنقول: إن كَوْن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعِبْ ليس معناه أن كليهما حق في نفس الأمر؛ لكن معناه أن المخطئ اجتهد، وأفرغ الوُسْع في طلب الحق، فكيف يُلامُ مَن أفرغ الوسع في طلب الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)، أَيُذَمُّ مَن أصاب أجراً؟! لا يَذُمُّ مَن أصاب أجراً واحداً؛ لأن الحق واحد فقط، فالذي أصاب الحق أصابه، والذي لم يصب الحق أصاب أجراً واحداً، فليس من اللائق أن يُعَنَّف مَن أصاب أجراً واحداً. فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف، وليس معنى هذا أن كلا القولين حق. وفي الصحيح: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها؛ حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا قريباً منكم لعله أن يكون عندهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط: إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم. والله! إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال). وقد ورد الحديث برواية أخرى فيه: (إن سيد الحي سليم)، وسليم بمعنى لديغ، وهي في الأصل لا تعني اللدغ، ولكن العرب يقولون (سليم) تفاؤلاً بالسلامة. كما أن القافلة هي التي قَفَلَت أي: رجعت؛ أما التي غادرت لا يقال لها: قافلة، إنما يقال: قَفَل إذا رجع، فَهُم يقولون: خَرَجَت القافلة مع أنه في الأصل لا يقال قافلاً إلا لمن كان راجعاً، فسميت قافلة؛ رجاء رجوعها. والصحراء سميت مفازة تيمناً بالفوز منها؛ لأن الذي يضل فيها يموت. والرواية التي عند البخاري ومسلم لم توضح مَن الراقي؛ لكن وقع في سنن النسائي وأبي داود أن أبا سعيد قال: (فانطلقت إليه فجعلت أبصق وأقرأ: الحمد لله رب العالمين). فأخذ الصحابة رضوان الله عليهم القطيع من الغنم وانطلقوا إلى رسول الله ليسألوه أيحل لهم أم لا؟ -هذا هو الجيل الذي نريدكم أن تتأسوا به، فال يحركون ساكناً ولا يسكنون متحركاً إلا إذا كان مأذوناً لهم، هذا هو معنى العبودية: أنك قبل أن تفعل الشيء اسأل فيه؛ ما حكم الله ورسوله؟ هذا هو حق الإسلام عليك، حق الالتزام- قال: لا نفعل حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءوا وجاءوا بالغنم، وحدثوا النبي بما جرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (وما أدراك أنها رُقْية؟ -ما الذي عرَّفك؟ هو لا يعرف شيئاً عنها، وهذه كانت أول مرة له يرقي فيها- قال: يا رسول الله! شيءٌ أُلْقِي في روعي). من أجل هذا تجد أحياناً شخصاً يدعوك ويقول لك: تعال ارقِ، فتقول له: أنا ما جربت هذه المسألة، وما عملتها قبل هذا! يا أخي! قد يجعل ربُّنا سبحانه وتعالى على يدك الشفاء. فهذا أبو سعيد الخدري لم يكن يعرف شيئاً، ولم يجربها قبل هذا في عمره، ولما اختار الفاتحة اختارها هكذا من أجل شيء وقع في صدره. (قال: شيءٌ أُلْقِي في روعي، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يبين لهم أنها حلال قال: اضربوا لي معكم بسهم)، وما قال له: حلال. وسكت؛ لأن هذه أقوى من مجرد القول فالرسول عليه الصلاة والسلام قد يتعفف عن الشيء الذي يكون حلالاً لأصحابه، لكن أنه يأكل هذا من أقوى أدلة الجواز والإباحة. فهذه الخلافات كانت موجودة. أعني مثلاً: لو أن هذا حصل في زماننا، فمن الممكن أن واحداً منهم يقول: انظروا إلى الأَثَرَة! انظروا إلى الأنانية! أنا كنتُ أظنه (أَخَاً في الله)، فظَهَرَ (فَخَّا ليس في الله)! فهذه أَثَرَةٌ وأنانية، وأخذ الغنم عنده، ولا يريد أن يعطينا منها. فيحصل الحقد. لكنهم قالوا: (ليس قبل أن نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفتينا في المسألة). فهناك خلافات فرقت بين الإخوان أدنى من هذا مائة مرة، وإذا اختلف مع أخيه تجده لا يصلي في المسجد الذي يصلي فيه، ولا يقابله في الشارع وإذا لقيه تجده يجري؛ من أجل خلاف تافه حقير لا قيمة له ولا واقع. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

فضل العالم على العابد

فضل العالم على العابد إن الإسلام يتعرض لهجمات شرسة من قبل أعداء الله، وذلك لقلة الذابين عنه، والمدافعين عن جنابه من العلماء والدعاة، فالواجب تهيئة الدعاة وكفالتهم حتى يتفرغوا لهذه المواجهة محتسبين هذا العمل لله، لأن العالم هو أقدر الناس على معرفة مكامن الداء، وبالتالي هو أعرف الناس بالحلول الناجعة لمعالجة أي قصور وخلل، فهو لا يكتفي بمعرفة الداء وتقرير الدواء فقط، بل وحتى يعطي لمريضه وسائل الوقاية من هذا المرض حتى لا ينتكس فيه، فالعالم لا يقنط العبد من ربه، بل يقرر له أن باب التوبة مفتوح لجميع العصاة على اختلاف ذنوبهم.

حاجة المسلمين إلى الدعوة وأهمية كفالة الدعاة

حاجة المسلمين إلى الدعوة وأهمية كفالة الدعاة إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن سنة الدفع تستلزم دافعاً، وقلت قبل ذلك مراراً: إننا في أَمَسِّ الحاجة إلى تبني الكوادر العلمية، وإلى النفقة عليها وتفريغها؛ لتذود عن دين الله تبارك وتعالى، وتشبه هذه المسألة دولة مترامية الأطراف، وساحلها البحري أيضاً مترامي الأطراف ولا يوجد حرس حدود، أو بين كل جندي وآخر اثنان أو ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، ألا يسهل اختراق مثل هذه الدولة وإدخال المخدرات فيها ببساطة؟! فلا نستطيع أن نذود عن حدودها إلا إذا كان لدينا حراس حدود. كذلك يقول العلماء: إن أخطر مرض أصاب الإنسان حتى العام الماضي هو مرض الإيدز، ومرض الإيدز إشكاله أنه يصيب جهاز المناعة، فيمكن أن يموت المرء من أقل ميكروب، وهذا سر خطورة هذا المرض، فجهاز المناعة في الأمة المسلمة هم العلماء، فينبغي تقوية هذا الجهاز وتكثيره، والحمد لله رب العالمين الدعوة انتشرت أكثر من ذي قبل عند جماهير المسلمين، وأنا أتمنى أن يستيقظ كثير من أصحاب الأموال، وأن يتبنوا طلاب العلم، أن يبحثوا عنهم أو يسألوا العلماء: من هم طلاب العلم، فيأخذ كل واحد واحداً أو اثنين أو ثلاثة، وأفضّل لصاحب المال أن يكفل واحداً فقط ويكفيه، أفضل من أن يكفل ثلاثة ولا يكفيهم. فلو فرضنا أن شخصاً يخرج زكاة ماله ثلاثمائة جنيه في الشهر مثلاً، نقول له: أعطِ هذا المبلغ كله لطالب واحد، واكفه مؤنة حياته، وقل: هذا لك بشرط أن يكون وقتك وقفاً لله، فكل ما تحتاجه في حياتك لا دخل لك فيه، لكن بقية وقتك وقف لله عز وجل، للذود عن دين الله، فنحن نحتاج عشرات الألوف في المساجد يعلمون الناس دينهم، ويتصدون لهذا الغزو الذي يهجم على الإسلام والمسلمين، فصوتي هذا لا يصل إلى أكثر من هذا المسجد أو إلى بضعة أشخاص آخرين عن طريق الأشرطة، أما هذا الجهاز المدمر -التلفاز- فينشر الدمار يومياً خلال الأربع والعشرين ساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).

التشكيك في حكم الرجم والرد عليه

التشكيك في حكم الرجم والرد عليه وهناك غيره أيضاً، أحدهم تكلم مرة عن حد الرجم ونشر غسيله القذر في جريدة الأخبار، يقول: إن الرجم باطل في دين الله تبارك وتعالى، يقصد رجم الزاني المحصن في دين الله عز وجل، ودلل على ذلك بحديث رواه الشيخان في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتل أحدكم فليحسن القتلة، وإذا ذبح فليحسن الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، فمن تمام الإحسان المكتوب على كل شيء أن الله عز وجل أمرك إذا ذبحت حيواناً أو طائراً أن تحد شفرتك، يعني لا تأتِ بسكينة غير حادة فتعذبه؛ لأن تعذيب المذبوح ليس من الإحسان، بل هو من الإساءة، فيقول: إذا كان الإسلام يحض على الإحسان في ذبح الحيوان الأعجم الأبكم أفيسمح بقتل مسلم عصى الله بزنا بالرجم، بأن تظل تضربه بالحجارة في رأسه حتى يموت؟!! فالزاني المحصن المتزوج إذا زنى بعد زواجه أو المرأة التي زنت بعد زواجها حكمهم الشرعي أن يحفر لهم حفرة في الأرض إلى السرة ويردم عليه، ثم يأتي كل مسلم بحجر ويرميه به في رأسه حتى يموت، هذا هو الحكم الشرعي، فهذا يقول: هل هناك دين في الدنيا يكرم الحيوان بأن يقول لك: حد الشفرة واذبح، وفي نفس الوقت يقول لك: عذب المسلم الموحد الذي زنا وعصى الله عز وجل؟ لماذا لا تذبحه بسكين حادة وتعامله معاملة الحيوان الأعجم؟ وهذا الكلام ينطلي على الناس، لكن ما هو وجه القبح فيه طالما أنه زخرفه هكذا من الخارج؟ وجه القبح فيه: أن الشيء إذا فعل لا لحكمة كان قبيحاً، فتخيل مثلاً: أن رجلاً جاء وبنى قصراً منيفاً بملايين الجنيهات، وبعدما بنى القصر قال للناس كلهم: ما رأيكم في هذا القصر الجميل؟ فقالوا له: ما شاء الله، لا نعرف قصراً مثله إلا في الجنة، فأحاطه بحزام ناسف وفجره، فهذا فعله قبيح لأنه خلا من الحكمة. فنسأل ما هي الحكمة في تعذيب الحيوان؟ هذا حيوان ستذبحه لتأكله فليس هناك حكمة في أن تأتي بسكينة غير حادة لأن الذبح بالسكين غير الحاد إساءة، لكنّ رجم المسلم الموحد الذي عصى الله عز وجل بجريمة الزنا بعد إحصانه فيه حكمة، فربنا سبحانه وتعالى ذكر العقوبة الأخف وهي الجلد، فالشاب الذي لم يتزوج وزنا يجلد مائة جلدة، فقال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، مع أن الله تعالى أمر بالستر، وذم العاصي الذي يعصي الله خلف جداره ثم يخرج يقول: يا فلان ويا علان أنا فعلت كذا وكذا بالأمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل وقد ستره الله ثم يصبح فيكشف ستر الله عليه)، وهناك أحاديث في الستر على المسلم كحديث (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة)، والأصل أن نستر على أصحاب القبائح، وندعوهم إلى الله عز وجل ولكن مع هذا لم يأمر الله سبحانه وتعالى هنا بالستر، ولكن أمر بالتشهير قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لأنه إذا رأى هذا الشخص يرجم بالحجارة يتفكر في حاله إذا كان مكانه، أنه سيفضح ويعذب، فتحصل بهذا العبرة. وضُعف العذاب على الزاني المحصن والزانية المحصنة، بينما خفف على البكر رغم أن كله زنا؛ لأن مصيبة المحصن والمحصنة كبيرة؛ لأنه من الممكن أن يزني بها وتلد ولا يعرف زوجها أن هذا ليس بابنه، لكن البنت إذا كانت بكراً وكلنا كان يعرف أنها بكر وفجأة انتثر بطنها ستسأل من أين هذا؟ وبالتالي يكتشف الزنا، فلما استطعنا كشف الزنا وكانت المسألة واضحة كانت العقوبة على الدون، لكن إذا كانت امرأة متزوجة وعندها أولاد وزني بها وحملت قيل: إنه من زوجها! فيربي الشخص هذا الولد وهو أجنبي، لذلك ضُعِّفت العقوبة، لأن العقوبات على حسب آثار المعاصي، فكلما كانت المعصية أثرها أكبر كانت العقوبة أشد، وهكذا. فعندما يكتب هذا الكلام، وحد الرجم مجمع عليه بين علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، فقد أجمعوا جميعاً على ثبوت الرجم. وقالوا: إنه كان في كتاب الله عز وجل ثم نُسخ نسخَ تلاوة ورفعت الآية برمتها من كتاب الله عز وجل وبقي الحكم. فأحد أنواع النسخ الذي يذكره علماء الأصول: هو نسخ التلاوة، وهو أن يرفع لفظ الآية كلها، وفي صحيح البخاري أنه كان هناك آية تقرأ في كتاب الله عز وجل، قرأها عمر بن الخطاب، وقال: كنا نقرأ فيما نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) والبخاري روى هذا الحديث في كتاب الحدود من صحيحه، باب رجم الزاني المحصن، والآية الأخرى موجودة في مستدرك الحاكم (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) كانت آية في كتاب الله ونسخت، فكان قرآناً، ثم رفع القرآن وصار حكماً لازماً بالإجماع. فعندما يأتي شخص وينفي هذا الحكم الثابت بالإجماع بمثل هذه الترهات، نحتاج إلى جيش من الدعاة يبين للناس حقيقة الأمر.

وجوب حمل هم الدعوة على الدعاة

وجوب حمل هم الدعوة على الدعاة فالحمل ثقيل جداً جداً، بينما تقاعس المسلمون عن هذا الحمل، وكل واحد يبحث عن مصالحه الشخصية، كل واحد أهم شيء عنده أن يأكل ويشرب ويلبس، والأمة هذه من يحمل همها؟ هذه مسألة مهمة لا بد من النظر إليها بعين الاعتبار، فتواجد وانتشار طلاب العلم وإن كان أكثر من الأول، ولكنه لا زال ضعيفاً جداً، لكن أول الغيث قطر، إن الجبال من الحصى. نحن نعلم أن الدعوة تحتاج إلى أكثر من هذا، وينبغي على أصحاب الأموال أن يحملوا هذا العبء ولا يتضجروا منه؛ لأن الحمل الذي يحمله الدعاة أكثر من حملكم، لا تظن أنك إذا أعطيته مائة جنيه أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أن حملك ثقيل بهذا، لا، إن حمله أكثر منك، فهذا الرجل يطوف البلاد ويجوب الطرق، تأتي الساعة الواحدة والثانية ليلاً وهو يمشي في الطرقات من هذه البلد إلى هذه البلد، فلا تمن عليه أبداً في يوم من الأيام بهذا المال الذي تعطيه إياه، فإن الله عز وجل غني حميد، وهو الذي يمن وحده على عباده. فأمثال هذا الكاتب ليس الخطورة في كذبه، لكن الخطورة في زخرفة الكذب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي ذكرته آنفاً: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)، فعندما يقول لك: قال الله، ماذا ستقول؟ وأنت ليس عندك علم؟ والقرآن له قداسة في النفوس، فأنت لا تستطيع أن ترد الآية، وهناك أرضية في قلب كل إنسان على استعداد لتقبله حتى ولو كان هذا الإنسان مجرماً، وهذا منافق عليم اللسان، يستطيع أن يزخرف القول.

الحملة الشرسة على الإسلام

الحملة الشرسة على الإسلام ليست هذه الحملة فقط في هذا الجهاز وإنما في كل مكان، فعندما أمر على مدارس البنات في بلدنا هنا تذرف عيني دمعاً، لم نعد نرى الخمار، والحد الأدنى الذي هو النقاب نجد ثلاثمائة أو أربعمائة فتاة منتقبة من بين خمسمائة أو ستمائة، ثم يصدر قرار بمنع المنتقبات من دخول المدارس، لماذا هذا الحصار على العفة؟ والتبرج والخلاعة على شواطئ البحار مأذون بها، لماذا هكذا؟ متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم إذا دعى شخصاً آخر لوليمة، تجد الأم متبرجة والبنت متبرجة وكلهم يجلسون على نفس الطاولة، والطفل الصغير عندما يرى هذا الشيء وأن هناك مائدة على الطاولة وأمه لا تلبس الخمار، وجاره يعني جار أبيه المعزوم أيضاً يجلس بجانبها أو أمامها، وكلهم يأكلون على طاولة واحدة ينطبع في ذهن الولد الذي لا يعرف شيئاً أن هذا صحيح، بدليل فعل أبيه وأمه. والصحيح أنه لا يصلح أن يأكل الجيران مع بعضهم، وربما كان قبل ذلك بسنتين كانت هذه المرأة الجالسة على الطاولة محجبة، وبعدها بسنة خلعت الحجاب، وهذا ما حدث عرضاً خاطئاً، فنحن عندنا سرطانات في كل الأجهزة، من الذي يخط هذا الشيء؟ إنهم أناس بيدهم الرسمية، وبيدهم الإمكانات، وهم كثيرون، وعددهم فوق الحصر، فمن الذي يدفع أمثال هؤلاء؟ إنها الكوادر العلمية التي تحتضنها الجماهير، وتذود عن دين الله عز وجل، وأقول: لا تلقَ الله خائناً، أنا دللتك ولا زلت أقول: إن عدم تبني طلاب العلم والذود عن دين الله عز وجل خيانة لهذه الأمة، قتل الخراصون أمثال ذاك الكاتب الكاذب الذي يقول: (رد اعتبار فرعون) هل القرآن يحاكم ويطالب برد اعتبار فرعون؟ كيف يكتب هذا العنوان؟ وكيف لا زال هذا الكاتب يكتب حتى هذه اللحظة في الجرائد، كيف يقول: رد اعتبار فرعون؟ وهل لفرعون اعتبار إذ أهدر الله قدره فلم يعد له قيمة؟ فهذه كلها هجمات على الإسلام، وهناك جرائد متخصصة في الهجوم على الدعاة إلى الله عز وجل. وهذا عمل اليهود، أكاد أجزم أن الذين يفعلونها هم اليهود، ولا تخرج أبداً عن أيديهم على الإطلاق، وما هو المانع أن يفعل شخص فعلاً ثم يقوم بإرسال رسالة إلى وكالات الأنباء: نحن الموقعون أدناه الجماعة الإسلامية بمصر نعمل كذا وكذا وسنواصل النضال بل أي طفل يمكن أن يعمل هذا وليس من الصعب أن أرسل رسالة فاكس باسم الجماعة الفلانية أو باسم أي إمام، ثم تنزل حملات واعتقالات.

الرجل الذي قتل مائة نفس

الرجل الذي قتل مائة نفس كنا وصلنا إلى أن الرجل القاتل ذهب إلى عالم، هكذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في الأول: راهب، وفي الثاني قال: عالم، إشارة منه إلى أن الأول لم يكن عالماً، وإلا لو كان الأول عالماً لما كان وصف الآخر بالعلم له معنى، وهذا يشبه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءت غزوة تبوك وجاءه المنافقون والمعذرون من الأعراب يعتذرون عن تخلفهم عن غزوة تبوك وقالوا: استغفر لنا، قال لهم: (غفر الله لكم غفر الله لكم) ثم جاء كعب بن مالك وقال: (لقد أوتيت جدلاً، والله ما كان لي من عذر، ولا كنت أيسر مني في هذه الغزوة، ولم أجمع بين راحلتين إلا في هذه الغزوة)، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما هذا فقد صدق)، وهذا إشارة إلى كذب الأولين، ومع أنه قد فهمها النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه استغفر لهم؛ لأنه يحكم على الظاهر، ولا يحق لأحد يأتي من بعده أن يتجرأ ويشق عن صدور الناس. فعندما يقول في الثاني: عالم، وأخلى الأول من صفة العلم دلّ على أن الأول جاهل.

باب التوبة مفتوح لجميع العصاة

باب التوبة مفتوح لجميع العصاة فلما انعقد قلبه على التوبة ولم يمهل ليعمل بالجوارح، اعتبر عمل القلب وأهدر عمل الجوارح، فهو الملك، (فملائكة الرحمة قالوا: إنه خرج تائباً إلى الله بقلبه، وملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط) وانتبه لهذا الكلام! من في الناس لم يعمل خيراً قط؟ من الممكن أن يكون فينا ناس -وما أبرئ نفسي- ذنوبهم تصل إلى عنان السماء، ولكنه عمل خيراً، لكن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، وقتل مائة نفس، ومع ذلك تيب عليه، فالحديث يحفز العاصي أن يتوب، ويرجع إلى الله، والمجتمع كله يستفيد من رجوع هذا العاصي. فملائكة العذاب تقول: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فقالوا: نحكم هذا الآتي، وقالوا له: الوضع كذا وكذا، والله عز وجل قد علم هذا الملك كيف يقضي، فهذا الرجل خرج من أرضه وليس بينه وبينها سوى مترين وبقي له اثنان من الكيلو مترات حتى يصل إلى الأرض التي سيدخلها، ولمعالجة هذه المسألة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال الله لهذه الأرض أن تقاربي، ولهذه أن تباعدي)، قال: (فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة). نستطيع أن نقول: أيها العاصي أقبل، ونحن الآن في بداية شعبان ورمضان على الأبواب، ورمضان موسم العصاة، فالعصاة يرجعون، فكم من عاص رجع في رمضان، وكم من ولي من أولياء الله كان بدايته في رمضان. الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القلب هو أساس التوبة والعمل

القلب هو أساس التوبة والعمل كان الرجل له رغبة في أن يتوب، وأراد أن يتوب، تقول الرواية: (فناء بصدره) وناء يعني: أن صدره تقدم للأمام قليلاً، وهذا دليل على الإقبال والمسارعة والمبادرة، فناء بصدره إلى هذه الأرض، يعني ما خرج إلا خطوات ومات، (فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فملائكة الرحمة تقول: إنه خرج تائباً إلى الله بقلبه) وانتبه إلى هذا الكلام، فهذا يدلنا على أن العبد لو عصى الله بجوارحه ثم عزم عزماً أكيداً على التوبة ولم يمهل حتى يعمل بالجوارح؛ أنه يقبل منه؛ لأن القلب ملك البدن، فكيف يُرَدُّ على الملك عمله وتؤاخذ الجوارح؟ وربنا سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، فأخَّر ذكر الجنود، إذ ليس من المعقول أن أمسك بالجندي فأعاقبه وأعفي الملك وهو الذي أصدر القرار وهو الذي وضع القانون، إذاًَ اعتبار عمل القلب أولاً.

لابد للداعية من احتساب الأجر من الله تعالى

لابد للداعية من احتساب الأجر من الله تعالى أحد الجماعة الخطباء في الأوقاف قابلني مرة وهو غضبان، فقلت له: مالك؟ قال: والله يا أخي الواحد ليس له رغبة أن يتكلم، قلت له: لماذا؟ قال: أصرف نصف الراتب في المواصلات، فبماذا أخرج آخر الشهر؟! بعشرة جنيهات!! لا تستحق أن الواحد يتكلم كلمتين، فعندما يعتقد العالم نفسه موظفاً متى يبلغ الحق؟ فالحق يريد من الإنسان أن يحترق، الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، والآية فيها تقديم وتأخير من جهة المعنى، أي لعلك قاتل نفسك، أي: ستميت نفسك من الأسف عليهم، فنظمها: لعلك باخع نفسك أسفاً على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث. والدعوة لا تصل إلا بأن يكون الإنسان محتسباً، يدعو الناس إلى الله عز وجل، فالعالم ليس مجرد شخص يعطي حكم الله، ويظل واقفاً ويكتفي بأن يقول للناس: الطريق من هنا، لأن هناك أكثر من طريق في الأمام، فمن المحتمل أن يأخذ طريقاً خطأ، فينادي عليه: يمين، شمال، وراء، أمام، فبعد أن يراه سلك الطريق السليم يستريح، ويحس أنه عمل الذي عليه، هكذا فعل الراهب العالم، لم يقل له: نعم لك توبة ومن يحجب عنك باب التوبة فقط، لأن هذا تشخيص للمرض، لكن أين العلاج؟ فإن الطبيب عندما يقول للمريض: عندك المرض الفلاني ثم يصرفه، لا يكون قد عمل شيئاً يستحق أن يأخذ عليه أجرة حتى يعطي الدواء، لأن المريض لم يأت له إلا ليرفع عنه العلة بإذن الله، فكذلك المفتي، عندما يقول: لك توبة، وماذا بعد ذلك:؟ يذهب للنوم، لا، بل بعد تشخيص الداء ومعرفتنا أن له علاجاً، دله عليه، وهو الخروج من أرضه -لأنها أرض سوء- إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فيعبده معهم.

أثر البيئة المحيطة على الشخص

أثر البيئة المحيطة على الشخص فكانت الإشارة إلى أن الجماعة لها تأثير في سلوك الفرد، وأنه ينبغي لنا أن نلتمس المجتمعات التي يكثر فيها الالتزام وتقل فيها المعاصي؛ لأن هذا الرجل الذي قتل مائة نفس، ولم يقل له أحد توقف، من الممكن أن يقتل ثانية إذا استفزه أحد. عندما كنت آخر مرة في الكويت، قابلني شاب كان في جماعة التكفير، ثم سافر وخرج ليعمل في الخارج، وإخوانه يشتكون منه، فكنت موجوداً في آخر يوم فقال: نعمل جلسة مصرية، لا يحضرها إلا أهل مصر، فأتوا يتكلمون في شأن هذا الرجل الذي كان في جماعة التكفير، ثم ترك التكفير أنه بقيت عنده علة وهي أنه إذا أغضبه أحد يكفره، فهم دائماً يرضونه حتى ولو كان مخطئاً، فلما جاءوا طرحوا هذه المسألة والقضية ويقولون له: ارفق بإخوانك، فقال والله أنا عصبي بطبعي، وأول ما فتحت عيني على الدين فتحتها على التكفير، فترك عندي شيئاً يعسر علي جداً أن أتخلص منه، وبعدما أكفر أخي أدخل في نوبة بكاء، لأنني أعرف الحكم، يعني يعرف أن الذي يكفر مسلماً وهو غير صادق أن التكفير يعود إليه، فيقول: أنا أشعر أني كفرت نفسي، لكن ليس هذا بإرادتي، فانظر كيف أن الجماعة أثرت فيه أول ما بدأ يستقيم، وظل هذا الأثر يلازمه حتى الآن، لذلك هجران أهل المعاصي والبدع واجب، فإنك إذا وجدت شخصاً يلازم المعاصي أو البدع وتساهلت معه، فأقل ما في المسألة أنك لن يتمعّر وجهك ولن يتغير قلبك لله عز وجل، ولا تأمن أن تكون واحداً من هؤلاء المبتدعين فيما بعد. لذلك كان من الخطر على هذا القاتل أن يظل في أرضه، فهو رجل مجرم وسفاك للدماء فكيف يجلس في بلد لم يقل له فيها أحد: وحد الله، ولم يقل له أحد: قف عند حدك، بل كان حوله البطانة السيئة التي توقعه في الشر، ألا يقول المثل: إذا لم تقدر على عدوك صاحبه، الذي لا يستطيع على عدوه يصاحبه، فهذا الرجل شرير، وأي واحد يقول له كلمة يقتله مباشرة، إذاً: نصاحبه، يعني أول ما يحب أن يقتل، أقول له: وأنا أعرف لك فلان من أين يدخل وأين يخرج، وآتيك بكل تحركاته، وأستغله، وأستغله حتى لا يقتلني، فإذا رأوا أن هذا الرجل قد تاب يذهبون إليه قائلين: مالك مريض، ما لك ما عدت تقتل أحداً؟ أين رجولة الأمس فبعد هذا الكلام يمكن أن يغتاظ ويعود إلى القتل من جديد، وهذا ممكن.

وجوب تغيير المنكر على الجميع

وجوب تغيير المنكر على الجميع إذاً البطانة السيئة التي تريد استغلال هذا الشخص موجودة، وممكن أن تؤلبه، فعلاج هذا الرجل حتى يصل إلى الله بسلام أن يصل إلى أرض بها ناس أول ما يمكث بينهم ينزعون منه روح المعاصي، ولا يمكنونه منها، فالعاصي لا يستطيع أن يرفع رأسه في وسطهم أبداً، لأنهم يقيمون حدود الله عز وجل، ولا يسمحون لأحد أن يعصي الله تبارك وتعالى، ونحن نقول هذا الكلام لأننا مبتلون به في بيوتنا وفي عماراتنا وفي الأحياء، ففي العمارة الواحدة يفتح أحدهم المسجل بأعلى صوت على نغمات ديسكو ورقص وطبل وأنت تقول: أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، ولو ذهبت إلى الشرطة قالوا لك: هذه حرية شخصية، وهذه هي الأفراح والليالي الملاح، فيوضع المسرح في الشارع إلى أن يؤذن مؤذن الفجر، ومعروف أن الشياطين إذا سمعت الأذان تولت، وهم كذلك إذا سمعوا الأذان ولوا، فطوال الليل وهم بسماعات ومكبرات ومؤثرات صوتية، والمريض لا يستطيع أن ينام، ومع ذلك لو ذهبت لتبلغ عن هؤلاء لا يمكن أن يطيعوك أبداً، لكن لو عملت محاضرة وعملت مكبرات صوت، مباشرة سيقولون: هذا إزعاج وكذا وكذا، ويقولون لك: لماذا نزعج الناس، الذي يريدك سيأتيك إلى المسجد، وتعرضنا لهذا الكلام أكثر من مرة. فهذا جعل الناس يحجمون عن إنكار تشغيل المسجل بهذا العلو، ولا تجد أن أصحاب العمارة يقفون وقفة رجل واحد ويوقفون هذا العبث الموجود في العمارة، أيظنون أن المصيبة إذا نزلت سينجون منها؟ مع أن الزلزال إذا جاء فإنه سيضرب العمارة كلها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. إذاً: لا بد أن ننقي مجتمعاتنا من المعاصي والبدع، ونتكاتف؛ لأن المجموع له تأثير على الفرد، لهذا قال له: (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها قوماً يعملون الصالحات، فاعبد الله معهم).

خطر التكفير بغير دليل

خطر التكفير بغير دليل فأي واحد يقول لآخر: أنت كافر، بدون أن يكون عنده برهان من الله عز وجل أوضح من الشمس في رابعة النهار عاد عليه الكفر، فلا تكفر إلا إذا أتى بفعل لا يحتمل غيره، والأدلة كلها تتظافر على تكفيره، وإلا فلا تكفر. مثلاً: شخص قطع المصحف ودعسه برجله، فهذا كافر بدون أي توقف، والذي يتوقف في تكفير هذا وهو يعلم أن له عقلاً، فهو كافر بالله العظيم، بخلاف ما لو كان مجنوناً فهذا لا يكفر، والذي يقول: إنه سيدخل الجنة ولو مات على النصرانية، كافر؛ لأنه عارض حكم الله في الشخص إذا مات على النصرانية، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذه القاعدة تنطبق على من كفره الله ورسوله أو من قام دليل قطعيٌ بكفره. من قال إن أبا لهب في الجنة، أو شك مقال: هو كافر أم لا؟ فهو كافر؛ لأنه عارض حكم الله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، وما عدا ذلك فالإحجام عن إلقاء كلمة الكفر هو الأسدُّ والأبرأ للذمة، إذاً لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ولو كان كثير السيئات، فقد تطاله رحمة الله وعفو الله عز وجل، وقد يكون له حسنات تكفر سيئاته بها، كما لو نطق الشهادتين والروح تخرج فإنه يدخل الجنة وكل هذا وارد. فلا نقطع لأحد بجنة ولا نار، فهذا العالم بيّن أنه لا يملك هذا الأمر، قال: (نعم). وهذه الإجابة عن السؤال، ثم قال: (ومن يحجب عنك باب التوبة) يعني: لا أنا ولا أحد، فإن الله فتح باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ ثم نصحه، وهذا شأن المفتي العاقل الذي يعتقد أنه بالنسبة للناس كالأب، وليس اسمه أنه يؤدي وظيفة فقط.

عدم جواز الشهادة لأحد بجنة أو نار

عدم جواز الشهادة لأحد بجنة أو نار قال: (إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: نعم) وهكذا تم الجواب، لكنه بين له الجواب بنصيحة وبراءة، والبراءة أنه بين أنه لا يفتأت على الله عز وجل، أن العالم ليس من حقه أن يقول: فلانٌ مغفورٌ له وفلان في النار؛ لأن من أصول أهل السنة والجماعة كما ذكر الطحاوي في عقيدته، قال: (ولا نحكم على معين بجنة ولا نار) لا أستطيع أن أقول: فلان في الجنة، وفلان في النار؛ لأن هذا حكم الله عز وجل يحكم به، لا دخل لنا فيه، ودخول هذه المنطقة خطير جداً على البشر، كما في حديث جندب بن عبد الله عندما قال رجل: (والله لا يغفر الله لفلان) فقال الله: (من ذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك)

يجوز التنقل بين المفتين بشرط عدم الهوى

يجوز التنقل بين المفتين بشرط عدم الهوى فنحن عندما نشعر بالغضاضة في صدورنا من الفتوى وليس الهوى هو المحرك، نلتمس مفتياً آخر، فإذا التمست المفتي الثاني والثالث وكانت نفس الفتوى فماذا تفعل؟ قالوا: إذا شعرت بحرج تلتمس مرجحاً، فإذا وافقهم الثالث فهذا هو الحكم ولا عبرة بما يحل في قلبك، لأنه قد يكون وسواساً، وقد يكون هوى، أو إذا لم تعجبك الفتوى وتريد فتوى خطية وأنا قلت: شرط أن تنتقل من هذا إلى هذا البراءة من الهوى. جاء إلي شخص مرة وقال لي: طلقت امرأتي مرتين، قلت لها في المرة الأولى: أنت طالق، وفي المرة الثانية قلت لها: أنت طالق، وفي المرة الثالثة قالت لي هي وصعدت على الكرسي: إن كنت رجلاً طلقني! فقلت لها: أنت طالق! فما رأيك يا شيخ في هذا؟ فقلت له: بغض النظر عما قالت لك فالمرأة بائنة بينونة كبرى، ولا يحل لك أن تعيش معها، فقال: أنا أحبها! فانظر حتى بعدما قال: صعدت على الكرسي، وقالت لي: لو كنت رجلاً، ومع هذا يقول: أحبها!!! لو كانت هذه آخر امرأة على وجه الأرض، فإن أي رجل تتدفق في عروقه دماء الرجولة لا يمكن أن يبقي هذه المرأة على الإطلاق، فيبكي ويقول: أقبل يدك!! وكأن المسألة في يدي أنا، فأقول: يا بني هذه ليست بيدي، ولكن اذهب إلى لجنة الفتوى، فقلت له: تعال لي بعدما ترجع وأخبرني كيف كانت الفتوى، فطبعاً لم يرجع، ولكن أتاني أخوه وقال: إنه ذهب إلى مسجد بجانبهم إلى شخص مقيم شعائر، وبكى هناك قليلاً وقال: الأولاد سيشردون، ولم أكن أقصد، فقرص أذنه وقال له: هات ثلاثين جنيهاً ولا تكررها، وارجع لها. فهذا الشخص يريد فتوى خطية، جاءني فلم تعجبه الفتوى، فذهب إلى لجنة الفتوى ولم تعجبه الفتوى، ثم ذهب إلى مفتٍ ثالث ولم تعجبه الفتوى، كل هذا لأن قلبه لم يسترح من الفتوى، فلا يجوز لهذا أن يعدد السؤال فشرط أن ينقل السؤال من مفتٍ إلى مفتٍ آخر أن يحيك في صدره شيء من فتوى الأول، وليس الهوى هو الذي يدفعه، يعني أن يكون خالياً من الهوى، فإن كانت الفتوى الثانية لا يزال يحيك في صدره شيء منها مع البراءة من الهوى يلتمس الثالث، فالثالث إما أن يرجح فتوى الأول أو فتوى الثاني فيصيرون اثنين على واحد، أو إذا وافق الاثنين وصاروا ثلاثة فلا يحل له أن يسأل الرابع. إذاً عندما قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) وانتقل من مفتٍ إلى مفتٍ آخر، هذا يشرع لنا في ديننا بالشرط الذي ذكرته، فلما ذهب إلى الراهب العالم قال له: (إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا). ففتوى هذا الرجل العالم جميلة فيها بهاء، وكذلك فتاوى الأئمة الكبار، مثل الأئمة الأربعة أو العلماء المجتهدين، وكذلك تعليلهم للفتاوى، تجد جمالاً ليس في مجرد الفتوى، بل هي فتوى وتعليم.

فضل الصدقة

فضل الصدقة إن للصدقة فضلاً عظيماً وأهمية كبيرة في حياة المسلم، فلقد حث الإسلام على الصدقة، ورغب فيها، وذم البخل والشح، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما نقص مال من صدقة، فالصدقة تنمي المال وتباركه وتزكيه. وللصدقة فوائد عظيمة، وحسبك أنها تطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وعندما فرطنا في هذا الأمر العظيم انحرف كثير من الناس عن طريق الإيمان، نتيجة للعوز والفاقة؛ لأنهم لم يجدوا من يعطيهم ويتصدق عليهم.

فضل الصدقة والحث عليها

فضل الصدقة والحث عليها الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجلٌ يمشي في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان. فأفرغ السحاب ماءه في شرجة من شراج ذلك الوادي، فذهب ذلك الرجل الذي كان يمشي إلى المكان الذي أفرغ السحاب ماءه فيه، فرأى رجلاً معه مسحاة يُمهد مجرى للماء حتى يذهب إلى بستانه أو إلى أرضه، حتى استوعب الماء كله، فذهب إليه وقال: السلام عليك يا فلان -باسمه الذي سمعه في السحاب- فقال: وعليك السلام، من أين عرفت اسمي؟ قال: إني سمعتُ صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان، فأفرغ السحاب ماءه عندك فماذا تصنع؟ قال: أما قد قلت لي ذلك فإني أنتظر ما يخرج من الأرض فأقسمه إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أتصدق به، وقسمٌ آكله أنا وعيالي، وقسمٌ أرده في بطنها) -أي: بذراً في باطن الأرض حتى يخرج مرةً أخرى-. هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام من قصص الأقدمين، وهو يشتمل على ثلاث فوائد، وكل فائدة تشتمل أيضاً على فوائد: الفائدة الأولى: فضل الصدقة. الفائدة الثانية: فضل النفقة على العيال. الفائدة الثالثة: الأخذ بالأسباب وعمارة الأرض. أما الفائدة الأولى فقد قال الرجل: (فإني أتصدق بثلثها). وقد وردت في فضل الصدقة أحاديث كثيرة نقتصر على بعضها. وأصل الصدقة مأخوذة من الصدق، ولهذا يلزم المتصدق أن يكون صادقاً، فإن كان كذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: هو المهر، فكما أنك تربي فرسك فيكبر على عينك -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للعبد حتى تصير كأمثال الجبال! وهناك كثير من العباد يفاجئون بمثل هذه الحسنات التي ما كانوا يتوقعونها، يتصدق بصدقة وهو مخلص فيها ثم نسيها، فيفاجأ هذا الرجل بجبال من الحسنات من أين هذه الجبال؟! إنها من الصدقة التي وضعها يوماً ما في يد مسكينٍ أو فقيرٍ أو معول ونسيها: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]، في كتابٍ عند الله تبارك وتعالى.

لا تحقرن من المعروف شيئا

لا تحقرن من المعروف شيئاً (لا تحقرن من المعروف شيئاً)، تصدق وإن كان المال قليلاً وأخرج ما عندك، فالله تبارك وتعالى يربيها لك، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتصدق على من يقابله بالسكر، كان يحمل قطعة سكر في جيبه ويتصدق بها، فسُئِلَ عن ذلك فقال: قال الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وأنا أحب السكر. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتصدق بحبات العنب، فَيُسأل: وما تغني حبة عنب، فإنها لا تشبع ولا تروي ظمأ ظامئ؟ فيقول: (إن فيها مثاقيل كثيرة، قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]) والذرة لا ترى بالعين المجردة، فلو فعلت مثقال ذرة خيراً لوجدته، فما بالك بحبة عنب! فإن فيها مثاقيل كثيرة. ويروى أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تعطر الدنانير والدراهم قبل أن تتصدق بها، فتسأل عن ذلك؟ فتقول: إنني أضعها في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.

لا تنفق إلا مما تحب

لا تنفق إلا مما تحب لقد أدبنا الله تبارك وتعالى أدباً آخر، فقال تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، فإذا كان لديك تمر، أو أي شيء تريد أن تتصدق به، فإياك أن تتصدق بالرديء منه، مثلاً: بعض الناس لديه قميص ثمنه تسعون جنيهاً، ثم وهو يكويه كانت المكواة حارة فخرقته، فجاءني وقال: خذ هذا وتصدق به على مسكين، مع أنه لو لم يحرق هذا القميص لما خطر على باله أن يتصدق به، إذاً {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، فإنك لو كنت في مكان ذلك المسكين وجاءك رجلٌ بمثل هذا الرديء لما أخذته إلا على إغماض، لأنه رديء، قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]. فلا يجوز للمرء أن يعمد إلى الشيء الرديء ثم يتصدق به، إنما يتصدق بأجود ما عنده لماذا؟ لأنه يضع هذه الصدقة في يد الله تبارك وتعالى قبل أن تصل إلى يد المسكين.

فائدة التصدق على أهل المعاصي

فائدة التصدق على أهل المعاصي وهناك أمر آخر، وهو: أن مهمتك أن تخرج الصدقة من عندك، وليست مهمتك أن تصل الصدقة إلى موضعها المرجو، فأنت مثلاً تنظر إلى بعض الجيران وهم يدخنون مثلاً، أو لا يهتمون بالأحكام الشرعية، وبعضهم يقصر في الصلاة، ولكنه فقير، فتقول: هذا الرجل لا يستحق الصدقة، سوف أعطيها لرجل ملتزم أفضل منه. قولك هذا صحيح، ونحن لا ننازعك فيه، ولكن نلفت نظرك إلى شيءٍ هام، وهو: أنك إن أعطيت بعض أهل المعاصي مثل هذه الصدقات فقد يرق قلبه، بالذات -مثلاً- الإخوة الملتحين، فإن كثيراً منهم متهم بغير جريرة، فبعض الناس يأخذ عنه فكرة أنه متشدد، ومتزمت، وأنه يكفر المجتمع، وهذا كله كذب؛ بسبب الدعاية المغرضة لأجهزة الإعلام الكاذبة الفاجرة، التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يعامل القائمين عليها بعدله. فهؤلاء أسهموا بدورٍ فعالٍ جداً في تشويه صورة هؤلاء، وللإنصاف نقول: إن بعض هؤلاء الملتحين يسيئون إلى الإسلام ببعض الأحكام التي يتبنونها بحسن نية ولكن بجهل، وبعضهم يغلظ في النصيحة إغلاظاً شديداً حتى في غير موضعها؛ فيسبب نفرة في القلوب. وهناك عوارض كثيرة مجتمعة ليس المجال الآن مجال معالجتها وإفرادها بالذكر، ولكن نقول: إن هناك بعض العوام يخافون من الرجل الملتزم، فأنت إذا أعطيت ذلك الرجل هذه الصدقة فلعل قلبه يرق. وهناك قصة أخرى معروفة في الإسكندرية: فقد كان هناك رجل يؤذي السنيين -أو الانتساب إلى السنة شرف؛ وقد رأيت بعض الناس وشخص يناديه: يا سني، فاعتبرها سبة، والتفت إليه وكاد أن يقتله! فالانتساب إلى السنة شرف عظيم، بغض النظر عن هل يقولها سخريةً أو يقولها بجد- فكان يكرههم كثيراً، وبعد مدة حدث عنده حادث ولادة، فحصل لامرأته نزيف حاد واحتاجوا إلى دم، ولا يوجد دم في المستشفى، وهو قد تعرض لأهل السنة بالأذى كثيراً، حتى صار معروفاً لديهم من شدة ما يؤذيهم بلسانه، فقال له بعض الناس: لن يعطيك الدم إلا السنيون، فأنصحك بالذهاب إلى المسجد. ونحن لا نرى التبرع بالدم إلا في مساجدهم، ولن تجده في مساجد الأوقاف؛ لأنهم يريدون إذناً رسمياً من وزير الأوقاف حتى يطلبوا التبرع بالدم في مساجدهم. فقال الرجل: لو تكلمت لسخروا مني؛ لأنني أتعرض لهم بالأذى. فقال له: اذهب. فذهب الرجل على استحياء، وكان ذلك في صلاة الفجر، فقام وقال: إن امرأتي جاء لها نزيف حاد، فهل يعطيني أحد دماً لننقذها؟ فقام كل من كان في المسجد وذهبوا يتسابقون فماذا كانت النتيجة؟ لقد أصبح هذا الرجل من أشد المتعصبين الآن لهؤلاء! انظر إلى الإحسان! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فإياك أن تتصور أنك تقدم معروفاً ولا تلقاه قد تقابل ببعض الجحود، لكن لابد أن ترى هذه الثمرة يوماً ما، ولو أن هذا الرجل ذهب وقال: أريد دماً. فقالوا له: بعد هذا السب وهذا الأذى تريد دماً؟! فكيف سيكون حال الرجل؟ سيتحول إلى مقاتل شرس ضد هؤلاء. إننا نفتقر إلى هذه النماذج للدعوة، فانظر إلى الإحسان إلى أهل المعاصي كيف يحول قلوبهم بإذن الله، فلا تقل: لن أعطي لأحد من أهل المعاصي، بل إن المهتدين أولى أنا معك، لكن ألا يسرك أن تضم إلى ركب المؤمنين رجلاً آخر؟! هب أنك أعطيت هذا الرجل وظل على عناده، وأعطيته وظل على عناده، فلا تيأس، وانظر إلى حال نفسك: فقد كنت يوماً ما من المخرفين عن طريق الإيمان، فكم من رجالٍ هم الآن صفوة الرجال كانوا من ألد أعداء هذه الدعوة. وانظر إلى جيل الصحابة حين كانوا كفرة في الجاهلية كـ عمر بن الخطاب مثلاً، كيف حول الله عز وجل قلوبهم بعد ذلك! ولا تتعجل النتائج، واتل قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، ألم تكن من قبل كهذا الرجل فمن الله عليك وهداك إلى الإيمان؟! روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل يخفي صدقته، فوجد امرأة في الطريق فأعطاها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدِّق الليلة على زانية! فبلغ الرجل هذا القول، فقال: الحمد لله على زانية -كأنه رأى أنه لا أجر له طالما أنها لم تقع في موقعها الصحيح، وكان يريد أن تقع في يد مسكينٍ فقير حتى يؤجر، واستاء الرجل وأحس أن صدقته لم تقبل- لأتصدقن الليلة بصدقة -سأتصدق مرةً أخرى لعلها تقع في يد من يستحقها- فوجد رجلاً في الظلام فوضع الصدقة في يده، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة -فرأى أن الصدقة لم تقبل ولم تقع في موقعها في المرة الثانية، فأراد أن يتصدق في المرة الثالثة عساها أن تقع في يد من يستحقها- فخرج فرأى رجلاً في الظلام فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني -ليس محتاجاً للصدقة، إذاً للمرة الثالثة لم تقع الصدقة في موقعها الذي يريده- فجاءه ملكٌ في صورة رجل فقال له: أما صدقتك فقبلت، أما الزانية فلعلها تتوب، وأما السارق فلعله يستعف، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده)، انظر إلى فائدة التصدق على أهل المعاصي! وكم من النساء انحرفت بسبب أنها ذهبت إلى بعض الرجال ليقرضها فلم تجد، فتتاجر بعرضها، ونحن نحفظ عشرات القصص في ذلك، وكثيرٌ منكم عنده في جعبته الكثير! إن بداية الانحراف لكثير من النساء سببه أنها لم تجد أحداً يعطيها، فتاجرت بعرضها، وتمرست على ذلك، ومع ذلك تسمعها تقول: أتمنى أن أتوب. فالمتاجرة بالعرض شيء سخيف جداً، وبشع للغاية، والمرأة البغي لا تشعر بأي متعة في هذا أي متعة تستمتعها المرأة؟! تتمنى أن تتوب، لكن من يكفلها؟! فالصدقة والزكاة طهرة للعبد، قال تعالى:: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وقد قاتل أبو بكر الصديق الذين منعوا الزكاة، وسموهم بالمرتدين لأنهم منعوها. إن ضياع بيت مال المسلمين سبب في وجود كل هؤلاء المجرمين في المجتمع، ولو أن أي رجل عاطل لا يجد عملاً يعطى جزءاً من المال -ولو قرضاً- من بيت المال، ليستعين به في حياته؛ فلن يسلك طريق الإجرام أبداً. فهذه المرأة أو هذا الرجل الذي يسرق لعله ما بدأ طريق الإجرام إلا بسبب أنه لم يجد يداً حانية تعطيه. فانظر إلى قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي ابنة عم، وكانت من أحب الناس إليّ، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءت تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ولكن اشتد عليها الكرب، فرجعت إليه تضحي بعرضها في سبيل أن تؤكل أولادها -هذا مثل واقع، امتنعت في السابق رجاء أن تجد يداً رحيمة، ولكنها لم تجد، فماذا تفعل؟ تموت هي وأولادها؟ لا، فتذهب تضحي بعرضها لهذا الرجل وتأخذ منه مالاً- قال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه -إلا بالزواج الشرعي- فقمت عنها وهي أحب الناس إلي. فهذا الحديث الصحيح يدل على أن كثيراً من أهل المعاصي لم يبدءوا في هذا الإجرام إلا بسبب عدم وجود اليد الحانية. فإياك أن تحتقر أهل المعاصي، لا تشدد عليهم، وارحمهم، وأنت إنما تفعل ذلك رجاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا الحديث حجة في هذا الباب: فيجوز أن تعطي الزكاة -فضلاً عن الصدقة- لأهل المعاصي، وكم يحصل الإنسان من الأجر إذا سلك طريق الصدقة مع أنها لا تضره! فإذا جاء إليك السائل فلا ترده، وأعطه من مال الله الذي أعطاك، فإن بعض الناس قد يرد السائل وتجده في المقابل قد ينفق (مائة جنيه) في وجبة غداء، ويعزم جماعة ويقول: هذا من كرم الضيافة، وهذا من أدب الإسلام مع أنه بخل أن يخرج عشرة قروش! هذه طبيعة في بني آدم؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. إن استطعت أن تتقي شح نفسك التي بين جنبيك (فأولئك هم المفلحون).

ما نقص مال من صدقة

ما نقص مال من صدقة لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الشح الذي يحمل بني آدم على منع الصدقة، برغم أنهم لو تصدقوا لكان خيراً لهم، ولذلك أقسم النبي عليه الصلاة والسلام -مع أنه قلما يقسم في الأحاديث- فقال كما رواه الترمذي وغيره: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، فإذا كان معك مائة جنيه، فتصدقت منها بعشرة جنيهات، فلا تظن أنه بقي معك تسعون جنيهاً؛ لأن مالك لم ينقص بل ازداد، ولكن العبد يريد أن يرى كل شيءٍ بعينه، وينسى أن صحته أغلى من ذلك، بدليل أنه لو أصابك مرض لأنفقت أموالك في العلاج. فكونك صحيحاً هذا مال وكون ولدك صحيحاً مال وكونك في عافية هذا مال تصفو أملاكك كما هي هذا مال بيتك كما هو هذا مال وقس على ذلك، ولكن الناس لا يحسون إلا بالنعمة الظاهرة؛ ولذلك قلما يحمد الله تبارك وتعالى من ينظر هذه النظرة. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم على هذا ويقول: ما نقص مالٌ من صدقة)، والله عز وجل أقسم كذلك، ومن المعلوم أن العباد في شك من الأشياء المقسم عليها؛ ولذلك فإن الخطاب الشاذ في الشيء يحتاج إلى نوع تأكيد، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ما هو؟ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23]. لأن كثيراً من العباد لا يتصورون أن رزقهم في السماء، ولماذا جعل الرزق في السماء؟ حتى تطمئن أنه لن يستطيع مخلوقٌ أن يقطع رزقك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فإن كنت لا تصدق أن رزقك في السماء: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي: إن هذا الكلام حق، (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ). أأنت تتكلم؟! فإن كنت لا تشك في أنك تتكلم الآن فإياك أن تشك أن رزقك في السماء. وقد كان بعض السلف إذا تلا هذه الآية بكى، وقال: من أغضب الجليل حتى حلف على هذا، ونحن نصدقه بلا حلف. فالأشياء التي يلتبس على العباد معناها تؤّكد، كقول إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يعدد مناقب إلهه وإلهنا العظيم تبارك وتعالى، في مقابل هؤلاء الكفرة الذين يعظمون الأحجار، قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:77 - 78]، تأمل في النظرة! {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:79 - 81]. وقد جيء في الآيات الثلاث الأول بضمير الرفع المنفصل (هو) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) ولم يقل: (فهو يحيين) إنما قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، فلماذا جيء بضمير الرفع المنفصل على سبيل التأسيس في الثلاث الأول دون الرابعة؟ لأن الثلاث الأول فيها لبس عند العباد: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، فكثير من الناس الذين تداركتهم عناية الله تبارك وتعالى، يقول: لقد كنت ضالاً فهداني فلان. فيخطئ بعض الناس فيجعل ما لله تبارك وتعالى للعبد، مع أن الذي هداه في الحقيقة هو الله عز وجل، وما هذا إلا سبب، فلما التبس على العباد معنى الهداية ومن الذي هدى العبد أم الرب تبارك وتعالى؟ فنحتاج أن نؤكد بضمير الرفع المنفصل أن الذي يهدي هو الله فقط؛ ولذلك أُكّد هذا المعنى بضمير الرفع الذي لا محل له من الإعراب: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]، يقول بعض الناس: فلان أطعمني وسقاني. وهذا منتشر كثيراً، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الذي يطعم ويسقي هو الله تبارك وتعالى لا غيره، وهذا موجود -كما قلت- في كلام العباد، فأكد بضمير الرفع المنفصل: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] لأن كثيراً من الناس ينسبون الشفاء للطبيب، ولا ينسبونه إلى الله تبارك وتعالى صحيح أنهم يعتقدون أن الله هو الشافي؛ ولكن الكلام الذي يخرج من أفواههم: إن الطبيب هو الذي أزال العلة. وتأمل الأدب في قوله عليه السلام: (وَإِذَا مَرِضْتُ)، فقد في الأول: (الَّذِي خَلَقَنِي)، (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي)، ولم يقل: والذي أمرضني، أو وإذا أمرضني فهو يشفين وإنما نسب المرض لنفسه، كقول الخضر عليه السلام لما خرق السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أنه قال في نهاية المطاف: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، فأنا مأمورٌ بهذا من قبل رب العالمين، لكن عندما جاء ذكر العيب نسبه إلى نفسه تأدُباً، ولما جاء ذكر الرحمة في قصة الجدار قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، فنسبها إلى الله تبارك وتعالى. فكل هذه المعاني قد تلتبس على العبد، ولذلك أُكدت بهذا الضمير الذي يفيد أن الفاعل هو الله عز وجل، لكن عندما أتى إلى الصفة الأخيرة لم يحتج إلى هذا الضمير؛ لأنه لا يختلف اثنان في الأرض أن الذي يخلق ويميت هو الله عز وجل، ولذلك قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، فلا يشك أحد أن الذي يميت ويحيي هو الله تبارك وتعالى؛ ولذلك لم يحتج إلى ضمير الرفع. إذاً: المسائل التي فيها بعض اللبس تؤكد، لكن لا يلتفت إلى هذه المؤكدات إلا قليل من الناس. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما نقص مالٌ من صدقة)؛ لأنك عندما تتصدق -مثلاً- بجنيه، فالحسنة بعشر أمثالها، ويزيد الله تبارك وتعالى تفضلاً منه إلى سبعمائة ضعف، فكم سيكون لك من جبال الحسنات عند الله عز وجل!! فهل نقص مالك؟ لم ينقص. وقد ورد في بعض الأحاديث أن الصدقة تدفع الضر عن العبد، وكل هذا مكتوب ومقدر عند الله تبارك وتعالى.

وجوب النفقة على الأهل

وجوب النفقة على الأهل لقد أرسل الله تبارك وتعالى لهذا الرجل الصالح سحابة أفرغت ماءها في بستانه؛ وما ذلك إلا لأنه قائمٌ بالقسط والعدل، فقد قال: (أما ثلثها فأتصدق به، والثلث الآخر آكله أنا وعيالي)، وفي هذا وجوب النفقة على الأهل، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، وفي رواية: (أن يضيع من يعول)، وفي مسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته) وكلمة (كفى إثماً) تدل على عظم هذا الإثم، أي: يكفيه من الإثم أن يضيع زوجته وأولاده، أن يضيع من يقوت، فلا يجوز أن تحبس النفقة عن الأولاد لأن الأولاد ليست لهم زكاة لماذا منعك الشارع أن تعطي الزكاة لأولادك أو لأبيك وأمك؟ فلا يجوز أن تعطي الزكاة للأصول ولا للفروع، فوالدك لا يجوز لك أن تعطي له الزكاة؛ لأن له نفقةً واجبة عليك، وكذلك أولادك لهم عليك نفقةٌ واجبة، فلا يجوز أن تضيع أولاك، بل إنك تتعبد الله تبارك وتعالى بإطعام أولادك. إن كثيراً من الناس يبخل على أهله وأولاده، ولا أدري الذي يبخل على أهله وأولاده سيكرم من؟ فإذا كان أخص الناس به يعانون من المجاعة وهو حاتم الطائي خارج بيته!! هناك رجلٌ يدخن أكثر من مائة سيجارة في اليوم الواحد، وكان يأخذ الدقيق من بيته فيبيعه ويشتري به شاياً وسكراً، ويأخذ الرز ويبيعه، والزوجة تخرج وتعمل في البيوت، وتتكفف الناس إن باطن الأرض أولى بهذا الرجل من ظاهرها، وحين مات ولده والله لم يوجد في بيته ثمن الكفن!! فانظر إلى أين وصلت التعاسة؟! فكفى بهذا الرجل إثماً أن يضيع من يعول، فضلاً عن الموبقات التي يرتكبها. فأنت بإنفاقك على أولادك تتعبد الله تبارك وتعالى بذلك، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بغير إذنه إذا كان بخيلاً، ولا ينفق على البيت. ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت هند بنت عتبة -امرأة أبي سفيان - رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل علي جناحٌ أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فانظر إلى هذا الحكم (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح) أي: لا يقوم بالنفقة الواجبة، فهل علي جناحٌ أو إثم أو حرج أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فلم يقل لها: لا، إن هذه خيانة لأن أبا سفيان قصر في الواجب الذي عليه، بل قال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وكلمة (بالمعروف) حتى لا تتمادى الزوجة وتأخذ أكثر من حاجتها، ولو أخذت أكثر من حاجتها فإنها تعتبر خائنة آثمة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، والمرأة ربما تجد لها سبباً فتقول: أنا أتمسك بظاهر الحديث (خذي ما يكفيك)، وأنا لا يكفيني مرتبه ولا مرتب عشرة مثله، أنا محتاجة دائماً، والحديث يقول: (ما يكفيك). إن بعض الأزواج -هداهم الله- يترك بيته وأهله بدون نفقة ويخرج، فتقول له المرأة: إلى أين أنت ذاهبٌ وتتركنا؟ وماذا أبقيت لنا؟ - فيقول لها: أبقيت لكم الله ورسوله. - فتقول: نريد مالاً. - فيقول لها: يا امرأة! هذا قول أبو بكر الصديق حين أعطى كل ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله). إن هذه كلمة حقٍ لا يراد بها الحق، لا أقول: يراد بها باطل؛ إنما أقول: لا يراد بها الحق، فقد وضعت في غير موضعها. فإن هذا الرجل لا يذهب بماله إلى شيء واجب ولا مستحب ولا مباح، بل قد يكون شيئاً محرماً، أما أبو بكر الصديق فإلى أين لما أخذ ماله؟ أليس لتأسيس اللبنة الأولى من هذا الدين؟ فأين هذا الإنفاق من ذاك؟ إن الفرق كبير بين إنفاق أبي بكر وإنفاق هذا الرجل. إن هذا يتركهم ويذهب، يجلس في المسجد يأكل ويشرب ويطبخ ويرجع، مع أن الله تبارك وتعالى قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فليت هؤلاء أول ما يتجهون بالدعوة يتوجهون إلى بيوتهم، وإلى أولادهم، وإلى زوجاتهم، لكنه يدعو في الخارج ويترك أهل بيته يفعلون ما يشاءون، ويظن أن هذه قربة، إنها ليست قربة (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، ويتركهم أكثر من أربعين يوماً، وقد تكون له رحلة ستة أشهر -مثلاً- إلى بريطانيا أو إلى غيرها، ويدخل البلاد ويدعو إلى الله ادع في بلدك إن كنت من الصادقين، لكنه يقول: انظر إلى الآثار المترتبة على الدعوة هناك، عشرات الذين يؤمنون ويسلمون، فيقال: إن هذا ليس من خصائص المسلمين وحدهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر)، فلا تتصور أن المؤمنين فقط هم الذين يسعون لنصرة هذا الدين، بل إن بعض الفجار مرغمون ومسخرون لنصرته. فقد يأتي عالم مثلاً ويكتب كتاباً علمياً يهز العالم، ثم تجد له أصلاً في الكتاب والسنة! فكثير من الناس يؤمنون بسبب هذا الحديث أو بسبب تلك الآية، فنصر الله تبارك وتعالى وهذا الدين بهذا الرجل الفاجر. فالشاهد: أنه لا يجوز للمسلم أن يضيع من يقوت، بل عليه أن يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنفقة على الأولاد والزوجة. وهذا الرجل الصالح: كان ينفق الثلث الثاني على أولاده.

الإسلام يحث على استثمار وزراعة الأرض

الإسلام يحث على استثمار وزراعة الأرض بقي الثلث الأخير: قال: (وأرد فيها ثلثه)، أي: في الأرض. وهذا دليل على أن الإسلام يحث على استثمار الأرض، ويحث على استيعاب الطاقات والاستفادة من الجهود المبعثرة، بخلاف بعض الناس الذي يظنون أن الإسلام دين الكسل والتواكل، وهذه فرية بلا مرية، لكن -بكل أسف! - وجد من بيننا من يلوك هذا الكلام، وهم من العلمانيين ذوي الوجوه القبيحة الذين يحاربون الله ورسوله. والشيء العجيب: أنهم يحتجون علينا بالأحاديث، وهم لا يحتجون بها، وإنما يرددونها حتى يزعموا أنها مكذوبة، برغم أنها في صحيح البخاري، فماذا يريد هؤلاء؟ يريدون أن يقولوا: إن صحيح البخاري فيه أحاديث موضوعة، لكي يزيل هيبة هذا الكتاب من نفوس المسلمين؛ لأنه يعلم أن المسلمين يبجلون صحيح البخاري، برغم أنهم لا يعرفون من هو البخاري ولا حتى اسم البخاري. وهذا بسبب كلام العلماء عن ثقة هذا الكتاب وثقله ومكانته ومكانة صاحبه رحمه الله. فيأتي أحدهم ويقول إن: البخاري ليس معصوماً، وهو بشر، وهذا حديث موضوع في البخاري ثم يذكر حديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل داراً فوجد فيها محراثاً -والمحراث: ما يحرث به الأرض- فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ما دخل هذا بيت رجلٍ إلا أدخل الله الذل عليه)، أي: أن هذا المحراث لا يدخل بيت رجل إلا ودخل الذل معه، فيقول: معنى هذا أن الناس لا يحرثون الأرض، ولكيلا يذلوا لا يقتنون المحراث ويحرثون الأرض، أي: لا يزرعون، فقالوا: إذاً هذا الحديث مكذوب باطل، وهذا البخاري الذي تتشدقون بصحته وو إلخ. مع أنهم لو ردوه إلى أهل العلم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وهكذا يعمل الجهل في أهله، ولو سكت من لا يعلم لقل الخلاف. إن هذا الحديث صحيح، ولا مرية في صحته؛ بل نحن نقسم على صحته، قال إمام الحرمين: (لو حلف رجلٌ بالطلاق أن كل ما في البخاري صحيح ما ألزمته الطلاق؛ لصحة كل أحاديث الكتاب). هذا اعتداد بصحة الكتاب. إذاً ما وجه هذا الحديث؟ لقد حمله العلماء على وجهين: الوجه الأول: إذا انشغل الرجل بالزرع عن طاعة الله أذله الله؛ لأن المحراث هذا يكون سبب الذل، وهل هناك ذل أشد من أن يدخل الإنسان الأرض؟ إذاً الذي يعمل بهذا المحراث ويزرع وينسى الله تبارك وتعالى وينسى التكاليف الشرعية، فيكون المحراث هذا سبباً لذله. الوجه الثاني -وهو المشاهد الآن تماماً-: أن هذا المحراث سبب في ذل الفلاحين الآن لماذا؟ لأن عليهم جباية، وضرائب، وتحصيلاً إجبارياً على المحاصيل أليس هذا من الذل؟ إذاً: المحراث هو سبب الذل، بسبب الجبايات التي تثقل كواهل الناس. فيكون هذا المحراث سبباً للذل الواقع على كاهل هذا الإنسان، إذاً فما يدخل هذا المحراث بيت رجل إلا أدخل الله الذل معه. فهذا الحديث له وجه جميل ومحمل رائق، فهل يقال: إنه مكذوب؟! وقد علمنا أن هذه الأحاديث لا تحثنا على الكسل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في حديث آخر: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، فلو أن أحداً يزرع نخلة وقامت الساعة فإياه أن يقول: لن أزرعها، ولمن أزرعها؟ فالقيامة قد قامت؟! وهل هناك حث أكثر من قوله صلى الله عليه وسلم (ما من عبدٍ يزرع زرعاً أو يغرسُ غرساً، فيأكل منه إنسان أو حيوان أو طائرٌ إلا كان له به أجر)، هل هناك أكثر من هذا في الحث على زراعة الأرض واستثمارها؟ إلخ، وهناك أحاديث كثيرة في ذلك. ولكن الإسلام محاصر من جهتين: الجهة الأولى: جهل أبنائه فيهدمونه من الداخل. والجهة الثانية: كيد أعدائه من الخارج، فالإسلام ما بين كيد الخارج وعجز الداخل. فصار المسلمون بذلك من أسوأ الأمم على هذه الحياة الآن!

العمل بالأسباب من دين الإسلام

العمل بالأسباب من دين الإسلام إن بعض المسلمين يتعبد بترك العمل، ويزعمون أن العمل من الشرك، وفيهم من يزعم أن من ذهب إلى الطبيب فهو كافر وهذه كلمة خطيرة جداً أن يكفر أحد المسلمين ما لم يقم دليل قاطع وبرهانٌ ساطع على كُفره وهل الأخذ بالأسباب كفر؟ إن هؤلاء الجهلة يكفرون النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب، وقال: (تداووا عباد الله، فإن الله ما جعل داءً إلا جعل له دواءً). والنبي صلى الله عليه وسلم أليس هو سيد المتوكلين؟ أليس هو غرة في جبين المؤمنين؟ أليس هو سيد ولد آدم ولا فخر؟ فلم اختبأ في الغار لما أراد أن يهاجر؟ هل كان خائفاً من المشركين؟ إن بعض الناس من قصار النظر يزعمون أن عمر بن الخطاب كان أشجع من النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، يقول: لأن عمر خرج وقال: إني مهاجر، فمن أراد أن ييتم ولده وترمل امرأته فليتبعني خلف هذا الوادي. فما تبعه أحد؛ لأنهم خائفون منه، فـ عمر رضي الله عنه هاجر علناً والنبي صلى الله عليه وسلم هاجر مستتراً! وأبو بكر لما رأى رجلاً ينظر أسفل الغار قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟). والسبب في أن النبي عليه الصلاة والسلام اختبأ في الغار، بينما هاجر عمر رضي الله عنه علانية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم تشريع، وفعل عمر ليس تشريعاً. فالنبي عليه الصلاة والسلام إذاً يقول لك: اختبئ من عدوك إن خفت منه؛ لأن فعله حجة، ونحن نأخذ التشريع من أقواله وأفعاله وتقريره صلى الله عليه وسلم، وقد كان يرسل عبد الله بن أبي بكر الصديق وعامر بن فهيرة إلى المشركين ليأتوهم بالأخبار، وهذا فيه مشروعية التجسس على الأعداء والتخفي منهم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه أنس رضي الله عنه، وورد عن علي بن أبي طالب أيضاً قال: (كنا إذا حمي الوطيس -وكانت الحرب على قدمٍ وساق، والرقاب تطير- احتمينا بالنبي صلى الله عليه وسلم)، يختبئون وراءه وذلك لشجاعته صلى الله عليه وسلم وثباته وثبات جنانه وقلبه. فهذا ليس خوفاً؛ إنما لأن فعله عليه الصلاة والسلام تشريع. فكيف يقول بعض الناس: إن موقف عمر أشجع، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين ظهرانيهم وهم وقوف على البيت مدججون بالسلاح، وخرج من بين ظهرانيهم ثابت القلب، رابط الجأش؟! إذاً النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب المتاحة. ويزعم هؤلاء الجهلة -الذين يزعمون أن التوكل شرك- أن النبي عليه الصلاة والسلام وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب بأوصاف تدل على خلع الأسباب، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة). فهؤلاء الجهلة قالوا: قوله: (يسترقون) هذا ضد التوكل، ولكن هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. إذاً: فمن استرقى أو اكتوى أو تطير فهو غير متوكل. وهذا الحديث مفهومه بخلاف ذلك، فهو صفة لهؤلاء الناس، وليس معناه: أن من لم يفعل ذلك يكون من السبعين ألفاً، فإنهم سبعون ألفاً قدرهم الله عز وجل، ومن صفاتهم: أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أريت نساءً كاسيات عاريات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يرحن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) ففهم بعض الناس من هذا الحديث: أن المرأة إذا أرادت أن تسرح شعرها وتعمل هكذا مثل سنام الجمل، أنه لا يجوز؛ اعتماداً على هذا الحديث، وهذا خطأ، فإن هذا الحديث وصفٌ لنساءٍ لا يرحن ريح الجنة؛ لا أن من تفعل هكذا لا تجد ريح الجنة، هذا منطق مكذوب، وهذه فتوى خاطئة امرأة مؤمنة رجلت شعرها هكذا إذاً تدخل في هذا الحديث؟ لا، فهن صنف من النساء هذه صفاتهن. وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يكون أقوامٌ -في آخر الزمان- يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة). فقوله: (يخضبون بالسواد) ليس معناه: أن الذي يخضب بالسواد لا يجد ريح الجنة، فالحديث واضح، أن هؤلاء أقوام كتب الله عليهم أنهم لا يجدون ريح الجنة، وهذه من صفاتهم، لا أن من وجدت فيه هذه الصفة يكون من هؤلاء الناس، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص -وهو من العشرة المبشرين بالجنة- كان يخضب بالسواد، وعقبة بن عامر روي عنه بسند لا بأسه به عند الطبراني في الكبير أنه كان يخضب بالسواد، وكانت لحيته بيضاء، وكان رجلاً شاعراً يقول: أخضب أعلاها وتأبى أصولها فلا يقال: إن هذا لا يشم رائحة الجنة. إذاً: هذا الحديث -حديث السبعين ألفاً الذي يدخلون الجنة بغير حساب- وإن كان بعض العلماء أخذ منه المعنى المتبادر، ولكن المعنى الذي ذكرته هو أقرب المعاني عندي لهذا الحديث: أنه صفة لهؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب. الحاصل: أن الإسلام كره الكسل، وحض أتباعه على استثمار الأرض، وعلى الأخذ بكل جديد جيد فيها، وإلا فمعروف أن الدين لا يرتقي إلا بقبضة قوية من المال والعتاد؛ لأن الحق إذا لم يكن معه قوة يداس بالأقدام، فلا بد أن يكون للحق قوة تدفعه. فهذا الرجل الصالح الذي ذكر اسمه في هذه السحابة يقول: (وأرد فيها ثلثه) يستثمر الأرض ويزرعها؛ لأنك لا تستطيع أن تتصدق وأنت فقير، وكلما كنت غنياً وتصدقت كان لك فضل، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في علمنا وأن ينفعنا به، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله تعالى: يوم ندعو كل أناس بإمامهم

معنى قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ Q بعض الصوفية يقولون أن بعض مشايخهم هو الإمام المجدد، ويستدل بقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، فما المقصود بالإمام الذي ورد في الآية؟ وما الرد عليهم؟ A المقصود المتبادر من هذه الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، أن الإمام هو النبي، أي: نبي هؤلاء الناس. ولفظ الآية يحتمل أكثر من هذا المعنى، فلو أن رجلاً ضالاً أضل الناس وسن سنةً سيئة، فسوف يدعى هذا الرجل ويدعى الذين أضلهم ويحتجون أمام الله تبارك وتعالى، وهناك عشرات المناظرات في القرآن الكريم بين الكبراء وبين المستضعفين، فإذا كان هؤلاء يحتجون أن شيخهم هو الإمام المجدد، فلكل قوم شيخ، فلماذا حصروا الآية على شيخهم فقط إذا كانت المسألة مجزأة هكذا؟ والحقيقة أن هؤلاء المشايخ ليسوا مجددين، ونسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية من تجديدهم، ويصدق عليهم قول الأديب الراحل سامي الجيلاني -وقد كان متخصصاً في كتب الأطفال-. فيما نقل عنه الشيخ أحمد شاكر محدث مصر رحمه الله، قال: ونعوذ بالله من هؤلاء (المجددينات)، وهذا ليس بجمع، إنما يقال: (المجددين)، فقال: نعوذ بالله من هؤلاء (المجددينات). فقال له سائله: وما (المجددينات؟) قال: هذا جمع مخنث سالم! فقال وصدق؛ فإن أغلب الذين يزعمون التجديد من هذا النوع. وقد التقينا بأحد هؤلاء وهو فرماوي فؤاد المضل، وقد بلغ التسعين سنة، التقينا به في سجن طره، وكان يزعم أنه يوحى إليه، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]. فهؤلاء (المجددينات) إنما يجددون البدع، فهذا يدعى يوم القيامة وعليه وزر تجديد هذه البدع والخرافات والضلالات المضافة لتوحيد الخالق، إلا من عصمه الله تبارك وتعالى، والسعيد من اتبع الكتاب والسنة.

شبهات حول نقاب المرأة

شبهات حول نقاب المرأة Q بعض الناس يسخرون من المرأة المنتقبة، ويقولون: إن المرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المنتقبة؟ A لم يقل هذا الرأي إلا رجلٌ مرذول، وهو الدكتور إسماعيل مقطور المبتدع الضال في كتابه (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) يقول: إن المرأة المتبرجة -هكذا يقول- أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة!! لماذا يا دكتور؟ يقول: لأن النقاب حرام، والمرأة تنتقب بدعوى التقرب إلى الله، بينما المتبرجة تعلم أنها على حرام، فيمكن أن تتوب من هذا الحرام يوماً ما، ولكن المرأة التي تعتقد أن النقاب فرض تتقرب إلى الله به فهل هذه ستتوب؟ كيف وهي تظن أنها بالانتقاب هذا تتقرب إلى الله؟! لذلك المرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة!! انظر إلى هذا الضلال المبين! ويطبعون كتبه رغماً عن الأزهر النائم، ونسأل الله عز وجل ألا يكون قد مات؛ وكل الخرافات تنشر، ويسب هذا الدين بدعوى حرية الرأي وإذا تكلمت يقولون: لماذا تحجر على آراء الناس؟ هل تزعم أنك أنت على الإيمان وهم على الكفر؟ لا، أنا لا أزعم هذا. إذاً: دع الناس يتكلمون، وكل شيءٍ يبيحونه بدعوى حرية الرأي، مع أن شيخ الأزهر اشتكى على صفحات الجرائد الرسمية أنه يرسل للرد على بعض أهل البدع في الجرائد ولا ينشرونه، فانظر كيف يتصرفون مع شيخ الأزهر! فسخرية الفاسق لا تعدل شيئاً: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، فإن كنت تعتقد أنك على الحق فلماذا تكون خفيف الوزن؟ كلما ألصق بعض الناس شبهة ذهبت يميناً وشمالاً، بل كن كالجبل الأشم. وهذا يذكرني بذبابة نزلت فوق نخلة -انظر: الذبابة لا وزن لها، أما النخلة فإنها راسخة- فقالت الذبابة للنخلة: أيتها النخلة استمسكي، فإني طائرةٌ عنك، فقالت لها النخلة: وهل أحسست بك نازلةً حتى أحس بك طائرة؟! يعني: نزلت وصعدت والنخلة لم تشعر بشيء أبداً، فهؤلاء لا يزنون شيئاً في الحقيقة. المهم أن تعتقد أنك على الحق المبين، كونك أنت الذي تتأرجح. انظر في نفسك! ستجد أنك غير متأكد من الحق الذي تحمله؟ بدليل أن أي شبهة تهزك، فاستوثق من الحق الذي معك.

مراتب الخوف

مراتب الخوف إن سؤال الناس منه ما هو مشروع ومنه ما هو ممنوع، فالمشروع هو ما كان فيما يقدر عليه الناس، من إغاثة ملهوف، وقضاء حاجة لمحتاج، والممنوع هو سؤال الناس ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا محرم شرعاً. وكذلك الخوف فمنه ما هو جائز، ومنه ما هو غير جائز، فالجائز هو الخوف الجِبِلِّي؛ كالخوف من سبع، أو من حاكم ظالم، أو من عدو، فهذا الخوف لا يؤاخذ صاحبه به، أما الخوف غير الجائز فهو الخوف من مخلوق مع اعتقاد أن بيده الضر والنفع، والإحياء والإماتة، وغير ذلك مما لا يكون إلا لله عز وجل.

حكم سؤال المخلوقين

حكم سؤال المخلوقين إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:15 - 16]. اعلم أيها المسترشد أن الأصل في السؤال الحرمة، وإنما أبيح السؤال للحاجة: والاستغاثة من السؤال، ومع ذلك فهي شرعت للحاجة. في الحديث الصحيح عن ثوبان رضي الله عنه، قال: جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: (من يتكفل لي بواحدةٍ أتكفل له بالجنة، فبادر وقال: أنا يا رسول الله، قال له: لا تسأل الناس شيئاً، قال الراوي: فكان ثوبان إذا سقط سوطه لا يقول لأحدٍ: ناولنيه). وفي هذا الحديث نموذج لفهم الصحابة وتلقيهم للكلام: (لا تسأل الناس شيئاً) لم يستفصل ولم يقل له: ما الذي أسأل؟ وما الذي لا أسأل، مع أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض يستغني عن السؤال أياً كان، مثال ذلك: رجلٌ غريب دخل بلداً لا يعرفه، فسأل: أين العنوان؟ فهذا من جملة السؤال، ومع ذلك فالصحابي لم يستفصل، هذا كان شأن الصحابة. ولذلك يقول الشاطبي رحمهُ الله: إن الأصل في الأدلة العموم، كان الواحد منهم إذا سمع الكلام أخذه على عمومه بلا استفصال: (لا تسأل الناس شيئاً). فعمم ثوبان رضي الله عنه معنى السؤال؛ حتى إن سوطه إذا سقط من يده وهو على الدابة لا يقول لأحدٍ: ناولنيه، وأئمة الحديث: إنما أوردوا هذا الحديث في أبواب الزكاة: أي لا تسألوا الناس أموالهم؛ لكن ثوبان أجراه على العموم. فالأصل في السؤال الحرمة؛ إنما شرع السؤال للحاجة.

أنواع السؤال وحكم كل نوع

أنواع السؤال وحكم كل نوع والسؤال على نوعين: النوع الأول: لا يَقْدر على إجابته إلا الله. والنوع الثاني: ما يقدر عليه العباد. فالنوع الأول: محرمٌ كله، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في وصيةٍ جامعة: (يا غلام: إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله). إذا سألت سؤالاً لا يقدر على كشفه إلا الله فلا تسأل فيه غير الله: وإلا فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. فهناك مواضع يسأل المرء فيها، ويستغيث ويستجير، وهناك مواضع لا يحل له أن يفعل ذلك، قال عز وجل: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]، فهذا النوع محرم لا يحل لأحدٍ أن يدعو غير الله. أما الاستغاثة فيما يقدر عليه الناس فهذه جائزة، ومنها: حديث أنس الذي رواه الشيخان في صحيحيهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب فقال: يا رسول الله: هلك الزرع والضرع ونفقت الماشية فادعُ الله أن يسقينا، قال: أنس وكانت السماء مثل الزجاجة ما فيها قزعة -أي ليس فيها سحابةٌ واحدة- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء) ولا يجوز للخطيب أن يرفع كلتا يديه على المنبر إذا دعا لحديث مسلم الذي رواه عن عمارة بن رويبة رضي الله عنه: أنه رأى أحد خلفاء بني أمية يرفع كلتا يديه على المنبر: فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، إنما كان يشير بالسبابة)، هذه السبابة، إنما قيل لها سبابة؛ لأنهم إذا سبوا الرجلَ كانوا يشيرون إليه بها؛ لذلك سميت سبابة، وكانت العرب إذا شتم الواحد منهم الآخر كان يشير إليه بأصبعه وهو يسب، فهذه الإصبع سميت سبابة لذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفعها إشارةً إلى التوحيد، (فرفع إصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا). وفي رواية أخرى قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. قال أنس: فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمطر يتحدر من على لحيته، قال: وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة أو قال: سبتاً) أي: أسبوعاً. فسؤال المطر -إنزال المطر- لا يقدر عليه إلا الله، فلا يحل لأحدٍ أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا هو. والنوع الثاني منه مثلاً: حديث أبي هريرة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره فرسٌ له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره شاةٌ لها ثغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئاً). ففي هذه الآية: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، دليل على وجوب نصرة المظلوم، وأن من ظُلم فطلب الإغاثة، فيجب على الإنسان أن يغيثه بقدر استطاعته؛ لأن هذا أيضاً خاضع للاستطاعة والقدرة. فلما وكزه موسى عليه السلام فقضى عليه: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، وليس في هذا دليلٌ على تبرؤ العبد من الفعل، ليس في هذا نفيٌ للأسباب، كما ذهب إليه بعض المبتدعة، قال: هذا من عمل الشيطان، فنفى كسب العبد وهذا لا يجوز. فمثلاً: لو أن رجلاً زرع (حشيشاً) مثلاً أو (أفيون) فقُبض عليه، فقال: أنا ما زرعت، إن الله قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64]، إن الله هو الذي زرع. فلا يُقبل منه هذا القول أبداً! لماذا؟ لأنه نفى كسب نفسه. إنما قال موسى عليه السلام: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]: إشارة إلى أنه الذي يأمر بالفحشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]. ومثله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من نفسٍ تُقْتَل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فما من نفسٍ تقتل ظلماً إلا حمل ابن آدم الأول جزءاًَ من هذه التبعة، مع أنه لم يباشر القتل بنفسه، لكنه هو الذي سن القتل. ومثله وأوضح منه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنةً حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). ومثله أيضاً: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يوشك أن يأتي على الناس زمان فيقول أحدهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضل بترك فريضةٍ أنزلها الله: ألا -وهذا هو الشاهد- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ورجم أبو بكر ورجمتُ) مع أننا لا نعلم في خبرٍ من الأخبار قط: أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر الرجم بنفسه، لم يباشر الرجم بنفسه ولا أبو بكر ولا عمر، ومع ذلك يقول: رجم رسول الله، ورجم أبو بكر، كما لو قال الرئيس مثلاً: أنا الذي قاتلتُ وأنا الذي انتصرتُ، مع أنه ما باشر القتال بنفسه؛ لكن أمر بذلك، فيُعْزى ذلك للرأس الآمر الحاض على ذلك، ولذلك: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]؛ لا أنه نفى كسب نفسه في المسألة، وإلا لِمَ استغفر إذَنْ؟! إذا كان هذا من عمل الشيطان وهو لم يعمل شيئاً فلِمَ استغفر؟! ولِمَ {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]؟ ما قال ذلك إلا لأنه باشر، فليس في قوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15] نفيٌ للأسباب. ثم وصف الشيطان بوصفين يتكرران في سائر القرآن: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15] أي: عمله الإضلال، وعداوته بينة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:16 - 17]. وهذا من حق المنعم، أن لا تكون ظهيراً للمجرمين عليك. يا لَضيعة الوفاء عند اللئام! يأكلون من خيره وينيبون إلى غيره! وهذا ليس من الوفاء. فهذا موسى عليه السلام يحكي الله عنه: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، أي: بسبب نعمتك عليّ لا أتولى الذين ظلموا.

إثبات وقوع الخوف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

إثبات وقوع الخوف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

خوف داود عليه السلام

خوف داود عليه السلام كذلك داوُد عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ} [ص:21 - 22] داوُد عليه السلام في محرابه وحده، الباب مغلق، والنافذة مغلقة، فجأة يجد واحداً يقفز عليه من السقف، من الذي لا يخاف! هذا خوف جبلي وطبيعي لا يؤاخذ المرء به ولا يقدح في إيمانه.

الخوف يحمل صاحبه على التصرف بعنف

الخوف يحمل صاحبه على التصرف بعنف وقد يحمل هذا الخوفُ المرءَ على أن يتصرف بعنف، كما حدث لموسى عليه السلام أيضاً كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بينما موسى عليه السلام جالسٌ في داره إذ قال له ملك الموت: أجب ربك، ففقأ عينه، فصعد ملك الموت إلى الله، وقال: يا رب: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره؛ ثم قال له: اذهب إلى عبدي فقل له: ضع يدك على متن ثورٍ فلك بكل شعرةٍ مستها يداك سنة، فقال موسى: أي رب ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن). فموسى عليه السلام في دارهِ الباب مغلق والنافذة مغلقة، فجأة وجد رجلاً في البيت، من أين دخل هذا الرجل، وهذا الرجل دخل صائلاً، والصائل هو الذي يهجم على الناس في البيوت أو يهجم على الناس عموماً، فموسى وجد رجلاً يصول عليه، ويقول له: أجب ربك، أجب ربك، معناها: سلم روحك: يعني يريد أن يقتله: فما كان من موسى عليه السلام إلا أن دفع هذا الصائل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى الأمر إلى قتل الصائل، فهو جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون أهله وماله فهو شهيد). فما كان من موسى عليه السلام إلا أن فقأ عينه، وهذا حد الذي ينظر في بيوت الناس بغير إذن فضلاً عن أن يدخل بقدميه، للحديث الذي رواه الشيخان: (أن النبي صلى عليه وسلم رأى رجلاً ينظر إليه وهو في بعض حجر نسائه وبيده مشقص -المقص أو آلة حادة-، فقال عليه الصلاة والسلام: لو أدركتك لطعنتُ بها في عينيك ولا دية لك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) فإذا دخل البصر فلا إذن، إذا جاء رجل ونظر إليك من النافذة وبعد ذ لك طرق النافذة ما معنى هذا الكلام؟! إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فموسى عليه السلام فعل مع هذا الرجل الحد الشرعي أنه فقأ عينه. وكان ملك الموت عليه السلام نزل بصورةٍ لم يعهدها موسى قبل ذلك ولم يعرفها، لذلك فقأ عينه، فلما رد الله بصره إليه، ونزل إلى موسى في الصورة التي يعرفها موسى لم يفقأ عينه هذه المرة، ولكن قال: (ربّ، ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن). فشيء طبيعي أن يفزع داود عليه السلام لما تسور عليه رجلان المحراب فزع منهما، قالا: لا تخف، فهذا خوفٌ جِبِلي لا إشكال فيه، وهكذا. إنما قلت هذا وأطلت فيه قليلاً لأن من الناس من ظن أن مطلق الخوف يقدح في التوحيد، واحتج بآيات منها قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، قال: فالخوف من غير الله يقدح في التوحيد، فنقول: هذا الإطلاق خطأ، بل الخوف الجبلي الذي يلازم المرء، كالخوف من المرض، والخوف من القتل، والخوف من الأذى، والخوف من الحاكم الظالم فهذا شيء جبلي لا يؤاخذ المرء به، لا سيما إذا كان هذا الذي يخاف منه هو في العادة قبيح، فخاف المرء أن يلابسه فهذا أيضاً لا شيء فيه.

خوف النبي صلى الله عليه وسلم

خوف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي عليه الصلاة والسلام قال له ربنا تبارك وتعالى كما في قصةِ زيد بن حارثة {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. فهل يُقدح في النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك؟ هذا خوفٌ طبيعي: رجلٌ تطلق زوجة ابنه بالتبني ويتزوجها: هذا لم يفعله أحدٌ من العرب، ولا في أيام الجاهلية، فكيف يفعله النبيل الذي يقبس الناس النبل منه، فاستعظم هذا بينه وبين نفسه، وقال في نفسه: ماذا يقول الناس إذا طُلِّقتْ زوجة ابنه فتزوجها، فيقول له ربه تبارك وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. فالخوف من الله عز وجل له رسم، والخوف الجبلي لا يدخل فيه بحال كما سنذكر شيئاً من ذلك إن شاء الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

خوف زكريا عليه السلام

خوف زكريا عليه السلام الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناءُ الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وقبل أن أتكلم عن هذه الجزئية الأخيرة: أنبه أيضاً على نموذج آخر من الخوف وقع بعض المفسرين في خطأ تأويله، وهو خوف زكريا عليه السلام، قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:2 - 6]. فهذا نوعٌ من الخوف، وهو خوفٌ على الديانة وليس خوفاً على المال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأن هذا يضل العالمين، فخوف زكريا عليه السلام خوفٌ على الدِّين. قال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] كان زكريا عليه السلام يقوم على خدمة الهيكل، ولم يكن له عقب، فخاف إذا مات ألا يكون من نسله من يقوم على عبادة الله وخدمة الهيكل؛ لذلك تمنى على الله عز وجل أن يرزقه ولداً ليرث هذه المهنة. : {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5]، لم يخف على المال؛ لأن الميت إذا مات وخلف الدنيا وراءه يستوي عنده كل شيء، احذر أن تكون متصوراً أنك إذا مت وأكل الناس حقوق الورثة أنك تشعر بذلك أو تتألم؟ لا. لا سيما إذا علمت قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) وكانت الحكمة أن أهل أي نبي لا يرثون النبي حتى لا يشغب أهل الدنيا، ويقولون: ورَّثوا الدنيا لأبنائهم فقطع الله عز وجل هذه العلاقة، وهذا يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر) رجل أبوه نصراني معه ملايين: أسلم الولد ومات أبوه في الغد يحرم الله عز وجل عليه أن يرث (مِلِّيماً) من هذه التركة، حتى يكون إسلامه لله خالصاً؛ لذلك قطع العلائق بين أهل الشرك وأهل التوحيد حتى يخلص جناب التوحيد من هذه الشوائب. فلما قال زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي} [مريم:6]، والأنبياء لم يورثوا مالاً، إنما ورثوا العلم. قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، هذا الذي يورثه الأنبياء، كلمة التوحيد. فالذي قال من أهل العلم: إن زكريا عليه السلام قصد المال، وقال: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث)، عام يراد الخصوص هذا خطأ في التأويل؛ إنما خاف زكريا عليه السلام أن لا يقوم أحد بخدمة الهيكل.

خوف موسى عليه السلام

خوف موسى عليه السلام اعلم أنه لما قتل موسى عليه السلام الرجل القبطي وصفه ربنا تبارك وتعالى فقال: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18]. قلت قبل ذلك مجمَلاً: إن موسى عليه السلام هو أكثر الأنبياء ترَدَّد على لسانه ذِكرُ الخوف، ولقد استمر هذا الخوف معه في مراحل حياته، فتأمل: - لما قَتَل: أصبح خائفاً يترقب. - فلما علموا أنه القاتل وأتمروا على قتله: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21]. - ومضى خائفاً طيلة الطريق إلى أن ورد مدين، فلما نزل على العبد الصالح وقص عليه القصص قال له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. - فلما قضى الحجج التي هي أبعد الأجلين ورجع، فبينما هو راجع مع امرأته إذ رأى ناراً، فذهب ليقبس من النار شعلةً يستدفئ بها، حينئذٍ ناداه ربه تبارك وتعالى وقال له: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]. فباشر الخوف أيضاً. - ولما أمره ربه تبارك وتعالى أن يذهب إلى فرعون وأمره هو وأخاه، وإنما طلب موسى النصرة من الله بأخيه فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34]. - فأمره الله عز وجل وأخاه أن يذهبا إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:44 - 46]. - ولما جاء إلى فرعون وحصلت بينهم مناظرة وجاء وقت المعجزة، وألقي السحرة حبالهم وعصيهم، فلما رأى موسى من شدة سحرهم أن الحبال تسعى قال عز وجل يصف حال موسى عليه السلام: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:67 - 68].

خوف إبراهيم عليه السلام

خوف إبراهيم عليه السلام وقد وقع هذا الخوف من جماعة من الأنبياء، منهم مثلاً إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:69 - 70] لما رأى أيدهم لا تصل إليه نكرهم، لماذا؟ لأنه خاف منهم. أيُّ رجل كريم: إذا نزل عليه ضيفٌ فلم يأكل طعامه اغتم، وهذا يكون في العادة، كما لو ألقيت السلام على رجل فأبى أن يرد عليك السلام فلك الحق أن تخاف؛ لأن رد السلام معناه إعطاء الأمان، فإذا لم يرد عليك السلام فاعلم أنه قد نوى غدراً، فإذا أبى الضيف أن يأكل فكأنما خاف من طعامك، ولذلك كان من شعار الكرماء: أنهم يبادرون إلى الأكل من الطعام قبل أن يأكل الضيف، فإذا رأى الضيفُ صاحبَ الطعام أكل فإنه يطمئن ويعلم أنه ليس فيه سم وليس فيه غدر إلخ. فلما رأى أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] ثم يستمر سياق الآيات: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:71 - 74] تأمل هنا! {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74]، {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] هذا سبب له خوفاً ورعباً. فلما علم أنهم ملائكة الله، وأنهم جاءوا إلى قوم لوط قال: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71]، قال بعض المفسرين: إن معنى ضحكت: أي حاضت، وهذا صحيح من جهة اللغة في كلام العرب يقال: ضحكت الأرنب: أي حاضت، وهذا له وجهٌ، حاضت لأنها كانت امرأة آيسة من الحمل، والحيضُ علامة الحمل، وعلامة أن المرأة لا تزال صالحةً للحمل، فإذا انقطع حيضها يئست: وامرأته قائمةٌ فحاضت: وهذا الحيض يدل على أنها لا تزال صالحة للحمل أصلحها الله. لكن أقول: إن السياق يأباها لقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:73]، فهو ضحك تعجب، وينبغي أن يُحمل اللفظ على معناه الذي وضع له، ولا ينقل إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة هنا، فيحمل الضحك عل حقيقته في الآية. قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] هذا الخوف الذي تقدم بعد ذلك يقول تعالى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} [هود:74]. اعلم أن المرء لا يجادل في الخير إلا إذا كان ذا نفسٍ طيبة، وكان عنده من الهدوء والسلام النفسي ما يحمله على تطويل النفَس في الجدال، وجرِّب لو أن رجلاً نشزت عليه امرأته وعذبته العذاب الأليم، وفضحته وهو لا يستطيع أن يتركها لعلةٍ من العلل: رضي بالذل المقيم لعلةٍِ؛ إما لأن عليه مؤخر صداق عالٍ ولا يستطيع أن يدفعه، وإما لأن أهل المرأة أقوياء فسيناله الأذى، وإما لأن له منها أولاداً فلا يستطيع أن يتركها، لأي علة من العلل أقام على الذل، فإذا جاءه جاءٍ يشتكي إليه امرأته قائلاً: يا فلان إني جئت أستشيرك في امرأتي هي كذا وكذا وكذا وكذا، وأريد أن أطلق، يقول: له: يا أخي! فلتطلق، لماذا ساكت وصابر حتى الآن؟ لماذا لا تطلق؟ طلق، لماذا أرشده إلى الطلاق؛ لأنه اكتوى بهذا الذل الذي يكتوي به من جاء يستشيره، تأمل في الآية: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] انتهى: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} [هود:74] لم يجادل قبل ذلك وهو في الروع، لماذا؟ لأنه ليس لديه الاستعداد لمثل هذا الجدال بسبب الخوف، لكن بعد ذهاب الخوف فإنك ترى المرء يأمر بالبر والإحسان إذا كان عنده من السلام النفسي ما يجعله يتحمل هذه التوسعة. فهذا الخوف من إبراهيم عليه السلام خوفٌ جبلي لا شيء فيه على الإطلاق.

خوف يعقوب عليه السلام

خوف يعقوب عليه السلام كذلك خاف يعقوب: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13]. في بعض الإسرائيليات التي في كتب التفسير: إن الله عز وجل قال ليعقوب: (خفت الذئب على ابنك ولم تنظر إلي لأحرمنك منه أربعين سنة)!! هذه الإسرائيليات كلها لا خطام لها ولا زمام، إذاً الخوف الطبيعي الجبلي لا يؤاخذ المرء به: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13].

الخوف من الله عز وجل مكانته وثمرته

الخوف من الله عز وجل مكانته وثمرته ثم نرجع إلى ما كنا فيه: اعلم أن الخوف من الله من المقامات العلية التي لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال؛ أما الفجرة، فلا يخافون، قال تعالى عن بعض هؤلاء الفجرة: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]؛ لأن المفروض إذا كان الخوف واقعاً ممن يقدر على إيقاع العقوبة به فينبغي أن يخاف وإلا فهو جريء: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، وهذا أدعى لإيقاع العقوبة بهم، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]. يعني لو أنه عند نزول المصيبة ونزول العقوبة تضرع وتذلل وكف عن المعاصي لكان خيراً له، ويقول: أنا تبت وأنبت، ارفع عني! لا. بل إن العقوبة تنزل وهو فاتح لصدره. فلذلك حقت عليه العقوبة وألا يرفعها الله عنه، قال تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وكان ينبغي أن يستكين ويتضرع في موضع البلاء. فالخوف من الله من المقامات العلية، وهو سببٌ لدخول الجنة، كما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (كان رجلٌ ممن كان قبلكم) وقد ورد في حديث عقبة بن عامر وأظن أيضاً في حديث ابن مسعود: (أن الرجل كان يعمل نباشاً للقبور)، تُدفن الجثة، فينبش القبر ويأخذ الكفن، ويترك الميت عارياً، (كان رجلٌ ممن كان قبلكم أسرف على نفسه -والإسراف هو الإكثار من الذنوب- فلما أدركته الوفاة جمع أولاده فقال: أي بني كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت خير أبٍ قال -وهذا في بعض الروايات-: فلا أعطيكم شيئاً من مالي إلا إذا نفذتم وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ شديد الريح، -وفي رواية قال:- اجعلوا نصفاً في البحر ونصفاً في البر، قالوا: لم يا أبانا؟ قال: إن الله لو قدر عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات ونفذوا وصيته، أمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ وأمر البر أن يرد ما أخذ، ثم قال له: كن، فاستوى بشراً، قال: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: رب مخافتك، قال الله: أما وقد خفتني فقد غفرت لك). مع أنه لما فعل ذلك أراد أن يعجِّز الله! وبالغ في التعجيز بأن قال: (أحرقوني ثم اسحقوني ثم دقوني ثم ذروني في يومٍ عاصف) كل هذا يظن أن الله لا يقدر على جمع جزئياته إذا تناثرت، فظن أنه يريد أن يعجز القدرة، إلا أنه في حال غلبة الخوف فقد اتزانه وتفكيره، فظن أنه بذلك يفر من ربه، فعلم الله صدق خوفه وإن كان أحمقاً في تصرفه، فلما علم صدق مخافته منه قال: (أما وقد خفتني فقد غفرت لك)

مقام الله عز وجل معناه وخصائصه

مقام الله عز وجل معناه وخصائصه وقد تكرر ذكر مقام الله في القرآن ثلاث مرات: قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14]. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. فمقام الله: يعني قيامه ومراقبته للناس، كقوله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، أي يراقبها: و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]، أي خاف قيامي عليه ومراقبتي له: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14]. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، إذاً: هذه مراقبة. ثم اعلم أن هناك خصيصة في الخوف وهي الخشية. والخشية أخف من الخوف؛ لأن الخشية عبارة عن خوف بعلم، هذه هي الخشية، ولذلك فهي أخف من مجرد الخوف؛ لذلك اختصت الخشية بالعلماء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. فالخشية: إنما هي خوف بعلم، بخلاف مطلق الخوف، فإن مطلق الخوف قد يحمل المرءَ على أن يرتكب الخطأ. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

حديث عمر بن الخطاب في مراتب الدين

حديث عمر بن الخطاب في مراتب الدين إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام مسلم رحمه الله حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر، وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاستلقفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب).

ترجمة ليحيى بن يعمر

ترجمة ليحيى بن يعمر وقبل أن أشرح الحديث أذكر ترجمة عن يحيى بن يعمر لأنني ما عرفت به، يحيى بن يعمر تابعي أدرك ابن عمر وابن عباس -والرواية هنا عن ابن عمر - وهو أول من نقط المصحف، وكان المصحف قبل ذلك يكتب بدون نقط، فهو الذي وضع النقاط على المصحف بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان رجلاً فصيحاً يستظهر كتاب الله عز وجل. ويذكر أبو سعيد الشيرازي في كتاب أخبار النحويين البصريين أن الحجاج بن يوسف -وأنتم تعرفون أن الحجاج بن يوسف كان رجلاً غاية في البلاغة ووحشي الألفاظ وغريبها- مرة قال لـ يحيى بن يعمر: (هل وقفت لي على لحنٍ قط؟ فقال له: إن الأمير لا يلحن)، وهي إجابة لطيفة ذكية، فلم يقل له: أنت لا تلحن، ولكن قال له: إن الأمير لا يلحن، أمير الأمراء المحترم المؤدب لا يلحن، لماذا؟ لأنه كان من العيب أن يخطئ الأمير في الكلام. وليس كأمراء آخر الزمان لا يقيمون لفظاً، لماذا؟ لأنهم لم يتأدبوا، ولكن وصلوا إلى الكراسي قفزة، بينما في القديم كان يربى الولد على سياسة الملك، فأولاد عبد الملك بن مروان كلهم: الوليد وهشام وسليمان كان يأتي لهم بكبار علماء اللغة ليعلموهم اللغة، وعلماء الحديث ليعلموهم الحديث، وعلماء الفقه ليعلموهم الفقه، ويشب الولد من صغره على الآداب، فإذا جلس في مجلس لا يجلس (كالأطرش في الزفة). وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان هو الذي يقضي بين أهل العلم إذا اختلفوا، وكان الأمراء قديماً علماء وأدباء، وكان عندهم دراسة وفطنة، ففي إحدى المرات قال المأمون لشخص: (ما تأمر من السواك؟ -يعني: إذا أحببت أن تقول لرجل أن يستاك فما تقول له؟ - قال: استك يا أمير المؤمنين! قال: بئس ما قلت! فقال لآخر: وأنت ما تقول؟ قال: سُك يا أمير المؤمنين! قال: أحسنت) مع أن قول الأول غير مدفوع عن الصواب من جهة في اللغة، لكن هذا الرجل عنده ذوق، فكانوا يورثون الأدب والفطنة والكلام للأولاد. ومرة دخل غلام على هارون الرشيد -وكان هارون يلبس خاتماً جميلاً- فقال للولد الصغير: (هل رأيت أجمل من هذا الخاتم؟ قال: نعم الإصبع التي فيه)، ولم يكن متوقعاً أن يجيب بهذه الإجابة الخطيرة، لأنه لو قال له: نعم هناك أحسن منه، فهذا غلط وعيب، وهذا الكلام لا يقال لأمير المؤمنين لأنه أحسن من يلبس، فلو قال له: نعم، الرجل الفلاني أو غيره، فهذا خطأ، ويكون هذا الولد ما تربى، وإنما قال له على البداهة: الإصبع التي فيه!! فكانوا يربونهم على الأدب وإقامة الكلام. فقال الحجاج لـ يحيى بن يعمر: (هل لحنت قط؟ قال إن الأمير لا يلحن، قال: عزمت عليك -وكانوا يعظمون عزائم الأمراء، فإذا قال الأمير: عزمت عليك فكأنه حلف بالله- فقال له: نعم، غلطة! قال: في أي؟ قال: في كتاب الله، فقال الحجاج: ذلك أشنع، وأين في كتاب الله؟ فقال: أنت تقرأ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة:24] بضم الباء في كلمة (أحبُ) والصواب (أحب)، فكان الحجاج يقرؤها هكذا، فقال له الحجاج: لا جرم! لا تسمعني ألحن أبداً، ونفاه إلى خراسان، حتى يلحن الحجاج براحته، لأنه قال له: لن تسمعني ألحن أبداً، يعني: في عمرك لن تسمع مني كلمة خطأ بعد هذا اليوم، فكونه ينفيه أسهل من أن يصلح من نفسه. فـ يحيى بن يعمر كان رجلاً يستظهر كتاب الله، وكان رجلاً عربياً سليقة، وهو أول من نقط المصاحف، فلما نفاه إلى خراسان وقعت معركة بين يزيد بن المهلب قائد الحجاج بن يوسف الثقفي وبين مجموعة، فبعث يزيد بن المهلب للحجاج تقريراً من أرض المعركة فقال له: فعلنا بعدونا كذا وكذا وظفرنا عليهم، وانتصرنا عليهم، ونحن في عرعرة الجبل وهم في حضيضه، فقال الحجاج: ما هي عرعرة؟! ما بال ابن المهلب وهذا الكلام؟ فقالو له: إن يحيى بن يعمر هناك، قال: إذاً، يعني: لا يأتي بهذا الكلام الخطير إلا رجل مثل يحيى بن يعمر، لكن يزيد بن المهلب من أين له عرعرة هذه. وهذا يذكرني بـ أبي زيد الأنصاري أحد علماء النحو الكبار، وكان أنحى هؤلاء الثلاثة، فكان أنحى من الأصمعي وأنحى من أبي عبيدة، وهذا حكم أبي سعيد الشيرازي، يقول: إن أبا زيد الأنصاري لقي أعرابياً يوماً فقال له: ما المتكفف؟ قال: المتأدب. قال: وما المتأدب؟ فغضب الأعرابي غضباً شديداً وقال: المحنبطي يا أحمق! و (المحنبطي) واضحة المعنى مثل الشمس، ولذلك قال له: يا أحمق! لأنه من المستحيل ألا تفهم (المحنبطبي) فهذه مصيبة، مع أنه كان فيه ذكاء بالنسبة لصغره، والمحنبطي: هو المنتفخ البطن، ويوصف الرجل القصير عالي البطن بأنه محنبطي. فـ يحيى بن يعمر رحمه الله كان أول من نقط المصاحف، ثم كان ممن شارك في تقسيم المصحف إلى أرباع وأحزاب وأجزاء وكان ذلك بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي.

من فوائد حديث عمر بن الخطاب

من فوائد حديث عمر بن الخطاب

لزوم لطالب لهيئة المتعلم بين يدي شيخه

لزوم لطالب لهيئة المتعلم بين يدي شيخه فهذا الرجل جاء وارتكب مخالفات: أول مخالفة: أنه ألصق ركبتيه بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية: أنه وضع يده على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام، وورد في بعض الروايات: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذي نفسه)، ولو عمل هكذا لتأدب بآداب أهل العلم، فلو أعملنا الرواية الأولى يكون قد بالغ في تعمية أمر نفسه على الصحابة، لأنه جعل نفسه أعرابياً ويريد أن يفهمهم كلهم أنه أعرابي، وأنى له أن يكون أعرابياً وهو شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر؟ المسألة واضحة تماماً، لكن أحب أن يعمل نفسه أعرابياً حتى يعمي أمره على الصحابة، وهذا على الرواية الأولى. وعلى الرواية الثانية: أنه وضع يديه على ركبتي نفسه وهذه هيئة المتعلم، إذاً هو لزم أدب طلاب العلم، ونحن نقول لإخواننا الطلبة ونحن منهم: لا يجوز لك أن تخلع (زي) التلميذ ما دمت تطلب العلم، ولا تزال تطلب العلم إن كان فيك خير إلى أن تموت، فإذا اقتنع المرء بالذي طلبه فقد بدأ في النقصان، إذاً مسألة أن تتأدب مع من تأخذ عنه العلم هذا يفيدك أكثر مما يفيد شيخك، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل. والإمام أحمد بن حنبل مع جلالته كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ولا شك أن الإمام أحمد أجل وأحفظ وأفضل من عبد الرزاق، فـ عبد الرزاق بن همام الصنعاني إمام أهل اليمن، وهو الذي أعطى اليمن الحظوة هو ومعمر بن راشد أبو عروة رحمة الله على الجميع، فكان الإمام عبد الرزاق وابن معين يجلان الإمام أحمد، وكان ابن معين من أصحابه، فكان عبد الرزاق بن همام الصنعاني يميزهما، وفي المجلس كان عبد الرزاق يقول لـ أحمد: اجلس بجانبي، فيأبى ويجلس تحت قدميه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل مع شيوخنا)، ولم ينزل مقدار أحمد ولا قدره لما تواضع لشيخه، برغم أنه أفضل من شيخه: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع وهذا كلام الشوكاني عندما قال له مشايخه: اشرح منتقى الأخبار لـ أبي البركات ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية ذرية بعضها من بعض، كان أبو البركات شيخ الحنابلة، وابنه عبد الحليم كان شيخ الحنابلة، وابنه أحمد الذي هو ابن تيمية الإمام الكبير كان شيخاً للإسلام، فـ أبو البركات له كتاب اسمه منتقى الأخبار من كلام سيد الأخيار عليه الصلاة والسلام، فشرحه الشوكاني في كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، فيقول الشوكاني: إن مشايخه ألحوا عليه -ويغيظني كثيراً أن واحداً ما زال قزماً يأخذ هذه الكلمة الكبيرة ويقول: فلما كثر إلحاح إخواني عليَّ وبرغم كثرة مشاغلي، حتى أني لا أجد الوقت الذي أحك فيه رأسي، لكن قلت: أمري إلى الله وشرحت الكتاب الفلاني، ويكون الحديث غير ذلك، لكن الكتاب ينبي عن صاحبه-، فعندما تقرأ نيل الأوطار ستعرف أن مشايخه قالوا له افعل كذا وكذا وجعلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى ثم تمثلت قول الشاعر: قد يبلغ الضالع شأو الضليع ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع يعني: أنا وإن كنت ذا عرج أمشي خلف الصف، فإن سبقت فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت فما على أعرج من حرج، فأنا فعلاً أعرج وأمشي خلفهم، فإذا سبقتهم فكم لرب الورى من فرج، وإن تخلفت عنهم فليس على الأعرج حرج، وهذا معنى كلام الشوكاني، فيقول: قد يبلغ الضالع شأو الضليع يعني: إن كنت ضالعاً وما زلت تلميذاً فقد يمن الله عز وجل علي فأبلغ شأو الضليع والكبير، فإن لم يكن كذلك فلتكن الأخرى. ويعد في جملة العاقلين المتعاقل الرفيع. مع أنه ليس بعاقل، يعني: هو متعاقل ورفيع أيضاً، فإذا قلنا: يا جماعة من العقلاء؟! قالوا: فلان، فيعدون في جملة العقلاء، فهو يقول: أنا وإن لم أصب الأولى فدخولي في جملة أهل العلم يجعلني منهم، ولو على سبيل المجاز. فلو أعملنا هذه الرواية: (وضع يديه على فخذي نفسه) فيكون قد تأدب بأدب طلاب العلم، إذاً يجب أن يلزم الطالب الأدب إلى أن يرفعه شيخه، فإذا رفعه شيخه فلا بأس أن يطيع من باب الأدب أيضاً، مثل ما كان يفعله الفضل بن دكين أبو نعيم رحمه الله مع الإمام أحمد بن حنبل ومع الإمام يحيى بن معين، فذكر ابن حبان وغيره: أن الفضل بن دكين كان إذا جلس للتحديث يجلس على دكاة -والدكاة المكان المرتفع- ويجلس أحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن شماله، فذات مرة أراد يحيى بن معين أن يختبر حفظ شيخه الفضل بن دكين، فكتب أحاديث في ورقة وخلطها بأحاديث غير الفضل، وهو يعرف أحاديث كل راوٍ، فأتى بعدد من الأحاديث في ورقة وخلط أحاديث الفضل بأحاديث رواة آخرين، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: إذا خف المجلس فناول أبا نعيم هذه الورقة وسله: هل هذا من حديثك؟ فقال أحمد بن حنبل لـ يحيى بن معين: يا أبا زكريا! الرجل حافظ لا تفعل! فقال: لابد، يعني: لازم أعمل فيه هذا المقلب، وكان يحيى بن معين جريئاً، ولذلك كانوا يخافون منه، ولما مات تقدم رجل جنازته وقال: هذه جنازة الذاب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عنده جرأة، فقال: لابد، فبعد أن خف المجلس قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطاه الورقة، فنظر فيها الفضل وارتفعت عينه، ودارت حدقته، إذاً كشف الملعوب، ما دام عمل هكذا فقد اكتشف الملعوب، ثم سكت ساعة -ولست أعني بالساعة ستين دقيقة، وإنما فترة زمنية- ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي: أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وأما هذا -يعني ابن حبنل - فآكد من أن يفعل هذا، وليس هذا إلا من عمل هذا -يعني ابن معين -، قال: ثم أخرج رجله ورفسه فألقاه من على الدرج، وقال: عليَّ تعمد!! فقام يحيى بن معين وقبل جبهته وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، فانصرف أبو نعيم مغضباً فقال له أحمد: قلت لك!! فقال يحيى: والله لرفسته أحب إليَّ من رحلتي. وهذا هو ضرب الشيوخ الذي هو مثل أكل الزبيب، لماذا؟ لأنه ظفر بحفظ الفضل، وخرج من هذه العملية كلها بمكسب كبير، وهو أن يسجل شهادته للفضل بن دكين بأنه حافظ ضابط.

غالب الأوصاف المذكورة في الأحاديث تعطي حكما شرعيا

غالب الأوصاف المذكورة في الأحاديث تعطي حكماً شرعياً قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر) والعلماء يقولون: إن الأوصاف المذكورة في الكلام يتعلق بها حكم، يعني مثلاً لو أن شخصاً أحب أن يتزوج امرأة فيسمع الذي يعقد يقول لوليها: قل: زوجتك ابنتي البكر البالغة العاقلة الرشيدة فلانة الفلانية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصداق المسمى بيننا، فبعض الناس يتصور أنها مجرد ديباجة محسوبة هكذا وانتهى الأمر، فنقول له: لا. هذه الديباجة كلها أوصاف لو اختل واحد منها فسد العقد، يعني: (زوجتك ابنتي) فلو زوجه ابنة أخيه فسد العقد، ولو زوجه ابنة جاره فسد العقد، و (ابنتي فلانة)، فلو زوجه أختها فسد العقد، ولهذا يجب تعيين اسم البنت التي ستتزوجها، فلا يصح أن تقول له: زوجتك ابنتي. وعندك عشر بنات مثلاً فتعطيه بنتاً عرجاء أو عوراء ثم يقول لك: أنت لم تعين!! لكن لو قلت: زوجتك إحدى ابنتي مثلما قال الرجل الصالح: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] لم يتم التعيين، فمن الممكن أن يزوجه أي واحدة منهما، فكذلك إذا أنت قلت: زوجتك ابنتي ولم تعين اسماً، فمن الممكن أن تعطيه أي واحدة، لكن لو قلت: فلانة وأعطيته أختها انفسخ العقد مباشرة ويأخذ المهر كله، حتى ولو دخل بها. (زوجتك ابنتي فلانة البكر) فلو كانت ثيباً انفسخ العقد، (البالغة): فإذا كانت لم تحض انفسخ العقد، (العاقلة) فإذا كانت مجنونة انفسخ العقد، (الرشيدة) كل هذه أوصاف، (على كتاب الله وسنة رسوله) فلو عقدوا على ملة وسنة موسى مثلاً أو على مذهب أي أحد انفسخ العقد أيضاً، فهذه كلها عبارة عن أوصاف، وليست ديباجة محسوبة لتزيين الكلام.

أهمية التأدب والوقار بين يدي العلماء وأهل الفضل

أهمية التأدب والوقار بين يدي العلماء وأهل الفضل وهنا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) الوصف الذي هنا كلمة (شديد) كررها عمر بن الخطاب مرتين، وهناك وصف آخر أيضاً وهو: (بياض، وسواد) فعندما يقول لك: (شديد بياض، شديد سواد) إذاً لفت نظر عمر بن الخطاب شيء مهم جداً، وهو الذي دعاهم جميعاً إلى استغراب الموقف كله، وهو أن هذا الرجل آتٍ من بيته، وإلا لو جاء من مسافة بعيدة لاتسخت ثيابه، ولتغير لون شعره، فبدلاً من أن يكون شديد السواد صار رمادياً مثلاً من التراب، وهذا يعني: أن الرجل اغتسل وخرج من بيته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فلا يوجد بينه وبين الرسول سوى مسافة قصيرة، هذا معنى: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فمن أين أتى هذا؟!! فلو كان رجلاً مدنياً من أهل الحضر لعرفناه، وانظر إلى كلمة: (لا يعرفه منا أحد) وطأ لها بذكر النكرة في مطلع الكلام، وذكر النكرة في الإثبات تفيد الإطلاق. (إذ طلع علينا رجل) فهو يوطد بكلمة (رجل) التي هي نكرة بقوله: لا يعرفه منا أحد؛ لأنهم كلهم كانوا يعرفون بعضهم في المدينة، وسمعت بعض أهل العلم من علماء المملكة يقول: إن المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي التي تحت المسجد النبوي الآن، ما عدا أهل العوالي، هذه هي المدينة كلها: عبارة عن أبيات محصورة معروفة، كل الصحابة يعرف بعضهم البعض، فعندما يأتي رجل لا يظهر عليه أثر السفر، ونظيف، ولا نعرفه، فهذا مما يدعو للعجب، والغريب أنه جاء في سمت جفاة الأعراب، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يوقرون النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغاية القصوى، وإذا رأوا رجلاً يخالف مقتضى الأدب في حضرته عليه الصلاة والسلام كانوا يزجرونه ويؤدبونه، والصحابة الذين عاشوا معه عليه الصلاة والسلام تأدبوا بأدب القرآن: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] قال أنس: (فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأل)، وإنما ذكر العاقل، لأن الأحمق أو المجنون سوف يتكلم بأي كلام فيضيع عليهم الأسئلة، ويضيع عليهم الإجابة، فلا يستفيدون شيئاً، لكن لو كان رجلاً عاقلاً رزيناً أسئلته تمس الحاجة فإنهم يستفيدون منه. فهذا الرجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وهذا أيضاً من الملفت للنظر؛ لأن الآتي من البادية ما كان يميز النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وإنما كان يسأل عنه، لماذا؟ لأنه كان يجلس وسط أصحابه، كما في حديث عند البخاري وغيره أن رجلاً وهو ضمام بن ثعلبة جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيكم محمد؟ -لا يعرفه- فقالوا: هو ذلك الرجل الأبيض المتكئ)، فلم يكن يعرفه، فلما رأى الصحابة ذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هلّا صنعنا لك منبراً؟!) حتى يجلس عليه إذا جاءته الوفود، بدلاً من أن يسألوا عنه، فيعرفوا أنه هو الجالس على المنبر، قال: (إن شئتم، فصنعوا له منبراً من يومه) فهذا جاء غريباً عن الناس وعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل مباشرة وقال: (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه وقال: يا محمد) وهذه ليست طريقة أناس تأدبوا بأدب القرآن، فدخل مباشرة ووضع ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع يده على فخذيه، يعني: على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن كان يجوز بين الأقران لكن لا يليق ولا يجوز مع أهل الفضل. وحديث المسور بن مخرمة في الصحيحين فيه أن عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية قال: فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما علم المغيرة بن شعبة أن عمه عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذهب -وهذه الرواية خارج الصحيحين- فتلثم وأتى بسيفه ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما تكلم عروة بن مسعود -مس لحية النبي صلى الله عليه وسلم بيديه- فيضربه المغيرة على يده بنعل سيفه ويقول له: أخر يدك!! فينظر ولا يعرف من الواقف، لماذا؟ لأنه ملثم، فينسى نفسه مرة أخرى ويتكلم كلمتين أو ثلاثة ويمس لحية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يضربه على يده ويقول له: أخر يدك! فينظر إليه فلا يعرفه حتى إذا كررها أكثر من مرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي أزعجني سائر اليوم؟ وقال له: سائر اليوم يعني: لم يقل هذا الوقت، فما كانوا يحتملون المكروه، أو كقول أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم!! يعني: يدعو عليه من أول اليوم إلى آخره، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة) فقال: (أي غُدَر! -أي: أيها الغادر- لا زلت أسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا أنا بالأمس؟!!) وكان المغيرة قد صحب ثلاثة عشر رجلاً من أهل الجاهلية، فشربوا الخمر فسكروا، فقام عليهم فذبحهم جميعاً وأخذ أموالهم، وهرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، وأعطاه المال بعدما حكى له الحكاية: أنهم سكروا وذبحتهم، وجئتك مباشرة أعلن إسلامي، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء إنه أخذ غدراً) فهو سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام. وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان لم يشهد بدراً، لأنه كان قد خرج مع أبيه فراراً من قريش إلى المدينة، فأمسكهم كفار قريش، وسألوهم عن وجهتهم؟ فقالوا: متوجهون إلى المدينة! فقالوا: لا ندعكم حتى تعطونا الميثاق أنكم لا تقاتلونا معهم، فأعطوهم ميثاقاً، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: عملوا فينا كذا وكذا وقالوا لنا: العهد والميثاق ألا تقاتلونا، وانظر هنا إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم لهم: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، فلذلك لم يقاتل حذيفة بن اليمان في بدر، ليس لأنه لم يكن موجوداً، ولكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) وهذه هي السياسة، وليس معناها أن تكون كل يوم بوجه، فالسياسة التي لا دين لها لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلّمها أصحابه؛ لأنها ليست هي السياسية الشرعية: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم). فالقصد أن عروة بن مسعود الثقفي لما كان يضع يده على لحية النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وإن جاز أن يكون بين الأقران لكن لا يجوز أن يكون مع أهل الوقار، ويستقبح معهم، ويستقبح مع كبار السن، يعني مثلاً: رجل مثلي إذا أراد أن يدعو شيخاً كبيراً فلا يعامله معاملة المثل حتى وإن كان فوقه في العلم، لابد أن يحترم سنه وشيبته، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحكي لي أخونا الشيخ الحبيب أبو الفرج محمد بن إسماعيل حفظه الله يقول: مرة دخلت مع شاب عمره (17) عاماً لا يزال حديث عهد بالتزام، وكان يصحبه يتعلم منه، فدخلوا بقالة، فوجد الشاب رجلاً بلغ الستين من عمره يدخن (سيجارة)، فمباشرة ذهب هذا الشاب إلى هذا الرجل ووضع يده على كتفه، وقال له: ما اسمك؟ فأخبره باسمه، ثم قال له: ما هذا الذي في يدك يا فلان؟ ألم تعلم أنها حرام؟! ارمها تحت رجلك! يقول الشيخ محمد: فاستحييت، ليس لأنه أدركه الحياء لأن الولد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لكن طريقة الأمر والنهي نفسها كانت طريقة سيئة، فمثل هذا الولد عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن منكم منفرين). فإذا وجدت رجلاً كبيراً على معصية فتلطف به أولاً ولا تزجره ولا تجترئ، فإذا رآك تحترم سنه استحى أكثر، فمسألة التوقير مسألة مطلوبة، وهناك حديث تكلم فيه بعض أهل العلم وحسنه آخرون، وهو حديث: (أنزلوا الناس منازلهم)، فالراجح ضعف هذا الحديث، لكن معناه صحيح حتى وإن لم ننسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

الأفضل للمفتي أن يجيب على المسألة مع ذكر الدليل

الأفضل للمفتي أن يجيب على المسألة مع ذكر الدليل يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (حدثني أبي عمر بن الخطاب) وفي هذا دليل على أن المرء من أهل العلم لو سئل في مسألة فالأفضل والأوقع أن يذكر دليل المسألة؛ لأن عبد الله بن عمر كان من الممكن أن يكتفي بالمسألة، فيقول له: لا. هذا القول خطأ، أو غير ذلك، لكن بادر عبد الله بن عمر إلى ذكر الدليل بغير شرح منه؛ لأن الدليل واضح، وهذا من محاسن الفتيا، على خلاف من قال: إن ذكر الدليل فيه تشويش على العامة، وهذا ما عظم الدليل حق تعظيمه، ولا قدر الدليل حق قدره، فذكر الدليل من محاسن الفتيا، حتى وإن كان العامي يسأل عن موقع الحجة من الدليل، لكن ذكر الدليل يعطي قناعة للمستمع. إذا سئلت عن مسألة فقلت: قال الله عز وجل فيها كذا وكذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا استعظم المستفتي أن يخالف هذه الأدلة إلى رأيه، بخلاف ما إذا قلت له رأيك المجرد حتى وإن كان مدعوماً بالدليل، فإن قال قائل: فلماذا نرى الأئمة المجتهدين لا يذكرون دليلاً في الفتوى؟! يعني: الأئمة المجتهدون في الفقه كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وسفيان الثوري والأوزاعي وهؤلاء العلماء، فعادة عندما نقرأ كلامهم في الكتب لا نراهم يعنون كثيراً بذكر الأدلة؟ فنقول: إن المسألة تخرج على حسب حاجة المستفتي، ونحن لم نشترط كلما سئلت عن مسألة أن تعدد عليها الأدلة، لكن كلما أتيح لك أن تذكر الدليل فبادر، فإن الأئمة كانوا يصدرون الفتاوى المجملة تبعاً لحاجة السائل، فالسائل عادة لا يريد دليلاً بل يريد الحكم في المسألة، فإذا اعترض عليه معترض بدليل يأتي له بأدلة، أو يؤول له دليله، ونحن لا يرد علينا هذا الكلام لأننا ما اشترطنا على المفتي أن يذكر دليل المسألة لكل سائل، ولكن كلما أمكنه أن يأتي بالدليل كان أوقع في نفس المستفتي، والغالب على فتاوى الصحابة أنهم كانوا يذكرون الأدلة، كما في حديث ابن عمر، لما قالوا له الشبهة رد عليهم بحديث.

العواصم من القواصم

العواصم من القواصم لقد كان الله سبحانه وتعالى يعلم نبيه عليه الصلاة والسلام كل يوم ويأمره أن يعلم أصحابه مما علمه، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني يومي هذا) وفي قوله: (مما علمني يومي هذا) إشارة وتنبيه للمرء إذا أراد أن يستوفي حكماً ما أن يأخذ بجميع النصوص ليدرأ التعارض الظاهر.

شرح حديث عياض بن حمار: (خطبنا رسول الله)

شرح حديث عياض بن حمار: (خطبنا رسول الله) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد. درسنا بعنوان: (العواصم من القواصم). وسنتعرض فيه لشرح حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، وأحمد في المسند من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فكان مما قال فيها: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، قلت: رب! إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبَرَ له الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل والشنظير: هو الفحاش).

القرآن سلاح ضد الشيطان

القرآن سلاح ضد الشيطان وبهذه النكتة ننهي الكلام عن هذا الجزء من الحديث، وهو قوله: (تقرؤه نائماً ويقظاناً): ورد في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر الصدقة -جعله حارساً على تمر الصدقة- فبينما أنا جالس في هجيع من الليل، إذ رأيت رجلاً يحمل تمراً في حجره، فأمسكته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشكا حاجة عياله، وأقسم أنه لن يعود، فتركته، فلما أصبحت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! شكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود. قال: كذبك وسيعود. فلما كانت الليلة الثانية جاء يحثو التمر، فأمسكته -وتكرر نفس الفعل، فلما أصبحت سألني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: شكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود. قال: كذبك وسيعود. وفي الليلة الثالثة جاء ليحثو التمر، فأمسكته وقلت: أما هذه المرة فلن أدعك، ولأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألا أعلمك شيئاً ينفعك وتتركني. قلت: وما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك إذا قرأتها لم يزل عليك من الله حافظاً حتى تصبح). أي: وأنت مستيقظ تذكر الله سبحانه وتعالى، وهو سلاحك ضد الشيطان، كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي أوله: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات إلى أن قال: قال يحيى لبني إسرائيل: وآمركم بذكر الله، وإن مثل ذلك -أي: مثل من يذكر الله- كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى مغارة حصينة فاحترز بها منهم، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)، فمعك سلاح، وأنت قادر على أن تهزم شيطان الجن في أول جولة، فإنه أول ما تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو قرأت عليه القرآن كله يقول لك: إنا هاهنا قاعدون، فأنت تغلب شيطان الجن من أول جولة، وهو مهزوم دائماً؛ لأنك إذا استعذت بالله منه، فر وهرب. فإذا كنت مستيقظاً تذكر ربك سبحانه وتعالى وتستغفره، وكلما رأيت شيئاً في هذا الكون ذكرت الله، فلن يقترب منك الشيطان، لكن حين تنام وتلقي سلاحك، فإن عدوك سوف يغتالك؛ لأنك قد ألقيت سلاحك؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا عندما نأتي لننام أن نقول: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك)، ما أجمل هذه الجملة! لا يمكن أن تعطي ظهرك لإنسان خائن أبداً، وحين تقول: وألجأت ظهري إليك، كأنك تقول: يا رب! لن أوتى وقد ألجأت ظهري إليك أبداً. يا رب! أنا سأنام، وقد ألقيت سلاحي، فأنت الذي ستتولى حفظي، وأنا حينما كنت مستيقظاً فإنني أذكرك ولا أفتر عن ذكرك، فقد ألجأت ظهري إليك فاحمني. وقبلها يقول: (وجهت وجهي إليك)؛ لأنه قد ينام ولن يقوم، فقد يموت، فوجهه ذاهب إلى الآخرة: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30]، وهذا ترجمة للحديث الآخر: (اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، إن أمسكت روحي فهي إليك، وإن أرسلت روحي مرة أخرى فاحمني حتى لا يغتالني عدوي. فأنت ستقرأ القرآن قبل أن تنام؛ فيكون من عاقبة القراءة أن الله تبارك وتعالى يوقف ملكاً يحرسك إلى أن تستيقظ فتقرؤه نائماً؛ أي: حال نومك، وأنت عندما تنام وتقرأ القرآن تكون قد احترزت من عدوك من الجن. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء همنا وغمنا وحزننا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

القرآنيون وبيان انحرافهم

القرآنيون وبيان انحرافهم نحن -أهل السنة- نفهم القرآن ليس كما يزعم المنتسبون إليه ممن يسمون الأشياء بغير مسمياتها. يقولون: نحن القرآنيون. وهم ينكرون السنة! يسمون الأشياء بغير اسمها، ومن المعلوم -مثلاً- أن أكثر الناس خيانة هو أمين الصندوق، ومع ذلك فإنه يسمى أمين الصندوق، والمثل يقول: (حاميها حراميها)، فقد تجد رجلاً -مثلاً- مبتدعا، ً وبدعته كفرية، ومع ذلك لقبه (محيي الدين)!! ومثل هذه يوضحه أحد الشعراء وهو يتوجع على ذهاب بلاد الأندلس، وقد ذهبت منا بإهمال الولاة والانغماس في الملذات والشهوات، وكان كل واحد من هؤلاء الأمراء يسمى (عضد الدين، ركن الدين، محيي الدين، ناصر الدين) وهم الذين ضيعوا الدين، فهذا الشاعر لما رأى هذه الألقاب الكبيرة ليست في مكانها أنشد قائلاً: ومما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يأتي انتفاخاً صورة الأسد فهؤلاء القرآنيون يقولون: نعمل بالقرآن فقط. فإذا سألتهم عن السنة قالوا: ليست من القرآن. وكذبوا؛ فإن فالذكر قرآن وسنة بإجماع أهل العلم، والمرء إذا أهمل السنة فلا بد أن يكذب على الله، ولو أخذ بالقرآن وحده فهو كاذب على الله ولا بد؛ لأننا إذا تركنا السنة جانباً سنحل ما حرم الله. فمثلاً: مسألة: هل يجوز لأحد أن يتزوج خالة امرأته أو عمة امرأته ويجمع بينهن؟ بالنص والإجماع: لا يجوز. فهل وردت هذه المسألة في آية المحرمات؟ لم ترد أليس ربنا سبحانه وتعالى بعدما ذكر المحرمات قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] وهذا كلام صريح. إذاً: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها بالنص والإجماع، فأين هي في القرآن؟ قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119] (فصل) أي: ذكر كل الجزئيات، فهل تجدون في القرآن تحريم لحوم الحمر الإنسية؟ الذين يقولون: نحن قرآنيون، وتركوا السنة بحجة أن الرواة غير معصومين، نقول لهم: هل يجوز أكل لحم الحمار؟ سيقولون: لا يجوز. فأين تحريمه من القرآن؟ مع أن الآية واضحة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119]، وهذا التفصيل غير وارد في القرآن، فأين هو؟ إذاً: هو في السنة، ولذلك قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، قالوا: الذكر: قرآن وسنة. وأما حديث: (يا معاذ! بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي ولا آلو)، فإنه حديث منكر عند أهل العلم بالحديث، البخاري، والترمذي والعقيلي وعند الدارقطني، وطائفة يصل عددهم إلى العشرة ذكرهم الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة. وحتى لو صح هذا الحديث فلابد من فهم القرآن فهماً مستقيماً، فالقرآن مع السنة على مراتب: المرتبة الأولى: القرآن والسنة مع بعض. المرتبة الثانية: ما انفردت به السنة من تأسيس الأحكام. المرتبة الثالثة: ما لم يرد في السنة وثبت بالاجتهاد. إذاً: هناك نص من القرآن يؤخذ مع السنة، فلا يصح أن ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأن السنة من تمام القرآن، وهي المبينة للقرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، مثل الآية التي نتكلم فيها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، إلا أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها، هذا تخصيص، فإذاً جاء القرآن مبيناً، والتخصيص من جملة البيان، وكقوله تعالى:: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة:173]، (الميتة) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، و (الدم) اسم جنس محلى بالألف واللام يفيد العموم، ولنفترض أنك لا تعرف شيئاً عن هذا الاشتمال أبداً، وقرأت هذه الآية: {إنما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة:173]، فستفهم أن كل أجناس الميتة يدخل ضمن هذه الآية. لأن: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي شيء يموت. إذاً: أنت لا تستطيع أن تأخذ بالقرآن فقط هنا، ولابد أن تأخذ معه بالحديث؛ لأن الحديث بيان للقرآن؛ فصار الحديث من تمام القرآن وهذا هو النوع الأول، الذي هو النوع المبيِّن لكلام الله الذي لا يستطيع أن ينتفع به المرء إلا ببيان السنة. النوع الثاني: الذي يمكن أن يتنزل عليه الكلام، أي: لم تجده في القرآن، فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالأحكام التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم ولا توجد بلفظها في القرآن، وإن كانت بفحواها في القرآن، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ما من حُكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في القرآن) لابد، وليس لازماً أن يكون بنص، أو أن تأتي آية مخصوصة في هذه االمسألة. ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه البخاري وغيره: أن امرأة سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يذكر حديث: (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والفالجة والمتفلجة، والواصلة والمستوصلة). فقالت: يا ابن مسعود! أتقول: لعن الله؟ قال: وما لي ألا ألعن من لعن الله، وهو في كتاب الله؟! فذهبت تلك المرأة إلى البيت وأخذت المصحف وقرأته من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، حتى تقف على آية لعن الله الواصلة والمستوصلة، فما وجدته، فذهبت إلى ابن مسعود وقالت: (يا ابن مسعود! لقد قرأت القرآن ما بين دفتيه -من الجلدة للجلدة- ولم أجد فيه ما تقول. فقال: لئن قرأتيه لقد وجدتيه. قالت: قرأته. قال: أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهذا مما آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم). إذاً: الإمام الشافعي أثبت هذا الكلام على مثل هذه الأحاديث، فما من حكم للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ويرجع للقرآن نصاً، أو لآيات إيجاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن حين نأتي لنفهم قوله: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، لا نتصور أن الكتاب مقصود به القرآن فقط، بل القرآن وبيانه؛ إذ لا يُنتفع بالمجمل عادةً إلا إذا جاء البيان، ولأن الإشكال إنما يقع في باب الإجمال، فإذا كان النص مجملاً بلا بيان فقد تفهم شيئاً والآخر يفهم شيئاً آخر، فإذا بين زال الاختلاف. (

قوله: (وأنزلت عليك كتابا)

قوله: (وأنزلت عليك كتاباً) إذا كان الله سبحانه وتعالى وضعك في هذا البلاء وهذه المعركة، فقد جعل لك سلاحاً فقال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، هو هذا سلاحه: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً) (، فهو منهج حياة، وما معنى قوله: (لا يغسله الماء)؟ فلو كتب القرآن وغسل بماء فإن الحبر يذهب، فما معنى (لا يغسله الماء؟) إن إزالة النجاسات تكون بالماء خصوصاً دون سائر المائعات شرعاً وعرفاً. فلو وقعت النجاسة في ثوب وتريد أن تزيلها، فلو غسلتها بحليب أو بزيت أو بسمن فإنها لا تذهب، فالنجاسة لا تذهب إلا بالماء شرعاً وعرفاً. وكذلك القرآن، فمعنى: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، أي: مثلما أن الماء يغسل النجاسات فالقرآن كذلك، لكن النجاسة التي يغسلها القرآن نجاسة الشرك ونجاسة الذنب، وكلمة (لا يغسله الماء) أي: لا يستطيع أحد أن يزيد فيه حرفاً ولا كلمة، ولو فعل ذلك فسترى آلاف الصبية من سائر الدنيا يردون عليه. يذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان: أن رجلاً نصرانياً ورد على أمير المؤمنين المأمون، فلما علم أنه نصراني دعاه إلى الإسلام، فقال له: أسلم وسأعطيك كذا وكذا فقال: هو ديني ودين آبائي، لا أتركه أبداً. وانفض المجلس، فلما كانت السنة التي بعدها جاء هذا الرجل مسلماً فقيهاً، ودخل وعليه ملابس العلماء، فلما رآه المأمون شبه عليه، فقال: ألست فلاناً؟! قال: بلى. فقال له: ما خبرك؟ قال: بعدما فارقت مجلسك عمدت إلى التوراة وكتبت ثلاث نسخ فأخرت وقدمت، وزدت فيها وأنقصت، وأعطيتها للأحبار فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ بخط جميل، وزدت فيه وأنقصت، وأعطيتها للرهبان، فقبلوها وأجزلوا لي العطاء، قال: وكتبت ثلاث نسخ من المصحف -القرآن- وزدت فيه وأنقصت فردوه علي؛ فعلمت أن هذا الدين حق، فأسلمت. فلا يستطيع أحد أن يغير فيه ولو حرفاً واحداً، وهذا مسيلمة الكذاب -حتى كلمة (الكذاب) صارت مرتبطة باسمه دائماً، لما أراد أن يؤلف قرآناً ضحك منه الناس، ويقال: أن عنده سورة الضفدعة، والتي قال فيها: (نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون) انظر إلى هذا الكلام! وعلى شبكة الإنترنت تجد الكثير من هذا، فهل يظن هؤلاء الأوغاد أنهم يستطيعون أن يمسوا جناب القرآن؟! خابوا وخسروا فربنا سبحانه وتعالى يقول:: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، (عزيز) أي: منيع، والإنسان العزيز هو الذي لا يستطيع أن يقرب منه؛ لأنه عزيز، كما قال قريط بن أنيف أبياته في قبيلة مازن، وأنهم قوم لا يستطيع أحد قط أن يعتدي على رجل ينتسب إليهم أبداً، فهذا الرجل كان معه جملان أو ثلاثة، فمر شخص قاطع طريق فأخذها وذهب، فحزن لهذا جداً، فذهب يستنفر جماعته وقبيلته فلم يقم معه أحد، فكلهم جبناء؛ فأنشد أبياتاً في غاية الروعة، وهذه الأبيات هي التي افتتح بها أبو تمام ديوان الحماسة، يقول: لَوْ كُنْتِ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا أي: لا يهربون، بل يفرحون باللقاء. لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لا يطلبون دليلاً على دعواه. ولَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا إذاً: قبيلة مازن متصفة بالعزة، ولا أحد يستطيع أنه يصل إليها هذا هو معنى العزة. فالقرآن منيع {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، بل بلغ من عزة هذا الكتاب أن يفارق صدر من أهمله، فالذي يتركه ولا يقرؤه لا يظل في صدره أبداً؛ لأنه عزيز. فمثلاً: شخص يزورك وأنت تقطب في وجه، وتؤخر عنه الغداء، وتغضب عليه. فلا يمكن -إن كان عزيزاً- أن يزورك مرة أخرى، بل لو أحس أن شيئاً من الإهمال -ولو كان يسيراً- يصدر منك، فلن يدخل بيتك أبداً، وأي إنسان عزيز فإن هذا هو تصرفه. والقرآن هكذا، إذا ما قمت وقعدت، وسهرت، وسألت الناس: كيف أحفظ القرآن وأحافظ عليه؟ فإنه يتركك ويذهب؛ لأنه عزيز الجانب. ولقد جعل الله عز وجل القرآن مهيمناً، كما قال سفيان بن عيينة: (عهد الله عز وجل إلى اليهود بحفظ التوراة فحرفوها، وعهد للنصارى بحفظ الإنجيل فحرفوه، فلم يعهد بالقرآن للمسلمين، إنما تولى تبارك وتعالى حفظه بنفسه). فالسلاح الشديد القوي، النفيس الماضي في معركتك مع كل الفئات هو القرآن.

قوله: (كل مال نحلته عبدا لي فهو حلال)

قوله: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال) ثم قال: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال)، هذا واضح أنه من كلام رب العالمين؛ لأن الحديث فيه كلام ينسب إلى الله تبارك وتعالى، وكلام ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويفهم من هذا أن الأصل الإباحة؛ لأنه قال: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال).

قوله: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)

قوله: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) ثم قال: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم)؛ لأن لفظة (كلهم) هنا للعموم؛ لأن لفظة (الكل) من أقوى صيغ العموم، وقوله: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) وهذا واضح في آية الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، وكما في الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لما خلق آدم مسح ظهره بيده، فاستخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأودع فيهم عقولاً، وخاطبهم في عالم الغيب: ألست بربكم؟ فقالوا جميعاً: بلى. شهدنا، فقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172]-أي: لئلا تقولوا، كي لا تقولوا- {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]) أي: أنا أشهدك الآن حتى لا تدعي أنك كنت غافلاً عن هذا يوم القيامة. ولأن العباد لا يذكرون هذا الميثاق أرسل الله عز وجل الرسل تذكر بهذا الميثاق، وجعل الثواب والعقاب منوطاً بوصول البلاغ رحمة من الله تبارك وتعالى بعباده. فيقول ربنا عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم) مع أن (كل مال نحلته عبداً حلال)، فلماذا يحرمونه؟ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] لكنهم حرموا ما أحل الله لهم، مع أن الأصل: (كل مال نحلته عبداً لي فهو حلال)، فبين لنا ربنا تبارك وتعالى أن الشياطين اجتالت هؤلاء الناس عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحل الله، وأحلت لهم ما حرم الله عليهم، وبدءوا يضعون قوانين لهذا الباطل. ولن أنسى أبداً الواقعة التي نشرت منذ سنوات: أن مستشاراً في آخر عمره أراد أن يتوب من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها في حياته، وأنه كان يحكم بغير ما أنزل الله، وأنه لابد أن يحكم بما أنزل الله، فجاءت له حالة زنا، فالمحامي ظل يؤخر في القضية حتى تقع في دائرة هذا المستشار؛ لأن هذا المستشار إذا جاءه إنسان محصن -متزوج- وزنى، فسيحكم عليه بالرجم، ويقول: حكمت المحكمة برجم فلان وفلانة. ومن المعلوم في هذه الأيام أنه لا يوجد جهة تنفيذ، فلا أحد يرجم، فالرجم -عندهم- معناه: البراءة، فلو حكم عليه بالسجن أو أي حكم آخر فسيقع عليه الحكم، لكن أن يحكم عليه بالرجم فلا يوجد من ينفذ الرجم، فستكون براءة مباشرة، ولذلك فالمحامي ظل يؤخر القضية لكي تقع في دائرة هذا المستشار حتى يقول: حكمت المحكمة عليه بالرجم، ووقع ما تمناه المحامي، ووقعت المسألة في دائرة هذا المستشار، وحكمت المحكمة عليه قتلاً بالرجم، فضجت القاعة بالتصفيق، وخرج الزاني براءة. فكيف يمحى مثل هذا الحكم ويحل محله حكم آخر: وهو أن البنت حرة التصرف في عرضها، وأن المسألة هذه مسألة مزاج، فلو أن الزوج دخل فوجد امرأته مع رجل أجنبي، وتصافوا مع بعض، تسقط الدعوى! مع أن إقامة الحد حق لله تعالى لا لأحد سواه، حتى لو تنازل الزوج، فإذا وصلت للحاكم صار إقامة الحد حق لله عز وجل، كما في حديث صفوان بن أمية في سنن النسائي وغيره. : (أنه كان نائماً ووضع عباءته تحت رأسه، فجاء سارق واستلها من تحت رأسه من غير أن يدري، وأوشك أن يفر بها، فقام صفوان وراءه فأمسكه وقبض عليه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذا الرجل استل هذه البردة من تحت رأسي، وأنا نائم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده فتفاجأ صفوان رضي الله عنه بالحكم، أتقطع يده لأجل ثلاثين درهم؟! فقال صفوان: يا رسول الله! وهبتها له. -لكي لا تقطع يده- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلا قبل أن تأتيني) أي: لِمَ لم تقل هذا الكلام بينك وبينه؟! أما وقد طالما جئت فقد انتهى الأمر، ولم يعد إقامة الحد حقاً لأحد، وإنما صار حقاً لله عز وجل، فلا يجوز إسقاطه أبداً. فعندما يأتي الزوج ويقول: أنا راضٍ عن امرأتي، وقد عفوت عنها. ويسقط الحد، مع أن الله عز وجل لم يسقطه. يقول النبي صلى الله في هذا الحديث:: (فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)، قوله تبارك وتعالى في هذا الحديث الإلهي (وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً) إشارة إلى كل حكم وضعي يخالف الشريعة، فما أنزل الله سلطاناً بهذه الأحكام أبداً.

قوله: (وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)

قوله: (وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) ثم قال في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). ذهب طائفة من علماء العربية وطائفة من علماء الأصول إلى أن (إنما) من صيغ الحصر، وهي تساوي (لا) و (إلا) في الاستثناء، مثل: لا إله إلا الله، فهنا نفيت كل الآلهة عدا الله تبارك وتعالى، فصارت الإلهية محصورة برب العالمين تبارك وتعالى، هذا هو معنى نفي الاستثناء. نقول: (إنما) تفيد الحصر على رأي طائفة كما ذكرت فقوله: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) فكأن غاية البعثة -بعثة النبي صلى الله عليه وسلم- وقوع هذا الابتلاء وهذا الاصطدام بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو تأملت حكمة الله الباهرة في وضع هذا الابتلاء لعلمت أن الله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا، وهو ناصرهم وإن كانوا قلة ما داموا معتصمين بأمره. وسنة الدفع جاءت في القرآن في موضعين، وفي الموضعين جميعاً قتال: الموضع الأول: في سورة البقرة في قصة طالوت وجالوت، وفي آخرها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، إذاً: بقاء الأصل أننا في عداء مستمر، وهذه سنة كونية لا بد أن تقع، ولو كان هناك أناس في الدنيا أهل لأن يزيلوا الخلاف لكان الصحابة أولى بذلك لكنهم ما استطاعوا، فظهرت الخوارج والشيعة، وبدعة القدر ظهرت في آخر عهد الصحابة، ومع ذلك عجز الصحابة عن أن يجعلوا الشيعة يتركون آراءهم، وهم الصحابة، الذين لديهم الحجة، ومعهم الأدلة، ومعهم الصحبة أيضاً، ومع ذلك عجزوا عن أن يزيلوا الخلاف. فهذا الاختلاف مهم جداً حتى تبقى الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]. والموضع الثاني: في سورة الحج بعد قوله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، فتأمل هذه السنة! إن الذين ينكرون أشياء من السنة، ويطعنون في صحيح البخاري في الجرائد والمجلات، ويرمون الصحابة بالكذب نقول لهم: تعالوا نأخذ جزئية إنكار الشفاعة، والتي تورط فيها الدكتور مصطفى محمود، فإنه أولاً أنكر الشفاعة العظمى، وبعد ذلك أنكر حجية السنة، ومن حكمة الله أنها تمت هكذا؛ لأنه لو أنكر السنة أولاً لما أنك عليه، لكنه فضح نفسه بإنكار الشفاعة العظمى، ثم لما جاء ينكر السنة انكشف، ومثله كمثل الذي سرق كشافاً واختبأ في حارة مظلمة! إن الذي يتعرض للرسول صلى الله عليه وسلم لا يسلم أبداً؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن رسوله، ففي سورة التحريم لم يسلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم لملعقة عسل، قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] سيحال بينكم وبين ما تريدون: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فالذين يسبونه صلى الله عليه وسلم ويتعرضون له، سيحال بينهم وبين ما يريدون؛ لأن الله عز وجل هو الذي يدافع عن نبيه. وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) وهو يتكلم عن حرمة الرسول وارتفاع جنابه عليه الصلاة والسلام، قال: حدثني كثير من الفقهاء الذين كانوا يغزون الروم بأنهم كانوا يحاصرون الحصن شهراً وشهرين أو ثلاثة أشهر، والروم في الداخل معتصمين ومعهم الزاد، فنكاد نيأس من فتح هذا الحصن، فيقعون في عرض النبي عليه الصلاة والسلام فيسبونه؛ فيفتح الحصن بعد يوم أو يومين، فقال هؤلاء العلماء: فكنا نتباشر بسب النبي عليه الصلاة والسلام مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما نسمع. فأول ما يقعون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويسبونه، نعرف أن الفتح قادم مباشرة، فالله عز وجل هو الذي يدفع عن نبيه، فتعالوا نرى سنة الدفع: من قديم الزمان ونحن نقول للناس: الأحاديث الموضوعة والمكذوبة وعلة الحديث إلخ، وما أحد يستمع، بل يقولون: هذا كله كلام أكاذيب، وكلام مصطلح حديث إلخ، فكان من لطف الله عز وجل -وهذه سنة الدفع- أن قيض الدكتور لينكر المقام المحمود -الشفاعة العظمة- حتى تصير السنة قضية، وهذا هو الذي نريده، نحن نريد أن يكون الكلام في السنة كلام كتب، نحن نريد أن تكون السنة قضية تشغل الناس كلهم، ويفكرون كيف ننصر الدين؟ وكيف ننصر رسوله؟ وهذا -بحمد الله عز وجل- أصبح جلياً واضحاً بعد هذه المحنة، فكثير من الناس رجعوا إلى دين الله عز وجل، واستجابوا -مثلاً- لتفريغ طلاب العلم، وأناس تبرعوا في منتهى الحمية، وما كنا نتصور أن يكون رد فعل الجماهير مشرفاً إلى هذا الحد!! فكان من تمام سنة الدفع أن يشتموا الصحابة حتى نذكر فضائل الصحابة، والناس يعرفون من هؤلاء الصحابة وأن ينكروا السنة حتى نعرِّف الناس كيف صنف البخاري كتابه، وأن الجماعة الذين يتكلمون في البخاري لا يصلحون أبداً لأن يزيلوا الأذى عن البخاري، لا ينفع، لكي يكف عن البخاري الذي يقول لك: إن في البخاري أحاديث مكذوبة والبخاري عبارة عن أحاديث موضوعة والبخاري أحاديثه إسرائيليات، وأضف إلى ذلك قوله: وسيحاسب الله البخاري أشد الحساب! فهذا من جملة البلاء ولكنها نعمة من الله، فإذا نظرت إلى أثرها علمت أن الله تبارك وتعالى لطيف، وأنه أرجع بهذه المحنة فئات من الشاردين عن هذا الدين أرجعهم إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وصار لهم انتماء، فالمسألة (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) هذه مسألة أصلية؛ ولذلك أناط الله عز وجل البلاء بأوليائه، فلماذا جعل أولياءه هم الذين يبتلون ويشردون لماذا؟ أليس الله تبارك وتعالى قادراً على أن ينصرهم بـ (كن)، وأن يمكن لهم؟ أليسو هم أولى الناس أن يسعدوا في الدنيا؛ لأنهم عباد الله المتقين الأخيار؟!! إن هذه الدنيا يتمتع بها الخواجة، ويتمتع بها الكافر والفاجر، وأما أهل الإيمان وأهل الدين فهم الذين يحرمون الدنيا فما هي حكمة الله في ذلك؟ حكمة الله في ذلك: أن القلب لا يحيا إلا في المحن، فهو يستمد مادة حياته من المحن، هكذا خلقه الله عز وجل، فالجوارح تستمد مادة حياتها من الراحة والدعة، أما القلب فيستمد حياته من العوارض والمحن، ولأجل هذا جعل الله تعالى البلاء من نصيب أوليائه ليلقوه عز وجل بقلوب ثابتة. وأنت في البلاء كالسابح ضد التيار، والذي يسبح ضد التيار معنى ذلك: أنه سيخرج بشيئين: قوة القلب، وقوة العضلة. ولذلك فما من محنة تمر على المرء إلا ويخرج منها أزكى، وأقوى مما كان، والمسألة تشبَّه بالكرة المطاطة، فكلما ضربت الكرة المطاطة في الأرض بعنف كلما صعدت إلى الأعلى أكثر. فجعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه لأجل هذا؛ لأن العبد في الآخرة إنما يوزن بقلبه، كما يقول ابن القيم رحمه الله: (يأتي الرجل السمين البدين ولا يزن عند الله جناح بعوضة)، برغم أنه بدين الجسم، لكن الله عز وجل لا يزن الناس بالأجسام، إنما يزن الناس بالقلوب، كما في حديث ابن مسعود أنه كان ضعيفاً نحيلاً فصعد يوماً على شجرة، فضحك الصحابة من دقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه، قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)؛ لأنه لا يوزن بجسمه عند الله تبارك وتعالى. إذاً: البلاء قرين الدعوة وقرين الالتزام، فإذا سعيت إلى ربك فأنت مبتلى ولا بد، فلا بد أن تهيئ نفسك للبلاء والحديث واضح: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

الجهل هو سبب الهجوم على السنة النبوية

الجهل هو سبب الهجوم على السنة النبوية إن سبب هذه الهجمة التترية الخطيرة على السنة هو أن الناس جهال؛ فلم يجثوا بركبهم يوماً ما بين أيدي العلماء، ولم يقرءوا كتاباً من أوله إلى آخره قط، ولذلك يهاجمون السنة هذه الهجمة التترية، ولابد أن يقف المسلمون لها، ولكن كيف يقف المسلمون لها؟ أن يفرغوا طلاب العلم، لطلب العلم والمنافحة عن الكتاب والسنة، فإذا كنت تاجراً -والله عز وجل لم يوفقك لطلب العلم- فأنت تخرج من مالك الزكاة، وأغلب طلاب العلم فقراء يستحقون الزكاة، وحتى لو كان مستوراً في الأكل والشرب، فالمراجع التي يحتاج إليها للتحضير والقراءة بالألوف المؤلفة، فهو محتاج على أي حال، فأد الزكاة إليهم. وإذا كنت تحب دينك ولا تريد أن تلقى الله خائناً، فانشغل بأمر دينك، والدفاع عنه، لا سيما في زمان الغربة. وقد يقول قائل: ماذا نعمل؟ نقول: انظر إلى طالب علم وأنت تخرج الزكاة، وقل له: أنا سأكفلك -ولا تقل له: سأعطيك زكاة مالي، فإنه لا داعي أن تخوض في هذه المسألة- وفرغ وقتك للذب عن دين الله عز وجل. فتصير بمالك فارساً من الفرسان؛ لأن أزمتنا أن الحدود مفتوحة، وأي دولة حدودها مفتوحة من السهل جداً أن تدخل إليها كل المحرمات، ولن يرد ذلك إلا حراس الحدود، ولكن أين هم؟! فالنبي عليه الصلاة والسلام حين يقول: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا)، ثم ذكر أن أهل الجنة ثلاثة وأهل النار خمسة، حتى لا يأتي شخص يحصر أهل الجنة في ثلاثة وأهل النار في خمسة فإن هذا مما علم رب العالمين رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، وكان كل يوم يعلمه، وفي هذا اليوم علمه رب العالمين تبارك وتعالى طائفة من أهل الجنة وطائفة من أهل النار.

عدالة الصحابة والرد على من طعن فيهم بحجة أنهم غير معصومين

عدالة الصحابة والرد على من طعن فيهم بحجة أنهم غير معصومين والجهلة الذين تسوروا منابر الكلام، والكتابة في الصحف، دخلوا في هذا الباب الواسع الذي آخره الكفر، وعارضوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جعل هذا الرجل اليمين جنة جعلوا الرواة جنة؛ لأنه لا يستطيع أن يُكذِّب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يستطيع أن يرد كلامه، فيكذب الصحابي. بل يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم حاشا لله أن يكذب لكن الصحابة بشر غير معصومين. وإذا كان مؤدباً فإنه يكذب الرواة، وإذا كان حقيراً ليس عنده حياء ولا أدب اتهم الصحابة كـ أبي هريرة رضي الله عنه وغيره، واتهام أبي هريرة رضي الله عنه أمر قديم يقول لك: إن أبا هريرة أسلم في عام خيبر، وهو يروي ألاف الأحاديث، وأبو بكر الصديق أول من أسلم، ومسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يعتبر أوسع مسند في الإسلام ليس فيه لـ أبي بكر إلا قرابة اثنين وثمانين حديثاً، و: أبو بكر الصديق ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم من يوم أسلم في ليل أو نهار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر)، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يفارقه إلا إذا دخل غرفة نومه، فكيف يروي هذا اثنين وثمانين حديثاً وأبو هريرة الذي أسلم متأخراً يروي آلاف الأحاديث؟! فإن عدد أحاديث أبي هريرة تقارب خمسة آلاف حديث. فبدءوا يطعنون في أبي هريرة، وكل حديث يرويه راو لا يتفق مع أصولهم يقولون: الرواة غير معصومين. أي: أنه من الممكن أن يخطئوا. وهل الصحابي معصوم أم لا؟ الصحابي غير معصوم. إذاً: غير المعصوم يغلط. هذه كلها مقدمات بدهية لا يعارضها عاقل. فإذا كان غير معصوم، فما هو الغريب في أنه يغلط؟! نحن نقول: ليس غريباً أن يغلط، لكن لابد أن يثبت غلطه، فنحن لا نناقش العصمة، ولا نقول بعصمتهم أبداً، فهم قد يخطئون، لكن لابد أن تحقق أنه غلط في هذه المسألة بعينها وتحرر موضع الغلط وتبينه.

الرد العقلي على من طعن في الصحابة بحجة أنهم غير معصومين

الرد العقلي على من طعن في الصحابة بحجة أنهم غير معصومين وهذا كقولنا: - أليس الله عز وجل على كل شيء قدير؟ - نعم. الله على كل شيءٍ قدير. - وهل هو قادر -مثلاً- على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس أم غير قادر؟ - نعم. هو قادر. - وهل هو قادر على أن يجعل في كل رأس مائة ألف فم؟ - نعم. قادر. - وهل هو قادر على أن يجعل في كل فم مائة ألف لسان؟ - نعم. قادر. - وهل هو قادر على أن يجعل كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ - نعم. قادر. - لكن هل حصل هذا؟! - لم يحصل. فهو قادر على كل شيء، لكن مثل هذا لم يحصل، وهذا هو الموضوع. فنحن لا ننازع الآن في مسألة: أن الصحابي يغلط أو لا يغلط، فهو ليس بمعصوم، لكن نحن نناقش ونقول: هل أخطأ الصحابي في هذا الموضع أم لا؟ هذه هي المسألة. إن العقل خياله واسع، ويتخيل كل شيء، لكن هل ما يتخيله العقل موجود في الواقع أم لا؟ لو فتحنا باب التجويزات العقلية لضاعت الدنيا قبل الدين، ودائماً تضرب الأمثال بمثل هذا. مثلاً: نحن نقول: هل هناك امرأة في الدنيا الآن -في دنيا الناس الآن- معصومة من الزنا، مهما كانت عفيفة وشريفة؟ توجد امرأة معصومة، لأنك لو قلت: بل هناك امرأة معصومة، فنقول لك: هات دليل العصمة، ودليل العصمة لابد أن يكون شيئاً مقطوعاً به: أن المرأة الفلانية معصومة من الزنا، أي: أنه مستحيل أن تزني. إذاً: نقول: لا يوجد امرأة معصومة من الزنا. افترض أنت -يا أيها المعترض، الذي تزعم أنك تفكر بعقلك- أن لديك خمسة أولاد، فهل تستطيع أن تثبت لي أن هذا الولد هو ابنك؟ ألا يمكن أن تكون هذه المرأة أخطأت مرة وأتت بهذا الولد من شخص آخر أم أن هذا مستحيل؟ عقلاً: ممكن، فأنا أقول: إنه لا يوجد امرأة معصومة من الزنا، فمن الجائز أن المرأة تغلط غلطة فتكون غلطة العمر، وما غلطت غيرها، ولكن هذه الغلطة أتت بولد. فأنت الآن تنسب الأولاد بمنتهى التبجح وراحة القلب لماذا وامرأتك ليست معصومة من الزنا؟! امرأة ولدت ولداً لثمانية أشهر، فقالوا: لابد أن تضعه شهراً في الحضانة، فأدخلته المستشفى، وهناك في المستشفى مائة ولد، ولم تعرف شكله ولا أي صفة له. وبعد شهر جاءت لتأخذ ولدها، فذهبت الممرضة وأتت بولد غير ابنك، فهل من الممكن أن تغلط أم لا يمكن؟ أم أنها معصومة من الغلط؟ قد تغلط؛ بدليل أنها إذا أحضرت لك ولداً ليس ولدك، وقالت: خذ ابنك. فإنك تأخذه منها ولا تشك إطلاقاً أن الولد هذا ربما لا يكون ابنك أبداً، بل بالعكس؛ لو جاء إنسان فيما بعد وقال لك: إن هذا الولد ليس ابنك؛ لربما قتلته مباشرة، فكيف يتكلم هذا الكلام ويطعن في الأنساب إلخ؟ مع أن العقل يجوز أن هذه المسائل كلها تقع. ومع ذلك تقف سداً منيعاً دون هذه المسائل بالذات! وأحدهم ينكر أحاديث الشفاعة، وكتب مقالاً بعنوان (وما هم بخارجين من النار)، وبعدما كتبه دخل المستشفى ليعمل العملية، وكان قد كتب في المقال أنه ذاهب ليعمل عملية، وقال له الدكتور: كذا، وكذا، إلخ، أليس الدكتور هذا ربما يغلط؟ فقد يقول: لابد من عملية جراحية. ثم يظهر أنه غلطان، والمسألة بسيطة جداً. فهل قال للدكتور: إنك لست معصوماً وقد تغلط، فاجمع لي دكاترة المستشفى كلهم حتى يتخذوا قراراً بأنني أحتاج إلى عملية أم لا؟! لماذا لم يفعل هذا؟! ونحن لو اعترضناه وقلنا له: كيف تسلم أعضاء جسمك للدكتور الذي ربما يغلط؟!! إنهم ينسون أحياناً الفوط وغيرها في بطن المريض، فكيف تسلم نفسك لواحد قد يغلط ويفتح بطنك، لماذا سلمت له بمنتهى الطمأنينة؟ لأنه من وجهة نظرك رجل متخصص ومحترم، له ثلاثون سنة في المهنة، ولا يخطئ إلخ، فلماذا رواة الحديث فقط هم الذين تخونهم وكلما سمعت شيئاً عنهم تقول: إنهم غير معصومين، بينما تأتي إلى كل شخص في مجاله وتعتبر كلمته نهائية؟! وقد قرأت ملخصاً لكتاب نشر باللغة الإنجليزية بعنوان: (غزو الفضاء أكذوبة) مؤلفه رائد فضاء مكسيكي يعمل في محطة الفضاء الأمريكية يقول: إن حكاية وصولنا إلى القمر أكذوبة كبرى، وخدعة أمريكية مثل السينما بالضبط، ولقد آن لي أن أعترف بهذا. وذكر حقائق خطيرة. فنحن لو تكلمنا ستجد من يقول: هل تفهم شيئاً في الفضاء؟ افترض أن هذا عميل للموساد أو لغيره وكتب هذا الكتاب، وأنت لا تعرفه، وقد أكون أنا وأنت لا نعرف شيئاً عن الفضاء، ومع ذلك تجد الواحد منا ينافح أشد المنافحة أنهم صعدوا إلى الفضاء. والرجل قد ذكر حقائق الله أعلم بها، ويقول: إن الوصول إلى القمر من المستحيل، فإن هناك مساحة بيننا وبين القمر درجة الحرارة فيها تبلغ أربعة ألف درجة مئوية، ومن المستحيل أن إنساناً يستطيع أن يقترب منها؛ لأنه يذوب ويصير ماء مباشرة، ومما قال: ولم أنس أنهم لما دعوا الجمهور لكي يروا الصاروخ وهو يدفع مركبة الفضاء، فصعدنا وموهنا لهم كما في السينما، ونزلنا من الباب الثاني على الاستراحة، والجماهير لا تعلم أن هذه المركبة سقطت في المحيط. فلما يظهر شخص مثل هذا ويتكلم، فقد يقول البعض: هذا الكلام صحيح؛ لأن هذا الرجل متخصص، وله أكثر من أربعين أو خمسين سنة يعمل معهم. إذاً: مسألة القول بأن الصحابي معصوم أو غير معصوم، هذه مسألة خارجة عن النقاش، ومن المسلم به أنه غير معصوم، لكن لابد أن نأتي على الجزئيات: فهل هو أخطأ في هذا أم لا؟ فلا بد من تحقق أنه أخطأ أو لم يخطئ، ولا بد من الرجوع إلى القواعد التي وضعها أهل كل علم. فيأتي الواحد منهم فيأخذ حديثاً واحداً ولا ينظر إلى الأحاديث الأخرى في الباب، ويخرج لنا برأي عجيب لم يقل به أحد من العلماء؛ بسبب أنه أخذ حديثاً واحداً وترك بقية الأحاديث في الباب، فإن العلماء أكثروا من قول: (مطلق، ومقيد)، و (خاص وعام)، و (مجمل ومبين)، و (ناسخ ومنسوخ)، فالإنسان لابد أن يراعي هذه الأشياء، وإلا وقع عنده تناقض بين الأدلة. والرجل الذي كتب قديماً أن القرآن لم يحدد يوم عرفة، أخطأ؛ لأنه لم يأخذ بجميع الأحاديث، فقال: لماذا نضيق على المسلمين ونجعل يوم عرفة يوم التاسع من ذي الحجة؟ إن ربنا سبحانه وتعالى يقول في القرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، والله سبحانه وتعالى يقول:: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فإذا كان الله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأكد أن هذه هي أشهر الحج، فبدلاً من أن نذهب عند الجمرات ونزدحم ونقتل بعضنا، وكذا في طواف الإفاضة، لماذا لا نبسط المسألة: فنجعل جنوب شرق آسيا يحجون من واحد إلى عشرة شوال، وبعد ذلك أصحاب حوض البحر المتوسط مثلاً من اليوم الثالث عشر إلى الثامن عشر، وهكذا قسم الأيام والشهور، -شهور الحج- على المناطق، وجاء بهذا القول. فجاء آخر ونسج على منواله، وقال: ما المانع أن نعمل سكة متحركة حول الكعبة بدلاً من أن يتزاحم الناس، فيركب الذي يريد الطواف على السكة وخلال دقيقة ونصف تنهي سبعة أشواط ما المانع من ذلك؟ هل هناك دليل يقول بعدم جواز ذلك؟ وقد كُتبت مقالة في الأسبوع الماضي مفادها: أن في البخاري حديثاً مكذوباً بل أحاديث كثيرة، ولابد للناس الذين يفهمون أن ينقحوها حتى يحفظوا للناس العقائد!! وما هو الحديث المكذوب؟ قال: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام في حجر أم حرام)، وقال: كيف يكون هذا الكلام؟ وكيف يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة أجنبية؟ وكيف يضع رأسه في حجرها؟ وهذا كله بناء على سؤال امرأة من الزوار -السواح- عن هذا الحديث، وأن فيه مشكلة، وكيف يضع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في حجر امرأة؟ فقال لها هذا العالم: أم حرام كانت خالته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وحل الإشكال. لكن صاحب المقال أبى أن يسلم أنها خالته من الرضاعة، والمفروض أن يحضر نسب المرأة ونسب النبي صلى الله عليه وسلم وينظر أكانت أختها هي التي أرضعته أم لا؟ ويبحث في المسألة. لكنه يقول: إن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن المحرمات في سورة النساء، وبعد أن عدد المحرمات، قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، ولم يذكر في المحرمات: (وخالاتكم من الرضاعة)، فقالوا: ماذا كان سيحصل لو أن الله زاد هاتين الكلمتين؟! فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). ثم من أين يتطرق إلى الحديث وهو بأصح الأسانيد؟ وعندما نقول: إن الحديث موضوع. لابد أن نذكر جهة وضعه. ومن قال: أنه موضوع. فمن وضعه وكذبه؟ لابد أن يجتهد ويقول: فلان هو السبب، أما أن يقال: حديث موضوع، وأي إنسان في الدنيا يستطيع أن يدعي هذه الدعوى بلا برهان. وابن عبد البر -الإمام العلم المفرد- لما ذكر هذا الحديث تكلم بكلام أهل العلم، وقال: (إن بعض الناس قال: إن هذه خالته من الرضاعة، وبعض الناس قال بغير ذلك، ثم قال: وسواء كان هذا أو هذا فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل ما حرم الله)، وذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري إلى أن دعوى الخصوصية في الحديث قوية، وأن هذا الحديث يحمل على أنه من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه كان يملك إربه صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لا تعرف الخيانة إليه سبيلاً. وسأذكر موقفاً حتى نعلم خلق الرسول عليه الصلاة والسلام: ورد في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدَّث وهو جالس مع بعض أصحابه وفيهم عمر فقال: (دخلت الجنة البارحة -يعني في المنام- فرأيت قصراً وعليه جارية تتوضأ، فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر. قال: فلما ذكرت غيرتك يا عمر وليت مدبراً، فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أعليك أغار؟!). فانظر إليه وإلى وفائه لأصحابه، حتى وهو نائم! دخل الجنة فلما رأى جارية عمر، وهو يعرف أن عمر بن الخطاب يغار؛ أعرض، وقال: (وليت مدبراً) فبكى عمر

قوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم)

قوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم) هذا جزء من خطبته صلى الله عليه وسلم التي حفظها لنا الإمام مسلم في صحيحه وبقية من ذكرتهم، وابتدأها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا)، هذه التوطئة لها دلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث: (وأهل الجنة ثلاثة وأهل النار خمسة). فهل أهل الجنة محصورون في هؤلاء الثلاثة، أو أهل النار محصورون في هؤلاء الخمسة؟ لا. لكن هذه الأصناف علمها رب العالمين لنبيه في يومه هذا، وليس المقصود أنهم هؤلاء بالحرف بطبيعة الحال، فإن الذين يدخلون الجنة كثيرون جداً، وكذلك الذين يدخلون النار أيضاً هم أصناف كثيرة جداً. فقوله صلى الله عليه وسلم: (مما علمني في يومي هذا): يبين لنا أن المرء إذا أراد أن يستوفي حكماً ما؛ فلا بد عليه أن ينظر إلى أطراف الموضوع كله، مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) وكل الناس يقولونها، فمن أخذ بهذا الحديث وحده حكم على الله عز وجل بأنه قال شيئاً لم يقله رب العزة تبارك وتعالى؛ لأن القول في ذاته لا قيمة له ما لم يصحبه عمل، إلا أن يكون هناك نص يبين أن مجرد القول له فائدة، فلا بد أن نرجع في النهاية إلى النصوص. وفي خصوص هذه الكلمة (من قال: لا إله إلا الله)، هذه تنفعه يوماً من الدهر، كما في الأحاديث الصحيحة: (من قال: لا إله إلا الله؛ نفعته يوماً من دهره)، حتى لو دخل النار وعذِّب وقضى فيها أحقاباً، فإنه ينتفع بها، لكن الإيمان المنجي لا يكفي فيه النطق بالكلمة. لأجل هذا لا بد -لكي نفهم هذا الحديث- أن نأخذ الأحاديث الأخرى حتى نخرج بالحكم الشرعي الصحيح، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء. وكذلك في باب الوعيد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة الذي أخرجه مسلم، قال: (من حلف على يمين صبر ليقتطع بها حق امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان) وفي رواية: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: يا رسول الله! وإن شيئاً يسيراً -حلف على شيء تافه-؟ قال: وإن قضيباً من أراك)، يعني: ولو عود سواك، فلو سرق هذا السواك أو ما يشابهه في القيمة فحلف عليه أنه لم يأخذه؛ أدخله الله النار وحرم عليه الجنة. إذاً: لو أن رجلاً أخذ قضيباً من أراك وحلف عليه فإن عمله هذا ذنب؛ لكن الخوارج يكفرون الناس بالمعاصي ويحكمون عليهم بدخول النار والخلود فيها بهذا الحديث؛ لأن الحديث صريح بعدم خروجه من النار -حسب زعمهم- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)، فإذا أخذ هذا الحديث وحده دخل في دائرة تكفير الناس وانضم لقول الخوارج، مع أن هذه معصية، ومعروف أن المعاصي يتاب منها، والكفر أعظم من المعصية، ولو تاب المرء من الكفر تاب الله عليه. فلا يصح أن نأخذ الحكم النهائي من نص واحد. وهذا الحديث عظّم أكل حقوق الناس، ومن يتخذ اليمين جنة يتحصن بها ليأكل حقوق الناس فإنه ينتظره هذا الجزاء، فأنت حين تأخذ هذا الحديث مع بقية الأحاديث والآيات، وأن كل وعيد في القرآن يقع ما لم يتب المرء، وكل وعيد في القرآن يتخلف بالتوبة، كما وعد الله تبارك وتعالى في الحديث الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وعد الله عبداً فإنه منجزٌ له ما وعد، وإذا أوعد فهو بالخيار: إما أن يعذبه، وإما أن يغفر له) وهذا هو مقتضى الكرم، ففي الوعد لا يخلف أبداً، وفي الوعيد قد يخلف؛ لأن الخلف في الوعيد كرم، والخلف في الوعد لؤم. فربنا تبارك وتعالى أوفى الأوفياء، إذا أراد فإنه يوفي، وإذا أوعد -أي: هدد- فقد يتخلف وعيده تبارك وتعالى. فالقصد: أن الإنسان إذا أراد أن يحيط بقضية فلا بد أن يجمع لها أطراف النصوص.

قصة كعب بن مالك

قصة كعب بن مالك الهجر من الأحكام المشروعة في هذا الدين، ففيه تطبيق لمبدأ الولاء والبراء، وفي مشروعيته ردع للعاصي والمبتدع، ومن شرع لنا هجرهم حتى يعودوا إلى جادة الصواب ويتركوا ما بسببه هجروا. وفي قصة كعب بن مالك وصاحبيه الدروس الكافية التي نعرف منها صور هذا الهجر وكيفيته وبعض أحكامه، وكيف امتثل الصحابة رضي الله عنهم أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.

الهجر بين المشروع والممنوع

الهجر بين المشروع والممنوع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فهذا الحديث صحيح الدلالة في عدم جواز هجر المسلم أخاه فوق ثلاث. وقد جاء في حديث كعب بن مالك: (أن المسلمين هجروهم خمسين ليلة) والتوفيق بين حديث كعب وبين هذا الحديث: أن الهجر إذا كان لسبب شرعي يجوز أن يستمر إلى مدة طويلة أما إذا كان الخصام على شيء دنيوي فلا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام. هذا هو التوفيق بين الحديثين، والتفصيل القادم سيوضح المسألة أكثر. قلنا: إن الهجر إذا كان لسبب شرعي فيجوز أن يطول، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب ورفيقيه؛ لأنهم تخلفوا عن الجهاد، والجهاد آنذاك كان فرض عين لا يحل لمسلم أن يتخلف عنه، ولا يسقط إلا بعذر، كما هو شأن سائر الواجبات، فلا تسقط الواجبات إلا بعذر مانع. ويجب على كل من يستطيع الجهاد أن ينفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ارتكبوا شيئاً محرماً، والرسول صلى الله عليه وسلم إمعاناً منه في تأديبهم هجرهم خمسين ليلة. وأيضاً السيدة زينب رضي الله عنها كان معها أكثر من راحلة فعطب بعير صفية رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زينب: (أعطيها بعيراً من عندك تركبه، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية! فهجرها أربعين ليلة) وهذا هجر فوق ثلاثة أيام. فالهجر للدين يستمر إلى أن يقلع المهجور عن الشيء الذي من أجله هجرته. فلا يلتبس في الأمر، والهجر بسبب الدنيا ثلاثة أيام فقط. ويحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من هجر أخاه سنة فكأنما سفك دمه) على الهجر الدنيوي، وليس الهجر الشرعي، أي: إذا كان لا يحل له أن يزيد عن ثلاثة أيام فزاد إلى سنة على شيء دنيوي تافه اختلف مع أخيه فيه، فكأنما سفك دمه، وهذا تعظيم للهجر بغير مسوغ.

الفرق بين هجر أهل البدع وهجر أهل المعاصي

الفرق بين هجر أهل البدع وهجر أهل المعاصي إذاً: هجر أهل المعاصي مشروع، وهجر أهل البدع آكد في الشرع من هجر أهل المعاصي؛ لأن المبتدع شر من العاصي، وأهل المعاصي أفضل من المبتدعة، والأفضلية هذه لا يتصور منها مشروعية الفعل، لا. وهذا يشبه قول الدارقطني في أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، لما سئل عنه وعن بقية أصحابه قال: (أعور بين عميان) فهذا ذم، ولكن عن طريق المدح، فالمقصود: إن كلاهما شر ولكن هذا أخف في الشر، وهذا هو المقصود. لماذا؟ لأن أي إنسان يرتكب المعصية يعلم أنها معصية، ومهما كابر وأظهر أن هذه ليست معصية، فهو من قرارة نفسه يعلم أنها معصية، كيف لا، وقد فطر على التمييز بين الحلال والحرام! وقد ذكر بعض العلماء -وهو يتكلم عن هذه المسألة ويشرح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) - أنه مهما ادعى إنسان أنه لا يدري فهو كاذب؛ لأن الرسول قال: (بين) ومتى يعذر الإنسان؟ إذا دخلت المسألة في الشبهات، والتبست عليه ولا يدرى أهي حلال أم حرام، كما في المثل المشهور الذي تعرفونه: وهو أنك إذا وضعت للقط قطعة لحم أكلها بجوارك، أما إذا خطفها فإنه يفر. فلماذا يفر إذا خطفها؟ لأنه يعلم أنه خاطف سارق، إذاً: أي إنسان مهما كابر فهو يعلم أنه على معصية، بخلاف المبتدع، فإنه يرى أنه على صواب، ويرى أن البدعة هذه هي من الدين، وأنه يتقرب إلى الله بها، فعندما تقول له: اترك ما أنت عليه من البدعة، يقول لك: لن أترك ديني، ويأبى. لذلك قال علماؤنا كـ سفيان الثوري وغيره: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها. كان هناك ولد حاضراً في درس فسمع الفتوى ما هو حكم الشرع فيما يفعله بعض المسلمين بين التراويح من قراءة (قل هو الله أحد) ثلاث مرات؟ فقلت: هذه بدعة، وأتيت بالأدلة على أنها بدعة، فهو ذهب وبلغ ذلك لأبيه -والرجل رأس البدعة في بلده، وهو الذي يتزعم هذا- فلم يتمالك نفسه وجاء في موعد الدرس القادم، وقال: أنت أفتيت ابني بكذا وكذا؟ قلت: نعم، قال: قراءة القرآن بدعة؟ ما الذي جرى؟ هل: ارتكبت حراماً؟ فقلت له: وهذا الكلام الذي سأقوله، لو أنك حفظته وألقيته على أي مبتدع لألزمته الحجة بكلامه هو، إما أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاته شيء من الخير، وإما أنه صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، هذا بعد أن تستنطقه على ما يفعل، وتقول له: أعندك دليل صحيح يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؟ إما أن يقول: نعم، وحينئذ يقال له: إن كنت مدعياً فالدليل، أو ناقلاً فالصحة. نريد دليلاً صحيحاً، وهو: لا يستطيع أن يأتي به أبداً، وإما أن يقول: لا، فلو قال: لا فحينئذ تقول له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك الشيء فإما من اثنتين: إما أن يكون خيراً فات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يقول لك: حاشا رسول الله من ذلك! أو أنه قصر في البلاغ، وهذه لا يقولها أبداً. ثم بعد ذلك تسأله هل الذي أنت تفعله الآن خير أم شر؟ فإذا قال: خير، فقد أقر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته هذا الخير، وإذا قال: شر فحسبه شهادة على نفسه أنه يفعل الشر، وإذا قال: لا أدري، فهناك جواب آخر، تقريعي وهو: كيف تفعل شيئاً وتتقرب به إلى الله، وليس عندك عن صاحب الشرع منه برهان؟!! فلن يستطيع حينئذ الرد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نعبد الله إلا ببرهان، ولذلك قال العلماء في القاعدة المتفق عليها بينهم: (الأصل في العبادات المنع حتى يرد دليل بالإذن، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل في التحريم)؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] والعبادات على العكس؛ لأنك لا تدري مالذي يحب الله وما الذي يكرهه، وربما تتقرب إلى الله بما يبغضه وأنت لا تدري، وقد قال الله تبارك وتعالى لطائفة من الصحابة: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فأنت لا تدري ما الذي يحبه ربك أو الذي يبغضه، ونافذتك على معرفة هذا هو الوحي. فلا تتقدم بين يدي الله ورسوله بفعل شيء أو بقول شيء إلا ببرهان. فلما جاء هذا الرجل فقال: لماذا قراءة (قل هو الله أحد) بدعة؟ وهي تعدل ثلث القرآن، فكيف آثم بقراءتها ثلث القرآن؟! فقلت له: ما رأيك إذا عطست أنت الآن فقلت: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ ما رأيك؟ قال: لا. قلت: لماذا؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله)، أو (الحمد لله على كل حال)، فقلت: والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستحبة؟ وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فما المانع أن تفعل شيئاً مستحباً؟ فقال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقلها، قلت: هذا عين الجواب، وأنا أمهلك شهرين حتى تأتيني بدليل ولو ضعيف في هذه الجزئية، فقال الرجل، وهنا الشاهد: (أنا لي ستون سنة مغفلاً)، وهذه هي المشكلة، فاستصعب أن يسلِّم بأنه مغفل، ولو أنه سلم أنه جاهل لأجر؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة! إن كنت أذنبت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه) لا بد أن تعترف، وما المانع؟ فكل إنسان فينا جاهل في جزئية أو أكثر، ونحن جميعاً نموت ونحن مدينون بالجهل، وما هناك إنسان قط مات وقد عرف كل شيء في الشرع، فضلاً عن الدنيا، فلماذا الحرج؟!! إن الصحابة كانوا يعترفون ويقولون: (كنا ضلالاً فما عرفنا الهدى من الضلالة حتى جاءنا الرسول صلى الله عليه وسلم)، فالرجل لم يسلم بذلك وهذه هي مشكلة المبتدع، لا يسلِّم لظهور الحق بجلاء، لذلك قتل الجعد بن درهم على بدعته الشنعاء وصبر على القتل ولم يرجع، لما قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وهذا مضاد لصريح القرآن، وقد جيء به واستتيب، فلم يرجع، فحبسوه حتى جاء عيد الأضحى، وخطب الوالي آنذاك خالد بن عبد الله القسري وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، وشكر علماء المسلمين ذلك له، أنه ذبح هذا الضال. وإذا كان الله سبحانه وتعالى رخص للإنسان أن يقول كلمة الكفر لينجو بحياته، فقال تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] فالذي عليه اللعنة والغضب، هو الذي شرح صدره بالكفر، ولكن إذا رأيت أنك ستقتل فتكلم بكلمة الكفر طالما أن قلبك مستقر ومطمئن بالإيمان، فإذا كان الإنسان رخص له أن يستنقذ حياته من القتل بأن يتكلم بكلمة الكفر، فكيف بهذا المبتدع لم ينقذ حياته، وكان يمكن أن يقول: أنا تبت إلى الله؟ وربما من الداخل يبطن الكفر الصريح، ويستنقذ حياته بإظهار الإسلام، فيصير دمه وماله وعرضه مصوناً بإظهار كلمة الإسلام، والجعد لما رأى أنه سيقتل يقيناً، لماذا لم يقل أنا تبت؟ لأنه يعتقد أن البدعة دينه، وقد ناظره علماء المسلمين الثقات الجهابذة الكبار، ومع ذلك لم يرجع، بينما العاصي يمكن أن يرجع ويتوب. مرة كنت أخطب الجمعة في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الرجم ورد في السنة، وهناك آية في نزلت القرآن قبل ذلك ثم نسخت ورفعت، كما هو معروف من الأحاديث الصحيحة، وذكرت أن حد الزاني المحصن أنه يرجم بالحجارة، ويحفر له حفرة في الأرض حتى لا يفر ثم يرجم حتى الموت، فهذا هو حد الزاني المحصن الذي تزوج ثم زنى بعدما تزوج. وبعد الخطبة والدرس بينما أنا خارج من المسجد وجدت رجلاً كبير السن عمره يقارب السبعين عاماً وكان يرتعد، فقلت: هذا الرجل كبير وأعصابه تعبانة فبالتالي هو يرتعد، وكان كذلك، فانتحى بي جانباً وسألني، قال: أنا رجل عشت عمري وأنا أزني، وأول مرة أسمع هذا الكلام، وعندما سمعته كنت أريد أن أخرج من المسجد، لأنك تقول بأنه يرجم، قال: فذهبت إلى البيت، ولكني لم أستطع الجلوس، ولا الأكل ولا الشرب، فرجعت مرة أخرى ماشياً، فقال: هل لي من توبة؟ فالمعصية معروفة لأي عبد في الدنيا أنها معصية، لذا يستحيل أن تكون حلالاً عنده، ولا يستطيع أن يكابر بخلاف البدعة.

من أنواع الهجر

من أنواع الهجر فإذا كان أهل المعاصي يشرع لك أن تهجرهم فمن باب أولى أهل البدع، لكن الهجر تكتنفه الأحكام الشرعية الخمسة، الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة، التحريم.

الهجر المحرم

الهجر المحرم نقول: إن كل نصوص الشرع جاءت بتحصيل أكبر قدر من المصالح، وتقليل المفاسد ما أمكن، فإذا افترضنا أن هناك رجلاً مبتدعاً في بلد ما، وهذا الرجل له سلطان ومسموع الكلمة، وأنت مع عدد قليل من أهل السنة في هذا البلد، فإذا جهرت بتبديعه نفاكم أو أعدمكم أو أنزل بكم سوء العذاب إلى آخره، حينئذ لا تتكلم عليه، ولا تنبه علناً على سوء بدعته، وحصل مقصودك من جانب آخر. إذاً الهجر الذي قد يحرم هو الهجر الذي يترتب عليه ضرر جسيم أو ضرر على غالب الظن يكون أعظم بكثير من المصلحة اللازمة للتحذير من بدعة هذا المبتدع.

الهجر القلبي

الهجر القلبي لكن أدلك على نوع من الهجر لا يكون فيه ذلك الضرر، وتحصَّل مقصود الشارع بالهجر، وهو هجر القلب، فلا تتولاه، ولا تنبسط له، ولا تعنه على شيء واعتزله، فهذا الهجر لا يكلفك شيئاً، ويكون واجباً، ولو أننا هجرنا أهل البدع هجراً قلبياً وكذلك أهل المعاصي لقلَّ العصاة وقلَّ المبتدعة وذلوا. ونحن بكل أسف لا نهجرهم هجر القلب، مع أنه لا خطورة من هجر القلب، وإبراهيم عليه السلام هجر قومه وهو يمشي بين ظهرانيهم قال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4] فتبرأ منهم وهو بين ظهرانيهم، وليس بالضرورة أن تخرج منهم، وإن خرجت فنعمَّا فعلت، ولكن إن لم تستطع أن تخرج يبقى هجر القلب، الذي هو الولاء والبراء، فتتولى المؤمنين وتتبرأ من الفاجرين الكافرين المبتدعين الظالمين.

الإشارة والهجر

الإشارة والهجر الصحابة رضوان الله عليهم عندما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكلام مع كعب وصاحبيه انتهوا جميعاً، فإن قال قائل: في نفس حديث كعب بن مالك، لما جاء نبطي من أهل الشام يقول: (أين كعب بن مالك؟ قال: فطفقوا يشيرون إليَّ) والإشارة هنا بمنزلة الكلام، فكيف ساغ لهم أن يشيروا إليه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم؟! فيقال: نعم إن الإشارة بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (الخالة بمنزلة الأم) فهل يستوي عقوقك لأمك مع عقوقك لخالتك؟ لا يستويان. وأنا أريد أن أجلي هذه الشبهة؛ لأنه قد يخطر ببال إنسان أن يقول: إذا كانت الإشارة بمنزلة الكلام، فكيف أشاروا إليه؟ وقد تقول: الإشارة يتحصل منها ما يتحصل من الكلام، وهو الإفهام، لأن المطلوب من الكلام هو الإفهام. فأقول: يوضح ما ذكرته أنها وإن كانت بمنزلة الكلام لكنها ليست كلاماً، أنك لو دخلت المسجد فوجدت رجلاً يصلي، فيستحب لك -إذا كانت هذه السنة معروفة في البلد، ولن تقابل بالإنكار- أن تسلم على المصلي، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهو يرد السلام عليك إشارة بصفحة اليد. فهل يستويان؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان الصحابة يسلمون عليه بعد نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] منع من الكلام في الصلاة، وكان يرفع يده ويشير إشارة، وقد كان الصحابة يتكلمون في الصلاة، قبل أن ينزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ومشهور حديث ابن مسعود عندما هاجر إلى الحبشة، وقبل أن يهاجر كانوا يتكلمون في الصلاة، فبعدما هاجر نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فلما رجع سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلم يرد عليه، قال ابن مسعود: (فركبني غم! فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته قال: يا ابن مسعود! إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة)، فالكلام الممنوع هو الذي يكون بحرف وصوت، ولا يسمى كلاماً إلا إذا كان بحرف وصوت؛ لأنه قد يكون بصوت دون حرف، فكيف إذا لم يكن بحرف ولا بصوت الذي هو الإشارة؟! فلو كانت الإشارة كلاماً لبطلت صلاة الذي يشير في أثناء الصلاة إذاً: فالصحابة لما أشاروا على كعب بن مالك، لم يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض أيضاً لقول أبي قتادة عندما قال لـ كعب: (الله ورسوله أعلم) حين نأتي على موضعه. الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أسرع الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نهى عن كلام هؤلاء الثلاثة امتثل الكل ولم يخالف أحد، ولا يتصور أحدكم أن انتهاء الصحابة كان بسبب خوفهم أن ينزل وحي فقط، حاشاهم! أن يكون الوحي أحد الأسباب الحاملة لهم على أن يلتزموا بشدة، ولكنهم كانوا إذا سمعوا قول قول النبي صلى الله عليه وسلم يتبادرونه جميعاً.

كعب بن مالك وما لاقى في أيام هجره

كعب بن مالك وما لاقى في أيام هجره قال كعب بن مالك: (أما صاحباي وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي - فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم، فكنت أمشي في الأسواق، وأخالط المسلمين، فلا يكلمني أحد) فلو قال لمسلم: السلام عليكم، فهل يجوز له أن يرد السلام، ورد السلام واجب؟ A لا. لأن كل حقوق كعب بن مالك سقطت بالهجر، فعلى المسلم الذي يهجر العاصي أو المبتدع أنه إذا سلَّم عليه أن لا يرد السلام عليه؛ لأن حقوق العاصي أو المبتدع تسقط حتى يفيء إلى الله تبارك وتعالى من العصيان أو البدعة، على الشروط التي ذكرناها قبل ذلك. قال: (فكنت أمشي في الأسواق، ولا يكلمني أحد، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين أتيت حائط أبي قتادة؛ وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إليَّ، فتسورته -أي: تسلقته- فرأيته، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام) فـ كعب يؤكد ذلك بالقسم؛ لأن الحادثة لم يشهدها أحد، فيقول: (فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ تأكيداً لالتزام أبي قتادة، فلما لم يرد عليه السلام قال: (يا أبا قتادة! ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت -فنشده الله تبارك وتعالى- أنشدك بالله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فرجع في الثالثة فنشده الله تبارك وتعالى فقال أبو قتادة: الله ورسوله أعلم) حسناً، هل هذا كلام؟ أم لا؟ نعم هذا كلام، هل خالف أبو قتادة؟ الجواب: لا. متى يكون الكلام معتبراً في الشرع وعليه الإثم؟! وأنا لا أنازع الآن أنه من جهة اللغة والاصطلاح؛ ولكن هل هو الكلام الذي منع منه المسلمون؟ لا، فالكلام الذي منعوا منه هو أن يتم تبادل ما بين أبي قتادة وما بين كعب في الحديث وأبو قتادة لما قال: (الله ورسوله أعلم) لم يقصد الرد عليه، ولا التكلم معه، وإنما علَّق محبة كعب بن مالك على علم الله ورسوله، بالرغم من أن أبا قتادة قد يكون يعلم في قرارة نفسه ومن تصرفات كعب أنه محب لله ورسوله، ولكن بعد الموقف الذي حدث لا يدري ما يحكم الله تبارك وتعالى في شأن كعب! لذلك لا يكون ذلك بمنزلة الكلام الذي نهي المسلمون عنه. قال كعب: (ففاضت عيناي -أي: بكى، عندما سمع هذا الجواب- وتوليت حتى تسورت الجدار). (قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ -النبطي هو الفلاح، وسمي نبطي؛ لأنه يستنبط الماء من باطن الأرض- قال: فطفق المسلمون يشيرون إليّ، فجاء بكتاب من ملك غسان -ملك غسان هو جبلة بن الأيهم - قال: ففتحته فإذا فيه، أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك قال كعب: فقلت: وهذا أيضاً من البلاء! فتيممت بها التنور فسجرته بها) وهذا يدل على صلابة إيمان كعب، وأنه هو لما عرض عليه أن يكفر بالله ورسوله نظير أن يتوج مرة أخرى في الدنيا أبى. حسناً: ما رأيك أنه يوجد الآن من ينتسبون إلى الإسلام يكفرون بغير عرض؟! أي: يكفر ويترك دينه ولم يحصل شيئاً من الدنيا يساوي عند أهل الدنيا ما فقده هذا الإنسان! كمن يذهبون إلى بلاد الكفر ويقدمون الخمور ولحم الخنزير في المطاعم بدعوى أنهم محتاجون إلى المال، مع أن العمل موجود هنا، ولكنه يأنف أن يعملها في بلده، ثم يعملها خارج بلده، ولو ذهب الرجل ليعمل عملاً مباحاً خارج بلده فلن نحول بينه وبين المباح، ولكن أن يقدم دينه قرباناً من أجل أن يحصل على المال، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم المثل لذلك، نحن نقول: (من أراد البحر استقل السواقي)، فانظر إلى الصحابة وإلى جلدهم وصبرهم في ذات الله تبارك وتعالى، وتركهم لحظوظ أنفسهم. فكانت هذه النقطة المشرفة في حياة كعب، فهو لما عرض عليه الكفر أبى وصبر في ذات الله تبارك وتعالى، وقال: (هذا أيضاً من البلاء)، ثم إنه لم يمزق الرسالة، وكان تمزيقها يكفي، لكنه أحرقها: (فتيممت بها التنور فسجرته بها). : (حتى إذا مرت أربعون ليلة) وقبل أن أصل لهذه النقطة قال كعب: (وكنت أدخل المسجد فأصلي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكنت أُسارقه النظر) أي: وهو يصلي والرسول صلى الله عليه وسلم جالس فينظر إليه بطرف عينه نظرة خفيفة. يقول كعب: (فكنت إذا نظرت إليه أعرض عني، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ)، لاحظ رأفة الرسول عليه الصلاة والسلام وشفقته بـ كعب. بعض الناس فهم خطأً من قول كعب: (أسارقه النظر) وأن كعباً التفت في الصلاة، فأقول: ليس معنى مسارقة النظر أنك تلتفت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الالتفات في الصلاة، وقال: (إن الله تبارك وتعالى ينصب وجهه في وجه العبد، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، وإذا أقبل على الله تبارك وتعالى أقبل الله عليه) ومعنى مسارقة النظر أي: خطف النظر، ليس معناها أنه يلتفت فهذا لا يقتضي. قال: (حتى إذا مرت أربعون ليلة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ أن اعتزل امرأتك، قلت: أطلِّقها؟) فهل فهم كعب أن كلمة (اعتزل) تعني أنه يطلق؟ لا، ليس بالضرورة أن كلمة اعتزل تعني ذلك، فكيف فهم كعب منها الطلاق؟ لأنها كانت قديماً تعتبر طلاقاً، ولذلك في حديث ابن عباس في الصحيحين، وفي أوله: (حججت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما قضى حاجته أتيته بماء فتوضأ، فقلت له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]) الحديث) فيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب النزول على الرسول صلى الله عليه وسلم هو وجار له من الأنصار، فإذا نزل عمر بن الخطاب يأتي صاحبه بخبر الوحي وغيره، وإذا نزل صاحبه فعل مثل ذلك. ففي يوم من الأيام كان الدور على الأنصاري، فجاء الأنصاري إلى بيت عمر عشاءً وطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: (أثم هو؟ -أي: أهو موجود؟ - قال عمر: فخرجت إليه فزعاً، قلت: أجاء غسان)؟ وملك غسان كان يريد أن يغزو المدينة، فالصحابة كانوا مستعدين للدفاع عن المدينة، فالطرق الشديد هذا معناه أن مصيبة كبيرة حدثت، فقال له: (أجاء غسان؟ قال: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه) والرسول عليه الصلاة والسلام لم يطلق، بل اعتزل فقط، ودخل في المشربة واعتزلهن تسعة وعشرين يوماً، فكلمة (اعتزل) كانت تعتبر طلاقاً في عرفهم، ككلمة: (الحقي بأهلك) فتبادر إلى كعب أن الاعتزال يساوي الطلاق، لذلك قال: (أفأطلقها؟) ولو قيل له: نعم لطلقها، ولما تردد لحظة في طلاقها. قال له: (لا، ولكن لا تقربها).

هلال بن أمية واستئذان امرأته النبي صلى الله عليه وسلم في خدمته

هلال بن أمية واستئذان امرأته النبي صلى الله عليه وسلم في خدمته وقد جاءت امرأة هلال بن أمية -وهلال رجل عجوز شيخ كبير- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضائع -ضائع أي: وهى عظمه- فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: نعم، ولكن لا يقربك، قالت: والله يا رسول الله! ما به من حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا). هنا يظهر أنموذج المرأة الصالحة، تقول: (هل تأذن لي أن أخدمه)؛ لأن العشرة الطويلة التي كانت بين هذا الرجل وهذه المرأة لا بد أن يكون لها رصيد، وقصص الغدر التي تحدث الآن بين الناس، عندما تقابلها بقصص الوفاء التي كانت في جيل الصحابة تندهش! ولكن يزول عجبك إذا عرفت الفرق. فالمرأة لما كانت تذل لزوجها وتصبر على الإهانة، كانت محتسبة، وتعلم أنها تؤجر، وأنا أرجو أن نقف قليلاً عند هذه المسألة لنبصِّر إخواننا وأخواتنا المتزوجين، حتى يقفوا عند حدود الشرع، فما يحدث الآن بين كثير من المسلمين والمسلمات في بيوتهم يدل على أن هؤلاء لا يعرفون شيئاً من الشرع يقفون عند حدوده، وليس المقصود جهل النص بل إنهم يعرفون النص لكنهم ليسوا وقافين عند حدوده. فامرأة هلال بن أمية عندما قالت هذا دل على أنها وفية مع زوجها مع أن هناك قصة ولا أدري هل هي المرأة المقصودة بها، أم لا؟ فإن كانت هي المقصودة بها يكون تم الذي أريد. وهي: أن هلال بن أمية الواقفي رضي الله عنه جاء مرة وقال: (يا رسول الله! رأيت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا هلال! أربعة شهود وإلا حد في ظهرك)، وذلك قبل أن تنزل آيات الملاعنة بين الرجل والمرأة وهلال ليس عنده أربعة شهود، وإنما رأى ذلك فأتى فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: (أربعة شهود أو حد في ظهرك، فلما سمع سعد بن عبادة هذا قال: أدعه معها وألتمس أربعة شهداء، والله لا أعطيه إلا السيف غير مصفِح، فقال عليه الصلاة والسلام: انظروا ما يقول سيدكم)؛ فنزلت الآيات في الملاعنة، فلو ثبت أن هذه المرأة ظلت مع هلال بن أمية الواقفي، رغم الذي حدث فانظر إلى وفائها، فكيف إذا كانت المرأة عفيفة طاهرة تحفظ زوجها، لكن يدركها ما يدرك بنات آدم من الاعوجاج والنشوز، قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء جميعاً: (يا معشر النساء! تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن، فقالت امرأة: نكفر بالله؟ قال: لا، تكفرن العشير والإحسان -العشير: أي الزوج- ولو أحسن الرجل إلى إحداكن الدهر، ثم رأت منه شيئاً لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فالمرأة هكذا، في لحظات الغضب تنسى الإحسان كله، فإذا كنت تعرف أن هذا من الاعوجاج الذي جبلت عليه بنات آدم فأحسن إلى المرأة لأنها خلقت من ضلع أعوج، وأعوج ما في الضلع أعلاه، فأنت إذا علمت هذه الحقيقة واحتسبت ما يحدث من المرأة من نشوز فإن ذلك لن يضيع عند الله تبارك وتعالى، فالمرأة كذلك يجب أن تتقي الله في زوجها. الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهن: (لعل إحداكن تطول أيمتها في بيت أبيها، فإذا رزقها الله بزوج صالح يتقي الله فيه) أي: يطول انتظارها للزوج الصالح في بيت أبيها، فإذا رزقها الله الزوج الصالح بعد ذلك تبدأ تنشز عليه وتعصه. فامرأة هلال بن أمية الواقفي أرادت أن تخدم زوجها ولا تعتزله وتتركه، فاشترط عليها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يقربها، فقالت: (والله ما به من حاجة إلى شيء) فهو يبكي أربعين يوماً لغضب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخشى أن يحبط عمله. قال: (فقال لي بعض من أهلي: ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه أيضاً) لاحظ الذين لا يتركون الناس في حالهم، فعندما قال الصدق ظلوا وراءه حتى قال: (هممت أن أرجع فأكذب نفسي)، وهم نفس الجماعة الذين قالوا له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك أيضاً). مداخلة: ألا يكون هلال بن أمية من المعذورين لكبر سنه؟ A لا؛ لأن الجهاد كان فرض عين ولا يعذر من يتخلف عن الجهاد إلا من لا يستطيع أن يجاهد، وليس بالضرورة أن كل المجاهدين يقاتلون لا، فقد يكون في الساقة، يسقي ويخدم ويداوي الجريح، والمهم أنه لم يكن به مرض أو علة تمنعه من الخروج والنفير في سبيل الله عز وجل، لذلك لم يكن ممن عذر الله، وإلا لو كان ممن عذر الله لما حصل له ما حصل، وسياق الحديث يدل على أنه خرج من هؤلاء الذين عذرهم الله تبارك وتعالى. مداخلة: هل معنى ذلك أنه كان مريضاً؟ الجواب: لا، ونحن ما نقول إنه مريض وعندما قالت امرأته: (شيخ ضائع) فلا تعني أنه مريض، لا، ومعنى ضائع: رجل كبير، وقد يكون الرجل كبير السن ولكنه صحيح، فقال كعب لما قيل له: (ألا تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال أن تخدمه؟ فقال والله لا أستأذنه، وماذا أقول له وأنا رجل شاب) يعني: لا يملك إربه كما يملك الشيخ الكبير إربه، قال كعب: (فمرت علينا خمسون ليلة، وبينا أنا أصلي على ظهر بيت من بيوتنا) واستدل بهذا بعض الناس على عدم وجوب صلاة الجماعة، بدليل: أن كعب بن مالك لم يشهد الجماعة في المسجد، وكان يصلي على ظهر بيته، ولا حجة لهم في هذا، والمسألة أمرها يطول.

كعب وفرحته بتوبة الله عليه

كعب وفرحته بتوبة الله عليه قال: (فبينا أنا أصلي الفجر على ظهر بيت من بيوتنا؛ إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته) أوفى أي: اقترب من جبل سلع، (يا كعب بن مالك! أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعلمت أنه جاء فرج) في هذا دليل على مشروعية سجود الشكر، وأن الإنسان إذا جاءه خبر سار، أو رأى ما يسره أن يخر ساجداً لله تبارك وتعالى، وهذا الموضع دليل على هذا الحكم. وأيضاً في واقعة أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قتل ذا الثدية، فلما قتل قال علي بن أبي طالب: (التمسوه فوالله ما كذبت ولا كُذِّبت، فالتمسوه فوجدوه مقتولاً بين القتلى، فخر ساجداً شكراً لله تبارك وتعالى). قال: (فعلمت أنه جاء فرج) وفي بعض الروايات الأخرى قال: (فأرسلت لي أم سلمة من يهنئني، وكانت بي بارة) أي: أن أم سلمة كانت تبر كعب بن مالك، فأول ما عرفت بنزول الوحي أرسلت رجلاً إلى كعب بن مالك يبشره، ولكن هذا الصارخ على جبل سلع كان أول من وصل إلى كعب، وفي هذا دليل على استحباب المبادرة والمسارعة إلى تبشير المسلم فهذا يدل على الحب، كوننا نتسابق أن نبشره، هذا يدل على أن هناك نوعاً من المحبة والمودة بيننا. (قال: فجاءني الرجل، وكان الصوت أسرع من الفرس) فهذا الرجل لشدة فرحته صوته كان أسرع من الفرس، وهذا يدل على مدى شفقة المسلمين وحبهم لبعضهم، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: لا يتتبعون عثرات بعض، ويعذروا بعضهم، ويلتمسون لإخوانهم العذر، كما قال الحسن البصري رحمه الله: (إذا جاءك عن أخيك ما تكرهه فقل: له عذر) جزماً وقطعاً معه عذر، (فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً) وأجل محاكمة أخيك إلى أن تلتقي به، ولكن مجرد أن تلقاه لا تتهمه أيضاً، ولا تبادر بالاتهام، لكن قل: بلغني عنك كذا وكذا وأنا استبعدته، فهل ذلك صحيح؟ فقد يقول لك: نعم هذا صحيح، وأنا تورطت فسامحني، أو يقول لك: أنا لم أقل. المهم أنه سيجلِّي لك الأمر فأنت بعد أن يحصل عندك نوع من المواجهة بينك وبينه تقيِّم خطأه، وتقول بينك وبين نفسك: كلامه مقنع أو غير مقنع، ثم تبدأ تقيِّم جرمه، ولكن أذكرك دائماً بقول من قال من سلفنا: (إن من النبل أن يكون عفوك أوسع من ذنب أخيك)، وهذا النبل إنما يحرزه كرام الناس، يقول: الشاعر: والعذر عند كرام الناس مقبول. سوء الظن تكسب به سيئات، وحسن الظن تكسب به حسنات، وسوء الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، وحسن الظن إما أن يكون في محله أو في غير محله، فإن أسأت الظن فكان في محله لم يكن لك ولا عليك، فإن لم يكن في محله أثمت، حسن الظن إن كان في محله أُجرت، وإن لم يكن في محله ازددت أجراً، فسوء الظن يدور ما بين عدم الأجر والإثم، وحسن الظن يدور ما بين الأجر وزيادته، فتعبّد الله بحسن ظنك بأخيك؛ لأن هذا نابع من المحبة الصادقة، وأولى الناس أن تجد له عذراً أخوك الذي تحبه ويحبك، وقد كان بين الصحابة قصص كثيرة جداً في هذا الباب، بعضها يستجلب دمعك ولو لم يكن في محجريك قطرة من الدمع، للصورة الباهرة التي كانت بين الصحابة رضوان الله عليهم. قال كعب: (فجاءني الرجل فهنأني، فخلعت عليه ثوبيَّ، والله ما أملك غيرهما يومئذ) وفي هذا دليل على استحباب إعطاء البشير، عندما يأتي يبشرك ببشرى شيئاً لهذه البشرى، وكعب بن مالك أعطاه كل ما يملك من الثياب آنذاك، وكانوا يلبسون إزاراً ورداءً، وهذا معنى ثوبيه، وليس معناه أنه خلع الذي عليه ودخل وأحضر الذي في الداخل، لا، فالصحابة كانوا فقراء، وكان الواحد منهم يلبس إزاراً وقد لا يكون عنده رداء، قال: (واستعرت ثوبين). وهذا يدل على أنه ليس في البيت أي ثياب أخرى.

النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بتوبة كعب

النبي صلى الله عليه وسلم وفرحه بتوبة كعب قال كعب: (ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله، فقال لي: وهو يبرق وجهه من السرور) هنا أيضاً يلتحق بنفس المعنى الأول، وكعب عبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بتعبيرين، قال: (يبرق وجهه من السرور) فشعر كعب أنه مسرورٌ له أكثر منه، فازداد له حباً، وفي الوصف الثاني في نفس الحديث قال كعب: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر) وهذا شيء يُحسد عليه الصحابة كونهم عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه بالأعين، وفي الأدب المفرد قال رجل للمقداد بن الأسود: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأحد الصحابة -وأظنه جابر بن سمرة - قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان) أي: القمر كان بدراً ليلة أربعة عشر أو خمسة عشر من الليالي القمرية قال: (فجعلت أنظر إلى البدر تارة وإلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم تارة، والله! لكان في عيني أجمل من البدر) المحب هكذا يرى كل شيء فيمن يحب جميلاً، ولا يرى في المحبوب سيئة أبداً. جاء رجل إلى الحسن البصري وكلمه بكلام لم يتوقعه الحسن، كأنه طعن في الحسن - الحسن كلامه يشبه كلام الأنبياء، ويقال في بعض الأخبار: أنه رضع من أم سلمة رضي الله عنها- فعاتب الناس الرجل، فقال الحسن (لله دره إنه أحسن إليَّ إذ لم يذكر أكثر من ذلك). فقال له: أنت لم تقل شيئاً، والذي تركت ذكره تفضلاً أعظم من الذي ذكرته، فأرجع المسألة إلى إحسان، لذلك إذا أردت أن تأسر إنساناً أحسن إليه، ولا تبادله السيئة بالسيئة أبداً، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. قال كعب: (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله، أم من عندك؟ قال: بل من عند الله)، وقد يستشكل هنا ويقال ما الفرق؟ وهل الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي بشيءٍ من عنده؟ وهو لا ينطق عن الهوى، فما الداعي للسؤال؟ ولماذا فرّق؟ قبل أن أجيب أذكر واقعة شبيهة بهذا ففي حادثة الإفك لما تكلم المرجفون في المدينة على عائشة رضي الله عنها واتهموها أنها أتت الفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي، وخاضوا في عرضها، والنبي عليه الصلاة والسلام جفاها قليلاً، وهي كانت مستشعرة بجفاء الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنها لا تدري ما السبب، بالذات وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزداد حنانه لها عندما تكون مريضة، فهي مرضت في حادثة الإفك، والناس كلهم يعرفون الخبر وهي لا تعرف شيئاً، حتى علمت عائشة رضي الله عنها بعد مضي فترة من الزمن من أم مسطح، قالت: (فازددت مرضاً على مرضي) وبعد أن علمت فهمت لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن بذاك كما عهدته، فكان يدخل عليها وأمها عندها وأبوها أبو بكر الصديق عندها ويسلم ويقول: (كيف تيكم؟) تيكم: اسم إشارة، أي كيف حال هذه؟ وعائشة لم تعتد على هذا الكلام، وقبل أن تنزل براءتها مباشرة جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إليها وهذه أول مرة يجلس عندها من حين خاض الناس في حديث الإفك، جلس على طرف السرير وأبو بكر جالس وأم رومان أمها زوجة أبي بكر الصديق جالسة، فتشهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: (أما بعد -وأما بعد هذه فصل الخطاب كما يقال- يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه) ما معنى هذه الكلمة؟ فيها كأنه اتهام ضمني لـ عائشة أنها فعلت الذنب، لما يقول لها: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري) بمجرد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال هذه الكلمة، قالت: (فقلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة -جفت الدموع تماماً- ثم قالت: وكنت جارية لا أقرأ كثيراً من القرآن -لا تحفظ كثيراً- والله لو قلت لكم: إني فعلت والله يعلم أني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت لكم: إنني ما فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لا تصدقونني، والله ما أجد لي معكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، قالت عائشة: وتاه عني اسم يعقوب -من الحزن، ولم أستطع استحضاره، قالت: ثم تحوّلت فنزلت البراءة من السماء مباشرة -فـ أم رومان أول ما نزلت البراءة ذهبت إلى عائشة وقالت لها: قومي إليه فاحمديه) وفي بعض الروايات قالت: (يا رسول الله! أمنك، أم من الله؟ قال: بل من الله -نفس كلام كعب - فقامت أم رومان فقالت لها: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل) إلى آخر الحديث، وهو حديث طويل وجيد. فهنا كعب بن مالك يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (أمن الله، أم من عندك؟) مع أنه يستوي عند كعب وعند غير كعب أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو القائل حتى يكون من عند الله، لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا} [النجم:3 - 4] إن: نافية {إِنْ هُوَ إِلَّا} [النجم:4] أي: ما هو إلا {وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فالصحابي حين يقول هذا فهو نوع من تأكيد القول وليس للشك أو التفريق، ونوع من تأكيد البشارة، ولو قال النبي عليه الصلاة والسلام له: أبشر وعفا عنه، لعلم كعب بن مالك أنه معفو عنه، فما كانوا يرتابون في ذلك، ولكن إذا قال: مني مثلاً، فقد يردفه كعب بسؤالٍ آخر، وهل الله راض؟ إذاً فهو لما قال: (أمن عند الله أم من عندك؟) ليس شكاً أبداً، إنما يقصد لكي يستقر قلبه تماماً، ويعلم أن الله تبارك وتعالى راضٍ عنه. فلما سمع كعب بن مالك هذا (قال: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله) انظر الاستعداد الموجود عند الصحابة، فهو يريد أن ينخلع من ماله كله، شكراً لله تبارك وتعالى؛ لأنه تفضل عليه بالتوبة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك) يوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). والحديث فيه فوائد أخرى، لكن الوقت ذهب. فنسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم، وأن يوفقنا إلى العمل بما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم التهنئة وفضل المبادرة إليها

حكم التهنئة وفضل المبادرة إليها الثالثة قوله: (فقام إلي فصافحني وهنأني) كلمة (وهنأني) دليل على مشروعية التهنئة بما يسر المسلم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، ولهم في ذلك آثار معروفة ذكرها السيوطي في رسالة له لطيفة اسمها (بلوغ الأماني بوصول التهاني)، ذكر فيها الآثار التي فيها صحيح وضعيف -ولا أصل له عن الصحابة رضي الله عنهم- يوم كانوا يهنئون بعضهم في الأعياد وفي المناسبات التي تسر المسلم. مداخلة: هل هناك صيغة معينة للتهنئة؟ الشيخ: ليس هناك صيغة معينة في التهنئة، بل ما تعارف عليه أهل البلد، إلا أن يكون هناك في الكلمة معنى غير مشروع، وفي هذه المسألة تذكرت سؤالاً وجه لبعض علمائنا في الحجاز، فقد سئل شيخنا هذا: هل يجوز أن يقول الرجل لأخيه عندما يذهب لتعزيته: البقية في حياتك؟ قال: نعم، لا أرى من ذلك مانعاً. ويبدو أن الشيخ لم يتصور المعنى، فمعنى البقية في حياتك، ماذا؟ أي: أنه مات ناقص العمر، فالذي ذهب من عمره ينضم إلى عمرك إن شاء الله. هذا معناها أي: هو يسأل الله تبارك وتعالى أن يضم إلى عمر هذا الإنسان ما فات من عمر الميت، وهذا معنى لا يجوز وهو مضاد لصريح الكتاب والسنة، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. مداخلة: هل يجوز تهنئة غير المسلم في العيد؟ الشيخ: لا، لا يجوز تهنئة غير المسلم في العيد، ولا يجوز تعزية غير المسلم في الحزن. قال: (ولست أنساها لـ طلحة) وهذا يدل على أن القلوب جبلت على حب الإحسان، وكون كعب بن مالك يحمل هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، يدلك على أن المسارعة في التهنئة تحفر في القلب أثراً، والله تبارك وتعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] إشارة إلى أن الإحسان يأسر العبد الذي حسنت إليه، ولذلك قال من قال: (ليس هناك حِملٌ أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك)، كلام كالذهب. (ليس هناك حملٌ أثقل من البر) فالإنسان عندما يكون فضل له عليك فأحياناً يخطئ عليك وأنت تقول: لولا أنه عمل معي كذا وكذا لكنت رددت عليه، فلذلك أنت تحفظ الجميل، فلا تستطيع أن ترد عليه؛ لأن الرجل أسرك بالجميل، وهذا شيء فطر عليه الإنسان. ففي حديث المسور بن مخرمة الحديث الطويل في صلح الحديبية الذي أخرجه الشيخان: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان كافراً فذهب إلى قريش وقال لهم: دعوني آت محمداً صلى الله عليه وسلم، فأعرض عليه ما تقولون، فجاء عروة بن مسعود الثقفي والصحابة حول النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! إنها واحدة من اثنتين، إما أن تغلبهم -أي: إذا دخلت في حرب بينك وبين قريش وغلبتهم- فهل سمعت رجلاً اجتاح قومه قبلك -يعني أسمعت أن أحداً فعل في قومه ذلك؟ - وإن كانت الأخرى -أي: أنهم يغلبوك- فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك). فعندما قال هذه الكلمة: (سمع من يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص ببظر اللات) فهذه كلمة شديدة جداً، فعاب آلهتهم أنها أنثى، ثم طعن في موضع العورة أيضاً، فقال عروة بن مسعود: (من هذا الذي يتكلم؟ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إنه ابن أبي قحافة) يعني: أبا بكر الصديق، واسمه عبد الله بن أبي قحافة، فقال له عروة بن مسعود لـ أبي بكر: (لولا أن لك عليَّ يد لأجبتك) فهذا يدل على أن كل الناس مسلمهم وكافرهم فطروا على محبة الإحسان، حتى الكلاب، كما قال الشاعر: يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغنى حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً نبحت عليه وكشرت أنيابها فالكلب إذا رأى المحسن إليه تراه يهز ذيله، وهذا شيء كما قلت يفطر عليه المخلوق. (من برك فقد أوثقك) طالما أنه دائماً يحسن إليك، ولم يصلك منه إساءة (ومن جفاك فقد أطلقك)، أي: لو أن شخصاً يشتمك دائماً، فافعل فيه ما تريد، فلن يلومك أحد، لماذا؟ لأنه ليس له عليك يد. فلذلك التهنئة في الأعياد، والتعزية في الأحزان، مهمة جداً، ولها وقع السحر في النفس، فالشخص عندما يرى أنك مسرور له أكثر منه لا ينساها لك، وحين يرى أنك حزين أكثر منه أيضاً لا ينساها لك، لذلك لما قام طلحة مسروراً وصافح كعب بن مالك قال كعب: (لست أنساها لـ طلحة).

حكم المصافحة والمعانقة

حكم المصافحة والمعانقة المسألة الثانية: المصافحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر) فالمصافحة لها فضيلة، وأول من أتى بالمصافحة هم الأشعريون وهم أبو موسى الأشعري وقومه الذين جاءوا من اليمن. ولكن العناق لا يشرع، هذا الذي كنت سأتكلم عليه والحقيقة هذا البحث قد تكلمت عليه كثيراً، أن الذي يشرع إذا التقيت بأخيك أن تصافحه فقط، إنما الضم بالأحضان والحاجات هذه كل هذا لا يكون إلا في موضع سنذكره. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: (إذا لقي المسلم أخاه أيقبله؟ قال: لا، أيلتزمه؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، أيصافحه؟ قال: نعم)، فلمّا يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيلتزمه؟ ويقول: لا)، فكيف بالمسلم بعد هذا أن يخالف فمن يقابله يأخذه بالأحضان والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك!! ولكن إذا قابلت أخاك بعد سفر يمكن لك أن تلتزمه، وقد ورد في ذلك قصة رواها الإمام البخاري في صحيحه معلقة، لكنه وصلها في الأدب المفرد، وهي في مسند الإمام أحمد وغيره أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (بلغني أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنده حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عندي، قال: فابتعت بعيراً -اشترى جملاً- وركبته شهراً) حتى دخل البلد ووصل إلى بيت هذا الصحابي، وهذا الصحابي هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه. قال: (فلما ذهبت إلى داره خرج لي الخادم، قلت: عبد الله بن أنيس -في البيت- قال: من أنت؟) وفي بعض الروايات: قال: (فدخل ثم خرج، قال له: من أنت؟ قال: فقلت له: جابر، فقال: ابن عبد الله؟) وقد افترقوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمصار يعلمون الناس العلم والقرآن، (قال: فخرج إليَّ فالتزمني واعتنقني، قال: ما جاء بك؟) ثم ذكر بقية الحديث إذاً: يشرع للإنسان إذا قابل أخاه بعد سفر أنه يأخذه ويلتزمه، وإذا لم يكن هناك سفر ولا غياب طويل فالأصل أن المسلم إذا قابل أخاه يصافحه فقط. فلذلك اقتصر طلحة بن عبيد الله على المصافحة، مع أن الموضع هذا من المواضع التي يحصل فيها العناق، بمفهومنا نحن، فهذا رجل تاب الله عليه. والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) أي: أفضل حتى من يوم الإسلام، فهذا إذا كانت المسألة بالعقل والاستحسان لكان أولى المواضع أنه يقبله. مداخلة: هل الالتزام يختص بالرجل والمرأة سواء؟ A نعم، الأحكام الشرعية يستوي فيها الكل، يعني: فإذا ذكرنا حكماً شرعياً فيستوي فيه الكل، يعني والأصل في أحكام الشرع كذلك، إلا أن يقوم دليل يبين أن النساء لهن كذا والرجال لهم كذا، أما إذا لم يكن هناك دليل فالأصل أن الحكم يشمل كل مسلم، وكلمة (مسلم) اسم جنس، أي: يدخل تحته مسلمة أيضاً.

حكم القيام للداخل

حكم القيام للداخل (قال: وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس أفواجاً أفواجاً يهنئونني بتوبة الله عليَّ، حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله فصافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولست أنساها لـ طلحة) ثلاث مسائل في قوله: (فقام إلي طلحة فصافحني وهنأني): الأولى: قوله (فقام إليَّ) فهل يشرع القيام للداخل؟ القيام للداخل منه ما هو مشروع ومنه ما هو محرم، فالمحرم هو الذي يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً)، وفي الرواية الأخرى: (من سرّه أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالرسول عليه الصلاة والسلام علّق عقاب هذا الرجل على محبته وسروره لقيام القادم له وهذا الحكم فيه مشكل؛ لأن المحبة والسرور مسألة قلبية، فمن أين لي أن أعلم أن هذا الإنسان يحب أو يسر بذلك؟ فهذا الحب والسرور محجوبٌ عني، وإذا علِّق الحكم بمثل هذا لا تستطيع أن تصل فيه إلى نتيجة. فيقال: الجواب عن ذلك: أن الشارع إذا علّق العقوبة على أمرٍ قلبي، فمثل هذا ينصب عليه قرينة في الخارج تدلل على ذلك الذي حُجب في القلب، فأنت حينئذٍ تبني الحكم على القرينة التي في الخارج، وليس على قلب هذا الإنسان، والتفصيل الذي يوضح ذلك: (من سرّه) فلو أن شخصاً دخل وأنت لم تقم له فغضب فغضبه هذا ظاهر أم خفي؟ ظاهر فهذه هي القرينة التي بينت، وهذا الرجل لو كان القيام وعدمه يستوي عنده، أكان يغضب إذا لم تقم؟ لا، إذاً غضب هذا الإنسان لأنني لم أقم دلني على أنه ممن يحب أن يتمثل الناس له قياماً، فإذا نُصِب غضبه كقرينة خارجية حينئذ أستطيع أن أحكم عليه بهذا الذي ظهر منه على ما بطن من أمره، لذلك نحن ننصح إخواننا من المدرسين أن يمنعوا التلاميذ من القيام لهم إذا دخلوا الفصول، فهذه عادة جاهلية ليس فيها أي احترام، فالذي يقول: إن قيام التلميذ هذا دليل الاحترام ليس عنده فقه عن الشرع، ولا وسائل الاحترام، فالاحترام ما كان يوماً في القيام، ولما يعاقب الأستاذ التلميذ الذي لم يقم؛ فهذا ممن ينطبق عليهم الحديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فلولا أن جلوس هذا التلميذ ساء هذا الأستاذ لم يعاقبه، وفي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري، وصححه الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إلى الصحابة رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يقومون له، لما كانوا يعرفونه من الكراهة في وجهه). بعض الناس احتج بالحديث الذي في الصحيح: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قوموا إلى سيدكم) ويرويه بعضهم بالمعنى رواية ليس لها أصل: (قوموا لسيدكم). ويستدل على جواز القيام!! فنقول: إن هذه الرواية لا أصل لها لا في الصحيح ولا في غير الصحيح، إنما الرواية الصحيحة: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه). وهذا الحديث له قصة، وهي: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جُرح في غزوة الأحزاب وكان جرحه ينزف دماً، فحملوه على الناقة، فلما وصلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال للأوس: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)؛ لأنه لا يستطيع النزول، فقد أصيب في أكحله، فهم يعينونه على النزول، إذاً الحديث ليس فيه دليل على جواز القيام، وقد يقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قام لـ زيد بن حارثة كما عند الترمذي وحسّنه: (أن زيد بن حارثة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقام إليه يجر إزاره) نقول: إن القيام للداخل القادم من سفرٍ يشرع، وقد يكون القيام أيضاً لحالة أخرى، وهو أن تستقبل ضيفك فتجلسه، كما صح أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها فأجلسها مكانه). إذاً: القيام المنهي عنه هو القيام على سبيل الإعظام والتكريم، ومما أذكره في هذا المقام ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة الإمام العلم المفرد علي بن الجعد، قال علي أرسل المأمون إلى تجار الجوهر في بغداد) المأمون هو أمير المؤمنين ويريد أن يشتري ذهباً، بمعنى أنه لن يشتري له شيئاً هيناً، (فأرسل للتجار وناظرهم) أي: على السعر، وبعد أن ناظرهم قام وقضى حاجته، ورجع فدخل المجلس فقاموا جميعاً إلا علي بن الجعد -وعلي بن الجعد إمام كبير من تلاميذ شعبة بن الحجاج، ومن مشايخ البخاري وغيره- لم يقم؛ لأنه من أهل العلم، ويعرف أن القيام لا يجوز، فلما قاموا جميعاً وهو لم يقم، غضب المأمون وناداه فقال: ما حمل الشيخ على ألا يقوم كما قام الناس؟ قال: أجللت أمير المؤمنين لحديث عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: حدثني المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن -أي: البصري - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) قال: فأطرق المأمون ساعة في الأرض ثم قال: ما ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار، فصدق في علي بن الجعد قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فتعظيمك لأمر النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لك الهيبة في قلب مخالفك فضلاً عن موافقك، فلا تتصور أنك إذا عظّمت الله ورسوله أنك تُحتقر، أبداً والله، فالمخالف يعظِّمك، ولكنه لا يظهر هذا التعظيم، لماذا؟ لأنه يريد أن يعاندك نكاية فيك، الذي يقول الحق له وعليه يجعل الله تبارك وتعالى له من المهابة في قلوب الناس ما لا يجعله للذي يرضي الناس بسخط الله.

كيف تصلي

كيف تصلي إن الصلاة هي عماد الدين، أمر الله جل وعلا عباده بإقامة الصلاة، ومفهوم الإقامة في الشرع هو أن يؤدي العبد الصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى في أوقاتها مع الجماعة، وأن يخلص فيها لله عز وجل، وأن يصلي بالهيئات والكيفيات التي كان يصلي بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز للعبد أن يقلد في صلاته أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى إقامة الصلاة في الشرع

معنى إقامة الصلاة في الشرع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر (ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه). نتكلم اليوم مع أعظم الأركان العملية وهي الصلاة، والأمر بالصلاة في كتاب الله عز وجل، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراً مجرداً، بل هو أمر له وصف، فإن الله عز وجل إذا أمرنا في القرآن بأن نصلي قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الحج:78] فكلمة (أن تقيم الصلاة) ليس معناها أن تصلي، بل إقامة الصلاة قدر زائد على مجرد الصلاة، وهي الصلاة التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث لما قيل له: (إن فلاناً يصلي ويسرق! قال: ستنهاه صلاته يوماً) أي: إن العبد إذا أقام الصلاة نهته، وهذه الإقامة هي المعنية بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فالصلاة المحلاة بالألف واللام تفيد العهد أنها صلاة بعينها، أمر الله عز وجل بها، والتي لو أقمتها كما أمر الله بها؛ فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس مجرد أي صلاة، فإننا نرى رجالاً يصلون ويرابون ويسرقون ويزنون، فهؤلاء ما أقاموا الصلاة. وإذا أردت أن تقيم الصلاة فامتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ مالك بن الحويرث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فإذاً نحن ملتزمون بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أردنا أن نقيم الصلاة يجب أن نلتزم بها، فهل جماهير المسلمين اليوم يعرفون كيف كان يصلي النبي عليه الصلاة والسلام؟ A لا؛ لأننا ورثنا الصلاة، وما تعلمناها. سل الذين يرسلون أيديهم في الصلاة ولا يضعونها على صدورهم كما هي السنة: آلنبي صلى الله عليه وسلم أرسل يديه ولو مرة في حياته وهو القائل: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ومثل: (خذوا عني مناسككم) سواء بسواء؟ ما حجة أولئك في ترك أيديهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نعجل فطرنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) فكأنها سنة الأنبياء أن تضع اليمنى على اليسرى، لكن لما غلب التقليد على المتأخرين صاروا يتعاملون مع المذاهب الفقهية كأنها أديان متباينة، فعلامة المالكي أن يرسل يديه، وعلامة الشافعي أن يضع يديه على صدره، وجهل بعضهم فقال: إن ركعتي الشفع في المذهب الشافعي فقط؛ لأنها تواطئ اسمه. وهذا شخص من جماعة الخروج -الذين يخرجون في سبيل الله- سألته مرة فقلت له: ما دليل الخروج؟ قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] يعني فالذين لم يخرجوا جميعاً كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل: اقعدوا مع القاعدين، أي: لم ينج من هذا الذنب إلا هؤلاء الثلة الذين خرجوا، والباقون غضب الله عليهم وثبطهم؟! وهذا يذكرني عندما جاءت معاهدة السلام قيل لهم: ما الدليل؟ قالوا: (إن الله هو السلام)، (ادخلوها بسلام)، (تحية الإسلام السلام)، كلما وجدوا لفظاً يواطئ المعنى الذي يريدون استشهدوا به، بغض النظر عن السياق الذي ورد فيه اللفظ؛ حتى صاروا أضحوكة للعقلاء: أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب فهؤلاء يقولون: ركعتي الشفع خاصة بـ الشافعي! ونقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] إذاً هذه قراءة مالك، فـ مالك يقرأ بها؛ لأن (مالك) وافقت اسم مالك! هذا كله بسبب أن الذين قلدوا المذاهب الفقهية اعتبروها كأنها دين مستقل، فالذين يرسلون أيديهم في الصلاة ما صلوا كما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام، فلو قلت لواحد: اركع، وأرني كيف يكون ظهرك إذا ركعت؟ لو قلت له: اسجد، وأرني أنفك هل يمس الأرض أم لا؟ ربما تجده يرفع أنفه من على الأرض وهكذا، فإذا سمعت قول الله عز وجل: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الحج:78] لا بد أن ترجع إلى السنة لتعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. والأصل في تعليم النبي عليه الصلاة والسلام أنه يشمل الرجال والنساء معاً، فإن هذا النداء في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:153] يشمل الرجال والنساء معاً، وهذا الأمر (صلوا كما رأيتموني أصلي) يشمل الرجال والنساء معاً، فمن العجب أن بعض المذاهب الفقهية تقول: إذا سجد الرجل فليجاف يديه عن جنبيه وليبالغ، إلا المرأة فإنها تنجمع لأنها عورة! فنسألهم: هذا القول من أن المرأة يدخل بعضها في بعض إذا أرادت أن تسجد، ما دليله؟ وهل النبي عليه الصلاة والسلام فرق فأمر النساء أن ينجمعن، وأمر الرجال أن يجافوا أيديهم عن جنوبهم؟ الجواب: لا، لا تجد على هذا أثارة من علم، بل الرجال والنساء معاً على السواء في المجافاة.

هيئات الصلاة الصحيحة

هيئات الصلاة الصحيحة إذا أردنا أن نذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على التفصيل كما صلاها عليه الصلاة والسلام، فلم أجد كتاباً أفضل ولا أجود من كتاب شيخنا الإمام المحدث الكبير أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها) وهذا الكتاب من الكتب المباركة -وهذا الحقيقة- الكتاب له عندي معزة خاصة جداً؛ لأن هذا الكتاب هو الذي فتح عيني على علم الحديث، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة. في عام (1395هـ) تقريباً مررت بعدما انتهيت من صلاة الجمعة في مسجد الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله -مسجد عين الحياة- فمضيت أتجول عند باعة الكتب، وأنظر إلى ما يعرضونه من الكتب، فوقعت عيني على هذا الكتاب، فتناولته وقلبت صفحاته، وأعجبني طريقة تصنيفه، وأحسست بجزالة لم أعهدها في كل ما قرأت، ولفت انتباهي حاشية الكتاب -الحاشية التي خرج فيها الشيخ الألباني القسم الأعلى من الكتاب- فمثلاً يقول: (ويجافي يديه عن جنبيه) ثم يقول: أخرجه السراج، والبغدادي، وابن بشران أسماء لم تكن معهودة؛ فانبهرت بهذا الكتاب ولكن لم أستطع شراءه آنذاك لأنه كان باهض الثمن، كان بثلاثين قرشاً، فتركته وواصلت البحث، فوجدت جزءاً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني) أيضاً، فاشتريته وكان إذ ذاك بخمسة قروش، ومن إعجابي بالكتاب وانبهاري به قرأته وأنا ماشٍ من المسجد إلى مسكني في الطريق، مع خطورة هذا المسلك على من يمشي في شوارع القاهرة. فلما قرأت الكتاب وجدته يدق بقوة ما ورثته من الصلاة عن آبائي، إذ وجدت أن كثيراً من هيئتها لا يمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي حيث أنني لم أشتر الأصل، والكسعي رجل عربي يضرب به المثل في الندامة، وحكوا من خبره: أنه كان رجلاً رامياً ماهراً، فمرت به ظباء بالليل، وكان له قوس وكان شديد الاعتداد بها، فرمى الظباء بهذا القوس في الليل، فظن أنه أخطأ الظباء؛ فكسر قوسه، فلما أصبح وجد سهمه أصاب الظباء؛ فندم على كسر القوس، ويقال: إنه قطع إصبعه من الندم. حسناً: كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أسهل الكتب، ويجب على المسلمين أن يقرءوا هذا الكتاب حتى يقيموا الصلاة، فالإنسان عندما يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يقبح به أن يصلي على غير ما أُمر، وقد قصد القربى والزلفى إلى الله عز وجل، وإن مثل الذي يعبد الله تبارك وتعالى بما لم يشرعه ولا رسوله عليه الصلاة والسلام كمثل الذي عبد الله تبارك وتعالى بلا شيء، مثل المخترع.

الإشارة بالسبابة أثناء التشهد

الإشارة بالسبابة أثناء التشهد وفي التشهد الأوسط يفترش فيجلس على رجله اليسرى، وينصب قدمه اليمنى، وينظر إلى موضع سجوده، ويحرك السبابة في أثناء قراءته للتشهد حتى ينتهي أو حتى يقوم، وقد ورد في هذا حديث زائدة بن قدامة، وهذه الزيادة ليست شاذة بل هي زيادة صحيحة -زيادة التحريك- والتحريك: أن تجعل يدك بشكل واحد وخمسين، وتضعها على ركبتك، وتنصب هذا الإصبع إلى القبلة وتحرك. والبعض الآخر -بالرغم أننا نبهنا كثيراً على هذا- يحرك إصبعه بمزاجه لا، التحريك هذا غير صحيح؛ لأن هذا فيه صرف الإصبع عن القبلة، والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك، لكن في نفس الوقت لم يلفت إصبعه عن القبلة، وبعضهم يقول لك: يعمل حلقة طوال الصلاة في التحريك، وهذا هو الذي فهمه، والتحليق إنما هو خاص بالأصبع الوسطى والإبهام والسبابة التحريك فقط، فالواحد لو حرك إصبعه يحركه هكذا باتجاه القبلة. أما الذين يقولون: إن التحريك يكون في النفي والإثبات فهذا لا أصل له، يعني: يظل واضعاً يده على ركبته، أول ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، يرفع إصبعه في الإثبات ثم يضعها ثانية هذا لا أصل له، بعض الناس يحرك يديه الاثنتين، وكان سعد بن أبي وقاص يفعلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد أحد!) لأنك توحد فلا تحرك بالثنتين، إنما حرك بواحدة. وبعض الناس إذا أراد أن يسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويشير بيديه هكذا، يحرك يديه كأنه يقول: تم لا، الإنسان إذا أراد أن يسلم لا يحرك يديه، إنما تكون يداه ثابتتين على رجليه ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده، تلتفت لفتة حتى تحس أن بياض خدك يراه الذي خلفك، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.

الخروج من الصلاة بتسليمة أو تسليمتين

الخروج من الصلاة بتسليمة أو تسليمتين يجوز الخروج من الصلاة بتسليمة واحدة، بعض العلماء يقول: بتسليمة واحدة، يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويخرج، فيكون خرج من الصلاة، والتي هي التسليمة اليمنى وهي فرض، والأعمش رحمه الله عندما كان يحدث بهذا الحديث فسأله رجل: أرأيت لو كان عن يساري رجل ثقيل؟ قال: يكفيك تسليمة واحدة، فبعض الناس ظن أن الأعمش قالها على سبيل المزاح لا، الأحكام الشرعية ما فيها مزاح، إنما ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسلم تسليمة واحدة ويخرج من الصلاة بها. وبعض العلماء قال: يلتفت إلى اليمين وإلى اليسار أيضاً لكن بتسليمة واحدة، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هكذا، لكن يلتفت إلى الجهتين، والظاهر أن الوضع الأول هو الأساس؛ لأن كلمة يسلم تسليمة واحدة لا يفهم منها أنه كان يوجه ناظريه إلى الجهتين، إنما يسلم على اليمين ويسلم على اليسار، ثم قال: وربما اقتصر على واحدة، فلا يتصور حينئذ بعد قوله: (يقتصر على واحدة) أنه التفت اللفتتين.

صفة القيام إلى الركعة الثالثة

صفة القيام إلى الركعة الثالثة القيام من السجود إلى الركعة الثانية كيف يكون؟ هل على قبضة اليد أو على راحتها؟ فنقول: كافة العلماء يرون أنه على راحة اليد، والشيخ الألباني رحمه الله يرى أن الاعتماد يكون أيضاً على قبضة اليد كما لو كنت تعجن، وذكر في ذلك حديثاً وصححه -وأصاب في تصحيحه- في كتاب: تمام المنة في التعليق على فقه السنة، فمن فعل اقتداءً بهذا الإمام فنحن لا ننكر عليه، وإن كنت أقول دائماً: في مواطن الخلاف خذ بالأحوط، يعني: أنت إذا قمت على راحة اليد لا تلام لا من قبل الشيخ الألباني، ولا من قبل المخالفين له؛ لأنك إذا قمت على راحة اليد فعلت المتفق عليه بين الكل. والحمد لله رب العالمين.

جلسة الاستراحة

جلسة الاستراحة فإذا أراد أن يقوم جلس جلسة الاستراحة إذا كان في وتر من صلاته، وذلك بعد الركعة الأولى والثالثة؛ لأن بعد الركعة الثانية والرابعة تشهد وهو جالس، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كان في وتر من صلاته لا يقوم حتى يستوي قاعداً، أي: لا يقوم مباشرةً، إنما يقوم فيقعد لحظة صغيرة جداً ثم يقوم، هذه اسمها جلسة الاستراحة عند العلماء، واستحبها مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. هذا إذا أراد أن يقوم، فإذا كان جالساً جلسة استراحة يفترش ولا يقعي، الإقعاء خاص بين السجدتين فقط، فإذا أراد أن يجلس جلسة الاستراحة يفترش ويقوم للركعة الثانية وهو مفترش، ويفعل في كل صلاة مثلما فعل في الركعة الأولى. وإذا قام من التشهد الأوسط يرفع يديه، وموضع الرفع في ثلاثة مواضع: إما أن ترفع وأنت جالس قبل أن تقوم، وإما أن ترفع بعدما تقوم، وإما أن ترفع حال القيام، وأنا رأيت الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله يرفع يديه بعد التشهد الأوسط إذا أراد أن يقوم وهو جالس.

ضم العقبين حال السجود

ضم العقبين حال السجود إذا أردت أن تسجد مرة أخرى يمكن أن ترفع يدك أحياناً وليس دائماً، وتسجد مثلما سجدت في السجدة الأولى. كذلك على الإنسان أن يضم عقبيه حال السجود؛ لأن بعض الناس يفرج بين رجليه أثناء السجود لا، هو إذا أراد أن يسجد يضم عقبيه هكذا، وأصابع رجليه تكون متجهة للقبلة في حال السجود كذلك، لكن يرص عقبيه كما جاء في الحديث بيان ذلك.

صفة السجود وهيئته

صفة السجود وهيئته ثم في أثناء السجود ينصب فخذه، ولا يلصق حتى يجعل موضع السجود قريب جداً من موضع ركبتيه، كذلك ولا يجعل موضع السجود بعيد جداً بحيث يفرد جسمه، إنما ينصب فخذيه. وقلنا: يضم أصابعه ويوجهها إلى القبلة، ويمكن في السجود جبهته وأنفه، ولا بد أن يمس الأنف الأرض، وفي الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يمس أنفه الأرض) فالأنف والجبهة يسجدان ولابد من تمكينهما. ثم يرفع فيطمئن حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، وله أن يرفع يديه إلى حذو منكبيه لكن ليس دائماً.

كيفية الجلسة ما بين السجدتين

كيفية الجلسة ما بين السجدتين في حالة الجلوس بين السجدتين هناك جلستان: جلسة الإقعاء، وجلسة الافتراش، الإقعاء: أن يقعد على أمشاط رجليه، بشرط أن يضم رجليه، ولا يباعد بينهما ويجعل إليته فوق القدمين والاقعاء المنهي عنه: أن يقعد الإنسان على أمشاط قدميه ويباعد بين رجليه، ويجعل إليته بين الرجلين هذا اسمه إقعاء الكلب، وهذا هو المنهي عنه، لكن الإقعاء المرخص به بين السجدتين أنك تضم قدميك وتقعد على أمشاط رجليك، وتجعل إليتك على قدميك. ابن القيم رحمه الله كأنه لم يقف على هذا الحديث فأنكر هذا الإقعاء بين السجدتين، والحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث طاوس قال: قلت لـ ابن عباس: (الإقعاء بين السجدتين إنا لنراه جفاء بالرجل -أي: لا يليق بالرجل أن يفعل هكذا- فقال له ابن عباس: سنة نبيك صلى الله عليه وسلم). فإما أن تقعي وإما أن تفترش، الافتراش: أن تفترش رجلك اليسرى، وتجعل إليتك عليها، وتنصب اليمنى.

كيفية النزول إلى السجود

كيفية النزول إلى السجود ثم يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، ثم يكبر، ولا يرفع يديه بالتكبير إذا أراد أن يسجد، فإذا سجد نصب قدميه. هناك بعض الإخوة يكاد أن ينام على بطنه وهو يسجد، وهذا غير صحيح، والصواب أن تنصب قدمك اليمنى، وأن تنصب فخذك على الأرض، وتجافي في السجود بين يديك، الإنسان وهو يسجد يجتهد في أن يباعد ما بين يديه عن كتفيه وعن رأسه، والكلام هذا إذا كان هناك مجال كأن يصلي ولديه فراغ، أما أن يكونوا كلهم ملتصقين ببعض ويضايق الناس فغير لائق؛ وفي أول ما كنا قرأنا صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني كان بعض إخواننا يحاول أن يطبق هذا في صلاة الجمعة، فكانت هذه مشكلة كبيرة جداً، هذا الكلام على حسب المتاح، أحياناً أنت ما تستطيع أن تأخذ راحتك في السجود، وربما ضممت أطرافك على بطنك، وهذا منهي عنه، هناك بعض الناس عندما يسجد يسجد وهو واضع يديه هكذا، وهذا خطأ، إنما الصواب التفريج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في هذا التفريج، حتى لو أرادت عنزة صغيرة أن تمر من تحت يده لمرت، ويقول أنس رضي الله عنه: (كنا نأوي -أي نشفق- على النبي عليه الصلاة والسلام من كثرة ما كان يجافي بين جنبيه) عليه الصلاة والسلام. الأصابع هذه تضم وتوجه إلى القبلة في أثناء السجود. أما نزولك من الوقوف إلى السجود فيكون على اليدين وليس على الركبتين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) نص صريح جداً، ولو لم يرد هذا التفصيل لعلمنا من طريقة بروك الجمل أن وضع اليد أولاً يكون هو المخالف لوضع الجمل، لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير)، كما ورد في بعض ألفاظ الحديث: (يعمد أحدكم فيبرك كما يبرك الجمل الشارد) وهذا أظنه موقوف على أبي هريرة، فلم يذكر كيف يبرك الجمل الشارد. لكن نحن المفترض فينا كعرب أهل بادية وإبل أن نعرف كيف يبرك البعير، فالبعير إذا برك إنما يبرك على ركبتيه، وأنتم تعلمون أن كل ذي أربع: الطرفان الأماميان يسميان يدان، والخلفيان رجلان. فهو يمشي على أربعة، فعندما يأتي إنسان يقول: إن البعير أول ما يضع من جسده يضع يديه على الأرض فهو مخطئ، لماذا؟ لأن وضع يديه -يمشي عليهما- موضوعتان خلقةً، لكن إنما أول شيء يصل منه إلى الأرض ركبتاه؛ لذلك لا يكون أول شيءٍ يصل إلى الأرض من المصلي ركبتيه، فلو نزل الإنسان بركبتيه فهذا هو الذي يشبه به البعير، وليس الذي ينزل بيديه. ولعل ابن القيم رحمه الله هو الذي بسط المسألة بسطاً وافياً للمخالفين الذين يقولون: إنه ينبغي أن تكون الركبة أول ما يصل من المصلي إلى الأرض؛ لأن ابن القيم رحمه الله لما استشعر ذلك نسى أن تكون ركبة البعير في يده؛ لأن التسليم أن ركبة البعير في يده يفصل المسألة، فقال ابن القيم رحمه الله: وقولكم ركبة البعير في يديه قول لا يعرفه أهل اللغة. فحينئذ الفصل إنما يتم بالرجوع إلى أهل اللغة، فلما رجعنا إلى معاجم أهل اللغة وجدناهم يجمعون في مادة (ركب) على أن ركبة كل ذي أربع في يديه، وعرقوباه في رجليه، إذاً الذي في الرجلين الخلفيتين اسمه (عرقوب) والذي في الأماميتان اسمه (ركبة) ومما يدل على ذلك حديثان: الحديث الأول: في صحيح مسلم رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] فجاء الصحابة (فبركوا على الركب)، وقالوا: هذه التي لا نستطيع) هذا نص صريح واضح أن البروك لا يكون إلا على الركبة. الحديث الآخر -وهو أصرح من هذا- وهو في صحيح البخاري ومسند أحمد حديث سراقة بن مالك الذي تبع النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج إلى المدينة مهاجراً، فلما أبصره أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! هذا سراقة بن مالك يتبعنا. قال سراقة: فدعا علي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين). كلام صريح جداً (فساخت) -أي: غطست في الأرض (يدا فرسي) هما الرجلين الأماميتين لمقدمة فرسه- (حتى بلغتا الركبتين) فإذاً الركبة إنما تكون في اليد، فإذا أراد البعير أن يبرك برك على يديه. فالصواب: هو النزول على اليدين؛ لأن لدينا نص صريح يقول: (وليضع يديه قبل ركبتيه) وعلى التسليم أن هذا النص لم يرد فمعرفة كيف يبرك البعير يرشح أن الصواب النزول على اليدين؛ لأن النزول على الركبتين هو هذا المشابهة للبعير.

رفع اليدين عند الركوع

رفع اليدين عند الركوع بعد دعاء الاستفتاح يبدأ الإنسان يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم. بعد ذلك إذا أراد أن يركع يرفع يديه، وقد ورد هذا في حديث ابن عمر في الصحيحين (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع في أول الصلاة، ويرفع إذا أراد أن يركع، ويرفع إذا قام من الركوع، ويرفع بعد الركعتين) والتكبيرات التي تأتي بعد ذلك يسميها العلماء التكبيرات الانتقالية، أي: أنك تنتقل من ركن إلى آخر، وهذا الرفع سنة، وعليه جماهير العلماء ما عدا الأحناف فيقولون: إن الرفع إنما يكون في أول موضع فقط، أما في بقية الصلاة لا يكون فيها رفع -أقصد الرفع للتكبير- وحديث ابن عمر حجة عليهم، وهم احتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود) رواه أبو داود وغيره، (ثم لا يعود): أي إلى الرفع. ولكن العلماء أجابوا على هذا بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث منكر كما قاله أحمد وابن معين وغيرهما من العلماء، فإذا هذا لا حجة فيه. الجواب الثاني: على التسليم أن الحديث صحيح فهو ناف، وحديث ابن عمر مثبِت، والمثبِت مقدم على النافي عند التعارض، فالعلماء قالوا: إذا ورد حديثان أحدهما نفى شيئاً والآخر أثبته، ولم نستطع الجمع بين الحديثين، وكان لا بد من ترجيح أحدهما على الآخر؛ ففي هذه الحالة نرجح الذي أثبت على الذي نفى لماذا؟ لأن مع المثبِت زيادة علم، أي إنسان في الدنيا ممكن يقول: لا أعلم؛ لأن نفي العلم أيسر ما يكون، ولذلك ليس بعالم الذي إذا سئل عن مسألة يقول: لا أعلم فيها دليلاً، فكلمة (لا أعلم) هذه ما المشكل فيها؟ ما هو الجهد الذي أنت بذلته عندما قلت: لا أعلم؟ إنما الذي يقول: أنا أعلم كذا وكذا، إذاً هذا قطعاً هو اطلع ووقف على ما لم يقف عليه النافي. لذلك نحن نقول: إن المثبِت مقدم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم، كما لو سئلت: ما تقول في فلان، أهو مماطل -يعني إذا أخذ المال لا يرده-؟ تقول: لا أعلم عن ذلك شيئاً. فقال لك رجل: نعم، هو مماطل. إذاً أيهما اطلع على هذا الرجل؟ الذي أثبت عليه المماطلة. إذاً الصواب: الرفع في التكبيرات الانتقالية، فإذا أردت أن تركع ترفع يديك مثلما رفعتهما في تكبيرة الإحرام، ترفع اليد وتنشر الأصابع، وتكون بحذاء الأذن إما من فوق وإما من تحت.

صفة الركوع

صفة الركوع أثناء الركوع يكون جسمك مع رجليك بزاوية قائمة، بعض الناس يبالغ في انخفاض رأسه، وبعض الناس لا يكاد يركع، تجده وهو راكع يكون شبه القائم، وآخر يبالغ حتى يكاد يكون رأسه بين رجليه لا، لا هذا ولا ذاك، بل الأوضاع الصحيحة للركوع أن جسمك يكون مع القدمين كزاوية قائمة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لو وضعت على ظهره قطرة ماء ما تحركت، ولا يتم هذا الوضع إلا إذا نشرت ساعدك وقبضت على ركبتيك، تعرف أن الذي ينحني أكثر من اللازم تجد أن يديه مكسورة أثناء الركوع، لكن هو إذا أراد أن يركع ركوعاً صحيحاً، فإذا قبض على الركبتين لابد أن يكون الساعد مفروداً، والسنة أن يقبض الإنسان هكذا على ركبتيه وينشر ساعده.

صفة القيام من الركوع ورفع اليدين

صفة القيام من الركوع ورفع اليدين بعدما يركع ويقوم قائلاً: (سمع الله لمن حمده) ثم يقيم صلبه حتى يرجع كل عظم إلى مكانه، ويرفع يديه أيضاً إلى جهة القبلة.

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع هل بعد رفع اليد يقبض باليمنى على اليسرى أيضاً أو يرسلها؟ الذي نعرفه أن أكثر العلماء على الإرسال، وقال بالقبض قلة منهم، وهو القول السائد الآن عند مشايخنا في السعودية، مثل الشيخ ابن باز والشيخ محمد الصالح وسائر علماء السعودية -حفظهم الله تبارك وتعالى- يقولون بالقبض. والحقيقة: أن هذا القبض فيه إثبات هيئة؛ لأن كونك تقبض باليمنى على اليسرى هذا إثبات لهيئة، وإثبات الهيئة يحتاج إلى دليل مستقل، ولا يصح في إثبات الهيئة دليل عام يتطرقه الاحتمال، وهو حديث وائل بن حجر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام في الصلاة وضع اليمنى على اليسرى) فيقال: إن القيام الأول قيام، والقيام من الركوع قيام، فالحديث يشمل عموم القيامين، فلذلك نحن نقبض في القيامين. فنقول: إن هذا عموم صرفه الاحتمال؛ لأن كلمة (القيام) إذا وردت في الأحاديث فالمقصود بها القيام الأول؛ لأن القيام الثاني جزء من الركوع، وليس قياماً مستقلاً كالقيام الأول، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام فيما روي عنه (أنه كان يركع ثم يرفع من الركوع حتى يرجع كل عظم إلى مكانه) الهاء هنا إنما تعود على العظم وليس على الوضع، أي مكانه الطبيعي الذي خلقه الله عليه. فإذا تأملنا كل أحاديث صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام نجد أن الصحابة ذكروا ما هو أخفى من القبض وأدق، فكيف يغفلون جملة واحدة عن ذكر هذا القبض بعد الركوع ولو مرة واحدة؟! وأنت عندما تقرأ صفة الصلاة تجد فيها تفصيلاً دقيقاً جداً لكل حركة، كانوا ينقلون كل شيء، حتى أنه مرة عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في سورة المؤمنون، فجاء ذكر موسى وهارون فسعل سعلة فركع، فنقلوا أنه سعل فركع، وفي السجود ينقل لك أن أطراف الأصابع تكون تجاه القبلة، وفي تكبيرة الإحرام يقول لك: نشر أصابعه، وفي السجود يقول لك: ضم أصابعه، كل هذا التفصيل الدقيق لانفراج الأصابع وضم الأصابع ينقل في أكثر من حديث، ولا يقال في حديث من الأحاديث أبداً فقال: سمع الله لمن حمده ثم وضع اليمنى على اليسرى! فهذا دليل على أن هذا الوضع ليس وضعاً صحيحاً ولم يثبت، والهيئة لا يدخل فيها الاجتهاد، فلا بد فيها من ذكر دليل مستقل؛ نحن فصلنا هذا الكلام مرة أخرى بأبسط من ذلك. فالصواب: أن الإنسان لو قال: (سمع الله لمن حمده) ورفع يديه أن يرسل يديه ولا يقبض بهما. فإن رأيت أحداً يقبض لا تشتد عليه؛ لأن هناك بعض الناس كانوا يشددون في هذه المسألة من الجانبين، لكن العلماء -كالشيخ ابن باز رحمه الله- يقولون: لا ينبغي الإنكار في هذه المسألة، طالما أنه متبن لهذه المسألة، لأنها ليست ركناً في الصلاة ولا شرطاً لهذا فيترفق، لكن الراجح في المسألة -كما قلنا- هو الإرسال.

دعاء الاستفتاح وموضعه الصحيح

دعاء الاستفتاح وموضعه الصحيح بعد أن يستقبل العبد القبلة ويكبر ويقبض يبدأ بذكر دعاء الاستفتاح، وموضعه يكون بعد التكبير وقبل قراءة الفاتحة، يقول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين) بعض العلماء يقول: لا تقل: (وأنا أول) وإنما قل: و (أنا من المسلمين)، وهذا القول غير صحيح؛ لأن الرواية وردت بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأنا أول المسلمين)، وإنما يشتبه على القائل أن كلمة (وأنا أول المسلمين) أن القائل ليس أول المسلمين بطبيعة الحال، بل سبقه مسلمون. فيقال: نفس الكلام بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: (وأنا أول المسلمين) لم يكن هو أول مسلم، إنما سبقه كل الأنبياء وكانوا مسلمين، المقصود بقوله: (وأنا أول المسلمين) المبادرة إلى أن تكون في أوائل الذين يسلمون لله تبارك وتعالى، فلا منافاة، (وأنا أول المسلمين) ليس معناه أنه ليس هناك مسلم قبلك. أو تقول الدعاء الآخر وهو: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم غسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد.

كيفية رفع اليدين عند الشروع في الصلاة

كيفية رفع اليدين عند الشروع في الصلاة عندما يقف العبد بين يدي الله عز وجل ينشر راحتيه في اتجاه القبلة -والنشر: أي تفريج الأصابع- ويجعل أصابعه بحذاء أذنيه: إما بحذاء الأذن من أسفل أو بحذاء الأذن من أعلى، فإما أن ترفعها قليلاً، وإما أن تنزلها قليلاً، لكن تجعل الراحة في اتجاه القبلة، وكذلك تجعل أصابع قدميك باتجاه القبلة أيضاً.

وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة بعد أن ينشر العبد راحتيه باتجاه القبلة يقبض أو يضع؟ وضعان فقط لليد. العبد إذا قبض فالقبض صفته: أن الإنسان يقبض على الرّسْغ -والرسغ: هو المفصل الذي بين الراحة وبين الساعد- ثم يضعهما على صدره، ولم يثبت أي وضع إلا على الصدر. أما حديث علي بن أبي طالب (أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضع يده اليمنى على اليسرى تحت السرة) فإنه ضعيف، ومعلوم عند العلماء أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية، فلم يثبت إلا الوضع على الصدر، يعني: بمثابة شبر، إذا وضعت هكذا أو وضعت هكذا أو وضعت هكذا كله جائز طالما أنه على الصدر. لكن العادة أن الإنسان لا يتكلف في الوضع، فالوضع الطبيعي الذي ليس فيه تكلف أن الإنسان يضع يده في الوسط، وبالتالي يكون وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، إما أن يقبض على الرسغ وإما أن يبسط يده اليمنى على اليسرى الرسغ والساعد، وبعض المسلمين قد يسيء فيضع يديه وضعاً غير صحيح، فيمسك يده، فهذا نوع من الزيادة، وهذا الوضع لم يرد فيه حديث أبداً. وأنا رأيت بعض الناس كان يصلي هكذا هذا خطأ، فيكون الفهم الصحيح للحديث: أن يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرُّسْغ والساعد، هذا هو الوضع.

أهمية الإخلاص لله تعالى في الصلاة

أهمية الإخلاص لله تعالى في الصلاة أول شيء يفعله العبد في إقامة الصلاة: الإخلاص، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول دعاء الاستفتاح ويذكر أكثر من دعاء؛ لأن الاستفتاح في بداية الصلاة معناه أن يعلن استسلامه لله تبارك وتعالى وخضوعه، وعبوديته لله عز وجل، فيا عجباً لعبد يعلن أنه عبد لله تبارك وتعالى خمس مرات في اليوم وهو ليس كذلك في حياته في كلامه في مطعمه في مشربه. {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام:79] انظر كلمة: (وجهت وجهي)! إذا وجه العبد وجهه؛ نصب الله وجهه في وجه العبد -كما في الحديث الصحيح- لذلك يمنع المصلي أن يلتفت، فإذا التفت العبد التفت الله عنه، ولا يزال الله تبارك وتعالى مقبلاً على العبد ما كان مقبلاً عليه في صلاته، وذلك بألا يزوي وجهه عن القبلة، وقد ورد في بعض الآثار المتكلم فيها أن العبد إذا صرف وجهه يقول الله تبارك وتعالى له: (إلى خير مني؟!) فالتفات العبد يدل على عدم الصدق في توجيه الوجه لله عز وجل. وهناك معنى آخر في الآية: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي} أي: جعلت حياتي ووجهي، كما يقال: الوجه كذا: أي الطريق، ما وجهتك؟ يقول: في المكان الفلاني أو إلى الجهة الفلانية، إذاً (وجهت وجهي): أي جعلت حياتي ومسلكي وطريقي ووجهتي لله تبارك وتعالى، توضحه الآية التي بعدها والتي قالها النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] هذه الآية توضح هذا التفسير: أن الوجه الذي هو الوجهة، أي: كل ما يصدر عني فهو لله رب العالمين؛ لأنني وجهت وجهي إليه، نصبت نفسي على الطريق إليه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي}. نحن ذكرنا قبل ذلك أنه قدم الخاص، ثم ذكر العام بعد الخاص؛ لأن (محياي) داخل فيها كل شيء حتى الصلاة، والذبح الذي هو النسك، وبعض العلماء يقول: إن النسك هنا معناه الحج، وقالوا: إن الذبح المقصود بالآية هو ذبح الحج الذي هو الهدي، فذكر الصلاة والحج خصوصاً؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وبين الكافر، كما في حديث جابر وحديث بريدة وحديث ثوبان (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك الحج كما قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] ولأن الحج له خاصية وردت في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن العاص عندما أسلم وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك. قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: مالك يا عمرو؟ فقال: أردت أن أشترط. فقال: تشترط بماذا؟ فقال: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها؟) فهذه خاصية عظيمة جداً في الحج، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يفسق ولم يرفث؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وهذا لا يعلم إلا للحج. مسألة أن العبد يرجع من الحج ليس عليه ذنب ألبتة لا يعلم إلا في الحج، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام جعل الحج مقابل الإسلام في هدم ما كان من العبد من ذنوب قبل ذلك ما لم يتعلق به حقوق العباد، فلذلك الله تبارك وتعالى قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] يقبح بالعبد أن يقول هذا ثم يخرج فيشرك بالله تبارك وتعالى، وأفظع من هذا أن يشرك بالله تبارك وتعالى في ذات الصلاة، كأن يصلي للناس، أي: ما جاء ليصلي إلا ليقال: مصل. وهذه قصة ذكرت في مذكرات أحد السفراء يقول: إن رئيس بلده ذهب يزور البلد التي كان هو سفيراً فيها، ثم بعد ذلك ذهب الرئيس إلى كنيسة هذا البلد ومعه رئيسها -وهي بلد نصرانية- ليتفرج، فيقول: إن رئيس هذا البلد النصراني دخل الكنيسة، وقام يكلم الناس أنني مثل عمر، وأن عمر دخل الكنيسة إلخ، وتماماً يريد أن يصير كعمر وأنه سيصلي، فوجد هذا السفير أن الرئيس سيصلي، فظن أنه سيتوضأ ثم يصلي، ولكنه مباشرة دخل في الصلاة وصلى بغير وضوء! العجيب أنه لم يستح من ذكر هذه المسألة، وهذا الشخص له كتاب نشره في الأسواق يتبجح فيه يقول: إنه ذهب إلى ولاية من الولايات الأمريكية، وبدعوة من عالم للكتب، فيقول: إني ذهبت لحضور الجلسة هذه، فوجدت السفير واقفاً على الباب ومضطرباً فقلت له: ما لك؟ قال: النجدة! قلت: لماذا؟ قال: فتنة طائفية! المسلمون يجلسون على كراسي لوحدهم، والنصارى يجلسون على كراسي لوحدهم. فقلت له: لا عليك لا عليك قال له: بلباقتك وبذكائك حل لي المشكلة هذه، أتينا لنجلس جلسة محبة ووئام إلخ. قال: فقمت مباشرة ذاهباً إلى صفوف النصارى -وهذا شيء طبيعي جداً عند رجل لا يصلي ولا يفعل شيئاً- فما أكاد أن أمر على إنسان إلا يقول لي: يا فلان! تعال بجانبي، هذا كرسي خال! ويجلسه على الكرسي، ويقول: ما مضت إلا لحظات حتى راعني أن قام رجل يؤذن للمغرب. يقول: راعني! أي: أفزعني أن قام رجل يؤذن للمغرب، الكلام هذا منشور في كتابه، ولم يستح أنه ينشر هذا في كتابه! يقول: فانتظرنا حتى أنهى الأذان، وقال: وإذا بهم جميعاً يقومون إلى الصلاة، قال: فشعرت باستحياء وخجل قال: فجاءني رجل فقال لي: ألا تصلي؟ قلت له: ليس الآن. فقال لي: يعني ماذا؟ قلت له: ليس الآن، نحن في مجلس محبة ووئام ومجلس أخوة. فقال لي: يعني: ما أنت فيه أهم من الصلاة؟ قلت له: نعم، ما نحن فيه أهم من الصلاة. لا يستحي أن ينشر هذا، عندما يقوم رجل يصلي لغير الله تبارك وتعالى -فلو قام هكذا كما قام ذلك السفير- هذا أشرك حتى في الصلاة؛ لأنه ما صلى لله تبارك وتعالى، إنما صلى لذاك الرئيس، حتى لا يقال: هذا مخالف للأوامر، المفروض الرئيس يجعله يصلي، فكل شيء بالأمر. فأفضع شيء أن تشرك بالله وأنت تصلي، وأنت تعبده، كل هذه الأعمال إنما يجب فيها الإخلاص لله تبارك وتعالى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، و (ما) و (إلا) قلنا قبل ذلك: إن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر، فإذاً لا يجوز إلا أن تخلص العبادة لله تبارك وتعالى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الالتفات بالصدر عند التسليم

حكم الالتفات بالصدر عند التسليم Q هل يصح الالتفات بالصدر حال السلام من الصلاة؟ A لا، الصدر يبقى ثابتاً، الإنسان لا يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت بصدره لا، إنما الالتفات يكون بالرأس فقط وليس بكل الجسد.

الحركة تابعة للكلام عند التسليم

الحركة تابعة للكلام عند التسليم Q إذا التفت جهة اليمين قبل السلام ثم سلم؟ A لا، هذا فيه تكلف، الإنسان إذا قال: (السلام عليكم ورحمة الله) الحركة تكون تابعة للكلام، يعني قل: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله. لكن هو يقول: السلام عليكم ورحمة الله ويفعل هكذا هل تنفع هذه؟! وما الذي جبره على هذا!

المرأة والرجل سواء في هيئات الصلاة

المرأة والرجل سواء في هيئات الصلاة Q هل المرأة مثل الرجل في هيئات الصلاة؟ A الرجل والمرأة على السواء، طبعاً هناك بعض الناس يقول: إن المرأة إذا سجدت تضم أطرافها بعضها البعض لأن المرأة عورة، وهذا لا أصل له؛ لأن كل أحاديث صفة الصلاة المرأة والرجل فيها على السواء، لا خلاف إطلاقاً بين الرجل والمرأة في هيئة الصلاة أبداً، إنما الخلاف بين الرجل والمرأة في مسألة اللباس، وأنها عندما تصلي لابد أن تلبس جوارب أو ستاراً لقدميها، لابد من ذلك، لا يجوز للمرأة أن تصلي وهي كاشفة لقدميها.

حكم صلاة المرأة بدون خمار

حكم صلاة المرأة بدون خمار Q هل إذا صلت المرأة لابد لها من خمار؟ A نعم، تصلي بخمار، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة كلها عورة) هذا حديث في الترمذي وهو صحيح، والعلماء الذين استثنوا، إنما استثنوا الوجه والكفين، إذاً القدمان ليستا داخلتين في الموضوع، فالقدمان تبقى على عموم الحديث الأول. إذاً قدم المرأة عورة، وليس عورة في الصلاة فقط بل عورة دائمة، لا يجوز للمرأة أبداً أن تخرج وقدمها مكشوف أبداً، ولا فرق بين أن يظهر قدم المرأة وبين أن يظهر شعرها أو نحرها أو صدرها أو أي شيء، كله داخل في حدود العورة. مداخلة: وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بخمار) نفي لصحة الصلاة أم أنه نفي لكمالها؟ الجواب: نعم، (لا صلاة) فمعروف أن النفي إن انصب على الجنس ينفيه كلية، فيكون لا صلاة صحيحة، ما نستطيع أن نقول: لا صلاة كاملة إلا إذا وجد صارف يصرف مثل هذا النفي. مداخلة: وإذا كانت المرأة جاهلة؟ الجواب: لا، إلا إذا كان عمداً.

حكم صلاة المرأة بلباس غير الخمار

حكم صلاة المرأة بلباس غير الخمار Q لو صلت المرأة بأي شيء غير الخمار؟ A لا يجوز أن تصلي المرأة بخمار، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لحائض إلا بخمار) (لا) و (إلا) نحن قلنا: إن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر، إذاً لا يجوز للمرأة أن تصلي إلا بخمار، أن تدلي بفوطة على رأسها فهذا لا ينفع، كل هذه الأشياء لا تصلح.

حكم السترة في الصلاة

حكم السترة في الصلاة Q ما حكم السترة في الصلاة؟ A بالنسبة للسترة في الصلاة مما فاتني -فأنا أرجو أن أستدرك ما فاتني- فينبغي للإنسان أن يتخذ السترة في الصلاة حتى لا تقطع صلاته إما من الإنس أو من الجن؛ لأن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمره باتخاذ السترة (قال: إنني أصلي وحدي. قال: إنك لا تدري من يمر أمامك). فيكون مسافة ما بين قدم الرجل وما بين موضع السترة ثلاثة أذرع -في حدود متر وربع- أي: يكون بين موضع قدمك وبين موضع سجودك نحو ثلاثة أذرع، ويكون بين موضع سجودك والسترة مثل مؤْخِرة الرحل، وأنتم تعلمون أن الجمل عندما تحمل عليه العدة التي مثل (البردعة) الخاصة بالحمار، أليس هناك أربع خشبات: اثنتان في الخلف، واثنتان في المقدمة يعلق عليها أشياءه، الخشبة هذه طولها حوالي (20سم)، هذا هو مؤخرة الرحل، فيكون ما بين سجودك وما بين السترة حوالي (20سم) مثل مؤخرة الرحل، وما بين موضع قدمك وما بين السترة ثلاثة أذرع -التي هي تقريباً- مكان سجودك، يعني: مكان جسمك.

مقدار السترة في الصلاة

مقدار السترة في الصلاة Q ما هو مقدار السترة؟ A بالنسبة للسترة يكون شيئاً مرتفعاً عن الأرض، أما حديث الخط فهو ضعيف، والصواب أن السترة تكون شيئاً مرتفعاً أمامك، وفي بعض الأحاديث أن مقدارها مثل مؤخرة الرحل أيضاً، فتكون السترة مرتفعة بنحو حوالي (20سم) على الأرض، أو يكون شيئاً بارزاً على الأرض. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تمام القدوة بحسن الأسوة

تمام القدوة بحسن الأسوة التأسي فطرة من فطر الله تعالى التي فطر عليها الناس، ولهذا تجد أكثر الناس يتأسون ببعضهم ويحاولون تقليد غيرهم، وخير من يُتأسى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس، وفي كرمه ووفائه، وسعة صدره، وقد قسم العلماء أعمال النبي إلى جبلِّية وشرعية، واختلفوا في حكم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعمال الجبلية هل هو واجب أم مستحب؟

بيان أن التأسي فطرة من فطر الله تعالى

بيان أن التأسي فطرة من فطر الله تعالى إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. إن الله تبارك وتعالى لما خلق الناس ركز في فطرهم التأسي، وقد ذكر ربنا تبارك وتعالى في أكثر من آية في كتابه هذا المعنى، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر ثمانية عشر نبياً في سياق واحد، قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال تبارك وتعالى لما ذكر القصص: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَاب} [يوسف:111]؛ وإنما ذلك لما ركزه الله تبارك وتعالى في فطر الناس من التأسي. وقد ورد مثل هذا المعنى في كثير من الأحاديث الصحيحة؛ منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، فساق خبره في تخلفه عن غزوة تبوك، فكان مما ذكره في مسألة الأسوة، ذكر موضعين: الموضع الأول: أنه ذكر تخلفه عن الناس، وأنه في كل مرة يعزم على أن يلحق بهم فيصده النظر في أرضه وفي ثماره عن مواصلة السير خلف الغزاة، قال: (فياليتني فعلت -أي: يا ليتني لما عزمت على أن ألحق بهم فعلت- قال: وكان يحزنني أني لا أجد لي أسوة إلا منافقاً مغموصاً عليه، أو رجل ممن عذر الله عز وجل) الذي كان يحزنه بعدما خرج الناس إلى الغزوة أنه لا يجد في المدينة إلا مغموصاً عليه في النفاق ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل. ثم ذكر خبره وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قدم من تبوك، وجاءه المعذرون من الأعراب، والمنافقون يعتذرون عن تخلفهم عنه في غزوة تبوك، قال: (فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله. قال: فلما رآني تبسَّم تبسم المغضب وقال لي: ما خلفك؟ فقلت: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الدنيا لخرجت من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً، ولكنني إذا حدثتك حديثاً تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، ما كان لي من عذر، وما جمعت قط بين راحلتين إلا في هذه الغزوة. فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق. قال: فتبعني رجال من بني سلمة، وجعلوا يؤنبونني، وقالوا: والله ما نعلم أنك أذنبت ذنباً قبل ذلك، ولقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فما زالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي أحد غيري هذا الذي لقيت؟ قالوا: نعم. فقال: من هم؟ قالوا: هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع. قال: فذكروا لي رجلين صالحين ممن شهدا بدراً لي فيهم أسوة). فانظر إلى الموضع الأول الذي أحزنه: أن يكون أسوته منافقاً. وانظر إلى الموضع الثاني بعدما هم أن يكذب نفسه، ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله أنا مخطئ! بعدما هم أن يكذب نفسه الذي ثبته وجعله رابط الجأش؛ أن رجلين فاضلين ممن شهد بدراً لقيا ما لقيه، فقوى ذلك قلبه.

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين من حديث عمرو بن دينار قال: (سألنا ابن عمر عن رجل طاف في عمرته ولم يسع بين الصفا والمروة، ما يحل له من امرأته؟ فقال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، ثم صلى ركعتين خلف المقام، ثم طاف بالصفا والمروة، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فأعطى الحكم بذكر الآية. قال عمرو بن دينار: فسألنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقال: (لا تحل له امرأته حتى يسعى بين الصفا والمروة). فـ جابر ذكر الحكم مباشرة، أما ابن عمر فذكر الآية لأنها أعم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما طاف فقط، إنما طاف وسعى، فرأيه يلتقي مع فتوى جابر رضي الله عنهما، لكنه ألمح إلى عموم الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وأيضاً في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر مناظرة هرقل مع أبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما سأله هرقل لـ أبي سفيان عن النبي عليه الصلاة والسلام: - قال: هل قال أحد منكم هذا القول قط قبل ذلك؟ - فقال: لا. - قال: فهل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ - قال: لا. - فقال هرقل مجيباً: لقد سألتك: هل قال أحد هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قال: فلو كان أحد قاله قبله لقلت: رجل يتأسى بمن قبله. ثم سألتك: هل من آبائه من ملَك أو مِن ملِك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملِك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. فاستدل أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في خبره الذي نقله عن الله عز وجل، واستدل على أنه لم يسبقه أحد إلى هذا القول قبله لعلة التأسي، وأن الناس يتأسى بعضهم ببعض. وسئل سفيان الثوري والإمام أحمد رحمهما الله عن التأسي فقالا: (عليك بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة). كل هذا يدلنا على أن التأسي خلُق خلَق الله عز وجل الناس عليه، فانظر بمن تتأسى، أبالذي استخرج الله عز وجل من قلبه مضغة الشيطان فليس للشيطان في قلبه حظ؛ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أم بمن دونه؟! ولقد صدق الشاعر وهو يذكر همم الناس، فقال: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة سائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه من شرف الأسد وشرف همته: أنه إذا وجد الكلب يشرب من بئر فإنه يعافه، ولا يشرب منه. همة المرء على قدر همه، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لكن من الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يتأسى به إلا رجلان، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] والصنف الثاني {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. لماذا جعل أكثر الناس هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلفهم ظهرياً؟ لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حياً بيننا اليوم، فقابل في الطريق رجلاً يحلق لحيته، أو رجلاً مسبلاً إزاره، أو رجلاً يلبس الذهب فقال له: اعف لحيتك، أو قال له: ارفع إزارك، أو قال له: اطرح عنك هذا الذهب ماذا كان يفعل؟ الذي أعتقده أن كل سامع لهذا الكلام سيقول: لا شك أنه سيعفي لحيته، ولا شك أنه سيرفع إزاره، ولا شك أنه سيخلع الذهب فهذا كلام جميل! لكن هل له واقع؟ إن الذين جعلوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهورهم لا يرجون الله ولا اليوم الآخر، ولو عشت معهم لرأيتهم من أقل الناس ذكراً لله عز وجل، تجلس في مجلس أحدهم ثلاث ساعات أو أربع لا يذكر الله مرة، إنما يذكر الدولار مائة مرة، ويذكر العقار، ويذكر الأرض، وتُذكر الآمال العراض والدنيا، فإذا نبه منبه على أي أمر تنبيهاً شرعياً تكلموا جميعاً في دين الله عز وجل بلا هدْي ولا كتاب منير، أطول الناس ألسنة في الكلام في دين الله أجهلهم بهذه الشريعة وأبعدهم من الذكر، لا يقوي القلب على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترجو الله واليوم الآخر، كما كان الصحابة يفعلون. روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بسند حسن، عن بريدة رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً فغاص بالناس -امتلأ- فجاء جرير بن عبد الله فلم يجد مكاناً فجلس خارج الدار، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم، فلف ثيابه وقذف بها إليه أن اجلس عليها، فأخذها جرير فوضعها على وجهه وقبلها). نظرة الحب والتأسي عند هذا الجيل كانت عالية، وكانوا يجعلون رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، وفي سويداء القلب؛ لذلك هان عليهم اتباعه والتأسي به، حتى إنهم كانوا يتبعونه فيما يستطيعونه، وكان الواحد منهم يخرج من بيته يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر اليوم. ويجلس يومه كله ينظر إليه وهو يصلي، وينقل حركاته كلها، حتى إنهم لما كانوا يصلون خلفه في صلاة الظهر كانوا يعلمون قراءته باضطراب لحيته! بل وأبعد من ذلك: كانوا يسمعون للقراءة في صدره أزيزاً كأزيز المرجل، أي أن صدره له صوت وهو يقرأ؛ من شدة ما يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعاني التي في كتاب الله عز وجل، ثم ينقلون هذا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء بهم مرة، فجاء ذكر موسى وهارون فسعل سعلة ثم ركع فسجلوها ودونوها أنه سعل عند ذكر موسى وهارون وركع. فنقلوا لنا كل شيء في حياته صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأنهم كانوا يرجون الله واليوم الآخر، وكانوا أكثر الناس ذكراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفاؤه عليه الصلاة والسلام

وفاؤه عليه الصلاة والسلام إذا نظرت إلى وفائه عليه الصلاة والسلام ما رأيته غدر قط، وما ينبغي له عليه الصلاة والسلام، حتى مع أعدائه إذا قال وفّى، في صحيح مسلم أن حذيفة بن اليمان قال: (ما شهدت أنا وأبي وقعة بدر -مع أنهم كانوا حاضرين، لكن ما قاتلوا- قال: لقينا كفار قريش فقالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة. قالوا: إنكم ستقاتلوننا -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأعطونا العهد والميثاق ألا تقاتلونا ونحن نخلي بينكم وبين وجهتكم، فأعطوهم العهد والميثاق، ثم جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: نوفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) هو أوفى الناس، لا يغدر وما ينبغي له! وكما روى النسائي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأذن للناس في البيعة العامة، أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين، فقال: اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)، وكان الخائف إذا أراد أن يفر من مَن يريد أن يقتص منه أو يقتله ذهب إلى الكعبة فتعلق بأستارها، فحينئذ يأمن؛ لأن العرب كانوا يعظمون البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجروا على سالف ما كنتم ترون أو تفعلون، إذا جاء الجاني فتعلق بأستار الكعبة لا تتركوه (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة) وهؤلاء هم: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي سرح، فلقي الناس مقيس بن صبابة في السوق فقتلوه، ووجدوا عبد الله بن خطل معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، فأما عكرمة بن أبي جهل ففر راكباً البحر هارباً، فهبت ريح عاصف كادت الأمواج أن تحطم السفينة، فقال صاحب السفينة: أخلصوا الدعاء؛ فإن آلهتكم لن تنفعكم هنا. فقال عكرمة: (لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله علي إن أنجاني لآتين محمداً صلى الله عليه وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فقبل منه، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة جاء عثمان بن عفان بـ عبد الله بن أبي سرح فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، حتى قالها ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى كل ذلك أن يبايعه، ثم بايعه بعد ذلك، والتفت إلى أصحابه فقال: أليس منكم رجل رشيد! إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه. فقالوا: يا رسول الله! هلا أعلمتنا بما في نفسك -وفي اللفظ الآخر قالوا: هلا أومأت إلينا بعينك- فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وسماها خائنة؛ لأنها إنما تكون من خلف ظهر صاحبها، لذلك سماها خائنة، فكل رجل يغمز لآخر في غفلة صاحبه فهو خائن، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فما غدر قط صلى الله عليه وسلم لكنه قد ينتقم بعدما يعذر مرة ومرة ومرة، ثم بعد ذلك إذا استيقن من لؤم الرجل أو الخصم أخذه على حين غرة؛ لأن الحرب خدعة، وهذا لا ينافي ما قلت من أنه صلى الله عليه وسلم ما غدر قط، فلو أخذ رجلاً غيلة أو أمر أن يؤخذ غيلة فقد أفضى إليه مراراً، كـ عمر بن أبي عزة مثلاً، كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشبب بنساء المسلمين، فظفر به فهم أن يقتله، فطلب العفو وقال: يا محمد! كن خير آخذ ولا أعود، فتركه فعاد، فظفر صلى الله عليه وسلم به فقال له: هذه لا أعود، فتركه، فأغراه المشركون فشبب بنساء المسلمين، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب العفو منه فقال: (لا، والله لا أدعك تمشي في طرقات مكة تقول: ضحكت على محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأمر به فقتل). صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَذَا وَالزِّقُّ مَلآنُ وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ من أعذب ما قالته الشعراء هذا الذي قاله قريط بن أنيف، أبيات نحتاج إليها اليوم لاسيما في هذا الضعف الذي يعيشه المسلمون وهم يتكايسون، ليس عندهم فطنة، لكنهم يتكايسون، يرون عدوهم يلعب بهم، ومع ذلك يطلبون وده، وكلما زاد في إهانتهم زادوا طلباً لوده ولرضاه وصفحه، وما كان هكذا السلف الأول قوله: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ شخص يجهل عليك، كل يوم يضربك فتقول له: الله يسامحك، يضربك مرة أخرى. فتقول: الله يسامحك، يعتدي على عرضك فتقول: الله يسامحك لا. (وَبَعْضُ الْحِلْمِ عند الجهل): يعني هذا ليس أوان الحلم ولا مكانه عندما يجهل عليك شخص ويشتمك ويضربك (لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ): هذا إذعان واستسلام، ليس حلماً ولا له علاقة بالحلم. وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ أعطيته الإحسان مرة واثنتين وثلاثاً، ولم تجد إلا الغدر ما بقي إلا الانتقام. وعلى هذا تحمل كل الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، كمقتل كعب بن الأشرف، فقد كان رجلاً شاعراً وكان يهودياً، وكان يؤذي الله ورسوله، فلما فاض الكيل وبلغ السيل الزبا، وتجاوز الرجل كل الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله)، وهذه كانت كافية ليعلن المسلمون النفير العام (إنه آذى الله ورسوله). في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف، وهذا الحديث أذكره ليبكي الحر على نفسه، الحر الذي لا يجد طريقاً إلى إعادة شرفه مرة أخرى، أقل ما يفعله أن يبكي على نفسه. روى الشيخان من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ جاءني غلامان: واحد عن يميني، والآخر عن شمالي، فقال لي أحدهما -وأسر لي حتى لا يسمع صاحبه-: أي عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا بن أخي؟ فقال: بلغني أنه يسب رسول الله. والله! لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: فعجبت من مقالته، ثم أسر لي صاحبه فقال لي مثل مقالته، قال: فبينا أنا كذلك إذ رأيت أبا جهل يزول في الناس - يعني: يذهب ويأتي مضطرباً- فقلت: هذا صاحبكما، قال: فانقضا عليه ضرباً بالسيف فقتلاه، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته، وتنازعا -كل واحد يقول: أنا الذي قتلته، لأن قتل عدو رسول الله شرف، فكل منهما يريد أن يسبق إلى هذا الشرف- حتى جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتكمان إليه فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال: أرني، ثم قال تطييباً لخاطرهما: كلاكما قتله) غلامان! حتى أن عبد الرحمن بن عوف قال: (وجدت نفسي بين غلامين تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) كأنه يقول: كنت أتمنى أن يكون على يميني شخص ضليع وعلى يساري كذلك، لكن على يميني غلام صغير وعلى شمالي غلام صغير. قال: (بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لا يفارق سوادي سواده -يعني: لا يفارق شخصي شخصه، حتى يموت الأعجل منا). ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله) انتدب له محمد بن مسلمة وأبو نائلة - محمد بن مسلمة ابن أخته، وأبو نائلة أخوه من الرضاعة- فقالا: (يا رسول الله! هل تأذن أن نقول له شيئاً -يعني أن نخدعه بالكلام-؟ فأذن صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه محمد بن مسلمة فقال: جئتك أستلف منك وسقاً أو وسقين من شعير، فإن هذا الرجل قد عنانا، فقال كعب مبتسماً: وأيضاً والله لتملنه -يعني: أنتم لم تروا شيئاً بعد- فقالا: إننا لا نريد أن نتركه حتى نرى عاقبة أمره، وجئنا نستسلف منك. قال: ارهنوني نساءكم فقالا له: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!) (فقال: ارهنوني أبناءكم. فقالوا: هذا عار علينا، يسب الولد يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير! ولم يتركوا له خياراً يعرضه، بل هم من عرضوا عليه قالوا: ولكن نعطيك اللأمة). اللأمة: هي درع الحديد الذي يلبسه المقاتل ليقي نفسه ضربات السيف، وهذا عرض ذكي، لأنهم أجمعوا قتله، لكن عندما يأتون بالأسلحة والرجل لم يتفق معهم على الأسلحة، سيشعر أنهم يريدون أن يغدروا به. (قالوا: بل نأتيك باللأمة، فاتفقوا، حتى كان اليوم المعلوم بينهم، فجاءا في نصف الليل فناداه أبو نائلة فقال: يا كعب! انزل، وكان كعب حديث عهد بعرس، فقالت له امرأته: إلى أين في هذه الساعة؟ قال: إنما هو رضيعي أبو نائلة، وابن أختي محمد بن مسلمة. فقالت المرأة له: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي أبو نائلة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب -عار عليّ أن يناديني أحد ولا أنزل، ولو أن اثنين تعاركا وقال أحدهما: أغيثوني، وأنا لا أعرفهما لكان ينبغي علي أن أنزل لنجدته نخوة العرب! - فنزل وهو ينفح عطراً، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً، أتأذن لي أن أشم رأسك، فشم رأسه

هديه عليه الصلاة والسلام في الأكل

هديه عليه الصلاة والسلام في الأكل قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. مثلاً: في مأكله عليه الصلاة والسلام، فإنه ما عاب طعاماً قط، يا لحلمه وصفحه! ولا يخلو طعام من عيب، فما عاب طعاماً قرب له قط، إن اشتهاه أكله، وإن عافته نفسه تركه، وهذا من فقهه عليه الصلاة والسلام، فإن الناس تتفاوت أذواقهم، رب طعام تعافه نفسك يكون مشتهى عند رجل آخر، فلماذا تعكر على هذا الآخر؟ ربما يخطئ في هذا بعض الآباء، فعندما يقدم له الطعام يبدأ في إعابته فيقول: الأرز فيه كذا، والطبيخ بائت أهذا أكل؟ أهذا شرب؟ لا، أنا لا آكل طبيخاً بائتاً. مع أن أولاده كانوا سيأكلونه، وليس لهم هذه الملاحظة التي له، فهلا كتمها؟ لماذا يعكر على هذا الذي كان سيقبل على الطعام بشهية، لماذا يعكر عليه شهيته ويعكر عليه مراده؟ وهذا من فقهه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرء لا يجري على وتيرة واحدة في حياته، يعني قد يغتني في بعض دهره ويفتقر في البعض الآخر، ولا يكون سواء، يومه ليس كغده، وأمسه ليس كغده، والأيام دول، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما كان يعيب طعاماً قط. فأنت حين تدخل البيت ولم يعجبك الطعام اطلب طعاماً آخر، لكن لا تعب هذا الطعام، ولو أن بعض أولادك جهر بعيب الطعام أظهر له مزاياه، حتى وإن كنت لا ترى ميزة، حتى تعين ولدك على بطنه. كثير من الناس تركوا الالتزام وأكلوا الحرام بسبب البطن، وبعض الناس يخرج من وردية ويدخل وردية، عندما تسأله يقول لك: آكل عيشاً، وكثير من الناس أنفق عمره على تحصيل شهواته، فأعن ابنك على بطنه، وعلمه ألا يعيب شيئاً، فربما كان حظه أقل من حظك في الدنيا، فإذا عاش في هذا المستوى ربما ارتشى، وربما أكل الحرام حتى لا يهبط عن المستوى الذي عاش فيه مع أبيه. فإذاً: ترك النبي صلى الله عليه وسلم العيب في الطعام له أكثر من فائدة. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للطعام جلس جلسة العبد، ما ترك العبودية في موضع ولا مكان حتى وهو يأكل، فكان يقول وهو جالس القرفصاء يأكل: (أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد) ويصرح بهذا ويجهر به، لكن جلسة البطر والكبر ما فعلها قط صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي له عليه الصلاة والسلام. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي الرجل إذا جاءه خادمه بطعام أن يجلسه ليأكل معه، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك قائلاً: (إنه كفاك حره وناره) يعني هو الذي وقف يطبخ لك، وهو الذي أصابه لفح النار، وهو الذي تصبب عرقاً، وأنت جالس دائماً، وجالس في التكييف، فأشركه معك في الأكل اذكر جميله حيث تلقى هو لفح النار، أنت تفعل هذا مع امرأتك التي كفتك حر النار، وكفتك هذا التعب، وجئت فوجدت الطعام معداً مهيئاً فتشكرها عليه، وتثني عليها، لاسيما إذا رأيت أو آنست منها إخلاصاً في العمل وفي بذل الجهد، فكما أنها كفتك هذا الحر وهذه النار، فأنت بدورك تسدي لها الشكر، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفاناً لهذا الخادم أنه يجلس فيأكل، وقد علل ذلك بما سمعتم.

حلمه عليه الصلاة والسلام وسعة صدره

حلمه عليه الصلاة والسلام وسعة صدره نوصي المسلمين بقراءة الكتب التي صنفت في شمائله صلى الله عليه وسلم؛ ككتاب: أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وكتاب: الشمائل للإمام الترمذي صاحب السنن، فإنهم ذكروا طرفاً من حياته صلى الله عليه وسلم، فيذكرون مثلاً من حلمه وسعة صدره عليه الصلاة والسلام، ما أخرجه مسلم في صحيحه: (أن امرأة في المدينة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة. فقال لها: نعم، وانتحى بها ووقف معها حتى قضت حاجتها)، وفي الحديث الآخر (أن امرأة -كهذه أو هي- كانت تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتطوف به المدينة فلا يمتنع عليها)، وكان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، وكان إذا أعطى أذنه رجلاً لا ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، يعني: إذا أعطاه أذنه يسمع له فإنه صلى الله عليه وسلم لا يبتعد حتى ينهي الرجل مقالته. وهناك شيء شبيه بهذا، وهو الهاتف، مثلاً: رجل طلب آخر، وبعد أن انتهت المكالمة قال الرجل المطلوب للذي اتصل به: السلام عليكم، وهذا ليس على الهدي، إنما ينبغي أن يسلم الذي طلب، لماذا؟ لأنه قد يكون له حاجة، فاتركه حتى يبلغ حاجته، وإذا أردت أنت أن تنهي المكالمة فاسأله: هل لك حاجة أم لا؟ لاسيما أن الطالب هو الذي يدفع أجرة الاتصال؛ فلماذا أنت مستعجل؟ لا تنه المكالمة حتى ينهيها هو، فإن هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا صافح رجلاً لا ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع، أو حتى يكون هو الذي يتنحى. وفي كرمه صلى الله عليه وسلم كانوا يروون حديث جابر -وهو في الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سُئل شيئاً قط فقال: لا) أبداً. وأنت تنظر أيضاً إلى سعة صدره وحلمه عليه الصلاة والسلام في حديث أنس المتفق عليه، قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيءٍ فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي قط لشيء تركته: لم تركته؟) عشر سنين من حياته عليه الصلاة والسلام، لا يعاتبه، لأن كثرة العتاب تفسد الود، فلا تكثر من معاتبة صاحبك؛ فتقل حشمتك وتهون عليه، ولا تكاد تجد صاحباً يصافيك مائة بالمائة أبداً. إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه انظر إلى هذا الكلام كأنه مشتق من مشكاة النبوة! إذا كنت تريد ماء سلسبيلاً ليس فيه تراب ولا غبار ولا رمل إذاً مت من العطش، بل لابد أن تشرب الماء بالقذى؛ لأن الماء الذي ليس فيه شيء من ذلك لا تشربه إلا في الجنة، والذي هو السلسبيل، كذلك صاحبك إذا أردت صاحباً يوافقك مائة بالمائة إذاً عِش بلا صاحب، وإذا أردت زوجة لا تخالفك في قليل ولا كثير؛ إذاً الق الله عزباً ولا تتزوج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة) يعني: مستحيل، لو أن الرجل له مائة طريقة فالمرأة لها ألفان وهكذا، فيكون بينك وبينها بون شاسع في التقلب، وفي تعدد الطرق والمذاهب. إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة، يعني: لا بد أن تغضب منها يوماً حتى وإن كانت أوفى الناس، وإن كانت أفضل الناس. إذاً ليس هناك إنسان يصافيك مائة بالمائة إلا أن يكون كمثل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي صافاه مائة بالمائة، وهو الذي وافقه مائة بالمائة، وهو الذي كان يحبه مائة بالمائة، ولا أعلم قط لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقفاً واحداً خالف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو اعترض عليه، بخلاف من جاء بعد أبي بكر بدءاً من عمر رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه كان يبدي رأيه بصراحة، أما أبو بكر فما كان كذلك؛ لشدة تعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم. إن عمر جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية معترضاً فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: ألم تخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: فهل قلت لك إنك تطوف به العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به)، ولم يرفع هذا الكلام الحرج من صدر عمر، فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنه يعدد له نفس هذه الاعتراضات، (قال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى. أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألم يخبرنا أنا نأتي البيت؟ قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) فشابه قول أبي بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف؟ وقال له: (يا أيها الرجل! الزم غرزه، فإنه رسول الله وليس يخالفه). وقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر قبل أبي بكر: (إني رسول الله ولست أعصيه) هذا هو الصاحب الذي وافق صاحبه مائة بالمائة، ولا أعلم أحداً وافق الرسول صلى الله عليه وسلم مائة بالمائة حتى في المستحبات وفي رأيه، إلا أبا بكر الصديق. إن أبا بكر وافق النبي صلى الله عليه وسلم في اجتهاده في أسرى بدر، ولم يعترض ولم يعارضه بخلاف عمر، وإن كان نزل القرآن موافقاً لرأي عمر، لكن أبا بكر وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لما وقعت حادثة الإفك وجاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبويها، وظلت شهراً تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد شهر كامل لا يتكلم، ولا يبرئ عائشة فجلس، فحمد الله وأثنى عليه، قالت عائشة: وكانت أول مرة يجلس فيها منذ كان ما كان، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه)، فشعرت عائشة أن في هذا الكلام اتهاماً لها، فقالت لأبيها: (أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: والله يا ابنتي ما أدري ما أقول. فقالت لأمها: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله يا بنتي ما أدري ما أقول. قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن، لا أحفظ كثيراً من القرآن: إنني لو قلت: إنني فعلت والله يعلم أنني ما فعلت لتصدقنني، ولو قلت: إنني لم أفعل، والله يعلم أني لم أفعل لا تصدقوني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] قالت: ثم تحولت، فوالله ما خرج أحد من البيت حتى أنزل الله براءتي). فها هو أبو بكر رضي الله عنه لما وجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ولم يتكلم، ولم يفصل مع حاجته إلى الفصل في هذا، ومع حاجته أن يبرئ امرأته مما رماها به الواشون، وقف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصاحبك مقارف ذنباً ومجانبه؛ فأقل من العتاب، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أقل الناس معاتبة، ولو عاتب لشعرت بقطرات الحنو والدفء في كلامه! روى البخاري في كتاب المرضى، وكذلك مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه على حمار، وذهبنا نعود سعد بن عبادة -وذلك قبل وقعة بدر- فلما مررنا على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم، فقال عبد الله بن أبي -إشارة إلى التراب الذي أثارته رجل البغلة- قال: لقد غبر علينا، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الرجل! إن الذي تقول لحسن إن كان صدقاً، فلا تأت مجالسنا، فمن أراد أن يسمع كلامك فليذهب إليك، لكن لا تأتنا فإنا لا نحب ذلك. فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! والله إننا لنحب أن تأتي مجالسنا، وقال آخر لـ عبد الله بن أبي ابن سلول: والله لرائحة بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب منك، وثاروا جميعاً حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب البغلة يسكنهم حتى سكنوا، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة فدخل عليه وهو مريض، فقال لـ سعد: يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو الحباب؟! - أبو الحباب هو: عبد الله بن أبي ابن سلول، فانظر إليه كيف كناه، والكنية إنما تكون للتشريف، مع أن عبد الله بن أبي ابن سلول سبه منذ قليل- فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح، فإن كان يطمع أن يكون رأساً على أهل هذه البحيرة، فلما آتاك الله ما آتاك من النبوة شرق لذلك -وفي رواية: فأنزل الله عز وجل قوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]). فانظر إليه صلى الله عليه وسلم ما أحلمه! لذلك خطف قلوب الناس، وأذعن له الكبير والصغير، والموافق والمخالف، إذ لم يأخذوا عليه شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، حتى إن هذا الذي شرق بما آتاه الله رسوله، يقول: إن الذي تقول لحسن لو كان صدقاً. فأذعن لحسن كلامه عليه الصلاة والسلام، فيا ليتنا ونحن نبلغ دعوة الله عز وجل إلى الناس أن نكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم فنتأسى به. إن الله عز وجل قال له مع شرف منصبه، وأن لا شرف في الدنيا أعلى من منصبه عليه الصلاة والسلام، قال له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، مع حاجتهم إليك وإلى الإيمان بك، وأن المرء منهم لو كفر بك لا يلج الجنة أبداً، فإنك لو كنت فظاً غليظ القلب

حكم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: أدب منامه، ومأكله ومشربه، وأدب تعامله مع جيرانه ومع أزواجه وأعدائه، لم يترك العلماء باباً من هذه الأبواب إلا ووضعوا فيه حديثاً أو حديثين، أو واقعة أو أكثر تدلل على خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو أردت أن تتأسى بأي صفة تخطر لك على بال وجدت رسول الله إماماً فيها، فأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصل الائتمام به واجب، لقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، فالأصل في طاعة أي رسول أنها واجبة على قومه، ولا تصرف الأدلة الجزئية أو الوقائع التفصيلية من الوجوب إلى الاستحباب إلا بدليل، وإلا فأصل التأسي واجب. والعلماء لما ذكروا التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا: هل التأسي به واجب على الإطلاق، أم مستحب على الإطلاق؟ والصواب أن المسألة فيها تفصيل: بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها فعلاً جبلياً، كطريقة مشيه عليه الصلاة والسلام، فكان إذا مشى كأنما تحدر من صبب، يمشي بقوة وفتوة عليه الصلاة والسلام، وكان يمشي محلول الأزرار، وكان يمشي وفي يده عصا كل هذه تدل على المشروعية أو على الجواز أو على الاستحباب؛ لأن مثلها ارتفع إلى درجة الاستحباب والمشروعية بدليل من خارج، ولذلك العلماء يفرقون بين الأفعال الجبلية والأفعال التي قصد بها المشروعية. فالشعر مثلاً أوصى به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يعامل الشعر معاملة حمل العصا ولا فك الأزرار، لا، الشعر أعلى، يعني استحبابه أوضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع تركه لشعره حتى كان يضرب إلى منكبيه، كان يقول: (من كان له شعر فليكرمه) هذا حض منه على إكرام الشعر، ولم يكتف بمجرد الإطلاق لشعره فقط، حتى حض على إكرامه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أخذت فخذ منه كله أو دعه كله). ولكن العلماء يقولون: حتى الأفعال الجبلية التي كان يفعلها صلى الله عليه وسلم بغير قصد أن يُتأسى به يأخذ المسلم عليها أجراً إن قصد الموافقة؛ لأن الموافقة هي دليل الحب، فمثلاً شخص يمشي حاملاً في يديه عصى، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحمل العصا، لكن بشرط ألا تكون عصا المارشال، التي كان يأخذها شخص ويذهب عند الهرم، وأراد أن يكون الهرم الرابع، العصا هذه تدخل النار، لأن الذي يحملها كله كبر، لكن أن تحمل العصا بقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكتب لك بها الأجر. فالأفعال الجبلية كلها إذا قصدت بها مطلق التأسي انتقلت من المباح إلى المستحب مباشرة، ولا يفعل هذا إلا محب، لا يبلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ إلا وينبغي أن تبادر إلى إثباته ولو مرة في حياتك، وهذا هو عنوان الحب. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل رسول الله لنا إماماً، اللهم اجعل رسول الله لنا إماماً، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

الطريق إلى الجنة

الطريق إلى الجنة الطرق الموصلة إلى الجنة كثيرة ومتنوعة؛ وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، فقد يسر الله لعباده هذه الطرق وعددها لهم لأن النفوس تختلف، والأبدان تتفاوت في القوة والضعف، فكل يطرق الباب الذي يستطيع طرقه، ويعلم أن هذه الطريق صحيحة وموصلة إلى الجنة بإذن الله سبحانه وتعالى، وإن الطريق الجامعة لكل شعب الإيمان هي أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه، وهذه الشهادة لابد للعبد من الإتيان بها حتى ينجو من عذاب الله، ويصل إلى جنته.

فوائد من حديث: (من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله)

فوائد من حديث: (من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا أبو بكر وعمر، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقتُطع دوننا، وخشينا أن يصيبه أذى، ففزعنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبحث عنه حتى أتيت على حائط للأنصار فوجدت في أسفل الحائط ربيعاً -أي: جدولاً- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب ودخلت، فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسند ظهره للحائط، قال: أبو هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله! اقتُطعت دوننا، وخشينا أن يصيبك أذى، قال: اذهب بنعليَّ هاتين فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال: فلقيت عمر قال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال لي: من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال أبو هريرة: فضربني عمر بين ثديي فوقعت لاستي -أي: وقع على استه- قال: فأجهشت بكاءً، ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وركبني عمر -أي: انطلق على أثره بلا مهلة- فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مالك يا أبا هريرة؟ قلت: هذا عمر قلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: من لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة؛ فضربني فوقعت لاستي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم يا عمر؟ قال: يا رسول الله! خلِّ الناس يعملوا، قال: خلّهم يا عمر).

جواز نزول رأي الفاضل إلى رأي المفضول

جواز نزول رأي الفاضل إلى رأي المفضول قال أبو هريرة: (وركبني عمر -يعني: انطلق وراءه بلا مهلة- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام قال: مالك يا أبا هريرة؟ قلت هذا عمر قلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة؛ فضربني فوقعت لاستي -وكان عمر قد دخل- قال: لم يا عمر؟ قال: يا رسول الله! خل الناس يعملون)؛ لأنهم إن سمعوا هذه الكلمة تكاسلوا في العبادة، وظن بعضهم أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وأغنته عن كثير العمل، فخل الناس يعملون واكتم عنهم هذه البشارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلهم يا عمر). وهنا فائدتان: الفائدة الأولى: جواز نزول رأي الفاضل على رأي المفضول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى رأي عمر، وقد نزل النبي عليه الصلاة والسلام إلى رأي عمر كثيراً، إن عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين قال على المنبر يوماً: (وقد كنت أجرؤكم على النبي صلى الله عليه وسلم)، وتعجب عمر من جرأته، وكيف كان يتجرأ؛ حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ابن سلول صلاة الجنازة وقف عمر أمام الجنازة وأراد أن يمنع النبي عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه، حتى قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (خلِّ عني يا عمر) فكان رضي الله عنه جريئاً عليه صلى الله عليه وسلم. فكان عمر يتعجب من هذه الجرأة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في غزوة تبوك أنه قلت أزواد القوم، فهموا أن ينحروا بعض الإبل، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بنحر بعض الإبل يأكلونها ويشربون الماء الذي في أجوافها ويدهنون بها، فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إننا إن ذبحنا الإبل قل الظهر، ولكن اجمع ما في أزواد القوم ثم سم الله عليها)، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأي عمر فجاء صاحب البر ببره، وصاحب التمر بتمره، وجاء هذا بكف من ذرة وهذا بكف من شعير، وهذا بكسرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى عليه، فحملوا كثيراً في أزوادهم وفضلت فضلة.

جواز كتم العلم عمن يظن ضرره إذا بلغه

جواز كتم العلم عمن يظن ضرره إذا بلغه الفائدة الثانية: جواز كتم العلم عن من يظن ضرره إذا بلغه هذا العلم؛ لأنه قال: (خلِّ الناس يعملون) لئلا يغتر رجل بظاهر هذا الحديث فيترك العمل اتكالاً على القول، فيجوز أن تكتم مثل هذه البشارات عمن تظن أنه إذا علم بها اغتر وقل عمله وجده، فـ معاذ بن جبل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! قال: لبيك رسول الله وسعديك! قال له: يا معاذ! -وهو رديفه على الحمار يعني: يركب خلفه- يا معاذ! قال: لبيك رسول الله وسعديك، ثلاثاً -كل هذا ليستجلب انتباه معاذ - قال: لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله على النار، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً)، لما جاءت المنية معاذاً أخبر بهذا الحديث خشية أن يقع في إثم كتمان العلم، وإلا فـ معاذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا أبشر الناس؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً يتكلوا) أي: يتكلوا على مجرد القول فيتركون العمل. فهذه من الفوائد المنثورة في حديث أبي هريرة ونسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ما قلناه وما سمعناه بقبول حسن، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

جواز الدخول إلى بيت الغير أو ملكه للضرورة

جواز الدخول إلى بيت الغير أو ملكه للضرورة قال أبو هريرة: (فكنت أول من فزع فرأيت حائطاً لبني النجار) والحائط هو البستان الذي عليه سور- فبحث أبو هريرة عن مدخل لهذا لحائط، فلم يجد غير ربيع في أصل الجدار، والربيع هو الجدول، كأنها كانت قناة ماء تمر بأسفل الجدار على هيئة القبو، لذلك قال أبو هريرة: (فاحتفزت كما يحتفز الثعلب)، أي: أنه ضم أطرافه بعضها ببعض حتى يتمكن من الدخول من هذا الجدول، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلم أن يدخل بيت غيره أو ملك غيره بغير إذنه لضرورة؛ لأن الأصل أنه لا يجوز لك أن تدخل بيت غيرك أو ملك غيرك إلا بإذن، وفي صحيح البخاري ومسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً ينظر من نافذة حجرته وكان بيده آلة حادة، فقال له: (لو رأيتك وأنت تنظر لطعنت بها في عينك ولا دية لك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فإذا دخل البصر فلا أذن) لم جعل الاستئذان؟ حتى لا يقع بصرك على عورات الناس، فإذا دخل البصر فما قيمة الإذن، ما قيمة أن تنظر وتتسمع كلام الناس ثم تدق الباب؟! إنما جعل الاستئذان من أجل ألا يسبق بصرك إلى عورات الناس، ولذلك قال: (لو رأيتك لطعنت بها في عينك ولا دية لك) أي: لو رأيت رجلاً ينظر في بيتك بغير إذنك فطعنته في عينه فذهبت فلا دية له، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، هذا هو الأصل، لكن هب أنك سمعت صراخاً في بيت الجار واستغاثة، أو رأيت حريقاً أو أي شيء ضار، فالاستئذان لا يسع في هذا، ولكن ادخل، وهذا خروج عن الأصل للضرورة ودليله هذا الحديث، أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على أبي هريرة، فلم يقل له: كيف تدخل ملك الناس بغير إذن، هل استأذنت؟! فلما لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك دل على جوازه، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن الخطأ: (قال: أبو هريرة؟ -على سبيل الاستفهام وتقديره: أنت أبو هريرة - قال: نعم يا رسول الله! قال: ما جاء بك؟ قال: اقتُطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، وهؤلاء أصحابي على أثري -أي: يبحثون عنك معي- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

جواز إعطاء الأمارة للغير

جواز إعطاء الأمارة للغير الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) وفي هذا دليل على جواز إعطاء الأمارة، فلو قلت لفلان: اذهب إلى فلان فقل له بأمارة كذا وكذا أعطني كذا جاز، ونعل النبي صلى الله عليه وسلم كانت معروفة للصحابة جميعاً؛ لذلك أراد أن يهدئ من روع هؤلاء، فقال: (خذ نعلي هاتين -كدليل على أنك قابلتني (أمارة) - فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).

لزوم التكنية عن الأسماء القبيحة

لزوم التكنية عن الأسماء القبيحة فأخذ أبو هريرة النعل وانطلق فكان أول من قابل عمر قال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قال: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لي: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فضربه عمر قال: فضربني بين ثديي فوقعت لاستي) والاست اسم من أسماء الدبر، وفي هذا دليل على التكنية عن الأسماء القبيحة، وأن التصريح بها لا ينبغي، وقد أدبنا الله تبارك وتعالى هذا الأدب، قال تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] والرفث: الجماع، لكنه عبر بالكناية أو بكلمة تومي إلى هذا المعنى بغير تصريح، وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] وإفضاء الرجل إلى المرأة كناية أيضاً عن الجماع، لكن يُلجأ إلى هذا التصريح لمصلحة راجحة كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2] لأنه لا يجمل أن تعبر بالكناية في موضع الحد بل لا بد من التصريح.

جواز التغليظ في نصيحة من لا يجد عليك في قلبه

جواز التغليظ في نصيحة من لا يجد عليك في قلبه قال: (فضربني فوقعت لاستي، فأجهشت بكاءً) وأخذ بعض العلماء جواز التغليظ في النصيحة لمن يظن به ألا يتغير، أي: يجوز لك أن تغلظ في النصيحة لبعض من تظن أنهم لا يتغيرون عليك ولا يجدون عليك إذا أغلظت عليهم في النصيحة، فهذا عمر ضربه بمجامع يده، حتى قال أبو هريرة: (فأجهشت بكاءً)، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم دامع العينين.

خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامهم له

خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإعظامهم له خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإعظامهم له، وإشفاقهم أن يصاب بمكروه؛ لأن أبا هريرة قال: (كنا قعوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر) وذكر أبا بكر وعمر بالذات تنويهاً لشأنهما قال: (فقام عنا النبي صلى الله عليه وسلم فاقتُطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، وفزعنا فكنت أول من فزع) وإذا تأملت حياة هؤلاء الصحابة وجدتهم يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام غاية الإعظام، ولا يقدمون عليه أحداً كائناً من كان، حتى إن أبا سفيان قال لبعض المسلمين -وقد أسره في غزوه أحد-: (أتحب أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ قال: والله ما أحب أني بين أهلي ومحمداً صلى الله عليه وسلم في مكانه يصاب بشوكة)، فضلاً عن أن يأتي إلى هنا. فكانوا يعظمونه غاية التعظيم، حتى إن عمرو بن العاص لما أدركه الموت وحكى لابنه عبد الله مراحله في الإيمان والكفر قال من جملة ما قال وهو يحكي عن حال كفره: (ولم يك شيء أحب إليَّ من أن أكون استمكنت من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلته، وإنني إن قتلته دخلت النار) فلما آمن قال: (ولو طلب مني أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فإنني ما كنت أملأ عينيّ منه إجلالاً له) أي: من الحياء وشدة الإجلال ما كان يطيق أن يطيل النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه. فهذه كانت سمة عامة، وهذه السمة هي أهم ما يفتقده المسلمون الآن، فمشكلتهم الآن أنهم لا يجلون النبي عليه الصلاة والسلام الجلالة الواجبة، ولا يعظمونه الإعظام الواجب، إنما يردون أحاديثه، ولا يتأدبون في الخطاب معه. والله إن بعض الناس قال اليوم مقالة لو قالها في زمان الصحابة لقتل ردة، لا أقول: يقتل حداً، بل ردة، وهو الذي يسمع قوله عليه الصلاة والسلام: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) وهذا حديث رواه مسلم قال أبو ذر: يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؛ لماذا الكلب الأسود بالذات؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان) من الواضح هنا أن النبي عليه الصلاة والسلام فرق ولم يسو بين الكلاب كلها، فيأتي هذا الراد غير المتأدب فيقول: (الكلاب كلها سواء لا فرق بين أصفر ولا أسود ولا أحمر)، والنبي عليه الصلاة والسلام يفرق، وقد سأله أبو ذر: ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟! فقال له إجابة واضحة في التفرقة: (الكلب الأسود شيطان)، ويأتيك هذا فيقول: بل الكلاب كلها سواء! أهذا من إعظام قول النبي عليه الصلاة والسلام؟ ويسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، وهذا حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم، والحبة السوداء هي حبة البركة، فيأتي ويقول: كيف يقال: إن الحبة السوداء شفاء من كل داء؟ هل الرجل الذي عنده الكلى يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي عنده برودة يأخذ الحبة السوداء؟ هل الرجل الذي يعاني من القولون يأخذ الحبة السوداء؟ ويعترض على الحديث. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (شفاء من كل داء) وهو يقول: ليست شفاء من كل داء!! وبلاؤنا فيه أنه له عمامة كبيرة، ورجل له قدم، هذه هي مصيبتنا، فما يأتيك من عدوك لا يضيرك، إنما ما يأتيك من أهل جلدتك ومن يتكلمون بلغتك هذه هي المصيبة. ولو كان سهماً واحداً لتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث هذه هي المشكلة أنه لا يعظم قول النبي عليه الصلاة والسلام، ويزعم أن الأحاديث على غير ظاهرها، وأن الذين أخذوا بظاهرها جهلة، ولم يعلم أن الذين أخذوا بظاهرها هم الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فكان شدة الحب الذي كان في قلوبهم للنبي عليه الصلاة والسلام يدفعهم على اتباعه في كل شيء، حتى وصل الأمر بـ عبد الله بن عمر أنه كان يمشي مع أصحابه من التابعين يوماً، فرأى قبواً فدخل فيه، فقال التابعون لـ نافع وكان مولى لـ ابن عمر: أهو داخل يستريح؟ قال لا: وإنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتبول في هذا المكان فهو يحب أن يتبول فيه. ولما قال عبد الله بن عمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال ولده: (والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً)، فرماه عبد الله بن عمر بحصيات كن معه ومنعه من الدخول عليه، فمات ابن عمر ولم يدخل ولده عليه؛ لأنه عارض الحديث برأيه، وإن كان ولده وحاشاه أن يعارض الحديث جحوداً وضرباً في نحر النص، لكنه تأول الحديث، فقال: إن كانت المرأة تدعي أو تريد أن تخرج إلى المسجد لتقضي أشياء أخرى تحت ستار الذهاب إليه لنمنعهن، فاستعظم عبد الله بن عمر أن يرد ولده كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فحصبه ومنعه من الدخول عليه فشفقتهم وحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام كان أعظم ما يميزهم.

الإيمان قول وعمل واعتقاد

الإيمان قول وعمل واعتقاد هذا الحديث من حجج أهل الحق والسنة في الرد على الخوارج والمعتزلة والمرجئة، فالمرجئة هم الذين يقولون: إن الإيمان قول فقط، فلو قال رجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يعمل شيئاً من مقتضيات الإيمان كان مؤمناً، ويحتجون بالأحاديث الكثيرة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) قالوا: فهذه الأحاديث إنما علقت دخول الجنة على قول من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فلم يذكر عملاً، فهؤلاء يدخلون الرجل الجنة بالقول فقط، وإن عمل جميع المعاصي!! وعلى النقيض من ذلك فإن الخوارج يخرجون الرجل من الجنة إلى النار إن فعل أية معصية. وأهل السنة وسط دائماً، فيستحيل أن يكون الإيمان المنجي صاحبة قول دون عمل، وإذا كان الأمر كذلك فالزاني يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وآكل الربا يقول ذلك، بل وقاتل النفس يقول ذلك، إذاً إن كان القول فقط هو الذي يدخل الجنة فلم يدخل بعض أهل التوحيد النار بالذنوب والمعاصي التي يرتكبونها؟! بل بلغ القول ببعض هؤلاء المرجئة وبكل أسف نشر هذا الكتاب حديثاً وهو كتاب جزء صغيراً سماه مؤلفه (دش الأفكار على المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) وتستغرب منه أنه جعل فرعون من المقطوع لهم بالجنة، والقرآن الكريم في آياته الكثيرة يذم فرعون، هل يمكن أن يكون هناك رجل ينتسب إلى العلم من المسلمين يقول: إن فرعون في الجنة؟! قال: نعم. والقرآن دل على ذلك!! قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] يقول: ففرعون قال الكلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] قالوا: فقد صرح بالكلمة والنبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة على من تلفظ بالكلمة وإن لم يعمل عملاً، وانظر إلى هذا الفهم المعكوس، مع أن الله تبارك وتعالى عقب على مقالة فرعون، قال له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] والآية واضحة جداً وصريحة، بل إن هذه الكلمة التي خرجت من فرعون فيها علو وكبر، فلم يقل: آمنت أنه لا إله إلا الله، وإنما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، أي: يأبى أيضاً أن يصرح بها حتى أثناء الغرق، فما قال: لا إله إلا الله، وإنما: {لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]. فالله عز وجل يقول له: {آلآنَ} [يونس:91] أي: الآن وقد أدركك الغرق تشهد أن لا إله إلا الله؟! إن توبة اليائس لا قيمة لها، ولذلك جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أي: ما لم تخرج نفسه وهو يعاني سكرات الموت، إذا آمن وروحه تخرج فلا قيمة لهذا الإيمان، بل هذا إيمان اليائس، إنما إن كان الرجل يؤمل أن يرجع إلى الدنيا أو يؤمل أن يبرأ من مرضه ولم تظهر عليه علامات الموت التي لا يحس بها إلا المحتضر وحده، فإذا آمن ورجع وتاب تقبل توبته؛ لأنه يؤمل أن يرجع، أما اليائس الذي لا يؤمل في الرجوع فما قيمة توبته. عندما فتشت في ترجمة هذا المؤلف وجدته صوفياً، فهذا ليس بغريب عليه، فقد وجد في هؤلاء الصوفية من قال مقولات أبشع من ذلك، كالقول بوحدة الوجود: وهي أن كل شيء تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وقائل هذا محيي الدين ابن عربي الذي كفره جماهير علماء المسلمين، وقد ساق الحافظ ابن حجر واقعة له في كتابه الفريد (إنباء الغمر بأنباء العمر) وهو كتاب سرد فيه حياة الأمة المسلمة في أيامه يوماً بيوم، حتى دون فيه غلاء الكتان والشعير والقمح، واحتجاج التجار وملاقاتهم مع الوالي، فسرد الشيء الكثير في هذا الكتاب، ويقول في هذا الكتاب: اختصمت أنا ورجل في شأن ابن عربي فقال لي: إنه ولي من أولياء الله، وقلت: إنه كافر! فقال الرجل: بل إنه ولي، قلت له: نتباهل، والمباهلة: أن يلعن الرجل نفسه إن كان من الكاذبين، قال الحافظ ابن حجر: فتباهلنا، فقلت: اللهم إن كان ابن عربي مؤمناً فالعني بلعنتك، وقال الرجل: اللهم إن كان ابن عربي كافراً فالعني بلعنتك، قال الحافظ ابن حجر: فما مرت عليه ثلاث ليال وكان قاعداً في ليلة مظلمة فمر شيء أملس من على قدمه فمات لوقته. فهذا الرجل الذي يقول: إن فرعون من المقطوع لهم بالجنة أداه إلى هذا القول القبيح المخالف للقرآن الكريم أنه يزعم أن الإيمان قول فقط، وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل البدع، يقولون: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، ولذلك فهذا القيد الذي ورد في حديث أبي هريرة: (من قابلته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)، ما قيمة هذا القيد: (مستيقناً بها قلبه)؟ يستحيل لرجل يستيقن أن الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له ثم يشرك به، ويستحيل على رجل يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله تبارك وتعالى هو المشرّع وله الحكم والأمر ثم يحتكم إلى غيره، ويستحيل على رجل مس الإيمان قلبه أن يعصي الله تبارك وتعالى مستمرئاً للمعصية، هذا كله مستحيل؛ لذلك هذا الحديث رد على هؤلاء، وعلى أولئك الذين يكفرون جماهير المسلمين بالمعاصي. وفي هذا الحديث من الفوائد الشيء الكثير، فمنها أيضاً:

تزوجوا الودود الولود

تزوجوا الودود الولود الأسرة هي اللبنة الأولى التي يتكون منها المجتمع، فإن صلحت صلح المجتمع، وإن فسدت فسد المجتمع، وقد وضع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أسساً وضوابط لرعاية هذه الأسرة التي تبدأ تكوينها بالزواج، فحث الرجل على اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين والخلق، ولا عليه أن يراعي بعد ذلك الجمال والحسب والمال فهو مباح وحث الإسلام ولي المرأة أن يتحرى في الخاطب: الدين والخلق. وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، وحين تكون المرأة الصالحة ودوداً ولوداً فيكون قد اجتمع للزوج سعادة الدنيا، واستعان بها على نيل سعادة الآخرة.

أسس اختيار الزوجة الصالحة

أسس اختيار الزوجة الصالحة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن أجل غراس هو غراس الإنسان، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]، فهذا هو أجل غراس يغرسه الإنسان في حياته، ومعلوم أن الزرع لا يستغني عنه الإنسان في حياته، والزرع لا يطيب إلا بثلاثة أشياء: بخصوبة الأرض، وعذوبة الماء، ومهارة الأيدي العاملة، فخصوبة الأرض بالنسبة للإنسان هو أن يختار الرجل أم ولده، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تخيروا لنطفكم)، لا تضع نطفتك إلا في أرض صالحة، فإذا ضممنا هذا مع الثنتين الأخريين؛ فهذا هو الطريق إلى جيل التمكين. إن أجل غراس هو الإنسان، ولذلك قرن الله عز وجل بين مراحل خلق الإنسان وبين الزرع؛ لتعتبر بما شاهدته على ما لم تشاهده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5]، هذا هو غراس الإنسان {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. فهذا قران ما بين خلق الإنسان وما بين الزرع، فأنت أيها الرجل زرعت الزرع ولاحظت نموه، واشتريت الأرض الخصبة بأغلى الأثمان، ورغبت عن الأرض التي لا تخرج الزرع، هذا كله مشاهد، وأنت ترتكبه، فكيف عندما جاء أجل الغراس أهملت خصوبة الأرض؟! إن المقصود الأعظم من الزواج هو: الذرية، وكل شيءٍ يأتي بعد ذلك. روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده)، فهذا هو المقصود الأعظم: بقاء النسل لاستمرار العبودية. تقوم البيوت في الأصل على عبودية الله عز وجل، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] المرأة التي طُلّقت طلاقاً بائناً لا تحل لزوجها حتى تنكح رجلاً آخر، فإذا نكحت رجلاً آخر نكاحاً شرعياً كاملاً، ثم طلقها الرجل الآخر، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، قال تبارك وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] فهذا أولى من أن تقول المرأة: أرجع إلى زوجي الأول رعاية للأولاد لا، إذا كانت سترجع إلى زوجها الأول رعاية للأولاد ولا ترعى حدود الله فلا ترجع، فمراعاة حدود الله عز وجل أولى وأهم من رعاية حقوق الأولاد. فأنت أيها الرجل: إذا رغبت في النساء فارغب بهذه النية، لأن النية تسبق الذرية، ولذلك وضع الله عز وجل أصولاً لطلب المرأة.

أهمية اختيار زوجة ذات دين

أهمية اختيار زوجة ذات دين النبي صلى الله عليه وسلم حث على اختيار ذات الدين، فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، ولا مانع أن تضم صفة أو صفتين أو أكثر إلى الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) فذات دين جميلة أفضل من ذات دين فقط، وذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقط وهكذا. ثم نحن نذكر صفتين ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معقل بن يسار، الذي رواه النسائي وأبو داود، قال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)، (الودود الولود) وانظر إلى هذا الجمع! إن هناك ارتباطاً قوياً جداً بين الود وبين ولادة المرأة، إن الرجل قد يحب المرأة لأجل أولادها، ويحب الأولاد لأجل أمهم، والعلاقة بين الرجل والمرأة إذا أنجب منها الولد أقوى وأمتن من العلاقة بين رجل وامرأة لا ينجب منها، ولذلك جمعهما معاً (الودود الولود) الودود: كثيرة الود، محبة لزوجها، لا تنغصه ولا تكدره. وإنه ليطول عجبي أن تدفع المرأة زوجها دفعاً إلى العمل فترة وفترتين وثلاثاً، ويأتي الرجل في آخر اليوم يشتكي من مفاصله ظهره وصداعاً في رأسه، ومع ذلك لا ترضى المرأة! أي ود هذا، وأي وفاء؟! كيف تسعد المرأة بحياتها وهي ترى زوجها يعاني هذه المعاناة، ولا تعيش معه على ذات يده؟!!

الأخلاق المثالية للزوجة

الأخلاق المثالية للزوجة إن النبي عليه الصلاة والسلام امتدح نساء قريش -كما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- قال: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده) لذلك كن خير النساء. تريد أن تعرف المرأة الودود؛ اعتبر بحال خديجة رضي الله عنها، سيدة النساء، فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة، وذكرت بدء الوحي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء، ولما جاءه الملك وقال له: اقرأ؟ قال: ما أنا بقارئ، وهزه هزاً عنيفاً، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره يرجف فؤاده، وقال: زملوني زملوني، وقال لـ خديجة: لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، وفي رواية وقعت في بعض روايات صحيح البخاري قالت: كلا، والله لا يحزُنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتساعد الضعيف، وتعين على نوائب الحق، فانظر إلى كمال عقلها ولطفها، وحسن مواساتها لزوجها! أما كمال عقلها: فلأن الإنسان إذا أصابه الروع والفزع احتاج أن يذكره أحد بمآثره وصفاته. رجع النبي صلى الله عليه وسلم وفؤاده يرجف مما رأى، وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة -وأكدت ذلك بالقسم-: (كلا -والله- لا يخزيك الله أبداً) واستدلت على كريم شمائله وجميل نعوته أنه لا يُخزى: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: العالة يحمله حملاً- وتساعد الضعيف، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) فكيف تُخزى. أيها الرجال! أعينوا النساء على البر، إن الصدق هو أقصر طريق للإقناع، كن رجلاً في بيتك، لا تسقط من عين امرأتك بالكذب ولا بالخداع ولا بالمماراة، الصدق أقصر طريق للإقناع، إنك ترفع امرأتك رفعاً إذا كنت على هذا المستوى، إن صدق الرجل له أثر عظيم في استقامة المرأة، ما فسدت نساؤنا إلا بعد أن فسد رجالنا، ما نشزت امرأة في الغالب إلا كان الرجل سبباً في نشوزها؛ لم يقم عليها بحق القوامة. نظرت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأته رجلاً أميناً صادقاً وفياً، كان كثير الثناء عليها بعدما ماتت، حتى قالت عائشة رضي الله عنها -كما رواه البخاري وغيره-: (ما غرت على امرأة قط غيرتي على خديجة) يقول الإمام الذهبي رحمه الله: وهذا أعجب شيء: أن تغار من امرأة ميتة، ولا تغار من نسوة يشركنها فيه صلى الله عليه وسلم! لا تغار من أم سلمة، ولا تغار من أم حبيبة ولا من حفصة ولا من زينب، وهذا من لطف الله بنبيه؛ حتى لا يتكدر عيشه، لا تغار من نظيرتها وتغار من خديجة؛ لكثرة ما كان يذكرها ويثني عليها، (كان يذبح الذبيحة فيقطعها أعضاء، ثم يرسل إلى صدائق خديجة -أي: صديقاتها- فقلت له يوماً: كأنه ليس في الدنيا امرأة إلا خديجة. فقال لي: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد) أي: جعل يثني عليها ويذكر شمائلها. وذات مرة كما في صحيح البخاري استأذنت هالة بنت خويلد -أخت خديجة - وكان صوتها يشبه صوت خديجة، واستئذانها يشبه استئذان خديجة، وذلك بعد موت خديجة رضي الله عنها بزمان، فلما سمع صوتها ارتاع لذلك -أي: يعني فزع، وهذا هو فزع الشوق واللهفة- وفي الرواية الأخرى: (قال: اللهم هالة!) أي: اللهم اجعلها هالة، قالت عائشة: فغرت، فمجرد الصوت يذكره بها، وطريقة الاستئذان تذكره بها، فقلت له: وما تفعل بعجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر أبدلك الله خيراً منها، تستنكر وكأنها تقول: ما هذا الكلام؟! وما هذا الثناء؟! وما هذا الذكر المستمر؟! أتذكر امرأة عجوزاً، وقولها: (حمراء الشدقين): كناية عن سقوط أسنانها، حيث لم يبق في فيها إلا حمرة اللثة، فهي تقول: فما تفعل بامرأة سقطت أسنانها عجوز (هلكت في الدهر، أبدلك الله خيراً منها؟!) تقصد نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خارج البخاري، قال: (لا والله، ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كذبني الناس، وأعطتني إذ حرمني الناس، وواستني بمالها إذ منعني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء). فانظر إلى هذا الوفاء! كثير الثناء والذكر لها، وهي تستحق ذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة ومريم وفاطمة وامرأة فرعون) أربع نساء في ملايين النساء منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لها الشرف أنها تأخذ أجر كل مؤمنة بعدها إلى يوم القيامة، لها الشرف في ذلك؛ لأنها أول من آمنت مطلقاً قبل أبي بكر الصديق؛ لأنها أول من علمت ببعثته صلى الله عليه وسلم، وبأنه نُبئ فآمنت به، فلها أجر كل مؤمن يأتي إلى يوم القيامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهذه سنت سنة الإيمان، وقال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذه القاعدة: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، ابن آدم الأول الذي قتل أخاه يحمل كفلاً وتبعة كل رجل قتل ظلماً إلى قيام الساعة؛ لأنه أول من قتل واستن القاتلون به؛ فيحمل هذه التبعة. كذلك الذي يسن الخير، وينشر الدين والعلم والسنة في بلد ليس فيها شيءٌ من ذلك، له أجر الدعاة إلى هذا الدين إلى يوم القيامة، كذلك خديجة: آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبه الناس. هي هذه الودود، صاحبة الدين المتين.

المرأة الودود جوهرة الحياة

المرأة الودود جوهرة الحياة الودود: المحبة لزوجها، قال الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ثم ذكر، أمام هذه القوامة صنفي النساء: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] هذا هو الصنف الأول، أما الصنف الثاني فهن: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]، فانظر بعدما ذكر القوامة قال: ((فَالصَّالِحَاتُ)): أي اللواتي لا يهدرن قوامة الرجل، ويطعن أزواجهن، ووصفهن بذلك، وقرن وصفهن بالفاء العاطفة التي تفيد الترتيب مع سرعة المبادرة، ((فَالصَّالِحَاتُ)) أي: اللاتي يمتثلن مباشرة إذا أمر الزوج بالمعروف وفي قدر الاستطاعة. ((فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ)) أي: طائعات لربهن، والمرأة التي تعصي ربها، يسهل عليها أن تعصي زوجها، كيف تطيع زوجها وقد نشزت على ربها؟ لذلك ذكر أول صفة فيها تستقيم بقية الصفات فيها بعد ذلك: ((قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)). تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فسئل: من خير النساء يا رسول الله؟ قال: (التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك). قال تعالى: ((حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ)) أي: لغيبة أزواجهن، إذا غاب الزوج تحفظ ماله وتحفظ عرضه. وقوله: (إذا نظرت إليها سرتك) وليس المقصود به جمال الوجه، إنما المقصود به جمال الروح؛ لأن هناك نساء طبعهن التنكيد، لا يرى الرجل منهن إلا تكشيرة الوجه، الدائمة التي تنبي عن عدم الرضا. وقوله: (وإذا أقسمت عليها أبرتك) أي: لا تحنثك في يمينك أبداً، مهما كان الذي حلفت عليه شاقاً عليها هذه هي خير النساء التي يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود) كثيرة الود، دائمة البٍشْر. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى عن المرأة التي ينبغي أن يبحث عنها من هي؟ قال: (وامرأة تعين زوجها على أمر الآخرة)، هذه هي المرأة التي ينبغي أن يبحث الرجل عنها. وهناك من النساء من هي كالعدو اللدود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] (عدواً لكم) المرأة التي ترهق زوجها وتتعبه، وتضطره أن يعمل وردية واثنتين وثلاثاً ليقضي حاجتها وحاجة الأولاد عدوة لزوجها، لأنها ضيعت عمر زوجها في طلب المال، ويمتحن الرجل أشد الامتحان، ويذل أعظم الذل، ويصيبه الكمد أنه بعد هذا المجهود الهائل لا تشكر المرأة سعيه وجهده، ولا ترى أن الرجل فعل لها شيئاً، وتجدها دائماً متذمرة شاكية، يموت الرجل من الكمد أمام هذا الصنف من النساء، ضيع عمره في طلب المال ثم هي لا تشكر. ليس معنى العداوة أن تحمل المرأة سلاحاً وتحارب، العداوة: أن تصدك عن الذكر والعبادة، وعن طلب الآخرة هذه هي العداوة الحقيقية. وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ} [التغابن:14] إذ قدّم الزوجة على الولد؛ لأن الزوجة التي يكون هذا شأنها ترضع أولادها هذه الخصلة الذميمة، فتكون دائمة التشكي، والولد كثير الحنين والتأثر بدموع أمه، الرجل يعمل في الخارج مثل الطاحونة، وهي تظل طوال النهار والليل تبكي وتشكو للولد من أبيه، وتقول له: أنا لم أر معه يوماً راحة، ما رأيت معه إلا الذل. ولولاك لطلبت الطلاق، أنا أعيش معه لأجلك أنت فقط. فالولد يرى أن الأم مضحية لأجله والرجل دوماً يذل الأم ويرعرع ويشب على ذلك، مثل هذه الأم لا تنجب ذرية صالحة، الذرية منها تكون في الكفران وجحود الجميل مثلها تماماً، إذ هي الأصل والولد الفرع، و (الحية لا تلد إلا حية). إذاً: أول شيء يحرص عليه المرء في المرأة أن تكون ذات دين، وهذه الخصلة هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ورعايتها لزوجها ودوام إرضائه والتودد له هو من معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الودود). وخصلة أخرى تدخل تحت هذا النعت الجميل (الودود: كثيرة الود) ما رواه الإمام النسائي رحمه الله من حديث ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم من أهل الجنة الودود الولود العئود -وهذه خصلة أخرى- التي إذا غضب منها زوجها أخذت بيده، وقالت له: لا أذوق غُمضاً حتى ترضى) ولك أن تقف متأملاً قوله عليه الصلاة والسلام: (لا أذوق غمضاً) والغمض: هو النوم، أي: لا أنام، ولا ألتذ بمنام إلا أن ترضى، هذه هي خير نسائنا من أهل الجنة جعلنا الله وإياكم وأزواجنا من أهلها ونفهم من كلمة (من أهل الجنة) أن المرأة إذا أحبها زوجها في الدنيا كانت زوجته في الآخرة. (العئود): أي التي يعود نفعها على زوجها، فإذا كانت غنية أنفقت على زوجها وعلى عيالها. ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (العئود) المرأة المدبرة، التي لا تتلف متاع زوجها وماله، لأنها إذا أتلفت متاعه استبدله الزوج بمتاع آخر وبمال جديد؛ مما يزيد من معاناته ويعقبه الفقر، فهي إذا وفرت له ذلك كأنما أعطته مالاً، و (العئود) فرع من (الودود) فهذه الصفة من أجمل الصفات (الودود)! فالمرأة الودود تتودد إلى زوجها؛ لأنها تبتغي رضا ربها برضاه، حتى إن الزوج قد يظلمها وقد يضربها وقد يهينها، فتذهب إليه وهو المخطئ فتأخذ بيده وترضيه، وتقول له: لا أكتحل بغُمض حتى ترضى، فهي تتودد إليه وهي المظلومة فهذا الود له طعم ومذاق وجمال! مع أن هذا الود ممن يحتاج إلى رزقك، فكيف لو كان هذا المتودد إليك لا يحتاج إليك في قليل ولا كثير، ويظهر الفرق في مثل الصورتين التاليتين: رجل فقير يتودد لغني، الغني لا يكاد يقدر هذا الود، لماذا؟ يقول: هو يحتاجني، كأن يريد مالاً أو مساعدة. إما إذا جاء الغني وتودد إلى الفقير، فالفقير يسأل نفسه: هذا الرجل لِمَ يتودد إلي وهو لا يحتاجني؟! لا دافع لذلك إلا أنه إنسان نبيل، شريف، حسن الخلق هذا هو الفرق بين ود المستغني وود المحتاج. ولله المثل الأعلى، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، لماذا يتودد إليك بنعمه ومغفرته زلاتك ومضاعفته لأجرك وحسناتك، وهو مستغن عنك، ولا يحتاج إليك، وأنت المحتاج إليه، ولفظ (ودود) على وزن (فعول) -صيغة مبالغة- أي: كثير الود؟! لأنه الرب الغفور الرحيم المتفضل، فهو يتودد إليك برغم معاصيك، وبرغم أنه لا يحتاج إليك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخصال التي تراعى في الزوجة

الخصال التي تراعى في الزوجة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فأول شرط في البحث عن خصوبة الأرض: أن تكون الأرض صالحة لوضع النطفة، والصلاح للأرض (المرأة) هنا إنما يقصد به صلاح الدين، فإذا صلح دين المرأة زكت كل خصالها، وأما الصفات الأخرى التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام لو بحثت عنها لم تكن آثماً: المال والجمال والحسب. وهناك حديث ضعيف جداً أورده الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب الموضوعات -وبعض الناس يحتج بهذا الحديث- ويقول: (من تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا ذلاً، ومن تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقراً) إلخ، فهذا الحديث من جهة السند لا يصح، إذ سنده ساقط، ومن جهة المتن يعارض حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الصحيح: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها) وهذا الحديث في الصحيحين، فهنا مباينة ومعارضة صريحة بين هذا الحديث الصحيح وبين ذاك الحديث الذي ذكرنا أن سنده ساقط. لكن الدين اجعله محور الارتكاز، ثم إن شئت أن تبحث عن المرأة اختر هذه الصفة الأخرى، وهي: أن تكون بكراً؛ لأن للبكارة تأثيراً عجيباً في استقرار الحياة، والمرأة عندما تتزوج تكون شديدة الوفاء لأول إنسان يدخل في حياتها. قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر ذات الدين: (تربت يداك) و (تربت يداك): معناها تعلقت يداك بالتراب، وهذا كناية عن البركة، فكل خير من التراب والطين. عبدة الشيطان لا يعرفون هذه الحقيقة، إبليس -عليه من الله اللعنة المتلاحقة إلى يوم القيامة- قاس قياساً منكوساً معكوساً وهو يحاج الله تبارك وتعالى {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فالطين مصدر كل خير، والنار مصدر الدمار والخراب، فانظر إلى هذا الجاهل كيف قاس الشيء على نقيضه! إنما يقبل القياس إذا كان قياس النظير على النظير، لكن قياس الشيء على نقيضه لا يقبل أبداً إذ هو معكوس منكوس، والطين مصدر الخير والنماء والبركة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (فاظفر بذات الدين بورك لك) ولا مانع أن يراعي الرجل الثلاث الصفات الأخرى، لكن يجعل الدين محور الارتكاز، فذات دين جميلة أفضل، فإن الجمال يرد ما في نفس الرجل، وعند أن تكون ذات دين وحسب، فالحسب يدل على كرم المحفد، والحسب مطلوب، فعراقة الحسب لها أصل وتأثير في الفرع!

(إياكم وخضراء الدمن)

(إياكم وخضراء الدمن) هناك حديث موضوع كذب على النبي عليه الصلاة والسلام وهو: (إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) وهذا الحديث كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لو أجرينا هذا الكلام كحكمة وجدناه سديداً، (خضراء الدمن: المرأة الحسناء في المنبت السوء) كما لو كنت: تمشي على مستنقع، مغطياً أنفك من نتن هذا المستنقع، ومع ذلك يلفت نظرك زهرة جميلة اللون خرجت في هذا المستنقع، لا تراها في الأرض الخصبة الجيدة التي تسقى بالماء العذب، فهذه المرأة الحسناء في المنبت السوء؛ احذرها! وإن كان ظاهرها الالتزام؛ لأن طفولة هذه المرأة ضاعت، فيوم فتحت عينيها على الحياة وجدت أباها لا يصلي، ووجدت أمها لا تلتزم الحجاب، وربما وجدت أباها يشرب الخمر أو يعاقر النساء، وربما وجدت نتن الخيانة ينبعث من أمها، كل هذا انطبع في قلبها ورأته، وأشربت به في أهم فترات العمر وهي الطفولة، ثم تداركها الله بلطفه، فلما اختلطت بالفاضلات العفيفات بدأت تقلدهن، لكن على إثر، فعندما تتزوج فإنه يحصل في بيتها ما يحصل في البيوت عادة من الشجار والنزاع؛ فترجع المرأة إلى أصلها في الشجار، وقد تغضب وتترك بيت الزوجية إلى بيت أبيها، وأبوها لا يعين على البر والتقوى، وأمها كذلك، فتنشز عليه، وهم يزيدون من نشوزها، فلا تغتر -إذاً- بخضراء الدمن! وقد يعترض معترض فيقول: ما ذنب المرأة؟ ألا ننقذها مما هي فيه؟ فمثلاً: امرأة واحدة ملتزمة تراعي الله عز وجل وفي بيت غير ملتزم، وهي ملتزمة في وسط هذا المجتمع ألا ننقذها؟ فنجيب عليه: نحن ابتداءً لم نقل بتحريم الزواج من هذا النوع من النساء لأنك إذا تزوجتها وصلحت هذه المرأة فذلك أمر نادر، والنادر لا يقاس عليه، وكلامنا هنا أغلبي، فلا يعترض على هذه القاعدة الأغلبية بمثال أو اثنين أو ثلاثة أنه كانت امرأة منبتها سوء ثم أصبحت من خير خلق الله، هذا استثناء، والشاذ لا يقاس عليه، إنما نقيس على الأعم الأغلب، فكذلك الأعم الأغلب بالنسبة للأبكار الاستقرار، فالمرأة الوفية البكر إذا صادفت رجلاً نبيلاً تأثرت به غاية التأثر، يحفر سيرته في مجرى حياتها. فراع الحسب، وراع أصالة المنبع وكرم المحفد؛ لأن هذا يعينك على الاستمرار في الحياة، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الحسب وأقر، ولكنه حث على ذات الدين: (تنكح المرأة لجمالها ولحسبها ولمالها) لا مانع أن يتزوج الرجل المرأة لمالها، وليس على الرجل غضاضة أن يستفيد من مال امرأته، لكن أحياناً الرجل لا يأخذ المال من امرأته لعلة عنده، لكن إذا انتفت العلل لا غضاضة عليه أن يستفيد من مال امرأته كما استفاد ابن مسعود من مال امرأته، ومن قبله سيده وسيدنا صلى الله عليه وسلم لما استفاد من مال خديجة. وعليه: فأنت إذا كنت لا تخشى من امرأتك المن والأذى اقبل رفدها.

التعرف على صفات الزوجة قبل الاختيار

التعرف على صفات الزوجة قبل الاختيار حسناً إذا كان الود بهذه المثابة، وله كل هذا الثقل في استقرار الحياة الزوجية، فكيف لي أن أعرف أن المرأة ودود، ولا يكتشف الود وجميل الخصال إلا بالعشرة؟ أقول لك: كما تعرف أن المرأة ولود تعرف أنها ودود من أين علمت أنها ولود؟ بالنظر إلى أمها وأختها وعمتها وخالتها، فيندر أن تكون الأم ولوداً والأخت والعمة والخالة وهي تكون عقيمة، يندر، قد تقع هذه الحالات لكن نادراً، ومعروف أن الشاذ النادر لا يقاس عليه، إنما يقاس على الأعم الأغلب، فأنت إذا أردت أن تتزوج فانظر، إذا وجدت أمها وأختها وخالتها وعمتها كذلك فإنك تستنتج أنها ولود. كذلك إذا رأيت أمها تحب أباها وتكرمه وترفعه؛ فاعلم أن ابنتها تكون مثلها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

المقصود الأعظم من العشرة الزوجية

المقصود الأعظم من العشرة الزوجية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين: أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فإن زواج الرجل من المرأة المقصود منه: هو إقامة العبودية لله تبارك وتعالى، وقد ذكر ربنا عز وجل طلاق المرأة طلاقاً بائناً، فقال تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] إذا طلقت المرأة طلاقاً بائناً، ثم رزقها الله زوجاً آخر، قال عز وجل: ((فَإِنْ طَلَّقَهَا)) أي: الزوج الآخر، فأرادت أن تعود إلى زوجها الأول؛ فثمة شروط، قال تبارك وتعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] أما أن يكون الأولاد فقط فليس لهم دخل في الموضوع، حتى لو قلت: أنا أرجع للمرأة الأولى لأجل أنني خلفت منها خمسة أو ستة أولاد، ولأجل أن يتربى الأولاد بيننا! أولاد يتربون بين رجل وامرأة لا يتقيان الله عز وجل ما قيمة هؤلاء الأولاد؟ لم يذكر الله تعالى في الآية من شرط إلا شيء واحد فقط وهو {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230] فإذا كان هذا في المرأة التي طلقت طلاقاً بائناً، فتزوجت ثم طلقت، ثم تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فمن باب أولى أن يقيما حدود الله قبل أن تطلق، هذا هو المقصود الأعظم من الزواج: (أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). إذاً: الحياة الزوجية قائمة على هذا الشعار: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، فالرجل عندما يتقدم لابنتك أو لأختك أو لموليتك -من لك عليها ولاية- لا تقل له: أشترط أن تعمل المرأة؛ لأن عمل المرأة جناية من أعظم الجنايات في حق الأسرة والأولاد، إذ أي قضية لابد من النظر إلى حكم الله عز وجل فيها، لم أر أحداً حتى الآن -على مدار (20) سنة- امرأته تعمل ناقشته في هذا الحكم وأتى لي بحجة، إلا أن تكون ضرورة كأن يكون الرجل مرض وأقعد ولا أحد يعينه ولا يعاونه؛ فتعمل المرأة. لكن ينبغي في هذه الظروف أن ننظر إلى عمل المرأة وطبيعة عملها. لذلك كله كان النظر إلى الكفاءة في الديانة مسألة في غاية الأهمية، وليس معنى ذلك أنك لا تنظر إلا إلى الدين فقط، راعِ الدين أولاً، ثم لك أن تراعي أي صفة من الصفات الأخرى، واجعل الدين مناط الأمر، فالمرأة التي لا تطيع ربها لا ينتظر منها أن ترضي زوجها. فإذا كان الدين هو الركن المشترك بين الرجل والمرأة؛ فإنه لا يجوز لولي المرأة إذا تقدم إليه رجل ليخطب ابنته أو أخته أن يتهاون في هذا الشرط، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الترمذي وغيره: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) وقال الحسن رحمه الله: (من زوج ابنته إلى فاسق فقد قطع رحمها). فالرجل الصالح ملاك خصاله في خصلتين.

نصيحة لولي المرأة لاختيار الخاطب لابنته

نصيحة لولي المرأة لاختيار الخاطب لابنته يا ولي الأمر! أرعني سمعك وقلبك: إذا تقدم رجل لابنتك فراعِ شيئين، ولا عليك أن تهمل باقي الصفات؛ فإنها فرع على هاتين، قالت المرأة لأبيها {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، القوة والأمانة، وكل صفة تأتي بعد ذلك فهي فرع على هاتين. القوي: أي الرجل الذي يقوم بما يجب عليه تجاه المرأة من النفقة عليها، ومن الدفاع عنها، ومن إعفافها، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة) (الباءة): هي قوة الرجل، ويلتحق بذلك قوة العقل والتفكير السوي، فإن المرأة إذا تزوجت الأحمق فكأنه لا زوج لها، وأحمق الرجال من يعرض امرأته للنار، لا يصونها، يأخذها لحفلات الاختلاط، ويسمح لها بالعمل في وسط الرجال، ويعرضها للنار، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، فالذي يعرض امرأته للنار أحمق، ليس أميناً. لا يكون الزوج وفياً إلا إذا كان قوياً وأميناً، (قوياً) يقوم بكفايتها ولا يلجئها للعمل. لماذا تعمل المرأة؟ وتشارك زوجها في الحياة؟ قلنا: إن الله تبارك وتعالى جعل القوامة للرجل على المرأة لشيئين: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] وهذا داخل فيه القوة {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فحق على المرأة أن تعيش مع زوجها في رخائه وفي شدته، مرتبه (100) جنيه تعيش معه على الكفاف، ولا تطالبه فوق ذلك أبداً، الإطعام بالمعروف والعشرة بالمعروف، فهذه قوته وطاقته فتعيش معه على ذلك صابرة راضية طيبة النفس، إن انفرد عنها بطعام وشراب وكساء ومتعة؛ لها أن تعترض.

من الحقوق الزوجية

من الحقوق الزوجية جاء الصحابي معاوية بن حيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما حق زوج أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) فإذا انفرد الرجل عنها بشيءٍ من ذلك فلها الحق أن تعترض، أما إذا قام بما يجب عليه في حدود طاقته فلا يحل لها أن تعترض، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم الباءة -هي النفقة والقيام بحق الزوجة- فليتزوج، ومن لم يستطع -أي: لا أحل له أن يتزوج- فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)، فالمرأة عرفت أنه قوي لما سقى لهما، وقوته التي فاقت كل الحاضرين، فكيف عرفت أنه أمين؟! ذكر المفسرون أنه كان يمشي أمامها وهي توجهه بالحصى. ولكن هناك معنى أشمل من هذا، وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما سقى لهما تولى إلى الظل، وقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، أنا فقير، وأحتاج أن تنزل إلي أي شيء، فما سألهما أجراً، هذه أمانته، الذي يعمل العمل لله لا ينتظر عليه أجراً من الخلق، أما ما نراه من التفاني في طلب الأجر من بعض الناس فهو مضاد للإخلاص، فأنت -يا أخي الكريم- انظر في هذه المشكلة، والمرأة عليها أن تتقي الله عز وجل، وتعيش مع زوجها حسب استطاعته، لا تكلفه فوق طاقته، وإذا علم الله منها صدقاً وصبراً ورضاءً بمقدور الله أبدلها حالاً خيراً من حالها دنيا وأخرى. أحدهم يقول: اشترط عليّ ولي المرأة أن تعمل، وأنا لا أريد، فما هو الحكم؟ أقول له: هذا شرط فاسد، لا قيمة له، ولا يجب عليك أن تنفذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

فضل الصدقة وأثرها في الدعوة

فضل الصدقة وأثرها في الدعوة جاء في صحيح البخاري ومسلم قصة الرجل الذي سقت أرضه السحابة بأمر من الله عز وجل، وكان سبب هذه الكرامة أنه كان يعطي الفقراء والمساكين ثلث ما يخرج من هذه الأرض. فبذل الصدقات للمساكين لها أثر كبير في كسب قلوب الناس، وبهذا فهي تعد وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، وجاء في فضل الصدقة الكثير من الأحاديث الدالة على ذلك.

قصة صاحب الأرض التي أمرت السحابة أن تسقي أرضه

قصة صاحب الأرض التي أمرت السحابة أن تسقي أرضه إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (بينما رجل يسير في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان. فتنحى ذلك السحاب في شرجة من شراج الحرة، فاستوعبت الماء كله، فذهب، فإذا رجل يساعد هذا الماء بمسحاة له حتى يأخذ طريقه إلى بستانه، فقال له: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في سحابة يقول: اسق أرض فلان باسمك. قال له: أما قد قلت ذلك فإني أنظر ما يخرج منها فأقسمه ثلاثة أثلاث، فآكل أنا وعيالي ثلثه، وأتصدق بثلثه، وأرد فيها ثلثه). هذه القصة -كما وردت في بعض الروايات- حدثت في بني إسرائيل، والإسرائيليات يقسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يحتج به، وتؤخذ منه الأحكام الشرعية، وهذا القسم هو الذي صح سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقصة أصحاب الغار، وقصة الغلام مع الملك، وقصة الرجل الذي تسلف ألف دينار إلى آخر هذه القصص، فكلها صحيحة في نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيأخذ منها العلماء الأحكام الشرعية والآداب المرعية، وهذا القسم يحتج به كله. القسم الثاني: ما صح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، وهذا النوع هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) وهذا النوع يستشهد به العلماء من باب الاعتضاد، لا يحتجون به منفرداً، وإنما إذا كان موافقاً للأصول العامة احتجوا به، كالقصة التي رواها ابن الأعرابي في معجمه: أن عيسى عليه السلام خرج مع رجلٍ، وكان معه ثلاثة أرغفة، فقال: رغيف لي، ورغيف لك. ثم أن عيسى عليه السلام نام، فاستيقظ فلم يجد الرغيف الثالث - فقال لصاحبه: أين الرغيف الثالث؟ - قال: لا أدري. - فدعا غزالاً فذبحه وشواه وأكلاه، ولم يبقيا منه إلا العظام، فدعاه عيسى عليه السلام فقام غزالاً بإذن الله، قال: سألتك بالذي أحيا هذا الغزال من الذي أكل الرغيف؟ - قال: لا أدري. فانطلق، فوجدا ثلاثة أجبل -جبال كبيرة- فحولها إلى ذهب - وقال: هذا لي، وهذا لك، والثالث لمن أكل الرغيف. - قال: أنا أكلته. - قال: لا خير في صحبتك وتركه. وعيسى عليه السلام يضرب المثل للحواريين بتفاهة الدنيا، فهذا الرجل أراد أن ينقل هذه الجبال الثلاثة إلى بلده فوجد اثنين، فأراد أن يستعين بهما على نقل هذا الذهب الكثير، قال الرجلان: ولم نقسم هذه الأجبل على ثلاثة أسلاف؟! نحن نقتل هذا الرجل ونأخذ هذا الذهب كله، وأضمرا في نفسيهما أن يقتلاه، فأرسلاه إلى السوق ليأتي بطعام، فبينما هو يمشي إلى السوق قال: ولم نقسمه إلى ثلاثة أجزاء؟! أنا أضع لهم سماً في الطعام وأنفرد بالذهب، فجاء بالأكل وفيه السم، فما إن تلقياه حتى انهالا عليه ضرباً فقتلاه، ثم جلسا يأكلان فأكلا الطعام المحشو بالسم، فماتوا جمعياً وتركوا جبال الذهب. يضرب عيسى عليه السلام المثل للحواريين بحقارة الدنيا أننا جميعاً نتقاتل من أجلها ثم نتركها كلها للذي يرث الأرض ومن عليها تبارك وتعالى، وكل يخرج منها كما ولدته أمه. قال الله عز وجل {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ضربت الدنيا لابن آدم مثلاً بطعامه، وإن قدحه وملحه فلينظر كيف يخرج). وهناك عشرات النصوص تدل على حقارة الدنيا، فلا مانع أن تحتج بمثل هذا النوع من الإسرائيليات لتعضد المعنى الصحيح في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة. وكذلك ما رواه أبو الشيخ وغيره (أن ملك الموت عليه السلام كان يجالس سليمان) هذا القدر ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ قوي (أن ملك الموت كان يجلس مع الأنبياء بصورة آدمية، وكان يجلس مع سليمان عليه السلام جليس له وصفي له، فدخل ملك الموت وما يعرفه الجليس، لكن لاحظ الجليس أن هذا الرجل الثالث يتفرس فيه وفي وجهه، لم يلبث كثيراً وانصرف، فقال الجليس لسليمان: من هذا الذي يتفرس في وجهي؟ قال: ذاك ملك الموت، فارتعب الرجل، وقال: لا أكون في أرض بها ملك الموت أين تريد؟ قال: مر الريح أن تأخذني إلى الهند. وأخذته الريح فعلاً إلى الهند. بعد قليل جاء ملك الموت ودخل على سليمان عليه السلام، قال له سليمان: لم كنت تتفرس في وجه جليسي؟ - قال: ذاك رجل أمرني الله أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته عندك تعجبت، لكني لما ذهبت إلى الموعد المعلوم والمكان المعلوم وجدته هناك). هذه القصة يمكن أن تذكر -مثلاً- في مثل قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78] فنحن نستخدم هذا القسم من الإسرائيليات لتدعيم المعنى الذي نريد أن ننقله للعوام. القسم الثالث: وهو الذي لم يصح سنده إلى قائله من بني إسرائيل، فهذا النوع لا عليك أن تذكره. وهذا التقسيم مهم؛ لأنه قد انطبع في أذهان كثير من الناس أن معنى إسرائيليات أي: مكذوبات، وليس كذلك؛ للتقسيم الذي ذكرناه.

استحباب إخفاء الورع

استحباب إخفاء الورع بقيت فائدة أخيرة، وهي فائدة طارئة، قوله: (أما قد قلت ذلك؛ فإني أنظر ما يخرج منها) فيفهم من هذا أنه يستحب أن تخفي ورعك؛ لأن هذا الرجل لولا أن ذاك سماه باسمه وهو لا يعرفه لما قال له ما الذي يصنعه، (ما اسمك يا عبد الله؟ قال: ولم تسألني عن اسمي. قال: إني سمعت صوتاً في السحابة الحديث، قال: أما قد قلت ذلك -أي: أما قد انكشف الأمر- فإني أنظر إليها وأفعل كذا وكذا) وهذا كان هدياً يتتبعه أسلافنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. كان محمد بن واسع -رحمه الله، وهو من أجل التابعين، صاحب القولة المعروفة: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحدٌ أن يجالسني. يبكي طوال الليل، فإذا أصبح الصباح اكتحل حتى لا يظهر ذبول عينيه من البكاء، يخفي طاعته! وهذا الورع كان ملكة عند أولئك، ما كان تصنعاً، كما أنك تتمسك تلقائياً كانوا يتورعون أيضاً، كثير من الإخوة يقول: نحن نقرأ في كتب السلف وفي تراجمهم عن ورعهم الشديد، فأريد أن أصنع مثلهم فأعجز وأفشل، وأرجع بخفي حنين، فكيف السبيل إلى ذلك؟ فيقال: إن هؤلاء ما وصلوا إلى قمة الهرم إلا بعد أن اجتازوا مراحل: فعل الواجبات، ثم عرج على المستحبات، وانتهى عن المحرمات، وتجنب المكروهات. إذا فعل هذا وصل إلى الورع، كيف يتورع من يترك الواجبات؟ كيف يتورع من هو مصرّ على فعل المحرمات ومكثر من فعل المكروهات؟ لا يصبر، إن أراد أن يتورع يعلم من نفسه أنه كاذب؛ لذلك لا يستمر. يعزى لبعض العلماء -ويقولون أنه الإمام أبو حنيفة رحمه الله- سرقت شاة في زمانه، فأتى قصاباً أو رجلاً راعياً وقال: كم عمر الشاة -أقصى شيء تعيشه الشاة- قال له: خمس سنوات، فامتنع من أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات مخافة أن يشتري من نفس الشاة المسروقة. يأتي بعض أولئك المقصرين فيقولون: هذا تنطع، نحن لم نؤمر بذلك! نقول: أنت في واد وهو في واد آخر، هو في قمة الهرم، وأنت أسفله، نحن نعلم أن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لو صحت هذه النسبة للإمام أبي حنيفة لا نستطيع أن نأخذ منها فتوى؛ لأن ورع المتقين لا يثبت حكماً، لكن نحن الآن لسنا بصدد إصدار الأحكام الشرعية، نحن -كما قلنا- على قمة الهرم، فهذا الورع ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه ويصير ملكة لديه إلا إن قطع هذه الوديان والمفاوز حتى يصل إلى هناك. في سير أعلام النبلاء: أن رجلاً سب وكيعاً - وكيع بن الجراح، الإمام العلم، شيخ الإمام أحمد - فماذا فعل وكيع؟ تركه، ودخل داره وعفّر وجهه بالتراب، ثم خرج إليه وقال: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه. من يستطيع أن يفعل هذا؟ لا يرد عليه، لكن يرجع اللوم على نفسه: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه)! وكذلك في ترجمة الإمام العلم المصري عبد الله بن وهب رحمه الله أنه قال: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يؤدب نفسه، فانظر إلى هذا الورع، فقال: نذرت، حتى يجد الوفاء بالصوم، يعني نفسه لا تسول له أن يترك فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم -لأنه يغتاب- نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة) مشقة أنه في كل يوم يتصدق بعشرة دراهم أو عشرين درهماً. ما يضره أن يتعب نفسه الآثمة؛ لأن هذا يحمل على مزيد من الورع. ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جمع أصحابه وصعد المنبر، وسكت ملياً ثم قال: (أما إني كنت أرعى غنم بني فلان على لقيمات، وبكى ونزل. قالوا: يا أمير المؤمنين! ما قلت شيئاً -يعني: الذي قلته نحن نعرفه، ما زدت شيئاً- ماذا أردت؟ قال: حدثتني نفسي أنني أمير المؤمنين، فأردت أن أذلها)! يذلها بأن يذكرها أدنى أحواله: أنه كان يرعى غنم بني فلان على لقيمات أو على دريهمات. لما جاء الطيب -صدقات أو زكوات- إلى عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه الخليفة الخامس الراشد- ودخل، وطبيعة الحال أنه إذا كان هناك مكان به طيب أن تنتشر رائحة الطيب في المكان، فماذا فعل عمر؟ أول ما دخل أمسك بأنفه، قيل: يا أمير المؤمنين! هذه مجرد رائحة أنت ما أخذت منه شيئاً! فقال لهم: وهل ينتفع إلا بريحه؟! الطيب لا ينتفع إلا بريحه، فكأنه لم ير لنفسه حقاً أن يشم هذا الريح برغم أنه منتشر في المكان. أهل التقصير يرون أن هذا من التنطع، لكن هذا ملكة عند أولئك؛ لأنهم أهل الورع. كانوا يخفون ورعهم ويظهرون آثامهم، قال ابن جريج رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له. لو سألت أي طالب علم: لمن طلبت العلم؟ سيقول: لله، والله أعلم بحقيقة نيته. الإمام الذهبي يقول كلاماً معناه: ولو سألت أي فقيه: لمن تعلمت العلم؟ لبادر وقال: لله، ويبرر نفسه الحمقاء. وابن جريج رحمه الله يقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى الله إلا أن يكون له. أي أنه عندما طلب العلم طلبه ليقال: محدث أو فقيه، لكن كان عنده إخلاص في الجملة، وعلم الله عز وجل إخلاصه ذلك، فلما حصّل الأدلة الشرعية انتفع بها، فعاد العلم لله، مع كونه لما بدأ كان يريد أن يشار إليه بالبنان، فيقال: هذا فقيه أو هذا محدث، لكن مع تحصيل العلم، وتصحيح النية؛ أصبح مخلصاً لله تبارك وتعالى. فهذه الجزئية في هذا الحديث: (أما قد قلت ذلك) فيها إشارة إلى أن هذا الرجل لو لم يقل له هذا الأمر لما صرح له بهذه القسمة العادلة التي نال بها مطراً أو ماءً خاصاً من السماء، ينادى فيها باسمه. وهذا أيضاً داخل في فائدة عظيمة جليلة، لكن الأمر يطول بها، وهي: كرامات الأولياء، ولعلنا نتعرض لمثل هذا المبحث في مرة أخرى إن شاء الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.

زراعة الأرض واستثمارها

زراعة الأرض واستثمارها القسم الثالث: وهو زراعة الأرض واستثمارها. قرأت مقالاً لبعض المستشرقين يحتج فيه بحديث في البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام (رأى محراثاً في بيت فقال: ما دخل هذا بيت قومٍ إلا أدخله الله الذل) فقال: إن هذا يدل على أن الإسلام لا يحث على زراعة الأرض واستثمارها، هذا مع كون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، لا يقولن أحدكم: إن الساعة تقوم، اغرسها. وإنما كان هذا التنبيه؛ لأن ابن آدم مجبول على ألا يفعل شيئاً إلا بفائدة من ورائه، إذا رأى شيئاً لا يعود عليه بفائدة تركه. كان عندنا طبيب مشهور، لكنه ظل أكثر من ثلاثين عاماً يتمنى أن يرزق بولد أو بنت، وجاب الأرض شرقاً وغرباً، وأخفق في ذلك، وهو طبيب، وليس هناك أحد سيرث هذه الأموال، فكان قد اشترى عمارات وعقارات وبنى أكثر من عيادة، ولكن لما أيس من أن ينجب ولداً فجأة وجدوه يبيع كل ما يملك، وباع كل العيادات واقتصر على عيادة واحدة، فسألوه عن ذلك، قال: لمن أدع هذه الأموال؟! أنا أشقى وأتعب وأجمع ثم أتركها لمن؟ ليس لي ولد. لو كان رجلاً يحكمه الشرع لأنفق أمواله كلها على الفقراء والمساكين، هذه الأموال وهذه العقارات التي باعها أين تذهب الأموال الزائدة النقدية؟ وضعها في البنك، إذاً كان وجود هذه العقارات أرحم له، هذا الرجل كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن شعر بأن الجو حار فدخل في فرن، مع أن العاقل لا يفعل ذلك، لكن هذا الرجل لا يحكمه الشرع، لذلك أخذ كل هذه الأموال ووضعها في البنك، وصار يأكل منها شيئاً فشيئاً حتى بددها، وما استفاد منها شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة. الشاهد من هذا: أن الإنسان مجبول على أنه لا يصنع الشيء ويمضي فيه إلا إن حصلت له من ورائه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه ينبه على هذا، فيقول: لا يقع في روعك أن الساعة تقوم ولا أحد يستفيد من هذا الغرس؛ فيحملك ذلك على ألا تغرسه لا، اغرسه (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها). وفي الحديث الصحيح الآخر: (ما من رجل يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طائرٌ أو إنسان أو حيوان إلا كان له به أجر) هل هناك حض أكثر من هذا على استثمار الأرض؟ نحن بطبيعة الحال لا نقول هذا الكلام لنقنع هذا المستشرق لا، فهؤلاء هويتهم معروفة، إنما هذا الكلام قد يجلي الغموض على بعض أبناء أولئك المستشرقين، الذين يأكلون ويشربون ويتغوطون عندنا، فيكتبون على صفحات الجرائد والكتب والمجلات أشياء تزكم الأنوف. أخرج أحدهم كتاباً مسلسلاً على مدار سنة أو أكثر، وسماه: (تبشير الأصحاب بتحريم النقاب) وكتب مؤهلاته العلمية على جلدة الكتاب من الخلف، فحل لنا لغزاً عظيماً إذ علمنا أنه طبيب بيطري متخصص في السموم، فعلمنا أن هذا من السم الذي نفثه. يقول في آخر الكتاب: (والمرأة المتبرجة أقرب إلى الله من المرأة المنتقبة، وإننا إذا استغفرنا للمتبرجة مرة، سنستغفر للمنتقبة مرتين؛ لأن المتبرجة تعلم أنها عاصية بتبرجها، أما المنتقبة فتظن أنها مطيعة بنقابها، والنقاب حرام، فهذه أبعد عن الصراط المستقيم من المرأة المتبرجة!) فهل يصح في عقل عاقل أن تستوي في الإثم امرأة تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه وامرأة منتقبة؟! فلما قيل لهم: كيف تنشرون مثل هذا؟ قالوا: حرية رأي. إذاً اسمحوا لنا بالرد عليه. قالوا: اكتبوا. فكتب العشرات وأرسلوا إلى الجريدة، ولكنهم لم ينشروا شيئاً؛ وقالوا: ليست هناك مساحات خالية. وقد اشتكى شيخ الأزهر من الجرائد الرسمية بأنه يرسل الرد على بعض الناس فلا ينشر؛ لأن القائمين على أجهزة الإعلام معروف أن هويتهم علمانية، فيسمحون للمرأة على شواطئ الإسكندرية أن تخرج بالمايوه، وفي الجامعات أن تذهب متبرجة، ورغم ذلك يمنعون المنتقبات من دخول الجامعات؟ لماذا لم يعاملوهن معاملة أولئك؟ أنتم تقولون: إن المرأة عندما تقف على شاطئ الإسكندرية بالمايوه أو عارية أن هذه حرية أليس لأولئك حرية أيضاً؟!! الحرية إذن في الطعن على الإسلام والمسلمين فقط، هذه هي الحرية. فهؤلاء إذا ترجموا لنا كتب المستشرقين قالوا: هذه آداب، وهذه فنون، ننقل ما عند الناس؛ لأنهم ينقلون ما عندنا، تريدون منا أن نتحجر، ثم يقذفوننا بما في جعبتهم من الرجعية والتخلف والانحطاط، والرجوع إلى القرون الوسطى، والله يعلم أن هذا المتكلم لعله لا يعلم شيئاً عن القرون الوسطى، لكن هذه الكلمة إنما تقال في معرض التحجر. وهذا أحمد بهاء الدين يذهب إلى أمريكا للعلاج، ويرسل من هناك مقالاً يقول: (بينما العالم يتابع سفينة الفضاء الأمريكية التي أطلقت من أكثر من عشرة أعوام، وترسل الصور من على القمر، نجد عندنا من يتكلم عن فوائد البنوك هل هي حلال أم حرام؟ وهل النقاب واجب أم مستحب؟ وهل تغطية الوجه كذا! أفيقوا يا قوم!). حسناً ما علاقة العلماء بسفينة الفضاء؟! كان من الأحرى والأجدى أن يوجه مثل هذا التقريع إلى رجال الفضاء بمصر لماذا؟ لأن هذا تخصصهم، فيقول لهم: أنتم لا تعرفون إلا الهلال، وظهور الشمس، اخرجوا من هذا القمقم وتحركوا وانظروا، وخذوا تكنولوجيا العالم لكن -كما قلنا- الشيخ دائماً مهضوم، وكل بلية تنسب إليه، وكل حسنة وإن جاءت منه تنسب إلى غيره؛ لأنه -كما قلنا- ليست الدولة لهم. هناك مسرحية مشهورة وهي مسرحية: مدرسة المشاغبين، وفي هذه المسرحية في البداية أتوا بهيئة التدريس ينشدون النشيد الوطني للمدرسة، وكان من ضمن هيئة التدريس: مدرس الدين، وأتوا بهم وهم يغنون ويرقصون، وكان أفضل رجل رقص فيهم وحاز على قصب السبق مدرس الدين. لا يستطيعون أن يجعلوا قسيساً مكان هذا الرجل، لكن لأن الشيخ ممتهن، إذا تكلم الشيخ -مثلاً- في الإعجاز الفضائي، يقولون له: وما أدراك بالفضاء؟! ابق في الحلال والحرام، لا تتكلم في الفضاء. والمهندس أو الفلكي عندما يتكلم في الدين لا أحد يقول له: لماذا تتكلم في غير تخصصك؟ وإذا قيل له ذلك قال: الدين لله، وليس ملكاً لك. وهذه كلمة حق أريد بها باطل؛ لأن الدين لله عز وجل من ناحية الاعتقاد، وليس من ناحية التصدر للفتيا، لم يقل أحد من أهل العلم قط أنه يباح لكل أحد أن يفتي، ما قالها أحد قط، فمسألة (الدين لله) أي: اعتقاداً لا يجبرك أحد، لكن (الدين لله) أي: الفتيا، يتجرأ عليها كل أحد، ما قال أحد من أهل العلم بهذا قط، ولا أنصاف المتعلمين يجرءون على قولها، إنما هو -كما قلنا- الجور على أهل الدين، فهم لا يعاملوننا بالعدل حتى ذراً للرماد في العيون. فيأتي هذا فيترجم هذه الأشياء التي فيها فظاعة وطعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجرؤ أحد على منع هذا من النشر -كما قلنا- لأنهم يقولون: حرية رأي. توفيق الحكيم روائي معروف، قال هذا القول عندما بلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: إذا بلغت عبدي ستين سنة فقد أعذرته)، وقد زار فرنسا ورجع، فاستضافوه في صحيفة الأهرام وسألوه: ما أفضل شيء أعجبك في فرنسا؟ فقال: الزواج الجماعي. في الأشهر الماضية يسألون وزير الثقافة على صفحات (جريدة الأهالي) لماذا لم تتزوج حتى الآن؟ يقول: حباً في النساء؛ لأن الرجل الذي يتزوج يقتصر على امرأة واحدة. ما معنى هذا الكلام؟ أي أن الذي لا يتزوج له النساء جميعاً، والذي يتزوج كصاحب المحل، له محل واحد، أما العامل فله ألف محل، يستطيع أن يترك هذا المحل ويذهب إلى ذاك. فقام الناس وقالوا له: إن هذا فسق وفجور، وإعلان للخنى، ولا يجرؤ أحد أن يمنعه أو يتكلم لماذا؟ يقولون: هذه حرية. فهذه المقالات التي يترجمونها فيها السم الزعاف الذي يقتل به أبناء المسلمين في بلادهم، مثل هذا المقال -كما قلنا- دخل من باب حرية الرأي، وفيه طعن على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. فيقول هذا: إن الإسلام يدعو إلى الخمول والكسل، بدليل أن هذا الحديث يقول: إن الرجل الذي يمتلك آلة الحرث في بيته يذل، مع أنه عمي أو تعامى عن تبويب الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث، وقال: باب ما يخشى من الاشتغال بآلة الزرع -أي: عن ذكر الله تبارك وتعالى- فيقول: إن هذا الرجل إذا استخدم المحراث في زراعة الأرض وتفانى فيها بحيث ألهته عن ذكر الله، فليس بعد دخول النار ذل، هذا يقضي عليه بالذل إن اشتغل به عن ذكر الله تبارك وتعالى هذا وجه من وجوه الحديث. الوجه الآخر: وهو أن الذي يعمل بآلة الزرع يتعرض للذل بسبب الجباية التي تفرض عليه، وعلى المحصول الذي يخرج من الأرض؛ فيتعرض للذل، وهذا كائن، فمثلاً يقولون: الفدان يُخرِج مثلاً طنين من الأرز -ألفي كيلو- ويجب أن يورد إجباراً إلى الجمعية الزراعية طناً ونصف، بسعر -مثلاً- مائتي جنيه، في حين أن هذا الطن في السوق السوداء بستمائة، إذاً: الفرق أربعمائة في الطن الواحد، هب أن الله منع الثمرة وغارت الأرض، ماذا يفعل هذا الرجل؟ يجب عليه أن يشتري طناً ونصف بسعر ستمائة حتى يوردها بسعر مائتين، إذاً يخسر، وإن تخلف عن السداد سجن أليس هذا من الذل؟ فكأن في هذا الحديث إشارة إلى ما يفرض على ذاك المزارع من الجبايات الظالمة التي تعرضه للذل: إما بتعريضه للسجن إذا لم يوف ما عليه، وإما بتعريضه للجوع هو وعياله. فهذا الذي يفهم عليه الحديث، ليس أن الإسلام يمنع من استثمار الأرض، كيف والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)؟ لذلك هذا الرجل يقول: (وأرد فيها ثلثه)؛ لأنه إن لم يرد ثلثه لا يتمكن من أداء الأمرين الأولين: الأمر الأول: وهو الإنفاق على الأولاد. والأمر الثاني: وهو أن يتصدق، وأن يحظى عند الله تبارك وتعالى بالخير العظيم. فهذا الثلث الذي يرده في باطن الأرض يعينه على إنجاز الأولين.

فضل الصدقة

فضل الصدقة الفائدة الثانية: وهي الصدقة، وفيها أدلة كثيرة جداً على فضلها. من الأشياء التي افتقدها المسلمون اليوم: وجود بيت مال للمسلمين، أو على الأقل وجود بيوت تجمع هذا المال يكون عليها فقير، حتى يعرف كيف يصرف هذا المال، فتعجب عندنا في الجرائد عندما تقرأ أن فاعل خير تبرع بمائة ألف دولار لـ مصطفى أمين، هذا العلماني من الذي أدخله في الزكاة ومصارف الزكاة أو الصدقات؟! هؤلاء ينفقون على الفنانين والفنانات المتقاعدات، يقول: أدوا الرسالة على أتم وجه، ثم يضيعها هو، فينفقون من هذا المال على الفنانات، لا يصل هذا المال إلى مستحقيه، فهذا الرجل الذي أعطى هذا المال جاهل بمادته، والذي يتصرف بهذا المال أجهل منه. والسبب في حدوث مثل هذه الفوضى: أن المسلمين تخلفوا عن القيام بأدوارهم، والزجاجة الفارغة إذا لم يملأها شيء ملأها الهواء، فأنت إذا لم تشغل هذا الحيز شغله غيرك. كم خسر المسلمون بسبب الفوضى؛ لأن أموالهم ذهبت إلى غير مستحقيها، وكم من أصحاب المعاصي بدأ المعصية بسبب الحاجة، هناك بعض النساء الزانيات اللاتي تبن، لكن إحداهن تحكي أن سبب وقوعها في هذه الخطيئة ذهبت تطلب شيئاً فلم تجده، وسدت أبواب الخير في وجهها، فاضطرت -نحن لا نبرر شرعاً هذا الاضطرار- أن تسلك هذا الطريق، ووجدته طريقاً مليئاً بالأموال فسلكته. وهذا يدل عليه قصة أصحاب الغار: الرجل الذي جاءته ابنة عمه تطلب منه مالاً، فراودها عن نفسها فأبت، فألمت بها سنة -أي: مجاعة وحاجة- ثم إنها رجعت إليه مرة أخرى فمكنته من نفسها رجاء أن تأخذ المال، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه. ما الذي جعلها تأبى أولاً، وما الذي جعلها توافق ثانياً؟ نستطيع أن نستشف أن هذه المرأة أبت أن تفرط في عرضها؛ لأنها ظنت أنها إن يممت وجهها شطر أي رجل آخر فإنه يمكن أن يسد حاجتها، فكأنها مرت على الرجال تلتمس منهم هذا العون فلم تجد، وألمت بها سنة -أي: مجاعة شديدة- فاضطرت أن ترجع. لو أن هذه المرأة وجدت أول مرة من يسد حاجتها لم تكن لتفرط في عرضها؛ لذلك نحن نقول: نحتاج إلى فقيه يقوم على هذا المال؛ لأن بعض الناس يشحون بصدقاتهم وزكواتهم على بعض أصحاب المعاصي، يقول: أنا لا أعطي إلا الملتزم أفلا يسرك أن ينضم رجلٌُ جديد إلى ركب المؤمنين؟ في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج-يعني بالليل- فوجد امرأة فوضع في يديها الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على زانية. فقال الرجل: الحمد لله على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة -كأنما شعر أن صدقته لم تقع في الموضع الذي أراد، أنا أريد أن أتصدق على المستحق، فتقع صدقتي في يدي زانية! كأنه رأى أنها ما أجزأته؛ لذلك عاود الأمر مرة أخرى وقال: لأتصدقن الليلة بصدقة- فخرج فوجد رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق. فقال: الحمد الله على سارق! لأتصدقن الليلة بصدقة -لأنها وقعت من وجهة نظره في غير الموقع الذي أراد- فخرج فرأى رجلاً فوضع في يده الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على غني -أي: غير محتاج- فجاءه من يقول له: أما صدقتك فقبلت، وأما الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله ينظر فيخرج الذي عنده) فهذا فضل الصدقة على أهل المعاصي: أما الزانية: فلعها تستعف وتحفظ فرجها إن وجدت من يكفلها. وأما السارق: فلعله يتوب عن هذه السرقة، بأن وجد من يعطيه هذا المال. وأما الغني: فلعله يغار ويخرج الذي عنده. لذلك يجب علينا أن نعامل أصحاب المعاصي كأنهم مرضى، وبذلك فهم يحتاجون إلى نوع خاص من المعاملة، فلا تشح بمالك على بعض أهل المعاصي، لكن هذه المسألة ليست على إطلاقها؛ فمن أملت فيه بإحسانك إليه أن يرجع وأن يتوب لا تتردد في ذلك، وإذا ظهر لك بعشرتك معه، وكثرة دعوتك له أن يراجع ربه تبارك وتعالى ويقلع عن هذا الإثم، أنه سيظل ماكثاً على ما هو عليه؛ حينئذٍ تتركه وتهجره. فالصدقة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة)، وفي الحديث الصحيح: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه، ثم يربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) وهناك بعض الناس يجدون جبالاً من الحسنات ما توقعوها قط؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وتضاعف إلى سبعمائة ضعف. يقول بعض الناس: أنا لا أخرج الصدقة حتى أرى من يستحقها. لا يا أخي! أخرجها، المهم أن تخرج منك، وسواء وقعت في موقعها الذي أردت، أو وقعت في غير موقعها هذا ليس من شأنك، وهذا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للرجل في الحديث السابق: (أما صدقتك فقبلت)، المهم أن تخرج منك، لأن النفس مجبولة على الشح والمنع، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. هذه كلها عبارة عن ذرائع يخفي بها المرء شحه، أن يقول: أنا أريد أن أضع الصدقة في مكانها. هذا في الحقيقة لو أنه ترك نفسه لعلم أن هذا جاء من جراء الشح. الصورة التي يفكر بها المرء لاسيما في باب الإنفاق مهمة جداً في دعوة العوام إلى الرجوع إلى حظيرة الإسلام، ولقد والله رأينا أناساً كثيرين يبذلون هذا لله تبارك وتعالى في الصدقة؛ فيعوضهم الله عز وجل أفضل منه. قصة الطالب المشهور الذي كان يعمل مهندساً لصيانة المكائن في شركة الدخان، وما كان يعرف حكم الدخان، وكان هذا الرجل كثير الصدقة، ويتصدق من كسب يده، فكأنما خاف على هذه الصدقات أن تذهب وتبدد؛ لأنها لم تأت من كسب طيب، فأراد أن يستبدل مصدر كسبه بمصدر طيب، لكن ماذا يعمل وهو مهندس ولا يجيد إطلاقاً إلا هذه الصناعة، أول ما علم أن العمل في هذه الشركة لا يجوز ما ترك مباشرة، لأنه لابد أن ينفق على أولاده، فانتظر حتى اشترى له عربية -هذه التي يدفعها الرجل بيده- واشترى بعض الطماطم والبطاطس وكل هذه الأشياء، واقترض هذا المبلغ، وهو رجل مهندس -هذه القصة حدثت في أواخر الستينات، طبعاً في أواخر الستينات كانت الشهادة مهمة جداً، والآن ليس لها قيمة، وإن كانت شهادة جامعية عالية فإنها ليس لها قيمة، إنما كان لها قيمة عظيمة جداً في أواخر الستينات وأوائل السبعينات- وصار يدفعها في شوارع الجيزة، هذا الرجل الآن يعد من أكبر الأغنياء الموجودين بمصر. ويحكون عنه أشياء كثيرة في التصدق والبذل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته يوماً: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فكان أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يقسن أيديهن، وكن يعتقدن أن التي يدها أطول هي التي تلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وتكون أول من يموت بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ماتت زينب رضي الله عنها، وهي أول زوجاته لحوقاً به، وكانت قصيرة، وقصر الطول يتبعه قصر الأعضاء، فعلمن حقيقة الحديث، وأن الأمر ليس المقصود طول اليد، إنما طول اليد بالصدقة؛ لأن زينب رضي الله عنها كانت كثيرة الصدقات، فكأن لها اليد الطولى، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة). فمن ترك شيئاً لله تبارك وتعالى عوضه الله عز وجل خيراً منه. فذلك الرجل تصدق بثلث ماله على الفقراء والمساكين الذين لهم حق في هذا المال.

فضل النفقة على العيال

فضل النفقة على العيال هذه القصة حدثت في زمن بني إسرائيل، ونخرج منها بثلاث فوائد عظام: الفائدة الأولى: فضل النفقة على العيال، والإثم في تضييعه. الفائدة الثانية: فضل الصدقة. والفائدة الثالثة: فضل عمارة الأرض كزراعتها. أما الفائدة الأولى: وهي فضل النفقة على العيال وإثم تضييعه. في الحديث القدسي الذي رواه البخاري مرفوعاً: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال الحديث: (وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه) إذاً فعلك لهذا الواجب هو أحبُّ شيءٍ تتقرب به إلى الله عز وجل، إن أردت أن تتقرب تقرب بما افترض عليك، أما النافلة فتقتضي زيادة الحب، (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه). لو أردنا أن نقرب هذا المعنى نذكر مثالاً -ولله المثل الأعلى- فنقول: لو كان لك خادم كلما أمرته بشيء امتثل، ولا يقول: لا، ولا يشكو عجزاً هذا -بلا شك- يكون محبوباً لديك، فإن علم هذا الخادم -بذكائه ومعاشرته لك- أنك تحب النظافة اليومية، وأنك تحب أن تقص الشجر، أو تقطف الورود ففعل هذا بغير أن تأمره، ألا تزداد له حباً؟ تزداد له حباً بطبيعة الحال. وكذلك الله تبارك وتعالى عندما تتقرب إليه بما فرضه عليك فهذا أحبُّ شيء إليه عزوجل، فإن زدت ذلك نافلة من عندك زاد حبه لك، صح عند النسائي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليضحك إلى العبد يكون النوم أحب شيء إليه، ثم يقوم يتملق ربه بركعتين) كل أمنيته أن يصل إلى فراشه من شدة التعب، ولكن توضأ ووقف بين يدي الله عز وجل يتملق -تأمل هذا اللفظ- يتملق ربه بركعتين، فالله تبارك وتعالى يضحك لمثل هذا العبد. النفقة على العيال واجبة، لذلك لا يجوز أن تخرج الزكاة للأصول أو للفروع، لا يجوز أن تعطي زكاة مالك لأبيك وأمك ولا لأولادك لماذا؟ لأن لهم نفقة واجبة عليك، وإذا قصر الرجل في هذا الواجب فقد أباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ هند بنت عتبة كما في حديث عائشة في الصحيحين، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال لها: خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، لو قصر رجل في هذا الواجب يؤخذ منه عنوة؛ لأنه واجب عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أباح لها أن تأخذ حقها المفروض على زوجها أن يؤديه إليها، قال لها: (بالمعروف) هذه الكلمة مهمة جداً؛ لأنه لا يجوز للزوجة أن تتوسع في الأخذ من مال زوجها لتنفق على شهواتها، هذا ليس من المعروف، وهناك من يفسر كلمة (المعروف) بالعُرف، أي ما يتعارف الناس عليه في البيوت، وصار شيئاً ضرورياً في البيت، حتى وإن كانت الحاجة إليه ليست ماسة، قال: يجوز للزوجة أن تأخذ حتى تحقق هذا، أي العرف، وهو ما تعارفوا عليه، ولكن هذا ضعيف؛ لأنه قد يتعارف الناس في بيئة من البيئات على شيء من الترف تمضي حياة المرء بدونه، فلا يجوز إذن للزوجة أن تتوسع وأن تأخذ ما تشتهي، إنما (خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف) فيفهم من هذا: ما يقيم صلبها وصلب أولادها. أغرب شيء صادفته في رمضان الماضي: رجل لا يملك الكثير من المال، ويعمل في صنعة ما، فجمع أجره كله وذهب ليعتمر، وترك أهله دون أن يعطيهم شيئاً، وكان هذا في العشر الأواخر من رمضان، والعيد اقترب، والنفقات في رمضان بوجه عام تزداد، فهذا الرجل ما ترك شيئاً لأهله ولا لأولاده وذهب ليعتمر! فأخبروني -بالله عليكم- أهذا تصرف يرضاه الشارع الحكيم؟! A لا؛ لأنه ذهب إلى سنة مستحبة له، وقد سبق له أن اعتمر، وسبق له أن حج، وضيع واجباً وراءه. كذلك حدث عندنا في أسوان أن رجلاً خرج أربعين يوماً وترك أهله؛ وهو صاحب محل، فمعنى أن يخرج أربعين يوماً أي أنه أغلق المحل، وأثناء ذلك مرض ولده فأرسلوا إليه: إن ولدك مريض. فقال الأب: أنا آسف! لن أقطع هذا الخروج. قاد ولده السيارة من بيته إلى المستشفى وهو مريض، ودخل المستشفى، وكانت أمه ترافقه، ومات بالمستشفى، فأرسلوا إليه إن ولدك مات، فقال: لا أقطع الخروج! ضيع أولاده وراءه، ما ترك لهم شيئاً من المال ينفقونه، لو سلمنا أن هذا الخروج مستحب -مع كونه بدعة كما صرح بذلك أهل العلم- وتعارض مع فرض، فلا شك عند المبتدئين من طلبة العلم أنه يقدم أقواهما عند التعارض، فيقدم هذا الفرض وهو الإنفاق على العيال، لكن كثيراً من أولئك يقودهم الجهل بالنصوص الشرعية إلى مثل هذه التصرفات. النفقة على العيال واجبة، وذلك الرجل صاحب البستان إنما نال كرامة السحاب المليء بالماء، ويقيض من ينادي في هذا السحاب أن اسق أرض فلان، فيسميه باسمه، لأنه عادل؛ فقد قسم ماله إلى ثلاثة أجزاء بالعدل: ثلث لأولاده، وثلث يتصدق به، وثلث يرده في باطن الأرض، حتى ينبت هذا الحب مرة أخرى فيتمكن من القيام بهذا الواجب، والقيام بحق الفقراء والمساكين من الصدقة. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وفي لفظ أبي داود (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) أي: حسبه هذا الإثم، إن كان يريد أن يستزيد من الآثام حسبه أن يضيع من يعول، فهذا مما يدل على إثم تضييع الأولاد، والفضل في النفقة عليهم، وأن هذا من أفضل القربات عند الله عز وجل أن ينفذ الإنسان ما أمر به، ويكون واجباً عليه، أي فرضاً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم دفع الزكاة الواجبة دون النظر في حال من يأخذها

حكم دفع الزكاة الواجبة دون النظر في حال من يأخذها Q هل بذل الصدقة دون النظر إلى من يأخذها ينطبق على الزكاة الواجبة، كزكاة الفطر أو زكاة المال؟ A نعم، هذه الجزئية التي أنا ذكرتها في العصاة ألا يجوز أن يكون العاصي فقيراً أو مسكيناً، أو أحد الأصناف الثمانية الذين تجب لهم الزكاة؟ طبعاً، لكن نحن تحدثنا على هذه الجزئية فقط، وهي جزئية إعطاء العاصي؛ لأن هذا العاصي إذا أعطيته -كما قلنا- من الجائز أن ينضم إلى ركب المؤمنين، وهذه المسألة -كما قلنا- تحتاج إلى رجل فقيه يقدر الحال والله أعلم.

حكم الصدقة على قاطع الصلاة

حكم الصدقة على قاطع الصلاة Q هل إذا غلب على ظن مخرج الصدقة أو الزكاة أن الفقير أو المسكين الذي يريد أن يعطيه الزكاة لا يصلي، فهل يجوز أن يدفع إليه الصدقة أو الزكاة؟ A هنا يعمل بغلبة الظن، ومعروف أن الأحكام الشرعية يكفي فيها الظن الراجح، فإذا غلب على ظنك أن هذا الرجل إن أعطيته من زكاة مالك أو من صدقتك مالاً -وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن تكون على دراية به، كأن يكون من أهل البلد- أنه لا يرجع ولا يرعوي؛ فلا تعطه، إنما إذا غلب على ظنك أن هذا الرجل أسير الإحسان، وأنه يطيع، فهذا من الأفضل بلا شك أن تعطيه الصدقة. وقد جربنا -وهذه التجربة عشتها بنفسي- أنك عندما تحسن إلى الفقراء والمساكين، فإنك تستحوذ على قلوبهم، وهذا أفضل من مائة محاضرة، فالجائع لا يستفيد من الكلام لأنه يريد أن يأكل، ويفكر كيف يحصل على العشاء لأولاده، وعلى الغداء، وكيف يحصل على الكسوة لأولاده؟ فالإحسان تستطيع أن تدخل به العشرات في حظيرة الإيمان، ولو كان الكلام الكثير يهدي الناس، ما ظننا أن يكون على الأرض عاص، لأن المتكلمين كثيرون جداً جداً، والكلام كثير جداً جداً، لكن الفعل قليل، هذه مشكلة كبيرة، يعني مثلاً: الذين يذهبون إلى الحج كل عام، تكفيهم حجة واحدة وهي حجة الإسلام، وإن كان المال زائداً فزوج به شاباً، أو ابن به بيتاً لأحد الفقراء الذين تسقط بيوتهم، فقد جاء رجل يشتكي ويبكي أنه بعد ما سقط بيته وعد بشقة -طبعاً هذا كله خيال- وهو الآن يسكن في عشة من الصفيح مع ثلاث بنات أكبرهن تخطت العشرين من عمرها، وأصغرهن تخطت الخامسة عشرة، ينامون فيها جميعاً، والحمام مشترك مع عشرين عشة، منْ مِنَ الناس يرضى أن تقف ابنته على باب الحمام وهناك رجل أجنبي خارج من الحمام؟! يأتي هذا الرجل يبكي ويقول: هجم علينا بعض الشباب الوضيع ليلة أمس، وساوموني على أخذ ابنتي وإلا هدموا علي هذه العشة من الصفيح، أريد أن أحافظ على عرضي، ماذا أفعل؟ يأتي يشكي لعاجز عجزه، فيلتقي العاجزان يبكيان، ليس هناك حل. إذا كنت تبغي -أيها الرجل- الثواب لا مجرد أن تذهب إلى الأرض المقدسة تحج وترجع، تريد الثواب فانظر إلى هذه الأسرة المشردة وأعطها المال، أو أعن شاباً على الزواج. فلو أن هناك رجلاً مريضاً، وكان هو رب الأسرة الذي ينفق عليها، وأصيب -نسأل الله عز وجل لنا ولكم العافية- بفشل كلوي، فمن الذي سينفق على زوجته وأولاده بعد أن أصيب بهذا المرض؟ وبعض الناس يذهب إلى المصيف شهراً، ينفق فيه عدة ألوف وجاره جائع بجانبه لا يعطيه شيئاً، لقد عجز المسلمون أن يأخذوا حكمة الصلوات الخمس، أنت الآن تصلي بجانب أخيك خمس مرات في اليوم، فتظل عدة سنوات لا تعرف اسمه ولا بيته، وإذا غاب لا تسأل عنه. بعض الناس عندنا صلى في المسجد نحو سبع سنوات، ثم انقطع فترة طويلة، فسأل الناس عنه فقيل: مات منذ ثلاث سنوات. قالوا: سبحان الله! كنا نظنه مسافراً. اعتاد أن يغيب أخوه ولا يسأل عنه، فإذا أطال في الغياب قال: لعله مسافر. لا تعامل صاحب المعصية بجفاء، بل تودد إليه وتحنن؛ لأن الإنسان يكون أسير الإحسان، فقد جربنا أن نعطي بعض الأموال البسيطة لهؤلاء الفقراء، فنادينا على المنابر: من كان عنده قميص، أو جلباب، أو أي ثياب يستغني عنها لصغرها عليه، أو لأنها قديمة فليأت بها، وجمعنا أطناناً فوزعناها على الفقراء، فأخذوها بعظيم البشاشة، ونادينا على المنابر: من كان عنده دواء -شفاه الله عز وجل وبقي شيء من الدواء- فليأت به، فجمعنا كمية كبيرة، وتطوع بعض الإخوة الصيادلة لعمل جناح خاص ورتبت هذه الأدوية، فإذا مرض إنسان أتى فأخذ مثلاً ورقة مختومة فيعطى الدواء بالمجان. تصور أن الدعوة السلفية لها مائة عام، وكان بعض الآباء يصدون أولادهم عنا ويقولون: هذا سني، وهو معرض للاعتقال، ويقول لابنه: لا تذهب ولا تصل في المساجد السنية. ويأتي الولد يشتكي ويقول: ماذا أفعل؟ المساجد الأخرى ينقرون الصلاة، فماذا أفعل؟! فاستطعنا أن نكسب قلوب أولئك الآباء، وأصبح الأب يستحي على الأقل أن يمنع ولده أن يرافقك وأنت المحسن عليه المتصدق، حتى وإن لم يقتنع بذلك على الأقل تجعله على الحياد إن عجزت أن تضمه إلى صفك. ما علمنا هذه الحقيقة إلا بعد أن مارسناها، كنا نتأفف جداً من أي رجل يشرب السيجارة، وقد نخوض في طريق آخر، لكن تجمعنا الجلسات بأولئك، فكنا نترفق بهم غاية الترفق، فأحياناً يصرحون بألفاظ عجيبة، ومع ذلك نخفض لهم جناح الذل من الرحمة، حتى يصير في قلبه محبة لك، وقد انضم عشرات من العصاة لركب المؤمنين. هذه الدعوة المباركة لا تحتاج إلى جهد؛ لأنها تغزو القلوب، لكن تحتاج إلى حسن عرض. مررت مع أحدهم على رجل يتسول، وقد كشف عن ساقه المقطوعة، فقال رفيقي أول ما رآه: أعوذ بالله، أعوذ بالله، تتكسب بالحرام؟! الركبة عورة! طبعاً الرجل لأنه لا يريد أن يقع في مشاكل غطى ركبته، ثم مشينا قليلاً فنظرت خلفي فإذا به قد كشفها، إذاً ما الفائدة؟! تستطيع أن تنكر المنكر بأسلوب أفضل من هذا. فالحاصل: أن الظن الغالب يُعمل به، وإذا غلب على ظنك -بخبرتك- أن الرجل صاحب عناد وجدل ولا يرجع فتجنبه، وهناك عشرات في مقابله يتقبلون النصح ويظهر ذلك عليهم. لذلك نقول: إن الزكاة والصدقة تحتاج إلى رجل فقيه حتى يضعها في موضعها والله أعلم. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عقبات في طريق التمكين

عقبات في طريق التمكين هناك الكثير من العقبات المانعة من التمكين لأهل الإسلام، من أعظمها: سوء إعداد جيل التمكين من قبل دعاة هذه الأمة وعلمائها وعدم اختيار الزوجة الصالحة عدم معرفة منهج النجاة في تربية الأبناء.

سوء اختيار الزوجة (المربية للأولاد)

سوء اختيار الزوجة (المربية للأولاد) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! لماذا يتقاتل الناس، ولماذا تنشب الحروب في كل مكان؟ إن هذا القتال الدائر بين الناس اليوم قديم وليس في هذا العصر فحسب وإنما هو قديم من لدن آدم عليه السلام، والمقصود منه هو السعي إلى التمكين. إن هذا النظام العالمي الجديد، وهذه التكتلات الاقتصادية بين الدول، المقصود منها التمكين؛ فالتمكين هو الغاية المنشودة خلف كل صراع، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن أولى الناس بالتمكين هم المسلمون. إن الله تبارك وتعالى لما ذكر التمكين في سورة القصص ذكر ميلاد موسى عليه السلام. إذاً: هناك رابطة قوية بين التمكين وبين صلاح الأولاد، بل لا يكون تمكين إلا بصلاح الأولاد؛ لكن قبل أن نتكلم على الولد نتكلم عن أصل الولد، نتكلم عن أمه وأبيه. الأم هي قاعدة البناء العريض؛ ولذلك كل المؤتمرات التي تعقد باسم البيئة والتنمية المقصود منها: إفساد المرأة، وقد اشتدت الضراوة على النقاب؛ لأن النقاب عاد بعد غياب استمر لخمسين عاماً فقط، فأصابهم بالدوار وخلط أوراقهم. إن المسرحية الغربية التي ألفوها سنة (1919) وحرقوا فيها النقاب احتجاجاً على وجود الإنجليز في مصر، وكان هذا في ميدان الإسماعيلية المتمثل في ميدان التحرير ويشير اسمه إلى تحرير المرأة وحرق النقاب، والذي ينبغي أن يعلم أن النقاب لم يختف بمجرد أن حرق في الميدان؛ لكنه ظل نحو عشر سنوات أو خمس عشرة سنة حتى تحلل الناس منه. أي أن غياب النقاب عن الساحة كان في حدود سنة (1935) ثم رجع سنة (1980) أي في حدود خمسين سنة؛ فهم لم يتصوروا أن تنهار مكاسبهم بهذه السرعة، وخمسين عاماً في أعمار الأمم لا تشكل شيئاً. فلما رجع الحجاب مرة أخرى ورأوا أن مكاسبهم بدأت تضيع اشتدت الحملة والضراوة، حتى أن المؤتمرات صارت تعقد بسفور، ولم يلجئوا إلى التلميح كما كانوا من قبل. إن وراء كل رجل عظيم أم -ولا أقول امرأة- بل خلف كل رجل عظيم أم. أيها المقحم عن الزواج! إن غاية المنى في الدنيا أن تظفر بالمرأة الصالحة، واسألوا الذين لم يوفقوا في حياتهم الزوجية هل تشعرون بنعيم؟ فكلمة إجماع عندهم (لا). لا يشعر بنعيم الولد ولا الصحة ولا الجاه ولا المال، بسبب فساد المرأة، والرجل التعيس في حياته يحسد كل الناس، ويظن أنهم سعداء وهو الوحيد الشقي، فالمرأة الفاسدة لا تشعر معها بطعم الحياة؛ وهذه المرأة لا يرجى من ورائها خير؟ إن الجيل التمكين، لابد أن يتلاءم فيه الرجل مع المرأة، وأن تعرف المرأة الغاية في خلقها وما هو دورها، وأن تقوم بواجبها حق القيام، وكذلك الأب، فهما أساس صلاح الأجيال. وإن الإسلام حفظ للمرأة كرامتها، فجعلها مطلوبة لا طالبة؛ فالرجل هو الذي يدخل ويتقدم ويخطب وليس المرأة، حفاظاً عليها وعلى كرامتها؛ فالمرأة لها قيمة ما دامت مطلوبة؛ فإذا صارت المرأة طالبة قلت قيمتها. ومع ذلك فقد أباح لها الإسلام أن تعرض نفسها على الرجل الصالح؛ لأنه غاية المنى بالنسبة لها -مع أن هذا في عرف الناس قبيح- الرجل الصالح، فيجوز للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح إذا ترجحت المصلحة وأمن الضرر، أما لو تزاحمت المضار فنختار أخف الضررين، وأخف الضررين هنا أن المرأة تتنازل وتبدو أنها هي التي تخطب الرجل، وصحيح أن قليلاً من كرامتها سيذهب لكن لا مانع؛ لأن تحصيل الرجل الصالح فيه من الفوائد ما لا يوازيه مثل هذا التمايز، مع أن هذا قبيح في عرف الحرائر. روى ثابت البناني رحمه الله حديثاً عن أنس رواه البخاري في صحيحه يقول: (كنت جالساً عند أنس؛ فقال أنس رضي الله عنه: جاءت امرأة فعرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! وهبت نفسي لك، فقالت ابنة أنس: واسوأتاه! ما أقل حياءها، أتعرض الحرة نفسها؟! فقال أنس: هي خير منك، عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم). لقد استنبط الإمام البخاري رحمه الله من هذا الحديث جواز أن تعرض أي امرأة نفسها، مع أن هذه المرأة وهبت نفسها، وهذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]. إذاً: للنساء جميعاً أن يعرضنَ -لا يهبن- أنفسهن، لدلالة الآية، وامرأة العزيز عيرها نسوة مصر بسبب مراودتها ليوسف عليه السلام: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف:30] يا للعار ما أقل حياءها، هي التي تراود، الذي يراود هو الطالب لا المطلوب {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر:37] هم الذين يطلبون. فلا بأس أن تعرض المرأة نفسها على الرجل الصالح فقد أُبيح لها ذلك، ثم على الصالحين أن يعرضوا بناتهم، والمثل عندنا يقول: (اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك). كذلك قال الرجل الصالح صاحب مدين: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] وبعض العلماء يقول: أنه شعيب عليه السلام، لكن الظاهر أنه ليس شعيباً عليه السلام؛ لأن شعيباً كان بين موسى وإبراهيم عليهما السلام، وشعيب قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] ولوط كان في زمان إبراهيم، وبين موسى وإبراهيم عليهما السلام مدة طويلة؛ فالراجح أنه ليس شعيب عليه السلام، لكنه رجل صالح، فهذا الرجل عرض ابنته على موسى عليه السلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]. وانظر إلى قول الله عز وجل: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] فلو بدأت القراءة من قوله تبارك وتعالى: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] لأعطاك معنى جميلاً {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] إذا كانت جاءت تمشي على استحياء؛ فلا شك أن القول يكون على استحياء أكثر، فعرضت البنت العاقلة على أبيها أن يستأجره، قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. هي هذه مقومات الزوج الصالح، القوي الذي يستر امرأته، ولا يعرضها للعمل، ولا يضيرها، ولا تبتذل بين الرجال، وهو الذي، يدافع عن عرضه، ثم هو أمين عليها، لما ذهب إلى أبيها تزوجها بكلمة الله، واستحلها بعناية الله؛ فهو أمين عليها، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لا يظلمها، فتفرست فيه المرأة ذلك؛ لأنها رأت منه خصلتين كما يقول أهل التفسير: الخصلة الأولى: قوة جسدية لما سقى لهما، وكفاهما هذا الزحام فهذا دلالة قوته. والخصلة الثانية: أمانته حيث أنه مشى أمامها ولم يمش خلفها حتى لا يرمقها. وقد ذكر أهل التفسير أنها كانت تشير له عن طريق الحصى، إذا رمت الحصى يميناً انحرف يميناً، وأذا رمت شمالاً انحرف شمالاً؛ فعلمت أن هذا رجل نبيل؛ فتفرست فيه هاتين الصفتين؛ فقالت لأبيها ذلك: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. فهذا الرجل الصالح عرض ابنته ولم يكن هذا إغراءً عليه ولا على ابنته، بل كان شرفاً له، لأن الذي تزوج ابنته نبي الله موسى عليه السلام. وقد سنها لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففي صحيح البخاري وغيره: (لما تأيّمت حفصة بنت عمر بسبب موت زوجها، طفق عمر يعرضها، فعرضها على عثمان قال: هل لك في حفصة بنت عمر؟ قال: أنظرني ثلاثاً، فبعد ثلاث قال: قد بدا لي أن لا أتزوج في يومي هذا. قال: فقابلت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت له: هل لك في حفصة بنت عمر؟ فلم يرجع إلي بشيء فكنت عليه أوجد مني على عثمان، ثم لبثت ليالي فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فقابلني أبو بكر: فقال لي: لعلك وجدت علي إذ لم أرجع إليك بشيء! قلت: نعم. قال: والله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، وما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها). ولم يكن إبراءً بـ عمر لو تزوجها عثمان نعم الزوج، لو تزوجها أبو بكر نعم الزوج، ثم كل هذا في سبيل البحث عن الرجل الصالح. روى أبو نعيم في كتاب ال

الإسلام دار والصحابة الباب

الإسلام دار والصحابة الباب الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام! ليس ما ذكرته هو أول عقبة، فحياتك كلها عقبات، ألم نسمي مجموعة الأحكام الشرعية تكاليف؟ وأنت اسمك المكلف، ومعنى مكلف أي: يفعل الشيء بكلفة. والتكليف كله مشقة، فأمامك عقبات عظيمة، وأول العقبات أن تختار المرأة الصالحة؛ فالمرأة الصالحة رزق، مثل المال والولد، ثم حبك للمرأة رزق آخر لا دخل لك فيه وكما قلت لك: إن قلبك ليس بيدك. ولما أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر خديجة رضي الله عنها غارت عائشة؛ فتكلمت بما تكلمت، فقال لها: (إني رزقت حبها). فحب الرجل للمرأة رزق، وحب المرأة للرجل رزق، وهو يستحق شكراً مستقلاً، فإذا رزقك الله عز وجل زوجة صالحة فاسجد لله شكراً. وفي هذا الزمان حصلت فجوة في تاريخنا، ذهبت فيها الخلافة، وإن مغبة ضياع الخلافة فيه فساد جيل بأكمله، هذه الأمة جيلاً فاسداً، عاش تحت وطأت العلمانيين، والمتحللين من دينهم، ولا زلنا نعاني من هذه المحنة؛ وأصبح اختيار المرأة الصالحة يكلف الرجل بحثاً كثيراً؛ لكن ابحث عن صلاح بيئتها قبل صلاحها. هناك حديث موضوع لا يجوز أن ننسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن نحن نقوله ليس لأنه حديث؛ لكن لأنه كلام جميل: (إن أنضر الأزهار ينبت في الدمم). الدمم: المستنقعات، والوردة جميلة، تنبت في وسط المستنقع. المرأة التي ظاهرها الالتزام، وقد تربت في بيئة سيئة، لو تزوجها قد تنجيها من البيئة التي تعيش فيها، ولكن بعدما تتزوج قد تحصل مشاكل عادية بين الرجل والمرأة فتذهب المرأة إلى بيت أبيها، وهم لا يعينونها لصلاح بيتك، بل يفسدونها، ونحن عندنا نماذج من ذلك، إلا أن يتفضل الله عز وجل على هذه المرأة فتكون أصيلة وأنت لا تدري؛ فإذا أردت أن تختار انظر إلى صلاح الأهل والبيئة، فلو اخترت امرأة يظهر عليها كل مظاهر الالتزام وأهلها صالحون فإنهم يصلحونها لك، وإذا غضبت أرجعوها. رضي الله عن أبي بكر، فقد كان نعم الحمو للزبير بن العوام، وكان الزبير رجلاً غليظاً وضراباً، إذا ضرب يضرب بقسوة، وكان متزوجاً بامرأتين؛ فكانت أسماء رضي الله عنها تذهب وتشتكي لأبيها؛ فكان يرجعها ويقول لها: يا ابنتي! إن الزبير رجل صالح، صحيح أنه يضرب لكن أين بقية شمائله: دينه وأخلاقه ورعايته، ثم هو من المبشرين بالجنة، رجل من الصالحين، فترجع أسماء المرأة الصالحة البارة الوفية إلى زوجها، وقد تجد المرأة في زوجها خلقاً سيئاً لكن قد ترضى منه أخلاقاً كثيرة كذلك المرأة فقد تجد فيها خلقاً سيئاً، وترضى منها أخلاقاً أخرى جميلة وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر). هذه كلها عوامل تساعدك على اختيار المرأة الصالحة، وليست هذه كما قلت أول العقبات، بل هناك عقبة كؤود، هي من أعظم العقبات التي تواجهك أيها الرجل الآن، وهي معرفة المنهج الذي تربي عليه أبناءك. ونحن أمامنا مناهج كثيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) فأنت أمامك ثلاثة وسبعون باباً مفتوحاً كل باب يمثل منهجاً مستقلاً. إذاً: قبل أن تخطو لابد أن تعلم إلى أين الطريق؟ إلى أين يؤدي؟ ولقد كفانا النبي عليه الصلاة والسلام مئونة تحديد الطريق والمنهج فقال: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي). فهل التزمنا بمذهب القرن الأول؟ هل نعرف كيف عاش الصحابة فعلاً؟ كيف كانوا يعتقدون العقيدة؟ كيف كانوا يتعاملون؟ كيف كانوا يتفاوتون في فهم الأدلة والنصوص؟ إذاً: إذا أردت أن تبقي لهذه الأمة من نفسك ولداً صالحاً، يكون نواة لجيل التمكين، لابد أن تعلم ولدك الباب الوحيد الذي يدخل منه. هي هذه العقبة الكئود التي يجب أن تبحث عنها أكثر من بحثك عن عمل إضافي لتأكل وتشرب. هو معرفة منهج النجاة، هذا العلم فرض عين عليك، خاصة أننا في هذا العصر عصر تشويه جيل الصحابة، هذا التشويه قائم على قدم وساق، يكذبون أبا هريرة وينشرون كتباً لتكذيبه، في أكبر دار نشر رسمية، فقد ظهر كتاب أضواء على السنة المحمدية للهالك محمود أبو رية يكذب فيه أبا هريرة ويقول: إنه كان يفتري الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويخرج رجل آخر جاهل يصدر كتاباً الأضواء القرآنية لاكتساح ما في البخاري من الإسرائيليات، يلعبون بالكتب ويعبثون بهذا التاريخ المجيد، الذي إذا انهار لا تقوم لنا قائمة. الآن المد الشيعي بدأت تظهر بوادره، والذي يعتمد أساساً على تحقير الصحابة، لماذا؟ لأن الصحابة هم الباب إلى الإسلام، هم الذين نقلوا لنا الدين كله أصولاً وفروعاً، فإذا جاز لك أن تكذب أبا هريرة! فهذا يعني أن كل حديث نقله أبو هريرة كذب، وكم من العلم سيضيع إذا كذبنا الناقل، والطعن في الصحابة المقصود به الطعن في الإسلام كله. كان الإمام النسائي رجلاً مجاهداً، فلما دخل دمشق كان المحبون لـ معاوية كثراً والمبغضون لـ علي كثراً، فالإمام النسائي قال: أحسن شيء أن أؤلف كتاباً في فضائل علي، فصنف كتاباً أسماه خصائص علي بن أبي طالب، أي: مناقبه، فصنفه قبل أن يصنف رسائل الشيخين في فضائل أبي بكر وعمر، فنسب إلى التشيع بسبب هذا الكتاب، مع أنه سني خالص؛ لكنه رأى من السياسة الشرعية أن نبدأ بتصنيف كتاب خصائص علي لكي يقرأه في وسط النواصب. فبعد أن قرأ الكتاب قام شخص وقال له: لم لا تحدثنا بفضائل معاوية؟ فقال: جاء حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد لي معاوية) وقد كان معاوية رضي الله عنه كاتباً للوحي، ولا يكتب الوحي إلا أمين، فذهب ابن عباس فوجده يأكل، فقال له: حتى أكمل الأكل، وقعد ابن عباس يلعب مع الصبيان، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ناد لي معاوية. فقال له ابن عباس: إنه قال: سيأكل ويأتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أشبع الله بطنه). والعلماء قد حملوا هذا على المدح، بدلالة حديث أم سليم عند مسلم أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سليم: أو ما تدرين ما شارطت عليه ربي. قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة وأجراً) ولا أشبع الله بطنك زكاة وأجر. قال: فسكت وسكت السائل؛ ولكن العوام قاموا عليه يضربونه فقتلوه، فمات الإمام النسائي شهيداً بسبب هذا الكتاب، فأراد أحدهم أن يستغل هذه المسألة فقال له: إن بعض الناس يتكلم في معاوية. فقال له الإمام: إن الإسلام دار والصحابة الباب فمن نقر على الباب أراد الدخول ومن أراد الصحابة الإسلام. هي دعوة ظاهرة ولا نجاة لك إلا من هذا الباب الذي هم الصحابة، فعليك بالتزام مذهب القرن الأول الذي صار فرض عين علينا جميعاً إذا كنا نريد النجاة.

النقاب آلام وآمال

النقاب آلام وآمال قد يشعر الإنسان -أحياناً- بإحباط شديد لما تتكاثر الأخبار السيئة في يوم واحد، ويظن أن ليس في الدنيا خير، مثل علماء الحديث كانوا أحياناً يجمعون غرائب الراوي ومناكيره في موضع واحد، فربما نظر الناظر ولا يدري بذلك إلى أحاديث هذا الراوي، فضعفه ظناً منه أن ذلك هو الغالب على حديثه. ومن المشاكل التي تعرض عليّ يومياً مشكلة واجهتها ولم أستطع لها حلاً، وانعقد الكلام على لساني، أخت اتصلت بي وتريد حلاً لمشكلتها، تقول: إنها انتقبت هي وأختها الصغرى، فما كان من الوالد إلا أن طرد الأم إلى بيت أبيها، وجعل رجوعها مرهوناً بخلع البنات للنقاب؛ فقالت الأم لأبنائها تحملوا قليلاً، فالمسألة كلها مناورات، ومع الأيام ستعود المياه إلى مجاريها، وفي فترة غياب الأم حدث للبنات أشياء شنيعة جداً. أولاً: أمرهن أبوهن بخلع النقاب. ثانياً: كان يأمرهن إذا جاء ضيف أن يظهرن شعورهن ويدخلن عليه. وقالت: لا أستطع أن أصف لك حجم الضرب الذي تحملناه، فما نزعنا النقاب إلا بعد ضرب شديد. وليس هذا فقط بل يأمرهن أن يجلسن بجانب الضيف، وإذا لم يمتثلن ينهال عليهن ضرباً ولو كان الضيف موجوداً تصور أن هناك آباء بهذا الحمق والحقد على الدين؟! وكنت لا أملك لها إلا أن ألقي على مسامعها نماذج من تضحيات الفاضلات من الصحابيات ومن الأمهات والمؤمنات، ومع ذلك كنت أحس أن الكلام يتعثر على لساني، فالمسألة أكبر من الكلام. إن الأمة مهزومة بأمثال هؤلاء، نحن عندنا من هذا الصنف الكثير، وأنا لا أبالغ، لكن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. مثلاً: لو ذهبت إلى صديق، وقلت له: هل الوباء الفلاني منتشر؟ يقول: نعم، منتشر كما ترى. لا. اسأل أهل التخصص هم الذين يخبرونك هل المرض منتشر أم لا. لعلكم لا تشعرون بهذه المحن، فالناس كل يوم يعيشون محناً ويريدون لها حلاً، ونحن لا نملك لهم أكثر من النصيحة، كل مشكلة لابد أن تترك على القلب ظلاً، وكثير من الملتزمين الذين مكن الله لهم قد دب اليأس إليهم من كثرة الفساد. والذي يجعلنا نستبشر هو رجوع النقاب، النقاب وقد صار علامة للالتزام، كذلك اللحيةلم يعد عليها ذلك الضغط القديم، وأصبح أصحاب اللحى يدخلون الجامعات والمؤسسات المرموقة والمواقع الحساسة، بل عشنا حتى رأينا اللحية في أمان، لقد كان الذي يريد أن يشتري شيئاً ليأكله يحلق لحيته، ويلبس البنطال، ويلبس (الحلق) ويلبس سلسلة! كنوع من التمويه، وأصبحنا نعرف حجم الدعوة في أي بلد بالنقاب فإذا دخلت أي بلد فاسأل عن النقاب، فإذا كان منتشراً جداً فاعلم أن الدعوة منتشرة، وإذا كان النقاب في أهل بيت، فاعلم أن في البيت أكثر من ملتزم، أبوها أو أخوها يأمرها، لكن قد يعفي الرجل لحيته والبيت كله لا يصلي، فرجوع هذا النقاب بهذه الكثرة الكاثرة، إنما الفضل فيه لله عز وجل. وأما جهد الدعاة فهو قليل ولا يساوي كل هذا الخير الموجود، وما من يوم ينشق فجره إلا ونجد عدداً من الفتيات يلبسن النقاب. ونحن نقول للآباء الذين يرفضون أن تلبس بناتهم النقاب: إن الانحراف ثمنه غال جداً، والآن الخمار لم يعد علامة الحجاب، فقد تبلغ الفتاة سن الخامسة عشرة فتعلن الحجاب، لكن بعدما وضع النقاب ترى الخمار أدنى، وقد يخطب المرأة المختمرة الذي لا يصلي والذي يدخن، لكن المرأة المنتقبة لا يدخل عليها إلا شخص واحد فقط، يريدها من أهل الدين. إذاً: النقاب باب، والمرأة عندما تنتقب تتزوج بسرعة، ليس مثلما يفهم الناس، في عقلية الستينات كانت المرأة لازم أن يكون لديها دبلوم عالٍ أو (بكالريوس أو ليسانس)، لكن الدنيا تغيرت، والمفروض أن المعايير تتغير أيضاً. فلم يعد النقاب وسيلة من وسائل عرقلة مسيرة المرأة نحو الزواج. إذاً: النقاب سياج أمان، والمرأة المنتقبة تبقى ضامنة أن الذي يتقدم لها إنسان متدين، يريد هذا السمت، يريد امرأة منتقبة، وبالتالي صار النقاب عنوان لمجموعة من الفضائل، وليس مجرد قماش تستر المرأة به وجهها، لكنه عنوان امرأة ملتزمة، تصوم وتصلي، وتقوم على تربية أولادها. إذاً: النقاب سياج أمان للاختيار، فإذا خيرت بين امرأة ملتزمة بأمر الله ورسوله وبين امرأة تحمل الشهادة، فإياك أن تنحاز إلى صاحبة الشهادة، فإن أكثر النساء نعاسة ذوات الشهادات الجامعية، و (90%) من المشاكل التي أراها يومياً هي في بيوت النساء العاملات.

عمل المرأة من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء

عمل المرأة من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء إن المرأة عندما يكون معها شهادة أهلها يقولون: نحن لماذا حصلت على هذه الشهادات؟ لكي تقعد في البيت؟ لا. يقولون: يا أخي! الأعمار بيد الله، وافترض إن مت فمن أين تأكل هي؟ سبحان الله! لماذا أدخلته بين الأموات، لو أن كل رجل زوج ابنته لرجل هل سيبقى مخلداً؟ معروف أن الكل سيذهب، لكن هو يتخذ هذه ذريعة حتى أن المرأة تعمل. وإن سفر الأب إلى الخارج من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء، وكذلك عمل المرأة من أعظم المحن التي يبتلى بها الأبناء، فالمرأة تذهب إلى العمل وتترك الولد في حضانة، والحضانة هذه لا تعطيه الدفء، ولا تعطيه حب الأم، مع أن الحضانة مكلفة. فلا بد من وجود الأم في بيتها لتربي أولادها تربية صالحة وتساهم في إعداد جيل التمكين، والوالد يجب عليه أن يقدم عذره لله عز وجل، إذا كان قد فرط هو بسبب تفريط أبيه -هذه فرضية- فلا يفرط في ولده، فيجب على الأب تربية أولاده. إن محن الأبناء ما بين الأب والأم تتلخص في سفر الوالد، أو كثرة عمله وانشغاله عن ولده، وفي عمل المرأة وتركها لمنزلها، ونحن نقول: أدخلوا النساء البيوت مرة أخرى وأعطوهن الراتب وهن في البيوت، أو أعطوهن نصف الراتب، وخذوا النصف الآخر وأعطوه للشباب ليقوموا مقامهن. إن الرجل هو المسئول عن الإنفاق على البيت، فكيف توفر الفرصة لامرأة وتأخذ وظيفة رجل، إذاً: الرجل يعمل ماذا؟ ويصرف من أين؟ هو الذي في يده القوامة، وشطر القوامة أن ينفق على المرأة، والمرأة ليس عليها ذلك. وإذا كان العمل موفراً للمرأة ويحرم منه الرجل، فما هي النتيجة؟ تجد الرجل يدور، يريد أن ينفق فيبدأ بالانحراف فينضم لأي عصابة من العصابات، فهذا كله فيه فساد في المجتمع، لكن واقع المرأة يظهر أنها لا تؤدي ربع ما يؤديه الرجل، ما هو الشيء عند المرأة وليس عند الرجل، ما هو العمل المميز؟ حتى في مهنة الطباخة الرجال هم المتفوقون فيها، هل قد رأيت امرأة تطبخ في فندق، الذي يطبخ هو الرجل، وهو متفوق على المرأة، وما هو الشيء الذي عند المرأة ولا يحسنه الرجل؟ المرأة تحسن شيئاً واحداً لا يحسنه الرجل هو تربية الولد وتعظيم الوالد عند الولد، فالأب طوال النهار في العمل والولد يخاف من والده بسبب الأم المخلصة التي تعظم الوالد، سأقول لأبيك، سيضربك أبوك. أم مخلصة أمينة، كل يوم تنمي في نفسية الولد تعظيم الوالد ومحبته، لكن عندما تكون المرأة في العمل ولاؤها يقل لزوجها، لأنها تقضي مع زميلات العمل أكثر مما تقضي مع زوجها في البيت تقريباً ثمان ساعات وهي تقضي مع زوجها ربع هذه المدة، والرجل طوال النهار في العمل، وعندما يرجع يكون مرهقاً، ومتعباً، يريد أن يأكل وينام، فتقول له: هل هذه لوكندة؟ على الأقل قل كلمتين جميلتين. لا تحسبوا أني أخترع هذه الأشياء، هذه مشاكل تأتيني مكتوبة، ومصائب كبيرة. فما هو دور وعمل المرأة بعدما ضيعت رأس المال الحقيقي الذي هو الولد؟ فإذا كبر الولد يأتي الوالد ويشتكي ويقول: إن ولدي لا يزورني ولا يأتيني ويعقني، وأكبر مشكلة تعترض الرجل أن النتائج مؤجلة، فعندما يفقد قدرته على الحياة ويحتاج إلى أولاده يبدأ يرى العقوق. فأي مهمة يريدها الإنسان هي مثل البرج، لا يمكن أن يصل إلى أعلاه إلا إذا أتى من أسفل، لكل شيء أساس، فإذا أحسن التربية فلن يجد العقوق، وهكذا بنيان أي أمة في الدنيا، فمن كان عمره ستين سنة فإن ربع حياته قد ذهبت في الطفولة، ولكن لماذا طالت طفولة الإنسان؟ لأن الحمل الموضوع على كتفه جسيم وكبير، ونحن نحتاج إلى أساس قوي؛ لكي يتحمل كل هذا الضغط. إذاً: الطفولة التي ضيعناها بسبب فساد البيت لا ينبني عليها أبداً بناء، وبداية مرحلة التأسيس: اختيار الرجل واختيار المرأة، فهي الأساس في صلاح الولد. وإذا أتينا لعمل دراسة سهلة عن راتب المرأة العاملة، فإن متوسط راتب أغلب النساء العاملات مائة وخمسين (جنيه) أو مائتين (جنيه) ولنقل أنها ستصرف نصف مرتبها والنصف الباقي تدخره، إذاً: الباقي سيكون خمسة وسبعين (جنيه)، أي: لا يصل في السنة إلى ألف (جنيه). انظر إلى الألف جنيه هذه في مقابلها اثنا عشر شهراً خسارة محققة، قد يكون في حياة المرأة رجل آخر، هي عفيفة وتغض طرفها، لكن قلبها قد يبتلي ويتعلق بشخص آخر غير زوجها، ويكفي أنها قد رأت رجالاً غير زوجها.

التبرج والاختلاط واقع مر

التبرج والاختلاط واقع مر وصف ربنا سبحانه وتعالى نساء أهل الجنة فقال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] لا في الجنة فتنة ولا نظر، كل الجنة متعة، ومع ذلك لا تخرج، لماذا تخرج؟ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] مقصورات على أزواجهن، إذاً المرأة الجالسة في البيت تتشبه بنساء أهل الجنة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر صنفاً من الناس لم يرهم قال: (نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة) (أسنمة البخت المائلة) تأتي مسرحة شعرها، ومصففة شعرها فوق رأسها وعلى ناحية، فالعلماء منعوا من أن تصفف المرأة شعرها بهذه الصورة وقالوا: لأن هذا فيه تشبه بالمغضوب عليهم، وتشبه بأهل النار. والإسلام أعزنا وكل أمر يتشبه المسلم فيه مع ما هو أدنى منه يمنع منه، يقول لك لا تفترش كافتراش الكلب، ولا تنقر كنقر الديك، ولا تبرك كبروك البعير، ولا تحتفز احتفاز الثعلب، كل هذا لأنك كريم، فلا تتشبه بالدنايا،، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نائماً على بطنه، فقال له: قم إنها ضجعة أهل النار. أي: لا تتشبه بأهل النار. فالمرأة التي تصفف شعرها على رأي القائلين بالتحريم تتشبه بأهل النار. إذاً التشبه بأهل الجنة شرف، فالمرأة التي تجلس في بيتها شبيهة بأهل الجنة، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وقال: (((وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [الصافات:48]، أي: طرفها مقصور على زوجها لا ترى غيره. والاختلاط مشكلة من أكبر المشاكل، وللمحافظة على القلب وسلامته لا بد من إغلاق الحواس الخطيرة التي يدخل علينا منها الشيطان. انظر إلى المعاكسات التليفونية، هناك رجال ونساء اغتالهم الشيطان بالمكالمات، فبعض إخواننا الدعاة لا يردون على النساء أصلاً لهذا السبب، لأن هذا قد يؤلم القلب ويشغله، إنها مجرد فتوى أو حل مشكلة، لكن أنت لا تدري من على الطرف الآخر، كذلك في العمل تجد دائماً مديراً وسكرتيرة مثلاً، ولابد من عرض الشغل وتتأخر لكي تأخذ الشغل، وتبلغ الدياثة ببعض الناس أن الرجل الكوافير يدخل البيت مع المرأة إلى غرفة النوم وحدهم ليصفف شعرها، ووالله إن هذا موجود في بلادنا، وأن هذا الأمر عند بعض الناس شيء عادي، ولو كان الذي دخل رجل كريم كيوسف عليه السلام لخفنا منه، أليس هو الذي قال لربنا: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33]، هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم. إذاً: استقرار المرأة استقرار للبيت أجمع، واستقرار المرأة لا يكون إلا برجوعها إلى بيتها وأولادها. ونحن نقول للنساء: اتقين الله عز وجل ولا تكلفن الرجل أكثر مما يطيق، فالمرأة الوفية تجوع مع زوجها إذا جاع، والرسول عليه الصلاة والسلام لما سئل: ما حق زوج أحدنا علينا؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت). وأول خطوة في صلاح جيل التمكين صلاح الأولاد، لكي يختصر جيل التمكين المسافة، وحتى نكون أوفياء في حق أمتنا، علينا أن نبدأ بإصلاح البيوت، ولابد للنساء أن يقمن بدورهن في ذلك، وبعض الناس لا يذهب إلى البيت بل يظل قاعداً على المقهى طوال النهار، لأنه لا يوجد ترابط بين الرجل والمرأة. هل ممكن أن يخرج جيل التمكين من هذا الرجل والمرأة؟

جهل بعض الدعاة والعلماء في فتاويهم بواقع الأمة

جهل بعض الدعاة والعلماء في فتاويهم بواقع الأمة بعض الدعاة الذين يقولون: إن الوجه يجوز كشفه -بغض النظر عن الحكم والفقه في هذه المسألة- لم يفطنوا إلى مقصد هؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يصلوا إلى هدفهم، يقول لك: العالم الفلاني قال: إن وجه المرأة ليس بعورة، هم كانوا يسمعونه بالأمس ولا يستدلون به، لكن هذا العالم له صيت عند الجماهير فيخدعون الناس بالمكانة هذه، وبغض النظر عن الحكم الفقهي في المسألة، فإن هذه معركة كيان أمة، يريدون أن يذوبوه مرة أخرى، فلكي يستغلوا هذا، يحتجون بهؤلاء العلماء. ونحن نقول للدعاة وللعلماء لابد من معرفة واقع الأمة في هذه الفترة، كذلك أنا متعجب من الذين يتكلمون عن الغناء أن له ضوابط، فيا ترى أي ضوابط يقصدون؟ إذا كنت تعلم أن المستفتي لا يراعي الضوابط؛ فأغلق عليه الباب، هل معنى إذا كان الغناء عفيفاً وشريفاً أنه يجوز، هل هذا اليوم موجود؟ غير موجود، هل الجماهير تلتزم بهذه الضوابط؟ لا تلتزم بالضوابط؛ لذلك كان ابن الجوزي معذوراً لما حذر على أبي نعيم عندما ألف كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. لقد كتب حلية الأولياء عند شخص صوفي، فإذا بالصوفي يظن أن من المتصوفة: أبو بكر وعمر وأحمد بن حنبل وسعيد بن المسيب، فلا يجوز أن تقول: أحمد بن حنبل صوفي، إنما قل: أحمد زاهد، لو قلت صوفياً، أقول لك: ليس صوفياً، لماذا؟ مراعاة للاصطلاح. وهذه الأيام عندما يأتي شخص -بعدما تفشى الغناء بمذاهب شتى- يقول لك: الغناء جائز بضوابط، لو أنك تعلم أن الجماهير لا تلتزم بالشرع؛ إذاً: هل يجوز لك أن تذكر الفتوى بهذه الضوابط التي لا تلتزم بها الجماهير. فقه المفتي يقتضي عكس ذلك، أغلق عليه الباب، قال العلماء: لا تعطي الرخصة لرجل مستهين؛ لأنه سيتخذ الرخصة في غير مكانها، مثلاً: رجل جاء وقال: أنا أعمل في طلاء البيوت، ويدي تمتلئ بالطلاء، فيأتي يسألك هل يجوز أن أجمع بين الصلاتين جمع تقديم أو تأخير، فأنت عندما تسمع في أثناء كلامه بعض الكلمات تجعلك تحجم عن إعطاء الفتوى والرخصة، وإذا جاء شخص وقال: أنا في العمل ولا أستطيع أن أصلي كل صلاة في وقتها فهل لي أن أجمع؟ فقال له المفتي: اجمع بين الصلاتين، إذاً: هذا أعطاه رخصة، فهو إذا كان صاحب فوضى لا يلتزم لا يلتزم بهذه الفتوى ولا بالرخصة. ولا تقل: النقاب مستحب وإلا واجب -الآن- لأننا أصبحنا في مرحلة غريبة جداً، ولم يعد الكلام على الحكم هل واجب أم مستحب، الكلام أصبح على أصل النقاب، فعندما يأتي رجل ويقول: النقاب مستحب وصوت المرأة ليس بعورة، قد يأتي لك شخص ويقول لك: الشيخ فلان والشيخ علان قال: إن النقاب مستحب، وصوت المرأة ليس بعورة، ومما يؤكد أن القضية ليست مسألة حكم فقهي، وإنما يراد به إفساد المجتمع، تراه اليوم من حملات شرسة على الحجاب، وقضية تحرير المرأة. ويروون قصة أن شخصاً يستدرج النساء ويقطع أيدهن ويأخذ الذهب، فلماذا يقطع أيديهن؟! لماذا لا يأخذ الذهب دون أن ينشغل بقطع اليد؟! فهذا كذب، والكاذب لا بد أن يترك أثراً تستدل به على كذبه؛ ولو وقع ما يدعونه، لبلغنا بالتواتر، وأنا أؤكد لكم أنكم تتعاملون مع أهل مكر وخديعة {يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]. والرسول عليه الصلاة والسلام قال (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ اليهودي خلف الحجر فينادي الحجر يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله) وهم يختفون خلف شجر الغرقد لأنه من شجر يهود إذا اختبأ خلفه لا ينادي. إذاً: لابد أن نرجع إلى ربنا؛ ليسخر الله عز وجل لنا من يعيننا على مهمة إعداد جيل التمكين، ولا يكون هذا الجيل إلا من الرضاع ولا يكون ذلك، إلا إذا كانت الأم نبيلة وكان الرجل نبيلاً، فلا بد لكل رجل أن يرجع إلى بيته، ويعلم الغاية من خلقه، ويسأل نفسه ماذا قدم لأمته؟ هل ربى أولاده التربية الحسنة؟ أخي الحبيب: إنك لا تدري متى يأتيك الموت فالموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل، فأعد للقاء ربك عز وجل، انصح الناس وإن كنت تعلم أنه لا فائدة، قلها كما قال القائلون من بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.

علموا أولادكم حب الصحابة

علموا أولادكم حب الصحابة إن الحديث عن أفضل أصحاب لأفضل نبي عرفته البشرية لأمر عظيم ومهم جداً؛ وما ذلك إلا لأن هؤلاء الأصحاب قد اختارهم الله عز وجل واصطفاهم لأن يكونوا أنصاراً لدينه، وأصحاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عز وجل عليهم في غير ما آية، وبشرهم بالجنة، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن سبهم وانتقاصهم. وإن الواجب علينا نحوهم أن نقوم بنشر محاسنهم، وتبصير الناس بالدور الذي قاموا به في سبيل نشر دين الله، وإيصاله إلينا، والتضحيات العظيمة التي بذلوها من أجل إعزاز هذا الدين. ومن الحقوق التي لهم علينا الدفاع عنهم، ودحض الشبهات التي يلقيها المبطلون للنيل منهم، فهم عدولنا وهم شهودنا، والطعن فيهم طعن في ديننا؛ لأنهم نقلة هذا الدين وحملته.

منزلة الصحابة وخطر الطعن فيهم

منزلة الصحابة وخطر الطعن فيهم الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن حديثنا عن جيل التمكين حديث طويل، ولا تتم النصيحة إلا إذا جلينا أمر العقبات التي تعترض هذا الجيل. من أعظم العقبات التي ابتدعها أول طائفة مبتدعة في الإسلام وهم الخوارج، هي عقبة تحطيم الرأس، أناس بلا رأس لا قيمة لهم، ورأس المسلمين هم الصحابة، وأول بدعة في الإسلام -وهي بدعة الخوارج- قامت على تشويه سمعة الصحابة وتضليلهم، بل وتكفيرهم، وعدم الاكتراث بهم، هذه هي أول بدعة في الإسلام. وهذه البدعة تطل برأسها منذ عدة سنوات، لكنها اشتدت ضراوة وخسة ونذالة في هذه الأيام. في هذه الأيام وعلى صفحات الجرائد يتهمون الصحابة مثل عمر وعثمان وبقية الصحابة بأنهم كانوا مهتمين بالجنس، وأن مجالسهم كانت عن النساء! ثم يذكر هؤلاء الأنذال أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يتعمدون مخالفة الأوامر الشرعية، ويقولون: إن الله عز وجل حرم على الرجل أن يأتي امرأته في الحيض أو أن يأتي امرأته في دبرها، فيقول هؤلاء: إن عمر بعد هذا النهي فعل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وقال: حولت رحلي هذه الليلة. قلت لكم: إنها زادت خسة هؤلاء، الصحابة يتكلم عنهم بهذا الكلام الفاسد على صفحات الجرائد؟! والمجرم الآثم الذي كتب هذا بيده يعود إلى بيته آمناً مطمئناً، غير مبال بشيء، أرأيت إلى الأغمار كيف يمزقون نسيج الأحرار؟! يُتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا هم لهم إلا النساء، أليس هذا من القذف الذي ينبغي أن يعاقب عليه فاعله؟! إذا حطمنا هذا الجيل فمن يبقى لنا؟ 1 نحن الآن نعيش على ذكرى هذا الجيل، وإذا استلهمنا الانتصارات واستلهمنا القوة فممن سنأخذها؟ سنأخذها من هذا الجيل، وليس هناك نقطة مضيئة في حياتنا إلا هذا الجيل. هذا جيل ليس له نظير أبداً من حين خلق الله عز وجل آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. نحن نقطع أنه لم يأت مثل هذا الجيل أبداً، ولم يرزق نبي أبداً بصحابة أوفياء أبرار أطهار مثل نبينا عليه الصلاة والسلام. فهم الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وبذلوا الغالي والنفيس، وبذلوا المهج لله ورسوله، يكون من عاقبتهم أن يذكروا بهذا الإفساد؟!!

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه- بلغه أن خالد بن الوليد تشاجر مع عبد الرحمن بن عوف فسبه خالد، فقال عليه الصلاة لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما بلغت ملء كف أحد الصحابة ولا نصفه هذا الكلام موجه لمن؟ ليس لنا، هذا موجه لـ خالد، وخالد صحابي، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لـ خالد الصحابي: (لا تسبوا أصحابي). خالد ما صفته؟ هو صحابي أيضاً، لكن الصحابة درجات، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لأن عبد الرحمن بن عوف من طلائع المهاجرين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل، ونصر دين الله في وقت عز فيه النصير؛ في حين كان خالد كافراً، وكان يحارب الله ورسوله، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى خالداً عن سب عبد الرحمن بن عوف، فمن باب أولى الذين أتوا من بعدهم فلا يجوز لهم أن يسبوا الصحابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي). وهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي! لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فيه نهي عام للكل.

مقارنة بين جيل الصحابة وبين جيلنا في الثبات على الدين

مقارنة بين جيل الصحابة وبين جيلنا في الثبات على الدين تلقيت نبأً مفزعاً مروعاً، هذا النبأ عن سجين مصري، وأنا لن أتكلم هل هو ظالم أم مظلوم، جان أم مجني عليه؛ فهذا لا يهمنا. هذا السجين أرسل رسالة إلى سعادة السفير الأمريكي، وذكر فيها أنه متخصص في فن نادر وفي علم نادر، وأن أمه مريضة تحتاج إلى كلية، وليس معه ثمن الكلية، فجاء إلى هذا البلد ليحصل على الثمن، قال: وبينما أنا في الطريق، اعتقلوني وأودعوني السجن بلا تحقيق. ثم قال هذا السجين المصري: سعادة السفير! أريد أن أتنصر لكي يخلصني يسوع الرب مما أنا فيه، ولكي أشرح للعالم الأكذوبة العظيمة التي هي الإسلام! مدة سجنه إلى تاريخ كتابة الرسالة: خمسة وثلاثون يوماً فقط، لم يمض على سجنه إلا خمسة وثلاثون يوماً فقط، ويريد أن يتنصر، وهذا الرجل -كما يقول عن نفسه- متخصص في فن نادر، لكنه جاهل بجزئيات الإسلام، الأمية الدينية منتشرة في صفوف الدكاترة والأساتذة الكبار فضلاً عمن دونهم، خمسة وثلاثون يوماً فقط في السجن، ومن أجل أن يخرج منه يعرض عليهم الدخول في النصرانية مقابل الخروج. لو أن هذا الرجل لبث خمسة وثلاثين ثانية في سجِّين لم يتحمل، إنه يريد بتنصره أن يسجن نفسه سجناً مؤبداً، ويظن أنه بكفره وتنصره يستطيع أن يتحمل النار، هو بذلك يريد أن يفر من سجن في الدنيا، مع أنه يأكل فيه ويشرب وينام، هذا النمط له نظائر كثيرة. إذاً: من أولى بالذم؟ من أولى أن يتكلم عليه؟ أهؤلاء الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل؟ أم الصحابة الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله سبحانه وتعالى، وضحوا من أجل إعزاز دين الله عز وجل؟! فهذا كعب بن مالك من أشراف الصحابة، ولكن هناك من هو أشرف وأعظم منه: كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وتمام العشرة، فهذا موقف كعب بن مالك من رسالة ملك غسان، لقد قام بإحراقها، وهذا يرضى بالكفر! إن أخطر شيءٍ يهدد العبد المعصية، وعلى رأس المعاصي جميعاً الكفر، قال الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، لكن هناك سيئة واحدة تذهب كل الحسنات وهي الشرك. دخل إبليس النار لأنه خالف أمراً واحداً، وخرج آدم من الجنة لأنه عصى وخالف أمراً واحداً، وتقطع يد السارق في ثلاثة دراهم، ويرجم الرجل المحصن إذا توارت حشفته في فرج امرأة لا تحل له، فما يؤمنك أن تدخل النار بذنب واحد؟! ما يؤمنك لاسيما إن كان على رأس هذه الذنوب الشرك؟! هذا نمط ونموذج. وفي الجامعة مدرس يسب أبا هريرة، ويكتب على صفحات المجلات تكذيباً لـ أبي هريرة وطعناً عليه، وهذا الرجل، زال في منصبه، ويدرس الطلبة! تُكَذِّبُ الصحابة ونحن أحياء، وفينا عين تطرف! كل رجل يرجع إلى أهله وإلى أولاده، يغرس فيهم حب الصحابة، وأن الدفاع عن هذا الجيل فريضة؛ لأن حب الصحابه فريضة، واعلم أنك لست في مأمن، لست في مأمن. لقد قرأت في مذكرات الشيخ علي الطنطاوي أحد مشايخ سوريا: يقول في سنة ثمانية وأربعين حين دخلت إسرائيل القدس، ومررنا على التجار نجمع الأموال لشراء السلاح، قال: فذهبت إلى تاجر كبير، وعرضت عليه القضية، قلت له: نحتاج إلى مال فأبى، وقال: أنا مديون، أنا ما لي وما للسياسة، ما لي وما للسلاح. بعد سنتين أو ثلاث، قال الشيخ الطنطاوي: فكنت أوزع على اللاجئين في الخيام، فوقعت عيني على رجل لما رآني توارى، فلمحت وجهه، فكأني رأيته قبل ذلك، فذهبت خلفه، فلما رأيته عرفته، إنه ذلك التاجر الذي أبى أن يدفع المال لشراء السلاح، فلما واجهته بكى وقال لي: يا ليتني أعطيتك كل مالي، لقد صار هذا التاجر لاجئاً، خسر تجارته وصار لاجئاً، ماذا فعل بها؟ ماذا عمل؟ لا تتصوروا أنه إذا طعن في الصحابة وامتُهنوا، ومزقت أعراضهم؛ أنكم في مأمن، أليس هؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم، ورضي الله عنهم ورضوا عنه؟ أليس هؤلاء الذين قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟! وكل نداء في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) هم المخاطبون به أولاً، لأن الخطاب وجه إليهم ابتداءً.

نماذج من ثبات الصحابة على الدين

نماذج من ثبات الصحابة على الدين إن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه- بلغه أن خالد بن الوليد تشاجر مع عبد الرحمن بن عوف فسبه خالد، فقال عليه الصلاة لـ خالد: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما بلغت ملء كف أحد الصحابة ولا نصفه هذا الكلام موجه لمن؟ ليس لنا، هذا موجه لـ خالد، وخالد صحابي، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لـ خالد الصحابي: (لا تسبوا أصحابي). خالد ما صفته؟ هو صحابي أيضاً، لكن الصحابة درجات، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لأن عبد الرحمن بن عوف من طلائع المهاجرين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل، ونصر دين الله في وقت عز فيه النصير؛ في حين كان خالد كافراً، وكان يحارب الله ورسوله، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى خالداً عن سب عبد الرحمن بن عوف، فمن باب أولى الذين أتوا من بعدهم فلا يجوز لهم أن يسبوا الصحابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي). وهذا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي! لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فيه نهي عام للكل. عندما أطالع هذه المحن يحز في نفسي أن جيل الصحابة لا يجد من ينتصر له، مع أنهم نقطة الشرف الوحيدة في حياتنا، فتوليهم واجب، ونصرتهم ومحبتهم واجبة، ومع أنه يحز في نفس كل حر، لكن من المحن تأتي المنح، إن الله تبارك وتعالى ذكر في آيتين من كتابه المجيد معنى هذه المقولة: (من المحن تأتي المنح)، وكلتا الآيتين جاءتا في سياق الجهاد والحرب، وهي قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، هاتان الآيتان جاءتا في سياق الجهاد والدفع. ومعنى الآيتين: أنه إذا ظهر صاحب الباطل وأظهر باطله، فإن على أهل الحق أن يتصدوا لهذا المبطل وباطله ويدفعوه بالحق. ولولا طعن هؤلاء في الصحابة ما نشرنا فضائل الصحابة، ولا بالغنا في الدفاع عنهم، واستفرغنا كل جهد في تبرئة ساحتهم، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى ليكون ذلك سبباً في الدفاع عنهم، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، فهذا من الأسباب.

غرس حب الصحابة ونشر محاسنهم واجب شرعي

غرس حب الصحابة ونشر محاسنهم واجب شرعي عندما أطالع هذه المحن يحز في نفسي أن جيل الصحابة لا يجد من ينتصر له، مع أنهم نقطة الشرف الوحيدة في حياتنا، فتوليهم واجب، ونصرتهم ومحبتهم واجبة، ومع أنه يحز في نفس كل حر، لكن من المحن تأتي المنح، إن الله تبارك وتعالى ذكر في آيتين من كتابه المجيد معنى هذه المقولة: (من المحن تأتي المنح)، وكلتا الآيتين جاءتا في سياق الجهاد والحرب، وهي قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]، هاتان الآيتان جاءتا في سياق الجهاد والدفع. ومعنى الآيتين: أنه إذا ظهر صاحب الباطل وأظهر باطله، فإن على أهل الحق أن يتصدوا لهذا المبطل وباطله ويدفعوه بالحق. ولولا طعن هؤلاء في الصحابة ما نشرنا فضائل الصحابة، ولا بالغنا في الدفاع عنهم، واستفرغنا كل جهد في تبرئة ساحتهم، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى ليكون ذلك سبباً في الدفاع عنهم، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، فهذا من الأسباب. يجب أن نقرأ فضائل الصحابة من كتب السنة، ونعلم أولادنا حب الصحابة، فحبهم واجب وفريضة أكيدة.

الذين يطعنون في الصحابة وما يرمون إليه

الذين يطعنون في الصحابة وما يرمون إليه والله الذي لا إله غيره! أحلف بالله -وأنا بار راشد إن شاء الله- أن هؤلاء الذين يطعنون على الصحابة لو وجدوا سبيلاً إلى الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم لم يترددوا. لقد طعنوا على الله عز وجل، وسبوه على صفحات الجرائد. لما تكلموا عن النعجة (دوللي)، وكيف تم استخراج النعجة من الخلية الحية، قالوا بالنص -وناقل الكفر ليس بكافر ونعوذ بالله من الكفر-: هذا حدث أعظم من ميلاد المسيح!! أي أن العباد استطاعوا أن يفعلوا ما لم يفعله الله، فالله عز وجل خلق المسيح بغير أب، هذه نعجة بلا أب ولا أم، وإنما هي من خلية هذا كفر أم لا؟! وهو موجود، ثم شنوا حملة على رجال الدين قبل أن يتكلموا فقالوا: وبعد عدة أيام سنسمع المتحجرين الذين يقولون: هذا حرام، ويحرمون الإبداع!! انظر كيف يُسب الله سبحانه وتعالى على صفحات الجرائد! فلو وجد هؤلاء الذين يطعنون في الصحابة سبيلاً إلى الطعن على النبي عليه الصلاة والسلام صراحة ما ترددوا، ولقد غمزوه على صفحات الجرائد أيضاً، فقد كتبوا على صفحات الجرائد صفحة كاملة بعنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟!) أهذا كلام يكتب عن النبي عليه الصلاة والسلام؟!! ونحن نعتذِر إلى الله حتى لا تلحق بنا المصائب ونُهلك جميعاً، معذرةً إلى الله عز وجل فهاهو طوفان من الكفر موجود على صفحات الجرائد يا جماعة! علموا أولادكم الولاء لله ولرسوله وللصحابة أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تولي الصحابة والتأسي بهم واجب شرعي

تولي الصحابة والتأسي بهم واجب شرعي الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام: هذا شأن المحب: إذا وجد من يفتري على حبيبه، وكان عاجزاً عن القصاص، فلا أقل من أن يجود بالدمع، هذا أقل برهان على الحب في حال العجز. نحن نبرأ إلى الله عز وجل من الطعن في أوليائه الذين زكاهم ورفع منارهم، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتأسى بهم وأن نتولاهم. والله الذي لا إله غيره! أن أبا بكر وتمام العشرة أحب إلي من أبي ومن أمي ومن ولدي، وهكذا يجب أن يكون هؤلاء بالنسبة لنا جميعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت). ؛ فمكة هي أحب أرض الله إلينا وإن لم نكن من أهلها، لأنها أحب الأرض إلى الله، وما كان حبيباً إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون حبيباً إليك أيضاً، إذا كنت تحب الله عز وجل وتعظمه، فقاعدة الولاء والبراء تقول: حبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، هذه قاعدة الولاء والبراء، علموا أولادكم حب الصحابة.

من مستلزمات حب النبي صلى الله عليه وسلم حب الصحابة

من مستلزمات حب النبي صلى الله عليه وسلم حب الصحابة روى الإمام الترمذي في سننه -وحسنه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الله الله في أصحابي! -أي: اتقوا الله في أصحابي- لاتتخذوهم غرضاً) والغرض: هو مرمى السهام، أي لا تجعلوهم مرمى لسهامكم وطعونكم، فانظر إلى هؤلاء وإلى مخالفتهم للنبي عليه الصلاة والسلام! وكيف أنهم جعلوا الصحابة غرضاً وهو يقول لهم: اتقوا الله -أو نشدتكم الله عز وجل- في أصحابي (لا تتخذوهم غرضاً من أحبهم فبحبي أحبهم) هذا هو الشاهد (من أحبهم فبحبي أحبهم) أي: لا يحبهم إلا إذا كان محباً لي، وصدق الإمام مالك رحمة الله عليه لما قال: إن الذين يشتمون الصحابة إنما أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يقولوا: هو رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لقُيّضَ له أصحاب صالحون!

مقارنة بين موقف اليهود والنصارى وبين موقف الروافض تجاه أصحاب أنبيائهم

مقارنة بين موقف اليهود والنصارى وبين موقف الروافض تجاه أصحاب أنبيائهم إن النصارى واليهود أفضل من الروافض بخصلة، اليهودي والنصراني أفضل من الرافضي بخصلة، الروافض الشيعة -غلاة الشيعة والذين هم شيعة إيران- يستفتحون نهارهم بسب أبي بكر وعمر وابنتيهما، والخميني له دعاء في سب أبي بكر وعمر في الصلاة! فماذا يقول الذين باركوا ثورته، والذين نشروا فضائله ولا فضل له، وتجدهم يقولون: التقريب بين الشيعة والسنة؟! هؤلاء الروافض كما قال الشعبي عامر بن شراحيل رحمه الله: (اليهود والنصارى -وهذا كلام الشعبي - أفضل من الروافض بخصلة، قيل لليهود: من أفضل الناس؟ قالوا: أصحاب موسى. وقيل للنصارى: من أفضل الناس؟ قالوا: أصحاب عيسى. وقيل للروافض: من شر الناس؟ قالوا: أصحاب محمد)!. رجل في مدينة قم -الشخصية الثانية أو الثالثة في الثورة الإيرانية- كتب تعليقاً على كتاب ابن الجزري الذي هو بعنوان: أسمى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب، كتب في حواشي الكتاب أن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق ما عدا ستة، وأول المنافقين حسب زعمه - أبو بكر وعمر، ثم جاء بالحديث الذي في البخاري ومسلم حديث مقتل عمر، وأن الناس دخلوا عليه يهنئونه بالشهادة، ويبشرونه برضا النبي عليه الصلاة والسلام، ورضا أصحابه، وأدائه للأمانة، فقال عمر من جملة ما قال: ليتني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي، والله لو كان عندي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله يوم ألقاه. عمر يقول هذا الكلام مع عدله وقوته وحزمه في الدين، فهذا الكلام يجلله الورع، وإن المرء يستصغر نفسه حين يقرأه إذا علم سيرة عمر فيقوم هذا المخذول الخاسر الضال ويعلق على هذا الكلام ويقول: هذا كلام رجل يائس من النجاة، يعلم أنه من حطب النار! انظر إلى قول هذا الضال العاصي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم! إن الروافض شر من وطئ الحصا من كل طائفة ومن إنسان مدحوا النبي وخونوا أصحابه جدلان عند الله منتقضان (فمن أحبهم فبحبي أحبهم)، انشروا محاسن الصحابة في بيوتكم، وعلموا أولادكم أسماءهم، وتحدثوا عن بطولاتهم وتضحياتهم، ليس لكم مثلٌ إلا هؤلاء، وهم أحد ركائز الإيمان المنجي من الضلال، فالمنهج الحق في قوله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي). لذلك كانت ركائز منهج أهل السنة والجماعة: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وهذا القيد الأخير هو الذي يميز منهج أهل السنة عن كل المناهج المبتدعة، كلهم يقولون: الكتاب والسنة ويقفون، ولذلك ضلوا لما أخذوا الكتاب والسنة بأفهامهم، إنما هذا القيد الثالث هو الذي يميز منهج أهل السنة والجماعة عن مناهج المبتدعة، وهو الأخذ بفهم السلف الصالح.

خطر القدح في رموز الإسلام

خطر القدح في رموز الإسلام قد ذكرت في مرة سابقة أن هناك حرباً سافرة فاجرة تبغي تحطيم الرءوس والرموز والعناوين، وأقول: سافرة؛ لأنها ظهرت بلا حياء على صفحات الجرائد والمجلات، وتنال من أعز جيل شهدته الدنيا وهم الصحابة، إنهم لم يصلوا إلى الصحابة دفعة واحدة، إنما غمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا أن الجماهير غافلة ولم تتحرك، وغبية لم تفهم؛ تطاولوا على الصحابة. فهذا يكتب كما ذكرت قبل قليل تحت عنوان: (هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟!) لا زال هذا العنوان كلما تذكرته كأن أحداً يذبحني، مات بالزائدة الدودية؟! ينالون منه صلى الله عليه وسلم ويغمزونه. وفاجرة أخرى تنال منه صراحة، وتقول لمعشوقها: وأنا بين أحضانك كأنني زرت قبر النبي عليه الصلاة السلام! تقول هذا القول ولا تحاكم، ولا يحاكم أحد، ولا يُسأل أحد! لقد أصبح النيل من الصحابة مسألة هينة، ثم إن هؤلاء ينالون من العلماء، فهذا كتاب منشور اسمه (علماء الإسلام والجنس) هكذا! لا حرمة لأحد عندهم؛ فقد تجرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمن عداهم من باب أولى، ويأتي الساقط مؤلف الكتاب برواية مكذوبة وراويها فاجر كذاب هو أبو الفرج الأصفهاني في كتاب: الأغاني، هذا رجل فاجر كذاب شعوبي يكره العرب، والذي يكره العرب يكره الإسلام؛ لأنهم حملته؛ وهم الذين بلغوه إلى الدنيا، ولقد أجمع كل من ترجم له أنه كان قذراً في شكله لا يغتسل، وكان بذيء اللسان، هتك عرض المحصنات المؤمنات الغافلات في هذا الكتاب، وأجرى على ألسنتهن من الكفر والعهر ما تتنزه عنه أحط امرأة على وجه الأرض. وهاهو ينقل أن عائشة بنت طلحة بن عبيد الله - طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة- يجري على لسانها من الكلام الساقط البذيء ما لا تستطيع أي زوجة أن تقوله لزوجها في السر ما المقصود من هذا الكلام؟! ويذكر أبيات العشق الكاذبة على لسان سعيد بن المسيب، والشافعي، ومالك، وأن هؤلاء العلماء كانوا يتغزلون بالنساء! ويأتي هذا الكاتب بكل هذا الخبث ويجمعنه في كتاب بعنوان: (علماء الإسلام والجنس)!! يعني: أن هؤلاء لا حرمة لأحد عندهم، إذا جاز أن يتكلم عن العلماء بهذه الصورة فلا حرمة لأحد، أين علماؤنا يردون عنا هذا الخبث، ويرحمون الجماهير، ويبينون الكذب؟! إن جمعية الرفق بالحيوان لها كلمة، وتستطيع أن تمضي كلامها ورأيها، فأين هيئة كبار العلماء؟! صرنا كالأيتام على موائد اللئام، ونحن في وضعنا هذا حقيقون فعلاً بالأبيات التي قالها أحد شعراء بلعنبر، وافتتح بها أبو تمام ديوان: الحماسة، وهذا الشاعر كان له إبل فسُرقت وسطا عليها لص، فاستنهض قومه ليردوا عليه الإبل، لكن قومه ضعاف، فتوجع الرجل وقال: لو كنت من قبيلة مازن لردوا علي إبلي، وقال: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لانا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زرافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا ورع في غير محله، لو أنني كنت من هذه القبيلة القوية لانتقموا لي ولردوا علي إبلي! صرنا كالأيتام على موائد اللئام، وكل يوم نطالع هذا الطفح.

مكانة العلماء في الإسلام

مكانة العلماء في الإسلام إن العلماء هم خط الدفاع الأول عن هذه الأمة، لو أصيب هذا الجهاز المناعي للأمة المسلمة لفتك بها أقل مرض، إن مريض (الإيدز) لو أصيب (بالأنفلونزا) يموت بسبب ضعف أو موت الجهاز المناعي، فإذا نحن قبضنا أيدينا وسكتنا والسهام توجه إلى هذا الجهاز المناعي، ونقف موقف المتفرج؛ فإن هذه الأمة ستضيع. لكن المحنة مؤجلة عند الجماهير الغافلة، لا تحس بحجم المحنة إلا إذا فقدت العالم، إذا فقدته أحست بالمحنة، لكنهم لا يشعرون به وهو بينهم، ولا يدفعون عنه وهو سر حياتهم! فهذا ابن حزم أحد العلماء المشهورين، وكان من أذكياء العالم، واستطاع أن ينشر مذهبه وحده في الأندلس، وكان عامة أهل الأندلس مالكية، وابن حزم ظاهري المذهب، فاستطاع -وهو بمفرده- أن يجعل الأندلس ظاهرية، فقامت عليه الحرب، وشُرد وأحرقت كتبه، فكان له أبيات يتوجع فيها، أن الناس لا تقدره حق قدره، وأنه لو ترك الأندلس وخرج إلى المشرق، لتوجع الناس وأحسوا بفقده، فقال في أبيات طويلة: أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد على ما ضاع من ذكري النحب ولي نحو أكناف العراق صبابة ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم فحينئذ يبدو التأسف والكرب هنالك يدروا أن للبعد قصة وأن كساد العلم آفته القرب يقول: لو أنني تحولت إلى المشرق حينئذ لتأسفوا وأحسوا بفقدي، ويقول: وما فساد العلم وكساده وآفته إلا بسبب قربه منهم.

الرد على تكفير الخوارج للصحابة (مسألة التحكيم)

الرد على تكفير الخوارج للصحابة (مسألة التحكيم) إن أول من ابتدع حرب تحطيم الرموز في هذه الأمة هم الخوارج، فهم الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وقالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فقال علي بن أبي طالب: كلمة حق يراد بها باطل. إن أولى الناس بإقامة حكم الله عز وجل هم الذين شاهدوا نزول القرآن، وهم الذين قاتلوا على تنزيله وتأويله، وهم الذين فارقوا الأهل والأولاد والأموال في سبيله، هؤلاء هم أولى الناس بالحفاظ على القرآن وفهم القرآن، أما قولهم: إن الحكم إلا لله، فهذه دعوى كاذبة ظاهرها حق وباطنها الضلال المبين. لا حياة للناس بلا رأس، كالجسد لا يحيا بلا رأس، ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله! حيث قال: ستون سنة بإمام جائر أفضل من سنة بلا إمام، أي: لو أن إماماً ظالما جائراً فاجراً حكم الناس ستين سنة، كان أفضل من أن يظل الناس سنة واحدة بلا إمام؛ لأن هذا الرجل وإن كان فيه فساد، لكنه في النهاية رأس واحد، وسيمضي طغيانه وبغيه على الناس، وستستكين الجماهير الغفيرة له، ويخشون بأسه وسطوته وسلطانه، فلا يظلم بعضهم بعضاً لئلا يدخلوا تحت قانونه، إذا بقي الناس بلا رأس كل واحد رأساً. إلى هذا الحد يكون الرأس ضرورة، وإذا غاب هذا الرأس غاب الجسد، وكما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً -وفي الرواية الأخرى: حتى إذا لم يبقَ عالمٌ- اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا).

مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانة أصحابه

مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانة أصحابه رأس المسلمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان الاختلاف في عصره قليلاً جداً، وكان هذا الاختلاف ينتهي بمجرد العرض على النبي عليه الصلاة والسلام. لذلك قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه -كما رواه الإمام مسلم وأحمد في مسنده: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فقلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء! فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أجلسكم؟ قلنا: يا رسول الله! صلينا معك المغرب، فقلنا: لو صلينا معك العشاء! قال: أصبتم -أو قال: أحسنتم- ثم نظر إلى السماء -وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء- ثم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). هذه حقيقة الرءوس، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أمنة لأصحابي) فكل خلاف إليه يرد، والكل يسلِّم إذا جاء الخبر من النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يخالفونه في دقيق ولا جليل، وكانوا يخافون مخالفته في أدنى شيء، فهم معظمون لأمره، مجتنبون لنهيه؛ لأنه لا أعز منه عندهم، ونحن يجب علينا أن نوالي ونعادي على حبه واتباعه.

نماذج من تعظيم الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم

نماذج من تعظيم الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه بقريب له يخذف بالحصى، فنهاه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: (إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) حين ترمي حصاة أنت لا تكيد بها عدواً ولا تصيد صيداً، لكن إذا وقعت في عين رجل فقأتها، وإذا وقعت على سن رجل كسرتها، قال: فعاد فقال: (أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف لا أكملك أبداً). بيوتنا مليئة بالمخالفات، أركان الإسلام في بعض بيوتنا غير موجودة، الولد لا يصلي، ومع ذلك الوالد لا يمكن أن يأكل حتى ينادي الولد ليأكل معه، مع أنه لا يصلي، ولا يسأله: لمَ لم تصل؟ فتراه يؤاكله ويشاربه كأن لم يكن هناك شيء. الصحابة لا نظير لهم في الاتباع، كما قال الشاطبي رحمه الله: كانوا إذا تلقوا الأوامر سارعوا إلى تنفيذها، ولا يسأل أحدهم: أهذا واجب أم مستحب؟ إنما إذا سمع الأمر بادر إلى الامتثال؛ لأنهم فقهوا القرآن، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فنفى ربنا تبارك وتعالى الإيمان عن الذي يبلغه كلام النبي عليه الصلاة والسلام ولا يحكِّمه، فهذا ليس بمؤمن، نفى الله عنه الإيمان. ونزلت هذه الآية في واقعة حدثت بين اثنين من المحبين للنبي عليه الصلاة والسلام، بين الزبير بن العوام ورجل من الأنصار، وكان لهما أرض، وكانت أرض الزبير أعلى من أرض الأنصاري، فأراد الزبير أن يسقي أرضه، فقال له الأنصاري: لا، حتى أسقي أرضي. قال له: أرضك في الأسفل، وأرضي في الأعلى، وأنا أولى بأن أسقي قبلك. فأبى، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للزبير بن العوام: (اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك) هذا هو مقتضى العدل: أن يسقي الرجل التي أرضه في العالي؛ حتى يضمن وصول الماء إليها، (اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: أن كان ابن عمتك! -أنت حكمت له لأنه ابن عمتك- فتلون وجه النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء -لا ترسله إليه- قال الزبير: فأحسب أن هذه الآية نزلت فينا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]). فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا أمنة لأصحابي) فإنه في حال وجوده عليه الصلاة والسلام لم تظهر البدع ولم يظهر الكفر بعد الإسلام، فبمجرد أن مات أتى أصحابه ما يوعدون، وارتدت العرب، ودخل الصحابة بهذا الدين البكر في قتال عنيف، وقتل خلق من الصحابة في القتال مع مسيلمة الكذاب، ثم استتب الأمر، وما زال الصحابة يموتون والفتن تطل برأسها حتى قتل عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب الذي لم يغلق حتى قيام الساعة، وقتل عثمان، وقتل علي بن أبي طالب، ثلاثة من الراشدين يقتلون! وادلهمت الخطوب والفتن، وأطلت الفتن برءوسها، وظهرت بدعة القدر في آخر عهد الصحابة، وما زالت البدع تأتي كالسيل المنهمر، فأتى الأمة ما يوعدون، أتى الأمة ما يوعدون بموت الصحابة رضي الله عنهم، وكان البلاء -على الرغم من عظمه- خفيفاً، تعرفون لماذا؟ لكثرة العلماء الذين ردوا على هؤلاء المبتدعة، وكان لهم في نفوس العوام جلالة وكان لهم قدر، فإذا تكلم العالم الرباني استمعت له العوام، وأعطت قلبها له، لكن اشتدت علينا المحن حين جاءت جيوش المبتدعة ولم يكن عندنا فرسان يقاومون هؤلاء؛ فعظمت علينا المحنة من الجهتين: كثرة البدع، وقلة العلماء الرادين عليها. لذلك موت العالم ثلمة في جدار الإسلام، ووجود العالم ضرورة، لو أن طاعوناً فشا في بلد لا يوجد فيه طبيب لأحس الناس بفقد الطبيب، فنحن نهيب بالجماهير أن تجعل الإسلام قضية، ألا يجعلوا الإسلام وظيفة، شيء ورثوه عن آبائهم، ينبغي أن يكون الإسلام قضية يطرح في البيوت، وأن يناقش بين الرجل وامرأته وأولاده مثلما يناقش رغيف الخبز، فإن دين الله أعز. الحرب على الإسلام ورموزه في الجرائد على أشدها، وقلت لكم: إنهم طعنوا على الله عز وجل في الشهر الماضي لما قالوا: إن آلة الاستنساخ أعظم من ميلاد المسيح، أي أن ما فعله البشر أعظم مما فعله الله عز وجل! وصار خلق الله عند هؤلاء الزنادقة المارقة أمراً عادياً جداً. فنقول لهم: قد أخذتم خلية صنعها الله عز وجل، فهل تقدرون على خلق الخلية؟! سلمنا أنكم فعلتم ذلك فمن أين أخذتم الخلية الحية؟! ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو نعمة باهرة وقدرة مقتدرة أيها الإخوة الكرام: معرفة حياة الصحابة صارت ضرورة، ومن نعمة الله تبارك وتعالى أن جاء بجهاد الدفع، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه. قيل لـ عائشة رضي الله عنها: ألا تنظرين إلى الذين يسبون أبا بكر وعمر؟ قالت: وما يعجبكم من ذلك؟! قطع الله عنهم العمل فأحب أن لا يقطع عنهم الأجر، وما يعجبكم من ذلك؟! المواقف الجسام التي مرت على هؤلاء الصحابة تدلك على مدى عقلهم وحلمهم وعلمهم بالله تبارك وتعالى، هل في هذه الأمة رجل يزن سعد بن معاذ؟! وسعد ليس بأفضل الصحابة، إنما هو من أفضلهم، رجل يوم مات اهتز له عرش الرحمن، فما قدر هذا الرجل؟! عبد لله عز وجل يهتز العرش له يوم يموت!! السماوات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يهتز هذا العرش لموت عبد! سبحان من لا يعلم مقدار خلقه إلا هو! إن هذه الأمة مليئة بالعظماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) المسلمون نجوا من هذا المقت، أما الصحابة فتفردوا بالرضوان، وكان لهم من المناقب ما لم يكن لصحابة نبي أبداً، فيأتي هؤلاء الأنذال ويتكلمون عليهم ويلمزونهم.

مكانة الأمة أيام الصحابة ومكانتها الآن

مكانة الأمة أيام الصحابة ومكانتها الآن الصحابة فتحوا الدنيا وصارت لهم دولة في عشر سنوات، وأنتم قد صار لكم قرن من الزمان لم تستطيعوا إرجاع قلامة ظفر من الخلافة الضائعة، المسلمون الآن مستضعفون، ولا قيمة لهم في ميزان الدنيا، بينما الرجل الأمريكي إذا جرح سهواً في أي زاوية في العالم تهتز له الدنيا. في بعض البلاد العربية حدثت واقعة وأنا هناك: رجل يمني معه جنسية أمريكية، وهذا الرجل اليمني خالف إشارة المرور، وكان هناك دورية شرطة فتتبعوه وقبضوا عليه، فقالوا له: من أين أنت؟ فكلمهم بالعربي: أنا من اليمن من حضرموت. فقالوا: هات الرخصة، وبدءوا يعاملونه بوقاحة وشدة، عندما عاملوه بوقاحة قام وتكلم معهم بالإنجليزية مباشرةً، وأخذ منهم الجواز الأول، وأعطاهم الجواز الأمريكي، واستمر يخاطبهم بالإنجليزية، وطلبوا منه أن يتكلم بالعربية كما كان، لكنه رفض. قام استدعى السفير الأمريكي بتلفونه السيار، وجاء السفير، واعتذر ضابط الدورية، مع أن هذا الرجل اليمني ينبغي أن يعاقب، وهم يعرفون أنه عربي يمني، لكن عندما أخرج الجنسية الأمريكية صار صاحب منعة وقوة. والمسلمون بالمئات يموتون في كل بلاد العالم، حتى إن أحط فرقة وهم عبدة البقر، قاموا وانتزعوا من المسلمين في الهند المسجد وحولوه إلى معبد، ولا صريخ ولا مغيث؛ لأنهم لا يزنون شيئاً على وجه الأرض في ميزان الدنيا، لذلك الرجل المسلم صاحب المهارات والقدرات العالية تراه يذهب إلى بلادهم، ويتمنى أن يصادقه أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي أو ياباني، ويفتخر ويقول: أنا صديقي فلان، برغم أنه قد يكون أعلم من هؤلاء، لكنه رأى أنه ينتمي إلى أمة ضعيفة مما جعله لا يفتخر بها، والسبب الرئيس الدافع له على ذلك هو ضعف الإيمان بالله عز وجل. لكن انظر إلى التاريخ البعيد إلى أيام المعتصم تلك الواقعة المشهورة وهي: أن رجلاً نصرانياً لطم امرأة مسلمة فقالت: وامعتصماه!! ورجل لا يربطه بالمرأة نسب، وإنما الرابط بينهما الدين، تأخذه النخوة التي استمدها من دينه ومن العز الذي كان المسلمون يعيشون فيه، فيقول: لأبلغن المعتصم، ويرحل إليه ليل نهار، حتى دخل على المعتصم وكوب الماء في يد المعتصم فقال: ما حاجتك؟ فحكى له ما حدث لتلك المرأة المسلمة من ذلك العلج النصراني، فوضع المعتصم كوب الماء على المنضدة ولم يشربه، وقال للساعي: احتفظ بهذا الماء حتى آتيك، كأنه ذاهب إلى مكان قريب. وجرد الجيش العرمرم، وغزا تلك البلدة وفتحها، وأوسعهم قتلاً وتشريداً من أجل امرأة مسلمة لطمها علج نصراني، والرجل الذي ذهب إلى المعتصم، رجل مجهول لا نعرف اسمه ولا نسبه، وكذلك لا نعرف المرأة التي قالت: وامعتصماه! لكنهما كانا ينتسبان إلى أمة قوية، إلى أمة عزيزة؛ لذلك عز جانبها؛ فعز أفرادها. إذاً ما هذا العقوق لجيل الصحابة؟! وكيف لا يكون للجماهير ردة فعل بأن تشجب وتستنكر تلك المطاعن؟! ففي سنة (1977م) عندما ارتفع سعر الخبز من نصف قرش إلى قرش، والكيلو السكر من ستة عشر قرشاً إلى أربعين قرشاً اشتعلت القاهرة، وقاموا بتحريق المرافق العامة التي ينتفعون بها، حرقوها وفعلوا كل شيء من أجل رغيف خبز، بينما يطعن في صحابة رسول الله ولا نحرك ساكناً!! نحن نقول لكم: ينبغي أن يكون هناك ردة فعل عاجلة، اكتبوا واستنكروا هذا أقل ما للصحابة في أعناقنا، فهذا الدين لم يصل إلينا إلا على دمائهم وأشلائهم، فقد ضحوا بكل غال ونفيس حتى وصل إلينا هذا الدين.

دفع الأبناء لتعلم العلم الشرعي

دفع الأبناء لتعلم العلم الشرعي ينبغي أن يكون في كل بيت ولد ينذره أبوه لتعلم العلم الشرعي؛ فلو أن كل بيت أخرج لنا رجلاً واحداً لتغير حالنا إلى الأفضل، ولصارت لنا مكانة وهيبة. ربوا أولادكم لدحر أهل الباطل كما ربى الله تبارك وتعالى موسى لفرعون، وكان الله عز وجل قادراً على أن يأخذ فرعون، لكن ليعلمنا الصبر، وهذه سنة الدفع، فقد صبر بنو إسرائيل على العذاب الأليم من فرعون حتى كبر موسى عليه السلام، ثم أغرق الله عز وجل فرعون.

ذكرى للمؤمنين

ذكرى للمؤمنين أيها الإخوة الكرام: جلس عون بن عبد الله بن عتبة مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقص عليه حكاية، قال فيها: بنى ملك مدينة، وصنع طعاماً ودعا الناس إليه، ثم بث في الناس عيونه وأوقفهم على الأبواب، فكلما دخل رجل ونظر إلى المدينة سألوه وهو خارج: هل رأيت عيباً؟ فيقول: لا، حتى جاء في أخريات الناس قوم أصحاب أكسية -أي: قوم من الزهاد، ومعنى أكسية: ملابس مرقعة- فطعموا، فلما خرجوا سألوهم: هل وجدتم عيباً؟ قالوا: وجدنا عيبين، فأخذوهم إلى الملك، فقال لهم الملك: هل وجدتم في مدينتي عيباً؟ قالوا: وجدنا عيبين: أما العيب الأول: فإنها تخرب، والعيب الثاني: أن بانيها يموت. فقال لهم الملك: وهل هناك دار لا تخرب ولا يموت بانيها؟ قالوا: نعم، الجنة، فقال: خذوني معكم، وانخلع من ملكه وسار معهم. فلما سمع عمر بن عبد العزيز ذلك، ارتعدت أركانه، ووقع الكلام منه موقعاً عظيماً، وهم أن يخلع نفسه من الخلافة، فعلم ابن عمه مسلمة أنه يريد أن يترك الخلافة، فجاء فناشده الله، قال: لو تركت الخلافة لاقتتلوا عليها ولوقع شر في الأمة. قال: ماذا أفعل حمِّلت ما لا أطيق؟ فجعل مسلمة يراجعه حتى سكن. إنها الجنة التي ينبغي أن يعمل لها العاملون، ينبغي أن نضحي في سبيل الله، حتى تكون من أهلها، إنها أنفاس معدودة، إنك يا عبد الله لا تدري أين ستكون غداً؛ ستكون غداً في عداد الموتى، ويجري على لسان الناس: فلان رحمه الله. هذه الجنة -أيها الكرام- ينبغي أن نعمل لها، فإن العبد لا يتحمل لفحة من عذاب الله، ماذا تقولون لربكم إن قال لكم: استأمنتكم على ديني، فماذا فعلتم؟ شيدتم مجدكم، وبنيتم لأنفسكم، وأسكنتم أحفادكم؟ فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، وأقرب مني عبادي. الجنة لا عدل لها، فلأي شيء تعمل أيها الأخ الكريم؟ إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد أعطاك المصباح، كن وفياً مع الصحابة، فالوفاء للصحابة ضرورة، وحبهم فريضة، إنه فرض عين على المسلم أن يحب هؤلاء الصحابة، وأن ينقل هذا الحب إلى أبنائه، هذا واجبنا.

فضح الله عز وجل للمنافقين ولليهود

فضح الله عز وجل للمنافقين ولليهود إن الله تبارك وتعالى افتتح سورة البقرة بذكر أصناف الناس، فأطنب في ذكر المنافقين، وفضحهم في غير ما سورة من القرآن، فضحهم في سورة النساء، وسورة التوبة، وفضحهم في سورة محمد، وأنزل سورة باسمهم. فالمنافق خلقه وطبعه إثارة الشبهات، وقد أخذوا هذا من أعداء الإسلام كاليهود وغيرهم، ففي القديم جاء المشركون فنشروا الشبه وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] وبعض المسلمين اليوم يقول هذه المقالة!! يقول: رجل معه مائة (جنيه) فاقترضها رجل بمائة وعشرة، فتقولون: هذا ربا ولو أن رجلاً اشترى بالمائة (جنيه) (فداناً) مثلاً، وباع (الفدان) بمائة وعشرة، ما الفرق؟! حصل على العشرة في كلا الحالين، عن طريق البيع والربا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] فهذه شبهتهم. حرم الله عز وجل الموقوذة والمتردية والنطيحة، الموقوذة: المضروبة على رأسها حتى ماتت، النطيحة: المنطوحة من غيرها حتى ماتت، المتردية: هي التي تردت من على قمة جبل فماتت، أما إذا ذبح المسلمون بهيمة فهي حلال. فجاء هؤلاء الملبسون فقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! هذا الذي ذبحتموه حلال، وهذا الذي قتله الله حرام؟! ثم قالوا: فما قتل الله أولى أن يؤكل، فقال الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. في غزوة بني النضير عندما حاصر الرسول عليه الصلاة والسلام اليهود، وأبوا أن يستسلموا، أمر بإحراق النخل، وأنت تعلم قدر النخل عند العرب، وأن النخلة لا تثمر إلا بعد سنين عدداً، ففقد نخلة يعتبر كفقد إنسان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرق النخل المثمر، فجاء اليهود بشبهة، وقالوا: أولم تقولوا: إنكم تصلحون في الأرض؟! ألم يندد الله عز وجل بالفساد وقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وهل حرق النخل المثمر من الصلاح أم من الفساد؟! فكان لهذه الشبهة في نفوس المسلمين وقع، فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] إن قامت فبإذن الله، وإن حرقناها فبإذن الله أيضاً، ما خرجنا عن إذنه ولا خالفنا أمره في الفعل والترك، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} فرد الشبهة عليهم. لكن من الذي يقوم بذلك؟ من الذي يبدد ظلمة الشبهات والريبة؟ إنهم العلماء، فعندما يعتدى على أعراض العلماء ويقال: (علماء الإسلام والجنس) بهذا العنوان القذر، والجماهير لا تتكلم، بل وتشتري الكتاب، وتنفد الطبعة الأولى، ويعدون أنفسهم لنشر طبعة ثانية، فستظهر بعد ذلك مصائب أكثر من ذلك، ويتسع الخرق على الراقع!

سكوتنا عن سب الصحابة غير جائز

سكوتنا عن سب الصحابة غير جائز إن سكوتنا عن الباطل غير جائز، فهذا إنذار! هذا إنذار! نحن نعلم يقيناً أن النصر لنا، لا نمتري في ذلك طرفة عين ولا نستريب، لكن هذا جرس إنذار! قال تعالى حاكياً عن الساكتين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164]، ينبغي أن نكون أوفياء لديننا، محبين لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولصحابته الكرام رضوان الله عليهم. فهذا الحسن البصري رحمه الله لما روى الحديث الذي فيه: (أن الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام)، قال: يا معشر المسلمين! خشبة تحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فأنتم أولى بالحنين إليه من الخشبة؛ لأنه أرسله الله إليكم واحتفى بكم، وأنزل إليكم كتاباً فيه ذكركم، وفضلكم على العالمين، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنكم إن توليتم استبدل الله عز وجل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم في الجحود والنكران وترك الأمانة.

حقيقة الاتباع لا تتم إلا بموالاة الصحابة ومحبة العلماء

حقيقة الاتباع لا تتم إلا بموالاة الصحابة ومحبة العلماء مذهب أهل السنة ومنهجهم في الإيمان بالله ورسوله هو اتباع السلف الصالح، والسلف الصالح هم الصحابة وتابعوهم بإحسان، هذا القيد ذكره الله تبارك وتعالى للاتِّباع، بدونه لا يكون المرء متبعاً، فلذلك أفتى الإمام مالك بأن من سب الصحابة ليس له في الفيء شيء، وقد أخذ هذه الفتوى من هذا القيد: (بإحسان) والذي يسبهم لم يتبعهم بإحسان، فالاتباع يشترط أن يكون بالإحسان، وإلا فليس هو من أتباعهم. روى ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بلغه أن رجلاً سب عثمان رضي الله عنه، فقرأ عليهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر:8]، قال له: أنت منهم؟ قال له: لا، فقرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، قال له: أنت منهم؟ قال له: لا، فقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، قال: أنت منهم؟ قال: أرجو! قال: هيهات! أترجو أن تكون منهم وأنت تقول: اللهم العنهم، اللهم أدخلهم النار، اللهم اخذلهم؟! لن تكون منهم حتى تقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فالذي لا يتبعهم بإحسان لا يترضى عنهم ولا يستغفر لهم؛ فليس من أتباعهم، الذين يطعنون في الصحابة لا تشملهم هذه الآيات حتى يحققوا هذا القيد، فإذا حققوا هذا القيد، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، ودخلوا في جملة المرضي عنهم. إن أول بدعة في الإسلام هي تحطيم الرءوس، ولا يزال هذا المعول يفعل فعله حتى بين شباب الصحوة، إن جريمة تحطيم الرأس من أعظم الجرائم! فإنك إذا تكلمت عن الأئمة المشهود لهم بالعدالة والصدق والعلم؛ كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ التويجري، وهؤلاء العلماء -ومن جرى مجراهم من أهل العلم- إذا جاز للواحد أن يطعن على واحد من هؤلاء، فليت شعري من يبقى لنا؟! سنصبح أمة بلا رءوس! نحن نعاني من قلة الرءوس الصالحة المحسنة، فهي أندر من الكبريت الأحمر، والله لو يُشترى العلم والفضل بالمال لبعنا كل غال ونفيس لشراء هذه الرءوس التي تحمل العلم والفضل؛ لأنه شرف لنا، يزيننا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

والله غالب على أمره

والله غالب على أمره أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم أنه غالب على أمره، وهذا شامل لكل قضية، فأمر الله سبحانه يغلب كل أمر؛ فيغلب دين الله عز وجل على سائر الأديان، وينتصر عباد الله المتقون على من خالف أمر الله وعصاه، فبيده سبحانه مقاليد الأمور، وله عز وجل جنود السماوات والأرض.

غلبة أمر الله في قضية يوسف

غلبة أمر الله في قضية يوسف إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] الله غالبٌ على أمره، يعني: إرادته تغلب إرادة غيره، ومشيئته تغلب مشيئة غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكل صفة في العبيد حاشا الأنبياء فهي صفة نقص، فإذا كان هناك رجلٌ ذكي ففي الكون من هو أذكى منه، وهو ناقص بالنسبة لغيره، فإرادته تناسب نقص صفته، وإرادة الله عز وجل تناسب كمال صفته، فالله غالب على أمره، وهذا الذي حدث في حياة يوسف، كيف غلب أمره في قصة يوسف كلها؟ قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] رؤياه وقد منعه أبوه، لكن غلب أمر الله فقص على إخوته فكادوا له، فرموه في الجب بقصد إقصائه عن وجه والده، وأرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، فما تم لهم ما أرادوا؟ غلب أمر الله عز وجل وضاق عليهم قلب أبيهم، ونحن نعلم أن حسن المعاملة، هذا معتمد على عمل القلب، فإذا دخل البغض على قلب رجل، لا يستطيع أن يتبسم في وجه من يبغضه، فكل الجوارح تخضع لعمل القلب، ثم دخل قصر العزيز وراودته المرأة، فلما رأت العزيز بادرت بالهجوم والاتهام، وأرادت أن تبرئ نفسها: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] بقصد أن تبرأ من هذا الذنب، فغلب أمر الله عز وجل وشهد شاهد من أهلها فاتهمت، ثم دخل السجن، وذَكَّر الساقي، فقال له: اذكرني عند ربك، فغلب أمر الله عز وجل ونسي الساقي هذا ولم يذكر إلا بعد أمة من الزمان، ثم بعد مرة من الزمان تذكر يعقوب عليه السلام يوسف، لما أبى أن يعطيهم المتاع إلا أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم، فلما ذكروا أخا يوسف هاجت الذكرى عند يعقوب عليه السلام، وقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84]، وهذا بعد مدة من الزمان، وأصروا على الذنب، لكن كان مبدؤهم أن يفعلوا الفعلة ثم يتوبوا، لكنهم فعلوا الفعل ولم يتوبوا، بل أصروا على الذنب، ونفوا عن أنفسهم الجناية، لكنهم عادوا فاعترفوا لما غلب أمر الله، {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] فهذا اعتراف بالذنب بعد الإصرار على عدم الاعتراف.

غلبة أمر الله في شأن الحياة والموت

غلبة أمر الله في شأن الحياة والموت قد يتمنى أحياناً ما فيه تلفه وهو لا يدري، ويغلب أمر الله عز وجل على تدبير المدبرين، وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جعل الله منية عبد بأرض جعل له إليها حاجة) أي: جعل له حاجة في هذه الأرض. وإذا علم العبد أنه يموت هناك ما ذهب، لكن الله غالب على أمره، كما روى أبو الشيخ في كتاب العظمة أن داود عليه السلام قرَّب رجلاً من أهل مملكته، فلما مات داود عليه السلام اصطفاه وسليمان وقربه إليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الأنبياء عياناً، ودخل ذات مرة على سليمان عليه السلام فنظر إلى الرجل ولحظه بطرف عينه، وانتبه الرجل لنظره إليه، وذهب ملك الموت، فسأل الرجل جليس سليمان عليه السلام من هذا، فقال: ملك الموت، فقال: لا أجلس في أرض فيها ملك الموت، فقال: وماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتذهب بي إلى أرض الهند، وكانت الريح مسخرة له كما قال الله عز وجل: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] رخاء يعني: لا شديدة ولا رخوة، وبعد قليل جاء ملك الموت إلى سليمان عليه السلام فقال له: لم لحظت الرجل، ولم نظرت إليه؟ قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما ذهبت إلى هناك وجدته هناك يرتعد في مكانه فاستلبت روحه. لو علم الرجل أنه يقبض هناك ما طلب هذا الطلب، لكن الله غالب على أمره، وتدبيره محكم وسابق على تدبير عباده، وإذا قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل) تبين لك هذا المعنى أيضاً، فالقاتل يقتل أخاه أو أباه أو عمه من أجل أن يرث، فلو علم أنه سيحرم الميراث ما قتل، فالله غالب على أمره، إشارة إلى القدر الأعلى المهيمن المسيطر على مصائر العباد.

غلبة أمر الله في قصة أصحاب الأخدود

غلبة أمر الله في قصة أصحاب الأخدود وهذا المعنى أيضاً يظهر بجلاء في قصة أصحاب الأخدود، وهي قصة رائعة، وفيها معان دفاقة كثيرة، إن الرجل لا يسود إلا إذا احترم رعيته، ومن عوامل الخذلان لأي حاكم في الدنيا أنه يحاصر الرعية، ولا يقيم لهم وزناً، ويجعلهم من الهمل، هذه من علامات الخذلان، لكن إذا عظمهم عظم في قلوبهم، وصاروا يحترمونه ولا يقدمون أحداً عليه، وانظر إلى عمر، ملك الدنيا، وما امتعض صحابي قط من تصرفاته، فتجده يضرب أبا هريرة ولا يغضب، ويضرب سعداً ولا يغضب، ويضرب أبا ذر ولا يغضب؛ لأنه كان يفعل ذلك لله ليس لحظ النفس، حتى لما عزل سعد بن أبي وقاص لم يغضب سعد؛ لأنه كان يعلم مقصد عمر. فبقدر ما يكون في قلبك من الإخلاص بقدر ما يميزك الله عز وجل بين الناس. وقصة أصحاب الأخدود هي كما في صحيح مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلام نجيب أعلمه السحر، فإني أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلمه، فجيء له بغلام نجيب). قارن هذه القصة واربطها بقوله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] لتعلم ونحن في مرحلة الاستضعاف أن النصر قريب لكن بشرط، (فكان هذا الغلام يخرج من بيته إلى بيت الساحر، وكان إذا مر مر بصومعة راهب، فعرج الغلام يوماً على صومعة الراهب فدخل، وسمع كلامه فأعجبه)، فعندما يسمع كلام الساحر، ثم يسمع كلام الله لا بد أن يجد فرقاً، (فصار يتأخر عند الراهب، فيتأخر في الرجوع إلى بيته إذا كان راجعاً، أو يتأخر في الذهاب إلى الساحر إذا كان ذاهباً، فكان هؤلاء يضربونه على التأخير، وهذا يضربه أيضاً على التأخير، فشكى ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر، ومضى زمن، حتى جاء يوم واعترض طريق الناس دابة، فقال الغلام: اليوم أعلم أأمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر، فأمسك حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل هذه الدابة، ثم رماها بالحجر فقتلها. تحدث الناس عن الغلام وذاع صيته، فدخل على الراهب، فقال: أي بني إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ) هذا ما أراده الراهب، ولكن حدث ما أراده الله، (وكان الغلام يشفي من سائر الأمراض، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكان يجالس الملك رجل، كان قد عمي، فلما سمع بمهارة الغلام، جمع له هدايا عظيمة، وذهب وقال له: ما هناك لك أجمع -أي: كل هذه الهدايا لك- إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته وشفاك، فآمن به جليس الملك فرد الله عليه بصره، فدخل الجليس على الملك بلا عكاز وبلا مرشد، فقال الملك: بلغ من سحر الغلام أنه شفاك؟ قال: إنما شفاني الله تعالى، فقال له الملك: أولك رب غيري؟ فقال له الجليس: الله ربي وربك ورب العالمين، فما زال يعذبه حتى دل على الغلام. وجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني بلغ من سحرك ما أرى؟ تبرئ الأكمه والأبرص وتداوي الناس من سائر الأدواء، فقال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فلا زال يعذبه حتى دل على الراهب) مع أن الراهب أوصى الغلام: إن ابتليت فلا تدل عليَّ، لكن غلب أمر الله عز وجل، ودل الغلام على الراهب (فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، قال: لا. فشقه بالمنشار نصفين، قال صلى الله عليه وسلم: حتى سقط شقاه وهو صابر، وجيء بالجليس وقيل له: ارجع عن دينك، فقال: لا. فقتله).

غلبة أمر الله على أمريكا في قضية الرهائن

غلبة أمر الله على أمريكا في قضية الرهائن كانت أمريكا تعلم كل ثقب إبرة في إيران، واحتجزت إيران الرهائن، ووضعت كرامة أمريكا في الأرض من مجموعة من الشباب، فماذا فعلت أمريكا في صحراء من الصحاري البعيدة؟ بَنت فيلاً مثل السفارة بكامل مواصفاتها، ووضعت أناساً في داخل هذا المبنى، ودربوا (الكوماندوز) على أن يدخلوا من النوافذ فيخطفوا الرهائن، مرة واثنين وثلاثة وأربعة وعشرة وعشرين، إلى أن أتقنوا هذه اللعبة تماماً، وتبجحت أمريكا بقولها، وأنها لا تغلب، وتستطيع أنها تخرج الكحل من العين لو أرادت، ودخلت الطائرات صحراء إيران على ارتفاع منخفض لئلا تكشفها (الرادارات) في إيران وهم يعرفون كيف تعمل وكيف يكتشفون الطائرات، فدخلت الطائرات، والإيرانيون كلهم غافلون، ودخلت طائرات أمريكا وربضت في صحراء إيران في غفلة عنهم، وجاءت ساعة الصفر لتطير الطائرات وينفذوا العملية ويأخذوا الرهائن، وتعود سمعة أمريكا الفتية العتية في العالم، وإذا بالطائرات وهي تطير يصطدم بعضها ببعض ويحصل انفجار عنيف، وعلى ضوء هذا الانفجار علم المسؤولون في إيران أن هناك طائرات أمريكية في الصحراء، وكان هذا أيضاً المسمار الذي دق في نعش الرئيس جيمي كارتر فشل في الانتخابات بسبب هذه العملية. أرادوا شيئاً لكن الله غالب على أمره. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الغدر من صفات الملوك

الغدر من صفات الملوك وهكذا ليس لهؤلاء وفاء. إن الملوك بلاء حيثما حلوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فإن نصحتهم خالوك تخدعهم وإن استصغروك كما يستصغر القل استغن بالله عن أبوابهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذل إذا غضب ثار عليك، لا يرقب فيك إلا ولا ذمة، وإذا أعطاك مَنَّ، وكلمات الوفاء والإخلاص لا توجد في قواميس هؤلاء أبداً، بل إن الملك يفرق بين الولد ووالده، كما حدث في قطر، كان الملك سيعود إلى الولد، لكنه أخذه من أبيه بالقوة. كان هناك رجل يعمل مع المشير عبد الحكيم عامر، وكان هذا رجلاً منحرفاً، وكان رجل نساء، فكان إذا أراد أن يقضي ليلاً أو شهراً مع امرأة يذهب إلى باريس، وكان صلاح نصر رئيس المخابرات صديقاً حميماً للمشير، وكان يصوره وهو في هذه الأوضاع المشينة ويحتفظ بالصور حتى يستخدمها وقت الحاجة، وفي يوم من الأيام فقد صورة من الصور فخاف أن تصل إلى المشير فيكون فيها هلاكه، فبدأ يعمل تمشيطاً لكل الرجال الذين يعملون مع المشير، يقول الرجل: فدخلت في بيته يوماً من الأيام فأخذوه، وقالوا له: أين الصور؟ قال: والله ما أعرف شيئاً، فقالوا: أنت كذاب، وعلقوه وساموه سوء العذاب. وبعدما جلس في السجن أياماً طويلة إذا بالصور موجودة عند صلاح نصر، فأخرجوه وعفوا عنه ولم يعتذروا له، وهناك بعض العصاة لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، قال صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) وهذا كالأسرى الذين إذا غلب المسلمون على ديار الكفر استرقوهم وأتوا بهم إلى ديار المسلمين فيرون الإسلام فيسلمون، فهؤلاء لم يسلموا إلا بسبب الحرب، فيدخلون الجنة بالسلاسل.

قصة سنمار وغدر الملك به

قصة سنمار وغدر الملك به وللعرب مثل كبير يقول: (نال جزاء سنمار) ويضربون به المثل في الرجل الذي يفعل الإحسان ثم يلقى الإساءة، وقصة سنمار أن مهندساً كان اسمه سنمار، بنى قصراً مشيداً رائعاً لملك في ذاك الزمن، وبينما سنمار جالس في ليلة مقمرة مع الملك قال للملك مفتخراً بصنعته وبنائه: إن في قصرك لبنة لو جذبها رجل انهدم القصر كله، قال -أي: الملك- يعلم هذا أحد غيرك؟ قال له: لا. فقتله؛ ليموت السر الذي يحمله، وهو من صمم له القصر الذي يجلس فيه. فجليس الملك وصفي الملك وخليل الملك لم يتورع الملك عن قتله يوم خالفه، وكذلك الراهب، لكنه لم يقل للغلام: ارجع عن دينك حتى إذا قال: لا، قتله؛ لأنه بإمكانه أن يضع يده في يد عدوه لتحقيق مصلحته، فهؤلاء لا مبدأ عندهم إلا هواهم، فالغلام أثبت جدارة ومهارة، وهو صغير السن وأمامه المستقبل، والملك محتاج إلى مثله، (فأتى به وقال له: ارجع عن دينك، فقال له: لا، فدعا جنوده وقال: خذوه على قمة الجبل الفلاني فإن رجع وإلا فألقوه) ولم يقل: خذوه على قمة الجبل واقتلوه، لا، ولكن هناك مراجعات؛ لأنه يحتاج إليه، (فأخذوه على قمة الجبل وقالوا: ترجع؟ قال: رب اكفنيهم بما شئت، فارتجف بهم الجبل فسقطوا، ورجع هو إلى الملك) فغلب أمر الله، (فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء، فأمر جنوده، قال: خذوه في قرقور -وهو القارب- وامضوا به في البحر، فإن رجع وإلا لججوا به -أي: اقذفوه في لجة البحر في وسط الماء- فلما كانوا في البحر قالوا له: ترجع؟! فقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو. فلما رآه الملك قال: ويحك أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء)، هذه الآيات البينات كان من شأنها أن تجعل ذاك الجبار العنيد يتوب ويرعوي، ولكن (على قلوب أقفالها)، كلما ظهرت آية أخذته العزة بالإثم، وقبل أن يحاول قتله مرة ثالثة: (قال له الغلام: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به، تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي -وهي جراب السهام- وتضع السهم في كبد القوس، وتقول: بسم الله رب الغلام بأعلى صوتك، فإنك إذا فعلت ذلك وقع السهم هاهنا -وأشار إلى صدغه- فقتلتني)، فظن الملك أن المشكلة انتهت إلى هذا الحد، ولكن كان هذا هو المسمار الأول الذي دق في نعشه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. (فجمع الناس في صعيد واحد -في ميدان عام- وصلب الغلام، وأخذ سهماً من بين السهام وصوبه إلى صدغ الغلام وقال: بسم الله رب الغلام، ورمى بالسهم إلى حيث أشار، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)، فقتل الراهب وقتل الجليس وقتل الغلام، لئلا يفشو الإيمان في المملكة ففشى، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت أو كل الناس بعض الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت، إن الناس يموجون بين الهدى والضلال، لكن يجبنون ويعرفون الدعي الذي يكذب ويعد الوعود الكاذبة، ويعرفون الكاذب، ولكن لا يستطيعون الكلام، فإذا جاءت الفرصة تكلموا وفعلوا، وهذا ما فعله الرعية، وهذا فعل العامة في كل زمان. لماذا آمنوا بالله رب الغلام؟ لأن رب الغلام هو الذي غلب، حاول الملك أن يقتل الغلام مرة من على الجبل، ومرة في البحر ولم يستطع، فلما قال: بسم الله رب الغلام؛ قتل الغلام، إذاً رب الغلام هو الأكبر وليس الملك، فاحتار الرجل، واستشار الذين حوله من بطانة السوء ماذا يفعل وقد آمن الناس جميعاً، فقالوا: والله وقع الذي كنت تحذر، فقال: وما العمل؟ قالوا: احفر الأخاديد على السكك، ثم ملأوا هذه الأخاديد بالنحاس المغلي، وعرض الناس على الكفر عرض الحصير عوداً عوداً، فيقال للرجل: تؤمن بالله رب الغلام، أو تؤمن بالملك؟ فإن قال: أؤمن بالله رب الغلام؛ قذفوه في الأخدود، وإن قال: آمنت بالملك؛ نجى، فذلك قوله تبارك وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] وفي بعض القراءات (ذات الوِقُود) أي: الاشتعال لشدة الحرارة. حتى جاء الدور على أم تحمل ولدها، فالأم خافت، وكأنها تراجعت، فسمعت ولدها يقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق!! فتبين هذه القصة، كيف أن الله غلب على أمره، أراد الملوك أمراً وأراد الله أمراً، فكان ما أراد الله، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، فكل مما يفعلونه من الإجراءات الاستثنائية، والأحكام العشوائية، واتهام الأبرياء بما ليس فيهم، وتنزيل أقصى العقوبات غير اللائقة لا قانوناً ولا وضعاً ولا عرفاً، كل هذا لا ينفع، فإن الله غالب على أمره، وخذ ما حدث في صحراء إيران أيام قضية احتجاز الرهائن، خذ منها عبرة في التاريخ الحديث.

البلاء في الله وغلبة أمر الله فيه

البلاء في الله وغلبة أمر الله فيه الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. هذه الآية تشير إلى القدر، القدر الأعلى الذي لا يخرج من قبضته أحد، فإذا قدر عليك البلاء فاعلم أن الله غالب على أمره، وإذا استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل، وذلك بأن تتبع الشرع، ولا تخالف.

ترك الجهاد تهلكة

ترك الجهاد تهلكة قال الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، هذه الآية يفهمها كثير من الناس على خلاف ما نزلت له، فيفعل الشيء الذي لا يجوز له فعله بدعوى التخلف من الضرر، مع أن هذه الآية نزلت كما قال أبو أيوب الأنصاري: (قلنا: نجلس في أموالنا نصلحها وندع الجهاد في سبيل الله)، فالتهلكة هي ترك الجهاد، مع أن الجهاد مظنة الموت، لكن ترك الجهاد هو التهلكة، ومن استقرأ ما نحن فيه الآن علم ذلك، فلا يجوز لعبد أن يقول: أنا قد وضعت سيفي وهذه آخر المعارك، وله عدو في الأرض! هذا جنون وخبل، أن تضع سيفك وعدوك شاهر سيفه، وتقول: هذه آخر الحروب، وتقول: أنا لا أريد الدماء أن تسيل على الأرض، سبحان الله، فإذا فرضنا ذلك وأنك سئمت القتال فدخل عليك عدوك، وهجم عليك بغير اختيار منك، ماذا تفعل؟ أليست دماء أولادك ستراق في الدفاع، فطالما لك عدو لا تضع سيفك، ولا تضع سلاحك.

تسلط الشيطان على من ترك سلاح الذكر

تسلط الشيطان على من ترك سلاح الذكر إن الشيطان يدخل على الذين يضعون أسلحتهم، مع أن الله عز وجل أبان لنا عداوة الشيطان وكرر هذا المعنى كثيراً: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5] يعني بائن العداوة، وأعطاك سلاحاً تقهره به، وأعطاك الله سلاحاً أنت به أقوى، وهو ذكر الله عز وجل، فيكسل العبد ويلقي سلاحه وهو الذكر، فيدخل عليه الشيطان، مع أنه ليس هناك وقت يخلو من ذكر تقوله، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أذكاراً، حتى: وأنت نائم -والنائم أخو الميت- علمك النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً تقوله قبل النوم، يقيك الشيطان إذا مت الموتة الصغرى، اقرأ أية الكرسي، واجعل آخر صلاتك من الليل وتراً، ونم على وضوء، ونم على شقك الأيمن وضع يدك تحت خدك الأيمن، علمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقل: (باسمك اللهم أحيا وباسمك أموت، اللهم بك وضعت جنبي وبك أرفعه، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً)، ثم يقرأ آية الكرسي، قال الشيطان لـ أبي هريرة (إنك إن قرأتها لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح) إذا قرأت آية الكرسي، وقف على رأسك ملك يحرسك حتى تفتح عينك وتبدأ بذكر آخر. فالغفلات يدخل منها الشيطان، فكيف تضع سلاحك وتترك ذكر الله عز وجل وعدوك شاهر سلاحه، فالجهاد قائم ما دام هناك دين على وجه الأرض بخلاف دين الإسلام، ولا يجوز لك ترك الجهاد أبداً، وإذا جاهدت في سبيل الله غنمت، وجعل الله لك الرجال، والديار والأموال، فتأخذ الرجال تستغلهم، وتسيى النساء والولدان.

الرق عند المسلمين وعند الكفار

الرق عند المسلمين وعند الكفار وبكل أسف عندما يتكلم بعض أساتذة الشريعة عن الرق، يقول: والرق محرم دولياً، فعيرونا وقالوا: أنتم تسترقون الرجال الأحرار، وهم يسترقون الدول، عار علي استرقاق الأفراد وهم يسترقون دولاً بأكملها؟ من الذي عمّر أمريكا أول ما اكتُشفت؟ أليسوا هم الهنود الحمر؟ والزنوج الذين سرقوهم من أفريقيا وجعلوهم خدماً هناك، وهذا رق، من أبشع أنواع الرق، ولكن الرق عندنا شرف، الرسول عليه الصلاة والسلام ما تركك تعلو على الرقيق، لكن قال (إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه معه)، فأنت تأكل طعاماً جاهزاً، وهو الذي يقف أمام النار، وقد تعب في صنع هذا الطعام، فلا تمنعه، وجعل الله تبارك وتعالى كفارة بعض الذنوب عتق الرقبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من هؤلاء الثلاثة رجل له أمة فأعتقها ثم تزوجها) فهؤلاء يؤتون أجرهم مرتين؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك ولا الآخر يكفي أن هذا العبد دخل ديار المسلمين فأسلم فنجى من النيران، وهذا الصنف هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من أقوام يدخلون الجنة بالسلاسل) فالرق عندنا شرف بينما هم يسترقون المسلمين، ويفعلون الأفاعيل، ثم الذي يغيظ ويفتت الكبد أنهم يعملون تمثال الحرية، فأول ما تدخل أمريكا ترى تمثال الحرية، في حين أن قوات الأمم المتحدة كانت تهتك أعراض المسلمين في البوسنة مع الصرب والكروات، لقد خسر العالم جداً بتخلف المسلمين عن ريادة العالم. إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب، وهو الحيوان المهين، الذي ضرب به المثل في المهانة وعدم التحمل، وأنه لا صبر له، وهذه امرأة بغي تترزق بعرضها، ولا توصف المرأة بالبغاء إلا إذا صار حرفة ومهنة وخلة دائمة لها، يعني: امرأة زانية عريقة في الزنا، ملأت موقها ماء وسقت كلباً يلعق الثرى من العطش، فشكر الله لها فغفر لها، وفي المقابل: دخلت امرأة النار في هرة. لو ملك المسلمون فهل سيرمون البر والدقيق في المحيط وهم يعلمون أن ربع الكرة الأرضية يموت من الجوع؟! حفاظاً على سعر الدقيق والخبز!! هذه ليست إلا أخلاق الكافرين: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8].

التمكين بعد البلاء

التمكين بعد البلاء فإن استطعت ألا تبتلى إلا في الله فافعل؛ لأن هذا له ثمرة، حيث إن الله غالب على أمره، أنت لن تخرج من قبضة الله أبداً، وإذا ابتليت في الله فلك بشارة، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى، ثم تكون العاقبة لنا) هذه هي البشارة، وإذا خيرت بين أن تعصي الله عز وجل، وأن يأتيك الرزق بالمعصية أو تبقى مستقيماً مع عدم توفر وظيفة، فاختر الطاعة ولا تتردد، إن قيل لك: إن الوظيفة الفلانية لن تأخذها إلا أن تحلق لحيتك، فلا تحلقها أبداً، وسيجعل الله لك مخرجاً، قد جعل الله لكثير من عباده مخارج ما خطرت على قلب واحد منهم، وأهلك أعداءه من محل الأمن وما خطر على قلب واحد منهم أن يهلك من هذا الباب، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] فتجد الإنسان يضرب بيد من حديد ويحكم القبضة ويظن أن الأمر آل له، والله عز وجل يقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:45] أدعهم في طغيانهم يعمهون ويستمرون، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45]، وإذا كاد الله أحداً غلبه وأهلكه، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]. كلما يحصل شد يحصل انفجار، وهم يعترفون بهذا، فالرسم البياني للصحوة الإسلامية الأثرية التي تنتسب إلى القرون الثلاثة المفضلة يبين أنها كل يوم تزداد، واتسع الخرق على الراقع، فالذي كان يضرب على قفاه إذا بكى يسكت، الآن لا يسكت، بل هو صاحب ساعد قوي يستطيع أن يضرب ولو كانت ضربته أقل تأثيراً من غيره، وابنك الذي كان يأخذ حاجته بالصراخ أمس كبر وصار له ساعد، صحيح أنك أقوى منه، ولو ضربته ضربة لقلعت له عيناً، ولكنه سيضربك ولو كانت ضربة لا تؤثر فيك، وهذا انتصار ومكسب، أن يمد يده ولو كانت ضعيفة، وهذا الذي يضربك الآن بيد رخوة غداً يشتد ساعده، وأنت بطبيعتك تكبر وتكبر، ثم يستدير القمر ويعود محاقاً بعدما كان بدراً، {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68] فيشتد ساعد هذا ويضعف ساعدك، فإذا ضربك قلع لك عيناً، وإن ضربته فلن تؤثر فيه، فلا تهاجمه، وأعطه جزءاً من المشاركة تكفى شره بذلك، ولا يفعل هذا إلا عاقل، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الاعتصام بالكتاب والسنة

الاعتصام بالكتاب والسنة إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن مسعر وغيره عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لـ عمر: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] لاتخذنا هذا اليوم عيداً، فقال عمر: (إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة، في يوم جمعة). سمع سفيان مسعراً، ومسعر قيساً، وقيس طارقاً. هذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله في أربعة مواضع من صحيحه، الموضع الأول في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، والموضع الثاني: في كتاب المغازي، في باب حجة الوداع، والموضع الثالث في تفسير سورة المائدة عند ذكر هذه الآية، والموضع الرابع: هو الذي نشرحه وهو أول حديث في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. قلت قبل ذلك: إن الإمام البخاري رحمه الله له فهم ثاقب ونظر حاد في ترجمته لأبواب صحيحه، فوضع هذا الحديث في كتاب الإيمان في باب زيادة الإيمان ونقصانه، علاقة الترجمة بحديث عمر الواردة فيه الآية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] أن الآية دلت على تمام الإيمان، فالإيمان له زيادة ونقصان، فأعلى زيادة في الإيمان هي كمال الدين، وأن تتمه في نفسك، وبقدر ما يكون لله عز وجل في قلبك يكون كمال الإيمان، فأراد الإمام البخاري أن يبين أن أوج الزيادة في كمال الدين. (قال رجل من اليهود) وهذا الرجل اسمه كعب الأحبار، وكعب الأحبار كان رجلاً من علماء اليهود وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، فيحمل على أن كعباً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وهذا ظاهر من اللفظ: (قال رجل من اليهود لـ عمر)، وإذ ثبت أنه كعب فإذاً قال هذا الكلام لـ عمر قبل أن يسلم، وإما أن يكون أسلم ولكن نظر إلى أول حاله، كما في الحديث الصحيح أن زينب رضي الله عنها حدث بينها وبين صفية بنت حيي خصومة، وضعف جمل صفية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ زينب: (أعطها الظهر لتركب، فقالت له: أنا أعطي هذه اليهودية!!) -وهي زوجة النبي عليه الصلاة والسلام- فكأن النظر بالنسبة إلى الحال الأول، وإن كان الوجه الأول أقوى، وهو أن كعباً سأل عمر رضي الله عنه قبل أن يسلم قال: (يا أمير المؤمنين لو أنا نزلت علينا هذه الآية لاتخذنا هذا اليوم عيداً، قال عمر -في رواية للبخاري أيضاً- أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]) فأراد عمر أن يرد عليه فقال له: نحن ما قصرنا في اتخاذ ذلك اليوم عيداً، بل هي نزلت في يوم عيد، كما رواه الترمذي من حديث ابن عباس أن رجلاً قال لـ عمر هذا الكلام فقال: (نزلت في يومي عيد)، يوم عرفة ويوم جمعة، ومناسبة هذا الحديث لكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة الإشارة إلى أن الله تبارك وتعالى أتم دينه وأكمله، فلم تعتصم بغير الكتاب والسنة؟ أتطلب الهدى خارج الكتاب والسنة؟ والله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] إذاً لا عذر لك في الخروج عن الكتاب والسنة.

يأس الكفار من المسلمين ومراوغتهم في حربهم

يأس الكفار من المسلمين ومراوغتهم في حربهم وهذا الشطر من الآية مقدم على الآية التي وضعها الإمام البخاري وفيها بشارة، يعني: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم بتمام الدين، فديننا تام، والذين كفروا يئسوا من النصر عليه، ولذلك تجدهم الآن فقهاء في حربنا، ويعملون بالمقالة القائلة: إن المجاهد يغير موقعه ولا يغير عقيدته، فإذا نظرت مثلاً لإسرائيل وعدد سكانها ثلاثة أو أربعة ملايين، وقهروا مائة وأربعين مليوناً؛ لأنهم يغيرون مواقعهم، فمن حوالي عشرين سنة كان لا يمكن أن نتصور في يوم من الأيام أن يكون بيننا وبين إسرائيل صلح، وهو يضع يده في يدك، ثم ينتصر بعد ذلك، فهم أربعة ملايين لكنهم أذكياء، مع أنهم في وسط دول مواجهة، ولو زحفت عليهم هذه الكتلة البشرية زحفاً لأكلوهم كلهم، لكن هؤلاء عندهم ترغيب وترهيب وتحرير مناطق النفوذ ومناطق القوى، وطريقة استخدام القوى. فـ إسحاق رابين يبني المستوطنات، ويطلق على المصلين النار وهم سجود دون أي اهتمام، وعندما دخلنا مرحلة جديدة وهي مرحلة السلام والاستسلام قالوا: نريد أن نثبت حسن النية، فإذاً نراوغ ونقول: إن السلام يقتضي أن يكون هناك احترام، يظهر هذا في الجامعات عندنا، وكذلك في الجامعات عندكم، وممكن نعمل اتصالات إلخ، ويفكرون الآن في شبكة كهرباء للوطن العربي كله، ومفتاحها يكون عند من؟ عند هذا اليهودي، والله عز وجل أنزل آيات محكمات في الكتاب المجيد أن هؤلاء لا دين لهم ولا ولاء، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] لو ظهر عليك لا يمكن أن يتركك، وهذا كلام الله عز وجل، فإذا اتبعنا القرآن والسنة واعتصمنا بهما، ييئس الذين كفروا من ديننا، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]؛ لأن فيهما الجلاء والتوضيح والبرهان.

الرد على المقلدة

الرد على المقلدة وهذه الآية أيضاً فيها رد على المقلدة الذين يدعون الكتاب والسنة ويأخذون بأقوال أئمتهم المخالفة للكتاب والسنة. وقد أطال صديق حسن خان في الرد عليهم حتى يكاد الواقف على كلامه يظن أنه ينفي القياس، من شدة رده على المقلدة، فوضع البخاري هذا الحديث في أول كتاب الاعتصام، أراد به أن يقول: إذا تم الدين وكملت النعمة ولم يترك الله تبارك وتعالى دقيقاً ولا جليلاً إلا بينه لعباده، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن القرآن، فلا معنى للخروج عن الكتاب والسنة واستيراد أحكام من الخارج.

بطلان الحكم بغير ما أنزل الله

بطلان الحكم بغير ما أنزل الله وليت الذين حكَّموا فينا القانون الوضعي أو القانون الفرنسي نظروا في هذه الآية، فنحن جميعاً محكومون بغير ما أنزل الله، إلا في قانون الأحوال الشخصية، والآن يبدلونه، بدلوه أولاً بأن جعلوا البيت للمرأة، وأن الرجل إذا أراد أن يتزوج لا بد من موافقة الزوجة الأولى، وهذا القرار كم من بيوت هدمت بسببه، وصارت المرأة هي الرجل، وصارت تهدد الرجل، فالرجل الأبي الذي تجري دماء الرجولة في عروقه لا يستطيع أن يعيش مع هذه المرأة فيطلقها، وأول ما يطلقها تأخذ منه البيت، ولذلك يصبر الرجل على الذل والمر لأجل البيت، وخربت بيوت، ثم جاء مؤتمر السكان وضرب ضربات قاتلة، وقام العلماء جميعاً -وطبعاً الدولة لا تحترم العلماء، ولا تحترم وجهة نظرهم- وقالوا: لا نحن غير ملزمين بقرار مؤتمر السكان، لماذا غير ملزمين وأنتم الدولة المضيفة؟ والدولة المضيفة المفروض أنها أول دولة تحترم توصيات المؤتمر المقام على أرضها، فقالوا: هذه القضية غير ممكنة الآن، لكن يمكن بعد ثلاثين سنة أن نبدأ في تنفيذ هذا القرار، ويصاغ على هيئة قانون. ثم جاء المؤتمر الذي أقيم في الصين في مسألة الزواج والطلاق، وقام العلماء قومة رجل واحد، فقانون الأحوال الشخصية فيه إعواز بسبب اعتماده على مذهب أبي حنيفة وحده، ومن المفروض أن المسألة لا تقتصر على مذهب واحد، فمثلاً في مذهب الأحناف إذا غاب الرجل بأن سافر لأجل أن يأتي بمال وغاب سنة أو سنتين أو أربع أو عشر أو عشرين سنة ليس للزوجة أن تطلب الطلاق، ولا أن ترفع أمرها للقاضي، فإن لم تجد حلاً تصبر، وأما في المذهب المالكي إذا يئسنا من رجوع الرجل بسبب غيابه جاز للمرأة أن تطلب الطلاق، إذ أنه إذا كان يعمل بالظن الغالب في الأحكام الشرعية أفلا يعمل بالظن الغالب في مثل هذه الأمور العادية؟ فتصبر المرأة وتظل معلقة مدى الحياة، فلماذا لا يدخلون مذهب مالك في هذه المسألة؟ خاصة أن مذهب الأحناف مخالف للدليل في بعض المسائل. ثم بأي عقل أيها الإخوة! الكرام في بلد الإسلام يقال: إن حالة الزنا تسقط إذا رضي الزوج، وهذا الحكم بمنتهى الجلاء واضح في كتاب الله عز وجل، وبأي عقل يقال: يجوز للمرأة أن تزني إذا رأت زوجها يزني، والجروح قصاص!! أيجوز هذا الكلام في ديار الإسلام وعندنا قرآن وسنة، والأحكام واضحة جداً وجلية؟ ويأتي رجل بلغ من الكبر عتياً، صاحب (عودة الروح)، (وعصا الحكيم) (وحمار الحكيم)، كان سنه ثلاثاً وثمانين سنة يوم أن قال هذا الكلام في الأهرام، عندما عاد من باريس واستقبلوه في المطار فسألوه: ماذا أعجبك في باريس؟ فلم يقل البيجو أو شيء من هذه الأشياء، وإنما قال لهم: أعجبني في باريس الزواج الجماعي، يعني: تبديل الزوجات، كل رجل يعطي زوجته للآخر، هذا الذي أعجب ابن ثلاث وثمانين سنة. والآن تعرفون فرج فودة الذي أهلكه الله عز وجل وقلعه في ليلة مباركة، بدأت الآن تسن قوانين لضرب الإرهاب من كتب فرج فودة: بأيمانهم نوران: ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات وضرب شركات توظيف الأموال هذه تمت بفعل فاعل، هذه الشركات كانت مباركة عمل فيها ألوف العاطلين، وفتحت أبواب الرزق على آلاف الأسر، وكان الرجل الذي يذهب للعمل فيها يأخذ خمسائة وستمائة وسبعمائة إلى ألف جنيه، وأحدث هذا حالة ازدهار وانتعاش، وبدأت تحويلات المصريين في الخارج تأتي، حتى صار رأس مال واحد مثل أحمد الريان وإخوانه في نحو ثلاث سنوات ثلاثة مليارات وواحد من عشرة، فقالوا: هؤلاء سيتمكنون بالمال ويلعبون بكم كما يلعب اليهود برئيس أمريكا، فهم الذين يتحكمون بالرئيس في الترشيحات، والملاحظ أن كل الشركات كان عليها سمت الإسلام، وكان معهم مليارات، وبعضهم استعد لدفع الديون التي على البلد، فهذه الشركات ضربت بفعل فاعل، وألصقوا بهم التهم وقالوا: إنهم كانوا يضحكون على المودعين ويعطونهم أرباحاً من رأس المال، ولو أتيت بـ أبي جهل وأعطيته هذه الشركة لا يمكن أن يعطي المودعين من رأس المال، بدليل أنهم عندما ظهرت هذه الفرية قالوا: لو أن كل المساهمين أرادوا أن يأخذوا رءوس أموالهم ما عليهم إلا أن يأتوا، وكل هذا بسبب أننا نحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى، وهو مهيمن ومسيطر وكامل. وليس هناك حكم لغيره سبحانه وتعالى إلا تجد له نص: إما خاص، وإما يندرج تحت عنوان. فإذاً: الاعتصام بالكتاب والسنة هو النجاة؛ لأن الله عز وجل ضمن لنا هذا الكمال، وضمن لنا تمام النعمة إذا صدقنا الكتاب والسنة، إذاً: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الرد على الرافضة في دعوى النص على علي رضي الله عنه

الرد على الرافضة في دعوى النص على علي رضي الله عنه وفي هذه الآية أيضاً رد على الروافض الذين يقولون: إن إمامة علي رضي الله عنه كانت بنص جلي في كتاب الله عز وجل والصحابة كتموه، ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى نص على إمامة علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقول: سلمنا معكم أن الصحابة بدلوا وغيروا، أغلبوا الله عز وجل حتى غلب تبديلهم على نصه، وهو يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، المفروض أن الله غالب على أمره، ولو أنهم أرادوا تحريفاً فلا يستطيعون ذلك أبداً، إذ الله غالب على أمره فأكمل دينه وأتم نعمته، فكان المفروض أن هذا النص يظهر على تحريف المحرفين، أما إذا لم يظهر هذا النص على تحريف المحرفين فهذه الآية حجة على الروافض، حيث أن الله تبارك وتعالى لم يذكر نصاً جلياً في إمامة علي، بل النص الذي يكاد يكون جلياً بل هو جلي في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فالرسول عليه الصلاة والسلام دخل مرة على عائشة رضي الله عنها فوجدها تقول: (وارأساه! -يعني: عندها صداع- فقال لها: بل أنا وارأساه! ما ضرك لو مت قبلي فصليت عليك ودفنتك، فقالت عائشة: والله! إني لأرى أنك تحب موتي، ولو كان ذلك لما بت إلا معرساً ببعض نسائك) يعني سوف تنساني، وسوف تبيت ليلة جميلة مع أي امرأة من نسائك، وسوف تنسى عائشة تماماً: (فقال لها: ادع لي عبد الرحمن لأكتب كتاباً، لعل قائلاً يقول أو متمنياً يتمنى فينازع أبا بكر ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، واستخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر في الصلاة دليل واضح جداً، وقول الله عز وجل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] دليل واضح جداً، وأيضاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام للمرأة التي قالت له: (إن جئت فلم أجدك فمن أسأل؟ قال أبا بكر)، والنصوص الجلية الظاهرة تنص على إمامة أبي بكر الصديق، وحتى لما تخلف علي بن أبي طالب عن بيعة أبي بكر وأراد أبو بكر أن يذهب إليه قال له علي: (ائتنا العشية وحدك، فقال عمر: تذهب إليهم وحدك؟ والله لا يكون، لأذهبن معك) وعللت هذا عائشة في صحيح مسلم فقالت: (وكره علي محضر عمر)؛ لأن عمر شديد، ويمكن أن يوجه له كلاماً شديداً، كما قال عمر لـ سعد بن عبادة مع جلالة سعد وجلالة منصبه عندما بويع لـ أبي بكر قال قائل: (قتلتم سعداً) فقال عمر: (قتله الله!) فكره علي أن يحضر عمر، وأراد أن ينفرد بـ أبي بكر، فقال عمر: (لا تأتيهم وحدك)، فقال أبو بكر: (والله لآتينهم وحدي، ما عساهم أن يفعلوا بي؟!) فدخل أبو بكر على علي، فتشهد علي وتكلم وأثنى على أبي بكر وقال: (إنا عليك ما أعطاك الله عز وجل، لكنا رأينا أنك استبلغت بالأمر دوننا)، وجعل يتكلم عن قرابته ومنهم الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى فاضت عينا أبي بكر لما ذكرت القرابة وقال: (والذي نفسي بيده لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أصل قرابتي) وجعل يتكلم ويقول: (إني لم آلو أن أفعل في هذا الأمر ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم). فبايع علي أبا بكر الصديق، وكان إلى المسلمين أقرب منه إليهم قبل أن يبايع أبا بكر رضي الله عنه، فأين النص والدليل على إمامة علي بن أبي طالب وأن المسلمين أخفوها؟ فهذه الآية أيضاً حجة قاهرة على هؤلاء الروافض، إذ لو جاز للصحابة أن يبدلوا لما جاز أن يظهر تبديلهم على كلام الله عز وجل القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وقبل هذه الآية قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3].

الرد على نفاة القياس

الرد على نفاة القياس فدلالة الحديث ظاهرة، وفي هذه الآية رد على بعض الطوائف، وإن كان هؤلاء الطوائف تمسكوا بها في الرد على مخالفيهم، والقرآن حمال ذو وجوه، فمثلاً الذين ينكرون القياس تمسكوا بهذه الآية، قالوا: إن الله أكمل دينه وأتم نعمته، وما ترك شيئاً إلا بينه، فلم تلجأون إلى القياس؟ والقياس هو: محض اجتهاد في تحقيق انطباق علة الأصل على الفرع، هذا هو القياس، فعندنا فرع نطلب له حكمه، فننظر في هذا الفرع أله علة؟ فإن وجدنا له علة، ننظر أهذه العلة بكاملها موجودة في أصل محكم، إن كان ذلك كذلك، واشتركا في علة الحكم أعطينا الفرع حكم الأصل. فمثلاً: الخمر علة التحريم فيه الإسكار، وهو وصف ثابت منضبط، فأي إنسان يسكر تظهر عليه علامات السكر، ولا يقال: إن أناساً يشربون الخمر ولا يسكرون، فعلى هذا يجوز الخمر، وقد رأيت هذا بعيني، لما سافرت إلى أسبانيا سنة (76)، وعملت هناك صحفياً لجريدة مشهورة، وكان القصد منها أن أمارس اللغة، فكنت أجد أي فرد فأتكلم معه حتى أتقن كلامهم فأمسك بيدي دفتراً وقلماً وأعرض لأي رجل في الشارع وأقول له: أنا صحفي وأريد أن أسأل أسئلة عن أسبانيا حتى نعرف المسلمين بها، ومن ثم ندخل في الكلام، فرأيت في هذه الدولة عجباً، قابلت رجلاً عجوزاً شيخاً، فقلت له: أنا صحفي ومن مصر، وأريد أن أعرف أسبانيا أيام الطراز الإسلامي، وأسبانيا أيام فرانكو، وأسبانيا أيام خوان كارلوس وهو الموجود حالياً، فأول ما سألته عن الإسلام بصق الرجل ومضى، والأندلس هي جنوب أسبانيا وهي الصعيد، فكل بلد فيها صعيد، يعني وجه قبلي ووجه بحري، فالصعيد ليس عندنا فقط، فالمسلمون ما دخلوا إلا صعيد أسبانيا التي هي الأندلس، ووقفوا تقريباً على منتصف أسبانيا من الأسفل، وعندما تذهب إلى هناك ترى فعلاً الآثار الباقية واضح عليها جداً اللمسات الإسلامية، فأول ما قلت للرجل: إسلامي بصق، وحدث نفس الموقف مع رجل آخر، وبصق أيضاً، ومكثت أبحث عن المسجد لأصلي الجمعة قرابة أسبوعين، ولم أعثر عليه حتى وصف لي وصفاً دقيقاً، وكنت متوقعاً أن أجد مسجداً وحيداً في مدريد له منارة وقبة، وظاهر عليه سمت المساجد التي نعرفها، فبحثت في الشارع كله فلم أجد المسجد، فسألت رجلاً: يقولون إن مسجداً في هذا الشارع؟! فبصق وتركني، وظللت أبحث عن المسجد حوالي أربع ساعات إلى أن عرفت أنه في عمارة في أسفلها، تنزل له بسبع أو ثمان درجات، ودخلت فلم أجد مسلماً من جنس أسباني أبداً، وإنما كل الموجودين في المسجد كانوا من الجالية العربية، وكان أغلب هؤلاء من أهل الشام. فكنت أعمل صحفياً وأسأل الناس عن الأخبار، ومرة سألت رجلاً منهم يقال: إن هناك حي ليس للمسلمين فيه نصيب أبداً، ويقال والله أعلم: بني فيه مسجد، وهو حي من أعتى أحياء أسبانيا وهو حي الجامعة، فبينما كنت أمشي في يوم من الأيام لقيني رجل فعرف أني من مصر فقال كلمة أسبانية تعني: الأحرار، فهو لا يعرفنا إلا بالأحرار، وقال: لا بد أن أدعوك اليوم، وكان معي زميلي في الرحلة، فأخذنا إلى البيت وقال: هذا الخمر القديم أنا لا أنزله إلا للأحباب، وأنزل قارورة سوداء جداً، وصب منها كأساً، قدر عقلة الإصبع، فقلت له: الخمر عندنا حرام ولا يجوز، وأما صاحبي فكان عنده حب استطلاع فأخذها فقال الرجل: لماذا الخمر حرام؟ فقلت: لأنها تسكر، فرفع القارورة وقال: هه، وشرب منها، وأما صاحبي فشرب منها فاضطربت معدته وحصل لها ما حصل، بينما شرب الرجل وأتم معنا الجلسة وذهنه صافٍ وليس هناك إشكال. فلا تؤثر مثل هذه الصورة على الحكم، لأنه يقال: الشاذ لا يقاس عليه، وإنما يقاس على الأعم الأغلب، يعني مثلاً: النفاس أكثره أربعون يوماً، فلو نفست امرأة مثلاً ثلاثة أشهر فلا يجوز أن نربط حكم النفاس على الثلاثة أشهر لقلة من يستمر معها النفاس ثلاثة أشهر، لكن لما تدبروا في حال النساء وجدوا أن أغلب النساء لا يزدن على أربعين يوماً، فجاز لهم تعليق الحكم بالعادة الغالبة، فالوصف المنضبط في الخمر هو الإسكار، وعلامة الإسكار تظهر على كافة الناس حيث يخرج الإنسان من وقاره ويتكلم بكلام يخلط فيه. إذاً العلة في تحريم الخمر هي الإسكار، وهذه علة وصفها ثابت ومنضبط، فحيثما وجدنا هذه العلة في أي مشروب آخر فإنه يأخذ حكم الخمر؛ لأن علة الأصل -وهو الحكم السابق بتحريم الخمر في القرآن- تعدت إلى الفرع، وهي وصف ثابت منضبط لا يتغير، فمنكرو القياس قالوا: هذه الآية حجة لنا في نقد القياس؛ لأن القياس محض اجتهاد، وقد يخطئ الرجل في تنزيل العلة من الأصل على الفرع ويقول: هذا حكم الله فيخطئ، ولا يجوز لأحد أن يقول: هذا حكم الله بالاجتهاد، فرد عليهم الأئمة المثبتون للقياس بأدلة كثيرة، أتوا مثلاً ببعض الأحاديث التي استخدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم القياس، كما في الحديث الصحيح أن رجلاً أراد أن ينتفي من ولده، حيث التبس عليه أنه أبيض والولد أسود وأمه بيضاء، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا ليس ابني!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس لك إبل؟ قال: بلى. قال: أليس فيها من أورق؟) يعني: أحياناً يأتي جمل لونه ليس كلون أمه: (قال: نعم. قال: ومم ذاك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: وهذا لعله نزعه عرق) فمن الممكن أن يكون هذا الولد ينزع لجده، أو لجد جده، فيكون أخذ منه شيئاً من بعيد، فكما أن الجمل الأورق نزعه عرق فكذلك الولد نزعه عرق، فهل هذا إلا القياس؟ هذا هو القياس، حيث عدى العلة وهي اختلاف اللون من اختلاف الجمل عن لون أمه، إلى اختلاف لون الولد عن لون أمه وأبيه، أن هذا لعله نزعه عرق وهذا أيضاً لعله نزعه عرق، ثم نقول: إن الأحكام الشرعية تبنى على الظن الغالب، وليس معنى بناء الحكم على الظن الغالب أن نقول: هذا مراد الله، فهذا شيء وهذا شيء، وإلا فنقول لنفاة القياس: أنتم تفسرون الآية الواحدة بعدة تفسيرات، فهل تستطيع أن تجزم أن أي تفسير منها هو مراد الله؟ لا نستطيع الجزم، وهذا قرآن، فهل يبطل تفسير القرآن؛ ونقول: لا يجوز لنا أن نفسر القرآن وكلام الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا التفسير ليس بمراد لله تعالى؟ لا، ولا نقول: هذا حكم الله، ولكن نقول: هذا هو حكم الشرع فيما ظهر لنا، وهذا سائغ. وإذا كانت الأحكام تبنى على الظن الغالب فلا يجوز التمسك بهذه الآية في نفي القياس؛ لأن القياس راجع إلى حكم الشريعة، ألم نقل قبل: إن القياس هو تعدية علة أصل إلى فرع، وهذا الأصل هو كلام الله عز وجل، فإذا حددت العلة ونقلتها بشروطها، فأنا في تعديتي العلة من الأصل إلى الفرع لم أخرج عن حكم الله، ولم أخرج عن كلام الله عز وجل، فالقياس في حقيقته راجع إلى كلام الله عز وجل وإلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

نصيحة وحوار

نصيحة وحوار الصحابة رضوان الله عليهم هم حملة هذا الدين العظيم، نصر الله بهم دينه ورسوله، وعلى أيديهم ارتفعت رايات الجهاد، وفتحت الأمصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، بذلوا الغالي والرخيص من أجل هذا الدين، فكانوا الأحق بأن يكونوا صحابة رسول رب العالمين، وأن يكونوا لمن خلفهم أسوة وقدوة، ولكن مع ذلك فقد حاول العلمانيون طمس عظمتهم من قلوب المسلمين بدعوى ظاهرة البطلان، وهي أنهم رجال ونحن رجال، فطعنوا بذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، ومن ثم طعنوا في دين الإسلام.

فضل الصحابة رضي الله عنهم ودورهم في نشر الدين

فضل الصحابة رضي الله عنهم ودورهم في نشر الدين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. روى الإمام البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أن رجلاً قال للمقداد بن الأسود رضي الله عنه: (طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فغضب المقداد بن الأسود غضباً شديداً، فقال له -التابعي راوي الحديث-: لم تغضب؟ قال: وما يدريك يا ابن أخي إن رجالاً رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأكبهم الله على وجوههم في النار). لقد غضب المقداد رضي الله عنه؛ لأن الرجل زكاه لمجرد أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام، فاحتج عليه المقداد بأن هناك رجالاً رأوا النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك أكبهم الله على وجوههم في النار. وروى الإمام البيهقي في دلائل النبوة أن رجلاً قال لـ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركناه يمشي على الأرض)، فكأن هذا الرجل ينسب التقصير إلى الصحابة في توقيره عليه الصلاة والسلام، فيقول: لو كنت أنا مكانكم ما تركته يمشي على الأرض، أي: لحملته على رأسي. فقال له حذيفة: يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا -أي: في يوم الأحزاب- وقد حفر كل منا لنفسه حفرة يدفن نفسه فيها من البرد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟ قال حذيفة: والله ما قام أحد)، مع أن الصحابة كانوا يتسابقون على أقل من ذلك، ومع ذلك من شدة البرد ما استطاع أن يقوم أحد. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لديهم جلد عجيب، فالذي يذهب إلى مكة الآن ليحج لا يكاد يطيق الحر مدة خمسة أو ستة أيام مثلاً، وهم قد كانت هذه حياتهم بصفة مستمرة، فقد كان عندهم جلد إلى هذا الحد العجيب، ومع ذلك لا يقوم أحد؛ فلك أن تتصور شدة البرد التي كانت موجودة آنذاك! قال: (والله ما قام أحد، فقال: من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟ قال: فما قام أحد ثلاث مرات، قال حذيفة: فتقاصرت خشية أن يدعوني، فقال لي: قم يا حذيفة! قال: فقمت، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، قال: فدعا لي، وقال: اذهب إلى القوم وائتني بخبرهم، ولا تذعرهم علينا، قال: فذهبت كأنني أمشي في حمام -ذهب إلى مكان تجمع قريش والأحزاب- قال: فكنت أسمع ضرب الحجارة بعضها ببعض من شدة الريح، والله ما تجاوزت معسكرهم -أي: أنه كان واقفاً قريباً من الأحزاب وهو لا يشعر بشيء من الريح، وكانت الحجارة تضرب بعضها بعضاً داخل المعسكر- قال: ورأيت ناراً عظيمة ورجلاً، فعلمت أنه أبو سفيان، وكانت هذه أول مرة أرى أبا سفيان فيها، قال: فهممت أن أخرج القوس وأضربه، حتى تذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: ولا تذعرهم علينا، قال: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام، فلما وصلت إليه عاد لي القُر -أي: البرد، يعني أنه عاد بارداً برداً شديداً يكاد يموت من البرد بعدما أدى المهمة- قال: فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم بردة له فتدثرت بها ونمت حتى أصبحت، فجاءني فأيقظني فقال لي: قم يا نومان!). وهذا الحديث رواه أيضاً الإمام مسلم رحمه الله تعالى، فالصحابة رضوان الله عليهم ما وصلوا إلى هذه المرتبة إلا بخالص تضحيتهم لله تبارك وتعالى، ولذلك قال عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وابن مسعود لبعض هؤلاء التابعين: والله لو عمِّر أحدكم عمر نوح ما ساوى ذلك مُقام رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الصف ساعة. لقد اصطفى الله تبارك وتعالى هذا الجيل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب العالمين، فاصطفى قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين، فاصطفى قلوب أصحابه له). هؤلاء الصحابة الكرام لو أنهم تخاذلوا وانطووا على أنفسهم لما وصلنا هذا الدين، فإنه لم يصلنا إلا على رقاب هؤلاء الصحابة الذين بلغوا هذا الدين ولم يخافوا في الله لومة لائم.

طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم من خلال المسلسلات

طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم من خلال المسلسلات كذلك نجد في المسلسلات التي تنشر في التلفزيون وتتحدث عن المسلمين والسيرة شيئاً عجيباً! فقد كان هناك مسلسل قديم منذ حوالي خمس عشرة سنة اسمه: (على هامش السيرة) عرضوا فيه المنظر الآتي: أبو الدرداء يزور أخاه أبا ذر، فتخرج له امرأة أبي ذر، فتقول له: هو غير موجود، تفضل. تفضل!! كيف يتفضل الرجل وزوجها غير موجود في البيت؟!! هل كان نساء الصحابة كذلك؟! أليس هذا من القذف الذي ينبغي أن يجلد فيه هؤلاء جميعاً؟! ثم إنه سينطبع في أذهان الناس أن الممثل الذي يمثل أبا ذر كان أمس في مسلسل على الفراش مع امرأة فاجرة! فأنا -كناشئ جديد- أرى أن أبا ذر هو ذلك الرجل الذي كان يمشي مع تلك المرأة، أو كان نائماً معها في الفراش في الليلة الماضية في مسلسل ما، فتذهب صورة هذا الصحابي في نظري. كذلك عندما صوروا إبليس، صوروه بلحية سابغة إلى السرة، ولما صوروا مصعب بن عمير جعلوا له (سكسوكة) هكذا. ما الذي يمنع أن ينطبع في أذهان الشباب أن اللحية العظيمة هي لحية إبليس، فيقترن في ذهن هؤلاء أن اللحية العظيمة لإبليس، فبالتالي ينفرون من اللحية العظيمة. وقد حدث لي هذا الأمر: فقد كنت ذات مرة أركب دراجة عادية، وفي يوم شديد الريح وأنا أمشي تعرض لي أولاد صغار لا تتجاوز أعمارهم الست سنوات، فعندما رأوني صرخ بعضهم على بعض: الشيطان الشيطان! وهربوا. فمن أين عرف هذا الولد الصغير الشيطان؟ والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، لقد أخذوا هذا الأمر من المسلسلات، يكبر الولد وقد انطبع في قلبه ووجدانه أن اللحية من فعل الشياطين الأبالسة، فيكبر وهو يكره أهل اللحى. فهؤلاء يريدون تحطيم التأسي بالصحابة؛ لأن الأسوة لا تكون إلا بهم، والنص النظري المحض لا يؤثر تأثيره، فمثلاً عندما تقرأ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإن هذا لا يؤثر فيك كما إذا قرأت أنه في غزوة من الغزوات كان هناك رجل في الرمق الأخير وطلب ماءً، فسمع أخاه يريد ماء فقال: أعطه، والثاني سمع أخاه يطلب ماء فقال: أعطه وكانوا عشرة، ويأبى كل واحد وهو في النزع الأخير أن يشرب ماء وهو يسمع أخاه يقول: أريد ماءً، فيعطيه، حتى يصل إلى الأخير، فيقول: لا، فيرجع إليهم فيجدهم جميعاً قد ماتوا!! إن تأثير هذا الموقف أكثر من تأثير حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فالتأسي في الحقيقة لا يكون إلا بهذا الجيل. فهم جميعاً قاموا بقضهم وقضيضهم على هذا الجيل، حتى يبينوا أنه لا فضل لهم علينا لماذا؟ لأنهم رجال ونحن رجال!!

أهمية الاقتداء بالصحابة والسير على منهجهم

أهمية الاقتداء بالصحابة والسير على منهجهم فالواجب علينا أن نطالع سيرة هذا الجيل، ومن أمتع الكتب التي ذكرت سير السلف: سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي. نحن نشبه الإسلام بمثلث حاد الزاوية، فلو وضعت نقطة وأخرجت منها ضلعين، النقطة هذه لا أبعاد فيها، حتى إذا سلمنا أن فيها مسافات فإنها لا تكاد تذكر، وهذه النقطة هي زمان النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان الكل فيه على قلب رجل واحد، والمسافات الصغيرة هي وجهات النظر التي تكون بين العباد؛ لاختلاف عقولهم ونحو ذلك، لكن في النهاية كانوا على قلب رجل واحد، وكلما بدأت بالنزول من هذه النقطة إلى أسفل، كلما زادت المسافة بين الضلعين، فالضلع الأول نعتبره الإسلام الصافي، والضلع الثاني هو تطبيق المسلمين لهذا الإسلام -واقع المسلمين- فكلما ابتعدنا عن هذه النقطة كلما زادت المسافة بين الضلعين إذاً: ما هو الحل؟ الحل أن نقترب دائماً من هذه النقطة، تقترب من زمن النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: المرء كلما بعد عن المصباح أوغل في الظلام، فالحل: أن تصعد إلى الأعلى، فإنه كلما صعدت إلى أعلى -إلى الجذور الأولى- واقتربت من هذه النقطة؛ كلما قل الخلاف بينك وبين إخوانك، وكلما تركت هذه النقطة وبعدت عنها؛ كلما زادت الهوة، كما هو حادث الآن. فنحن يجب علينا أن نصعد إلى أعلى، إلى النقطة التي تمثل زمان الرسول عليه الصلاة والسلام. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأسون بهذا الجيل الفريد العظيم، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

خواء روحي وتخاذل ديني

خواء روحي وتخاذل ديني لقد عجزنا عن أن نجعل قضية الإسلام كقضية رغيف الخبز!! فإنه لو صدر قرار برفع قيمة رغيف الخبز لوجدت أن كل المناقشات في البيوت عن رغيف الخبز: كيف نأكل وكيف نشرب؟ ولو ارتفع سعر الوقود لتكلم كل الناس عن الأسعار وكيف نعيش؟ فلو أن الإسلام صار كرغيف الخبز بالنسبة للمسلمين لما كان هذا حال المسلمين، لكن -وبكل أسف! - كل إنسان لا يشعر أن الإسلام قضيته العظمى، بدليل أنك تراه قد ينتهك حرمات الله عز وجل بينه وبين نفسه، ومع ذلك لا يشعر بشيء من وخز الضمير.

طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم حديث الذباب نموذجا

طعن العلمانيين في الصحابة رضي الله عنهم حديث الذباب نموذجاً إننا نحن نحتاج إلى النظر في ذلك الجيل العظيم الذي يحاول العلمانيون الآن طمس عظمته بدعوى أنهم رجال ونحن رجال. كتب أحد الكتاب العلمانيين مقالة يقول في ضمنها: إن أبا هريرة رضي الله عنه كان رجلاً يمشي على ملء بطنه مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان همه الأكل والشرب، وكان مزاحاً، ولو أن أحداً أعطاه مالاً أو أطعمه فإنه على استعداد أن يحدثه بأحاديث لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام!! ثم شرع الكاتب يأتي بأحاديث تخالف العقل عنده، وهي عند البخاري ومسلم مثلاً، ويقول: هذه لا يمكن أن يقولها النبي عليه الصلاة والسلام، كحديث: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه)، مع أن هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري أيضاً!! ويقول: إن العالم يعيرنا بهذا الحديث العالم الآن يطرد الذباب لمضرته، ونحن نقول: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) أي: أن في الحديث دعوة من الرسول عليه الصلاة والسلام لاصطياد الذباب انظر إلى هذا الكلام! مع أن الحديث لم يقل: أسقط الذباب، لكنه قال: إسقاط الذباب وأسقطه، لكن قال: (إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء). هب أن رجلاً فقيراً معوزاً، وبعد طول جهد اشترى أكلاً أو شراباً معيناً، فسقط فيه ذباب، فهل يُمنع هذا الرجل بعد هذا الجهد أن يأكل هذا الطعام الذي يشتهيه؟ إذاً من الممكن أن يغمس الذباب ثم يأكل أكله أو يشرب شرابه بدون حرج. ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما ألزمك أن تأكل الأكل الذي سقط فيه الذباب، لكنه ألزمك بغمس الذباب، فغمس الذباب واجب؛ لكن أكل الأكل ليس بواجب، فإنه لم يقل أحد قط: إنك لا بد أن تأكل الأكل الذي سقط فيه الذباب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فليغمسه) إذاً: غمس الذباب هو الواجب، وبعد ذلك اعمل في طعامك ما شئت، وإذا جاء بعدك رجل لم يعلم أن هناك ذباباً سقط فيأكل وهو مطمئن. والسر في غمس الذباب: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال -كما في سنن أبي داود في طريق من طرق الحديث-: (فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء)، أي: أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، فعندما تغمس الذباب، هذه القوة مع مقاومة السائل ينفجر بها الكيس الآخر الذي فيه الدواء، فينزل الدواء فيقضي على الداء، فكأنه ما سقط فيه شيء. فيقول هذا الكاتب: هذا عار علينا أن نقول للعالم: إننا نُسقط الذباب في الطعام؛ فإنهم سوف يستقذروننا ويتركون ديننا، والإسلام نظيف، والرسول عليه الصلاة والسلام نظيف، وديننا دين النظافة إلى آخر ذلك الهراء. ثم يقول: هذا الكلام سيطبع في أذهان الناس أن هذا دليل على أن أبا هريرة رجل يكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنا إذا علمت أن أبا هريرة بهذه المثابة فإنه يقل اقتدائي بهذا الرجل!!

الأسئلة

الأسئلة

الموقف من أحداث الفتنة بين علماء السعودية

الموقف من أحداث الفتنة بين علماء السعودية Q ما موقفكم مما حدث في السعودية من فتنة بين علماء المدينة وبين المشايخ الأربعة الذين منهم: الدكتور ناصر العمر والشيخ سلمان؟ A هذه الفتنة أنا ما زلت حريصاً على أن أتجنبها بالكلية؛ لأنك لن تحمد حتى إذا قلت كلمة الحق، وقد قلت مرة لطلبة العلم في جدة: أنا أرى أن تتجنبوا هؤلاء وهؤلاء، عليكم بالعلم؛ لأن كلامك غير مؤثر، فطالب العلم مثلاً لما يقول: أنا مع فلان أو ضد فلان هل حل الإشكال؟ لم يحل الإشكال؛ لأنهم ليسوا رءوساً، إنما هم طلبة. فخرج بعضهم يقول لبعض: إنني أميِّع المسائل والقضايا. والذي أظنه من سماعي للجانبين أن هناك هوى عند الجانبين، وأنا أظن أنه لو وجد الإخلاص عند هؤلاء لاجتمعوا؛ لأن نقاط الخلاف لا تستدعي مثل هذا العداء الشديد بينهم، إنها مسائل عادية، لكنهم لا يحملون كلام بعضهم على الخير أبداً، فهؤلاء عندهم خير وهؤلاء عندهم خير. فمثلاً: فقه الواقع أمر ضروري، فلو تجاهلناه بالكلية لضعنا، لكن على الجانب الآخر هناك من يضخم هذه المسألة، فقد سمعت شريطين للشيخ سفر اسمهما: الوعد الحق والوعد المفترى، يقول مثلاً: الأعداء لهم خمسون صحيفة ومجلة، وأربعمائة محطة تلفزيونية، ومائتان وخمسون إذاعة، وأربعون قمر تجسس على منطقة الشرق الأوسط، وعندهم وعندهم! أنا عندما أقول هذا الكلام لأمة ضعيفة لا تملك رغيف الخبز، فإنها سوف تصاب بالإحباط، فهذا الكلام يقال لأناس ربُّوا تربية حقيقية، أكشف لهم فيه عدوهم بهذا الكلام حتى يأخذوا أهبة الاستعداد، لكن أن أقول هذا الكلام لضعاف لا يملكون رغيف الخبز، فتكون النتيجة أن يصابوا بإحباط شديد. وأنا أرى أن الشباب هم الذين أفسدوا بين المشايخ؛ فإن المشايخ عادة لا يلتقي بعضهم مع بعض إلا لماماً، والشباب لا يكفون عن الكلام. والخلاصة: أن هذه الفتنة ليس عندي اطلاع كبير عليها؛ لأنني متجنب لها نسأل الله أن يقينا شرها.

حكم دخول الإسلاميين في البرلمانات

حكم دخول الإسلاميين في البرلمانات Q ما رأيكم في دخول الإسلاميين في البرلمانات والمشاركة في الواقع السياسي؟ A هذه المسألة تختلف من بلد إلى بلد، فمثلاً: عندنا في مصر دخول البرلمان لا قيمة له، بل دخول البرلمان يعتبر مضيعة للوقت، فعندما دخل الإخوان المسلمون البرلمان، بعضهم دخل ضمن حزب العمل، وبعضهم دخل ضمن أي حزب من الأحزاب، ومعروف أن في النظام الديمقراطي أن الحكم للأغلبية، فالحزب الحاكم حريص -بطبيعة الحال- على أن يكون له أغلب الأصوات في البرلمانات، وأي مشروع يذهب أدراج الرياح إذا لم يوافق عليه الأغلبية، فنقول: لو كان هناك تسعة وتسعون عالماً، وهناك مائة رجل جهال لا يفهمون أي شيء، فإن هؤلاء المائة يكسبون. فلذلك هم لم يحققوا أي شيء تقريباً، بالإضافة إلى أنه ملزم في بدء الدخول أنه يقول: باسم الشعب، باسم الدستور، باسم الأمة، باسم كذا ألا أخالف وألا وألا وعندما سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن مسألة الدخول في البرلمان وقيل له: إننا نغير ونعمل، ولنا سلطان ولنا كذا قال: لا بأس بالدخول، ثم قيل له: ولكن سيقول: باسم الأمة، باسم الدستور قال: لا يجوز له أن يدخل؛ لأنه لا يجوز أن يشارك في مباح بارتكاب شرك وحرام. فلذلك أنا أعتقد أن هذه المسألة تختلف من بلد إلى آخر. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

حكم القيام لاستقبال الضيوف

حكم القيام لاستقبال الضيوف Q ما حكم قيام الناس كلهم لاستقبال الضيوف؟ A الذي يستقبل الضيف في الغالب هو صاحب الدار، لكن لو قام بعض الناس للاستقبال أيضاً فلا بأس به إن شاء الله.

حقيقة غضب من لم يقم له الناس

حقيقة غضب من لم يقم له الناس Q ما هي حقيقة غضب من لم يقم له الناس؟ A الذي يغضب لأن فلاناً لم يقم له، لا يعلق المسألة بسفر أو أنه لم يرني منذ مدة؛ بل هو يحب أن يتمثل له الناس قياماً. ثم إن طلحة بن عبيد الله لما قام لـ كعب، فقال كعب: لست أنساها لـ طلحة؛ لأنه أثر فيه، لكن الصحابة لم يرتكبوا شيئاً من المخالفات عندما لم يقوموا له، فإذا علمنا أن الرجل يغضب إذا لم يقم له الناس؛ فاعلم أن هذا من الكبر الكامن في النفوس.

توجيه حديث: (قوموا إلى سيدكم)

توجيه حديث: (قوموا إلى سيدكم) Q هل يجوز الاستدلال بحديث: (قوموا إلى سيدكم) على القيام للآخرين؟ هذا الحديث له مناسبة: وهي أن سعد بن معاذ كان مجروحاً، وكان راكباً على الدابة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فكان القيام هنا لإنزاله وليس لاستقباله وتعظيمه، فلذلك لا حجة فيه.

حكم السلام مع المصافحة

حكم السلام مع المصافحة Q ما حكم إلقاء السلام ثم المصافحة بعد ذلك؟ A المصافحة لها فضيلة، لكن لو دخل وسلم السلام العام فإنه يجزئ، أما قول: السلام عليكم، مع كل مصافحة، فإن الذي يظهر هو إلقاء السلام على الكل ثم تتم المصافحة بعد ذلك.

كيفية تحريك الأصبع في التشهد

كيفية تحريك الأصبع في التشهد Q كيف تحرك الأصبع في التشهد؟ A توضع الأصبع بحيث تكون شبيهة بـ (51) ثم تحرك، وليس في الحديث رفع وخفض، إنما في الحديث تحريك، فيتم التحريك مع عدم انفكاك الإصبع عن القبلة.

كيفية الصعود إلى الركعة الثالثة بعد التشهد الأوسط

كيفية الصعود إلى الركعة الثالثة بعد التشهد الأوسط Q كيف يقوم من أراد الصعود إلى الركعة الثالثة؟ A بعض العلماء يرى أن الإنسان يعتمد على يديه إذا أراد أن يقوم، لكن خروجاً من الخلاف يقوم على راحة اليد؛ لأن هذه لا خلاف فيها بين العلماء. أما بالنسبة لرفع اليدين هل يكون والمصلي جالس أو قائم؟ فهناك ثلاثة أوضاع لرفع اليدين: إما أن يرفع وهو قاعد، أو يرفع مع القيام، أو يرفع بعد القيام. فهو مخير في هذه الثلاثة الأوضاع.

وقت إدراك تكبيرة الإحرام

وقت إدراك تكبيرة الإحرام Q متى يدرك المأموم تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ A يدرك تكبيرة الإحرام إذا لم يبدأ الإمام في قراءة الفاتحة؛ لأنه إذا كبر تكبيرة الإحرام -وهي ركن- ثم بدأ يقرأ الفاتحة، فيكون قد انتقل من ركن إلى ركن آخر، فإذا جاء المأموم فكبر تكبيرة الإحرام والإمام يقرأ الفاتحة أو يقرأ السورة، فلا يقال: إنه أدرك تكبيرة الإحرام؛ لأنه لا يدرك تكبيرة الإحرام إلا من جاء والإمام لم ينتقل إلى وضع آخر، أما إذا انتقل إلى وضع آخر -ركن أو هيئة- فهذا لم يدرك تكبيرة الإحرام.

الخطوات العملية المعينة على التمسك بهدي سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم

الخطوات العملية المعينة على التمسك بهدي سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم Q ما هي الخطوات العملية التي ينبغي للمسلم أن يسلكها حتى يسير على نفس منهج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؟ A كان وكيع بن الجراح يقول: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا عن كل مائتي حديث بخمسة. وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام يعمل به، حتى إنه روى حديثاً أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجام أجرة، فدعا الحجام فحجمه وأعطاه أجرة، ثم قال الإمام: ما كان بي من حاجة إلى الحجامة، لكن أردت أن أعمل بالحديث. فمن سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن ينفذه حتى ولو كان بخلاف هواه، وهذه المسألة تحتاج إلى تدريب وممارسة. وقد كان عبد الله بن وهب -الإمام المصري المعروف من تلاميذ الإمام مالك - يقول: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلما أجهدني الصوم نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، والأصل أن المسلم لا يتوسع في مسألة النذر؛ لأن الأشياء المستحبة أو المباحة تصير فرضاً بالنذر، فلو نذر الإنسان أن يصوم الإثنين والخميس، صار في حقه بمنزلة رمضان؛ لذلك لا يستحب للإنسان أن يكبل نفسه بالنذر، وليكن في سعة. لكن أحياناً قد يكون الإنسان متفلتاً، فهذا لا بأس أن يكبل نفسه بالنذر كنوع من الأدب، لكن لا يتوسع، فيقول مثلاً: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم، لكن يستحب له في النذر أن يستثني، فيقول: نذرت لله أن أقرأ جزءاً من القرآن كل يوم إلا إن عجزت، فإن عجز فلا يلزمه أن يكفر عن نذره. فالإنسان كأسلوب من أساليب التربية ينذر أنه إذا سمع حديثاً نفذه بقدر استطاعته ولا يتجاوزه، وإذا كان له أولاد فإنه يحاول أن يربيهم على هذا المنهج ويختبرهم. أحد الإخوة أراد أن يعلم ابنه الصغير أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام هو الأمر الأول، وأنه لا يجوز أن يقدم على أمره أحداً، فجلس معه ليلة، ثم قال له: إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يجب أن يطاع، وإذا أمرتك بأمر وأمر الرسول بأمر آخر، فيجب أن تخالفني وتطيع الرسول عليه الصلاة والسلام. وعند ذلك طُرق الباب، فقال له أبوه: قل له أنني في الخارج. فالولد لأنه صغير ولا يفقه هذه المسألة قال له: أبي ليس هنا. فنهر الأب ولده وقال له: أليس هذا من الكذب؟ قال: نعم، من الكذب. قال: ألم ينه الرسول عليه الصلاة والسلام عن الكذب؟ قال: نعم. قال: إذاً ما هو الواجب عليك في هذه المسألة: أن تخالفني كما اتفقنا أو تطيع أمري؟ قال: بل أخالفك. والولد كانت هيبة أبيه عنده كبيرة، فعندما يقول له: قل كذا -كذباً- فكان يطيع أباه، فيكذب، فيقول له أبوه: أليس كذا أليس كذا؟ حتى ترسخ في ذهن الولد مع مرور الأيام أنه لا يجوز مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام. فانظر كم أخذ الولد من الوقت حتى تربى على هذا الأمر! فزرع السلوك يحتاج إلى فترة من العمر، وهو كالرياضة تماماً. فتنفيذ النصوص يحتاج إلى ممارسة وإلى سمع وطاعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدينون بمخالفة الهوى؛ ففي غزوة تبوك تخلف أبو خيثمة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو خيثمة هو الذي تصدق بصاع من تمر فلمزه المنافقون كان أبو خيثمة متزوجاً بامرأتين، فلما دخل بيته وجد كل امرأة قد رشت الماء وجهزت الأكل والماء البارد، فتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخ! أنا بين زوجتين حسناوين، وماء بارد، وظل ظليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الريح والشمس، والله لا أدخل على أي واحدة منكما، جهزا لي الفرس، فجهز نفسه وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام. هذا الرجل عندما وجد نفسه في نعيم، وحبيبه رسول الله في الريح والشمس، لم يتحمل؛ لأنه شديد الحب للرسول عليه الصلاة والسلام، لذلك لم يدخل العريش ولم يشرب الماء، وانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام. إن المهمة في غاية الصعوبة؛ لأن المعين على الخير قليل جداً في هذا الزمان، وقد كان الصحابة رغم شدة ما كانوا يعانونه لكن كانوا جميعاً متكاتفين على شيء واحد، فنحن في زمان الغربة الثانية نعاني أشد مما عاناه أسلافنا في الغربة الأولى، فقد كانوا في الغربة الأولى عندهم من الإيمان ما يلوذون به في حال الكرب لقد كان بلال رضي الله عنه يلوذ بإيمانه إذا شدوا عليه في العذاب، لكن نحن الآن ليس عندنا من الإيمان ما عندهم، وعلينا من الضغط نحو ما كان عليهم، ونحن نقول هذا الكلام حتى نبين وعورة الطريق، فإن العبد إذا علم أن الطريق وعر استعد له، أما إذا كان يظن أن الطريق ممهد إلى آخره فاعترضته عقبة؛ فإنه قد يصاب بإحباط. ولذلك فإن بعض المسلمين الذين ينتسبون إلى الالتزام أول ما يصاب بمصيبة يسقط مباشرة؛ لأنه لم يتوقع أنه سيصاب بهذه المصيبة؛ لكنه لو علم أن هذا الطريق كله عقبات، وأنه لا بد أن يُبتلى فابتلي، فيكون قد وطن نفسه لذلك، فإن المفاجأة تضعف عزم القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم والحديث في البخاري بأخصر من لفظ مسلم -: (والله! لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة كان معه راحلته وعليها طعامه وشرابه، فظلت منه، فلما يئس استظل بظل شجرة ونام، فاستيقظ من نومه وإذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح). ومما يدل على ذلك أيضاً: قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، ولو افترضنا أن هناك إنساناً يأخذ مرتباً جيداً، فإن هذا المرتب لا يُشعر الإنسان بسعادة؛ لأنه أول كل شهر يعرف أنه سيأخذ المرتب الفلاني، لكن لو أنه ذهب ليأخذ المرتب فقالوا له: ومع المرتب نصف شهر مكافأة. فستكون فرحته بالمكافأة أعظم من فرحته بمرتب الشهر؛ لأنه لم يتوقعه، ولذلك يقول الله عز وجل:) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)؛ لأن فرحة المؤمن بالرزق من حيث لا يحتسب أعظم من فرحته بالرزق الذي يتوقعه. وكذلك على الجانب الآخر لو حصلت مشاجرة بين رجل وجاره فلطمه مثلاً، فإن هذا لا يؤثر فيه مثلما لو حدثت مشاجرة بين الرجل وابنه فلطمه ابنه، فإن هذه تكون أقسى بكثير جداً؛ لأنه لم يتوقعها. فأي شيء لا يتوقعه الإنسان يفت عزم القلب، سواء كان بالخير أو كان بالشر، فلذلك الإنسان الذي يمشي على هذا الطريق يجب أن يتوقع البلاء حتى لا يُصدم. نقول هذا الكلام تنبيهاً على أن الطريق مليء بالعقبات مع عدم وجود المساعد على الخير؛ بل هناك من يحاول إبعادك عن هذا الالتزام، فأنت تتوقع مثل هذه الغربة، وتعلم أنه لا معين لك على الخير؛ فتستعين بالله تبارك وتعالى في تنفيذ كل حديث يبلغك عن النبي عليه الصلاة والسلام، حتى تصبح بعد فترة -إن شاء الله- من المتمرسين على العمل.

حكم القيام لمن دخل مجلسا

حكم القيام لمن دخل مجلساً Q ما حكم القيام لمن دخل مجلساً؟ A لا يشرع قيام الجالسين للداخل إلا إذا قصد به الاستقبال، أما أن يقوم مجرد قيام فأكثر العلماء على تحريم ذلك وللإمام النووي رحمه الله رسالة في جواز القيام لأهل الفضل، وقد رد عليه كثير من العلماء فيها، فهو يرى جواز القيام لأهل الفضل من باب إنزال الناس منازلهم، لكن نحن عندنا أحاديث صريحة في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن القيام، منها: حديث أنس في الصحيح قال: (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك). فلذلك نوصي إخواننا في الله أن يظلوا على حالهم، أي: لا يقوموا إلا إذا قصدوا الاستقبال، أما أن يكون قياماً مجرداً فهذا مما يُنهى عنه. وقد جاء في تاريخ بغداد للخطيب في ترجمة الإمام الثقة علي بن الجعد: قال علي بن الجعد: دعا أمير المؤمنين المأمون تجار الذهب وناظرهم؛ لأنه كان يريد أن يشتري -يريد أن يرى الأرخص سعراً- قال: فخرج المأمون لقضاء حاجته ثم رجع، فقاموا جميعاً ولم أقم، فلما رأى المأمون ذلك غضب، وقال: أيها الشيخ! ما حملك على ألا تقوم كما قام أصحابك؟ قلت: أجللت أمير المؤمنين لحديث مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنا من القيام. قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني المبارك بن فضالة، عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الرجال له قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، قال: فأبطأ المأمون ساعة، ثم قال: ما ينبغي أن نشتري إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى مني في ذلك اليوم بثلاثين ألف دينار. يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. والبركة دائماً في تنفيذ كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. وهناك شبهة يذكرها البعض في هذا البحث، وهي في قوله عليه الصلاة والسلام -كما في حديث معاوية بن أبي سفيان عند أبي داود وغيره-: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار) قالوا: قوله: (من سره) والسرور أمر قلبي، فكيف يتأتى تنفيذ هذا الحديث وهو متعلق بأمر قلبي؟ والجواب: أن الحكم إذا كان متعلقاً بأمر قلبي فلا بد أن توجد قرينة في الخارج حتى يعلق بها الحكم، والقرينة هنا هي: غضب الرجل إذا لم يقم له الناس، فإذا كان السرور أمراً قلبياً لا نستطيع معرفته، فنحن نعلق الحكم بغضب الرجل، وهذه قرينة ظاهرة يمكن أن يعلق الحكم بها. إذاً: لو أن الرجل غضب إذا لم يُقم له؛ فهذا ممن ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار)، وتكون القرينة الخارجية التي عُلق بها الحكم هي الغضب الذي ظهر على وجه هذا الرجل؛ إذ أنه لو كان القيام والقعود عنده سواءً لما غضب أبداً، إذاً غضبه دليل على أنه ممن يُسر بذلك. وكذلك سائر الأحاديث التي يكون فيها الحكم متعلقاً بأعمال القلب، ولا سبيل إلى معرفتها، فلا بد من البحث عن قرينة خارجية نعلق بها الحكم، ويكون لها ارتباط بعمل القلب. لكن لو أن الناس قاموا لاستقباله، فهذا جائز؛ بدليل أن فاطمة رضي الله عنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام لاستقبالها وأجلسها في مكانه، وكذلك حديث زيد بن ثابت لما قدم على النبي عليه الصلاة والسلام فقام فاستقبله والتزمه -أي: اعتنقه-. ومن المسائل التي ينبغي التنبيه عليها أيضاً: مسألة العناق، فإن العناق لا يكون إلا لمن أتى من سفر، أما إذا كنا من أهل الحضر، ونحن نلتقي ولو على فترات متباعدة، فإنه لا يشرع هذا العناق الذي يكون عادةً بين الإخوة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل -كما في سنن الترمذي-: (إذا قابل الرجل أخاه أيقبله؟ قال: لا. أيلتزمه -يعني يعتنقه-؟ قال: لا. أينحني له؟ قال: لا. أيصافحه؟ قال: نعم). فلا يشرع في هذا كله إلا المصافحة، أما العناق والالتزام فلا يكون إلا للقادم من سفر، كما جاء في حديث زيد بن ثابت الذي حسنه الإمام الترمذي: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء زيد المدينة قام إليه واعتنقه)، وحديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه الإمام أحمد وغيره، لما بلغه أن عبد الله بن أنيس عنده حديث لم يسمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، فابتاع جابر بعيراً وسار عليه شهراً، حتى وصل إليه، فقال للغلام: قل له: جابر. فقال عبد الله بن أنيس: ابن عبد الله؟! فقال له: نعم، قال: فخرج فاعتنقني -أو قال: فالتزمني- وقال: ما جاء بك؟ قلت: حديث بلغني عنك إلى آخر الحديث. فهذا الصحابي الجليل عانق أخاه بعد القدوم من سفر، أما ما يحدث بين الإخوة من التقبيل -وبالذات قبلة الخد- فهذا أمر عجيب جداً! إنما التقبيل الذي ورد في الأحاديث هو التقبيل في الجبهة، أي: ما بين العينين، هذا هو الذي يشرع دون غيره.

ابن تيمية

ابن تيمية إن الناظر في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وما وهبه الله من العلم، والحجج والبراهين في دحض شبه أهل الأديان السماوية وأهل البدع من أهل الملة ليجد أن كل من أتى من العلماء بعده عيال عليه. فهم يستمدون من علمه، ويلتمسون من سمته وهديه وأدبه وحسن مناظرته لأهل البدع، ولا يجدون ردوداً أقوى من ردود ابن تيمية رحمه الله، كما ضرب أروع الأمثلة لأهل الابتلاء ممن سجنوا وعذبوا فقد سطر لهم عناوين السعادة، وعبارات الشهادة، وألفاظ السيادة في الدنيا والآخرة، فرحمه الله من مجدد لمجد الإسلام رحمة واسعة.

الرضا بقضاء الله وقدره

الرضا بقضاء الله وقدره إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. فمن أعظم الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو: رضاه بقضاء الله عز وجل، أكثر الناس يصبر على القضاء، لكن أقلهم يرضى، لذلك قال العلماء: الصبر على القضاء واجب، والرضا به مستحب، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأسألك الرضا بعد القضاء) وأنه لا يرضى عن الشيء الذي يكرهه إلا الأفذاذ من الناس، أين هذا النوع في الناس؟ يبتلى بضد ما يكره فيبتهل إلى الله شكراً، تستوي عنده النعمة ويستوي عنده الضر، أقل الناس هم الذين يصبرون على البلاء. الذي ينظر إلى حياة شيخ الإسلام رحمه الله تراه كان يرضى بالحبس إذا خير ولا يهاجر في الله تبارك وتعالى، موقفه مع غازان موقف مشرف، موقف العالم الثبت، لما قدَّم غازان للعلماء طعاماً أكلوا وأبى شيخ الإسلام رحمه الله أن يأكل، فقال له غازان: لِمَ لم تأكل؟ قال: وكيف آكل وهذا مما نهبتموه من أموال الناس، وطبختموه على ما قطعتموه من شجر الناس؟! لذلك نحن الآن نتكلم عنه: أين خصومه؟ أكاد أقطع أنه لا يوجد فيكم إلا القليل ممن يعلم خصوم ابن تيمية، من يعرف ابن الزملكاني أو ابن الوكيل، أو نصر المنبجي أو تقي الدين السبكي؟ ربما تعرفون أبا حيان النحوي صاحب البحر المحيط، وتاج الدين السبكي عبد الوهاب بن تقي الدين، وابن مخلوف ذاك الشيطان -كما يصفه الشوكاني - رجل مصاص للدماء، ومن عيوب المذهب المالكي التوسع في القتل تعزيراً، يعني: يجوز للسلطان أن يعزر، وتعزيره يصل إلى القتل، فيتوسعون في إهدار الدماء تعزيراً، وكان ابن مخلوف يتوسع في هذا جداً. كل هؤلاء كانوا علماء ولهم مصنفات، ولكن أين ذكرهم الآن؟ شيخ الإسلام رحمه الله من وقت ما ظهرت إمامته سنة (698هـ) عند أول محنة، في العقيدة الحموية الكبرى، وهو مثار جدل عريض إلى هذه الساعة، وهو صاحب فضلٍ على كل الحركات الإسلامية المعاصرة الآن، والكل يأخذ من كتبه وإنما يأخذ من بحر. فهذا هو الذكر الحسن الذي لا يجعله الله عز وجل إلا لمخلص، الذي يقرأ سيرة شيخ الإسلام يشعر بالرضا في تصرفاته، ما نقم، آخر مرة أخذوه في قلعة دمشق فقال قولته التي صارت مثلاً يتمثل به الدعاة المضطهدون، قال: (ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما حللت فهي معي -جنته وبستانه: الكتاب والسنة، هي معه أينما حل- إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني من بلدي فسياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة) هو على أي وجهٍ راضٍ، ويرى أنه يؤدي واجبه، وفي أي وجهةٍ يوجهونه يذهب إلى الله تبارك وتعالى، قتلوه شهادة، حبسوه خلوة، نفوه عن بلده سياحة. فقد وظف كل حياته لله تبارك وتعالى، ترى فيه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] كل حياته له، لذلك ما ضره التشريد، وما ثناه عن رأيه يوماً ما، والله تبارك وتعالى حما هذا الدين بهؤلاء العلماء، ولو داهن العلماء في كل جيلٍ ما وصل إلينا العلم والدين. إن الكتب التي صنفت في بيان معاني القرآن والسنة لو وضعت إلى جنب بعض لغطت الكرة الأرضية؛ كل هذا لبيان معاني الكتاب والسنة أي دينٍ أعظم من ديننا؟! وهل هناك أتباع دينٍ خدموا دينهم كأتباع ديننا من العلماء؟ أبداً. المطبوع الآن من الكتب لا يساوي ثلث الذي لم يطبع، ناهيك عن الذي وضعه التتار في نهر دجلة والفرات، وأرادوا أن يعبروا النهر فردموه بالكتب، فجعلوا الكتب قنطرة حتى اسود ماء الفرات ثلاثة أيام، ما استطاع أحد أن يشرب شربة ماء من الفرات، الجزئية الواحدة يصنفونها جزئيات، وكل جزئية فيها كتب، وذلك لوضع ضوابط لفهم الكتاب والسنة، وكان من أعظم من أبلى البلاء الحسن في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قال الذهبي رحمه الله: مصنفاته خمسمائة مجلد تفنى الأعمار في كتابتها فقط، فضلاً عن تصنيفها وتأليفها. أين وجدوا الوقت للتصنيف، والوقت للدعوة، والوقت للمناظرات، والوقت لقضاء حاجات العوام؟ تأسف الفقراء جداً لموت شيخ الإسلام في دمشق؛ لأنه كان ينفعهم ويعينهم، وكان كثير الجلوس إليهم، وقال مترجموه: قلما وجد في مجلس الأغنياء أو مجالس السلطان. يقول: (ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما حللت فهي معي) يشعر بالرضا، ويزيد على الشعور عندما أغلقوا عليه باب القلعة، ودخل ونظر إلى سورها العالي، ثم قال: (والله لقد أنعموا عليَّ بنعمةٍ ما أستطيع أن أوفيهم شكرها، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ما كان أسرع انتزاعه للآية الدالة على المعاني! يقول الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته: كان عجباً في انتزاع الآيات، حتى كأنما وضع القرآن بين عينيه، وكان الكبراء يقلبون أيديهم ورءوسهم دهشةً لما يأتي به من المعاني. وهنا احتجاجه بهذه الآية احتجاج حقيقي لا يعرفه إلا كل سجين في الله، وأقول: (في الله) أنه لا يشعر بهذه إلا المبتلون في الله عز وجل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] الذي هو سور السجن، {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13]. إياك أن تتصور أن الذي سجن في الله معذب أو متعب، هو أنعم قلباً منك، ربما أنت وليه محتار، تبحث عن تصريح زيارة، وتبحث عن مال لتجهيز أكل، وتبحث عن مواصلة لتذهب إلى السجن، فهو عذاب بالنسبة للذي في الخارج، لا يكاد يذهب إلا ويهيئ نفسه من جديد للزيارة القادمة، لكنه يراجع ورده، أو يحفظ الذي لم يحفظه، أو يتلو في الكتاب، أو يقرأ في السنة فهي رحمات.

ابن تيمية وقولته المشهورة في قلعة دمشق

ابن تيمية وقولته المشهورة في قلعة دمشق

الحويني ومعايشته لكرامات الدعاة المسجونين

الحويني ومعايشته لكرامات الدعاة المسجونين الذي عاين السجن في الله تبارك وتعالى يرى الكرامات، والله لقد رأيت بعينيَّ أشياء أحكي لكم بعضها:

رجل يسحب بالفرس وهو يقرأ القرآن

رجل يسحب بالفرس وهو يقرأ القرآن الذين عاينوا السجن قديماً في الستينيات لهم مواقف أشد مرارة، يأتي أحد النواب المصريين في كتابٍ له اسمه الطريق إلى المنصة يقول: وهذا الرجل كان الذراع الأيمن للمشير عبد الحكيم عامر، إذا أراد المشير أن ينام مع امرأة يذهب إلى باريس فيأتي له بغرفة النوم -يعني: رجل من أوليائه- وكان صلاح نصر آنذاك يصور المشير عارياً مع المرأة، وهو صديقه الحميم، لعله يحتاج إليها في يوم من الأيام لا يوجد في قواميس هؤلاء معنى للوفاء ولا للصداقة. المهم: فقد صلاح نصر الصور: أين ذهبت؟ صار خائفاً أن ينكشف أمره. فسام كل الذين من حوله من أصفيائه وأوليائه سوء العذاب بحثاً عن هذه الصور. يقول الرجل: وفي الساعة الثالثة من الليل هجموا على البيت، فأخذوني وقالوا: أين الصور؟ قلت: أي صور؟! والله ما أعلم شيئاً. قالوا: لا، أخرج الصور. قال: وعلقوني كالذبيحة، وعشت أياماً لا شمس لها ولا قمر، لا يسمع عنها الزمان! ودخل مع الإخوان آنذاك، قال: رأيت بعيني منظراً لا أنساه، رجل عمره يزيد على الستين! عجوز! أخذوه وربطوا يديه ورجليه، ثم ربطوه في ذيل الفرس، وعاد الفرس هارباً، فيستحثون الفرس على الجري فيجري والرجل يجرجر على الأرض، ظل في دوران مدة نصف ساعة، فلما انتهى هذا الشوط من التعذيب أصبح الرجل كأنه نصب أحمر من كثرة الدماء. قال راوي القصة: المدهش أن الرجل جاء ينطق بالشهادة ويقول: الحمد لله، أنهيت وردي! كيف لهذا الرجل أن يقرأ وهو يعذب؟ من الذي ثبت فيه العقل، أو ثبت فيه قوة القلب؟! إياك أن تتصور أن حياة المبتلى في الله حياة ضنك لا والله! إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرصة) عندما تطير عنقه لا يشعر بشيء، وهو أول القربات، قرصة واحدة وانتهى الأمر. وهذا مشاهد، أحياناً الإنسان وهو يعمل عملاً فيه مكسب بدني ممكن تقطع يده أو عنقه وهو لا يدري إلا بعد ذلك، الصبر على القضاء واجب، لكن الرضا به مستحب، ولا يرضى إلا المؤمنون حقاً.

رجل عنده قرحة فأذهبها الله عنه

رجل عنده قرحة فأذهبها الله عنه في سنة (1981م) كان هناك رجل عنده قرحة شديدة في المعدة، وكان يهيئ نفسه لعملية جراحية لقص جزء من المعدة؛ لأن الأكل كان عبارة عن شيء من العذاب بالنسبة له، فلما دخل وكان معه بعض أكياس للحموضة لا يستطيع أن يأكل إلا بها، وقد أخذوا ماله وأخرجوه، فلما كان الكيس الأخير لا أنسى منظره أبداً وهو يمر على إخوانه ويسألهم أن يدعوا الله له في السجود أن يرفق به في الأكلة القادمة؛ لأنه إذا أكل كأن ناراً تشتعل في معدته. فطعام السجن وخبزه كلها حموضة: فول! وعدس! وجاءت الوجبة التي يخاف منها، فأكل نزراً يسيراً وقام جائعاً، ولم يشعر بتعب، وفي العشاء أكل لكنه كان جائعاً؛ فأكل وزاد في أكله، وظل ساهراً ينتظر الألم لعله يأتي فجأة! لكنه لم يجد ألماً، وفي اليوم الثاني أَكَل أكلاً عادياً ولم يشعر بشيء، فظل سنة وأربعة أشهر يأكل، حتى فتحت الزيارات فسأله أهله: أتحتاج إلى دواء؟ قال لهم: رفع الله المرض! وأكل كل شيء. أين ذهب المرض؟ إن الله تبارك وتعالى لا يترك عباده المتقين يتخطفون في الأرض، لا بد أن تظهر الآيات إن الله لا يترك عبده إذا غُلب يظهر له المعجزة. الشيطان الرجيم يبدل نظر المرء بالنسبة للمرأة -وهو مخلوق- قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان) ما معنى صورة شيطان؟ هل المرأة تتحول إلى شيطان؟ لا، إنما وصلت القدرة للشياطين أنها تزين هذه المرأة القبيحة للرجل، فيراها أجمل النساء، حتى إذا واقعها رآها على حقيقتها. فالله تبارك وتعالى رفع عن هذا الرجل المرض، فلما صار بإمكانه أن يأتي بالدواء رجع إليه، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المعونة على قدر المئونة) المعونة تكون على قدر المشقة.

قشر البرتقال وحلاوته في السجن

قشر البرتقال وحلاوته في السجن مثال آخر عايشته بنفسي، قال لنا أحد العلماء: لماذا تقشرون البرتقال؟ هذا تبذير! فقلت له: وكيف تأكل القشرة يا مولانا؟ قال: نحن في سجن، والقشر هذا يشغل حيزاً في المعدة، فلا ينبغي أن نضيعه، فأكل البرتقال مباشرة، وأنا أنظر للرجل متعجباً! قال لي: جرِّب. قلت: لا أستطيع. قال: جرِّب. فأكلتها بقشرها، والله الذي لا إله غيره كأن القشرة أشد حلاوةً من البرتقال! وظللت على هذا أربعة أشهر، فلما خرجت قلت لبعض إخوتي: نحن نتصرف تصرفاً فيه رعونة: لماذا نقشر البرتقال، إن قشرته جميلة؟ فقالوا لي: هل جرى لعقلك شيء؟ قلت: والله كان القشر أعظم حلاوة من البرتقال! أعطني برتقالة، فقضمت قضمة واحدة ثم تركتها، ما استطعت أن أبلعها.

العلماء ومسئولية الدعوة إلى الله ومقارعة أهل الزيغ والفساد

العلماء ومسئولية الدعوة إلى الله ومقارعة أهل الزيغ والفساد ينبغي ألا يفرط المرء في دينه بمجرد أن يعايش شيئاً من الإرهاص في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وهذا من الحمق، وقلة الصبر، وضعف القلب كيف يجعل إيذاء الناس كعذاب الله؟! {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، فكيف تسوي بين هذا وبين عذاب الناس؟ لكن القوة قوة القلب، والضعف ضعف القلب. الدعاة إلى الله تبارك وتعالى إذا فرطوا ظهر كل خبث في الأرض، إن كل البدع الموجودة الآن بسبب سكوت العلماء، ماذا يطلبون؟ ماذا يريدون؟ يريدون مالاً؟ ضعف الأزهر يوم صار شيخه بالتعيين من قبل الحكومة، وكان قديماً قوياً؛ لأن الذي كان يعين شيخ الأزهر وينتخبه هم العلماء، وذهبت الأوقاف لما ذهبت أوقافها، واستذل العلماء بلقمة عيش؛ فصار أحدهم لا يستطيع أن يجهر بكلمة الحق. وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها لذلك إذا وجدت العلماء عندهم جرأة على إقامة الحق؛ تختفي الخفافيش، لكن إذا رأيتهم يهاجرون، تنتهك أعراض الأمة وهم سكوت، وتعتلي القلة القليلة على الكثرة الكاثرة، ولا يظهر على الساحة إلا من يقول بالسماحة، والإسلام دين السماحة، كأن الإنسان عاجز عن تأديب المخالفين، هو يقول: الإسلام دين السماحة ولا يظهر إلا هذا، حتى ظهر الأمر في المرجئة بأقبح وجهٍ في هذا العصر. الآن خطباء المساجد منعوا أن يتكلموا عن النار وعذابها وحيَّاتها وعقاربها، يقول لك: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا) فإذا ذكرت رجلاً عاصياً بعذاب الله نفرته، أي تنفيرٍ في هذا؟ إذاً: رب العزة نفر الناس من الدين! عندما ذكر عذاب النار ولهيبها وشدة اضطرامها! النبي عليه الصلاة والسلام نفر الناس من الدين، عندما قال لهم -وقد سمع الصحابة صوتاً، أي: ارتطام حجر بالأرض-: (هذا حجر ألقي من أعلى النار منذ ألف عام، فما وصل إلى قعرها إلا الآن). وعندما يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن الغسلين والزقوم كان ينفر الناس من الدين! نفترض أننا نتكلم عن الجنة، وأن كل الناس سوف يدخلون الجنة، ولن يدخل النار أحد -حتى النصارى، وجد في المسلمين من يكتب كتاباً أن اليهود والنصارى في الجنة، وأنهم من المؤمنين، وجد هذا وطبع ونشر، وقبل أن ينشر في كتاب نشر على صفحات صحيفة الأخبار سنة (76) م-. فإذا وصل الحال إلى هذا التردي، ولا يميز الذين آمنوا من الذين كفروا، ولا بد أن يستخفي الذين آمنوا إذا حصلت شبهة مع الذين كفروا! فمتى يقام لله تبارك وتعالى دين في الأرض؟ لا يمكن أن يمكن لنا ديننا، إن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحداً، لسنا أعز عليه من اليهود والنصارى إذا كنا مثلهم: ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب إلا التقوى والعمل الصالح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] (أقاموا الصلاة) فإذا كان لا يصلي في الأرض كيف يُمكن له؟ لذلك كان قيام شيخ الإسلام ابن تيمية -والمخلصون من أصحابه- كان له أكبر الأثر في دخول خفافيش أهل البدع في جحورها، وما طائفة الرفاعية عنا ببعيد؛ الرفاعية الذين يتعاملون مع الثعابين، ويأكلون الزجاج، ويدخلون النار في أفواههم، ويدخل السيخ في بطن أحدهم فيخرج من ظهره. أغلب الناس بسطاء ينخدع بهذا ويظن أنه من علامة الولاية، وهذا من الخطأ المتفشي عند العوام: أنهم يجعلون الولاية مجرد الخارقة، وهناك فرق بين الأشياء الخارقة وبين الكرامات، فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما رأى مثل هذا الأمر وهاله ذلك، والناس من أتباعهم كل يوم يكفرون، وقف لهم، وبين عورهم، وأنهم مخالفون للكتاب والسنة عقيدةً وفقهاً؛ ولأن الرجل كنا نحسب فيه الإخلاص كان كلامه عليه نور وفيه حرارة؛ فأثر هذا فيهم. وشكوه إلى السلطان وقالوا: ابن تيمية يتكلم في الأولياء، فقال شيخ الإسلام: ما هم بأولياء إنما هم مبتدعة، فجمعهم السلطان بعد مظاهرة منهم، وحصلت مناظرة بين شيخ الطريقة وبين شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الظفر لشيخ الإسلام ابن تيمية كالعادة في كل مناظراته -وكان في المناظرة كما يقول الذهبي: كأنه ليث حرب، ونار تحرق في المناظرة، قوي الحجة-. قال السلطان: ولكنهم لا يفعلون ذلك إلا بتغيير، أي: الرجل يأكل النار، ويضع السيخ في بطنه ويخرج من ظهره، ويأكل الزجاج، وهم بشر مثلنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنا وهم ندخل هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفدع وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: سأغسل جسمي بالخل، وهم كذلك يغسلون أجسامهم بالخل، وندخل جميعاً النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد الرجل ويقول له: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله. فلما رأى السلطان جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي مرتعداً، والحق أصبح واضحاً أبطل هذه الطريقة، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله، فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها؟ فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم عليه السلام لقوة رجائه في الله، فقوة الرجاء في الله وصدق اليقين يحرك الحجر. وما قصة جريج عنا ببعيد: لما خرج عن قومه وهجرهم، وبنى له صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد فكان إذا أراد أن ينزل نزل بحبل وتركه حتى يقضي حاجته ثم يتسلق بالحبل، وبعدها يشد الحبل، حتى لا يخالط أحداً. فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه وتنادي عليه، تريد أن تراه، فوافته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج عند دعائها لولدها- فصادف أن كان جريج يصلي، وسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ يعني: أجيب أمي أو أكمل صلاتي، فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره. ولما جاءت في اليوم الثاني ونادت: يا جريج! أجبني. صادفته وهو يصلي، فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه. وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً فنادت: يا جريج! أجبني. فصادفته وهو يصلي: فاختار صلاته؛ فدعت عليه: ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات اللواتي فر منهن، فر من فتنة النساء، فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فر منهن. تحدث الناس -وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه- عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف له صبر أن ينقطع عن الناس؟ وكيف له صبر أن يتعبد كل هذه العبادة؟! فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا لها: قد شئنا. فذهبت المرأة وتعرضت لـ جريج فلم يلتفت إليها، فمكنت منها راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة ليرعى غنمه، فحملت المرأة وصارت تمشي، وأصبح جميع الناس يعلمون أن هذه المرأة حامل من جريج، وقالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه. تركوا المرأة لما ولدت، وهنا جاءت فرصة اليهود، وأدركتهم الغيرة على الشرع والدين، كل شخص أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج، وهم الذين قالوا للبغي: إن شئت فتنته. العابد جريج يصلي وإذا به يفاجأ بأصوات تكسير! فقطع صلاته ونظر، فإذا بهم يكسرون الصومعة من تحته، سيهدمونها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! أحبلت المرأة؟! كنا نظنك أعبدنا. فدلى الحبل ونزل، فأوسعوه لكماً وضرباً: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا خطيئاتنا يوم القيامة، فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه عباد الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه -لأنها تندلق من دبره- ويدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيقول أهل النار: يا فلان! أو لم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) شيء فظيع! كل الناس وقعوا في صفين يتفرجون على جريج، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه ليقيموا عليه الحد، فهذه النخبة اليهودية تدعي الورع اليهودي الكاذب- تبسم. فاندهش الناس؛ لأن هذا ليس وقت تبسم، هذا وقت إرهاص واضطراب. فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي -ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات- وذهبوا به إلى ملك القرية، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فيا للعجب! يعني: ابنته زانية وتركها، ويريد أن يقيم على الزاني -بزعمهم- الحد! هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً؟ ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا فأحبلت المرأة! قال: دعوني أصلي ركعتين -كل إنسان إذا اضطر ليس له إلا الله- صلى ركعتين، ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع وهو ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه فنخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟! فقال الغلام: الراعي. ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة! هل جرت العادة أن ينطق الطفل وهو ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج؟ لا ما جرت العادة بذلك، لكن صدق رجاؤه في الله فأنطق الغلام، وليس الذي عاين الخبر كالذي سمعه. لذلك يقول

الناس تجاه البلاء معادن

الناس تجاه البلاء معادن الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الناس أمام البلاء معادن، منهم من يدخل البلاء فيخرج وهو أكثر صلابة وقوة، ومنهم من إذا دخل احترق، والفرق بين هذا وذاك: ما عند هذا من اليقين والصدق، وخلو ذاك من هذا اليقين والصدق. فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه -وهو ممن ابتلي في الله أشد البلاء- كان جالساً مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وعمر أمير المؤمنين- فقال عمر: ما هناك أحدٌ أحق بهذا المجلس من بلال -أي: ليس هناك أحد أحق أن يكون خليفة المؤمنين لبلائه في الله تبارك وتعالى من بلال -. فكشف خباب عن ظهره، وقال: انظر يا أمير المؤمنين! فبهت عمر لما رأى ظهر خباب وقال: ما هذا؟ قال: أشعلوا لي ناراً عظيمة وساوموني على ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم فما أطفأ النار إلا ودك ظهري. ابتلي في الله أشد البلاء وصبر، وكانت العاقبة له، كما كانت لسائر المؤمنين، هؤلاء لا يجعلون عذاب الله كعذاب الناس أبداً. ويقول خباب رضي الله عنه: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردةٍ في ظل الكعبة. فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، وكان متكئاً فجلس، وقال: قد كان من كان قبلكم يؤتى بالرجل، فتحفر له حفرة، وينشر بالمنشار نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعصبة ولا يرده ذلك عن دينه). أي إنسان مهما بلغت درجة إيمانه يحتاج إلى مثل هذا التسلي، الرسل -وأعظمهم نبينا عليه الصلاة والسلام- أنزل الله قصص الأولين عليه ليسليه رغم قوة إيمانه، ولما حدثت موقعة بدر ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، وبالغ في رفع يديه حتى سقط برده من على منكبيه، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فيقول أبو بكر رضي الله عنه -وقد أمسك بكتفه عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، إنه منجز لك ما وعدك) يستصرخ يريد النصر وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأي إنسان مهما بلغ إيمانه يحتاج إلى التسلي، يحتاج إلى ضرب المثل له ليعلم أنه ليس على طريق البلاء وحده. وها هو الإمام مالك يجلده أمير المدينة بأمر من أبي جعفر المنصور بسبب فتوى يفتيها ورأي يتبناه، ويموت أبو حنيفة في الحبس، ويحبس الإمام أحمد سنتين، وجلد في يوم الإثنين وهو صائم حتى أغمي عليه ثلاث مرات، ويقولون له: أفطر. فيأبى أن يفطر، والمجلود يحتاج إلى شربة ماء، وقُيد الإمام الشافعي وجلد بالجريد وهو مقيد، تهون عليك نفسك فلا تغتر، وتقول: لا. أنا إمام متبوع، أو أنا رجل له ذكر، أو أنا رجل فاهم، ولكن إنما أنا منتسب إلى العلم بسبب تقول هذا، فتهون عليك نفسك، ولذلك نهاية التسلي الاغتباط، الذي يتسلى فيستحضر ما جرى للمؤمنين قبله يغتبط، وهو الرضا بالقضاء. إذاً: سبيل الرضا بالقضاء استحضار قصص السالفين من الأنبياء والمرسلين، وسائر أوليائهم وأتباعهم، إذا تذكرت ذلك اغتبطت وشعرت ببرد الرضا، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة: (أسألك الرضا بعد القضاء). إن عائشة رضي الله عنها وهي من هي إيماناً وثقة وزهداً وقرباً، لما حدثت حادثة الإفك، فقالت: (فظللت يوماً وليلة أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فدخلت فأذنت لها، فدخلت تبكي معي). هذا هو التسلي، عندما يمرض الإنسان وينقطع الناس عنه يشعر بالذل، هذا هو الذل، لا يسأل عنه أحد، أين خدماتي؟ أين عمري أهديته لفلان وعلان، أين أين؟ ماذا كنت تفعل لله؟ لذلك يشعر المرء بذل إذا انقطع العوَّاد، لكن إذا تتابع الناس عليه لا يشعر بالذل، ولذلك قالت الخنساء لما مات أخوها صخر: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي إنها تراعي أن كل إنسان يبكي فهو يشاطرها المصيبة، فتهون مصيبتها عليها. كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين) بالصبر: لأن هذا البلاء لا ينفك عن الدعاء إلى الله عز وجل، مصداقاً لقول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، إذاً: العداء ملازم لدعوة الأنبياء، فيحتاج إلى الصبر على الناس والصبر على العذاب، واليقين: أن الله لن يخذلنا ((وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) [القصص:83] هذا هو الذي يوصلك، وهذا كان الظاهر جداً في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا والحمد لله رب العالمين.

أدب الحوار عند ابن تيمية

أدب الحوار عند ابن تيمية إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. من الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: معرفة أدب الحوار. فإن شيخ الإسلام رحمه الله بعدما ظهر عليه النضوج صارت حياته كلها معارك في كل الجهات، ولا شك أن هذه المعارك تخرج المرء عن حلمه أحياناً لصلابة المعارض، فأحياناً لا تستطيع أن تتحمل طريقة جدال الإنسان الذي أمامك، فتغضب عليه فتخرج منك عبارات نابية، وهذا لا يصدر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول في بعض المناظرات لخصومه: أنا أعلم كل بدعةٍ في الإسلام وأول من ابتدعها؛ وذلك لعنايته الفائقة؛ لأن هذا يحتاج إليه في الرد، فهناك بدع قد لا تحتمل الصبر عليها، ومع ذلك تجد أن التزامه بالحوار العلمي الهادئ شيء عجيب. كان معه مرة غلام يتحدثون حول التكفير، ثم تطرق الكلام على تكفير الحاجب، وجاء الدور في الاستدلال بقول ابن عباس الصحيح عنه (كفرٌ دون كفر). فقال هذا الغلام: ابن عباس رجل وأنا رجل، أي: نحن الآن في ميدان البحث العلمي الحر، فـ ابن عباس كما أنه رجل فأنا رجل، وكما أنه مخاطب بأدلة الشريعة فأنا أيضاً مخاطب بأدلة الشريعة، وأنا رجل لي اجتهادي ورأيي، فلا تحتج لي بقول ابن عباس. وهذا أصل من أصول هذه الجماعة: أن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأن قول الصحابي إذا كان ليس بحجة فلم يبق إلا الكتاب والسنة، لكن بفهم من إذاً ندخل على الكتاب والسنة؟ بفهمي وبفهمك وفهم (س) و (ص) و (ل) و (ع) و (ض) و (خ) بفهم كل هؤلاء ندخل على الكتاب والسنة، ولو اختلفت أنا وأنت و (س) و (ص) و (ل) و (ع) أليس ينبغي أن يكون هناك حاكمٌ نرجع إليه عند الاختلاف؟ سيقول لي: الله والرسول صلى الله عليه وسلم، نحن لسنا مختلفين في هذا، لكن أنا معي حديث وأنت معك حديث، وأنا احتججت بآية من القرآن، وأنت احتججت بآية، فمن الذي يفصل في المسألة؟ فتركوا فهم الصحابي هذا الأصل الذي انبثقت ثلاثة أرباع البدع بسبب إهماله وتركه، وإنما تركوا عمل الصحابة أو فهمهم لأدلة الكتاب والسنة عمداً. فيقول إذاً: أنا متعبد بالكتاب والسنة، وهو متعبد كذلك أي: نعم، والأمي الجاهل متعبد أيضاً، فكم رجل جاهل أمي أحسن منه في الاستدلال! ذهب مرة ثلاثة منهم يسألون عن زميلهم، وزميلهم يعرف قرية من قرى دمياط، فدخلوا وسألههم أبوه: تفضلوا، حتى يأتي، فدخلوا، فقدم لهم أكلاً، وبعدما أكلوا كسروا الأطباق وكسروا الملاعق، فدخل الرجل فرأى أمامه كأنه أمام هناك معركة حربية، وأشلاء المعركة موجودة، والأثاث مكسر كله، ما هذا يا جماعة؟ قالوا له: هذه الحاجات لم تكن موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. فكان أذكى وأفضل منهم في الاستدلال، فعندما يأتي هو ويقول: إن ابن عباس رجل وأنا رجل، فقال بعض أصحابي في رد لطيف عليهم: طيب، خليك رجل وهو رجل، لكن تميز ابن عباس عنك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فأنت من دعا لك؟! هذا معه دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت ماذا معك؟ فيقوم هذا الغلام يماري ويقول لك: وما أدراك أن دعوة الرسول استجيبت؟ فأنكر عليه إخوته هذا الكلام، فعندما تجد شخصاً يقول مثل هذا الكلام ممكن تفقد أعصابك وأنت تكلمه، فشيخ الإسلام ابن تيمية كان يناظره أناس بأقوال لا يقولها الشيطان الرجيم، وكان يرد عليهم وهو واسع الصدر حليم، مع الحدة التي كانت تعتريه لكن في الله، حتى إن الذهبي رحمه الله قال: لو لان لخصومه لكان كلمة إجماع، فخصومه معترفون أنه بحر لا ساحل له، هو يغرف من البحر وهم يغرفون من السواحل انظر إلى التعبير! ومن خصومه: ابن الزملكاني نفسه، أول ما رأى ابن تيمية أنشد ثلاثة أبيات على البديهة لترفع ابن تيمية إلى مصاف العلم والمجتهدين، وقال ابن الزملكاني -الذي هو عدوه اللدود-: اكتملت في ابن تيمية كل آلات الاجتهاد على وزنها. وأبو حيان النحوي صاحب البحر المحيط في التفسير والنحو كان في النحو واللغة أشهر من نار على علم، كان يتمنى أن يرى ابن تيمية، فلما رأى ابن تيمية أنشد أبيات شعر وترحيب بـ ابن تيمية أيضاً على البديهة، وظل ابن تيمية هو الإمام الأوحد؛ حتى حصلت مناقشة بين ابن تيمية وبين أبي حيان في النحو. فلما حصل خلاف في جزئية من النحو، قال أبو حيان: قال بها سيبويه. أي: كيف ترد على سيبويه؟! وسيبويه أشهر إمام نحو بصري، وكان هناك مدرستان: مدرسة بالكوفة على رأسها في ذلك الوقت الكوفي علي بن حزم صاحب القراءات السبع، وكان سيبويه في البصرة. فلما قال له: قال بها سيبويه! قال له: ما كان سيبويه نبي النحو -يعني: سيبويه ليس معصوماً من الخطأ- ولقد أخطأ في ثمانين موضعاً في كتابه أنت لا تعرفها، فكان ذلك سبباً في وقوع الوحشة بينهما، فكان أبو حيان يذكره بكل سوء في كل مجلس بعدما كان البارحة يمدحه ويثني عليه، وهكذا حسد المعاصرة داء من أعظم الأدواء المانعة لوصول الحق، كل شخص يريد أن يكون هو الإمام، ويريد أن يأتي الحق عن طريقه؛ حتى يقال ويشار إليه بالبنان، هو الذي قرر المسألة، وأبرز الحق، وهذا كله مناف للإخلاص وتجريده لله سبحانه. ولذلك صدق الإمام الشافعي رحمه الله لما قال: ما ناظرت أحداً على الغلبة -لم أناظره لكي أغلبه- وما ناظرت أحداً فوددت أن يهزم، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه. هذا هو شأن العلماء، المهم: ظهور الحق للناس، أما أن يظهر على يد فلان أو علان فهذه مسألة جزئية لا ينبغي للعالم المخلص أن ينتظرها، لأنها جزء من حظ النفس، وهو حظ الشيطان من العلقة الموجودة في قلب ابن آدم. فشيخ الإسلام ابن تيمية كان الكل معترف بجلالته، وكان يأخذ كلام أهل البدع من كتبهم، وهذا أقوى في إقامة الحجة. وهذا ابن حزم كان على الأشاعرة نار تحرق وبحر يغرق، كان يصلي الأشاعرة بالنار، لكنهم دخلوا عليه؛ لأنه أخذ فكر الأشاعرة من أناس ينقلون عن الأشاعرة، لم يأخذ فكر الأشاعرة من كتبهم -من أهل الفكر نفسه- فالناقل يخطئ، فإذا أخذت قول الناقل وحاججته قال لك: أنا لا أقول بهذا، أخرج من كتبنا هذا القول، فيعجز المناظر أن يخرج هذا القدر من كتب الخصوم. لذلك كان ينبغي لأي رجلٍ يريد أن يتصدى لعقيدة المنحرف، ويريد أن يتعرف على الفكر لا بد أن يأتي بكتب لأهل الفكر نفسه، لا يأخذ المسألة بواسطة، فإن الواسطة قد يكون متحاملاً، ويشوه الفكرة، فالوسيط يريد أن يقول: يا جماعة! الأشاعرة يقولون كذا وكذا وكذا هل تصدقون؟! وهو يبالغ بقصد التنفير من فكر الأشاعرة، فحمله هذا على الغلط عليهم، فيدخل الداخل منهم عليه بمطالبة الإثبات أن هذا من عقائدهم. حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية لما أراد أن يناظر النصارى قرأ أناجيلهم، وأتقنها أكثر من الرهبان، بل تلميذه ابن كثير رحمه الله صاحب التفسير المشهور تأثر به جداً؛ لأن ابن تيمية كان إماماً فحلاً كبيراً، وابن كثير كان لا يزال صغيراً، ولد ابن كثير سنة (701هـ)، وابن تيمية توفي سنة (728هـ)، لما مات ابن تيمية كان عمر ابن كثير (27) سنة، كان لا يزال صغيراً، لم يتضلع بعد، وابن تيمية كان إماماً في الدنيا، ملأ الدنيا بعلمه، كان شيئاً طبيعياً أن ينبهر هذا الشاب الصغير بذاك الإمام الفحل الكبير، فتبنى بعض مسائل ابن تيمية. فالذي أريد أن أقول: إن هذا الشاب الصغير بلغ من تطلعه أنه كان عارفاً بالإنجيل أكثر من النصارى، قال ابن كثير: فناظرت أحد النصارى. قال: فكلمته فوجدته كالحمار، لا يعلم من دينه شيئاً. وشيخ الإسلام له كتاب مذهل اسمه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، يقع في أربعة مجلدات، فقرأ في الأناجيل بحيث أنه تضلع في النصرانية. فخذ الفكر من كتب أهله -لكن بشرط- أن تتضلع في كتب أهل السنة أولاً قبل أن تدخل إلى كتب المبتدعة، فأنا رأيت طالباً من طلبة الثانوية أتى يقول لي: أريد أن تدلني على كتاب، لأن معنا زميلاً نصرانياً في الفصل، وأريد أن أبين له فساد دين النصرانية. فقلت له: هل تعرف كتاب الله عز وجل؟ قال: نعم. قلت له: (الرحمن على العرش استولى) قال: لا. (استوى)، قلت له: حسناً، (استولى) أي: (علا) هذا تأويل المعتزلة، هل هذا التأويل صحيح؟ قال: لا أعرف، قلت له: أنت لا تعرف إلهك الذي تعبده، فكيف ترد على النصارى؟ فالرجل ليس له درع واق كيف يحارب؟! رجل ليس عنده طوق نجاة كيف ينزل في البحر؟! لذلك شرط العلماء للرد على المخالف أن تكون على بصيرة من دينك، حتى إذا وقعت على موقف منه كان هناك ما يعصمك، وأصل الدليل في هذه المسألة هو ما صح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يد

الأخذ بالأسباب

الأخذ بالأسباب إن الناظر إلى حياة المسلمين يجد وللأسف الشديد أنهم في انحطاط وذل وفقر مستمر، وكل هذا يرجع إلى عدة أسباب منها: أن الناس اعتمدوا على الأسباب وتوكلوا عليها، ونسوا الله المسبب سبحانه وتعالى فلم ينسبوا له أي فعل لا مقالاً ولا حالاً، وفي مقابل هؤلاء عمدت طائفة كبيرة من الأمة إلى ترك بذل الأسباب الجالبة لنصرة هذا الدين، والأسباب الجالبة للرزق والحياة وتواكلوا على ربهم دون أي فعل من قبلهم، وطائفة ثالثة أعرضت عن مقتضى الأخذ بالأسباب التي تجلب الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة وإلى الله المشتكى.

ترك الالتفات إلى الأسباب

ترك الالتفات إلى الأسباب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أمتي أمة مرحومة) وهذا قول حق، ولأن هذه الأمة مرحومة فقد بقيت تعيش إلى اليوم؛ لأن من خصائص الإسلام التي فطن إليها أعداؤنا أكثر منا أن هذا الدين يستحيل أن يموت؛ إنما يمرض ويضعف جداً لكن لا يموت. الدلائل على أن هذه الأمة مرحومة كثيرة؛ من هذه الدلائل: كثرة الناطقين بالحكمة فيها والعاملين بها، ذاكم هم أسلافنا رضوان الله عليهم الذين يتأسف بعض الناس من مجرد سماع وصفهم، إذا قلت له: (قال السلف) امتعض وظنك تدعو إلى جماعة، والواقع غير ذلك، سلفك هم رأس مالك، بغيرهم تساوي الصفر، إذا سمعتهم يتكلمون ولم تعلم من المتكلم قلت: هذا نبي يتكلم، كلام حكمة! والأقوال التي أقف عندها اليوم هي لبعض هؤلاء السلف العظماء، وقد تكلم بهذا القول أكثر من عالم قالوا: (إن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية نقص في العقل، والإعراض عن مقتضى الأسباب قدح في الشرع). فهذا من عيون الكلام؛ لأنه جمع الدين كله أعلاه وأدناه. وهذا كلام حق مأخوذ من مشكاة النبوة، فإن التفات القلب إلى الأسباب يضيع عبودية العبد؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بين العبد وربه في كل شيء إلا في الدعاء، والالتجاء إلى الله والتضرع بين يديه. وكل أسئلة القرآن الكريم ثبتت الواسطة فيها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} [البقرة:219] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ} [البقرة:222] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ} [البقرة:217] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ} [البقرة:215]) قل) هذه هي الواسطة، أي: قل يا محمد كذا وكذا، إلا في الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم تثبت الواسطة هنا، لم يقل: فقل إني قريب، كما هي العادة في السؤال، لماذا؟ لأنه لو كان هناك واسطة بين العبد وربه لاستعبدت الواسطة هذا العبد، أرأيت إن كان هناك أمير عدل لا يظلم، لكن له نائب لئيم خبيث، كلما رفعت شكايتك إلى الأمير حجبها النائب فلم تصل إلى الأمير، فماذا عساك أن تصنع؟ لابد أن تتزلف إلى هذا الخبيث حتى يوصل شكايتك، فإذا تذللت لهذا الخبيث واستعبدك ذهب الأمر كله، فلو أن هناك واسطة بين العبد وربه تبارك وتعالى لذل العبد إلى الواسطة حتى يشفع له عند مولاه، وليس هذا هو مقتضى العبودية، فمقتضاها: تمام الذل مع كمال الحب، فهذان جناحان لا يمكن أن يكون العبد عبداً إلا بهما: كمال الحب مع تمام الذل، فهذه هي العبودية. فإذا أرقت ماء وجهك لهذه الواسطة ماذا بقي لربك إذاً؟ لذلك ألغيت الواسطة، فهي سبب من الأسباب التي يتوصل الإنسان بها إلى مراده، فإذا التفت قلبك إلى هذا السبب كان قدحاً في توحيدك، لذلك تجد أن هذه الوسائط فيما يتعلق باتصال العبد بربه ملغاة كلها، بل إن أي شيء يشوبه اشتراك بين العبد وربه فهو ملغى أيضاً.

إبراهيم عليه السلام والتفاته إلى مسبب الأسباب

إبراهيم عليه السلام والتفاته إلى مسبب الأسباب وما أنصف ما دعا به إبراهيم عليه السلام قومه وهو يعرِّف صفة إلهه العظيم -الذي يعبده لأول مرة- لهؤلاء، وكانت مفاصلة بينه وبينهم، قال عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فكأنه سئل: وما رب العالمين؟ قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81]. كلام الأنبياء موزون، ليست هناك لفظة زائدة؛ لأنهم معلمون: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] تأمل سياق الآيات؛ لتعلم أن أي نوع اشتراك بين العبد وربه كان يلغى بالبيان: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]. يقول علماء اللغة: إن ضمير الرفع المنفصل الذي لا محل له من الأعراب يأتي لتأكيد الكلام، (هو) ضمير رفع منفصل جاء لتأكيد الكلام، كرر في الثلاث الآيات الأولى، ولم يذكر في الرابعة؛ لأن في الآيات الثلاث الأولى شوب اشتراك بين العبد وربه، الهداية: لفظة يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى، لكن الهداية من العبد بيان وإرشاد، ومن الله هداية على الحقيقة، لذلك أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم مرة ونفاها مرة، فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]. الهداية الأولى التي أثبتها له هداية بيان ودلالة، والهداية التي نفاها عنه هداية أثر، فالأثر لا يكون إلا من الله، السبب والفعل منك والتأثير من الله، لذلك ليس بالضرورة أن يؤتي السبب الأثر؛ فالعبد قد يأخذ الدواء ويموت مع أنه أخذه ليشفى من مرضه لكنه مات به، فلو كان لابد أن يشفى كل إنسان بهذا الدواء لشُفي الكل. الطعام أنت تأكله لتزيل علة الجوع، ومع ذلك أحياناً تأكل ولا تشبع، فلو كان الطعام لابد بالضرورة أن يدفع الجوع لشبع الإنسان بعد الأكل، وأحياناً تشرب فما تزداد بعد الشرب إلا رغبة في الشرب حتى تكاد بطنك أن تنفجر وأنت ما زلت ظامئاً، فلو كان امتلاء المعدة بالماء يدفع الظمأ لدُفع الظمأ بذلك. الهداية من العبد بيان، ومن الرب تبارك وتعالى تأثير، فلما كان ذلك موضع اشتراك بين العبد وربه -كأن يقول العبد: كنت ضالاً فهداني فلان- فقال إبراهيم عليه السلام: لا. الهداية الحقة إلى التوحيد لا تكون إلا من الله، ولذلك أثبتها بهذا الضمير، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لا غيره، هذا معنى الكلام. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا فلان أطعمني وسقاني، فكأنه قال له: إن فلاناً ما زاد على أن أعطاك سبب دفع الجوع فقط، أما الشبع والري فهما من الله، ومما يؤكد هذا الكلام ما ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اسقني يا محمد! فحلب له سبع شياه والرجل يشرب، ثم شبع، فأسلم الرجل، فجاء في اليوم الثاني فقال: اسقني يا رسول الله! فدعا بشاة فحلبت له فشرب وأبقى فضلة وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) أي أن الكافر قد يأكل أكل سبعة ولا يشبع، وأقول: (قد يأكل) وحرف التحقيق إذا دخل على الفعل المضارع أفاد الشك حتى لا يأتيني رجل يقول: هناك من الكافرين من يأكل عشر ما يأكل المؤمنون، فيعترض على الحديث بهذه القضية!! لا. ومن علمائنا من حملها على أنها واقعة عين مخصوصة بهذا الرجل. لكن المقصود أن دفع الجوع وإثبات الري من الله تبارك وتعالى، فلما حدث التباس في مسألة الأكل والشرب أكدها إبراهيم عليه السلام بهذا الضمير، أي: هو الذي يطعمك لا غيره، سواء بالسبب أو بالأثر، فإن ما في الأرض ملكه، ولو شاء لأمسك الأمطار فهلك كل من على الأرض، ففي حقيقة الأمر كل ما ملكت يداك هو ملكه وأنت ملكه، فالسبب والأثر ملكه. قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] من الجائز أن يقول العبد: كنت على شفا الموت لولا الطبيب الفلاني الماهر الذي شفاني، فكأنه قال له: لا؛ لأن الطبيب هذا يموت بنفس العلة التي يداوي منها، وما ألطف ما نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر عندما قال: (لا عدوى ولا طيرة فقال رجل: يا رسول الله! فما بال الجمل الأجرب يعدي السليم؟ -هل هذا نفي لوجود العدوى إذا كان ذلك كذلك؟ فكيف والحس والواقع يقول: إن الجمل الأجرب يعدي السليم- فقال له: فمن أعدى الأول؟) أول جمل جربان على وجه الأرض من أعداه؟ يريد أن يقول: إن العدوى لا تنتقل بذاتها، إن الله هو الذي ينقلها بدليل: (من أعدى الأول؟) فليس بالضرورة إذا كان هناك مرض معدٍ إذا لامست صاحبه تصاب بنفس المرض، لا يقول هذا أبداً ذو علم لا في الطب ولا في الشرع، لكن اقترابه من مصدر العدوى مظنة العدوى وليس بالضرورة أن يحمل العدوى. فلا عدوى هنا تنتقل بذاتها، إنما ينقلها الله تبارك وتعالى، فهذا سبب لكن الأثر من الله تبارك وتعالى، فهو الذي ينقله وهو الذي يحجبه إذا أراد. قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] تأمل اللطف في الكلام، لم يقل: وإذا أمرضني، بل نسب المرض إلى نفسه تأدباً من أن ينسب الشر إلى الله، كما قال الخضر: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82] ولما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب إثبات العيب لنفسه وإرادة الخير إلى الله تبارك وتعالى تأدباً.

وجوب الفصل بين الأسباب المشتركة بين العبد وربه سبحانه وتعالى

وجوب الفصل بين الأسباب المشتركة بين العبد وربه سبحانه وتعالى إذا كان هناك قضايا مشتركة بين العبد وبين الله تبارك وتعالى يجب أن تفصل حتى لا يقدح في توحيد العبد، قال ابن عباس: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار فقد أشرك) لأن الكلب سبب، لكن من الذي منع اللص؟ قال تبارك وتعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فالذي أخذ بناصية هذا اللص هو الله وليس الكلب، فإذا قال العبد: (لولا الكلب لسرق اللص الدار فقد أشرك) هي نفس القضايا التي نبه عليها الخليل عليه السلام، من قال: (لولا فلان لدخلت النار، ولولا فلان أطعمني لمت من الجوع، ولولا فلان شفاني لمت من المرض) كل هذا فيه شرك. إذاً القلب إذا التفت إلى الأسباب كان ذلك إعراض عن رب الأسباب، وأنت ترى هذا في ضعاف الإيمان، فمثلاً: شخص مرضاً خطيراً، فذهبوا به إلى الطبيب، وتجد الكل واقف على باب الغرفة ينتظر أن يرى الطبيب ماذا سيقول؟ وتجده يسأل: هناك أمل يا دكتور؟ لو قال: ليس هناك أمل، لخر ساكتاً! قوله: (ليس هناك أمل) هذه الكلمة ليست لأحد على وجه الأرض، ولذلك تجد أصحاب العقائد الراسخة يتحركون بها، أحياناً يمرض لك إنسان مرضاً خطيراً، فتجد كل الأطباء يجمعون أنه لا أمل، ويقولون لك: يا بُني! وفر مالك، لا فائدة! ومع ذلك تخرج من عندهم لتبيع آخر ما تملك وتنفقه على هذا المريض، لماذا؟ لأنه راسخ في ذهنك أن الكلمة الأخيرة ليست لأحد غير الله، تقول: الله على كل شيء قدير، ولو كنت تعلم من قرارة نفسك أن الطب هو صاحب الكلمة الأخيرة لكففت عن الإنفاق، لكنك ما أنفقت مالك إلا لتجري وراء أمل راسخ عندك وهو: (إن الله على كل شيء قدير)، هذه عقيدة راسخة، لكن أحياناً يتصرف المرء بضدها جهلاً أو ضعف إيمان.

التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد

التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد لما مرض أبو بكر الصديق سيد الموحدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الذي ملئ إلى مشاشه إيماناً وحكمة رضي الله عنه، دخلوا عليه وهو مريض فقالوا له: ألا نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني -كلام واضح جداً- قالوا: ألا ننظر لك في دواء؟ قال: إن الطبيب قال: إني أفعل ما أشاء، ليس هذا من أبي بكر الصديق دفعاً للعلاج وإلا فهو قد عُولج، لكن أراد أن ينبه إلى المعنى الذي نبه إليه إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو أن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، وطالما أن العبد متعلق بالله تبارك وتعالى لا يرجو غيره إذاً هو في عافية وستر، كل شيء يكون عليه يحمد الله تبارك وتعالى له وبه، فما من محنة تكون على غيره إلا كانت في حقه منحة، ولذلك الله تبارك وتعالى لما أراد أن يعطي الجائزة للمتقين -والتقوى أصلها اعتماد القلب على الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا وأشار بيده إلى قلبه) - قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، هكذا بالجزم: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]. ننظر في (يتقِ ويجعل) أفعال مضارعة تفيد التجدد والاستمرار، أي: كلما أحدثت تجديداً في تقواك كان في مقابله فرج، وإن اختلف الناس في تعريف الفرج، فبعض الناس يرى الفرج النعمة المطلقة، لكن ليس كذلك، بل أحياناً يكون الفرج في النقمة التي لا يراها العباد إلا نقمة بحتة، فمثلاً: انسحاب القائد في الوقت المناسب من أعظم أبواب النصر، مع أن الانسحاب عند بعضهم يعد من الهزيمة؛ لأن الانتصار عندهم أنك تكسب أرضاً. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] انظر إلى الكلمة التي بعد هذه مباشرة: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] انظر إلى الكلام الجميل: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] فتكون فرحته طاغية؛ لأنه لم يحتسب. أنت موظف كبير تأخذ ألف (جنيه) في الشهر، معروف كل شهر أنك تذهب إلى الخزينة لتقبض الألف، فهل أحسست بالفرح؟ لا؛ لأنك متوقع أنك كل شهر ستأخذ الألف (جنيه)، لكن جاءك خمسون (جنيهاً) علاوة أو أي شيء وأنت لا تحتسبها، فإن فرحتها في قلبك أعظم من الألف (جنيه)، لماذا؟ لأنك لم تحتسب، وكل شيء لا تحتسبه تكون الصدمة به قوية، إما فرح وإما ترح. أنت تتوقع أن يضربك جارك على وجهك، لكن لا تتوقع أن يضربك ابنك على وجهك؛ لذلك لطمة ولدك لك تكون أعظم ألف مرة من ضرب كل الناس لك؛ لأنك ما توقعت، فالصدمة التي أخذتها بمجرد الضرب أعظم من الضرب نفسه. لذلك لو وضعت عصابة -مثلاً- على عيني إنسان وأخذت تعذبه، فإنه لا يدري من أين يأتيه الضرب، من الأمام أو من الخلف أو من الجنب، أو من فوق أو من تحت لا يدري، فالرعب الذي يصيبه بعدم درايته أعظم من العذاب نفسه، لماذا؟ لأنه لا يحتسب ذلك العذاب، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] حتى يتمم له فرحته بالتقوى، ليس رزقاً عادياً وراتباً، إنما من حيث لا يحتسب ولا يتوقع، مكافأة من الله لهذا العبد التقي. إذاً: يجب أن لا يلتفت ملك البدن إلى الأعراض -وملك البدن: هو القلب- ومن أعظم دلالات العجز أنك أيها الإنسان لا تملك قلبك، تملك أن ترفع يدك، تملك أن تمشي برجلك، لكن لا تملك أن تحب، ولا تملك أن تبغض، ولا أن تؤمن ولا أن تكفر، منتهى العجز، قلبك الذي يضخ وقوام حياتك به أنت لا تملكه؛ لذلك كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) لأنه لا يملكه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء)، وكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب). وفي الحديث الصحيح عندما تجيء الفتن كأمواج البحار قال عليه الصلاة والسلام: (يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً) فلو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، لكن ليس بيدك، إعلاناً بعجزك التام، إن أعظم ما في بدنك لا تملكه، هذا سر الإخلاص فيك؛ لذلك حتى تضمن ألا يدخل هذا الشرك إلى قلبك لا تلتفت إلى الأسباب من حيث هي أسباب، ولكن التفت إلى رب الأسباب.

محو الأسباب بالكلية نقص في العقل

محو الأسباب بالكلية نقص في العقل التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية نقص في العقل. هناك فرقة وكل يوم نرى منها العجب؛ وهي فرقة الفرماوية، والتي رأينا شيخها الفاني الهالك الضال عن نحو خمسة وتسعين سنة، هذا الرجل الكافر بالأسباب، يعتقد أنه إذا ذهب المريض إلى الطبيب فهو كافر!! يا أيها الأحمق! لم تأكل إذا جعت؟ لم تلبس؟ ومن الذي حاك لك ثيابك؟ أنزلت من السماء كثياب بني إسرائيل معلقة على الشجر؟! ألم يحكها حائك؟ والذي يحيك الثياب هو واحد منهم، لكن أجلوا تكفيره حتى توجد الولاية في قلبه، هذا الضال المضل كان وجماعته كل سنة يحرقون صحيح البخاري، لماذا؟ قالوا: لأن البخاري شيوعي! أليس من الاتحاد السوفيتي؟! أليس من بخارى؟! والله ما ندري الآن ماذا يقولون بعدما انهار الاتحاد السوفيتي؟! وانظر إلى هذا الجاهل وهو يقول: كل الأحاديث المنسوبة لـ عائشة وحفصة وأمهات المؤمنين كذب، لماذا؟ قال: لأن صوت المرأة عورة!! هل المرأة ولدت لتكون خرساء؟ لماذا خلق الله فيها الكلام؟ من قال: إن صوت المرأة عورة؟ صوت المرأة ليس بعورة، ولا أظن أنه يختلف في هذا أحد له مساس بالشرع، لكن الخضوع بالقول هو العورة، والخضوع بالقول شيء زائد عن مجرد الصوت، كامرأة يكون صوتها عادياً فتحاول أن ترققه، هذا القدر الزائد على الصوت هو الممنوع، لكن الصوت العادي ليس بعورة، والأحاديث والأقوال متواترة أن الصحابة والتابعين كانوا يدخلون على أمهات المؤمنين ويسألونهن من وراء حجاب. ثم إن ربنا سبحانه وتعالى لما قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فإذا كانت خلف الحجاب، وأنا لا أراها، وهي لا تتكلم، كيف أفهمها؟ فلابد أن يكون هناك صوت حتى أفهم المرأة التي لا أراها. ذات مرة جاء أمر بتصوير كل المساجين، والفرماوية يرون أن التصوير حرام -وهو كذلك لا نختلف معهم في هذا، التصوير كله حرام إلا ما دعت إليه الضرورة، ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً- لكن صدر الأمر إليهم وكانوا بضعة وثلاثين رجلاً فقالوا: ممنوع التصوير، وقد يقتلون دون شيخهم حتى لا يُصور، عندهم فداء لهذا الشيخ لا تتخيله، فاجتمعوا كلهم في زنزانة واحدة، والرجل عمره فوق التسعين، وعنده ضيق في الجهاز التنفسي يتنفس بصعوبة، فاجتمعوا جميعاً وصنعوا حاجزاً بشرياً خلف الباب، فأتوا وقالوا لهم: افتحوا الباب، قالوا: أبداً! لا يمكن أن نتصور، حرام! فرموا عليهم قنابل مسيلة للدموع وهم أبداً! لا يمكن أن يفتحوا، فلما امتلأت الغرفة بالدخان! وكاد الشيخ أن يختنق! قاموا ورفعوه إلى الشباك حتى وضع أنفه في الخارج ليتنفس. فباءت كثير من المحاولات بالفشل، ثم قاموا معهم بآخر محاولة وهي الحصار الاقتصادي، فمنعوا عنهم الطعام، وتركوا شخصاً يقف على الباب حتى لا يتعاطف أي إنسان معهم، ولكن أصحاب الزنزانة التي في الدور العلوي فكروا! وقالوا: كيف نتركهم يموتون؟! هذا لا يعقل! فأخذوا حبلاً وربطوا فيه خبزاً وحلاوة وأنزلوه من الشباك من الخارج. وانظر هنا إلى هذا الضال المضل! جعل يكبر: الله أكبر، ليلة عيسى، خبز وحلاوة! فاغتروا بهذا الشيخ حين وجدوه يضع يده في الهواء ويأتي بخبز، ثم يضع يده ثانية ويأتي بحلاوة، إذاً الرجل كلامه جد، فازدادت عقيدتهم في هذا الرجل، وهو كافر بالأسباب قليل العقل، لكن كما قال الشاعر: لكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها سوق استفادت إدارة السجن من هذا الدرس فمزقوا الجماعات عندما نقلوهم إلى سجن آخر، فلا توجد جماعة بكاملها في زنزانة، إنما متفرقون، من كل جماعة خمسة حتى يحصل نوع من التفكك، فقدر أن يكون معنا اثنان من الفرماوية، وهم يقدسون لونين: اللون الأبيض، واللون الأخضر، اللون الأبيض لا يلبسه إلا ولي واصل، واللون الأخضر هو المهزلة الذي يعمل لأجل أن يأكل الذي يلبس القميص الأبيض، فصاحب اللون الأخضر رفعوا عنه كلمة الكفر مؤقتاً حتى توجد الولاية في قلبه ثم يصعد للدرجة التي تعلوها. فكان معنا رجل ممن يلبسون الثياب الخضراء، يناقش طوال النهار والليل أن الأخذ بالأسباب كفر، فكان إذا قام جماعة التكفير يلعبون رياضة الصبح يقوم فيلعب معهم، أليس هذا من الأخذ بالأسباب؟! وكان إذا لعب رياضة فإن العرق يتصبب منه مباشرة، فيأتي وقت الراحة وزملاؤه يمرون ليسلموا عليه، فيغطي نفسه ببطانية، لماذا؟ لأنه لو رأوه وقد عرق يسألونه: ما بالك؟ فإذا علموا أنه يلعب كفروه مباشرة، فكان يغطي نفسه ببطانية ويبرز عينيه فقط، فيقولون: مالك؟ فيقول: عندي برد! برد في عز الحر؟! واستحلفني أن لا أقول لهم شيئاً. شيء ضد العقل! لو قال رجل: إني أريد الولد بغير زواج، لاتهمه الكل بالجنون، ولو قال: إني أريد أن أشبع ولا أضع في فمي لقمة، يُتهم بالخبل، فمحو الأسباب بالكلية نقص في العقل لا شك، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل الوسطية، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الإعراض عن الأخذ بمقتضى الأسباب قدح في الشرع

الإعراض عن الأخذ بمقتضى الأسباب قدح في الشرع الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الإعراض عن الأخذ بمقتضى الأسباب قدح في الشرع؛ لأن كل شيء ندبك الشرع إليه لا يكون إلا بسبب منك، وكل شيء ندبك الشرع إليه وأمرك به وجوباً أو استحباباً لابد من إحداث سبب له، فإذا تسنى لك أن تعرض عن السبب فقد أعرضت عن كل الأوامر والنواهي، ولذلك أباح الله الميتة مع أنها محرمة، لماذا؟ حتى لا تموت، لذلك قال سفيان الثوري أخذاً بمفهوم الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] والقاعدة الفقهية معروفة: (الضرورات تبيح المحذورات) قال سفيان الثوري أخذاً من هذا: من جاع فلم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن الله تبارك وتعالى ما أباح له الذي حرمه إلا ليحفظ حياته، وليس لها معنى إلا ذلك، فكونه يتلف حياة نفسه ويعرض عن الذي أعطاه الله إياه فهو معرض عن رخصة الله تبارك وتعالى له، معرض عن أمره، يموت وهو كافر.

جباية الزكاة وترك الضرائب والمكوس من الأخذ بالأسباب

جباية الزكاة وترك الضرائب والمكوس من الأخذ بالأسباب الضرائب هل هي حلال الآن في الوضع الحالي، أسأل الله مخلصاً أن يوصلها من يسمعها إلى أولياء الأمور،؟ A لا. هي حرام في الوضع الحالي، وأرجو أن نضع تحت كلمة (الوضع الحالي) خطوطاً كثيرة خطاً، لماذا؟ لأن التفصيل سيبينها بعد ذلك، وطالما أننا نتكلم باسم الإسلام إذاً لابد علينا أن نأتي بآية أو حديث. نحن نعلم أن دم المرء وماله وعرضه كله معصوم، لا يحل شيء منه إلا بشيء يفيد الحل، فما الذي يحل من مال العبد وجوباً رغم أنفه؟ الزكاة. هناك رجل أخرج زكاة ماله، هل لأحد أن يجبره على دفع شيء غير الزكاة؟ الجواب: لا. الشرع يقول: لا يحل جبر المرء على دفع شيء إلا الزكاة. شخص يدفع زكاته، هل تجبره على صدقة؟ لا. هل تجبره على ضريبة؟ لا. سيقولون لك: معنى ذلك أنك ستغلق مكتب الضرائب، وهناك رواتب كثيرة جداً، ومصالح سوف تتعطل، فهذا من الضرر الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وجاءت الشريعة بدفع المضار وجلب المنافع، وهكذا دواليك. فنقول له: هل جبيت الزكاة أولاً، ثم وجدت أن أموال الزكاة لا تفي؟ الجواب: لا. إنه لم يكلف خاطره بجباية الزكاة من أحد؛ لذلك لا يجوز أن توضع الضريبة مكان الزكاة أبداً، لأن الزكاة أصبحت غير واجبة، والإنسان فيها مخير، والضرائب إذا لم يدفعها يدخل السجن، أي كلام هذا؟! الذي نعرفه من الآيات والأحاديث أن الشخص إذا لم يدفع الزكاة فإنه يقتل ولا يسجن، أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حارب المرتدين من أجل ماذا حاربهم؟ هل كفروا بجميع شرائع الدين؟ لا. بل كانوا يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا يصلون، وقالوا: سنحج، لكن فهموا أن الزكاة كانت تؤدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما مات ارتفعت، وتأولوا -تأويلاً باطلاً- قوله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] أي: خذ يا محمد، فهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطالما مات فلن ندفع الزكاة. قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، فهل نقولها أم لا؟! {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] كل هذه الأوامر موجهة للرسول عليه الصلاة والسلام فقط أم موجهة له حتى يبلغها أمته؟ فـ أبو بكر الصديق قال: (والله لو منعوني عناقاً - وفي رواية أخرى: عقال بعير- كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه) وقامت الحروب المعروفة بسبب الزكاة. فليس لعبد خيار أن يقول: أدفع الزكاة أم لا؟ ليس له في هذا خيار! إما أن يدفع الزكاة وإما أن يموت مباشرة، هذا هو الذي عليه جميع العلماء، خلافاً لـ أبي حنيفة. فلو أنهم يجمعون أموال الزكاة كلها أكاد أجزم أنهم لن يحتاجوا شيئاً، لماذا؟ لأن كل شخص يعلم أن الضرائب تقدر جزافاً ليس لها قانون، فلو دخل مسئول الضرائب عيادة طبيب وقدر أنه جاء وفد زيارة من بلد، فعدهم كمرضى وبدأ يحسب على كل شخص ويضرب الحسابات، وكلما زاد كلما يأخذ عمولة، وبالتالي يجتهد في فرض أقصى ضريبة يستطيعها. كذلك: أنا أعرف أنني مظلوم، والشريعة تقول لي: ادفع عن نفسك الظلم ما استطعت، إذاً ماذا أفعل؟ ليس لي حيلة إلا أن أبحث عن شخص وأدفع له مالاً مقابل أن يسقط عني الضريبة، أو يحرق لي الملف -لا يوجد مانع- أو أن أرفع طعناً وإثبت أنه ليس عندي أي مال، وأنني سأموت من الجوع، ثم أذهب هناك وبطريقة معينة أتملص، لكن الزكاة هل يستطيع أحد أن يفعل ذلك؟ لا. لأنها بين العبد وربه، فهناك قلب يحرك الإنسان فيدفع الزكاة مباشرة، ولذلك في مسألة الزكاة بعض الناس يأتي فيسأل ويقول: أنا أدفع الزكاة بزيادة، هل هذا جائز؟ أقول له: هذا جائز ولك الفضل، لكنه لا يقول: أنا أدفع الضرائب وزيادة، لماذا؟ لأنه في الزكاة يقول لك: أنا أريد أن أرضي ربي، فإذا كان عندك باب مفتوح من السماء، وهناك قلب يحرك العبد، وأنت ضامن أنه لن يغش، فلو غش صار إنساناً فاسقاً، لكن أنت ضامن أن عنده ضمير يحركه، والزكاة أموالها كثيرة جداً، أضف إلى ذلك أن فيها بركة، النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال له بعد ذكر الصلاة: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأخبرهم أن الله قد افترض على أغنيائهم صدقة ترد على فقرائهم -ثم قال لـ معاذ - وإياك وكرائم أموالهم) انتبه أن تأخذ أحسن شيء في أموالهم! بل الذي يدفعوه خذه، لا تقل له: لا، أنت أعطيتني من السيء، هذا شيء لا يعينك. الله عز وجل أدب المؤمنين قبل ذلك فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] انظر إلى تربية النفس! يقول للمؤمنين: إذا كنت تريد دفع الزكاة أو الصدقة فلا تدفع أسوأ شيء: {وَلا تَيَمَّمُوا} أي: لا تتوجهوا إلى الخبيث من أموالكم فتأخذوه فتدفعوه للفقراء، {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: ضع نفسك مكان الفقير، لو أعطاك شخص فولاً مسوساً هل تأخذه؟ تأخذه وأنت مغمض العينين ليس لك رغبة في أخذه؛ لأنك لو أخذته ماذا ستعمل به؟! {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] لو كنتم مكان هؤلاء الفقراء لأخذتموه على إغماض. فأدب المؤمنين أولاً ألا يتيمموا الخبيث لكن يخرجوا من كل المال جيده ورديئه، لذلك قال لـ معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم) لا تأخذ حاجة نفيسة من عندهم غصباً، انظروا إلى الكلام يا إخواننا! كلام منظوم، كأنه در يتلألأ، ثم قال له: (واتق ودعوة المظلوم)، لو أن الجابي أخذ كرائم أموالهم رغماً عنهم فقد ظلمهم، ولو أن أي دولة في الدنيا كان بوسعها أن تعين شرطياً على كل رجل ما استطاعت أن تخرج الضريبة مائة في المائة. المسألة مسألة مراقبة، فالشرطي وإن قعد إلى جانبي لن يعرف شيئاً، أذكر قصة حدثت في الخمسينات عندما كان يحصل تحقيق مع المساجين، ويدخل مسجون جديد في غرف التحقيق -التي هي جهنم الأرض، نسأل الله العافية- فالجماعة القاعدون من الإخوان -وما أقصد جماعة الإخوان المسلمين فقط- يريدون أن يعلموا هذا السجن الجديد، لأنه لا يعرف شيئاً، يريدون أن يقولوا له: لا تقل كذا وقل كذا لكن هناك حراس واقفون، فكيف يعملون؟ يقولون له التعليمات بالتجويد: (إذا جآءك المُحقِّقُ فَقَالَ كذا وكذا) فكان يظن الحرس أن هذا من القرآن، لأنهم لا يعلمون شيئاً منه فيفهم الجديد المقصود فلو أن أي إنسان عنده أي قراءة -ولو متباعدة- لكتاب الله عز وجل لعرف أن هذا ليس بقرآن. فإذا كان الله تبارك وتعالى كفاك مؤنة هذا الصنف، فلماذا تسد على نفسك الباب؟ اجب الزكاة أولاً، فإن وجدت أن الزكاة لم تف قل للناس حينئذٍ: المصارف الفلانية ليس عندها مال، نحتاج إلى مليار أو مليارين، فعلى كل فرد مبلغ محدد من المال نرجو المبادرة، وسنفرض هذا الأمر إلى حين سداد العجز ويرتفع هذا القانون. فهذا كلام مشروع؛ لأن المصلحة إذا لم تتحقق إلا بذلك لا يكون إلا ذلك، و (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، و (الوسائل لها أحكام المقاصد). أنا أذكر أنني كنت أعمل في بعض المحلات يوماً ما، ويوم (1/ 5) علاوة العمال، فقالوا: لا يوجد مال كافٍ للعلاوة، فصدر قرار -والقرار هذا خاضع للبلديات- غرامات أشغال طريق على كل المحلات، لماذا؟ أهو ينام في الشارع حتى يدفع غرامات أشغال الطريق؟ لماذا يدفع ثلاثمائة جنيه أشغال طريق؟ أنا بيني وبين الطريق عشرة أمتار! ليس لك إلا خيار من اثنين: إما الدفع وإما الحبس، يعني: شخص يمشي في الطريق فوجد لصاً فقال له: أخرج المال وإلا قتلتك، ماذا يعمل؟ يفتدي نفسه بماله، وهكذا جمعت العلاوة، فأنا لا بأس أن أدفع ولكن أريد أن أقتنع، يجب أن أعلم لماذا دفعت؟! هذا الكلام كله يترتب عليه أشياء في النفس حتى يصل الإنسان إلى قناعة أنه يُسرق، وينتج من هذا الفعل مسألة انعدام الولاء لأي شيء، لا يوجد ولاء أبداً، كلٌ يقول: أنا فقط. عندما تأتي بعد كل هذه الأعمال وتقول: يا جماعة! انزعوا الحقد! كيف أنزعه وأنا أراه أمامي ليل نهار؟ لكن لو جئت إلى شخص وقتلته أمام إخوانه كلهم؛ لأنه لم يدفع الزكاة، لقالوا: يستحق ذلك؛ لأن ربنا أمره بدفع الزكاة فلم يدفع، ولله المثل الأعلى، ويقال: ضرب الحكومة ليس عيباً يعني: لو ضرب شخص من قبل رجال الحكومة فهذا لا يعد عيباً، لكن لو ضرب من جاره فهذا عيب، أي: أن الإنسان إذا عوقب من جهة عليا ليس له فيها خيار يتسلى بهذا الكلام، وإلا فالضرب عيب، لماذا ضرب الحكومة ليس عيباً؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً. فكذلك العبد ولله المثل الأعلى، إذا جاءت له مصيبة من السماء يقول: ليس بيدي شيء، نحن مؤمنون بالقضاء والقدر، وقد يكون هو غير راضٍ من الداخل، لكن لابد أن يسلي نفسه طالما أنه ليس بإمكانه أن يفعل شيئاً. إذاً: الضريبة هذه كان بإمكان الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفرضها على الصحابة أم لا؟ كان بإمكانه أن يفرضها على الصحابة، لكن لماذا لم يفرضها؟ ما احتاج إليها مع وجود الزكاة. فنحن نقول: يجب على أولياء الأمور جباية الزكاة، من لم يدفع فليتقرب هذا الولي إلى الله بدم هذا الإنسان العاق لربه تبارك وتعالى، إذا لم يكف هذا المال لسد الحاجة، هنا يجب عليه فرض ضرائب من أجل أن يفك هذه الورطة، ولكن بعد ذلك ترجع المسألة كما كانت، وهكذا دواليك. إذاً: الأسباب يا إخواننا لابد أن تكون مشروعة، تقصيرنا فيها علامة على وجود الذل، والأمثلة التي ضربناها تقصير في الأسباب، الزكاة سبب للغنى، فعندما قصرنا في السبب ذهب عنا الغنى ودام الفقر واستمر. كما أن تسوية الصف سبب لاجتماع القلوب، وتقصيرنا في تسوية الصف أدى إلى اختلاف القلوب، فإذا أردت أن توجد القلوب ساوي الصف، تريد الغنى أن يرجع ادفع الزكاة، وإذا أر

تسوية الصفوف في الصلاة من الأخذ بالأسباب

تسوية الصفوف في الصلاة من الأخذ بالأسباب نلاحظ في المساجد أنهم يضعون خطاً على الأرض، لماذا؟ لتسوية الصف، هذا الخط هل كان قبل ذلك موجوداً؟ لا. هل كانوا يصلون معوجين؟ لا. ما الذي تجدد؟ الذي تجدد أن الأئمة لم يقوموا بما أُوجب عليهم، يقول الإمام: استووا، وهو مولٍ لهم ظهره، نحن لا نعرف رجلاً في الأرض كان ينظر من الأمام والخلف إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فقط، هو الوحيد في أولاد آدم الذي كان ينظر وراءه كما ينظر من أمامه، كما في الحديث الصحيح في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (استقيموا، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي) ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يصلي إلا إذا اطمأن أن الصفوف سويت، نحن مقصرون في هذا، وهذا التقصير مشترك، ولا يعفى منه الأئمة. الإمام لا ينبغي له أن يصلي حتى يتأكد أن الصف استوى، لذلك كان من عاقبة عدم الأخذ بالسبب الظاهري في تسوية الصف أن القلوب التفتت عن بعضها، وهذا قاله النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فإذا لم يستو الصف فمعنى ذلك أن القلوب تنفر، وكل شر في الأرض بسبب نفرة القلوب. تسوية الصفوف سبب في ائتلاف القلوب، إذاً لابد أن نسعى إلى تحقيق السبب حتى نجني الثمرة، فالخط الذي على الأرض بدعة لا يجوز فعله؛ لأنه جعل الأئمة يتكلون على الخط، ويقول لك: كل الناس أمامها خط تقف عليه، وماذا عملك أنت؟ ما جعلناك إماماً إلا لترص هؤلاء وتكون وخدهم إلى الله، كما في سنن الدارقطني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا أئمتكم فإنهم وخدكم إلى ربكم) لأن هذا الإمام أنت تجعله بينك وبين ربك، يعني: إذا ذهبنا إلى ولي العهد هل نأخذ أي شخص ونقدمه أم ننتقي شخصاً عاقلاً رزيناً؟! كما حدث أن بعض الوفود ذهبوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يهنئونه بالخلافة فأدخلوا شاباً صغيراً فاستعظم عمر ذلك وقال: (يا بني! أما وجدوا أكبر منك؟) يعني: كبِّر كبِّر! الكبير مهما كان له قيمة، قال: أما وجدوا أكبر منك؟ فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان غيرك أولى منك، قال: أفلحت) مباشرة! فالذي تضعه على رأس الوفد لابد أن يكون زينة للوفد كله، لو وضعت أخرق على رأس دولتك شاهت دولتك كلها، انظر اليوم إلى العراق مثلاً، هل يستطيع أي عراقي أن يدخل أي بلد؟ لا، لماذا؟ هل العراقيون كفرة؟ العراقيون فيهم أخيار، وفيهم أناس أفاضل، كما أن في المصريين فجار وفي السعوديين فجار وفي كل مكان فجار، لكن لماذا العراقي لا يستطيع دخول أي بلد؟ لأن هناك رجلاً أخرق على الرأس، فالشخص ينظر إلى أي عراقي على أساس أنه مجرم؛ لأن الرأس هكذا. فكونك تضع إماماً يصلي بالناس لا يعرف أي شيء عن أحكام الصلاة لا يصلح، والعجيب جداً أنه لو غاب الإمام ينظر المؤتمون بعضهم إلى بعض، وكل واحد يقول للآخر: تفضل! فيقول الآخر: لا والله تفضل أنت! فيقول: أبداً! لا يمكن! تفضل أنت! أي كلام هذا؟! أهي وليمة؟! لا يتقدم إلا أولو النهى الذين يعرفون أحكام الصلاة. أذكر مرة -وهذه من العجائب- الجماعة هؤلاء -أصحاب تفضل أو تفضل أنت- أدخلوا شخصاً منهم فوقف يشير بيده؛ لأنه يرى الأئمة قبل أن يدخلوا في الصلاة يقولون استووا تراصوا، ويشيرون بأيديهم يميناً وشمالاً، وقد نسي ماذا يقول؟! فاستمر يشير بيده يميناً وشمالاً ولم تأت معه الكلمة، ثم قال: جاهزين يا رجَّالة!! كأن هذا الرجل رئيس وفد! سبحان الله! كيف تضع مثل هذا يقف بين يدي الله عز وجل ويأخذك إلى الله؟! لا. هذا لا يكون، لذلك الإمام يجب أن يكون فقيهاً ويقوم بما عليه، الإمام له فضل كبير؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التدافع للإمامة؛ لأن فضلها كبير، لا يرتقيها إلا أهلها؛ فهل تأخذ الفضل بدون أن تبذل أي مجهود؟! لذلك إذا كنت إماماً فقم بواجبك، رصَّ الصف بشكل صحيح، ورص الصف لا يكون بمقدم القدم، تجد الإمام أحياناً يقول: ارتفع أنت قليلاً وتأخر أنت قليلاً! لماذا؟ مثلاً: شخص رجله طويلة وآخر رجله قصيرة كيف تساوي بين هؤلاء؟ لا تستطيع أن تساوي بين هؤلاء إلا بالعقب، لماذا؟ لأن ظهور الناس متساوية، بخلاف البطن، فمن الناس من تكون بطنه كبيرة، وآخر بطنه ملتصقة بظهره، فماذا ستقول للذي بطنه كبيرة وهو خارج عن الصف: ادخل! لا يصلح هذا الكلام؛ لأنه سيخرج من الخلف، إنما لو سويته بالعقب وهو مؤخر الرجل ستكون آخر الرجل كلها مع بعضها، وهكذا تضمن استواء الصف كله مع بعضه. الخط على الأرض هل كان ممكناً أيام الرسول عليه الصلاة والسلام أم كان مستحيلاً؟ كان ممكناً، وهناك قاعدة فرقنا بها بين البدع والمصالح المرسلة وهي: (أن الأمر إذا كان له مقتضى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله لا يجوز لك فعله). لأنه لو كان هذا الشيء فعلاً لابد من وجوده لبادر النبي عليه الصلاة والسلام إليه وفعله، أما إذا لم يفعله فلا يجوز لك فعله. فرسم الخط لتسوية الصف على الأرض كان في قدرة النبي عليه الصلاة والسلام أن يفعله ولا يكلفه شيئاً، ومع ذلك لم يفعله، إذاً: لا يجوز لك أن تفعله على الأرض، وهو أيضاً من أسباب إهمال الأئمة لما يجب عليهم من تسوية الصفوف. إذاً ترك الأخذ بالسبب ضيع عليك الثمرة، ولذلك قال تبارك وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] افعل ما أمرك به يفي لك ما وعدك: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] تنصره بإقامة حدوده في الأرض وعدم الاجتراء عليها، وإقامة أمره، إذا كنت عبداً فكن عبداً حقاً، فإذا نصرت الله بفعل الأوامر والنواهي نصرك بأن يمكن لك في الأرض. فهذه الثمرة إذا أهملت السبب منعها الله عنك.

العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري

العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري قال بعض العلماء: (العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري). يشير هذا العالم بهذا القول الموجز المختصر إلى أن العبد متبع لهواه، ففي الطاعة: قدري، يقول لك: أنا ربي قدر لي كذا، وعند المعصية: جبري، يقول: ربي كتب عليَّ كذا، أي أنه متبع لهواه، حيث كان هواه في معصية قال: قضاء وقدر؛ طالما فيها مصلحته وشهوته، وكلما زاد في العصيان يريد أن يفلت من العذاب يقول: كتب الله عليَّ ذلك، وأنا ماذا أفعل؟! قال قائلهم: جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين يقول: الجنين الذي ليس له كسب ولا سبب أليس يرزق؟ فأنت لماذا تسعى؟ كما أن الرزق جاء إلى هذا الجنين فسوف يأتيك، فهذا الرجل ليس عنده شيء من العقل؛ لأن هذا الجنين أخذ الطعام بسبب أكل الأم، ولو لم تأكل لمات الجنين، فهذا سبب، لكن قد يكون السبب من كسبك مباشرة وقد يكون بغير كسبك، لكن هو ظن أن السبب لا يكون إلا مباشراً؛ لذلك قال هذه الأبيات، وقال قائلهم الآخر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء كيف لا يبتل بالماء وأنت ألقيته مكتوفاً؟ يريد أن يقول: إن القدر كتفه، ثم بعد ذلك تضعه في نار جهنم، إذاً كيف يعمل؟ كتب الله عليه المعصية ثم يعذبه بها؟! هذا هو اعتراض الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على كل شيء، فلا قيمة للأخذ بالأسباب، لكن انظر إلى جيل الصحابة، فقد سألوا نفس السؤال لكن بصورة مختلفة تماماً، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ببقيع الغرقد، فلما دفنا الرجل -دفنا الميت- جعل ينكت بمخصرته في الأرض -معه عود ينبش به في التراب- ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار -انتهى جف القلم- فقال رجل: يا رسول الله! جف القلم بشيء كان أو يكون؟ قال: بشيء كان -بأمر فرغ منه- فقال: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا، فأما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة؟ قال له: لا. اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اسكتوا عن هذا واستأنفوا العمل، قال علي بن أبي طالب: (فما كان أجد منا بعد سماعنا هذا الكلام (يعني: هذا الكلام جعله يجد أكثر، مع أنه لا يدري أهو إلى الجنة أم إلى النار صائر، لكن أي إنسان عنده عقل، وتدبر آيات الكتاب المنزل، وفهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام يفهم أن هذا الكلام ليس معناه ترك العمل والاتكال، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:1 - 7]. إذاً: أثبت للعبد عملاً قبل التيسير: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10] أثبت له عملاً قبل التعسير. إذاً لابد للعبد أن يعلم أن الخاتمة مربوطة بالأولى التي هي السبب منه، هؤلاء الصحابة لم يقل أحد منهم: إن كان قدَّر عليَّ المعصية فلم يدخلني النار؟ لأن هذا الكلام البسيط الشديد معناه أن الله ظالم! ليس لها معنى غير هذا، إذا كنت تعتقد أنه حكم عدل -عدله مطلق- فلم تسأل هذا السؤال؟ لا تقل له: (لم) لأنه يفعل ما يريد، (لم) هذه تقال لمن يمكن أن تلومه على فعله، وهل لك اختيار مع الله؟! الله يفعل ما يريد، فلا يجوز أن تقول له: لم. بل العبد يجب أن يتقرب إلى الله زلفى؛ حتى إن ابتلاه يكون ذلك مدعاة القرب، كما قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83] لماذا تركتهم وجئت على عجل؟ قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] إنما عجلت لترضى، فدل على أن العجلة في الإياب إليه سبيل من سبل الرضا عن العبد، وقد قال الله تبارك وتعالى عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193] الفاء هذه فاء التعقيب السريع، يعني: أول ما سمع أحدث إيماناً عقب القول مباشرة، إذاً: قربك إلى الله مهم جداً. الذي يقول: إن كان كتب عليَّ المعصية لماذا يعذبني؟ يتهم ربه بالظلم؛ لأنه يجب عليه أن يقول أيضاً: وإن كان كتب عليَّ الطاعة فلم يدخلني الجنة؟ لا يقول هذا أبداً، لأن هذا في مصلحته، فهو في الطاعة قدري، وهذا هو نفس قول المشركين الأوائل: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] وقارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] لولا أنني أستحق لما أعطاني الله، أعطاني لأنني أهلٌ لذلك، فقال الله تبارك وتعالى لهم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37] (إلا) هنا بمعنى لكن، أي: لكن من آمن فهو الذي له الزلفى. إذاً الذي يقول: لولا أنني أستحق دخول الجنة لما أدخلني الله الجنة، هذا قدري؛ لأنه في باب المعصية جبري. فنفهم من هذا أن العبد لابد أن يحدث سبباً حتى يكون له الأثر، وإذا لم يحدث السبب بطل الأثر، ولذلك قال الله تبارك وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام في وقعة بدر: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ليس لمجرد أنك ألقيت بالسهم أنه أصاب، لا. لأنه عليه الصلاة والسلام لما أمسك بقبضة من الرمل ورماها في وجوه الكفرة وقال: (شاهت الوجوه) ثم قال: (انهزموا ورب الكعبة) وفي الرواية قال الصحابي: (ما بقيت عين لهم إلا دخلها هذا التراب) أي قبضة هذه؟ قبضة تصل إلى كل هؤلاء! الله هو الذي أوصلها، كما أن المفسرين يذكرون في قوله تبارك وتعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أن إبراهيم عليه السلام قال: (رب كيف يبلغ صوتي الناس كلهم؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ). لابد أن تتكلم، ووصوله ليست مهمتك، توصيل الصوت من الله تبارك وتعالى. يعني: أن العبد لابد أن يأخذ بالسبب؛ فإذا لم يأخذ بالسبب لا يتحقق الأثر.

سيد المتوكلين يأخذ يمقتضى الأسباب في الهجرة

سيد المتوكلين يأخذ يمقتضى الأسباب في الهجرة التوكل ليس معناه خلع الأسباب، التوكل معناه: التجاء القلب إلى الله مع الأخذ بالأسباب، هذا هو حقيقة التوكل، ولا التفات لما يحكى عن بعض الناس -وإن كان صحيحاً- كمثل حمزة الصوفي يقول: نزلت في بئر أستقي، فجاء اثنان فردما علي البئر -لا يعلمان أن فيه أحد- لا يعرفان أن فيه إنسان، قال: فجاء رجلان فطماها عليَّ، قال: فسكت حملاً لنفسي على التوكل، قال: ثم جاء أسد فأخرجني. لو سلمنا أن هذا الكلام صحيح، فقد يكون هذا حدث اتفاقاً رحمة من الله بعبده الجاهل، وإلا فسيد المتوكلين لما أراد أن يخرج من مكة إلى المدينة لماذا اختفى في الغار؟ لماذا لم يمش أمام الكفار؟ لماذا لما رأى سراقة بن مالك دعا عليه فساخت أقدام فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين، قال: يا رسول الله! ادع الله أن يخرجني ولك أن أرد عنك، فدعا له فقال له: (أخفِ عنا)، لماذا قال له: أَخفِ عنا؟ أخذاً بالأسباب؛ لأن الإعراض عن الأسباب هدم لصرح الأمر والنهي.

مريم العذراء يأمرها ربها بفعل السبب

مريم العذراء يأمرها ربها بفعل السبب ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لمريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] لو جاء أربعون رجلاً أشداء أقوياء وقلنا لهم: هزوا النخلة لينزل الثمر، ما نزلت تمرة، فما هي القوة عند امرأة نفساء، لتهز النخلة؟ امرأة نفساء وأضعف ما تكون المرأة بعد الولادة، خارت قواها كلها، لذلك ابن عمر لما كان يطوف بالبيت ورأى رجلاً يحمل أمه العجوز على كتفيه يطوف بها وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر يعني: أنا جمل أنا مطية لها، ويطوف في وسط الخلق، ثم التفت إلى ابن عمر وقال: (يـ ابن عمر! تراني وفيتها؟ قال له: لا ولا بزفرة) الزفرة هي: (الآهات) التي تقولها المرأة في الولادة، التأوه، كل الذي فعلته لا يساوي زفرة منها وهي تلدك. فكيف قال الله لمريم وهي بتلك الحال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]؟ إشارة إلى الأخذ بالسبب، ولذلك أجاد ذلك الشاعر -لله دره- حين صور هذا المشهد فقال: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغب بالعدل يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزق سبب لو شاء أنزل عليها الرطب، لكن هو الذي جعل النخلة في يدها كفرع شجر، وهذا من ألطف ما يقال في الأخذ بالأسباب. الإعراض عن الأسباب هدم للدين كله، قدح في الشرع الذي هو الأمر والنهي؛ لذلك كان المؤمن الذي يرجو ربه تبارك وتعالى يبدأ بطلب السبب ولا يلتفت قلبه إليه، لذلك وصف الواصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يميزهم عن الذين أتوا من بعدهم في تعاملهم مع الدنيا- فقال: كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم. مطلوب منك أن تكون غنياً لكن لا تكن عبداً للمال، المال يكون في يدك، وقلبك فيه الافتقار إلى الله تبارك وتعالى، وليس الطغيان بذلك المال.

الإخلاص بين الصوفية والسلف

الإخلاص بين الصوفية والسلف الإخلاص شرط في قبول العمل، فلا يقبل الله عز وجل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله تعالى غيره تركه وشركه، وقد ضلت الصوفية في هذا الباب فعرّفوا الإخلاص بما يذهب بالإخلاص، واختلقوا في طريقه عقبات موهومة فقالوا: إن طلب النعيم والجنة ينافي الإخلاص وغير ذلك من خرافاتهم.

الصيام عنوان الإخلاص

الصيام عنوان الإخلاص إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام: الصيام عنوان الإخلاص، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ونعلم ضرورة أن الصيام للعبد أيضاً، فكل عمل ابن آدم له حتى الصيام؛ لأنه إذا لم يصم عوقب، فدل ذلك على أنه إذا عمل فهو له، وإنما استثنى الله عز وجل الصيام دون الصلاة -والصلاة هي رأس الأمر بعد الشهادتين- لأن الصيام عنوان الإخلاص، لا يتأتى فيه الرياء مثلما يتأتى في الصلاة. إن العبد قد يتوضأ في بيته ويخرج إلى المسجد ويرائي الناس بصلاته؛ لكنه لا يستطيع ذلك في الصيام، فقد يكون في البيت وحده فيشتد به العطش حتى يكاد أن يهلك، ومع ذلك لا يستطيع أن يشرب هذا هو معنى الإخلاص. إن الإخلاص في العبادة شرط باتفاق العلماء، والعمل الذي يخلو من الإخلاص لا قيمة له، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]؛ لأنه خالٍ من الإخلاص. الإخلاص يرفع صاحبه من أسفل سافلين فيجعله في أعلى عليين، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146].

تعريف الصوفية للإخلاص

تعريف الصوفية للإخلاص هل يشعر المرء إذا كان مخلصاً أم لا؟ من العجب أن بعض الصوفية عرّفوا الإخلاص تعريفاً يذهب بالإخلاص، عرفوا الإخلاص تعريفاً يكاد المرء يشك في نفسه، فقال قائلهم: إذا شهدوا في إخلاصهم الإخلاص؛ فإن إخلاصهم يحتاج إلى إخلاص. أي: إذا أحس المرء أنه أخلص في عمله، فإن هذا الإحساس مضيع للإخلاص، فشرط الإخلاص: ألا يشعر بأنه مخلص أبداً. نسوا إرادة العبد للإخلاص، فكيف يتأتى الفعل بدون إرادة؟! هذا مستحيل! لأن هذا أمر يجده المرء من نفسه، ولا يختلف فيه أحد، فالمخلص يجب أن يعلم أنه مخلص، فكيف يقال: إذا شعرت بأنك مخلص فهذا قدح في إخلاصك؛ أو إخلاصك يحتاج إلى إخلاص؟!

حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار يرد على الصوفية في تعريفهم للإخلاص

حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار يرد على الصوفية في تعريفهم للإخلاص يكفي أن يُرد على هؤلاء بحديث واحد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، وإن لم يفعله أحد من هذه الأمة، ولكنه حدث في بني إسرائيل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم يرتادون لأمرهم، فأخذهم المطر، فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا الغار سقطت صخرة من أعلى الجبل مما يهبط من خشية الله، فسدَّت عليهم باب الغار، فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا: سقط الحجر وعفي الأثر، ولا حيلة لكم إلا بالله، فادعوا الله بصالح أعمالكم. فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً)، والغبوق: هو الشراب بالعشي، يقول: كنت لا أسقي بالعشي أحداً قبلهما، والشراب في الصباح اسمه: صبوح، (فنأى بي طلب -أي: الشغل- يوماً، فلم أرد عليهما، فجئتهما وقد ناما، فوقفت على رأسهما ولم أوقظهما، ووضعت الإناء على كفي والصبية يتضاغون -أي: يصرخون من الجوع- تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب أحد قبلهما، فما زال ذلك دأبي ودأبهما حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة، فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فرضيت، والتمست لها مائة وعشرين ديناراً، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فقمت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز -أو ذرة- فاستقل أحدهم أجره فذهب مغضباً وتركه، فثمرته له حتى كان منه البقر والإبل والغنم، فجاءني وقال: يا عبد الله! ادفع إلي حقي ولا تبخسني حقي، فأخذته على سقف البيت وقلت: انظر! كل الذي ترى لك، هو من مالك، فقال: يا عبد الله! لا تسخر بي، قال: هو كما أقول لك، فاستاق النعم كلها ولم يترك منها شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون). فهؤلاء علموا أنهم أخلصوا في هذا العمل، فدعوا الله عز وجل بما يتيقنون أنهم أخلصوا فيه، فإن الكذب على الله جريمة من أعظم الجرائم، فكيف يقول لله عز وجل وهو كاذب: اللهم إن كنت تعلم! ويكذب في الموضع الذي يبتغي فيه النجاة؟!! فعليه نعلم أن المضطر مخلص في اضطراره، حتى لو كان مرائياً في غير ذلك، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ ُُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس:22 - 23]، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32]. فالعبد يخلص إذا أصابه الاضطرار، وهل تخلّص العبد من الاضطرار، وحياته كلها أزمات، وكلها محن ومصائب؟! فهو محتاج إلى ربه دائماً، وهو مضطر دائماً، فلِمَ يخلص في موضع ويرائي في آخر؟!

الإخلاص شرط في قبول العمل

الإخلاص شرط في قبول العمل قد أمرنا الله عز وجل بالإخلاص في العمل، وأعلمنا أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي أحداً تركته وشركه)، وهذا تقرير لمعنى الإخلاص، قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:11 - 14] {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]. فلا يقبل الله عز وجل عمل عامل إلا بالإخلاص.

عقبات موهومة في طريق الإخلاص عند الصوفية

عقبات موهومة في طريق الإخلاص عند الصوفية إن في طريق الإخلاص عقبات موهومة وعقبات حقيقية، وأكثر الناس مبتلى بالعقبات الموهومة، فيشتبه عليه العمل أهذا إخلاص أم رياء؟ فيبتلى في آخر الأمر بالنفاق، فتكون عاقبته وخيمة، والذين يضخمون هذه العقبات هم الصوفية، يضخمونها حتى يشك المرء في نفسه. وكما وردت المقولة: إذا اعتقدت أنك مخلص فإخلاصك يحتاج إلى إخلاص!! يقول رويم بن أحمد الصوفي الشهير فيما رواه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمته: (رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين!!) سبحان الله! فلو صدر الرياء من أكبر رأس على وجه الأرض لكان رياءً مذموماً، ولو صدر الإخلاص من أدنى رجل لأُجر عليه، فكيف يقال: إن رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين؟! هناك فرق هائل، وهل حسنات الأبرار كسيئات المقربين؟ ومتى كانت الحسنة سيئة؟! إن الله تبارك وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ليس هناك مداهنة إطلاقاً، فأدنى رجل إذا فعل الطاعة قبلت منه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، لا يعرف رسماً ولا اسماً، ولا يؤبه له، ومع ذلك إذا أقسم على الله أن يفعل كذا أبر قسمه. إن الله تعالى هو الخبير الذي لا يعرف أخبار خلقه إلا هو ترى الرجل فتزدريه بعينيك وهو من الأولياء، وترى الرجل يشار إليه بالبنان، ويتبركون به، وهو من أهل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبينها قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة)، والفارق هو الإخلاص.

الاقتداء بالصحابة أمان من الفتن والضلالات

الاقتداء بالصحابة أمان من الفتن والضلالات إن أولياء الله عز وجل من الصحابة رضي الله عنهم قد حققوا الإخلاص غاية التحقيق، وضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، وبهم نقتدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد) {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت، فعندها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل. إذاً: بقاء النجم في السماء علامة أمان، فطالما أنك ترى النجوم فأنت في أمان، لكن إذا سقطت النجوم فليس بعدها إلا القيامة (النجوم أمنة في السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، فإنه لما ذهب الصحابة زادت الفتن في هذه الأمة، وكم من المحن التي حلت بالأمة مما يندى لها الجبين! إذاً: بقاء الصحابة كان علامة أمان لهذه الأمة، فإن ذهب الصحابة أتى هذه الأمة ما توعده. إذاً: العودة لهدي الصحابة أمان، واستحضارك لعمل الصحابة وأقوالهم أمان، وهذا هو المذهب الذي نريده. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الجزاء حافز وداع إلى العمل

الجزاء حافز وداع إلى العمل لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا لم ينصب له جائزة فإنه لا يعمل، والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المعنى من القرآن، فعندما ذكر الله عز وجل أن الجنة للمتقين وأن النار للعاصين، جعل حافزاً وجزاءً، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة لقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها غلام، فرفعته وقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟! قال: نعم، ولك أجر)، والمرأة لم تسأل عن الأجر، إنما سألت عن الحج، وكان الجواب كافياً بنعم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أردف ذلك وقال لها: ولك أجر؛ لأن العبد إذا علم أنه يؤجر عمل، وزادت همته. ونضرب مثلاً للأعمال والأجور: موظفو القطاع العام يأخذون الراتب سواء عملوا أو لم يعملوا، ولذلك كثر فيه الغش والخداع، بينما القطاع الخاص نادر؛ لأنه يربط الأجر بالإنتاج، فإذا أنتج رجل قطعة أخذ مقابلها أجراً، فتجده يجد ويعمل ابتغاء الأجر. فهذا شيء خلقه الله عز وجل في فطر الناس، فإذا علم الإنسان أنه لن يؤجر؛ فترت همته، وقل عمله، لكن إذا علم أن الله عز وجل سيجزيه ويعطيه؛ فإنه يعمل ويجد ويجتهد، فكيف غفلوا عن هذه الخصلة الموجودة في بني آدم وخاطبوا عبداً مجرداً من الإحساس؟! وقد جاء أن أحد الصحابة قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر وكان يأكل تمرات: (يا رسول الله! مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة! وذكر الجنة ونعيمها، وحورها وشجرها، فقال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، فرمى بالتمر ودخل في الصف فقاتل حتى قتل). ولو أن هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: لا أجر لك! فهل سيضحي الرجل كما ضحى ورمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات؟!! ما الذي جعله يضحي بنفسه ويدخل في غمار الصف؟! إنه الجزاء والأجر الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام. الناس في الدنيا نماذج كثيرة، فرجل يعمل ويبني عمارات ومصانع لأجل ماذا؟ وآخر تزوج ولم ينجب ومنذ سنين وهو يذهب إلى الأطباء وهم يرخون له الحبل، ويستدرجونه بالأماني: هناك أمل إن شاء الله!. وقد حدث هذا الأمر لطبيب أعرفه، تزوج بابنة خاله، وكان يحبها حباً شديداً، ويتمنى منها الولد، وظل سنيناً طويلة يبحث عن ولد، وهم ينسجون له حبال الأماني: هناك أمل! والرجل معتمد على الله عز وجل؛ لأنه قيل له أن هناك أملاً، وفي حياة طويلة على مدار عشرين عاماً، وهي نسبة ذهابه إلى الأطباء في أنحاء العالم رجاء الولد، وخلال ذلك وهو يبني ومعه عقارات، ومعه عيادتان، وفي آخر مرة رجع من بلد أوروبي وقد قال له الأطباء: لا أمل على الإطلاق! فلما رجع بدأ يبيع العقارات والعمارات، وباع عيادة من العيادتين، فسألوه عن ذلك، فقال: لمن أتركها؟! إذاً: لماذا كنت تعمل طيلة عشرين عاماً؟ لمن كنت تبني وتعمّر؟! لقد كان عنده أمل، فلما فقد الأمل أنفق ما جمع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، والفسيلة: هي النخلة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحض على الزراعة، فيقول لأحدنا: إذا كان بيدك فسيلة فاغرسها قبل أن تموت، لا تقل: لمن أزرعها؟ والمرغوب فيك أنك لا تعمل إلا لهدف، فخالف طبعك واغرسها، ولماذا لا يغرسها؟ سيقول: لأن الساعة قد قامت، فمن سيأكل منها إن أنا غرستها؟ فكأنه قال له: خالف ما هو مغروس فيك واغرسها. إذاً: العبد لا يعمل إلا إذا جعل له الأجر، أما إذا لم يجعل له أجر فترت همته. فجعل هؤلاء طلب النعيم الأخروي عقبة من عقبات الإخلاص، فضيعوا معنى الإخلاص على سواد الجماهير من المسلمين.

ضلال الصوفية في جعلهم النعيم الأخروي منافيا للإخلاص

ضلال الصوفية في جعلهم النعيم الأخروي منافياً للإخلاص إن الأنبياء كانوا يدعون الله عز وجل أن يدخلهم الجنة، وكانوا يتعوذون من النار، والله تبارك وتعالى أثنى على عبادٍ له ونسبهم إلى نفسه تشريفاً لهم، قال الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]، وهؤلاء يتعوذون من النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66]، والذين وصفهم الله عز وجل بالعقل من جملة البشر وهم أولو الألباب، تعوذوا من النار، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ومن جملة قول هؤلاء: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192]، وقبل ذلك بآيات: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]، وهذا كلام الله وحكمه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. لكنهم يقولون: هذه عبادة التجار! فالذين يعبدون الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره عباد سوء!! فجعلوا طلب الأجر عقبة من عقبات الإخلاص، ومن هو الذي يستطيع أن يحقق ما يقولون وقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يدعو بالنجاة من النار وهو ساجد؟! وجاءه رجل -كما روى أبو داود في سننه- فقال له: (أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ -أي: أنتم تتكلمون كثيراً، وهذا الدعاء لا أفهمه ولا أتقنه ولا أحفظه- لكنني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، أي: حول طلب الجنة والعياذ من النار ندندن. فكل الذكر وكل الدعاء إنما هو لطلب الجنة والنجاة من النار إن هؤلاء يظنون أن الجنة فاكهة ورمان فحسب، لا. إن أعظم ما في الجنة النظر إلى الله عز وجل، فينسبون إلى رابعة قولها: (وإن كنت أعبدك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني)، سبحان الله! وهل يرى العبد ربه خارج الجنة؟! هل هناك مكان ثالث غير الجنة والنار؟! قال الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، قال الشافعي رحمه الله: (لو لم يكن من العقوبة إلا الحجاب فلا يرون الله لكان كافياً). فهذا أعظم من عذاب النار، وهو ألا يرون الله، كما أن رؤية الله عز وجل أكبر من كل نعيم الجنة، كما في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استقر أهل الجنة في الجنة، يقول الله عز وجل لهم: يا عبادي! هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير؟! قال: أفلا أعطيكم ما هو أكبر من ذلك؟ قالوا: يا ربنا! وما هو أكبر مما نحن فيه؟! قال: فيكشف الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى الله عز جل). إن أعظم نعيم في الجنة هو أن يرى العبد ربه، فكيف يقولون: (وإن كنت أعبدك طمعاً في وجهك فلا تحرمني من وجهك) ولا يرى العبد ربه إلا إذا دخل الجنة؟! هذا غلط وقعوا فيه، وشيدوه، وبنوا عليه أصولاً في علم السلوك، وتمسك به كثير من الذين تأثروا بـ أبي حامد الغزالي. فاحذروا باب السلوك وباب العقيدة في إحياء علوم الدين، فهذا الكتاب لا يحل لأحد أن يقرأه إلا إذا كان عالماً، ففيه طامات وحيات وأفاعي بين السطور كم أردت من قتيل! وقد حذر العلماء من هذا الكتاب. لقد جعل الصوفية طلب النعيم الأخروي عقبة في طريق الإخلاص، فإذا كان الرجل يطلب من الله الجنة ويستعيذ به من النار، يقولون له: أنت لست بمخلص، وإخلاصك يحتاج إلى إخلاص! فضيعوا الإخلاص على جماهير المسلمين.

طلب النعيم الأخروي

طلب النعيم الأخروي إن أول العقبات الموهومة كما تزعم الصوفية: هي طلب النعيم الأخروي، ويرون أن ذلك قدح في الإخلاص، يقول رويم بن أحمد هذا: (الإخلاص ألا تطلب على عملك عوضاً في الدارين، ولا جزاء من الملكين)، وهناك كلمة ينسبونها إلى رابعة العدوية عابدة أهل البصرة: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني). ويقول أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء، الذي ضيع علم السلوك بهذا الكتاب، يقول: إن من عمل للجنَّة وخاف من النار كمثل الأجير السوء، إذا أُعطي عمل وإذا مُنع لا يعمل، ودرجته بمنزلة البنجي. أي: الحمقى.

القضاء والقدر

القضاء والقدر الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان العبد حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد ضلت القدرية في هذا الباب فأنكروا القدر، وقالوا: إن الأمر أنف، بمعنى: أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، أما أهل السنة فيقولون: إن الله على كل شيء قدير، وقد قدر الله كل شيء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

الفهم الصحيح للإيمان بالقضاء والقدر

الفهم الصحيح للإيمان بالقضاء والقدر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] لقد اشتملت هذه الآية على عدة صفات لله عز وجل: كصفة العلم، وصفة القدرة، فلا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان عالماً بما يئول إليه الحال، ولا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان قادراً على إمضاء ما يريد، وهذا هو سر القضاء والقدر: العلم والقدرة. لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الباب نسيجاً وحدهم، ليس لهم نظير؛ لاستقامة فهمهم، واستقامة عربيتهم، فما كانوا يسمعون القرآن سماع الأعاجم، ولا كانوا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم سماع الأعاجم، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ندفن جنازةً في بقيع الغرقد، وكان بيده عود، فجعل ينكت في الأرض بذلك العود، ثم قال: ما من نفسٍ منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! أهذا أمرٌ مضى وانقضى أم لأمرٍ مستأنف؟ قال: بل لأمرٍ مضى) وفي الرواية الأخرى: (قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟)، طالما أن كل إنسان قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقدر الله مقادير الخلائق، وجرى القلم بما كان وما يكون إلى قيام الساعة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة إذاً ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له، فأما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] قال سراقة: فما أجدني أحرص على العمل مني الآن) هذا هو استقامة الفهم، قال: ما أجد حافزاً لي على الجد في العمل وطلب رضوان الله مثل الآن.

اختصاص الله تعالى بعلم مآل الأحوال

اختصاص الله تعالى بعلم مآل الأحوال إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يكون إلا مجملاً؛ لأن حكمة الله لا تدركها العقول. فهذا موسى عليه السلام مع كونه نبياً مرسلاً من أولي العزم، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن المجيد، عندما اتبع الخضر فقتل الغلام أنكر عليه: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، وفي القراءة الأخرى: ((زاكيةً))؛ لكن الله عز وجل الذي علم الخضر هذه الأمور التي حجبها عن موسى -وهو العليم الذي يعلم مآل الأحوال وما تصير إليه- قضى بأنه إن عاش هذا الغلام سيكون كافراً، وحينها سيرهق أبويه طغياناً وكفراً. من الذي يمكن أن يطلع على هذه النتيجة؟ من الذي يقول: إن فلاناً سيختم له بشقاء أو بسعادة؟ كون الإنسان لا يملك علم معرفة المآل؛ لا يجوز له الاعتراض بظهور الحال، فإن العبرة بالمآل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام الإنسان يوماً طويلاً، وقبل المغرب بوقت قليل شرب الماء، لبطل صوم يومه، وكذلك قبل أن يسلم من صلاته، لو أحدث لبطلت صلاته. إذاً: (إنما الأعمال بالخواتيم)، والخاتمة محجوبة، ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن لا نشهد لمعينٍ بجنة ولا نار، فلا نقول: فلان: من أهل النار، حتى لو كان مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً، إلا أن تذكر النتيجة مقيدة، كأن يقال: فلان النصراني من أهل النار إن مات على ذلك، ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى واستدل بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، هذا هو الشرط؛ لاحتمال أن تتدارك رحمة الله عز وجل هذا النصراني فيسلم قبل أن يموت، إذاً: الذي ظهر كفره بجلاء لا تُعرف خاتمته، فإذا كان العبد يجهل الخاتمة فكيف له أن يحكم وعلمه ناقص؟! روى البخاري وغيره من حدث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)، أي: خلقه الله كافراً، والخضر لو لم يعلمه الله عز وجل لما علم الحقيقة؛ بل لم يعلمها موسى الكليم، الذي هو من أولي العزم، فلذلك لا ينبغي للعبد أن يحكم على المآل بظهور الحال. إن الذين يتكلمون على الصحوة الإسلامية الآن وهم يرونها ضعيفة، فأحدهم يستهزئ ويقول: دعوهم يدعون على أمريكا ليل نهار، أمريكا لديها صواريخ عابرة للقارات، وعندها قنابل ذرية، وقنابل هيدروجينية، وعندها أربعون قمراً صناعياً تجسسياً فوق منطقة الشرق الأوسط، فكأنها تسمع دبيب النملة، وأوهمونا في حرب الخليج أن الطائرة الشبح تستطيع أن ترى ماركة الفنيلة! وهؤلاء هم القادة العسكريون الذين هم عسكر من رءوسهم إلى أخمص أقدامهم، هم الذين كرروا هذا الكلام. فهؤلاء ينظرون إلى الحال ولا ينظرون إلى المآل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، لم يكن عندهم السبب الكافي الذي ينتصرون به على قريش، ولكن نصرهم الله وهم أذلة، هذا هو المآل! أما هؤلاء فكما قال الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، هذا كل علمهم، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، يقولون: كل يوم يكتشف العلماء أشياء مذهلة، والذين ماتوا قبلهم كانوا جهلاء بها. إذاً: عِلم الناس جميعاً ظاهر فقط، وما أطلعهم الله عز وجل على علم الحياة الدنيا، فمملكة السماوات والأجرام سر حتى الآن، حتى الصعود إلى القمر، وأنا أقول هذا الكلام على عهدة الرجل الذي ألف كتاباً وقد كان أحد رواد الفضاء، وجنسيته كندي، وألف كتاباً يفضح فيه المخابرات الأمريكية، وعنوانه: (لم نصعد إلى القمر)، وهو منشور باللغة الإنجليزية منذ حوالي سبع سنوات، قال فيه: إن الصعود إلى القمر أكذوبة للمخابرات الأمريكية، وإن بيننا وبين القمر منطقة تصل درجة حرارتها إلى أربعة آلاف درجة مئوية، لا يصل شيء إليها إلا ذاب وقال: ولست أنسى -وهذا الكلام على لسانه ونقوله على عهدته- يوم دعوا الجمهور الأمريكي ليتفرج على كبسولة الفضاء وهي تصل إلى القمر، ثم أشرنا إلى الجماهير وقام التلفزيون والقنوات بالتصوير، وأغلقوا علينا باب الكبسولة، ولم يعلم الجماهير أننا نزلنا من الباب الآخر، ثم أرسل الصاروخ كبسولة الفضاء ولم يعلم الجماهير أن هذه الكبسولة نزلت في المحيط وهذا ليس بغريب، وليس بمستبعد، فقضية الأطباق الطائرة خرافة المخابرات الأمريكية، وأنت عندما تريد أن تعمل شيئاً في الدنيا فلا بد أن تهيء له بشيء يلفت نظر العالم كله. واليهود هم ملوك الدعاية، وقد وصلنا الآن إلى درجة أن أمريكا وإنجلترا قد ملكت مقاليد الدنيا، وأول ما يشعر العباد أنهم قد ملكوا الأرض حينئذ تقوم القيامة كل شيء في الدنيا ملعون إلا ذكر الله وما والاه، ما غاية سعي العباد إلا الرئاسة والمال، وأعظم رجل ترأس في الدنيا كلها وشعر بحظ النفس هو فرعون، فليس هناك أحد أعظم منه والله ما سمعنا برجلٍ عُبد وكان له هذا الجبروت إلا فرعون، وغاية ما يتمناه الغني أن يكون مثل قارون، ولو جمع كل ما عند الناس الأغنياء المعدودين فلن يصل إلى ركن في خزائن قارون، وقد علمنا قصة فرعون وقصة قارون لتكون عبرة لأولي الألباب.

سبب ضلال الضالين عن المعتقد الصحيح

سبب ضلال الضالين عن المعتقد الصحيح أيها المسلم! هل أنت جاد في طلب الطريق الوحيد الذي يوصلك إلى الله؟ هل أنت وجل وخائف أن تزل بك القدم فتعير أذنك لشخص من إحدى الفرق الثلاث والسبعين شخص له منطق عذب وبيان حسن؛ فتضل وتذهب معه، وأنت تعلم أن الذين ضلوا ما أتوا من غباء؟! فها هو أمير المؤمنين المأمون كان يوقر عمرو بن عبيد رأس المعتزلة، وكان عمرو بن عبيد رجلاً زاهداً، يضرب به المثل في الزهد والتقلل من الدنيا، فكان المأمون إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد (كلكم يمشي رويد): أي: يمشي الهوينا وهو يتلفت، رجل يريد أن يصطاد؛ لكن الزاهد الذي لا ينوي إلا غايته لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهو: رجلٌ زاهد ولا يطلب صيداً من أحد، وهو مع ذلك رأس في الضلال، ذكر له حديث، فقال: من رواه؟ قالوا: جابر بن سمرة، فقال: قبح الله جابراً! وجابر بن سمرة صحابي. إن البوابة التي عبر منها أهل البدع هي عدم احترام أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم الاكتراث بهم، والزعم أنهم رجال وهم رجال، حتى لا تتم الأسوة بهم، ومذهب أهل السنة والجماعة معروف، فالطريق الوحيد له ثلاثة أصول: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، أي: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، (ما عليه اليوم أنا) هو الكتاب والسنة، (وأصحابي): هذا هو الأصل الثالث. أما المبتدعة فإنهم لا يقيمون للصحابة وزناً، ولا يرفعون لهم رأساً، فالأمر إذاً جد خطير. جاء في حديث الخوارج الذي رواه البخاري ومسلم أن ذا الخويصرة جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل! فقال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟ فلما تولى الرجل وأراد خالد أن يقتله، قال له: دعه، فإن له أصحاباً، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فهم عباد زهاد يصلون ويصومون؛ لدرجة أن الصحابة الأبرار الأجلاء يحتقرون أعمالهم إذا نظروا إلى جدية هؤلاء في العبادة. إذاً: لا تغتر بسمت مبتدع حتى تعلم أنه على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح. ما ظهرت الثنتان والسبعين فرقة إلا بضلالهم عن الطريق الوحيد، والطريق الوحيد -أيها الإخوة- هو أول طريق سُنَّ للمسلمين: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، (الفرقة الواحدة) هي أول فرقة ظهرت، أما باقي الفرق فلم تظهر إلا بعد الفرقة الأولى الناجية. بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات اثنتان وسبعون فرقة ضالة جاءت بعد ظهور الطريق الوحيد إلى الله عز وجل، إذاً فكيف بنا الآن، لا سيما بعد اندثار آثار النبوة، وموت العلماء الربانيين، وظهور علماء السوء بين المسلمين، فصار البحث عن الطريق في غاية المشقة، وإنما يسهل البحث إذا كثر الأدلاء عليه، فإذا كثر الأدلاء على الطريق هان عليك الأمر، أما إذا ذهب هؤلاء العالمون به، فما أتعس العامة بدون العلماء! إذاً: هذا هو الأصل الذي نؤصله لهذه القضية الخطيرة وهي: (كلها في النار إلا واحدة)، فالقرآن موجود، لكنهم يؤلونه ويحرفونه، فعندما أنكرت المعتزلة رؤية الله عز وجل يوم القيامة، هل أنكروا القرآن؟ لم ينكروه؛ بل احتجوا به على نفي رؤية الله عز وجل، مع أن السلف رحمهم الله، أجمعوا إجماعاً ظاهراً بدلالة النصوص على أن الله عز وجل يُرى في الآخرة قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجةٌ لأهل السنة أن الله عز وجل، يُرى في الآخرة بدلالة حجب الكافرين؛ إذ لو كان المسلمون محجوبين أيضاً عن رؤية الله، لما كان في حجب الكافرين عن الرؤية معنى. فلم يقل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] إلا لأن آخرين لا يحجبون، ولو كان الكل محجوبين لما كان لهذه الآية معنى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فهل أنكر المعتزلة هذه الآية؟ لم ينكروها، إنما قالوا: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] (إلاً) هكذا بالتنوين، وجمعها آلاء، أي: إلاً ربها ناظرة، أي: هي تنظر إلى آلاء الله ونعمه. فما أنكروا القرآن، ولو أنكروه لكفروا، لكنهم حرفوه، وهذا هو الذي صنعته كل الطوائف الضالة. فالصحابة رضوان الله عليهم سمعوا الآية، وعلموا أنه لا بد من عمل، وعلموا أن العبد مختار، وعلم العبد لا يجاوز شراك نعله؛ لذلك لا يجوز عليه أن يحكم في المآل وهو لا يعلم ما ينتهي إليه الحال، مع ظهور الحال، فكيف إذا كان المآل في غاية الخفاء؟! كما قال الله عز وجل في قصة موسى وفرعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، فلو كان فرعون يعلم أنه سيكون له عدواً وحزناً لما التقطه، ولا رعاه ولا رباه؛ لكنه التقطه وهو يظن أنه سيكون قرة عين له، فمن الذي يعلم هذا المآل؟ إذاً: هذه الآية: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، إشارةٌ إلى نفاذ إرادته تبارك وتعالى، وأنه الغلاب، وأن العبد لا ينبغي له أن يغتر بظاهر الحال؛ فليس له إلا التسليم، فقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، إشارة إلى هذا القهر، وأنك لا بد أن تسلم؛ لأنك لا تعلم، وعدم العلم هنا ليس هو الجهل، بل قد يكون العلم النظري غير المصحوب باليقين: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، أي: لا يوقنون أن الله غالب على أمره، وأنه قادر على كل شيء. أحد الذين هربوا سنة (1964م) من السجن إلى دولة عربية أراد أن يرجع إلى بلاده، فخاف أن يقبضوا عليه في المطار، فذهب إلى صديق له دبلوماسي كبير، وقال له: أريد منك أن تكتب لي خطاب تزكية إلى رجل ليستقبلني في المطار. وكان الرجل ذكياً فطناً، وظاهر القصة تدل على أن الرجل عنده فهم، فقال له: أنا سأكتب لك إلى شخصية كبيرة، لكن لا تفتح هذا الخطاب إلا في المطار (مطار القاهرة) وأنا سوف أتصل، فأخذ صاحبنا الخطاب ولما نزل في مطار القاهرة وفتح الخطاب، وجد أنه قد كتب فيه: (قل: يا رب!) فقط. هذا هو ما عناه ذلك الدبلوماسي، قال حاكي القصة: فاقشعر بدني لما قرأت هذه العبارة؛ لأنه قال له: أنا سوف أتصل، وكان يعني بالاتصال: الدعاء والمناجاة، ونزل الرجل ومضى، وانتهى الأمر. فهذا الرجل يعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير، لكن ليس عنده يقين، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] أي: لا يوقنون، فعدم العلم هنا مشتمل أيضاً على عدم اليقين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

خطورة القدرية وفرق الضلال

خطورة القدرية وفرق الضلال التأصيل الذي أريد أن أذكره: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي). أريد أن أشعرك -أيها المسلم- بالنعمة التي تعيش فيها؛ لتشعر بمدى تقصيرك، فهناك ثلاث وسبعون طريقاً، والذي يدخل الجنة طريق واحد فقط من الثلاث والسبعين، تُرى: الذين ضلوا من الثنتين والسبعين فرقة هل أنت أذكى منهم؟ أم هل أنت أشد عبادةً منهم؟ لا والله لقد كان فيهم الذكي الذي لو وزع عقله على أهل بلد لكانوا عقلاء، وكان فيهم الزاهد، وكان فيهم الورع والتقي، وحسبك ذلك الحديث: الذي ذكرناه آنفاً جماعة يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وفي رواية أخرى: (يتقعرون)، أي: وصلوا إلى قعر العلم، ومع ذلك يقولون: لا قدر!! ما هذا الضلال المبين؟! وأين العلم الذي نزلوا إلى قعره؟ هل نفعهم؟ لم ينفعهم، وهل أتوا من غباء؟! لا. لم يؤتوا من غباء، ولا من جهل لا بالأصول ولا بالفروع؛ لكنهم حادوا عن سيرة السلف الأوائل، وعن الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الله عز وجل. وعلى كل طريق من هذه الطرق شيطان يدعو إليها، ويزين الحجج، ويلقي بالشبهات؛ ولذلك سئل الإمام أحمد رحمه الله: هل نجادل أهل البدع؟ قال لا. إلا أن تكون البدعة مشتهرة ولها خطر، وعلل الإمام ذلك بقوله: إن الشبهة خطافة، والقلوب ضعيفة، فمثلاً نجد القدرية يقولون: إن قدر الله عليَّ المعصية فلم يعذبني؟ ولو أرسلت عقلك خلف هذا السؤال لتحير عقلك؛ لأنك لن تجد جواباً، وفي آخر الحال ستتهم ربك بالظلم لماذا قدر عليَّ المعصية؟! كتب نهايتي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة ثم يقال لي: أنت مختار! مختار في ماذا؟! لستُ بمختار؛ بل مجبر في الاختيار، فإن الاختيار شكلي محض، وفي حقيقة الأمر أنا مجبر!! لو أرسلت عقلك لأوصلك إلى هذه النتيجة.

بداية ظهور فرقة القدرية

بداية ظهور فرقة القدرية إن هذه القضية التي كانت من القطعيات عند الصحابة أصبحت مثار جدلٍ عظيم في القرون التي جاءت بعد ذلك، وهناك فرقة تنتسب إلى الإسلام اسمها: (القدرية)، أي: نفاة القدر، وقد ظهرت هذه الفرقة في البصرة في أواخر عهد الصحابة، كما في صحيح مسلم من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري ويحيى بن يعمر قالا: (خرجنا حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عما أحدث معبد الجهني من القول بالقدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! إنه ظهر قبلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم)، وذكر من شأنهم، ومن عبادتهم وجدهم واجتهادهم، قال: (وأنهم يقولون: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف، أو أن الله لا يعلم الفعل إلا بعد وقوعه، قال عبد الله بن عمر: (فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أنني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر)، ثم ساق الحديث وفيه أركان الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره حلوه ومره.

الالتفات إلى الأسباب وتركها

الالتفات إلى الأسباب وتركها هذا الشيء البدهي عند الصحابة صار مختلفاً فيه بعد ذلك. وقد أشار الله عز وجل في عجز هذه الآية إلى شيء في غاية الأهمية، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، إشارة إلى استكانة العباد إلى الأسباب، والإنسان بمجرد أن يبدأ بالعمل ويأتي بالأسباب على كمالها، يعتقد أن العمل لا بد أن يكون. أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره؛ ولذلك يتقن الشيء ويظن أنه لا بد أن يحصل على مرامه، ولكن هيهات! قد يكون السبب قوياً وله صلاحية؛ ولكنه لا يصيب، كالمطر هل يكفي في إخراج البذر والنبات؟ لا يكفي، حتى تأتي الرياح، ولا تكفي الرياح حتى تنتفي الآفات عن الزرع إذاً لا بد من وقوع أسباب وانتفاء موانع. وانظر إلى الرجل والمرأة: امرأة لا عيب فيها، ورجل لا عيب فيه، ورغم ذلك لا ينجبان، فمن ظن أنه بمجرد إنزال الماء يحصل الولد فهو جاهل، فكم من رجل أنزل ولم ينجب! وتحمل المرأة ولا يتم حملها، فلا بد من انتفاء الموانع. إن الالتفات إلى الأسباب مسألة خطيرة جداً تقدح في التوحيد، كما قال بعض السلف: (الالتفات إلى الأسباب شرك، وترك الأسباب بالكلية قدحٌ في التشريع). وفي قصة مريم عليها السلام أبلغ العبرة، فإن الله عز وجل قد يرزق العبد بدون أن يبذل أي سبب، وقد لا يرزق العبد إلا بسبب ولو كان تافهاً، فتحصيل الثروة العظيمة لا يشترط لها الجد والاجتهاد؛ بل قد تأتي بأدنى سبب، فهاهي مريم عليها السلام صحيحة، والأسباب متوفرة لديها لكسب القوت، ومع ذلك: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، بغير سبب! مع أنها مستطيعة، وليس بها مرض، فمن الممكن أن تكسب قوتها، ومع ذلك جاءها الرزق بلا سبب، فلما حملت وولدت وكانت في أشد حالات الضعف قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، وفي قراءة أخرى (تسَّاقط)، ولفظ (تسَّاقط) يدل على كمية التمر الكبيرة التي نزلت عليها بهذه الهزة، وكان الأولى ألا تبذل السبب؛ لضعفها، فرزقها الله بدون سبب، وهي في كامل صحتها، فلما خارت قواها قال لها: هزي!

الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد وتركها قدح في الشرع

الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد وتركها قدح في الشرع الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال بعض السلف: (الالتفات إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد، ورفض الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع). أما بالنسبة للأول: فقد ألغى الله عز وجل الواسطة بينه وبين عباده، إذاً: الالتفات إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد، فلأجل تجريد التوحيد ألغى الله الواسطة، فقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، وجرت العادة في كل آيات القرآن الكريم المشتملة على السؤال أن يثبت لفظ: (قل)؛ لأن الواسطة بين الله وبين الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن العباد لا يعرفون ما يحبه الله ويرضاه إلا عن طريق الرسول.

لا واسطة بين الله وبين خلقه

لا واسطة بين الله وبين خلقه لقد ألغى الله عز وجل الواسطة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، لاحتمال أن يكون الواسطة لئيماً، فمثلاً ولله المثل الأعلى: لو كان هناك رجل وزير أو محافظ أو مدير، وأنت تريد الدخول إليه، فلن تستطيع الوصول إليه إلا عن طريق السكرتير أو مدير المكتب، فلو كان هذا الرجل الواسطة لئيماً أو مرتشياً وقال لك: لن أوصلك إلى الوزير إلا إذا دفعت كذا وكذا، أو عملت لي كذا وكذا، وأنت في حاجة ماسة لمقابلة الوزير، وتريد أن تقابله بأي ثمن، فسوف تدفع ما أراده منك ذلك الواسطة؛ بل سوف تتذلل له وتقبل يده إلخ، فلو كان هناك واسطة بين الله وبين خلقه؛ لذهب ما لله للواسطة؛ من التضرع والابتهال، والترجي الذي أترجاه من أجل أن يوصلني، فالرغبة والرهبة لا تكون إلا لله. فلئلا يُصرف هذا الأمر للواسطة ألغاها الله عز وجل؛ لتجريد التوحيد والحفاظ على جنابه. إذاً: الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد؛ ولذلك ألغيت الواسطة حتى لا يلتفت إليها. وترك الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأن الله عز وجل قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، والباء هنا باء السببية، وليست هي الباء التي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، فإن الباء في (بعمله) غير الباء في: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فالباء في قوله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] باء السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، والباء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد الجنة لأنه عمل عمل أهل الجنة، وكان عمله كفؤاً وعوضاً لدخول الجنة، استحق دخول الجنة بالعمل. إذاً: الباب باء العوض في الحديث، وليس لأحد أن يؤدي شكر نعم الله عز وجل عليه أبداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الحديث، قالوا: (ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه

العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه إن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحب الله ويرضى، ولذلك كان الشرع هو الحاكم على العقل، فمثلاً هل الربا بالنسبة للعقول منكر؟ ليس بمنكر؛ بل فيه مصلحة، فالرجل ينمي أمواله، لكن الشبهة التي دخل منها المفتي بتحليل الربا، هي أن: كلا الطرفين مستفيد. مثلاً: مر رجل بضائقة مالية، ففرجت عنه وأخرجته من ضائقته، فهو إذاً مستفيد. وفي نفس الوقت صاحب رأس المال لا يعطل ماله، فعندما يخرج ماله بفائدة يكون قد استفاد، فالمقرض والمستقرض مستفيدان، هذا هو العقل!! وهذا هو الحال! لكنَّ المآل إلى الخراب، فهذا (بنك الاعتماد والتجارة)، وهو بنك شيوخ الخليج، وشيوخ البترول، الدنيا كلها كانت تتصور أن أي بنك في العالم يمكن أن يفلس إلا (بنك الاعتماد والتجارة)؛ لأنه مسنود، فشيوخ الخليج يضعون أموالهم فيه، ومع ذلك فأول بنك أفلس هو بنك الاعتماد والتجارة! والذين يمسكون بعجلة المال هم اليهود، أكلة الربا، وأكلة أموال العباد ولحومهم. فلو استقلت العقول ونظرت لقالت: ليس في الربا بأس! بل لقالت: ليس في الزنا بأس! سيقولون: الرجل الفقير الذي لا يستطيع أن يتزوج ويريد أن يقضي حاجته، فلماذا تعكرون عليه؟ ولماذا تحرمونه؟! والشيعة عندهم مذهب زواج المتعة، الذي أراد أحد الهالكين على مدار واحد وثلاثين مقالاً أن يحله عندنا، وتهكم بمذاهب الفقهاء الأربعة، وتهكم بشيوخ الأزهر الذين ردوا عليه، وقد جاء في الموسوعة الفقهية، وهي موسوعة الفقه الإسلامي التي أخرجتها وزارة الأوقاف في (الستينيات): زواج المتعة أنك تشترط مدة في أصل العقد، كأن تقول: أنا سأتزوج هذه المرأة يومين، أو شهرين، أو سنتين، أو عشر سنين، أو عشرين سنة فهذا لا يجوز. قالوا: أنتم تعسرون على الشباب، والشاب الآن لا يملك إلا هذه الساعة، فاتركه يتزوج يومين لا يملك إلا ثوباً واحداً اتركه يتزوج ثلاثة أيام عنده عشرة أو خمسة عشر جنيهاً، اتركه يتزوج ساعتين هذا هو زواج المتعة، أليست ظاهرة تيسير على الشباب المحروم؟! الذي حرقنا دمه وجففنا كبده بقولنا له: صم! يأتينا شاب فيقول: أنا شديد الشبق، ولا أستطيع الزواج، فنأمره بالصوم. وهذه وصية الرسول عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، مع أن هؤلاء الشباب لهم مخرج على مذهب الشيعة، وهو أن يتزوج يومين أو ثلاثة أو أربعة. فانظروا إلى استقلال العقول! فلو استقلت فلن تعرف ما يحبه الله ويرضاه؛ لأن الله عز وجل قد يأمر بالأمر الذي يصعب على العقل إدراك حكمته، فمثلاً: سعي هاجر عندما سعت بين الصفا والمروة، لقد كانت تبحث عن الماء، فقد يقول قائل: لماذا نسعى نحن بين الصفا والمروة، نحن نسعى على الرخام؟ وهناك تكييف مركزي في المسجد الحرام، إذاً المسألة مسألة شكلية محضة، فليس هناك إرهاق ولا تعب حتى نشعر فيها بتعب أم إسماعيل. فلماذا نفعلها حتى الآن؟ لماذا نطوف بالكعبة؟ لماذا نقبل الحجر الأسود؟ ولماذا نحلق؟ هذا كله ليس له جواب على مقتضى العقل، فقد يأمرك الله عز وجل بالفعل ابتلاءً بلا علة.

بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام

بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام إن للعلماء أهمية عظيمة في حياة الناس فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وإليهم يرجع الناس في المدلهمات والفتن. وإن من أولئك العلماء الربانيين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي ظل طوال حياته يدفع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف المحرفين وانتحال المبطلين، فأحيا الله به السنن، وأمات به البدع. وإن كانت الأمة قد فقدت هذا الإمام إلا أن آثاره ستبقى بارزة المعالم لكل من أراد معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

خسارة فقد العلماء

خسارة فقد العلماء إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فدرسنا هذا المساء بعنوان (بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام) وهي ترجمة مختصرة لشيخنا الشيخ الإمام حسنة الأيام، ومحدث بلاد الشام بل بلاد الإسلام، عميد السلفيين، وشيخ المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، شيخنا أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله. ففي يوم السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة (1420هـ) الموافق الثاني من شهر أكتوبر سنة (1999م) قضى الله عز وجل قضاءه بالحق، وألحق بالرفيق الأعلى شيخنا رحمه الله، وقبض ملك الموت وديعته في الأرض، واستودع مسامعنا من ذكره اسماً زاكياً، ومن عمى الأبصار من رسمه شخصاً تالياً. وإني والله لحقيق بقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً فقال: لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ وَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ فُقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجَى يَبعَثُ الشَّجى فَدَعْنِي فَهَذَا كُلَّهُ قَبْرُ مالك وفاة الشيخ الألباني رحمه الله خسارة جسيمة على هذه الأمة، فقد اندك بموته أقوى معقل كان يرسل الشيخ منه القذائف على خصوم الإسلام، وما لانت له قناة قط رحمه الله.

الشيخ الألباني وإحياء السنة

الشيخ الألباني وإحياء السنة أول معرفتي بشيخنا -رحمه الله- كانت سنة (1395هـ) كنت أصلي في مسجد (عين الحياة) خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وبعد انتهاء الصلاة كنت أطوف على البائعين الذين يبيعون الكتب، ففي يوم من الأيام وقفت على كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم إلى التكبير كأنك تراه) فأخذت الكتاب بيدي وقلبته، ولكنه كان باهظ الثمن، فتركته ومضيت أبحث عن كتاب آخر، فإذا بي أجد كتيباً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني) فاشتريته بخمسة قروش، وتصفحته وأنا في طريقي إلى مسكني، فوجدت ما فيه يخالف ما ورثته من الصلاة عن آبائي؛ إذ أن كثيراً من هيئات الصلاة لا تمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي أنني لم أشتر الآخر. والكسعي هذا رجل يضرب به المثل في الندم، وقصته أنه كان رجلاً رامياً، وكان لا يخفق في رميه، فرمى بالليل ظباء، فظن أن السهم لم يصب الظباء فكسر قوسه، وقيل: قطع إصبعه، فلما أصبح وجد الظباء ميتة وسهمه فيها، فندم أنه كسر السهم، وصار مثلاً يقال: ندامة الكسعي ومنه قول الفرزدق: ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لما غدت منّي مُطلَّقةً نوار فندمت ندماً شديداً أنني لم أشتر ذلك الكتاب، وظللت أبحث عن ثمن الكتاب طيلة الأسبوع حتى وفقني الله عز وجل لشرائه في الجمعة التي بعدها، فلما قرأت الكتاب كنت كما قال القائل: (ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح من الصباح) ووجدت نموذجاً فريداً في التصنيف، مع أنني ما كنت أفهم شيئاً قط من الحاشية التي كتبها الشيخ رحمه الله، ولكنني أحسست بفحولة وجزالة لم أعهدها في كل ما قرأته من قبل، فملك عليَّ هذا الكتاب حواسي، وكنت في كل جمعة أبحث عن مصنفات الشيخ ناصر الدين الألباني، حتى وقفت على كتاب (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة) وقفت على المائة الحديث الأولى، وهذا الكتاب هو الذي فتح عيني وأنار بصيرتي. وكان لهذا الشيخ رحمه الله الفضل ليس عليَّ فقط، ولكن على أبناء جيل الإسلام، فإن هذا الشيخ المبارك كان له من الأثر ما لم يفعله كثير من العلماء، فما من رجل ينسب إلى السنة في هذا الزمان إلا وللشيخ عليه فضل، دق أو جل. ومن بعدها لم أكن أصلي في مسجد عين الحياة خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله؛ لأن الشيخ رحمه الله كان على رغم ما له من فضل، فكل المنتسبين إلى الصحوة هو الذي أجج فيهم نار الالتزام والحمية للإسلام، إلا إن أكثر من ستين أو سبعين بالمائة من الأحاديث التي يذكرها الشيخ رحمه الله كانت من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وللشيخ كشك رحمه الله عذر في ذلك؛ لأنه حفظ أحاديث كتاب (إحياء علوم الدين) لـ أبي حامد الغزالي، وأبو حامد الغزالي كان تام الفقر في علم الحديث، وكتابه من أكثر الكتب كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وتستطيع أن تدرك ذلك بالنظر إلى حاشية الكتاب، وإلى تخريج الحافظ زين الدين العراقي المسمى بـ (المغني عن الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار) فإن الحافظ زين الدين العراقي حكم على كل أحاديث هذا الكتاب، وأكثر من ستين أو سبعين بالمائة من أحاديث هذا الكتاب إما موضوع أو باطل أو منكر أو ضعيف أو لا أصل له، والقليل منها صحيح. وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في الجزء الأول من السلسلة الضعيفة الأحاديث المشهورة على ألسنة الناس، وإذا بي أفاجأ أن أغلب الأحاديث التي حفظتها من الخطباء في الجمعة تدور ما بين المكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام والموضوع والباطل والضعيف والشاذ والمنكر إلى آخر هذه الأقسام التي هي من نصيب الأحاديث الضعيفة. فعكر عليَّ كتاب الشيخ الألباني هذه الخطب، حتى أنني أصبحت أشك في كل حديث أسمعه، وفي يوم من الأيام سمعت الشيخ يقول على المنبر حديثاً وهو: (إن الله تبارك وتعالى يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) لأول مرة أشك في حديث أسمعه وأقول في نفسي: ترى هل هذا الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومع ذلك فقد انفعلت له لما أسمعه من صراخ الجماهير من حولي إعجاباً واستحساناً. فلما رجعت إلى بيتي نظرت في سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ ناصر الدين فلم أجد هذا الحديث، فواصلت بحثي فوجدت هذا الحديث في كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لـ ابن القيم رحمه الله، وقد حكم عليه ابن القيم بأنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام. وكان قد استقر عندي ببركة القراءة في كتب الشيخ الألباني أن التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة واجب أكيد، فقلت في نفسي: لابد أن أذهب إلى الشيخ وأبلغه أن هذا الحديث مكذوب. وكان للشيخ كشك رحمه جلسات في مسجده بين المغرب والعشاء، فلحقت بالصف الأول حتى أكون في أوائل الناس الذين يسلمون عليه، فسلمت عليه وهمست في أذنه إلى أن الحديث الذي ذكره في الجمعة الماضية وسميته قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي الشيخ: بل هو صحيح، وقال لي كلاماً لا أضبطه الآن، لكن خلاصة هذا الكلام أن ابن القيم لم يكن مصيباً في حكمه على هذا الحديث بالوضع، ولم يكن هناك وقت للمجادلة؛ لأن هناك طابوراً طويلاً خلفي، وكلهم يريد أن يسلم على الشيخ ويسر إليه بما يريد. وكان مما حز في نفسي أن الشيخ كشك رحمه الله سألني عن العلة في وضع هذا الحديث، فقلت له: لا أدري. فقال لي: يا بني! تعلم قبل أن تعترض. فمشيت من أمامه مستخزياً، وخرجت من عنده وكلي إصرار أن أدرس هذا العلم، حتى أعلم ما هو السبب في أن الحديث موضوع أو ضعيف أو باطل. فكان من بركات الشيخ الألباني عليَّ وعلى كثير من أمثالي أنني تمذهبت بمذهب أهل الحديث؛ لأن التمذهب بمذهب أهل الحديث بمثابة طوق النجاة، ولم أتقلب يميناً ولا شمالاً، ولا تعدد انتمائي للجماعات المختلفة أبداً، وكان الفضل في ذلك بعد الله للشيخ الألباني رحمه الله. فطفقت أسأل إخواني عن شيخ يدرس هذا العلم، فدللت في ذلك الوقت على شيخنا الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وكان يعقد هذه المجالس في بيت طلبة ماليزيا، وكان يدرس كتباً أربعة: كان يشرح صحيح البخاري، والمجموع للنووي، وإحياء علوم الدين للغزالي، والأشباه والنظائر للسيوطي. فوجدت في هذه المجالس ضالتي المفقودة، ودرست عليه نبذاً كثيرة من علم الحديث، ولكن قلبي متعلق بكتب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.

الحويني ورحلته إلى الشيخ الألباني

الحويني ورحلته إلى الشيخ الألباني حتى منَّ الله تبارك وتعالى بأول رحلة إليه، وكانت في شهر محرم (1407) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت التقيت قبلها بصهره وزوج ابنته الأخ نظام، فقلت له: إن كان هناك إمكانية للدراسة عند الشيخ وملازمته، فذكر لي أن المسألة في غاية الصعوبة، وأن ملازمة الشيخ مسألة صعبة، ولكن تعال وجرب، فكتبت للشيخ رسالة قلت له فيها كلاماً معناه: (إنني علمت أنكم تطردون الطلبة عن داركم، وأنا عندي أكثر من مائتي سؤال في علل الأحاديث ومعانيها، ولست أقنع إلا بجوابكم دون غيركم) أو كلاماً نحو هذا المعنى، وسلمها الأخ للشيخ، وقرأها عليه، وكان مما تألم منه الشيخ في هذه الرسالة كلمة (الطرد). وكنت قبلها قد صنفت ثلاثة كتب، وكانت جميعها قد وصلت إلى الشيخ الألباني قبل أن أذهب إليه، فذهبت في الثاني من محرم، وكان ذلك في سنة (1407هـ)، ونزلت في عمَّان، وكلمت الشيخ بالهاتف، وقد هيأت نفسي على الرضا بالطرد إذا فعل الشيخ ذلك، فباغتني بأن بدأ، فألقى عليَّ السلام، فرددت عليه السلام بمثل قوله، فقال لي: لم تحسن الرد. فقلت: لم يا شيخنا؟! قال: اجعل هذا بحثاً بيني وبينك إذا التقينا غداً. وظللت طوال الليل أتأمل لم أسأت الرد، فهو قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ولم أكتحل بنوم حتى أذن المؤذن للفجر، وقررت في نفسي أن الذي يرد السلام يزيد شيئاً على الملقي، يعني: أن أزيد بعد: (وبركاته) لفظ: (ورضوانه) (ومغفرته) ولم أكن وقفت على بحث الشيخ في سلسلة الأحاديث الصحيحة (الجزء الثالث) لماذا؟ لأنه لم يصلنا في ذلك الوقت. وراح عليَّ لقاء الفجر مع الشيخ بسبب أنني نمت قبل الفجر بقليل ولم أستيقظ إلا بعد الفجر، فأخذت منه موعداً آخر بعد صلاة العشاء في يوم الثالث من محرم، فبعد صلاة العشاء التقيت بالشيخ، وإن لساني ليعجز عن وصف شعوري عندما رأيته لأول مرة. وقد كتبت ترجمة للشيخ الألباني سميتها (الثمر الداني في الذب عن الألباني) وقد نشرت قبل سنتين وحتى هذه اللحظة أشعر أنني عاجز عن وصف الشيخ مع أنني أمهلت نفسي كثيراً حتى أكتب ما شعرت به أول مرة رأيت الشيخ فيها، وكأني رأيت رجلاً من القرون الثلاثة الأول، عليه نضارة أهل الحديث، والشيخ ناصر كان بهي الوجه أبيضه، مشرباً بحمرة، ربعة من الرجال، خفيف اللحية أبيضها -لحيته بيضاء- عيناه زرقاوان، وزرقتهما رائقة كأنها بحر، ثم هو قوي البنية، فلما صافحني صافحني بقوة، وظل قوياً إلى آخر حياته رحمه الله، وكان شاباً فتياً بهمته، وكان يقود السيارة بسرعة عالية، ويحكي لي بعض الإخوة الذين كانوا يذهبون معه إلى العمرة بسياراتهم، فكانوا يتبادلون القيادة، فكان الشيخ أكثرهم قيادة، وكان التعب والملل يدركهم، وأما الشيخ فكان يقود سبع ساعات متواصلة لا يمل ولا يكل، مع ما كان عليه من الشيخوخة وكبر سنه. وفي الحقيقة أني لما رأيته تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها). قال ابن حبان رحمه الله بعد رواية هذا الحديث: (وإني لأرجو أن تدرك بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كل من نقل عنه حديثاً، فترى تلك النضرة في وجهه) ولقد كانت نضرة الحديث على وجه الشيخ باهرة ظاهرة. فلما اقتربت منه -اقتربت منه على حذر؛ لأن له هيبة شديدة- ففوجئت بأنه يعانقني وكان لقاءً حاراً، ولم أتوقع أن يتلقى الشيخ تلميذاً صغيراً بمثل هذه الحفاوة، فتكلمت معه ساعتين، وكانت هذه هي أول جلسة مع الشيخ الألباني رحمه الله، وبعد هذه الجلسة تنحيت به جانباً وأخبرته أنني لم أخرج من بلدي إلا للقائه والاستفادة من علمه، فلو أذن لي أن أخدمه، وأكون معه سنداً له أقضي له حاجياته، فاعتذر بعدم وجود الوقت الكافي، فقلت له: إذاً أعطني قليلاً من الوقت أسألك عن الأسئلة التي جئت من أجلها، فاعتذر أيضاً؛ لضيق وقته. فقلت له: أعطني شيئاً من وقتك ولو كان قليلاً، فاعتذر أيضاً؛ فأحسست برغبة حارة في البكاء، وأحسست أن رحلتي ضاعت، وأنا لم أخرج من بلدي إلا بأعجوبة، وكان حلماً لا أستطيع تحقيقه، فخروجي إلى الأردن كان معجزة، فقد كابدت فيه الأهوال وذقت المر حتى وصلت إلى الشيخ الألباني. فقلت له -وقد خنقتني العبرة-: يا شيخنا! والله ما خرجت إلا لطلب العلم، فإن كنت أخلصت نيتي؛ فإن الله عز وجل سيفتح لي، وإن كانت الأخرى فحسبي عقاباً عاجلاً أن أرجع إلى بلدي بخفي حنين، وسأدعو الله عز وجل. فافترقنا ولم أذق طعم النوم في تلك الليلة، وكاد رأسي أن ينفجر من الصداع. فلما صليت الفجر معه في اليوم التالي قابلني، فصافحته وقبلت يده، فقال لي مبادراً: لعل الله استجاب دعاءك. ففرحت فرحاً عظيماً بأن الشيخ رحمه الله قد سمح لي بالجلوس، وأنه سيأذن لي بالاستفادة منه وسؤاله.

الألباني ورحلته إلى بلاد الشام

الألباني ورحلته إلى بلاد الشام فكان من جملة فوائد الرحلة أنني سألته عن ترجمة لحياته، ولا أعلم أحداً سبقني إلى هذه الترجمة إلا الأخ محمد بن إبراهيم الشيباني، وهو أحد إخواننا من الكويت، وقد ألف في ذلك كتاباً وهو (حياة الألباني) ويقع في مجلدين، وهذا هو الذي سبقني في سؤال الشيخ الألباني ولكن لا أعلم أحداً سبقني في تسجيل حياة الشيخ رحمه الله بتوضيح، وهذه الترجمة موجودة في خمسة أشرطة. فحياته رحمه الله -كما سردها لي- أنه ولد عام (1914م) أي: أن الشيخ الألباني رحمه الله توفي عن خمس وثمانين سنة. قال: وكنا في ألبانيا، وكان الحاكم أحمد سوغو بدأ يفرض على الألبانيين (القبعة) بدلاً من العمامة، وكان يضايق النساء في لباسهن، وكان والد الشيخ الألباني رحمه الله شيخ الحنفية في بلده، وكان هو المفتي الذي يرجع إليه، فلما رأى والده هذا النذير -نذير الشؤم- بفرض (القبعة) بدلاً من العمامة، وهذا هو شأن العلماء النابهين، فالمسألة ليست مجرد عمامة أو قبعة كما يتصور بعض الناس الذين يهمشون المسائل الخطيرة، ويقولون: المهم القلب لا، فالعمامة مظهر إسلامي والدين الإسلامي أصيل، بينما القبعة من أزياء أعدائنا، والقبعة إنما توضع على الرأس، وأعلى ما في المرء رأسه، فأنت حين تضع شيئاً على رأسك فكأنما وضعت عنواناً، وأعلى ما فيك هو الرأس، فلا يرى الناس إلا (القبعة). وهذه الغفلة قد سرت إلى بلادنا، وحتى في بعض الناس الذين يوصفون بالالتزام، فتجد ابنه يلبس (فنيلة) -مثلاً- عليها العلم الإمريكي، ويوضع العلم على صدر أبنائنا، وأنت تعلم أنه لا يوضع على الصدر إلا الوسام، فعندما أضع علم عدوي اللدود على صدر ابني، فكأنني أعطيته وساماً، أو يكون على ظهره، والولد يتحرك ليلاً ونهاراً وهو يرفع العلم الأمريكي مجاناً، ويصير لون العلم لوناً مستأنساً بالنسبة له، وليس غريباً، وهذا له تأثير خطير في مسألة الانتماء. فالمسألة ليست مسألة قماش يوضع على الرأس وإنما هو رمز تحمله، وأنت ترى كل دولة لها علم يرفرف باسمها، تكون حريصة على أن يظل العلم مرفوعاً، وأكبر جريمة أن شخصاً يمسك هذا العلم وينظف به الحذاء؛ لأن هذا يدل على أنه ليست له قيمة عنده. فلما رأى والد الشيخ الألباني هذا قرر أن يرحل إلى بلاد الشام لما كان قد قرأه من الأحاديث في فضائل الشام عامة وفي فضائل دمشق خاصة، فرحل إلى دمشق واستوطنها، وكان عمر الشيخ الألباني آنذاك تسع سنوات، ولم يكن يعرف عن العربية شيئاً، فبدأ تعليمه في جمعية اسمها (جمعية الابتعاث الخيري) وكان كما يقول: كأن الله عز وجل فطرني على محبة اللغة العربية، فتفوقت على أقراني من العرب السوريين من أول سنة، وقال: وأخذت الابتدائية في سنتين، وكان المدرس يعير الطلبة السوريين بي؛ لأنني رجل أعجمي، ومع ذلك أتقنت العربية خلال سنتين. ولم يواصل الشيخ رحمه الله تعليمه فخرج من المدرسة، وكان أبوه يمارس مهنة تصليح الساعات، فلما خرج من المدرسة بدأ يعمل مع خال له، وكان نجاراً يصنع البيوت التي سقفها من الخشب على نحو ما هو موجود في باريس. قال: فجئت ذات يوم مبكراً. فقال: ما جاء بك؟ فقلت: لأعمل، فقال: هذه المهنة لا تصلح لك، تعال معي، وبدأ الشيخ ناصر الدين رحمه الله يعمل مع والده في تصليح الساعات، حتى برع فيها، وكان الشيخ رحمه الله يقول: إن مهنة تصليح الساعات علمتني الدقة. وهو حقاً كان دقيقاً جداً، فعندما ذهبت إليه في بيته إلى (الفيلا) التي يسكن فيها في مازدا الجنوبية في الأردن، ودخلت الحديقة لمست أثر مهنته عليه.

شدة الشيخ الألباني على المخالفين للدليل

شدة الشيخ الألباني على المخالفين للدليل فالشيخ ناصر مشهور عند الناس أنه صارم، نعم كان الشيخ صارماًً؛ لأن أكثر الذين خالطوه ما كانوا يتأدبون مع الدليل، ولا أقول: يتأدبون معه؛ فالشيخ لم يكن يهتم بذلك، وقد رأيت أناساً في مجلس الشيخ الألباني وأحدهم نائم على ظهره وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى أمام الشيخ الألباني! وآخر قدمه موجهة إلى وجه الشيخ الألباني. وأما أن يعترض أحدهم على الشيخ بعد ظهور الدليل، ويجادل بالباطل، فكان يصير قاسياً جداً. بعض إخواننا أراد أن يناظره في مسألة في (كتاب المحلى) فجمع بحثاً وذهب إلى الشيخ ناصر وظن أنه سيقيم عليه الحجة، وقد سمعت الأشرطة، ولما سمعتها تعجبت من طريقة الشيخ الألباني في إقامة الدليل وإقامة الحجة، ولقد سأله عن أشياء في بحثه لم يستطع أن يرد عليها، وجعل يناظره فيها، وكانت المناظرة حامية جداً، فعندما أحرج الأخ قال وهو يسأل الشيخ: يا شيخنا! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لا يرحم صغيرنا)، فكانت لفتة طيبة، فضحك الشيخ ناصر ضحكة تشعر أنها من القلب، قال له: هات ما عندك.

رقة الشيخ الألباني في آخر حياته ورؤيا رؤيت له

رقة الشيخ الألباني في آخر حياته ورؤيا رؤيت له فالشيخ الألباني كان صارماً، ولكن في المناظرات مع المخالفين، ولكنه كان رقيقاً جداً في آخر حياته، وغلب عليه الزهد، ورق قلبه كثيراً، وكان سريع الدمعة في آخر حياته، وقد حدثني إخواني كثيراً عنه، وسمعته في أشرطة مع أخت جزائرية اتصلت به، وقالت: يا شيخ! أنا رأيت في المنام أنا وأخت لي -وكنا في شرفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق، وبعد ذلك بقليل رأيت شيخاً يمشي خلفه، فسألتني صاحبتي: من هذا؟ قلت: الشيخ الألباني، فرأيتك تمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم على نفس الطريق. فالشيخ لم يتمالك نفسه من البكاء، وبكى وانتحب بصوت عال، وفض المجلس الذي كان معقوداً آنذاك لطلبة العلم في بيته أو في بيت أحد إخوته، فكان سريع الدمعة غزير العبرة في آخر حياته. نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم الشيخ الكبير، وأن يجزيه عما فعل من تنقية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة، ومن تعظيم الدليل، ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يجزيه عنا خير الجزاء، وأن يخلف على المسلمين في مصابهم الجلل، لاسيما وقد فقدنا ركناً رشيداً أيضاً بوفاة شيخ جليل قبل أربعة أشهر وهو سماحة شيخنا الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، فمات أكبر علمين من علماء المسلمين في هذا العصر، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم من مضى، وأن يبارك فيمن بقي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الشيخ الألباني والتمذهب

الشيخ الألباني والتمذهب وكان من الأسئلة المهمة التي سألتها الشيخ في هذا اليوم سألته عن التمذهب؛ لأنه شاع بين الناس أن الشيخ ناصر الدين الألباني يحارب المذاهب الأربعة، ويحارب التقليد، وكانت -في الحقيقة- شائعة قوية جداً وصلتنا إلى مصر، وكنت أريد أن أعرف رأي الشيخ فيها، فلما تكلم الشيخ في هذه المسألة تكلم بكلام هو الذي عليه الأئمة الأربعة، فالشيخ ناصر لا يقول للمسلمين: لا تتمذهبوا وإنما يقول: لا تتخذوا المذهب ديناً، بمعنى: أن تجمد على المذهب، وإذا علمت الحق في غيره تقول: لا، أنا لا أخالف المذهب، فهذا هو الذي كان الشيخ ناصر ينكره، وقد أنكره العلماء المتقدمون، وتبرءوا من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم أحياءً وأمواتاً، وقالوا قولتهم المشهورة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي). فالشيخ ناصر كان يقول: إذا كنت أنا شافعي المذهب، وظهر الحق في المسألة عند المالكية أو الحنابلة أو الحنفية، فليس معنى ذلك على الإطلاق أن أجمد على مذهبي وأقول: أنا شافعي ولا أخالف المذهب، وأترك الحق الذي قامت عليه الدلائل وأخالفه. فالشيخ ناصر كان يحارب هذا أشد المحاربة، كما كان الأئمة المتقدمون أيضاً يحاربون هذا أشد المحاربة. قال رجل للشافعي رحمه الله: (إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولاً لبعض العلماء الذين من قبلك، أتأخذ بالحديث؟ قال: فصاح الشافعي وعلا صوته وغضب وقال: تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! إذا قلت بقول على خلاف الحديث فاعلم أن عقلي قد ذهب). فالأئمة كلهم كانوا يحذرون من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء الشيخ الألباني وأخذ هذا ومضى على نفس المنوال، ولكن الحياة العلمية كانت جامدة، وقد كان الناس ركنوا إلى التقليد، وأصحاب المذاهب كلهم لا يتركون المذهب، حتى لو كان على خلاف الحديث الصحيح، بل كانوا يأخذون بفتاوى بعض المتأخرين التي لا يجوز أن تكتب في كتب الفقه أبداً، فمثلاً هناك كتاب من أهم كتب الأحناف المتأخرة ذكر فيه الإمامة في الصلاة ومن أحق الناس بها، ووصل به الحال أن يقول بعدما يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فأكبرهم سناً، فأقدمهم هجرة، فأجملهم زوجة، فأكبرهم رأساً، فأصغرهم عضواً! وهذا مكتوب في كتب الفقه، فهل هذا الكلام يكتب في كتب الفقه ويكون عمدة؟! (أجملهم زوجة) ولا يتأتى هذا إلا إذا كشفنا عن وجوه النساء وقلنا: أجمل واحدة هي امرأة الشيخ الفلاني، إذاً فهو الذي يؤم الناس، ولماذا أجملهم زوجة؟ قالوا: هذا يدل على أنه عفيف. ولا ينظر إلى النساء لأنها تكفيه، فهل يعقل هذا الكلام؟! وهل هذه الآراء تسمى فقهاً؟ وهناك كثير من الآراء التي لا تصل في الفساد إلى هذا، ولكنها آراء تعتمد على أحاديث ضعيفة موضوعة ومنكرة باتفاق علماء الحديث، ومع ذلك جاء الفقهاء الذين لا يعلمون الصحيح من الضعيف، فأسسوا عليها أقوالاً وأحكاماً فقهية، ولقد وقف الشيخ ضد هؤلاء وقفة قوية صامدة، ولذلك فإن أعداءه كثيرون، لماذا؟ لأنه فل جموعهم بالحجة القوية البالغة. فالشيخ ناصر لا يقول: بأنه لا يجوز لأحد أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، بل يقول: تمذهب، ولا بأس أن تتخذ المذهب وسيلة لدراسة الفقه، ولكن إذا علمت أن الحق في مذهب آخر فإنه يجب عليك أن تتبع الحق مهما كان. ولقد سألته: أي المذاهب تختار -أي: لو أن هناك طالب علم أراد أن يدرس الفقه ويتخذ المذهب سُلماً لدراسة الفقه، مع الشرط الذي ذكرناه، وهو أنه إذا علم الحق في مذهب آخر فيجب عليه أن يتبع الحق حيث كان. قلت له: فأي المذاهب تفضل لطالب العلم؟ قال: المذهب الشافعي، هو أثرى المذاهب جميعاً، ثم المذهب الحنبلي، ثم المذهب المالكي، ثم المذهب الحنفي، وهذا مع رعاية الدليل والنظر إليه.

تواضع الشيخ الألباني وبساطته

تواضع الشيخ الألباني وبساطته فلما كان في اليوم الثاني لم يأت الشيخ الألباني رحمه الله لصلاة الفجر، وكان يأتي من على بعد (خمسة عشر كيلو) ليصلي في هذا المسجد الذي كان يؤخر الصلاة نصف ساعة، وكان الشيخ الألباني يرى أن الصلاة تصلى قبل الوقت بحوالي نصف ساعة في بقية المساجد، فكان لأجل هذا يأتي من سكنه إلى هذا المسجد ليصلي فيه. فالشيخ لم يأت لصلاة الفجر في هذا اليوم، فخشيت على ضياع هذا اليوم بلا استفادة، فقررت أن أذهب إليه، فاستشرت إخواني فأجمعوا ألا أذهب، وقالوا: الشيخ لا يفتح الباب لأحد ليس له موعد سابق. وأنت بعد المكانة التي وصلت إليها لا يليق بك أن يقول لك: ارجع، فلا عليك أن يضيع عليك اليوم، ولكن لا تحرج نفسك، وكذلك رفيقي في هذه الرحلة، استشرته قلت: ما رأيك؟ قال: أنا رأيي أن تذهب، فقوى من عزمي أمران: الأمر الأول: أن صاحبي -الذي كان معي- أشار عليّ بالذهاب. الأمر الثاني: أنني تذكرت وقتها قصة وقعت لـ ابن حبان مع شيخه ابن خزيمة، وذكرها ياقوت الحموي في مادة (بست) -المدينة التي كان منها ابن حبان البستي - فلما ذكر مدينة بست، وذكر من فيها من العلماء ذكر ابن حبان وذكر له هذه الواقعة مع شيخه كليب، أما ابن حبان رحمه الله كان بعثه لسفر لهما، وكان ابن حبان يكثر من سؤال ابن خزيمة ويخزيه، فسأله سؤالاً: فقال له ابن خزيمة: يا بارد! تنح عني -أي: اتركني- قال: فكتبها ابن حبان (يا بارد تنح عني)، فقالوا له: أي فائدة في هذه العبارة؟ قال: لا أدع لفظة تخرج من فم الشيخ إلا كتبتها. فأنا قلت: ومالي لا أفعل مثلما فعل ابن حبان، وحتى لو قال لي: ارجع كما قال ابن خزيمة لـ ابن حبان لعددت هذه من فوائد هذا اليوم، وانطلقنا، وكانت المفاجأة أنه الذي فتح الباب واستقبلنا هاشاً باشاً، وجلسنا في حديقة منزله. وأنا أوصي إخواننا المتصدرين للدعوة أن يتبسطوا في معاملة الغرباء، فأنت لا تعلم ظروف هذا الغريب، ولا تدري كيف وصل إليك. فأجلسنا الشيخ وأصر على أن نفطر معه، فكان يأتي بالطعام، فكنت أريد أن أقوم بمساعدته، فكان يأبى عليَّ ويقول: اجلس. فأقول: يا شيخ! هذا من سوء الأدب أنني أجلس وأنت الذي تخدمني. فقال لي عبارة حفرت في ذهني قال: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) الامتثال: أي أن تمتثل أمره، أفضل من سلوكك الذي تظنه أدباً؛ لأن الطاعة والامتثال هنا هي الأدب بعينه. ومرة شخص من الذين يقولون: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله في التشهد والأذان جرى بيني وبينه مناقشة، فقلت: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم الصحابة التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وكل صيغ التشهد ليس فيها (سيدنا) أبداً، وهو سيدنا بلا شك، ولكن علينا أن نقف عند حدود ما علمنا، فقال: لا، الرسول كان لا يقول: سيدنا؛ لأنه كان متواضعاً. فقلت له: حسناً الصحابة بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم هل ظلوا على سوء أدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم يقولوا: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؟! فأحد الذين معه قال: يا أخي! يقول الرسول: (لا تسيدوني في الصلاة)، وهذا حديث لا أصل له، وتصحيح الكلمة: (لا تسودوني) من السؤدد، فانظر إلى سيء الأدب، الذي ليس عنده رائحة الأدب بماذا يرد، يقول: هو قال: لا تسيدوني وأنا سأسيده. إذاً هذا سيئ الأدب؛ لأنه إذا سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسيدوني في الصلاة) فلا يجوز لأحد أن يخالف أمره؛ لأنه إذا خالف أمره لم يدع له اعتباراً، فمسألة الوقوف عند الأمر والنهي هي التي تبين أن الإنسان يجعل للآمر الناهي اعتباراً عنده. فكان يقول: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) وكان هذا اليوم هو أفضل أيام الرحلة على الإطلاق، ففيه تلطف الشيخ رحمه الله، ولقد كنا متعودين من الشيخ الألباني الصرامة العلمية في الكلام، ولا تحس أن فيه لطفاً ووداً، والأشرطة التي سجلتها في ترجمة الشيخ ناصر فيها أن الشيخ ضحك وتبسم، حتى إن الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله لما سمع الأشرطة في أول مرة قال لي: كنت أتمنى أن تحذف ضحكات الشيخ الألباني. فقلت له: لماذا؟ قال: لأننا ما تعودنا هذا من الشيخ، ونحن متعودون أن نسمع كلاماً علمياً، وما تعودنا على مسألة الرقة ومسألة الضحك.

علاقة الشيخ الألباني مع طلابه الغرباء

علاقة الشيخ الألباني مع طلابه الغرباء وقد كنت أصحبه في زياراته فكان يقدمني لعلمه بأنني غريب، وكان يواسيني، ومرة دعاه جماعة من الأثرياء في منطقة جبل عمان، وهذه المنطقة يسكن فيها الناس الأثرياء، فقلت له: يا شيخنا! هل يمكن أن أصحبك؟ قال: نعم، انتظرني تحت الجسر الفلاني في الساعة الفلانية، وكان دقيقاً في مواعيده، فجاء وكان معه زوجته أم الفضل في الكرسي الخلفي، فجلست بجانبه وشعرت بالحرج أنني أركب معه وامرأته في السيارة، فلاحظ ذلك فجعل يسري ذلك عني ويسألني عن حياتي الشخصية، مثلاً: (هل تزوجت؟ هل عندك سيارة؟ موديل كم؟ كيف تعلمت القيادة؟ وفي كم أيام تعلمتها؟ كيف تأكل؟ وكيف تشرب؟ ومن أين تكسب قوتك؟) لا تتصور كيف كان وقع هذا الكلام وما له من الأثر عليَّ! وأنت إذا شاء الله سبحانه وتعالى وجعل لك في القلوب مكاناً، وجعل لك في الأفئدة وداً فأعظم ما ترقق به هذا الود أن تهتم بالحياة الشخصية لمريدك، فلا تجعل العلاقة بينك وبينه علاقة محاضرة أو تدريس كتاب لا، ليس هذا هو الذي يربطك به، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يهتم بمثل هذا، ولعلكم تعلمون الحوار الذي دار بينه وبين جابر بن عبد الله الأنصاري لما رجع هو وجابر من غزوة من الغزوات بعدما أعيا جمل جابر، فجعل يقول له: (ما أعجلك يا جابر! قلت: يا رسول الله! أنا حديث عهد بعرس. قال: بكراً تزوجت أم ثيباً؟ قال: قلت: بل ثيباً، قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك! فقلت: يا رسول الله! إن أبي ترك لي تسع نسوة حمق، فكرهت أن آتيهن بحمقاء مثلهن، فقلت: هذه أجمع لأمري وأرشد. قال: أصبت. قال: ما ترك عبد الله من الدين؟ قلت: يا رسول الله! ترك ألف ألف وسبعمائة ألف، -على والده عبد الله بن حرام (مليون وسبعمائة ألف درهم) - فسأله: كيف سيرد هذا الدين؟ قال: إن عندنا حائطاً -بستاناً- فيه نخل. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء جذاذ نخلكم فأتني -إذا طلع الثمر فادعني- ثم قال له: بعني جملك يا جابر. فقال: هو لك يا رسول الله. قال: لا، بعنيه. قال: هو لك. قال: بعنيه. فباعه بثنتي عشرة أوقية، واشترط ظهره إلى المدينة -أي: بشرط أن يركبه مجاناً إلى المدينة- فلما وصلوا إلى المدينة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته جاء جابر بالجمل إلى النبي، فقال له: خذ الجمل والدراهم) إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسهم في قضاء دين عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله. فكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يفعل ذلك، فمثلاً: قال يوماً في مجلس فيه عمر بن الخطاب: (دخلت الجنة البارحة -أي: في المنام- فرأيت قصراً، ورأيت على القصر جارية تتوضأ -في بعض الروايات: جارية وضيئة تتوضأ- فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـ عمر، قلت: ومن هذه؟ قيل: جارية لـ عمر. قال: فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً. فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أعليك أغار؟!) فمثلك في وفائه لأصحابه حتى في المنام لا يغار منك، فقد كان رسول الله وفياً لأصحابه حتى في المنام، قال: (فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركب عليها، فالتفتت إليه البقرة وقالت: ما لهذا خلقنا، إنما خلقنا للحرث. فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وليسا ثم -أي: لم يكونا موجودين في المجلس- قال: وبينما راع في غنمه إذ عدا الذئب على غنمه فأخذ شاة، فطلبه الراعي حتى أخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال للراعي: أما تتقي الله؟! تأخذ مني رزقاً ساقه الله إليَّ؟! فقال الراعي: ما رأيت كاليوم عجباً: ذئب يتكلم! وقال الصحابة: سبحان الله ذئب يتكلم! قال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر). فهذه المحاورة التي جرت بيني وبين الشيخ كنت أحس فيها بالدهشة، فالأصل أنك إذا رأيت الرجل مندهشاً مستغرباً أن تسكن من روعه. وقال لي: كم عندك من الولد؟ وكانت ابنتي الأولى -التي رزقت بها- رزقت بها قبل أن أسافر بيومين، فقلت له: رزقت ابنة. قال: ما اسمها؟ قلت: سلمى. قال: سلمها الله. فاستبشرت بيني وبين نفسي لعل دعوة الشيخ تدركها، وظل يسألني في ذلك حتى وصلنا إلى الباب، فقال لي: أنا أعلم حرصك على السؤال، ولكن أنا وأنت ضيوف، وليس من الأدب أن تنتزع الوقت لنفسك من صاحب البيت، ولكن إذا انتهى من الأسئلة فلا بأس؛ فهو يعلم أنني جئت من بلدي وأنا حريص على طلب العلم، فيرشدني ويدلني كيف أستثمر الوقت، وفعلاً لم يسأل صاحب البيت غير سؤال واحد؛ لأن صاحب البيت كان يريد أن يحظى ببركة دخول الشيخ عنده وزيارة الشيخ لبيته، وكان هذا اليوم من أظرف الأيام التي قضيتها.

الشيخ الألباني في المكتبة الظاهرية

الشيخ الألباني في المكتبة الظاهرية قال: وخرجت من البيت وليس معي درهم ولا دينار، ولا أدري إلى أين أذهب، حتى استأجرت من بعض إخواننا، وكان الشيخ الألباني رحمه الله له أيضاً دروس يعقدها في دمشق، وكان يشرح في تلك الأيام كتاب (زاد المعاد) لـ ابن القيم، وكان من ثمرة تدريسه هذا الكتاب الذي وضعه على زاد المعاد باسم (التعليقات الجياد على زاد المعاد) خرج فيه أحاديثه، ونقحه، واعترض عليه في بعض المسائل وأدلى بحجته، وما لم يظهر دليله أظهر دليله، ولكن الشيخ -كما أخبرني- لم يتم هذا الكتاب ولم يطبعه حتى الآن. ودرَّس أيضاً كتاب الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث للشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قال: وتزوجت ولم يساعدني أبي بشيء إلا بمائتي (ليرة) سورية، قال: ولكني كنت دقيقاً في مهنتي فبسط الله علي الرزق، فكثرت الزبائن وتحسن الحال. ثم بدأ الشيخ يرتاد المكتبة الظاهرية، والمكتبة الظاهرية تساوي دار الكتب المصرية، فهي مكتبة عامرة بنفائس المخطوطات النادرة، فكان يذهب إلى هذه المكتبة ويمضي يومه كاملاً إلى وقت متأخر من الليل، حتى إن الموظفين في المكتبة إذا أرادوا كتاباً ولم يعلموا بمكانه كانوا يسألون الشيخ الألباني عنه وهم الموظفون المختصون بالمكتبة! حتى وصل به الحال إلى أن أخذ مزية لا أعلم أحداً في الدنيا أخذها غير الشيخ الألباني، وهي أن مدير المكتبة الظاهرية أعطاه مفتاح المكتبة، مع أنها مؤسسة حكومية، وأنت تعلم أن المخطوطات ثمينة، فالمخطوطة الواحدة تباع بمليون (جنيه) وهذه المخطوطات هي تراث أمتنا الذي جاء المستعمرون وسرقوه ومضوا، والحملة الفرنسية لما أتت شغلونا بالكلام الفارغ، يقولون: اللغة الهيروغليفية! ماذا فعلت لنا هذه اللغة؟ عرفنا ماذا كان يأكل القدماء، وماذا كانوا يشربون، وكيف كانوا ينامون فما قيمة هذا الكلام؟ ولكن المستعمرين لما رحلوا إلى فرنسا سرقوا آلاف المخطوطات معهم وذهبوا لينصبوا المكتبات في باريس، ويوجد في العالم مئات المكتبات التي تضم آلاف المخطوطات الإسلامية. فمدير المكتبة الظاهرية أعطى الشيخ ناصر الدين الألباني المفتاح، وأعطاه غرفة خاصة في المكتبة، ولم يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن القوت. فيا ليت طلاب العلم يتأسون به في ذلك، فالشيخ ناصر الدين الألباني لم يصل إلى هذه الرتبة بسهولة، إنما وصل إليها بعد جهد جهيد وعناء شديد وعزم لا يلين.

الشيخ الألباني وتجرده للحق وبعض ما لقي من الإيذاء

الشيخ الألباني وتجرده للحق وبعض ما لقي من الإيذاء وكان هذا العزم واضحاً حتى في تصميمه على آرائه الشكلية التي خالف فيها الناس، فعندما كان يقتنع بمسألة فقهية فلا يتركها أبداً إلا إذا ظهر له دليل آخر يرجعه عنها، حتى ولو أوذي بسببها، وهذا فيه دلالة على صلابة الشيخ رحمه الله في الحق، وحسبك أنه مع نباهته ومع شدة تأثيره في الناس عاش غريباً إلى أن مات، فالشيخ الألباني قبل أربع سنوات كاد أن يطرد من الأردن بسبب فتوى له حرفتها بعض الجماعات الإسلامية ممن يسيطرون على مجلس الأمة الأردني، وزعموا أن الشيخ الألباني يوجب على الفلسطينيين الهجرة من فلسطين وتركها لليهود. وحتى أن بعض إخواني سمع هذه الفتوى في إذاعة إسرائيل، فالمذيع في إذاعة إسرائيل ذكر الشيخ الألباني وترجم له ترجمة لطيفة وظريفة وقال: إنه أكبر محدث في العالم الإسلامي، وقد أفتى بوجوب هجرة الفلسطينيين من فلسطين. مع أن الشيخ الألباني ما أفتى بذلك، وإنما الفتوى خرجت على مقتضى السؤال الذي وجه إليه، وأنت تعلم أن العالم أسير السؤال، والجواب إنما يخرج على مقتضى السؤال. السؤال الذي سمعته بأذني من السائل أنه قال للشيخ: إننا نعاني من الاضطهاد في الأرض المحتلة، ونخاف على أنفسنا، حتى لا يستطيع الواحد منا أن يقيم الصلاة في المسجد خوفاً على أهله؟ فقال له الشيخ: إذا لم تستطع أن تقيم الصلاة فيجب عليك أن تهاجر، فإن هذا النوع من الهجرة أوجبه جميع علماء المسلمين، وهذا النوع لم ينقطع: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ومن بلاد المعصية إلى بلاد الطاعة، ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، فهذه الهجرة الواجبة ينبغي على المسلم أن يسعى إليها ولا تسقط عنه إلا بعجزه عن الهجرة. فالجواب واضح، قال: إذا عجزتم عن عبادة الله فاخرجوا من دياركم وارجعوا إليها فاتحين. وكاد الشيخ رحمه الله أن يطرد بسبب هذه الفتوى، لولا تدخل بعض كبار تلاميذه، مثل الشيخ: أبي مالك محمد بن إبراهيم الشقرة، وهو مدير المسجد الأقصى في الأردن، وخطيب مسجد صلاح الدين ومن أفضل تلاميذ الشيخ ومن أشدهم وفاءً له، وكان هذا الشيخ له حظوة عند الملك حسين، ودخل إلى الملك حسين أكثر من مرة، بل ما دخل الشيخ الألباني الأردن إلا بضمان الشيخ أبي مالك؛ لأنهم رفضوا أيضاً استقباله في الأردن، وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود لا يدري إلى أي بلد يدخل؛ لأن كل بلد ترفض دخوله. ولما عقد مؤتمر السنة والسيرة النبوية عام (1400هـ) هنا في مصر دعي إليه كل الناس إلا الشيخ الألباني، مع أن أغلب هؤلاء المؤتمرين الذين حضررا المؤتمر ليس لهم أي جهد يشكر في خدمة هذه الأمة فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يدعى مثل هذا الشيخ العظيم؟ وظل هذا التجاهل الرسمي للشيخ الألباني حتى العام الماضي، فأعطوه جائزة الملك عن خدمة الحديث، وهو الذي شرف الجائزة، والجائزة لم تشرفه يوماً من الأيام، ولقد ظل الشيخ يخدم السنة أكثر من ستين عاماً وهو إمام للسنة وإمام للعقيدة وإمام في الفقه وفي تعظيم النبي، وظل رد الفعل الرسمي هذا ضعيفاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل له من المحبة في قلوب المسلمين ما ظهر مقتضاه حين مات، فيوم موته كانت فجيعة، وكثير من الناس لم يصدق أن الشيخ الألباني رحمة الله عليه مات، ولقد وصلت كتبه إلى آخر مكان في الدنيا، وجعل الله تبارك وتعالى لها القبول في الأرض، ورزقه الله عز وجل حسن التصنيف، بحيث أنه لو عرض مسألة ما، فإنك تقتنع بها ولو كان الشيخ مخطئاً فيها، وإنك إذا قرأت كلامه وقع في قلبك أنه الحق، وهذا لم يبدع فيه إلا قليل من أهل العلم ممن رزق حسن العبارة في التصنيف. فالشيخ رحمه الله ظل غريباً، ولم يتحرك بعز الدولة -أي دولة- إلى أن مات، وكان رأيه في حرب الخليج رأياً واضحاً، وقد أوذي بسببه أيضاً، ولم يتراجع فيه لأنه يعتقد أنه الحق في المسألة. والشيخ الألباني رحمه الله كان إذا اعتقد مسألة أنها حق لا يفارقها أبداً ولو أدى ذلك إلى حرمانه من سكنى آمنة، أو إلى طرد من البلد، وكان ذلك أيضاً سبباً في محنته لما سجن في سوريا فإنه كان متزعماً للتدريس، وجمع الله عز وجل حوله الأفئدة، وكان رجلاً نابهاً، قال لي: كان عندي سيارة قديمة وكنت أطوف سوريا كلها بهذه السيارة، ومرة اختلف إخواني السلفيون في حلب -وكان هو يسكن في دمشق- فقالوا: إن لم تتدارك إخوانك تفرقوا. وذهب إلى هناك وسهر الليل كله، وظل هناك أكثر من أسبوع حتى فصل النزاع بين إخوانه ورجع. فكان قد أوقف حياته كلها لهذه الدعوة المباركة، ولما سجنوه استثمر وقته في السجن وأخرج لنا كتاباً وهو (مختصر صحيح الإمام مسلم رحمه الله) درس الكتاب دراسة دقيقة، وجرد الكتاب من أسانيده، وجمع وضم الروايات بعضها إلى بعض، وأخرج مختصر صحيح مسلم بقلمه، ولا أظن أن هذا الكتاب قد طبع حتى الآن. والذي طبع هو مختصر صحيح مسلم بتحقيق الشيخ الألباني، أما (مختصر صحيح مسلم) للشيخ الألباني نفسه فلم يطبع.

الشيخ الألباني وبداية الطريق إلى علم الحديث

الشيخ الألباني وبداية الطريق إلى علم الحديث أول مرة يبدأ الشيخ ناصر فيها يقرأ في علم الحديث، كان سببها أنه قرأ مقالةً في مجلة المنار التي كان يصدرها آنذاك الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وكان الشيخ محمد رشيد رضا استوطن أهله الشام، ثم رحل إلى مصر، وأي شخص يريد أن يبرز في أي فن حتى المغنين ويريد أن يكون له صيت، وله شهرة، وأن يكون له احترام في مهنته يأتي إلى مصر. فنزح الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب من الشام إلى مصر. وكان الشيخ محمد رشيد رضا يكتب في مجلة المنار، وكان قد كتب مقالاً عن كتاب (إحياء علوم الدين) وعن تخريج الحافظ زين الدين العراقي له، وهذه كانت أول مرة الشيخ الألباني يقرأ عن علم الحديث. قال الشيخ: فجعلت أبحث عن هذا الكتاب كالعاشق الولهان، حتى ظفرت به عند رجل كان يؤجر الكتب، لأنه لم يكن أحد يهتم بعلم الحديث؛ لأن علم الحديث من أصعب العلوم في ذلك الوقت، ويضاف إلى صعوبته أن دارسه لا يحصل على وظيفة بعد ذلك، والإنسان لو درس الفقه فربما يكون مفتياً، أو واعظاً، أو خطيباً، ولكن إن كان محدثاً -كما قال ابن معين وقال أحمد بن حنبل وقال الدارقطني - فأين يبيع بضاعته؟! فلم يكن أحد يقبل على دراسة علم الحديث. والناظر إلى المدارس التي بنيت في بلاد المسلمين قديماً يعلم غربة علم الحديث، فإذا نظرت إلى مدرسة نظام المفتي في بغداد، وكل المدارس التي جرت على هذا المنوال حتى الأزهر، فإنهم كانوا يهتمون بشيئين: الشيء الأول: الفقه وأصوله. والشيء الثاني: علم الكلام. بينما الحديث لا يدرس، فكان الذي يقبل على دراسة علم الحديث يدفع من جيبه، ولا يقبل عليه إلا إذا كان له هدف وكان محتسباً. فالشيخ الألباني بحث عن هذا الكتاب عند رجل فأجره منه لمدة سنة؛ لأنه لم يكن يستطيع شراءه، فبدأ الشيخ الألباني يفتح عينيه على علم الحديث.

بين الشيخ الألباني ووالده

بين الشيخ الألباني ووالده فبدأ يحصل بينه وبين والده مجادلات، فوالده كان حنفياً جلداً، (جلد) أي: لا يخالف مذهب الأحناف في قليل أو كثير، ومن المعروف أن مذهب الأحناف يخالف كثيراً من الأحاديث الصحيحة، حتى إن العلماء أخرجوا كتباً في الرد على أبي حنيفة منهم الأوزاعي، ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة له في كتاب المصنف كتاب كبير اسمه (الرد على أبي حنيفة فيما خالف فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم) فكانت تحصل مجادلات بين الشيخ وبين أبيه. يقول الشيخ الألباني: فكان والدي كلما عجز عن الإتيان بحجة في مقابلي كان يرفع صوته ويقول: علم الحديث صنعة، ويأبى عليه أن يعارضه في شيء من الحديث، حتى كثرت مخالفته مع أبيه. ثم في يوم من الأيام، كان والد الشيخ الألباني على سفر، فجعل الشيخ البرهاني -وهو أحد مشايخ الشيخ الألباني - خلفاً له في صلاة الجماعة، وكان الشيخ الألباني في ذلك الوقت تبنى كراهة الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب، وعلم مع دراسة الأدلة أن هذه المسألة مكروهة، وكان من شؤم تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب أن المسجد الواحد كان فيه أربعة محاريب: محراب للمالكية، ومحراب للحنفية، ومحراب للشافعية، ومحراب للحنابلة، وكان إمام الشافعية يصلي أولاً، لأن الشافعية يصلون الفجر بغلس -أي: في أول الوقت- والحنفية يصلون الفجر بإسفار -أي: في آخر وقت صلاة الصبح بعدما يسفر الفجر- فلما علم الشيخ الألباني أن الجماعة الثانية في المسجد لا تجوز وأراد خليفة والده أن يستخلفه إماماً؛ لأنه يريد السفر أبى ذلك، وقال: أنا لا أخالف ما أعتقده، فأنتم تؤخرون الصلاة، وإمام الشافعية يصلي قبلكم وكل هذا في مسجد واحد!! وقد قال الشيخ أحمد سالم رحمه الله: ولقد رأيت هذه المحاريب الأربعة في الجامع الأزهر، وكانت هذه المسألة جارية ومسألة عادية لا تعارض فيها ولا إشكال، وكل هذا بسبب غياب الدليل وعدم الرجوع إلى النص، وعدم الوقوف عند حدود ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبدأت هذه المخالفات تظهر في رفض الشيخ الألباني أن يصلي بدل الشيخ البرهاني، بل كان يصلي مع الشافعية؛ لأنها أول جماعة تقام، فلما رجع والده من السفر حكى له الشيخ البرهاني الذي كان من ابنه، فأضمرها الوالد في نفسه، ولكنه بدأ يحصل نوع من الشقاق والنزاع بين الشيخ وبين أبيه. ولقد قرأ الشيخ الألباني -وهو يواصل القراءة في عقيدة السلف- أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لا تجوز، وشاع في دمشق أن المسجد الأموي دفن فيه سبعون نبياً، قال الشيخ ناصر: فجعلت أفتش عن أصل هذا الكلام، فإذا سنده ضعيف جداً ولا أصل له، وأن هذه الحكاية لا تصح عن أحد من أئمة المسلمين ولا من المؤرخين. قال: فجمعت بعض ورقات في هذا الباب كانت نواة لكتابي (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) قال: ورفعت هذه الأوراق إلى الشيخ البرهاني وكان شيخي، وقلت له: في هذا البحث حرمة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فقال: هات الأوراق، وقال: سأرد عليك بعد العيد. فلما كنا بعد العيد قال: لم تصنع شيئاً، ونحن إنما نأخذ الدين من كتب الفقه لا من كتب الحديث. قال الشيخ: وفي يوم من الأيام وبعد أن تعشينا قال لي والدي بلسان عربي مبين: إنك أكثرت مخالفتي ومخالفة الموروث من المذهب، فإما أن توافق وإما أن تهاجر. فقلت له: أمهلني ثلاثة أيام حتى أنظر في أمري. قال: ولما مضت الأيام قلت لوالدي: أنا لا أستطيع أن أترك ما أعتقد أنه الحق، ولا أستطيع أيضاً أن أزعجك، فسأهاجر. وهذا هو الذي نقوله لإخواننا الذين يتعرضون للضغط والإرهاق في بيوتهم من قبل آبائهم المناوئين لهم في التزامهم وإن كثيراً من الآباء يحلف بالطلاق إن لم يحلق ابنه لحيته ونحن نقول لهذا الولد: أطع ربك وأطع أباك، أطع ربك لأنه هو الذي أمرك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفي لحيتك، وأطع أباك إذا أمرك بالخروج من البيت، فلا تحلق لحيتك واخرج من البيت، وبذلك تكون قد أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون قد أطعت أباك أيضاً الذي أمرك بالخروج.

حماقة المبتدع

حماقة المبتدع الغلو في الدين ومخالفة رسول رب العالمين واتباع الأهواء والآراء وتقليد المشايخ والآباء كل هذه الأسباب تصل بالإنسان إلى ارتكاب البدع والآثام وولوج أبواب النيران لأنها مدعاة لاتهام الرسول الكريم بعدم تبليغه الدين، ومن ثم فتح أبواب الشرع الحنيف للجهلة والمتعالمين أن يحدثوا في دين الله، ويتلاعبوا بشرع الله، بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير.

نعمة إكمال الدين وإتمام النعمة

نعمة إكمال الدين وإتمام النعمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن مما يقال: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها ولا أحمق من المبتدع! فإنه جمع على نفسه آصاراً وأغلالاً وألقاباً ذميمة يربأ كل عاقل أن ينسب إلى نفسه مثل هذه البدع. أيها الإخوة الكرام! إن الله عز وجل امتن علينا بإكمال الدين وإتمام النعمة، فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وفي الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد أنزلت عليكم آية -معاشر المسلمين- لو نزلت علينا معاشر يهود لاتخذناها عيداً. فقال عمر: وما هي؟ فقالوا له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفي أي يوم نزلت، نزلت ونحن بجمع -بعدما دفعوا من عرفات إلى مزدلفة- ليلة الجمعة، وفي رواية: يوم الجمعة) فنزلت هذه الآية في يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ونزلت في يوم عرفة ليلاً.

حال المبتدع تجاه الأحكام الشرعية

حال المبتدع تجاه الأحكام الشرعية المبتدع يزعم بلسان حاله أن الله لم يكمل الدين، ولذلك أراد أن يضيف من عنده ما لم يأذن به الله ورسوله، ولذلك سميت بدعة لأجل هذا، فإن المبتدع نازع الله عز وجل حق الانفراد بالتشريع، وأي لقب سوء أعظم من أن يكون المرء منازعاً لربه في حق التشريع؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للصحابة أن يزيدوا في المأذون فيه، فكيف يأذن لهم أن يخترعوا ما لم يأذن به الله ورسوله؟! المشروع لا يجوز لك أن تزيد فيه، مع أنك تفعل ذلك زيادة قربى إلى ربك لتنال الأجر، ومع هذا لم يؤذن لك فيه. وحديث الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته يريدون التقرب إلى الله والجد في العمل، فذهبوا إلى القدوة والأسوة، الذي ليس بعده مبتغى في الجد في العبادة، فسألوا عائشة فأخبرتهم أنه بشر كالبشر، يمارس حياته بصورة طبيعية، فلما سمعوا ذلك قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ما معنى هذا التعليق؟ معناه أن هذه عبادة قليلة، لا يُرفع لها رأس، لكن هذا رسول الله سواء أكثر أو أقل في العبادة، فهو مغفور له. لكنه إذا احتقر الأسوة وميزان العمل ماذا يبقى له؟ إذا كان الأسوة في نظره قليل العمل، لكن الذي جبره أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه، هذا أول درجات الطغيان بأن تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قليل العبادة، لكنه مغفور له، ولذلك غضب النبي عليه الصلاة والسلام فجمع الناس، ولم يمرر هذا الموقف؛ لأنه يشتمل على أمر خطير، لو ترك هذا الأمر لكان فيه الضياع الكامل: أن يعتقد المرء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل العبادة. فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية).

قبول عمل المبتدع في الميزان

قبول عمل المبتدع في الميزان أنت لا تدري أي عملك يقبل، رب عمل جودته واعتنيت به لا يساوي صفراً عند الله، ورب عمل فعلته ولم تلق له بالاً هو الذي ينجيك، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) والماء سبيل، لكن لعل إفراغك من دلوك في دلو أخيك خير من قيام الليل طيلة عمرك، وهذا من أدل الدلائل على أن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه ويكرهه ويسخطه، إنما نعرف ذلك بالوحي. وأضرب لكم بعض الأمثال التي هي خروج على القاعدة: لما خاض بعض المسلمين في حديث الإفك وتكلموا، مجرد نقل كلام، لم يفتروا القصة من عند أنفسهم، رمى عبد الله بن أبي ابن سلول عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي. إذاً: من المفتري؟ الذي تولى كبره هو رأس النفاق عبد الله بن أبي، فبعض المسلمين نقل هذا الكلام، فقال بعضهم لبعض: (أولم تعلموا أن عائشة رميت بـ صفوان بن المعطل السلمي؟) فقال الله عز وجل لهم: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، مجرد كلام ينقل لكنه عند الله عظيم. وفي صحيح البخاري ومسلم: (رب كلمة لا يلقي لها الرجل بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) (لا يلقي لها بالاً) أي: ما ظن أن تبلغ هذا المبلغ، كلمة خرجت منه فلتة، لم يلق لها بالاً، ولم يعرف خطورة الكلمة (تهوي به في النار سبعين خريفاً). وعلى المقابل: قال النبي صلى الله عليه وآله سلم -في الحديث المتفق عليه أيضاً-: (دخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته) امرأة بغي تتاجر بعرضها طيلة عمرها، آثام بعضها آخذ برقاب بعض، ظلمات بعضها فوق بعض، أيسقط هذا الذنب العظيم المتكرر سقيا كلب، هذا عمل لا يلقي المرء له بالاً، لكن الله غفر ذنوبها جميعاً به. إذاً: لا يستقل العبد في إدراك مرام التشريع، إنما العبرة بالعبادة والاتباع والإخلاص، وليس الكثرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة: (أما إني أتقاكم لله) أنا أصلي مثلك، لكن ما بين صلاتنا كما بين السماء والأرض، رجل يتصدق وآخر يتصدق، هذا تقبل صدقته وهذا ترد عليه، والفعل واحد، لماذا قبل هذا ورد ذاك؟ بسبب الإخلاص من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول ماشٍ على مهله ويكون الأول، هذا بسبب الإخلاص، فرب عمل يسير يكون أعظم عند الله عز وجل في الميزان.

موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الإحداث في الدين

موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الإحداث في الدين جاء في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فجاء سلمان يوماً يزور أخاه، فرأى أم الدرداء متبذلة -أي: بثياب المهنة- فقال لها: مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا) لا ينظر إلى زوجه، والزوج إذا كره النظر إلى زوجه أهملت الزوجة نفسها وأضاعتها، وليس هذا من فقه الزوجة، إذا أهمل الرجل النظر إلى المرأة فلا يجوز لها أن تهمل زينتها، فإن الاستمرار في الزينة يجعل الرجل يرجع إلى زوجه، كما روى النسائي في سننه: (أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن المرأة إذا تركت الزينة ثقلت، وكره زوجها النظر إليها). فهي امرأة لا يطلبها زوجها، ولا ينظر إليها، ولا يعيرها التفاتاً، فهي بثياب المهنة دائماً (مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا. فجلس، وجاء أبو الدرداء فرحب بأخيه، ثم أمر بإعداد طعام، فقرب الطعام، قال له سلمان: كل. قال: إني صائم. -وفي غير البخاري قال: والله لا أطعمه إلا إذا أكلت- قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، فلما جن الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم ويصلي، فقال له سلمان: اجلس. فكره أبو الدرداء أن يخالفه؛ فنام حتى مضى شطر الليل، فقاما فصليا جميعاً، فلما أصبحا قال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه، فلما أصبحا أتيا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو الدرداء للنبي عليه الصلاة والسلام مقالة سلمان، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق سلمان) وفي بعض الروايات: (لقد أشبع سلمان علماً)، وفي رواية أخرى: (لقد أوتي سلمان فقهاً). هذه عبادات مأذون فيها، ومع ذلك كره الزيادة فيها. وجاء في الصحيحين من حديث أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صيامه وقيامه -القصة المعروفة- قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو: (أولم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قال: أجل يا رسول الله، إني لأفعل ذلك. قال له: لا تفعل -وهذا ليس صداً عن العبادة، لكنه نظر إلى ما يئول إليه الأمر- فإنك إن فعلت هجمت عينك، ونفهت نفسك) (هجمت عينك) أي: غارت، ودخلت في المحاجر؛ بسبب كثرة السهر، (ونفهت نفسك) أي: ضعفت وذهب جدك، فنهاه عن الوصال والمواصلة. كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رجلاً فتياً آنذاك، فقبل الجد في العبادة، لكنه ندم في آخر عمره، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في المأذون فيه. وأيضاً لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال لـ ابن عباس: (القط لي مثل حصى الخذف، وإياكم والغلو في الدين!) الغلو: أن تحضر حجراً كبيراً وتقول في نفسك: هل ممكن أن أرمي الشيطان بحصوة؟! الشيطان لا يكفيه إلا حجراً كبيراً أقذفه بها، فنهى عن الغلو حتى في حجم الحجر؛ لأن الغلو يؤدي في النهاية إلى احتقار الشريعة، واعتقاد أن ما أمر الله عز وجل به لا يوصل العبد إلى مرضاة الله، فيخرج المرء من الشريعة في آخر الأمر، فنهى عن كل غلو يفضي إلى ذلك. وهناك من يضرب بهم المثل في هذا الباب وهم الخوارج، قال عليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية). فرجل مصل ومزكٍ وقارئ قرآن، وهذا أعلى ما يحصله الإنسان، ومع ذلك يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ما نفعتهم صلاتهم ولا صيامهم ولا قراءتهم للقرآن، فاعتبروا بهذا. المأذون فيه نهاك عن الزيادة فيه، أيأذن لك أن تخترع شيئاً لم يشرعه الله ورسوله؟! إن هذا أشد في المقت، فالمبتدع مضاد لله عز وجل في حكمه، منازع له في حق التشريع، إذ إنه شرع شيئاً لم يأذن به الله ورسوله، وقد ذم الله عز وجل البدع وأهلها، والمعاصي وأهلها، لكن البدع تدخل دخولاً أولياً في المناهي؛ لأن أعظم المناهي هي البدع.

تحذير القرآن من مخالفة الصراط المستقيم والإحداث في الدين

تحذير القرآن من مخالفة الصراط المستقيم والإحداث في الدين قال تبارك وتعالى -وهو يحث المسلمين على لزوم الصراط المستقيم-: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] (وصاكم به) فهي وصية من الله لنا أن نتبع صراطه المستقيم، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث ابن مسعود قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً طويلاً على الأرض، وخط على جنبتيه خطوطاً قصاراً، ثم قال: هذا صراط الله -طويل- وهذه صرط الشياطين، على كل صراط شيطان يدعو إليه). فتأمل! الفرق بين صراط الله وبين صرط الشياطين، صراط الله طويل، لكنه مستقيم، وصُرط الشياطين قصيرة، لكنها معوجة. ومعنى: (صراط الله طويل) أي: أنك لن تلقى جزاءك فيه؛ لأنك قد تموت في أثناء الطريق وأنت تمشي، أما صرط الشياطين فعادةً يحصلون مآربهم قبل أن يموتوا، وهذا فيه مزيد إغراء لسلوك سبيل الشياطين؛ لأنه سيحصل ما يريد ويستمتع به في حياته، أما صراط الله فطويل، قد تموت ولا تحصل مأربك، طول عمرك تدافع عن الشرع والدين وتدعو المسلمين إلى لزوم الصراط لتقيم الدولة المسلمة، ومع ذلك تموت ولا ترى الدولة بعينك، إنما يراها ولد ولدك، فهذا يدل على بعد النظر، وأن السالك يريد الله عز وجل لا يريد العاجلة. إن الطريق إذا كان مستقيماً، وكان المرء أعشى البصر -لا يرى- فثبت قدميه على الصراط فإنه سوف يصل، أما هذه الطرق الملتوية فلا يصل إلى شيء منها. قال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]، وتأمل الآيات قبلها ترى شيئاً بديعاً، وهذا الشيء موجود في القرآن في أكثر من آية، فقد ذكر الله عز وجل الأنعام، ثم امتن علينا بخلق هذه الأنعام، فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:7 - 9]، والرابط بين هذه الآية وآية {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، هو أن هناك ثقلاً لا تستطيع أن تحمله أنت بنفسك، وهناك خيل وبغال وحمير تركبها لتسلك سبيلك، وتقرب لك المسافات للسفر والسير، فهذا سير حسي نراه ونشعر به، ونعلم قدر الراحة التي حظينا بها لما خلق الله هذه الأنعام. تصور إنساناً يحمل كيس رمل على كتفه مسافة خمسين كيلو، هل تتحمل هذه المشقة؟! لكن إذا حملت هذا على ظهر سيارة أو على ظهر بغل أو حمار، فلا تشعر بأي مؤنة ولا تعب، إذاً: أنت تحس بهذا إحساساً يقينياً. وبعد هذا الشيء الحسي -الذي تشعر به ولا تنازع فيه- أبان ربنا عز وجل الخط والسير المعنوي إليه، إنما نقل المقام من الحس إلى المعنى مباشرة ليحصل لك حسن تصور للمعنى. ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) (قصد السبيل): أنت مسافر إلى الله، فالحياة الدنيا معبر، وأنت كل يوم مسافر على جناح الليل والنهار، يحملك ليل ويحفك نهار، ويحملك نهار ويحفك ليل، وكل هذا عبارة عن سفر؛ لأنك كل يوم تقترب من المنزل النهائي وهذا سفر معنوي لا تشعر به بسبب قرارك ومقامك في بلدك. فأراد الله عز وجل أن تحسن تصور هذا السير إليه؛ فجاءك بالبغال والحمير الذي هو السير الحسي، أنت تركب البغال والحمير لتسافر هنا وهناك، فنقلك هذه النقلة؛ ليحسن لك التصور بالنسبة للمعنى، كما قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] هذا تصور حقيقي، فأنت تلبس الملابس لتواري السوأة والعورة، ويقيناً فيها الحر والبرد. ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] قال هذا مباشرة بعد هذا اللباس؛ لأنك الآن لديك تصور لقيمة هذا اللباس، يجملك، ويواري سوأتك، ويدفع عنك الحر والبرد، فيعطيك المعنى الأهم {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، لما أمر الناس أن يذهبوا إلى الحج قال: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] كل شخص يأخذ متاعه معه {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، بعدما يتزود الإنسان التزود الحسي يذكر له الزاد الحقيقي الذي ينفعه عند ربه تبارك وتعالى. وقوله: ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) هو مثل قوله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:41]، أي: على الله بيان السبيل الحق، ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) أي: ومن هذه السبل جائر. وقرأ ابن مسعود ((ومنكم جائر))، لكن هذه القراءة شاذة، لا يقرأ بها، لأن القرآن يشترط فيه أن يكون موافقاً لرسم المصحف، وأن يكون متواتراً، وأن يوافق وجهاً من وجوه العربية، والعلماء يستخدمون القراءات الشاذة في بيان معاني القرآن، وإن كنا لا نقرأ بها، ولا يحل أن تسمى قرآناً. إذاً قوله: ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) هذا يدل على طرق أهل البدع والشهوات كما فسرها مجاهد رحمه الله. ومن الأدلة الدالة على التحذير من البدع قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، وقرأ حمزة والكسائي ((إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء))، وقراءة الجمهور تذكر الحال، وقراءة حمزة والكسائي تذكر المآل، فإن الذي يفرق دينه لا بد أن يفارقه، فرَّق ففارق، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32] وقرأ حمزة والكسائي أيضاً هذا الحرف: ((من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً)).

عواقب ارتكاب البدع

عواقب ارتكاب البدع المبتدع حظي بأسوأ الألقاب كلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) فمعنى الكلام: أن كل مبتدع ضال، فأي خطبة خسف أعظم من هذه! أن يقال له قد اختلف العلماء فيك: هل أنت كافر أم فاسق. من الذي يتمنى أن يحمل لقباً من هذه الألقاب؟! وأيضاً: المبتدع متوعد بالخزي في الدنيا والآخرة، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]، والمبتدع مفترٍ على الله عز وجل، متقول عليه، يقول هذا من دين الله عز وجل. وليس منه؛ فسيناله غضب في الحياة الدنيا، ويرد إلى ربه عز وجل وهو يحمل لقب المفتري على الله عز وجل. وأيضاً: المبتدع متبع لهواه، لأن الله عز وجل حصر الحكم في شيئين لا ثالث لهما، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، فحصر الحكم: إما وحي، وإما هوى، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، فإما ذكر، وإما هوى. وقال تبارك وتعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} [ص:26]، فجعل الأمر حقاً أو هوى، فهذا الذي افترى على الله ورسوله ما لم يأذن به الله لم يتبع الوحي قطعاً، فما بقي إلا الهوى، والهوى من الهوي، يهوي بصاحبه ولا يرفعه. فيا له من عمل فاسق يرفعه الله إلى أسفل هذه رفعة لكن إلى أسفل. ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام وعظ أصحابه يوماً -كما في حديث العرباض بن سارية - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقالوا: (يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؛ فاعهد إلينا. قال: عليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ). إذاً: العاصم من البدعة هو العلم، فإن عجزت أن تكون عالماً أو طالب علم، فتعلق بأهداب أهل العلم، أهل العلم هم مراكب النجاة في زمان الفتن، كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك. وكان الناس قديماً، وبعض طلاب الآخرة في كل زمان يرحلون من بلادهم، يقطعون مئات الكيلومترات ليأتي الواحد منهم فيأخذ حرفاً من العلم يتزود به، ثم يرجع ولا يرى أنه أضاع عمره ولا ماله في سبيل ذلك، بل كان بعضهم يأتي المسافات الطويلة ليرى وجه العالم ثم يرجع. قال جعفر بن سليمان الضبعي: (كنت إذا رأيت قسوة في قلبي جئت محمد بن واسع فأنظر إليه، كأن وجهه وجه ثكلى) أول ما ينظر إليه يستفيد بلحظه مثلما يستفيد بلفظه، ويرجع إلى بلده ولا يرى أنه ضيع رحلته! قال عبد الله بن المبارك: (كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض جدد الحزن لي، ومقتُ نفسي) ثم يبكي عبد الله المبارك. ويقول علي بن عمر البزار: (كان أناس يأتون يصلون خلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ ليسمعوا منه تكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا قال: الله أكبر انخلعت القلوب)؛ من جلالة الكلمة؛ وما يشعرون به من الإخلاص حال الإتيان بالكلمة. ويقول ابن القيم رحمه الله: (كانت إذا ضاقت بنا الدنيا، وساءت بنا الظنون، نأتي شيخ الإسلام، فما هو إلا أن ننظر إلى وجهه، ونسمع كلامه؛ حتى نشعر بالطمأنينة، مع ما كان يعانيه من التعب والإرهاق). العالم نجاة، فكل شيء يطرأ لك تسأل العالم: هل هذا حلال أم حرام بدعة أم سنة؟ فيفتيك، افعل هذا، أو لا تفعل ذاك. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة أكيدة على التعلم أو التعلق بأهداب أهل العلم أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وجوب ملازمة السنة ومجانبة الهوى والبدعة

وجوب ملازمة السنة ومجانبة الهوى والبدعة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة على طلب علم السنة؛ لأن السنة بيان للقرآن، ومن النظر في السنة تعرف الآداب. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي بين الناس، كما قالت عائشة، وقد سئلت عن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قالت: (كان خلقه القرآن). القرآن مجمل، فيحتاج إلى تفصيل، والتفصيل مهم للتصور، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. ننظر في السنة سلوك النبي عليه الصلاة والسلام، وتصرفاته مع الأعداء تصرفاته مع الأبعدين تصرفاته مع الجهلاء تصرفاته مع أهل العلم، ترى لكل أحد من هؤلاء موقفاً، ولكل شخص طريقة، لم يكن يسوي بينهم جميعاً في المعاملة، ولا يعامل العالم كما يعامل الجاهل، وإنما تعلم هذا من القرآن أيضاً. أزواج النبي عليه الصلاة والسلام لكمال فضلهن؛ قال الله عز وجل لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، فهن يعذبن أكثر مما تعذب المرأة العادية؛ لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]، فهي مفضلة في الأجر وأيضاً مضاعف لها العذاب، فإن الرجل الفاضل يعامَل ما لا يعامل به الرجل الخامل.

تحذير حذيفة من البدع وأهلها

تحذير حذيفة من البدع وأهلها وقد جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، لما قال: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -الذي هو الإسلام- فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟) فقوله: (فهل بعد هذا الشر من خير؟) أي: بعد الخير الأول الذي هو الإسلام، (والشر الأول): الذي هو بعد الإسلام مباشرة (ثم خير فيه دخن) إذاً: خير محض لا دخن فيه، ولا شر فيه (100%) الذي هو الخير الأول في الحديث. وقوله: (إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -الذي هو الإسلام، فهذا الخير (100%) - فهل بعد هذا الخير - (100%) - من شر؟ قال: نعم -الشر ضعيف قليل؛ لأن الخير كثير، ولذلك تجاوزه حذيفة ولم يسأل عنه- قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم -فهذا الخير الثاني، وقد وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال:- خير، لكن فيه دخن -الدخن: ما فيه غبار وضباب، وغبش-. قال: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قال: فهل بعد هذا الخير -الثاني الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) إذاً: بوابة جهنم هي البدع، هذا ترتيب الحديث الخطير (بوابة النار): ولوج البدع (قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر) فلا يزال هذا يستفحل مع غياب وموت العلماء وظهور البدع، حتى تأتي المرحلة الخطيرة (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها). فقال: (صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، (من جلدتنا): أي: شكلهم مثلنا، ويتكلمون بألسنتنا. حسناً ما هو النجاة؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام -مثل هذا الزمان- قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت). قوله: (ولو أن تعض على أصل شجرة) بعض الناس يقول لك: علينا أن نعتزل؛ لأنه قال: (اعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة)، نقول: هذا صحيح، لكن الشجر التي ستعض عليها هي أهل العلم، وأن تتعلق بأهداب عالم، فإن لم تجد عالماً فاعتزل، فإن العزلة مع وجود أهل العلم شر للإنسان إذا كان جاهلاً. إذاً: هذا فيه تلميحة لطيفة لمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي)، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وهنا قال: (ولو أن تعض على أصل شجرة)، وأنت تعلم أن الذي يستخدم أسنانه فهذا معناه أن يديه خلتا به، وأن ساعده ضعف، وأنه يكاد يسقط، ما بقي إلا أن يستخدم أسنانه؛ لأن ساعده ضعف أن يحمله، وأنت ترى هذا إذا تعلق إنسان وكاد أن يسقط فإنه يتعلق بأي شيء حتى لو تعلق بأسنانه، فكلمة (أن يعض على أصل شجرة) هذا هو النجاة، وهذا الأمل الأخير، أن يستخدم الإنسان أسنانه حتى يثبت مكانه. نسأل الله تبارك وتعالى أن يربط على قلوبنا حتى نلقاه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

موقف ابن عمرو من اتباع السنة

موقف ابن عمرو من اتباع السنة كان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه الأقربين منه معاملة أشد من معاملة الأبعدين من الأعراب وغيرهم، يرى مثلاً عبد الله بن عمرو يلبس ثوباً أحمر، فيعرض عنه، يلقي ابن عمرو السلام فلا يرد السلام عليه، ويعرض عنه، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام. فـ عبد الله بن عمرو المعلم المؤدب الملازم عرف وجه الخلل عنده بغير تنبيه من النبي عليه الصلاة والسلام، لما رأى نظر النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه إلى الثياب الأحمر، فذهب إلى أهله فوجدهم يسجرون التنور فقذف الثوب في النار، وغيَّره وجاء، فأقبل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وسأله: (ماذا فعلت به؟ قال: سجرت به التنور. قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء) أي: أن الثوب الأحمر البحت الذي لا يخالطه لون لا بأس به للنساء، لكن لا يجوز أن يلبسه الرجال فإن قال قائل: إنه ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ثوباً أحمر) فهل هناك تعارض؟ نقول: لا؛ لأن الثوب الذي لبسه النبي عليه الصلاة والسلام كان يختلط به لون آخر لكن الأحمر غالب، ولذلك يقال: (أحمر)؛ لأننا نلغي القليل ونعمل بالأغلب، فمثلاً: لو سألك شخص: كم الساعة؟ وقد تكون الواحدة وثلاث دقائق، فتقول له: الساعة واحدة. لماذا أهملت الكسر؟ لأنه لا قيمة له، والعرب درجوا على إهمال الكسر، إلا إذا كان في تعيينه فائدة، كما ذكر الله عز وجل عن نوح أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يمكنه أن يقول: تسعمائة وخمسين، لكنه لم يقل ذلك؛ لأن الكسر قد يلغى، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] علمنا حقيقة الكسر في الأمر. فلبس النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر وفيه شيء من البياض لكن الأحمر غالب، فينسب الثوب إلى ما غلب عليه، إنما الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر (100%)، لا يخالطه لون آخر، فهذا لا يحل للرجال أن يلبسوه؛ لأن عبد الله بن عمرو كان ملازماً للنبي عليه الصلاة والسلام، ودائماً يأتيه، لكنه عليه الصلاة والسلام غضب وتغير وجهه ولم يرد عليه السلام. بخلاف الأعرابي الذي يأتي من البادية، ولو ارتكب شيئاً يصل إلى درجة الكفر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر عليه؛ لأنه جاهل، ولا يعامله معاملة العالم الماكث عنده بصفة مستمرة يتعلم الهدى منه، كما في حديث خزيمة بن ثابت عند النسائي وأبي داود وغيرهما، قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم قعوداً - الجمل الصغير- لرجل أعرابي، فقال: بعني جملك يا أعرابي. قال: بكم؟ قال: بكذا -وإذا ذهبنا إلى المدينة أعطيناك الثمن- فجاء رجل من المسلمين لا يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى الجمل، فقال للأعرابي: بعني هذا الجمل. قال: بكم؟ -وكان ينبغي للأعرابي ألا يبيع الجمل، يقول له: الجمل اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الأعرابي جاهل، ظن أن البيع لم ينعقد طالما أن الثمن لم يعجل، لاسيما وقد فرض هذا الرجل سعراً أعلى من الذي فرضه النبي عليه الصلاة والسلام، فطمع الأعرابي في الزيادة- فقال: بعتك الجمل. فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن الأعرابي باع الجمل، قال: يا أعرابي! أو لم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً. قال: يا أعرابي! بل بعتني الجمل. قال: ما بعتك، هلم بشهيد يشهد أنني بعتك. فانبرى خزيمة بن ثابت الأنصاري وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل، فقال عليه الصلاة والسلام لـ خزيمة: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك، أشهد أنك صادق لا تكذب، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنك اشتريت الجمل من الأعرابي وهو من الكاذبين). هل يمكن أن أحداً من الصحابة المقربين من النبي عليه الصلاة والسلام أرتكب مثل هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يتركه هكذا بلا عقوبة؟! هل يمكن أن يجرؤ أحد على أن يرتكب جزءاً من هذا؟! إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعامل أهل البادية كما يعامل أصحابه المقربين منه؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي). قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ولله دره، ما كان أثقب نظره! - (إذا جادلكم أهل الرأي بالقرآن فخذوهم بالسنن) لأن السنة مبينة للكتاب، فهذا يبين ضرورة العلم بالسنة؛ لأنها كثيرة التفصيلات.

رحلتي العلمية

رحلتي العلمية الرحلة في طلب العلم رحلة مليئة بالذكريات والمواقف، تبتدئ من المحبرة وتنتهي في المقبرة، يُستقى فيها من معين الكتاب والسنة علوم شتى، تتزاحم فيها الركب بين أيدي العلماء، فيتعلم من علمهم ويتأدب بأخلاقهم، وما ذلك إلا جهد يسير تجاه العلم والعلماء، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة.

قصتي مع كتاب (صفة صلاة النبي للألباني)

قصتي مع كتاب (صفة صلاة النبي للألباني) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد طلب مني أن أتحدث عن رحلتي في طلب العلم أو عن مراحل طلبي للعلم، وهذا هو التوصيف الصحيح. هذا الموضوع يصعب في الحقيقة على نفسي من أن أتكلم فيه؛ لأني لا أرى شيئاً ذا بال يذكر، لكن سأقول طرفاً من كيفية تحصيلي للعلم وكيف كان، لعل الله عز وجل أن ينفع بها. كان أول ما فتحت عيني على العلوم الشرعية سنة (1974م) أو (1975) مع مطلع ازدهار الدعوة السلفية في مصر، وقد كنت أصلي في مسجد العين الحياة الذي كان خطيبه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، فكان تجار الكتب يعرضون هناك أصنافاً شتى من الكتب، وبعد أن ننهي الصلاة ننظر في هذه الأرففة، فلفت نظري كتاب اسمه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ الألباني بالحجم الصغير، الطبعة الثانية، فتناولت الكتاب وقرأت في مقدمته شيئاً وأنا واقف، فأعجبني أسلوبه، ونظرت إلى حواشي الكتاب فأحسست بفخامة الكتاب، ولكن لا أفهم شيئاً، فسألت عن سعر الكتاب، فكان وقتها أظن بـ (15) قرشاًَ، ولم أكن أقدر على ذلك الثمن آنذاك، فقلت: أؤجله للأسبوع القادم، فدرت أيضاً أبحث، فوجدت (تلخيص صفة صلاة النبي) للشيخ الألباني، فتناولته وكان بقرشين أو ثلاثة تقريباً، فلما قرأت هذا الكتاب وجدته يزلزل ما ورثته من الصلاة عن آبائي، أشياء جديدة جداً ومختلفة، فجعلت أحلم باقتناء الأصل، وأنا ما زلت خائفاً أني إذا رجعت إلى المسجد مرة أخرى ألا أجده، فقد يشتريه أحدهم، فعندما اشتريت الأصل -كما يقال- ألقيت الألواح ولاح لي المصباح ونور الصباح، وقرأت المقدمة التي -أحمد الله عز وجل- أوقفتني على الطريق من البداية. إن الإنسان الذي يتردد ما بين الأفكار لا يكون منهجه سليماً أبداً، مرة يكون على الفكر الفلاني، فيكتشف أنه أخطأ ثم يحول إلى الفكر الآخر فيكتشف أنه أخطأ مرة أخرى، لكن إذا فتح الله عز وجل عينه على المنهج الصحيح من أول أمره فهذا يكون له فاتحة خير. فمقدمة الشيخ الألباني على كتاب صفة الصلاة من أمتع ما قرأت في حياتي حتى الآن، لأنها لخصت القسم الثاني من الشهادة (وأشهد أن محمداً رسول الله) أي: لا متبوع بحق سوى النبي عليه الصلاة والسلام. فالله تبارك وتعالى لا شريك له في العبادة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع، فهذه المقدمة كانت مقدمة نفيسة، بدأت أشعر بها أن علم الحديث هو العلم الذي بدونه تبقى العلوم كلها مغلقة، لا تشعر بطعمها ولا حلاوتها؛ لأن علم الحديث علم خادم، وبقية العلوم مخدومة. ولك أن تتصور منزلاً فيه أمير، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه كوباً من الشاي! فهو لا يستغني عن الخادم، فبقاء الخادم هو بقاء حياته، كذلك علم الحديث بالنسبة لبقية العلوم الأخرى، علم الحديث يحتاج إليه المتكلم في التوحيد والتفسير والفقه؛ لأن أكثر الأدلة التفصيلية جاءت من السنة، فلو لم يكن الفقيه عالماً بتصحيف الآثار، فمن السهل جداً أن يقصر، بل قد وجدنا هذا في كتب الفقه، وكم من واجب صرفوه إلى مستحب بدليل واهٍ ضعيف أو العكس، ولذلك تجد الفقيه المعظم للدليل العالم بصحيحه من سقيمه؛ تجد لفقهه حلاوة لا تجدها للفقيه الصرف. وخذ مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، عندما يتحدثون في الفقه تشعر أن الفقه مثل الحكاية، تقرأ ولا تمل، لكن اقرأ بعض كتب المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ممن بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب، كـ علي بن عبد الكافي المعروف بـ تقي الدين السبكي، وقد كان في نظر البلقيني وولي الدين العراقي -ابن الحافظ زين الدين العراقي - قد وصل إلى رتبة الاجتهاد، وقد وقعت محاورة بين ولي الدين العراقي وبين شيخه البلقيني، يقول ولي الدين لشيخه البلقيني: لماذا تقي الدين السبكي إذا أفتى يفتي بخلاف الدليل، مع أنه بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني ولم يجبه، فقال ولي الدين العراقي: أظن ذلك لأجل الوظيفة، فقد كانت هناك مدارس في تلك الفترة، فمدرسة تدرس الفقه الشافعي، ومدرسة تدرس الفقه الحنفي، وأخرى الحنبلي إلخ، فلم يكونوا يسمحون لـ تقي الدين السبكي أن يخالف المذهب الشافعي، ولما فعل ذلك ابن رجب الحنبلي مع نباهته اعتزله الحنابلة؛ لأنه خالف ابن تيمية، فـ ابن رجب أراد أن يقول: إن ابن تيمية مع جلالته ليس نبياً معصوماً، ومن ذلك أنه خالفه في مسألة الطلاق ثلاثاً، فقد كان ابن تيمية يوقعها واحدة وابن رجب يوقعها ثلاثاً كبقية المذاهب. فكذلك جماهير العوام من الشافعية لا يتحملون مخالفة تقي الدين السبكي للمذهب الشافعي، فـ ولي الدين قال: أرى أن ذلك لأنه كان يشغل منصب قاضي القضاة، وله فضائل على الشافعي. قال: فتبسم البلقيني. وكأنه أقره على مثل هذا، فأنت عندما تقرأ لـ تقي الدين السبكي في أي مسألة فقهية تشعر أن أمامك عقبات لابد أن تتجاوزها، ألفاظاً -من صعوبتها- تحتاج أن تفتح القاموس لكي تفهمها، بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما تقرأ له تشعر بالحلاوة، حلاوة الفقه والعرض، وتشعر معه أن المسألة هبة من الله سبحانه وتعالى. فكانت مقدمة الشيخ الألباني في وجوب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام مع تشديد نقل ما قاله الأئمة المجتهدون في تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه لا ينبغي لأحد أن يوضع في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، وجدد لنا الكلام الذي لم نكن نعرفه عن علماء (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ونحو هذه العبارات. فعندما قرأت هذه المقدمة وجدت أن علم الحديث ينبغي أن يكون هو أولى العلوم الأكاديمية التي أدرسها، وأقول: (الأكاديمية) حتى لا يُستدرك علي بعلم التوحيد، أقول: أول العلوم الأكاديمية علوم الآلات، طالما دخلنا في الدراسة بعد اعتقادنا أنه لابد من دراسة العلم العيني، الذي لا تصح عبادة المرء إلا به، وإذا كان هناك جهد إضافي فيكون في علم الحديث.

حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله

حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله في تلك الفترة كان الشيخ المطيعي رحمه الله صاحب تكملة المجموع في شرح المهذب للنووي، يعطي في ذلك الوقت أربعة دروس في بيت طلبة ماليزيا، فكان يشرح صحيح البخاري والمجموع للنووي وكتاب الأشباه والنظائر للسيوطي. فبدأت أواظب على حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله، ولكني تكاسلت عن حضور هذه الدروس في أواخر حياة الشيخ المطيعي في مصر بسبب كلمة قالها في الشيخ الألباني، والألباني هو الذي فتح عيني على الحق فأواليه، وهذه طبيعة الإنسان، ولذلك استأذنت أن أقول: من المفروض أن الإنسان عندما يدرس الفقه يدرسه بالدليل؛ لأنك بهذا تجعل الطالب يوالي صاحب الكلام، الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان من ضمن المسائل التي تكلم فيها المطيعي رحمه الله مسألة قضاء الفوائت، والمعلوم أن الجماهير يقولون بوجوب القضاء حتى على المتعمد، خلافاً لـ ابن حزم ومن نحا نحوه كـ ابن القيم مثلاً، واختار هذا القول الشيخ الألباني. فأنا عندما قرأت على الشيخ المطيعي ووصل إلى هذا الموضع في تدريس الفقه، قال: إن الصواب الإعادة. - فقلت: يا شيخ! هناك من العلماء من يقول: إنه لا يستطيع أن يقضيها ولو أراد؛ لأن الصلاة فاتته من عشر سنوات فكيف يقضيها الآن، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] (موقوتاً) أي: لها وقت أول ووقت آخر، فكما لا يجوز أن يصلي المرء قبل الوقت لا يجوز أن يصلي بعد الوقت. - فقال لي: من قال بهذا؟ - فأنا كنت حديث عهد، ما قرأت في المحلى ولا أعرف أن هذا مذهب ابن حزم، فقلت له الشيخ: الألباني. - قال: من الألباني؟ - قلت: هذا عالم. - قال لي: من أصحابنا -أي: الشافعية-؟ - فقلت له: لا، هو عالم معاصر. - قال لي: دعك من المعاصرين. بعد ذلك جئت أكلم الشيخ المطيعي على مختصر البخاري للشيخ الألباني، وقال لي: إن البخاري لو أحياه الله لقال: لا أعرف هذا الكتاب، وإن مثل هذا المختصر كمثل رجل كتب حديثاً ثم مزقه -أي: الأوراق- وبدأ يجمع الأوراق مرة أخرى. فالحقيقة بعدما سمعت هذا الكلام غضبت قليلاً وقلت: طالما أنه يقع على الشيخ الألباني فأنا لا أحضر الدرس، وتقاعست عن حضور الدروس مدة شهر أو شهرين، لكنني شعرت بحاجتي الشديدة لهذه الدروس، فما استطعت أن أتركها، وتبين لي مقدار الخسارة في ترك مثل هذه الدروس، خاصة لما قرأت تراجم العلماء وأنه لا يجوز للطالب أن يهجر أستاذه إذا وجد في خُلقه شدة أو نحو ذلك، ولقد تأثرت بما قرأته في ترجمة الطيماني الحنفي عندما قال: كنت أقرأ سنن الدارقطني عليه، فوقع الدارقطني في أبي حنيفة فتركت مجالسته، فمات الدارقطني وما قرأت عليه السنن، قال: ما ضر الدارقطني أني لم أقرأ، وندم كثيراً؛ لأنه تغيب عن هذه المجالس وفاته الخير الكثير. وهذا خلق مذموم من الطالب أن يهجر شيخه لمجرد أنه آنس منه شيئاً يخالف هواه، كان الأعمش رحمه الله يشتد على طلبته، لدرجة أنه كان يهينهم أحياناً، جاءه راوٍ مشهور فقال: يا أبا محمد! اكتريت حماراً بنصف دينار وجئت لأسمع منك حديثاً. فقال له: اكتر بالنصف الآخر وارجع، وأبى أن يحدثه. وجاءه طالب آخر، فقال له: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه فألصقه بالحائط وقال: هذا إسناده، ولم يجبه، ولم يعطه الحديث. والمشهور أن الأعمش ربى له كلباً، كان إذا سمع همهمتهم ودبدبة أرجلهم كان يطلق عليهم الكلب، وكان شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري لما يرجعون إليه مرة أخرى، فكان الأعمش يقول لهم: لو تركتم ما عندي لسوء خلقي خسرتم. فالحقيقة أن كلام الشيخ المطيعي في الألباني هون قليلاً من الاستفادة الكبرى والمواظبة التي كنت أواظبها على الشيخ المطيعي؛ لأن الألباني أول من فتح عيني على المنهج الحق، فصرت أواليه وأحبه، حتى إنه كان في فترة من الفترات في بداية الدعوة السلفية في مصر كان يوالى ويعادى على شخص الشيخ الألباني، وكنا نرى أن هذا مشروع، بدليل قول العلماء: إذا رأيت الرجل يبغض أحمد؛ فاتهمه على الإسلام، أي: لا يجتمع بغض أحمد مع السنة؛ لأن الإمام أحمد علم مشهور عندما يصفونه يقولون: إمام الحديث والسنة، مما يشعرك أن الرجل قد يكون إماماً في الحديث وليس إماماً في السنة، فكنا نأتي بمثل هذه الأقوال، ونقول: الألباني في زماننا مثل الإمام أحمد في زمانه، فنحن نوالي ونعادي عليه، فكانت هذه لها بعض السلبيات.

رحلتي مع علم الحديث

رحلتي مع علم الحديث لما أردت أن أقرأ في علم الحديث لم أكن أعرف إطلاقاً اسم كتاب من كتب المصطلح، فبدأت أذهب إلى المكتبات أبحث في الأرفف عن أي كتب في الحديث، فأول كتاب تناولته -وهو الذي فتح عيني- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني، فأخذت هذا الكتاب، وبدأت أعرف أن هناك أحاديث مكذوبة، وبدأ هذا الكتاب يعكر علي المتعة العظيمة التي كنت أعيشها مع الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، لقد كنت أذهب إلى خطبة الجمعة متعجلاً في الأسبوع كله، أتمتع بالإلقاءات والأحاديث، ولكن اكتشفت فيما بعد أن الشيخ رحمه الله كأنه كان يحضر خطبة الجمعة من الفوائد المجموعة، من كثرة الأحاديث الموجودة فيه. فأول حديث وقفت عليه في الكتاب وسمعته من الشيخ عبد الحميد رحمه الله كان حديث: (إن الله يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) كان الشيخ -رحمه الله- له درس بعد صلاة المغرب، وكان الناس يأتون يقبلون يده بكثرة، فما استطاع أن يمنعهم، فصار يتركها، يجلس على الكرسي ويمد يده، فمن مقبل ومن مصافح، ونحو ذلك. فأنا وقفت في الطابور من أجل أن أنتظر دوري في السلام فسلمت عليه، وهمست في أذنه، وقلت: يا شيخ! هناك حديث قرأته لـ ابن القيم رحمه الله قال فيه: الحديث مكذوب وموضوع، وهو حديث كذا وكذا، قال لي: لا، هذا الحديث صحيح. فما راجعته. لكن هذا الكتاب فتح عيني على أن هناك أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث نسمعها من الواعظين ومن هم في نظرنا من العلماء؛ لأنا لم نكن نفرق آنذاك بين العالم والواعظ، فوجدت كثيراً من الأحاديث التي يحتج بها هؤلاء موجودة ضمن هذه المجموعة، فشدني هذا أكثر إلى ضرورة دراسة علم الحديث؛ حتى أميز بين الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة والمنكرة والشاذة. وبعد اقتناء هذا الكتاب صار عندي قناعة كاملة في ضرورة دراسة هذا العلم الشريف، وبينما أنا أطوف أيضاً على الكتب وجدت أول مائة حديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني، لما تناولت السلسلة الضعيفة ووجدت أن الشيخ كان حريصاً على أن يحقق أشهر الأحاديث على ألسنة الناس، فأصبت بشيء من الإحباط، وظننت أنه لا يوجد حديث صحيح؛ من كثرة الأحاديث المشهورة على ألسنتنا التي أوردها الشيخ في السلسلة الضعيفة. فبدأت مع الشيخ المطيعي رحمة الله عليه أفهم لأول مرة المصطلحات التي كان يقولها عن الإسناد وأنا لا أفهمها، سألته عن كتب أستعين بها، فدلني على كتاب اسمه (احتراز السنة في تبسيط علوم الحديث)، فأخذت هذا الكتاب، ومن خلال حواشي الكتاب عرفت كتب الفن التي ينقل منها، مثل: تدريب الراوي، وفتح المغيث، توضيح الأفكار، وغيرها من الكتب التي بدأت أنقب عنها. المهم: وصلت إلى المائة الأولى من السلسلة الضعيفة، ووجدت أن الشيخ الألباني له أحكام مختلفة على الحديث، فمرة يقول: باطل، ومرة يقول: موضوع، ومرة يقول: منكر شاذ ضعيف معل، فسألت نفسي: هل هذه الألفاظ كلها لها معنى واحد أم لها معانٍ مختلفة، أو أن الإنسان عنده الحرية أن يعبر بأي لفظ من هذه الألفاظ على أي حديث؟ فبدأت دراسة السلسلة الضعيفة، وكانت من أمتع الدراسات التي درستها ونفعني الله عز وجل بها كثيراً في تمييز الأحاديث. أول حديث حققت معناه (المنكر)، والمنكر في الاصطلاح: هو مخالفة الضعيف للصدوق، فحديث الصدوق يكون مقبولاً، وحديث الضعيف يكون منكراً، لكن أجد أحياناً أن الثقة إذا خالف فإنه يكون منكراً أيضاً، فبدأت بهذه الطريقة، حتى استكملت الخمسة الأجزاء الأولى -التي هي الخمسمائة حديث الأولى- مع بقية السلسلة، وبدأت أنظر في كل حديث قال فيه الشيخ الألباني: منكر، هل هناك سمة معينة في كل حديث قال فيه: منكر، بحيث أعرف حد المنكر أم لا؟ فقرأت كل الأحاديث التي قال فيها: منكر كاملةً، فلم أجد شيئاً أستطيع أن أفسره آنذاك، لكن صار عندي رسم للمنكر ونفيه، أول ما أرى هذا الحديث أعرف أنه منكر، ولا يقال عليه مثلاً: باطل أو موضوع أو نحو ذلك. هناك فرق كبير جداً ما بين المحدث والرجل العالم بالاصطلاح، المحدث نادر الوجود، إنما الذي يعرف الاصطلاح كثيرون، فأنت ربما وجدت رجلاً لم تقف له على تحقيق حديث، لكن له فهم في مصطلحات أهل الحديث، وهذا ليس صعباً، لكن هل هو محدث بمعنى: هل له ملكة يستطيع بها تمييز الحديث الصحيح من الضعيف؟ هناك فرق كبير ما بين الشيخ الألباني -كرجل محدث، اختلط الحديث بشحمه ولحمه على مدار ستين سنة- وبين كثير من الفقهاء الذين صنف بعضهم رسائل في مصطلح الحديث. أبو حاتم الرازي ألقي عليه مرة حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين. مع العلم أن عمرو بن الحصين كذاب، والأعمش كان مدلساً، فمن المحتمل أن يكون الأعمش دلسه. يقول أبو حاتم الرازي: إنه دخل بعد عدة سنوات بلداً من البلدان لطلب الحديث، فإذا به يجد هذا الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، فصدقت فراسة أبي حاتم الرازي، التي يسميها العلماء الملكة، وهذه الملكة لا تتأتى إلا بكثرة الممارسة، وهذه الملكة ليست مقصورة على علم الحديث فقط، بل كل الصناعات خاضعة للملكة من ذلك: كنت أقف مع رجل ميكانيكي سيارات، وكان أمامنا طريق سريع، فمرت سيارة مسرعة ولها صوت مزعج، صاحبي الميكانيكي قال لي: هذه السيارة التي مرت ولها صوت مرتفع ليست مشحمة، والعجيب أن صاحب السيارة كان آت إلى هذا الميكانيكي، فأول ما رآه الميكانيكي قال له: السيارة تحتاج إلى شحم. فقال له: أنت تعلم الغيب! فقال له: أنا بمجرد سماعي للصوت أعرف العلة أين، فعندما فحص السيارة وجد فعلاً أنه ليس فيها شحم. فهذا الميكانيكي صبي له عشر سنين استطاع أن يعرف خلل السيارة سريعاً، وما ذلك إلا بسبب الممارسة المستمرة للعمل. فالمسألة ليست مقصورة على علم الحديث، أن يقال: إن علم الحديث هو الذي يحتاج إلى ملكة فقط، بل كل العلوم، والإنسان تزداد خبرته في هذا العلم مع طول الوقت وبالتالي يحصل هذه الملكة. لذلك هناك فرق بين المحدث والمتكلم في المصطلح، التكلم في المصطلح سهل جداً، أنا قد أقرأ قواعد اللغة العربية وأتكلم وأقول: هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور، لكن متى يظهر علم العالم؟ يقول الشافعي رحمه الله: إنما العالم الذي يعرف الاختلاف، ليس العالم الذي يعرف الاتفاق أن يقال: أجمعوا على كذا، إنما العالم هو الذي يعلم الراجح من اختلافه، فيقال: أهل الكوفة قولهم كذا، وأهل البصرة قولهم كذا، والراجح كذا، فالعلم في الحقيقة هو علم الخلاف. ومن مسائل علم الحديث: التفريق بين الباطل والموضوع، حيث أنهما لا يحتج بهما، لكن علماء الحديث جعلوا جل حكمهم على الموضوع إذا كذبه أحد الرواة، فإذا كان هناك كذاب في السند فإنهم يقولون عليه: موضوع، وإذا كان في الحديث رجل صدوق، لكنه سيء الحفظ يقولون: باطل، وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مانع أن تجد أحد العلماء يضع هذه التسمية مكان تلك. فمثلاً: حديث: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) كان شريك بن عبد الله النخعي رجلاً مداحاً، يجلس في المسجد يملي على الطلبة، فقال مرة: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فدخل ثابت بن موسى الزاهد من الباب -وسمي الزاهد لزهده وعبادته وورعه- فعندما رآه شريك أحب أن يرحب به، فقال له: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) أراد أن يداعبه، فظن ثابت بغفلته أن هذا هو الحديث، فخرج ثابت بن موسى الزاهد من المسجد يقول: حدثني شريك قال: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) فهذا الحديث دخل على ثابت لغفلته، ما كذبه ولا افتراه، فنحن عندما نأتي نحكم على هذا الحديث نقول: هذا باطل، لا نقل: موضوع؛ لأنه ما كذبه، ومع ذلك هناك من العلماء من يقول: هذا الحديث موضوع، كـ العراقي في الألفية يقول: والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعضٌ وضعا كلام بعض الحكما في المسند ومنه نوع وضعه لم يقصد نحو حديث ثابت (من كثرت صلاته) الحديث وهلة سرت يريد أن يبين أن هناك بعض الواضعين الذين وضعوا الأحاديث وتعمدوا الكذب، وهناك نوع آخر وضعه لم يحفظ وهو المغفل. وحديث ثابت قد خفي أمره على القضاعي، فأورد هذا الحديث في مسند الشهاب وقواه بخمس طرق، لفق الكذابون له أسانيد من عندهم، فلم يفطن القضاعي لهذا، وقوى الحديث بهذه الطرق. دخل الكسائي على هارون الرشيد، وكان هارون الرشيد متكئاً، فلما دخل الكسائي عليه؛ قال له هارون: اجلس. قال: بل أقعد يا أمير المؤمنين. أي: لا تقل لي: اجلس، ولكن قل لي: اقعد، فقال هارون: فما الفرق بينهما؟ قال له: القعود يكون من وقوف، والجلوس يكون من اتكاء، كما في الحديث: (وكان متكئاً فجلس) ومع ذلك فإن العرب تضع الجلوس للقيام، لكن ليس هذا هو الغالب. فالحقيقة: أن سلسلة الأحاديث الضعيفة قضيت معها نحو سنتين من عمري أتأمل وأقرأ وأعيد القراءة مرة وا

مع الشيخ الألباني

مع الشيخ الألباني بعد نحو عشر سنوات تقريباً جاء الشيخ الألباني حفظه الله إلى مصر سنة (1976م) وحاضر في أنصار السنة في العابدية، لكنني ما استطعت أن ألتقي به، لكنني التقيت بالشيخ حفظه الله أول مرة (سنة 1407هـ) لما رحلت إلى الأردن، وكان بصدد إصدار بعض الكتب، وأذكر أنه كان يوجد هناك طالب غال في حب الشيخ ناصر، والغلو لا يأتي بخير أبداً، وهو الآن عدو للشيخ الألباني، وهذا الطالب ذكره الشيخ ناصر في مقدمة كتابه (مختصر الشمائل) ذكر أنه لما نزل الأردن أخلى داره للشيخ الألباني وأهله، وذهب يستأجر لنفسه داراً أخرى لمدة ثلاثة أشهر، حتى بنى الشيخ الألباني داره التي يسكن فيها. فهذا الذي تطوع هو الذي أعطى الشيخ الألباني فكرة سابقة عني، وهو الذي سهل لي أن ألتقي به، وإلا كانت المسألة صعبة جداً. كان أعظم شيء اكتسبته في الرحلة إلى الشيخ الألباني الأدب، لا العلم، فمصاحبة العلماء مسألة في غاية الضرورة، وعندما رأيت الشيخ قلت في نفسي: إن هذا الرجل سقط سهواً من القرون الأولى، نظرة الحديث واضحة على وجهه، وتواضعه الشديد وهضمه لحجم نفسه. قلت له مرة: يا شيخ! أنت قلت بأنه يجوز تقبيل يد العالم. قال: العالم، وهل رأيت عالماً؟ قلت له: أنا أرى الآن عالماً. قال: لا، أنا طويلب علم. لا أنسى أبداً هذه الجملة، كم أثرت هذه الجملة في نفسي! هذه الرحلة بالرغم أنها كانت قصيرة قرابة شهر، إلا أنها كسرت هذا الأمر تماماً، وندمت أن الإنسان لم يبق في الأردن فترة طويلة يلازم الشيخ حتى يتعلم منه الأدب، لكن على أية حال هذا جاء مجمل الكلام على طلب الحديث خاصة. وقد كنا نحضر في الجامع الأزهر عند كثير من المشايخ، ندرس الفقه والقراءات والنحو، وليس في سيرتي شيء أكثر يستحق الذكر. والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة Q هل درست عند الشيخ سابق؟ A كان الشيخ المطيعي شيخ سيد سابق، تتلمذنا على يديه لفترة من الفترات، وأخذنا قراءة ورش -لكن ليس كلها- على خاله، أستاذ قراءات، كان يدرسنا كتاب (هداية المريد). السؤال: الجواب: والله لا أدري، لكن الشيخ سيد سابق أنت تعلم كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق كتبه وكان عمره خمسة وعشرون سنة، وهذا موافق نيل الأوطار، فالشيخ سيد سابق لم يكن له فيه ترجيح، كان شاباً صغيراً، وأحسن تلخيص نيل الأوطار، كما أحسن عرض الفروع.

صناعة رجل النصر

صناعة رجل النصر أمة الإسلام أمة مليئة بالعظماء أمة تصنع الرجال، لا تعرف الذل والانكسار إلا لله، وما ذلك إلا لأنها عرفت حقيقة العبودية والتزمت بها، ومتى ما تنكبت عن طريق العبودية أصابها الذل والهوان فهانت على عدوها وتولى زمام أمورها أحقر الناس وأراذلهم، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده، فمتى رأى من عباده صدق العبودية والتوبة والرجوع إليه؛ نصرهم ومكنهم من رقاب أعدائهم، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

فساد المرأة وأثره على الأجيال

فساد المرأة وأثره على الأجيال إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. روى البخاري رحمه الله في مطلع صحيحه حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، وقد رواه مسلم أيضاً في مناظرة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم. وقد كانت هذه المناظرة في شأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وقت ظهوره، فكان من جملة المحاورة قول هرقل لـ أبي سفيان: كيف كان قتالكم إياه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال، ننال منه وينال منا. وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث البراء بن عازب وهو يذكر طرفاً من واقعة أُحد، لما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مواقعهم: (وصعد أبو سفيان على قمة الجبل وقال: أفيكم محمداً؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه؟ أفيكم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه؟ أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه؟ حينئذٍ رفع عقيرته قائلاً: اعلُ هبل)، لعلمه أن قيام الإسلام كان بهؤلاء، وحيث أنهم لا يجيبونه إذاً فقد قتلوا، فحينئذٍ افتخر بآلهته ورفع صوته وقال: اعلُ هبل. فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه، قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال). الحرب سجال كما قال أبو سفيان: ننال منه وينال منا، وكما قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، كانت الحرب سجالاً، فكيف صارت الحرب من طرف واحد؟ سجال. يعني: لنا الغلبة مرة ولهم الغلبة مرة أخرى، لكن تاريخنا المعاصر يشهد بأن الغلبة لأعدائنا في كل الجولات باستثناء جولة واحدة، وقد ذهبت أدراج الرياح أيضاً، والتاريخ المعاصر يشهد أن كل الهزائم بلينا نحن بها، ولم تعد الحرب سجالاً كما كانت، فما هو السبب يا ترى؟ السبب أن أجل صناعة عرفتها الدنيا والتي انفردنا بها أجيالاً وقروناً طويلة، قد جفت منابعها، ألا وهي صناعة الرجال. إن الشخصيات الكبيرة التي يلمع أسماؤها في بلادنا اليوم هي شخصيات مصابة بالشذوذ الجنسي والعقد النفسية، وأعداؤنا يقدمون هذه الشخصيات لأمتنا على أساس أنها هي القدوة والأسوة. أمة الإسلام أمة مليئة بالعظماء، فكيف جفّت هذه الصناعة وكيف عز الرجال فيها؟! وهذا واضح من كلام أبي سفيان: أفيكم محمداً؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ هذه هي الشخصيات التي يقوم عليها دين، ونحن لا نعلم من لدن آدم عليه السلام إلى هذه اللحظة التي أتكلم فيها من شهر رجب من عام ألف وأربعمائة وواحد وعشرين هجرية لا نعلم جيلاً من الأجيال أقام دولة في عشر سنوات إلا هذا الجيل الفريد. لقد جفت منابع هذه الصناعة بسبب فساد المرأة، فالمرأة هي المعمل الطبيعي الذي يخرج منه الأبطال، فالمرأة مهمتها أن تلد وتربي، ولذلك تجد أعداء الدين يدندنون حولها وما ملوا أبداً. وهناك قاعدة إعلامية معروفة تقول: (ما تكرر تقرر). فإذا أرادوا أن يقرروا شيئاً كرروه ليلاً ونهاراً، حتى لو كان شيئاً تافهاً ليس له قيمة. أذكر عندما جاءوا بقصة حسنين ومحمدين، كان العالم كله يضحك لتفاهة المضمون، لكن النتيجة ظهرت بعد أربع سنوات من استمرار العرض للقصة، فقد اقتنع العالم بفكرة تكوين أسرة صغيرة وأن فيها حياة أفضل، وقد انطوت هذه القصة بكل أسف على بعض رجال العلم مع فهمهم للفكرة ومصادمتها لنصوص قاطعة في الكتاب والسنة. وبدأت المسألة بذهاب قاسم أمين إلى باريس، ليؤدي الدور المطلوب، ثم رجع إلى مصر، وكان بطبيعة الحال لا يستطيع أن يواجه المسألة مرة واحدة، فكتب كتاب: تحرير المرأة. وقال: إنني لا أقصد بتحرير المرأة تحريرها من دينها، حاشا لله، لا، ولكن نريد أن تتعلم المرأة. لقد استغل الأوضاع السيئة التي بالغ الآباء الجاهلون فيها في رفض تعليم المرأة حتى في البيت، فقال: أنا أريد أن المرأة تخرج لكن في حدود الدين، وتتعلم القرآن، وتقرأ سنة نبيها صلى الله عليه وسلم. وقد كان محمد عبده من الذين تبنوا فكرة قاسم أمين، ودافعوا عنه وأشادوا بعقله المستنير، وأن الذي يطلبه هو من صميم الإسلام، فقالوا: لذلك نحن نبني مدارس خاصة للبنات لا يدخلها رجال، لأن هذا مناقض لديننا، ونحن لا نقصد بتحرير المرأة أن تخرج من دينها، لا. نحن نريدها أن تتعلم حتى تستطيع أن تقرأ في الكتاب والسنة، فنحن نبني مدارس خاصة للبنات، ونشدد أن ولي الأمر هو الذي يصطحب ابنته من البيت إلى المدرسة، فكانت البنت تخرج من البيت على (الحنطور) ولا يراها أحد وتنزل داخل فناء المدرسة، وبدأت الفكرة النيرة تظهر وتتبلور، وبدأ الناس يقتنعون بها ويتبناها بعض العلماء. لكن الواقع أن ولي الأمر بطبيعة الحال لا يستطيع أن يوصل البنت إلى المدرسة يومياً ولفترة زمنية طويلة؛ فأوجدوا سائقاً يوصلها إلى المدرسة يومياً، واستمرت لفترة حتى جاءت مشكلة زحمة الأشغال على السائقين وعدم قدرتهم على توصيل البنات يومياً إلى المدرسة، فقرروا أن البنت هي التي تذهب من البيت إلى المدرسة. إذاً: بدأت المسألة شيئاً فشيئاً، فالأب ما عاد يستطيع أن يذهب كل يوم، والسائق كانت لديه أشغال كثيرة، وما يستطيع أن يوصل الحنطور إلى المدرسة، فجاءت فكرة أن البنت تخرج بنفسها من بيتها إلى المدرسة، قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]. وما هي إلا فترة بسيطة حتى بدأ قاسم أمين يظهر منهجه وفكره خاصة في كتابه: المرأة الجديدة الذي ألفه بعد كتاب: تحرير المرأة، وأسفر فيه عن وجهه فعلاً. لقد دعا فيه إلى ضرورة الاختلاط بين الرجل والمرأة، وأن الدنيا هذه كلها رجل وامرأة، وما المانع أن يخاطب الرجل المرأة وتكون نفسيته طاهرة، وأن تخاطب المرأة الرجل وتكون إنسانة عفيفة نبيلة. لماذا نفترض سوء الظن، وأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما إن هذا سوء ظن!!. من ذلك الوقت صار هم المرأة أن تتعلم، وأن تدخل في وسائل التعليم المختلفة وتأخذ الماجستير والدكتوراه، وأصبحت تنافس الرجل في كثير من المناصب والمراكز والأعمال. كان أبو البنت يقول: كل هذا التعليم حتى تجلس في البيت!! لا. لا بد أن تحقق ذاتها، والمرأة هي نصف المجتمع، فتكون نصف طاقات المجتمع معطلة!! كان ثلاثة أرباع الشباب جالسين على الأرصفة لا وظائف ولا أعمال وهم يقدمون المرأة. من الأولى بالوظيفة؟ هل الشاب الجالس على الرصيف بلا وظيفة أم المرأة التي لا عمل لها بالحقيقة؟! فمن هنا بحثنا عن الرجال الذين سيقفون لهؤلاء الأوغاد الجبناء الذين وصفهم رب العالمين بقوله: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]. هذه الأمة ينتسب إليها مليار مسلم، لو بصق كل واحد منهم بصقة لأغرقوا خمسة عشر مليون يهودي، يتحكمون في اقتصاد العالم وزراعته وتجارته. في سنوات الضعف والهزيمة، أصبح الضعف والاستسلام كياسة وحكمة، وهؤلاء لا يعرفون إلا منطق القوة. أحد الشعراء أجاد في تصوير الضعيف والقوي من الأمم، فذكر قصة رمزية دارت بين طائر الشحرور الضعيف وبين الثعبان القوي، فقال كان الربيع الحي روحاً حالماً غض الشبابِ معطر الجلبابِ يمشي على الدنيا بفكرة شاعرٍ ويطوفها في موكبٍ خلابِ فرآه ثعبان الجبال فغمهُما فيه من مرحٍ وفيضِ شبابِ فانقض مضطغناً عليه كأنه سوط القضاءِ وفرية الكذابِ بُغت الشقيّ من هول الردى متلفتاً للصائل المنتابِ وتدفق المسكين يضرخُ قائلاً ماذا جنيتُ أنا فحقَ عقابي لا شيء إلا أنني متغزلٌ بالكائنات مغردٌ في غابي ألقى من الدنيا حناناً طاهراً وأبثها نزو المحب الصابي أيعّدُ هذا في الوجود جريمةً أين العدالة يا رفاق شبابي فالشرع المقدس ها هنا رأي القوي وفكرةُ الغلابِ وسعادة الضعفاء جرمٌ ما له عند القوي سوى أشد عقابِ ولتشهد الدنيا التي غنيتها حلم الشباب وروعة الإعجابِ أن السلام حقيقة مكذوبةٌ والعدل فلسفة اللهيب الخابي لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهابُ بالإرهابِ فتبسم الثعبان بسمةَ هازئٍ وأجاب في سمتٍ وفرط إهاب يا أيها الغر المثرثر إنني أُرثي لثورة جهلك التلآبِ فاكبح عواطفك الجوامح إنها شردت بلبك واستمع لخطابي إني إلهٌ طالما عبد الورى ظلي وخافوا لعنتي وعقابي وتقربوا لي بالضحايا منهمُ فرحين شأن العابد الأوابِ أفلا يسرك أن تكون ضحيتي فتحل في لحمي وفي أعصابي وتكون عزماً في دمي وتوهجاً في ناظري وحدةً في نابي فكر لتدرك ما أريد وإنه أسمى من العيش القصير النابِ فأجابه الشحرور في غصص الردى والموت يخنقه إليك جوابي لا رأي للحق الضعيف ولا صدى والرأي رأي القاهر الغلابِ فاصنع مشيئتك التي قد شئتها وارحم جلالك من سماع خطابي أصبح الضعيف لا يملك إلا الشجب والاستنكار، والقوي يفعل ما يريد، إننا في أمس الحاجة إلى هذا الصنف الذي رفع أبو سفيان عقيرته قائلاً: أفيكم محمداً؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ وهذه أمة متفردة في صناعة الرجال. فينبغي على المرأة أن تقوم بدورها في هذه المحنة، وأن ترجع مرة أخرى إلى بيتها، وأن تربي الأبن

دروس من غزوة بدر

دروس من غزوة بدر لقد تمت غزوة بدر على غير ميعاد، فقد خرج المسلمون من ديارهم بقصد إحراز العير، حيث كان المهاجرون قد خرجوا من ديارهم وأموالهم فقراء مختارين راضين، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]. الخروج من الديار ليس أمراً سهلاً، ومع ذلك تركوا أموالهم أيضاً، منهم: صهيب الرومي خرج سراً في جناح الليل، من مكة إلى المدينة، فعلم كفار قريش بخروجه فأدركوه في الطريق، قالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تخرج بالمال؟ قال: أرأيتم لو أعطيتكم مالي تخلو بيني وبين ذهابي؟ قالوا: نعم. فأعطاهم المال، فلما وصل إلى المدينة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وحكى له ما جرى، فقال له: (ربح البيع أبا يحيى). هذه الأنفس خالقها هو الله وهذه الأموال رازقها هو الله، يأخذها منا ويعطينا الجنة، فخرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم، وكان لا بد من القصاص، قالوا: نعترض العير ونأخذ هذه الأموال عوضاً عن الأموال التي أخذوها منا. أراد جماعة من الأنصار -وكانت بيوتهم في عوالي المدينة- أن يذهبوا ويأتوا بالعدّة ولأمة الحرب والخيول، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نخرج لقتال، إنما لنحرز العير وهذا العدد كاف. كانت القافلة فيها أبو سفيان وبضعة عشر رجلاً، خرج لها ثلاثمائة وبضعة عشر مسلماً، لم يكن معهم غير فرسين: فرس الزبير بن العوام وفرس المقداد بن الأسود وكان معهم ثلاثون بعيراً، كل ثلاثة يتناوبون بعيراً. لكن الحرب فرضت نفسها، فقد استطاع أبو سفيان أن يستأجر رجلاً ويأخذ ساحل البحر هارباً، وأرسل الأجير إلى قريش يطلب النجدة ويخبرهم أن العير أفلتت وأن المسلمين خرجوا للاعتداء عليها. فقال أبو جهل للناس: لابد أن نرد بدراً وننحر ونشرب الخمر وتغني لنا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، لكن الله عز وجل جمع بينهم على غير ميعاد. فلما فرضت الحرب نفسها ولم يأخذ المؤمنون أهبة استعدادهم؛ تضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه وبالغ في رفع يديه وفي إظهار الذل له تبارك وتعالى: اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنهم عالة فقراء، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. وبالغ في رفع يديه ذلاً واستكانة وانخلاعاً من الحول والقوة، حتى أمسك أبو بكر بمنكبه صلى الله عليه وسلم بعدما سقط رداءه من على منكبه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. حينئذٍ تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا بكر! هذا جبريل نزل على ثناياه النقع وقد لبس لأمة الحرب. وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] مردفين، أي: بعضهم يتبع بعض، فلماذا نزلوا؟ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، كان نزول الملائكة بشرى أن النصر قادم ولتطمئن القلوب بأن الملائكة في جوار المؤمنين، وهذا النصر هو من عند الله؛ ولذلك قال عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، ما انتصر الملائكة وما نزلوا للنصر، إنما نزلوا للبشرى ولتثبيت الأقدام {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، عزيز لا يُغلب، ولا يذل جاره إذا استجار به. ودارت رحى الحرب وكانت موقعة بدر الكبرى، وكانت فرقاناً كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، فصارت شامة في جبين الدهر، حتى صار الذي حضرها يُنسب إليها ولا ينسب لأي غزوه من غزوات الإسلام، فيقال: فلان البدري، ولا يقال: الأُحدي ولا التبوكي ولا اليرموكي ولا أي غزوة من الغزوات، فنزلت فيهم بشارات عظيمة. منهم حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى امرأةً كتاباً بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في ظفيرتها يخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فأرسل علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وقال: اذهبوا إلى روضة خاخ، حيث تجدون ضعينة، في ظفيرتها كتاب، ائتوني به. فذهبوا إلى هناك، فوجدوا المرأة، فقال لها علي بن أبي طالب: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي من كتاب، قال: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، ففكت المرأة ظفائرها وأخرجت الكتاب، فأخذه علي بن أبي طالب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاطب في المجلس لا يعلم شيئاً، ففتح الكتاب وقرأ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى نفر من المشركين يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. لما قرئ الكتاب استشاط عمر غيظاً وقال: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق. فقال حاطب الذي شهد بدر: يا رسول الله! لا تعجل عليِّ، فوالله ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكن لي قرابة في مكة. كان حاطب ليس له نسب وليس له ظهر في مكة، فكان المشركون يؤذون قرابته أشد الأذى، فأحب أن يتخذ يداً عند المشركين يحمي بها قرابته، فكان هذا هو الذي دفعه إلى هذا الفعل، قال: ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، فأردت أن أتخذ صنيعة أحمي بها قرابتي ومالي). فقال عمر: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق. فقال لـ عمر: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم). هذه خاصِّية ليست لأحد إلا لهذه الطائفة التي شرفها الله عز وجل بحضور هذه الموقعة، ففي الحديث الصحيح أيضاً أن حاطب بن أبي بلتعة كان قاسياً على غلامٍ له يضربه، فذهب الغلام يشتكي حاطباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من جملة ما قاله الغلام للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: كذبت إنه شهد بدراً إنه شهد بدراً. وقال: (لا يلج النار أحد شهد بدراً والحديبية) لأن بدراً كانت فتحاً وكانت الحديبية فتحاً أيضاً، ونزل في الحديبية قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، مع الظلم الظاهر في بنود صلح الحديبية. فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالله، وقد كان له صلى الله عليه وسلم عريش يصلي فيه طول الليل ويدعو الله تبارك وتعالى أن ينصره على هذه الطائفة.

مقومات النصر في غزوة بدر

مقومات النصر في غزوة بدر إن المقومات التي كانت عمود النصر في بدر، أربع مقومات: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]، أول مفتاح من مفاتيح النصر: ذل الإنسان وافتقاره إلى رب العالمين، فليس له قيمة إلا إذا نظر الله إليه، فيحقق العبودية؛ لأن العبودية معناها: الذل الكامل لله. ولذلك الحجر والشجر عندما يختفي يهودي خلفه يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله. فهل حققنا العبودية لله تباك وتعالى؟ بكل أسف لم نحققها على المستوى الجماعي، بل ولا حتى على المستوى الفردي، إلا طائفة من عباد الله هم الذين صبروا على اللأواء، وصبروا على التشريد وصبروا على الضرب. ومن تمام العبودية لله: أنك لا تقدم شيئاً من الأحكام مطلقاً على حكم الله. فهل يُعقل يا أخي أن يستفتى على تحريم الخمر؟ الخمر الذي حرمه الله بالنص القاطع الظاهر الذي لا يحتمل تأويلاً قط، تجدهم يعرضونه للتصويت، من كان حالهم مع دينهم هكذا فأنَّى ينصرون، لا والله لا ينصرون. إن سنة الله الكونية لا تتخلف، ولا تحابي أحداً. إن الله لينصر الدولة الكافرة لو كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة لو كانت ظالمة. إن المظاهرات كلها لعب وضحك يتم فيها استفراغ شحنات الغضب: الموت لإسرائيل، يسقط اليهود. ثم بعد ذلك تنفد قوة المتظاهر ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، فيذهب إلى البيت وينام على السرير. هذه الأمة ينبغي أن يبقى بركان الغضب تأثراً في نفوس أبنائها، وأن تسير وفق برنامج عملي، منهجي يتم فيه تحقيق العبودية على وجهها كما أراد الله عز وجل، وكما سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بيوتنا اليوم تعج بالمخالفات. وأنت ولي الأمر في بيتك، ما الذي يمنعك أن تنقي بيتك من المخالفات؟ ما الذي يمنعك أن تكون قيماً على من في بيتك؟ إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). يوم نكون عبيداً لله عز وجل سننتصر على أعدائنا برغم قلة عتادنا وعدتنا، كما نصر الله عز وجل الذين خرجوا لا بنية القتال، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا يتناوب الثلاثة منهم على البعير الواحد نصرهم على الكفرة الذين كانوا يذبحون عشرة جمالٍ في اليوم ويأكلونها؛ لأن الله قد حسم القضية فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، (عزيز): لا يغلب جاره. (حكيم): لا يمكن أن يضع النصر في أيدي أناس لم يحققوا العبودية له حكمته تأبى ذلك. هل يعطي الله النصر لرجل لا يحقق العبودية له تبارك وتعالى؟ هيهات هيهات فأول مفتاح من مفاتيح النصر: الذل لله تبارك وتعالى وإقامة العبودية على وجهها. والعبودية (باختصار): أن لا تحرك ساكناً ولا تسكِّن متحركاً إلا إذا كان مأذوناً لك فيه. العبودية: أن لا تخالف النص حتى لو ظننت أنه يضرُّك، طالما أنه مطلوب منك أن تفعل فيجب عليك أن تفعل. العبودية: أن تسبح ضد مصالحك الشخصية إذا كان فيه إيصال الخير لأخيك المسلم، كما حدث لـ جرير بن عبد الله البجلي، فقد كان له غلام يفهم في البيع والشراء، فذهب إلى السوق واشترى بعيراً جيداً بثمن بخس، وكان البعير يثمن بثمانمائة درهم وقد اشتراه الغلام بأربعمائة، وجاء مغتبطاً متهللاً إلى جرير بن عبد الله فلما سمع جرير كلامه قال: ائتني بصاحب الجمل. فجيء به، وقال له: إن جملك يساوي ثمانمائة درهم وأعطاه الأربعمائة الباقية، فكان الغلام يقلِّب كفيه عجباً!! يقول: أنا اجتهدت واستطعت أن أربح في البيعة وآخذ البعير بأربعمائة، وإذا بك تعطيه ثمانمائة؟ قال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وليس هذا من النصح. هناك من يبيعون الله ورسوله بلا مقابل لوجه الشيطان، وهناك من لا يفك البيعة بأموال الأرض فضلاً عن أربعمائة درهم العبودية تشمل الدين كله. العامل الثاني: على قول الطائفة التي تعتقد أن هذه الآيات التالية نزلت في بدر: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} بقي العامل الثالث والرابع، {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]، (مُسَوِّمِينَ): عليهم سيما وعلامة. ولا تعارض بين هذا العدد وبين العدد الذي ورد في سورة الأنفال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال:9]، هنا ألف ثم ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف، فلا معارضة؛ لأن آية الأنفال تقول: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وفي قراءة نافع: (مُرْدَفِيْن): أي سيأتي بعدهم آخرون، فبدأ الإنزال بألف ثم ثنى بثلاثة آلاف حتى وصل إلى خمسة آلاف، كل هذه دفعات متتابعة كما نزل القرآن منجماً؛ لأنه أوقع في تثبيت النفوس، ولو نزل دفعة واحدة لما كان له تأثير قوي، لكنه نزل منجّماً على حسب الوقائع، تحدُث حادثة فتنزل آيات على مقتضى الحادثة، فإذا نزل الشيء على مقتضى الحدث ينفعل المرء له. القول الثاني أن هذا الإمداد كان في أُحد، وسياق الآيات جميعاً في غزوة أحد، وإنما جاء ذكر بدر مُعْتَرَضَاً بين الآيات للتذكير، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:121 - 124]. فقالوا: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:124] هذه نزلت في غزوة أحد، وقد جعل الله عز وجل الإمداد مشروطاً بالتقوى والصبر، فلما خالفوا الشرط في غزوة أحد لم يحصل الإمداد فلهذا غُلبُوا آخراً، بعدما كانت الدولة لهم في الأول. إذاً: مقومات النصر في غزوة بدر هي: ذلٌ، وصبر، وتقوى، واستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]. أما الهزيمة في أحد فقد ذكر الله عز وجل الخلل الذي وقع فيه المسلمون في آية واحدة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] قال ابن مسعود: (لولا هذه الآية لقلت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يريدون الآخرة) حتى قال الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]، ولا يحل لأحد أن يعيِّر الصحابة بهذا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]. أما في حنين، فقد قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وقالوا: (لن نغلب اليوم من قلة) فعوقبوا بالإدبار، وعوقبوا بالهزيمة حتى منّ الله عز وجل على المؤمنين ونصرهم لما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- لما أدبر الناس يوم حنين نادى نداءين فصل بينهما، النداء الأول قال: (هلموا إلي)، والنداء الثاني قال: (أنا عبد الله ورسوله) فأنزل الله عز وجل نصره عليهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

القدس لن تعود إلا بالجهاد والرجوع إلى الله

القدس لن تعود إلا بالجهاد والرجوع إلى الله الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة إن الحق المسلوب لا يعود بالمظاهرات، ولا يعود بإحراق العلم الإسرائيلي، ولا يعود بالمفاوضات، القدس مسألة حيوية بالنسبة لليهود، تجمعوا كلهم في القدس؛ لأنها هي مقبرتهم، هم لن يتركوا القدس، والقدس لن تعود إلا بالجهاد، وعلى حكام المسلمين أن يرفعوا راية الجهاد في سبيل الله، وأن يتيحوا لهذه الأمة أن تثبت وجودها. إن الحجارة عذبت اليهود أكثر من عشر سنوات، على يد طفل صغير، فاليهودي جبان جبان، وأقوى الناس قلوباً وأشجعهم هم المسلمون، ولو واجه المسلم اليهودي مواجهة صريحة لغلبه. إننا نريد برنامجاً عملياً نجمع فيه طاقات الشباب وطاقات الأمة لنسخرها في خدمة هذا الدين. إن المظاهرات يدخل فيها أناس كثيرون ليس لهم في العير ولا في النفير، تجدهم يدمرون الممتلكات العامة والخاصة، والغوغاء إذا اتصلت بالفتنة؛ لا يستطيع أحكم الحكماء من البشر أنه يوقف هذا الزحف. فلهذا ينبغي علينا أن نكون صرحاء، لا يقولن أحد: إن هذه دعوة إلى التخذيل، المظاهرات لا تغير القرار السياسي ولا الاقتصادي إلا أن يشاء الله، لكن هذه الأمة ينبغي أن ترجع مرة أخرى إلى الأصول العامة والضوابط التي وضعها أهل العلم. ولا يتكلم في هذه المسائل إلا العلماء، فيأتي أنصاف المتعلمين يقولون: لا. المظاهرات مشروعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه سلم قام بمظاهرة في أول الإسلام، عمل صفين، جعل في الصف الأول عمر، وجعل في الصف الثاني حمزة بن عبد المطلب، نحن نقول: يا جماعة اثبتوا القصة أولاً، هل هذه القصة لها إسناد يُحتج به أم لا؟ ثانياً: لما خرجوا بهذا الوضع وهذه الصورة، خرجوا عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليرهبوا الأعداء. وهل المظاهرات ترهب الأعداء؟ وها هم أكثر من ثلاثمائة وخمسين فلسطينياً يموتون ويقتلون شر قتلة وماذا فعلت لهم المظاهرات. ولما يقتل اثنين من اليهود تتعرض الأرض كلها للجحيم، ونضطر أن نعتذر عن مقتل اثنين من اليهود، أما ثلاثمائة وخمسين مسلماً شربت الأرض من دمائهم ليس لهم قيمة، نحن نناصر السلام، واليهود لا يعرفون السلام: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، هذه خاصية اليهود، قالها العلماء وتكلموا حتى جفت حلوقهم أن اليهود لا أمان لهم، وأنهم لا يعرفون السلام، والأيام كلها تثبت صدق المقالة. أفلا نرجع إلى الله؟! ويقولون: نحن لا نستطيع أن نرجع، لماذا؟ لأن اليهود معهم العتاد والرؤوس الذرية والقنابل النووية. يا إخواننا! نحن نريد أن نرجع إلى الله، نريد أن نحقق العبودية لله، حينئذٍ هو الذي ينصرنا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. وفي بعض الكتب الإسرائيلية أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام لما لقي فرعون، فأمتلأ قلبه خوفاً منه، فقال الله عز وجل له: (لا تنظر إلى لباسه فإن قلبه بيدي) لا تغتر بهذا اللباس فإن قلبه بيدي، ومقاليد الأمور جميعاً ترجع إلى الله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: نهايات الأمور. المطلوب منا أن نرجع إلى الله رجوعاً جاداً لا رجوعاً هزلياً كالذي نفعله، هذا كله لعب ليس له قيمة، إنما الرجوع الحقيقي أن نعود إلى الله، كذلك النساء يعدن إلى البيوت حتى يخرج الجيل المنشود الذي سيواجه اليهود.

حقيقة معركتنا مع اليهود

حقيقة معركتنا مع اليهود أيها الإخوة: إن المعركة بيننا وبين اليهود معركة عقيدة، وليست قتالاً على الأرض، فالذي يراهن على الأرض خاسر، والذي يستظل بلواء العقيدة لا ينهزم، وهذا هو الفارق الجوهري بيننا وبين اليهود. رئيس الوزراء الإسرائيلي عندما يلقي خطاباً في الكنيسة، يقرأ آية من التوراة توقيراً للتوراة، ويتلوها وهو معتقد أن هذا حق، ونحن نقاتل على تراب نريد أن نسترد أرضاً، اليهود يستطيعون استرداد الأرض التي أعطونا أياها في أسرع وقت. ولقد صرح أكابر السياسيين اليهود أن باستطاعتهم طرد ياسر عرفات وأخذ فلسطين كلها. لقد شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله. سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، وعن الرجل يقاتل حمية، هل ذلك في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). اليهود يتحركون عن عقيدة، والقدس تشكل بالنسبة لهم حجر الزاوية، فهم يعتقدون أنها أرض الميعاد، وأنهم الشعب المختار وهذه أرضهم، لقد جاءوا من كل بلاد الدنيا إلى هذه البقعة، والدول الكبرى كلها تدعم هذا الوجود، خاصة بعدما ظهر مصطلح الأصولية، والأصولية تعني: أن العهد الجديد التحم مع العهد القديم. العهد الجديد: الإنجيل، والعهد القديم: التوراة، ومسألة أرض الميعاد قد هيأ لها اليهود من قديم، حتى أنهم استطاعوا أن يستقطبوا النصارى معهم في هذه المسألة، وأن يجدوا مساعدات بالمليارات لتحقيق الوعد الذي هو واردٌ عندهم في التوراة. فهذه مسألة حيوية جوهرية، لن ترد القدس بالمفاوضات أبداً، لن يردها إلا الجهاد لكن بعد أن تكون الأمة قد خسرت كثيراً جداً. في هذا الوقت يدخل شارون المسجد الأقصى؛ لأن هناك مفاوضات على القدس وإعلان الدولة الفلسطينية، فقال لك: نعمل أي حركة جانبية، نشغلهم بها عن الموضوع الأصلي. هذه المفاوضات والقمم تقام لوقف الصلف اليهودي، والرجوع مرة أخرى إلى قرارات أوسلو، وفي هذه الفترة يشن اليهود غزواً ثقافياً واقتصادياً، فالإعلام والاقتصاد والمال بيد اليهود، وهم حريصون على إدخال الحشيش والمخدرات والأفيون إلى بلاد المسلمين، وهم على استعداد أن يخسروا مائة مليار دولار على أن تقفل كل المصانع في مصر، وكل هذا الكلام مدون في بروتوكولات حكماء صهيون، وأنا لا أدعو الجماهير إلى قراءة كتبهم، لا. الجماهير يجب أن تشتغل بالكتاب والسنة، إنما الذي يقرأ هذه الكتب هم الدعاة إلى الله؛ حتى يعرفوا كيف يكيد الأعداء لهذه الأمة. ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ زيد بن ثابت: (تعلم لغة يهود فإني لا آمنهم على كتابنا) فتعلم زيد بن ثابت لغة اليهود وأتقنها في ثمانية عشر يوماً؛ لأن هذا جهاد يرضي الله ورسوله. وكما يقرأ العلماء في كتب أهل البدع، ليعرفوا كيف يؤسس أهل البدع أصولهم حتى يردوا عليهم ويحموا عقيدة أهل السنة، ويكشفوا التلبيس والتزوير، كذلك قراءة علما في كتب أهل الكتاب ومعرفتهم بالأناجيل والتوراة، وقد وجد من علمائنا من كانوا أفقه في دين النصارى من أعظم القساوسة، كـ ابن تيمية وابن كثير وابن القيم. فيجب أن يحال بين الجماهير وبين هذه الكتب؛ لأنها مضيعة للوقت ولا فائدة منها بل خطرها على عوام الجماهير شديد. وهناك شيء آخر وهو: أن بعض الدعاة يضخم إمكانات العدو ويحقر من إمكاناتنا، وهذا إذا جاز أن يقال: أنه يوضع كالملح في الطعام، فلا يجاز أن يدندن عليه بصفة دائمة، لأن ما ظنك برجل مهزوم كل يوم تقول له: لا فائدة الأقمار الصناعية تراقب دبيب النملة، هم عندهم أربعمائة إذاعة وخمسمائة مجلة، والعملاء بالألوف المؤلفة، فهذا معناه عند رجل مهزوم أن يزداد هزيمة، ولا يتحرك، فقد يكون من المصلحة أن تحجب إمكانات عدوك عن الجماهير التي لا تدرك شيئاً لكن عليك أن تضع الإمكانات الحقيقية بين أيدي أصحاب القرار، الذين يعرفون كيف تدار الأمور. في بروتوكولات حكماء صهيون قالوا: نحن سوف ندعو إلى تحريم تعدد الزوجات، وقد كنت أستغرب كيف سيحرموه هل سيأتي شخص يقول لك: إن تعدد الزوجات حرام؟ لقد ظللت أفكر حتى دخلت في حيرة، ولم أصل إلى النتيجة إلا بعد فترة، وقد كانت النتيجة أن بثوا وزرعوا في عقول الناس اشتراطات وأسئلة ثلاثة، جعلوا الزوج والزوجة يفكران فيها قبل أن يقدما على الزواج: السؤال الأول: هل توافق على أن تكون العصمة في يد امرأتك؟ فلو كان هناك رجل يحب امرأة ويموت في حبها، ويريد أن يتزوجها وشرطت عليه أن تكون العصمة بيدها لوافق. وللأسف عندنا شريحة من الرجال مستعدة لهذا الأمر تلقائياً. السؤال الثاني: هل توافقين أن يتزوج زوجكِ عليكِ؟ إن أي امرأة لو أتيت بها وخيرتها من قبل الزواج: هل توافقين أن يتزوج زوجك عليك؟ لقالت: لا. ومعلوم لدينا أن المرأة إذا كانت من الطراز الذي يحمل هموم الأمة، ويعتقد أن التعدد نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله ستقول: نعم أوافق، لكنها سوف تجد ضغطاً من المجتمع كيف توافقين على هذا يا مجنونة، أنت مخدوعة، ما هذه المبادئ التي تتكلمين عنها. إذاًَ: لا يوجد من النساء من سيوافق على هذه المسألة، وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر لو كتبته بيديك فإنه سوف يرفع بأمرك إلى المحاكم وتدخل في سؤال وجواب. هذه المرحلة الأولى. المرحلة الثانية: استحداث عقوبات للمخالفات، فإذا أخللت بشرط من شروط العقد يحدد لك عقوبة. وسيكون نتيجة تطبيق ما سبق من مراحل: أن تظهر شريحتان في المجتمع: شريحة ستجعل العصمة بيد المرأة، والشريحة الثانية: أن المرأة لن تسمح أبداً لزوجها أن يتزوج عليها بل تشترط ذلك في عقد الزواج. السؤال الثالث: هل توافق أن تعمل امرأتك؟ هذه هي الثلاثة الأسئلة المكتوبة!! لماذا؟ لأن الفساد كله يتحقق بها أو بنفيها، فاليهود استطاعوا بدهاء ومكر أن يستخدموها، مثلما استخدموا الشيخ محمد عبده في الثناء على قاسم أمين. كانت الماسونية العالمية تدعي إليها بعض العلماء ليتحدث في نواديها ومنتدياتها، ونتيجة للجهل والتغرير كان أحدهم يذهب ويقول: أنا أبلغ كلام الله في أي مكان. ومن هنا تكتسب التزكية والقبول. هؤلاء جميعاً لهم أهداف وهم صناع القرار في العالم، إذا أرادوا تولية أحد قيادة أي بلد من البلدان أخذوه ووضعوه تحت المجهر من طفولته إلى أن يضعوه في المكان المناسب. أذكر أنه كان هناك مسجد في القاهرة يراد توسعته، فقام الخطيب وقال: يا إخوان! نحن نريد أن نوسع المسجد بسبب ضغط المصلين، ونحن نحتاج إلى مائة ألف جنيه، وقد كان هذا الكلام عام (1976م)، فقام شخص بعد ما أنهى الخطيب كلامه وقال: أنا أنتمي إلى نادي (الروتاري) وسأتبرع بمائة ألف، فصاح الناس: الله أكبر، بارك الله فيك، والناس -طبعاً- لا يعرفون ما المقصود بكلمة (روتاري)، هم يعرفون أن الرجل محسن وأنه يريد الخير. فقام رجل مسلم من جنوب الفلبين لما سمع الكلمتين وقال: اسمحوا لي بكلمة وأمسك الميكرفون وتكلم، فبين للناس أنه سيُكتب على لافتة الملحق الجديد للمسجد: أن هذا الملحق بناه نادي (الروتاري) وهذا يعطي سمعة حسنة لهذا النادي الماسوني. وبين للناس حقيقة هذا النادي وأهدافه. فلما يقال: إن نادي (الروتاري) يحتاج إلى أعضاء جدد، فإن أي إنسان سيعلن انتماءه إليه مباشرة، وإذا وجدوا داعية أو عالماً استدرجوه بأن يذهب إلى النادي ليلقي محاضرة عن الأخلاق والقيم والمبادئ. ثم يخرج الإعلان في الصحيفة في اليوم الثاني أن العالم والداعية الفلاني شرف نادي (الروتاري) وألقى فيه محاضرة. فيتخذون من سمعة العالم أو الداعية ستاراً لمزيد من الإيهام، وينطبع في مخيلة الجماهير: لولا أن هذا النادي أهدافه عظيمة وحسنة ما جاءهم العالم الفلاني. هذه الحقائق لابد أن يعرفها أهل العلم، وعليهم أن يبصروا الجماهير بها بالطريقة اللائقة، والحكمة والموعظة الحسنة. نحن قلنا: إن اليهود لهم معنا حروب طويلة، وليس من حق أي مخلوق مهما كان قدره أن يقول: إن الحرب بيننا وبين اليهود الآن آخر الحروب، ليس من حقه أن يقول ذلك؛ لأن الله عز وجل قضى أن الحرب بيننا وبين اليهود لن تضع أوزارها إلا مع قيام القيامة. فالحرب بيننا وبينهم دائمة مستمرة، ونحن لابد أن نكون مستعدين، ولا نضلل الجيل القادم، وأنا معتقد أن الجيل القادم سوف يكون ذا قيمة، وأن المواجهة مع اليهود ستكون مواجهة شاملة مع جيل أولادنا. ولهذا ينبغي أننا نربي أولادنا على عقيدة الانتماء لله ورسوله، والعزة التي نقرأها في جيل الصحابة رضي الله عنهم وجيل التابعين من بعدهم، ونحدثهم عن المعارك التي انتصر فيها المسلمون من أهل الشام ومصر على التتار. لقد قرأت أحداث لكل المعارك وأنا راجع من رحلة الإمارات إلى القاهرة في خلال ثلاث ساعات، لقد ضللت أبكي منذ بدأت القراءة حتى نزلت المطار؛ لأن التتار كانوا قد ملكوا الدنيا كلها، وكان اسم التتار يبعث على الرعب. لقد بدأ التتار يجهزون الجيوش حتى دخلوا الشام، فبدأ أهل الشام يستنجدون بأهل مصر، وبدءوا يراسلون الخليفة ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دور كبير في معركة شقحب التي يقول فيها ابن القيم رحمه الله: (ورأيت شيخ الإسلام يركب فرساً ويقاتل كأشجع الفرسان وما ركب فرساً قط)، وكان شيخ الإسلام يطوف على الجنود ويتكلم بقلبه، ويحلف أننا منصورون هذه المرة، وكانت المعركة في رمضان، وكان يذكرهم ببدر وأنها كانت في رمضان. وكان يفتي الجنود بالإفطار ويقول: تقووا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفطروا، وكان يحلف بالله أننا منصورون هذه المرة، فقال له الخليفة: (قل: إن شاء الله) فقال: (تحقيقاً لا تعليقاً) إن شاء الله هي موجودة في قلوبنا حتى لو لم نتلفظ بها. ودارت رحى الحرب بعدما قسّموا الجيش إلى ثلاث فرق: الميمنة والميسرة والقلب، وكان الخليفة والأمراء في الخلف، وهجم التتار على الميسرة في الليل، واستطاعوا أن يقتلوا أكثر من ثلاثة آلاف مسلم

عجبا يا بلد الأزهر

عجبا يا بلد الأزهر إن الأمة الإسلامية في حاجة ماسة إلى العلماء وطلبة العلم، فبوجودهم ينتشر العلم، ولكن للأسف فإن المسلمين لا يهتمون بالعلم، ولا يدركون حجم المحنة النازلة بهم، فتجدهم يهتمون بمظاهر الدنيا أكثر من اهتمامهم بالعلم، بل إنه يخرج من بين أظهرهم من يعملون على عرقلة نشر العلم. ولهذا فإن العمل على نشر العلم، ومعاونة العلماء بالمال، وتفريغ الطلبة للتعلم يعد واجباً على كل مسلم.

العلم الشرعي والتفرغ لطلب العلم

العلم الشرعي والتفرغ لطلب العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

صعوبة الحصول على المخطوطات في بلاد المسلمين

صعوبة الحصول على المخطوطات في بلاد المسلمين هناك ظاهرة حتى أبين لك حجم المحنة أيضاً، مخطوطات المسلمين مفرقة في بلاد الكفر كلها، ما من بلد من بلاد الكفر إلا وفيه مخطوطات للمسلمين، ما علينا من بلاد الكفر، دعنا نحن في البلاد مثل بلادنا وتركيا، ومثل هذه البلاد التي تزخر بدور المخطوطات، عندما أذهب أنا كباحث في الحديث، أو أنت كباحث في الفقه، أو هذا كباحث في اللغة، أو هذا في التفسير أو هذا في الأصول، ويريد أن يحقق كتاباً لينشره بين المسلمين، فإذا أراد أن يحصل على المخطوط، فإنه لا بد أن يريق ماء وجهه ذلاً للموظف في المكتبة، وأنا لا أذهب بكم بعيداً، أقول لكم جزءاً من محنتي في تحقيق تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله: فأنا أحقق تفسير الحافظ ابن كثير، على أكثر من عشرين مخطوطة، بعضها يرجع إلى حياة الحافظ ابن كثير نفسه، أقدم مخطوطة عندي تاريخها سنة (759هـ)، وابن كثير مات سنة (774هـ) قرابة خمسة عشر سنة، وهناك مخطوطة مكتوبة سنة (825هـ)، موجودة في المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وهذه المخطوطة نشرت عنها طبعة دار الشعب التي هي ثمانية مجلدات، فأردت أن أحصل على المخطوط فذهبنا إلى المكتبة: - قال: المخطوطات في الشماعة. - لماذا؟ - نحن أصلاً سننقل إلى حديقة الخالدين، ولستُ عارفاًَ ماذا، وكلاماً من هذا. هذا الكلام عمره خمس سنوات. المهم أننا دخلنا على الموظف وجئنا بواسطات وما إليها. قال: يمكن نخرج لكم المخطوطة لكن لا بد من إمضاء شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق رحمه الله، واستطعنا بالواساطات أن نصل إلى مدير مكتب شيخ الأزهر وهو أخ فاضل، وكتبنا التماساً، ووصل الالتماس بالفعل على حسب ما قال صاحبنا إلى مكتب الشيخ رحمه الله. ومع ذلك كلما نتابع الخبر ما استطعنا على الإطلاق إلى لحظة هذا الكلام أن نحصل على المخطوط، ساومنا: طيب! نحن على استعداد أن نأتيكم بمخطوطة نفيسة غير موجودة في المكتبة أبداً عندكم، وتقايضونا بالنسخة، وندفع على الورقة تسعين قرشاً مقبل تصوير المخطوطة، وتفسير ابن كثير الطبعة التي هي موجودة في المكتبة الأزهرية ثمانية مجلدات، كل مجلد أكثر من ثلاثمائة ورقة وجه وظهر، فالمجلد الواحد يمكن أن تكون تكلفته ثلاثمائة جنيه، أو خمسمائة تقريباً، وعندها (500 × 8 مجلدات) يمكن أن ندفع أربعة آلاف جنيه مقابل تصوير، ولم نحصل على مخطوط. قالوا: لا بأس. فذهبنا -لست أنا طبعاً إنما أنا أوكل، وطبعاً كل شيء بفلوس، فأنا قلت: أوكل، أليس كذلك؟ فمكتبة الجامع الكبير في اليمن في صنعاء فيها نسخة نفيسة لتفسير فتح القدير الجامع بين الدراية والرواية في علم التفسير للشوكاني رحمه الله، وهذه المخطوطة بخط تلميذ الشوكاني، وقُرِئت على الشوكاني في حياته، والشوكاني له تعليقات على هامش النسخة، وتعتبر هذه النسخة نفيسة جداً، وتقع في أربعة مجلدات ضخام، وصُوِّرت بمبلغ وقدره بعدما جئنا بالنسخة وعرضناها على المكتبة قالوا: لا، لا، لا، لا، لا. هذا رجل حديث، نحن نريد مخطوطة عريقة، يعني: عمرها تسعمائة سنة أو ثمانمائة سنة. - يا جماعة! هذه النسخة ليست عندكم! وذهبت كل هذه النفقات سدىً، وعجزنا حتى الساعة أن نصور نسخة. أنا أقول لكم واثقاً غير متلجلج: لو أن هذه المخطوطة في تل أبيب، لكنت قد جئت بها في اليوم الثاني، أقولها غير متلجلج وبكل أسف، أنا أريد مخطوطة، أتصل مثلاً بالأنتريال بأسبانيا: أريد المخطوطة الفلانية بالرقم الفلاني، أحول تصويراً بالدولار عليهم فتصل إلي المخطوطة من أسبانيا، على أحسن تصوير وأفخم ورق بعد أسبوع واحد! فإذا كان هذا حال القائمين على الكتاب، ونحن لسنا في دار كتب، ولا نأخذ المخطوطات نُثْري بها، ولا نبيع بالدولار ولا بأي ماركة من الماركات، إنما نأخذ هذا المخطوط ونواصل الليل بالنهار ويجفو عيونَنا النوم، لفظة واحدة يمكن أن أظل أسبوعاً كاملاً أحقق فيها، هل هي بالنون أم بالباء؟ النقطة فوق أم تحت؟ لأنه سينبني على هذا حكم شرعي، وأنا مؤتمن على تراث المسلمين، وسيصعد واحد فقيه يأخذ هذا الكتاب ويحتج بهذه اللفظة ويعتبرها من الألفاظ المحفوظة، ويبني عليها الحكم الشرعي. إذاً: كأنني أسهمت في هذا التضليل، فإذا عجزتُ بعد هذا البحث الطويل العريض عن أن أرجح هل هي بالنون أم بالباء، أكتب كل ملحوظاتي في الحاشية، وأنني نظرت في الكتاب الفلاني، والكتاب العلاني، ويترجح لي في النهاية كأنها بالباء أشبه، أو كأنها بالنون أشبه، وليحرر هذا الموضع. فمن الذي يقوم بهذا الجهد، إذا كان لا يوجد في المسلمين من يقوم بهذا، وهذا تراثنا، وهذا ديننا كله؟! ومن يحاول إخراج المسلمين مرة ثانية؟! هل المسلمون بعد سماع مثل هذا الكلام سيفهمون؟ وهذا قُل مِن جُل، المعاناة أكثر بكثير جداً إذا كانت المخطوطة وحيدة، مثلاً لو أن عندك خمس أو ست مخطوطات، فمن الممكن لو كان ثمة طمس في المخطوطة أن تجده في مخطوطة ثانية شبيهة، تُصَوِّر المخطوطات من بعضها؛ لكن لو كانت مخطوطة واحدة في العالم ليس لها شبيه وفيها طمس، أو الناسخ استعجل، أو غفل وهو يكتب، ولا تستطيع أن تراجع هذا في مخطوطة أخرى، فهذا عذاب أليم. فمن الذي يقوم بهذا الجهد؟!

لا يقضى على البدعة إلا بالحجة والعلم

لا يقضى على البدعة إلا بالحجة والعلم بمناسبة الكلام على البدعة على حجم محنة المسلمين في تمييزهم هذا الباب الوحيد في وسط أبواب عليها دعاة أقوياء، والمحنة لها حجم آخر، وذلك أن دعاة الحق مع قلتهم قد يبطلون دعوة الحق بعدم الإجادة، وبعدم إقامة الدليل وإقناع المستمع أو طالب الحجة ببعض الدلالة. داعية الضلال قد تجده قوي العبارة والحجة، ويعتمد اعتماداً أساسياً على الشبهات، بحيث إنه يحيرك في بعض البلاد التي لا تجد فيها داعية حق واحد، وقد تجده ولكن عنده ضعف في اللسان، فتزداد حجم المحنة بأن الباب غير مميز بالنسبة للناظر الأزهري، وفي نفس الوقت الرجل الذي يقف على هذا الباب لا يحسن عرض الحجة ولا الحق الذي معه. إنما أقول هذا الكلام وأكرر الدعوة التي كررتها كثيراً حتى قلتُ مرة: إن حلقي جف من كثرة الدعوة إليها مع عدم الاستجابة من الجماهير حتى هذه اللحظة التي أنبه فيها، الاستجابة لا تشكل أكثر من نصف في المائة، وهذا يبين لك حجم المحنة أكثر وأكثر، نصف في المائة، الدعوة التي أدعو إليها دائماً. أقول: يا جماعة المسلمين! فرغوا طلبة العلم لمصلحتكم، طالب العلم الذي يعمل أكثر من عشر ساعات في اليوم ويعطي العلم والدعوة فضل وقته، هذا لا يمكن أن تأتي من خلفه ثمرة محترمة. لماذا لا تفرغون؟ انظروا إلى النصارى يفعلون ذلك، واليهود يفعلون ذلك، عندهم رءوس أموال موقوفة، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى القس في الكنيسة، وإلى إمام أو خطيب المسجد عند المسلمين، ترى مهزلة بمعنى الكلمة.

من المسئول عن عجز الخطباء والدعاة

من المسئول عن عجز الخطباء والدعاة ما معني أن يكون رجل ساكن في عين شمس ويخطب الجمعة في حلوان وهو كفيف البصر، ما معنى هذا الكلام؟ رجل كفيف البصر يسافر من عين شمس؛ لكي يخطب الجمعة في حلوان على بعد (30كم) يتعلق بمواصلتين وثلاثة، هل عين شمس خلت من المساجد؟ لماذا لا يخطب هذا الرجل في عين شمس، ورجل حلوان يخطب في حلوان؟ ثم تنظر إلى البدلات التي تصرف للأئمة، نحن على يقين أن أكثر من (95%) من خطباء الأوقاف جهلة، والمسألة مزدوجة، أي: ليس الذنب عليهم دائماً، لَمَّا يُعْطَوا (10) جنيهات (بدل كتب) لو أراد أن يشتري كتاب فتح الباري مثلاً وهو كتاب قاموس السنة، والإنسان لا يستغني عنه أو أي باحث في العلم، الكتاب هذا بـ (250) أو (240)، يعني: أنه يظل سنتين يسدد أقساط كتاب واحد إذا وافق البائع على ذلك، مع أننا يمكننا أن ننفق مائة ألف أو تزيد في استقبال واحد من النصارى: مرحباً بالضيوف، مائة ألف، بئر معطلة وقصر مشيد، بئر لا ماء فيها، وقصر مشيد، المائة ألف التي تنفق في كل ضاحية وكل حي، لو جاءوا بها بكتب لهؤلاء الناس، حتى يعلموهم شيئاً؛ لكن وبكل أسف! الذي يصعد هذا المنبر لا يدري أبجديات الإسلام، قد يكون ذكياً ومحصلاً، ومحباً لدينه، ويتمنى أن يخدم؛ لكن ليس عنده علم. كثير من هؤلاء الشباب يسألونني سؤالاً واحداً: ما حكم الشرع في (الهروب) من الدروس؟ هو له جدوى كل يوم لا بد أن يعطي درساً بين المغرب والعشاء في المسجد المعين فيه. هذا الرجل من أين سيأتي بالكلام؟ ليس عنده كلام، إن الذي يقدر أن يعمله أنه يزوغ من الدرس، لأنه سيحرم نفسه، يصعد ماذا يقول؟ يقول مثل أشعب! المحتال الطفيلي الذي ذكر الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد قالوا: يا أشعب! أدركت الناس والطبقة -أي: التابعين- ولا تزال تجري على الموائد وعلى بطنك، فقد أدركتَ عكرمة والناس، فهلا عقدت مجلساً للعلم يُنْسَأ به أثرك، وتنبل في الناس؟ قال: أفعل إن شاء الله، وحدد موعداً للدرس، وجلس، واجتمع الناس من كل حدب ينسلون - أشعب مدرساً، يعني: هذه أعجوبة من الأعاجيب، حتى يكون هناك من يستفيد من أشعب كيف سيتكلم؟! - فوقف على المنبر وقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس -يا له من إسناد عالٍ بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إسناد فقط، هذا هو الإسناد العالي المشرف، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان في المؤمن إن أحرزهما دخل الجنة) ثم سكت، قالوا: هيه! يا أشعب، قال: أما الأولى فنسيها عكرمة، وأنا نسيت الثانية. فالرجل ليس عنده كتب وليس عند زاد يتزود منه، كل يوم درس؟ أهو ابن تيمية، سيأتي بكلام من أين؟ كل يوم درس؟ فيجيء الشاب الذي من المفروض أنه يعلم الناس الدين، فيهرب ويريد أن يسأل عن حكم الشرع في (الهرب)، عندما يكون هذا هو الإمام المقتدى به، لذلك أقل القليل من المساجد هي التي تقوم برسالتها وواجبها، لكن أغلب المساجد فقدت أهميتها وقيمتها وصارت مجرد مكان لإقامة الصلاة. إذاً: عندما يكون هؤلاء جميعاً وفيهم طلبة نابهون ويقول: إن الجهل الذي وقعوا فيه ليسوا هم السبب فيه، يعني: هم أحياناً مظلومون، وهؤلاء يحتاجون إلى مراجع، من الذي يوفر لهم المراجع؟

محنة العالم إذا كان وحيدا في بلده

محنة العالم إذا كان وحيداً في بلده إنني أقول هذا الكلام، لكي أحنن قلوبكم؛ لأنه بعد الكلام الطويل لم يستجب لي نصف في المائة، وأنا عملت النسبة المئوية هذه على رواد الجمعية الشرعية، بالنسبة لعدد المستفيدين من الجمعية الشرعية، سجلت العدد الذي يحضر، وعملت نسبة مئوية ظهر أن نصف في المائة هو الذي استجاب لهذه الدعوة برغم الحرارة والمرارة التي أتكلم بها، وطلاب العلم الآن يعملون مثل غيرهم، طالب الهدى إذا أراد أن يطلب عالماً أين يجده؟ وأيضاً أقول أو أظهر شيئاً آخر من حجم المحنة، ولا أقوله من باب التشفي، نعوذ بالله، فنحن خدام لدين الله عز وجل، فقط أوضح لك الصورة التي أعيشها، أنا أعيشها يومياً:

كثرة الأعمال وتنوعها وضيق الوقت

كثرة الأعمال وتنوعها وضيق الوقت ثالثاً: المطلوب لما آتي إلى محاضرة مثل هذه، أن أحضر وأحترم عقول السامعين، وأعتقد أن في الجلوس من هو أكفأ مني وأفهم، فذا يزيد من حجم محنتك ليلة الجمعة، ولا بد أن تجيء بحاجة جديدة لتهز بها العقل والقلب، لكي توصل الهدى إلى الناس. رابعاً: المطلوب منك أن تحقق في الكتب، وتقرأ في المخطوطات، وتحقق الأحاديث، وتنظر في الطرق وفي متابعة الرواة. خامساً: أنت رب أسرة ووراءك أولاد وزوجة، وهذا عنده مشكلة، وآخر كذا! وذا يريد أن يعمل ماذا، أنت رجلٌ تمثل وحدك في المجتمع وجارك عنده كذا، وذا أنا أريده في كذا إلخ. قسم هذا الكلام على (24) ساعة، هل تستطيع أن تفي بشيء من هذا، لو أن هذا البلد فيه مثلاً (30) أو (40)، أليس الحمل كان سيخف عليَّ وعلى إخواني، من أكبر المحن أن تكون وحدك، وأنا أقول هذا لطلاب العلم، احذر أن تفكر أنك إذا كنت وحدك تكون مرتاحاً، وأنك بالانفراد تنجو من البلاء، ولا يوجد في البلد غير واحد، هذه محنة لا يفتخر بها. قرأت في كتاب لـ أبي موسى المديني حكاية ما تمالكت نفسي، وذرفت عيني بالدمع، وهذا الكتاب مخطوط ولم يطبع حتى الآن واسمه: كتاب اللطائف في علوم الحديث، يقول هذه الحكاية: كان سفيان بن عيينة في مجلسه يوماً، فقال: هل فيكم أحد من أهل الشام؟ - قال رجل: نعم. - قال: ما فعل الوليد بن مسلم؟ - قال: مات. - هل فيكم أحد من البصرة؟ - قال فلان له: نعم. - قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات. - هل فيكم أحد من الكوفة؟ - قال: نعم. - قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات. - هل فيكم أحد من بلاد ما وراء النهر؟ - قال: نعم. - قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات. فحينئذٍ بكى سفيان، ثم أنشد قائلاً: خَلَت الديار فسُدْتُ غير مُسَوَّدِِ ومن الشقاء تفردي بالسؤددِ يبكي سفيان فهو بعدما مات أقرانه هؤلاء، وكان عندهم حديث، كل الشباب الذين كانوا في الحلقات المتفرقات جاءوا تحت رجليه يسمعون. إذاً: هذا جيدٌ أن يحضرَ له مائةُ ألف بدلاً من أن يحضرَ له عشرةُ آلاف أو خمسةُ آلاف، ويكون فرحاً بشبابه أن كل هؤلاء يحضرون له! لا. هذه محنة وليست منقبة؛ لأنه كلما كان لك أتباع يحملون عنك ويوصلون الهداية يكون أبلغ من أن توصلها وحدك.

كثرة الأسئلة من العامة وطولها

كثرة الأسئلة من العامة وطولها لو أنني تركت نفسي للهاتف أجيب عن كل مكالمة تأتيني -بلا مبالغة- سأظل ست ساعات في اليوم أتكلم، فجرس الهاتف لا يكف عن الرنين ليل نهار، الساعة الرابعة في الليل، الساعة الخامسة في الليل، الساعة الثالثة في الليل، لا يكف عن الرنين، بعدما قلنا للناس: يا جماعة! ارجعوا إلى الله، وعبِّدوا أنفسكم لله. الحمد لله كانت النتيجة مبهرة، ورجع أناس كثيرون إلى الله؛ لكن كل إنسان رجع إليك بعُجَرِه وبُجَرِه يقول لك: أنا لخبطت، ولي عشرون سنة ماشٍ على كَيفي، وارتكبت موبقات، فأنا أريدك أن تسمعني وتطول بالك؛ حتى أحكي لك، لكي تقول لي الخلاص من هذه ماذا؟ والخلاص من هذه كيف؟ والخلاص من هذه كيف؟ هذا فرد لا بد أن تعطيه خاطرك، وتعطيه أذنك، وتسمع منه بإتقان؛ لأنك ناصح وهذا أثر دعوتك، إذا أخذت السماعة وقلت له: أنا لست فارغاً. إذاً: لماذا ظللت (تتنطع) على المنبر، وكادت حنجرتك تنفلق؟ يعني: من أول يوم قلتَ فيه: ارجعوا إلى الله، فأنا أريد أن أرجع، من الذي يرجعني إلى الله؟ أنت الذي أرجعتني، إذاً: لا بد أن تكمل المشوار. إذاً: ليس عندك خيار على الإطلاق، غير أنك تعطي أذنك وتسمع، طبعاً يتكلم بإسهاب، ويدخل في الكلام: ونسيتُ أن أقول لك: لستُ عارفاً ماذا؟ ومن هذا الكلام، ويعطيك حينها سيناريو الموضوع لكي يبين عذره. مثلاً: غلط ومشى مع امرأة، ويريد أن يبين لك أيضاً أنه إنسان نبيل في الأصل؛ لكنه معذور، ظلت تعمل لي، وتعمل لي، ولا يوجد جمل يتحمل هذا الكلام، فوقعت. وطبعاًَ أول ما تقول له: يا أخي، طيب، ليس مهماً، ادخل في الموضوع باختصار، يقول لك: لا. الكلام الذي سأقوله مهم. والكلام الذي يقوله يريد به فقط أن يبين أنه ليس وِحِشَاً؛ أنا لم أقع بالسهل. فلا بد أن تسمع الكلام، وهذا فرد واحد. وصلت المسألة أن يتصل بك يستشيرك مثلاً في زواج ابنته أو زواج ابنه. ووصلت المسألة أن عنده ميراثاً يريد أن يشغله، بأن يضعه مثلاً في بنك فيصل، أو يناوله فلاناً، فهل تعرف تاجراً حذقاً أميناً؟ إلى آخر هذه التفصيلات التي لا بد أن تستمع إليها، وتعطيها أذنك وقلبك. هذا جهد غير مرئي وأنت جالس على مكتبك، فتنزل إلى فتلقى ثلة من طالبي الحق ينتظرونك أيضاً على بوابة البيت، وهم يتصورون أنك نائم تحت التكييف. شخص كتب لي رسالة في الأسبوع الذي مضى، ورماها لي من فوق الباب: قال: يا عم، تأكلون كباباً، -لست أعرف ما أدراه؟ مع أن الأكل هذا من المفروض أنه حاجة مستترة، لا يعرفها إلا مَن استضفته- تأكلون كباباً بثلاثين جنيهاً، وتركبون عربيات، وجعلتم تغيرون في العربيات، وأنتم تتكلمون عن الزهد والتقشف وما إليه، ولست عارفاً ماذا! ومن هذا الكلام، وآخذٌ في الزواج، تظل تتزوج واحدة بعد أخرى، وأنا لا أجد زوجة. هذا يَقُرُّ، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]. فيظن أنك قاعد مرتاح، و (100%)، وهات يا عصير، وهات يا كباب، وهات يا كفتة، وما إليه، و (100%). وأول ما تقول له: أنا آسف لأني مشغول، يغضب منك، وأنت الآن أذناك مثل هذا، ودماغك سينفجر؛ لأنك واضع السماعة على أذنيك، مما يسبب لك الصداع، وأول ما تحاول أن تعتذر، أو تكون متعباً؛ لأن ثمة مشاكل تغير قلبك حتى أحياناً يشعر المرء أنه بحاجة إلى أن يستقيء، أن يتقيأ من المشكلة التي يسمعها، فأنزل وعندي شيء من الاكتئاب، فأنزل والمفروض أن ألقى إخواني بالابتسامة، وكذا؛ لكن لا. عندي تعب، فلا أريد أن أتكلم، مواهبي ذهبت، لأن الفتوى والكلام كثر حتى مللت من الكلام وكلَّ ذهني وأصابني الحزن والهم، هذا يسألك في سؤال يقول لك: مسألة مهمة جداً جداً ولا بد هذا الوقت، طيب قُل. الجماعة الثانية: أناس يسألون، ويعتبرون أسألتهم مهمة جداً جداً، ولا يمكن أن تتركها، ويظن أحدهم أنه لو أخر السؤال أسبوعاً أو يومين أنه سيموت.

دعوة المسلمين إلى النفقة على العلم وطلابه

دعوة المسلمين إلى النفقة على العلم وطلابه إنني أقول هذا الكلام تحفيزاً لكم ولنحنن قلوبكم أيضاًَ، وأبين حجم المحنة التي يعانيها الدعاة على وجه الخصوص، وهم قلة في كل بلد، وعليهم أعباء أكثر بكثير مما أقول. إذاً: المطلوب منا أن نرجع مرة أخرى وندرك حجم المسئولية. وأيضاً: أحفزك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدال على الخير كفاعله). يا أخي! أنت عندما تسهم في تفريغ طالب علم، ولا أقول: تصدَّق؛ ولكن أقول: من زكاة المال، وعندنا تجار وعندنا أناس من أصحاب رءوس الأموال، لا تجب عليهم الزكاة كالأطباء مثلاً، الأطباء وأصحاب العيادات لا تجب عليهم الزكاة لأن الزكاة لها شرطان: - أن يحول الحول. - وأن يبلغ المال النصاب. يمكنه في الشهر أن يكسب مائة ألف، ويمكنه أن ينفق مائة ألف في الشهر. إذاً: هذا لا تجب عليه الزكاة. أنت تعرف عبد الله بن المبارك؟ كانت غلته في السنة مائة ألف ولم تجب عليه زكاة قط. لماذا؟ كان المال الذي يأتيه دائماً يصرفه، ليس بقصد الهروب من الزكاة. لا؛ لكن لأنه كان له مصاريف ووجوه يصرف فيها المال. في هذا الزمان كل المسلمين الذين عندهم تجارات أو زراعات أو أي عرض من الأعراض، هؤلاء في مالهم زكاة. نعلم عليك أن تصرف من زكاتك للأقارب والأرحام؛ لكن خصص جزءاً من زكاة مالك لطلاب العلم، أريد أربعين طالباً. إذا كانت زكاة مالك أربعين جنيهاً، فأربعون جنيهاً لن تفعل حاجةً لطالب علم. فإذا كنت أنت واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة ادخرتم مائة جنيه أو مائتي جنيه أو ثلاثمائة جنيه، إذا كنتم أربعة فاكفلوا طالب علم من ناحيتكم، واشترطوا عليه وخذوا عليه المواثيق الغلاظ أن ينصر دين الله عز وجل، وأن لا يفرط في وقته وأن لا يضيع هذه الأمة، ودَعُوه. إنه لا يعلم حجم غياب العالم إلا الباحث عن الحق، الذي يبحث عن الهدى ولا يجد من يدله. وأنا أقول هذا الكلام لعموم الناس الذين عندهم سيارات. عندما يكون في طريق مفترق طرق، وهو يريد الذهاب إلى بلد من البلدان ولا توجد لافتة تقول: الطريق هذا يؤدي إلى أين وإلى أين، حينها تظهر الحيرة. وكذلك طلبة العلم والعلماء، هم أدلاء للجماهير على هذا الخير. أتمنى من كل قلبي أن تجد هذه الدعوة صدىً عند الجماهير، وأن يدركوا حجم المحنة التي يعانونها لعدم وجود طلاب العلم، وأن يكفلوا طلاب العلم، وأن يوفروا المراجع الأساسية حتى ولو في مكتبة عامة. إذا عجزنا عن أن نوفر مكتبة أساسية لكل طالب علم، فلا أقل من أن يكون هناك أموال، وهذه الأموال على المذهب الراجح لا تكون من أموال الزكاة، وهي لشراء الكتب، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية أجاز شراء بعض الكتب المهمة الضرورية لبعض طلاب العلم من أموال الزكاة، مثل أن يكون هناك عالم في البلد وإليه المرجع في الفتوى، ولا يوجد عنده كتب هذه الفتوى، فيجوز أن يُشترى لهذا الرجل من أموال الزكاة، فإن هذا آكد من إطعام الفقير، لأن دلالة الناس على الهدى وعلى حكم الله عز وجل آكد من إطعام الفقير. فنسأل الله تبارك وتعالى أن تجد دعوتي صداها، وأحس أن الناس إن فعلوا بما أقول وشعرت بهذه المحنة، فسيقف الواحد ولو جنيهاً واحداً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة جهد المقل). وقال في الحديث الذي يحسنه بعض أهل العلم: (سبق درهم مائة ألف درهم، قيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: رجل معه درهمان فتصدق بدرهم، ورجل معه ألوف من الدراهم فتصدق بمائة ألف درهم) أو معه ملايين فيتصدق بمائة ألف، فهذا الذي تصدق بدرهم واحد تصدق بنصف ما يملك، إنما هذا الذي تصدق بمائة ألف إنما تصدق بجزء مما يملك. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علَّمنا، ويعلمنا ما جهلنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

تحكيم الكتاب والسنة في أفغانستان

تحكيم الكتاب والسنة في أفغانستان Q قال لي رجل: لو أقيمت الدولة بالكتاب والسنة لانقسمت إلى أحزاب، كما حدث في بعض الدول مثل أفغانستان. A أفي أفغانستان كان كتاب وسنة؟ أفغانستان لم يكن فيها كتاب وسنة، أفغانستان هذه عبارة عن أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون، وكل واحد يأخذ الإسلام بطريقته وبمفهومه، ما أعلم حزباً كان على الكتاب والسنة إلا الشيخ جميل الرحمن رحمه الله في ولاية كونر، أما الباقون فأشعري، صوفي، ماتريدي، فالله المستعان! ما كانوا على الكتاب والسنة، لو جاز لنا أن نصحح هذا السؤال لقلنا: لو قامت الدولة على الكتاب والسنة لم يوجد فيها أي حزب، إنما هو حزب واحد فقط هو حزب الله تبارك وتعالى.

صحبة المرتاب

صحبة المرتاب Q لي صديق كثر الكلام حوله، وأن له أفعالاً مريبة، وكثيراً ما يسألني الناس عنه فأتحرج من الكلام عنه، فهل تنصحني بالبقاء معه، مع العلم أنني نصحته كثيراً فلم يرجع؟ A أما إذا نصحته كثيراً ولم يرجع، فأنصحك أن تتركه خشية على نفسك هذا أولاً. ثانياً: إذا كان الناس قد أشاعوا عنه كلاماً وأفعالاً، فإذا تحققت من صدق ما يقوله الناس، فبالتالي لا يحل لك الكلام إلا إذا كان له مقتضى، كأن يكون إذا أخذ أموال الناس لا يردها، واشتهر عنه المماطلة، فجاءك رجل فقال: يا فلان! فلان يريد أن أعطيه كذا، هل أعطيه؟ أقول له: لا، عندما أسكت هذه خيانة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (المستشار مؤتمن) فهذا الإنسان إذا كان له بعض ذنوب مثلاً بينه وبين الله، فالأصل ستر المسلم وعدم فضحه.

توصيل بعض الأسئلة إلى الشيخ وحجب بعضها

توصيل بعض الأسئلة إلى الشيخ وحجب بعضها الشيخ: أي سؤال يتقدم لابد أن يصل، أي سؤال يتقدم يجيء، ربما أنت ترى أنه ليس من المصلحة أن يقال، وأنا أرى أنه من المصلحة، لماذا؟ لأنه جاء كلاماً مثلاً متعلقاً بخلق سيء موجود، فأنا ينبغي أن أنبه عليه. فطبعاً كل سؤال يأتي ينبغي أنه يصل. ولا يفوتني أن أنبه أيضاًَ إلى أنه يوجد بعض مِن إخواننا مَن يرسلون أسئلة للحكم على شيوخ معينين: ما رأيك في الشيخ الفلاني؟ والشيخ الفلاني مثلاً قال بعض الناس: إنه مثلاً كان سلفياً مُتَصَوِّفاً، أو لستُ أعرف ماذا، وهل هذا الكلام صحيح أم لا؟ طيب الجماعة العلانية يقولون عنها: كذا وكذا، ولست أعرف ماذا؟! هذا الكلام أنا لا أجيب عنه، هذا الكلام أنا لا أجيب عنه في هذه الحالة، المسائل الخاصة بالحكم على شيوخ معينين، أو على أشخاص معينين، أو على بعض الدعوات المعينة، أنا لا أجيب عنها إلا بطريقة غير مباشرة، وبالنسبة للشيوخ أنا لا أحكم على المشايخ، إنما بالنسبة للمناهج فأنا أحكم على المنهج نفسه، ولا أنسب المنهج إلى الجماعة، والذي هو حاضر يفهم، وهذا يكفي.

الغش في الامتحان في رمضان

الغش في الامتحان في رمضان Q هل الغش في الامتحان في شهر رمضان يفطر الصوم؟ A البذاء والفحش والفسق لا يفسد الصيام من باب الإجزاء، فمن الممكن أن يحبط العمل، ويسقط الأجر، فيكون قد صام وليس له من الصيام إلا الجوع والعطش. فإذا كان المقصود بالفساد الصحة والبطلان: فهذا لا. أما إذا كان المقصود به القبول: فمسألة قبول الصيام من عدمه هذه محجوبة لا يعرفها أحد إلا الله تبارك وتعالى، أما الصحة والبطلان فلا.

فعل جميع المستحبات أو ترك جميعها

فعل جميع المستحبات أو ترك جميعها Q رجل يمشي في الطريق فوجد غصن شوك على الأرض، فأراد أن يأخذه ويضعه على جانب الطريق؛ كي لا يدخل في رجل أحد من الناس، فقام شخص وقال له: أنت فعلت كل شيء، ولم يبق غير الزجاجة هذه فهل ينفع هذا الكلام؟ A لو جاز لنا أن نقرر هذا السؤال لأبطلنا الدين كله، إنما ينبغي على العبد أن يفعل ما يستطيعه. هذا سؤال سخيف جداً وليس له أي وجاهة، ولا مقياس شرعي.

حكم إعفاء اللحية

حكم إعفاء اللحية Q هل اللحية سنة؟ A اللحية فرض، من الذي قال: إن اللحية سنة، ومصطلح السنة لدى المتأخرين أنه إذا فعلها يثاب عليها وإذا لم يفعلها لم يعاقب لا، من قال هذا الكلام؟ لقد اتفق العلماء المجتهدون -الأئمة الأربعة وغيرهم وجماهير أصحابهم- على أن إعفاء اللحية فرض، وليس سنة مستحبة، فهذا أيضاً يعتبر اللحية من المستحبات، ويقول لك: أنت فعلت السنن كلها حتى مثلاً تعفي هذه السنة؟ لا، اللحية ليست سنة بالمعنى الاصطلاحي: أنك إذا فعلتها تثاب، وإذا لم تفعلها لا تعاقب لا.

استشارة في الزواج

استشارة في الزواج Q نويت أن أتزوج بامرأة تحفظ نصف القرآن، ورأت أمي وأختي هذه المرأة وشهدوا لها بطيبة القلب وقبول الشكل؛ ولكني مرةً أوافق ومرةً أرفض، متردد فما رأيكم؟ A لو كنت أنا لحزمت أمري، إذا كنت تريد رأيي في المسألة؛ لكن أنت المتردد، أنا رأيي أنك لا تتردد، أنت جئت لامرأة زكتها أمك وأختك، فماذا تريد؟ إذا كانت امرأة طيبة، ومن أسرة طيبة، ومن بيئة جيدة فماذا تريد بعد ذلك؟ يا أخي! احزم أمرك، وأنا أخشى أن تظل متردداً طوال حياتك؛ لأن هذه الخطوة لها مهابة، أن يذهب الشخص ليتزوج. جاء شخص إلي بعد ما عقد، فقال: جاءته كوابيس مستمرة لمدة ستة أشهر، حتى ظن أن ثمة علاقة بين المرأة والكوابيس، حتى كاد أن يطلق، وهذا كله بعد ما حكى حكايته، واستقصيت الحكاية فعرفت أن هذا أمر لأول مرة يجربه، فهو خائف من الحياة الجديدة، ولا يدري هل يسعد أم لا، ومن أين سيؤكلها؟ هكذا يعني، فيقول -مثلاً-: أنا أعطيها يوم كذا ويوم كذا، طيب وأنا من أين سأؤكلها؟ ولو مرضت من أين أجيء بالمبلغ؟ من أين أُدَبِّره؟ يعني: أنه واضع كل المصائب أمامه. فاحزم أمرك وتوكل على الله.

الزواج وطلب العلم

الزواج وطلب العلم Q هل الزواج من العوامل التي تعين على طلب العلم الشرعي؟ A نعم. إذا أردت أن تستقر وتحفظ القرآن فتزوج؛ لأن دعوى الشخص أنه لا يتزوج إلا إذا حفظ القرآن، هذه دعوى عجيبة جداً. ثمة شخص جاءني منذ اثنتي عشرة سنة تقريباً وأنا في القاهرة، فقال لي: أن فلاناً حذره أن يتزوج إلا إذا أكمل حفظ القرآن، قال: وأنا أشعر أني محتاج للزواج، قلت له: تزوج وسيعينك ذلك على حفظ القرآن، فحفظ القرآن في ستة أشهر بعد ما تزوج، فاستراح واستقر، فيلقى الله عز وجل بزوجة طيبة. الرجل يحصن فرجه، فالزواج من أعظم المرغبات على طلب العلم، فادعُ الله عز وجل أن يرزقك بزوجة بشرط أن تعينك على طلب العلم. وبعض الإخوان يقول لك: أنا أريد طالبة علم، فأنا أقول له: لو تركتك تطلب العلم فالحمد لله، ليس أنها تكون طالبة علم، لا. أنت عندما تذهب لتتزوج، تزوج امرأة فيها خصلة واحدة فقط ودع ما دون ذلك، وهي تسمع وتطيع فقط، لو كفر زوجها كفرت معه، تسمع وتطيع فقط لا غير؛ لأنك مهما كلفتها به من المعروف ستستجيب؛ لكن أن تتزوج امرأة مثلاً ليس عندها صفة السمع والطاعة، وعندها علم؛ فهذه ستسود الدنيا تماماً، يعني: في كل شيء ستقف لك مثل العقدة في الزور، كل ما ذكرت لها حكماً، قالت لك: ما دليلك؟ أنا رأيت شخصاً منذ شهر تقريباً مختصماً مع امرأته، وأبوه جاء إليه ليعمل معروفاً والسبب أن هذا طالب علم جديد المهم بعد ما أرجعوها إليه، في هذه الليلة قعدَت تمزح معه وتُطَبْطِب عليه، فقال لها: معكِ دليل؟ على أن تُطَبْطِبي علي، انظر! سدَّ نَفْسَها، ماذا تعني عبارة معكِ دليل على هذه الطبطبة؟ هو ليس معه دليل أصلاً على أن يرد أو يرفض أو ما شابه. وأشياء عجيبة جداً، فتجد -مثلاً- أختاً وطالبة علم وعقلها صغير جداً جداً، وكل شيء تريد دليلاً عليه، وتعكر أيضاً على زوجها بهذا الكلام، تريد دليلاً على المسألة الفلانية. فأحياناً قد يكون طلب العلم بالنسبة للمرأة نقمة عليها؛ لأنه واسع جداً، وهي لا تستطيع أن تتكيف مع العلم ولا التعامل مع الأدلة. فأنت إذا أردت أن تتزوج فتزوج من بيئة صالحة، وخذ هذا الخُلُق فقط في المرأة، وإذا كنت طالب علم ستكون مثلك طالبة علم، وإذا كنت عابداً ستكون مثلك من العُبَّاد، وهكذا.

عزاء للغرباء

عزاء للغرباء احتوى القرآن الكريم على كثير من قصص الأنبياء، وذلك للعظة والعبرة، ومن أعظم تلك القصص عبرة، قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ إذ فيها عزاء للغرباء الذين يعيشون في مجتمعات يغلب فيها الكفر أو الفسوق والعصيان، فيظل الواحد منهم متعلقاً بربه، لا أنيس له إلا ذكر الله، ولا ناصر له إلا الله، ونعم بالله ولياً وناصراً.

التأثر بالآباء قد يكون سبب الشقاء

التأثر بالآباء قد يكون سبب الشقاء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. قصة الآباء مع الأبناء لها شأنٌ عظيم، ويكفي لتدرك خطورة هذه العلاقة أن تعلم بأن شطر الكفر الموجود في الأرض سببه الآباء. وقد كان الآباء حجةً للأبناء على الرسل؛ فإنه لما جاء صالح عليه السلام إلى ثمود يدعوهم إلى الله عز وجل، أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، كانوا يردون عليه: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62]. ولما جاء شعيب عليه السلام إلى مدين: قال {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:84] ردوا عليه: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87]. ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب يدعوهم، قالوا له: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فيقول الذين أشركوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28]. وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب، دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عمه وهو في سياق الموت، يقول: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وجماعة، فيقولون له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟) الآباء لهم وقع عميق الجذور في نفوس الأبناء، ولذلك المرأة تخوف ولدها بأبيه، برغم أن الأب قد يكون بينه وبين البيت ألوف الأميال، تخوفه بأبيه والأب مسافر في أي بلد، ولا يأتي إلا مرة كل سنة، أو مرة كل سنتين، أو مرة كل ثلاث سنين، ومع ذلك تخوفه بأبيه، والولد يخاف ويقول لها: إذاً: لا تقولي له وأنا لن أفعل، وهذه آخر مرة. أين هذا الوالد، وأين تأثيره؟ له حضور حتى وإن كان غائباً، لكن من حق الوالد على الولد: أن الولد إذا كان عالماً بالتوحيد، أن ينقل هذا لوالده، ولا يضعف أمام والده بطبيعة العلاقة بينهما. بعض الأبناء يدركهم الضعف في هذه العلاقة، فيأمره أبوه بما يغضب الله وينفذه، يقول: أبي لا أستطيع أن أعارضه، أبوه يقول له: اذهب يا ولد واشتر علبة سجائر، هات ورقة معسل أو ما دون ذلك أو ما فوق ذلك، والولد يعلم أن السجائر حرام وأن المعسل كذلك، يذهب صاغراً ليأتي بهذه المنكرات التي يعتقد أنها حرام. ما الذي يحملك؟ يقول: أبي، لا أستطيع أن أخالفه. لا تقل لي: هذا حياء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحياء لا يأتي إلا بخير)، ولما حدَّث عمران بن حصين رضي الله عنه بهذا الحديث لبعض التابعين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحياء كله خير)، فقال هذا التابعي لـ عمران: (إن من الحياء ضعفاً)، مثل هذه الصفة التي نعرضها وهي أنه يؤمر بمعصية الله فيفعلها حياءً، فقال: إن من الحياء ضعفاً، فغضب عمران وقال: أُحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدثني عن الكتب؟! لا كلمتك أبداً؛ لأنه يعارض كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موجود في الكتب على ألسنة بعض الناس. فإذاً: إذا أُمر الرجل بمعصية فاستحيا لا تقل لي: إنه مستحٍ، هذا ليس من الحياء، هذا ضعف، وهذا الضعف يرجع إلى حقيقة التصور الإيماني عند هذا الإنسان، إذا أُمر المرء بمعصية الله عز وجل، ولو كان الآمر الوالد، فلا يجوز للولد أن يمتثل.

قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه

قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه ودونك هذه القصة الرائعة التي قصها الله تبارك وتعالى علينا في القرآن لأبر الناس بأبيه، رجلٌ أدى حقوق البنوة وأدى حقوق العبودية، ولم يخلط بينهما، وهو إبراهيم الحنيف عليه السلام، أدى حقوق البنوة: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، أربع مرات يناديه: (يا أبتِ) يستجلب الحنان، ويستجلب عطف الوالد {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]. {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]. انظر إلى هذه الثقة، (كان بي حفياً) أي: إذا أقبلت عليه أقبل عليَّ أكثر من إقبالي عليه، فأنت إذ خرجت من يدي، وإذ لا أستطيع أن أفعل معك شيئاً، فما بقي إلا الله، وهو حفيٌ بي، كما قال زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] أي: ما تعودت أن أشقى أبداً إذ دعوتك، بل كلما دعوتك فرجت عني، وكلما دعوتك جاء الخير، فتعودت أني كلما دعوتك وجدت الخير كله، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] ما تعودت أبداً أن أشقى لما أتوجه إليك. فأدى إبراهيم حقوق الأبوة، فلم يستطل على والده، ولم يسبه ولم يشتمه ولم يهجره: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]؛ لأن المصاحبة بالمعروف من حقوق الوالد، وبقي حق الله عز وجل وهو ألا تكفر به، وأن لا تطيع في معصيته أحداً كائناً من كان، حتى لو كان الوالد عميق الجذور في نفس الولد، لكن هذا لا يجيز لك أن تعصي ربك، إذ أن حق الله عليك أوجب من حق والدك عليك، فإذا تعارض الحقان قدم أوجبهما وأعلاهما. وقام بحقوق العبودية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] بعض الناس يقول: إن آزر في اللغة الأعجمية معناها (أف) فيكون المعنى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه أف أتتخذ أصناماً آلهة)، ولئن جاز أن يقال هذا فالذي يقطع بخطأ هذا التأويل السنة، والسنة مهمة في تفسير القرآن، ترى الرجل واسع العلم بالسنة إذا فسر القرآن كان على تفسيره من البهاء ما ليس على تفسير الجاهل بالسنة معلوم أن كثيراً من المواضع في القرآن مجملة، وفصلها النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فمهمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين ما أجمله الله في الكتاب، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ما يقطع كل ريبٍ بخطأ هذا التفسير، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وقد قضى الله عز وجل عليه بالنار، فيقول له إبراهيم: ألم آمرك ألا تعصيني؟ قال: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام إلى ربه، فيقول: ربِّ! قد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أن يدخل أبي النار؟!) أي: فهذا خزيٌ عظيم، فلذلك يستشفع لأبيه عند ربه (فيقول الله عز وجل لإبراهيم: إني حرمت الجنة على الكافرين انظر! فينظر تحت قدميه فإذا أبوه ذيخاً)، الذيخ: الضبع الذكر، تحول أبوه إلى ضبع، مرتكسٌ في نتنه وفي رجيعه، منتن، ومعروف أن الضبع من أقذر الحيوانات، فيدعو عليه إبراهيم ويتبرأ منه، ويدخل النار، وعجباً له كيف يقول له: اليوم لا أعصيك {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]. فإبراهيم عليه السلام أدى حقوق العبودية؛ لأنه توجه إلى ربه وأنكر ما عليه أبوه، وهذا شيء عجيب. كلمة (الإله) مشتقة من (أله، يأله) ومن (وله، يوله)، الولوه: شدة التعلق والحب، تقول: عنده وله، أي: عنده محبة شديدة وتعلق شديد، Q هذا الحجر الذي تحبه حتى تصير عاشقاً للحجر. قد يعشق العاشق من يبادله الحب، لكن هذا الحجر الذي تعشقه وتموت في حبه؛ ما هي الخصائص التي في هذا الحجر؛ ولذلك أنكر عليه قائلاً: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42]، أنت تعلم أنه عندما يكون حبيبك أطرش فإنك لا تشعر بلذة، ستقول له: أحبك فلا يتأثر، وتسمعه الكلام الجميل التي يستثير الأعصاب ويهيج المحبة فلا يستجيب، فهو أطرش أصم؛ إذاً ستجد الكلمات كلها تموت على لسانك أنت، لأنه أصم لا يسمع. والعين واسطة الجمال، أحياناً يحب القلب بمجرد النظر فقط، وربما يحب بالسمع، يشكو أحد الناس أنه بينما كان يرفع سماعة الهاتف كلمته امرأة صوتها غزا قلبه، فالسمع والبصر أيسر طريقين إلى القلب، وأشدهما البصر. ولذلك تجد الذين امتحنهم الله عز وجل بالعمى أذكى قلوباً من أصحاب العيون المبصرة، وأقرب إلى سواء السبيل؛ لأن هذا الطريق الخطير الموصل إلى القلب مسدود، لا يلجه شيطان من الإنس أو الجن. إبراهيم عليه السلام يتعجب: كيف يعبد أبوه ما لا يسمع ولا يبصر؟!! ومع فقده السمع والبصر، لا يستطيع أن يدافع عنك (ولا يغني عنك شيئاً) فقل لي: ما هي الميزة التي فيه؟ قل لي أين ذهبت عقولكم؟! ولذلك السؤال كان عجيباً واستنكارياً: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، أي: فواضح جداً أن هذا ضلال مبين. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى ما منَّ به على إبراهيم

إبراهيم يتعرف على ربه ويبحث عن صفاته

إبراهيم يتعرف على ربه ويبحث عن صفاته هناك جماعة يحتجون بقصة إبراهيم عليه السلام في رؤية الكوكب والشمس والقمر على أن ربنا يعرف بالعقل، قال لك: إبراهيم عليه السلام فكر بعقله في الكوكب ثم القمر ثم الشمس، وأنه عرف ربنا سبحانه وتعالى بالعقل، وهذا خطأ، وقولهم: (ربنا يعرف بالعقل فقط) هذه عبارة خاطئة وغلط. إن الله عز وجل لا يعرف إلا عن طريق الرسل، كما أن معرفة الله منحة من الله وهدية، وإلا لو جاز أن يكون العقل مستقلاً بمعرفة الله لما كفر عالم الذرة، وآمن الرجل الفلاح البسيط الذي يشتغل في الأرض. عالم هندوسي كان يعمل في محطة الفضاء الأمريكية، وبينما هو يركب سيارته الفارهة بأمريكا إذ أبصر عجلاً في الطريق، فأوقف السيارة ونزل وسجد للعجل، ثم واصل الطريق إلى محطة الفضاء! فلو قسنا عقل هذا الإنسان بعقل رجل بسيط فلاح يعمل في الأرض، فأيهما أكبر بمقياسنا: هذا عالم فضاء وعقله كبير، ومع ذلك يسجد للعجل، وهذا الرجل البسيط إذا أصابته مصيبةٌ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو إذا أصابته سراء حمد الله عز وجل؟ فمن أين جاءه هذا الهدى؟ والثاني سجد للعجل، وهذه عقليته، لا تقل لي: العقل يستقل بمعرفة الله فمعرفة الله هدية، ومنحة من الله، ثم يأتي دور العقل بعد ذلك تبعاً لهذه المنحة، فكلما كان العقل أرحب كان إيمانه أرسخ، لكن لا يستقل أبداً بمعرفة الله. وليس في هذه القصة ما يدل على ذلك؛ لأن الله عز وجل قدم للقصة بلفظةٍ عرَّفتنا خطأ هذه المقالة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي} [الأنعام:75]، من الذي أراه الآيات الكونية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]، فتوجه إبراهيم عليه السلام إلى ربه منحة من الله، ثم أعمل عقله الكبير، بعد هذا التسديد بالبحث عن صفات إلهه. لا تغضب وتقول: إن إبراهيم كان يبحث عن الله، ما كفر إبراهيم بالله طرفة عين، ولا شك في وجوده طرفة عين، إنما كان يبحث عن صفات إلهه بعدما استيقن أن له رباً، وأن له إلهاً ولمّا يأته الوحي بعد، فأخذ يبحث عن صفات إلهه.

وصف الجو النفسي الذي في قصة إبراهيم

وصف الجو النفسي الذي في قصة إبراهيم سل أي محب: صف لي من تحب. لو أجاب لخلع كل جميل الخصال ونعوت الجلال على من يحب، وهكذا عين المحب لا ترى سيئة على الإطلاق، كما قيل: وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ كما أن عين السخط تبدي المساويا وفي المثل الدارج عندنا: (حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يبحث لك عن الغلط) الزلط: الحصى. إذاً المحب لا يرى عيباً فيمن يحب، ولو رأى فيه عيباً لم تكن محبته تامة، لو جاز له أن ينسب إلى حبيبه عيباً لما كان محباً كامل المحبة، ولا يكون كامل المحبة إلا إذا عمي عن عيوب حبيبه، فكيف إذا لم يكن لمحبوبه عيبٌ أصلاً؟ إبراهيم عليه السلام أخبرنا الله عز وجل بقصته، وفيها عبرة للباحثين عن الحق في زمان الغربة، ما أغرب إبراهيم عليه السلام! رجلٌ واحدٌ موحد في أمة الكفر، ما أغربه! لكن ما أقواه إذ لاذ بذي الجلال! فكان أقوى منهم جميعاً. وأرجو وأنت تسمع الآية، أن ترسل خيالك في توصيف الجو النفسي الذي كان يعيش فيه إبراهيم عليه السلام وهو يبحث عن صفات إلهه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] يذكره الله وكأنه ليس في الكون غيره، فهو وحده الذي لفه حزام الظلام، وكلمة: (جنَّ عليه الليل) تفيد أنه في كبد الليل، فهو يعرف الوقت الذي نامت فيه العيون وهجع الخلق، وهو مستيقظ. ومعلوم أن العاشق لا ينام، المحب لا ينام، مسهد الطرف دائماً، مشغول بمن يحب، يسأل نفسه: ماذا يفعل المحبوب الآن؟ هل يفكر فيَّ كما أفكر فيه؟ ويسأل نفسه نحو هذه الأسئلة، ومع ذلك لا يتضجر من كثرة السهر؛ لأنه يسهر لمن يحب. كلمة (جنَّ عليه الليل) أي: في كبد الليل، في كبد الظلام، في الوقت الذي كل الناس فيه مستمتعة بالنوم هو مستيقظ، وكأنما لفه الليل وحده بظلامه، وهو يبحث عن صفات إلهه الذي هو مستيقن من وجوده، لكنه يريد أن يتمثل بشيءٍ يراه جميلاً، يقول: هذا ربي. (فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً) منيراً في وسط هذا الكون المظلم، إذاً هذه هي النقطة الوحيدة الجميلة في الكون، فقال: إذاً! هذا هو إلهي. وهكذا المحب لا يرى سيئة لمن يحب، وينسب كل نعوت الجمال وجميل الخصال لحبيبه وإن لم يكن كذلك، فالنجم علامة مضيئة في هذا الكون {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]. لماذا لم يقل: أنا أكره الآفلين؟ لماذا نفى الحب ولم يثبت الكره؟ لأن ذكر الحب حتى لو على جهة النفي فيه تهييج للحب، عندما تقول لأحد: أنا لا أحبك غير ما تقول له: أنا أكرهك، فقولك: (أنا لا أحبك) معناها بقاء سبيل للحب، أما إذا قلت: أنا أكرهك، فكأنما قتلت الحب، كما قال القائل: وكنت إذا ملني صاحبي ولم أر في وده مطمعاً غسلت بماء القِلى شخصه وكبرت من فوقه أربعاً فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا فقال: (غسلت بماء القلى شخصه) أي بماء الكره، وإمعاناً في إثبات هذا الكره كبرت من فوقه أربعاً، أي: صلاة الجنازة، مات وصلى عليه الجنازة، وقوله: فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي: فإذا كان يمكن رجوع أي ميت، فهذا يمكن أن أعيد العلاقة معه. فعندما يقول: لا أحب الآفلين، أي: إن إلهي الذي عرفته بنفسي لا يغيب عني طرفة عين، ولا أصدق أن هذا الذي يغيب يمكن أن يكون إلهاً لي، وإلهي ما غاب عني طرفة عين. إذاً: غياب الإله عن حياة العبد نقص، وهذا دالّ على رجاحة عقله وفطنته، كما قال الله عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51]، فهو مسدد يعلم من قبل أن يأتيه وحيٌ أن غياب الإله عن عبده نقص، إذاً: معنى ذلك أن الإله لابد أن يكون موجوداً، ولذا قال: لا أحب الآفلين.

جهر إبراهيم بالدعوة إلى التوحيد

جهر إبراهيم بالدعوة إلى التوحيد بعد هذا الاعتقاد بدأ يجهر بما يعتقد، ولا يجهر المرء بما يعتقد إلا إذا كان متحققاً مما يدعو إليه ويعتقده. أهل الكهف، الشباب الصغير في أمة منحرفة لما لاذوا بالكهف، قال الله عز وجل فيهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)؛ لأنه لا يستطيع أن يقول إلا إذا قام، ولا يقوم ويصلب عوده إلا إذا اعتقد ما يدعو إليه، فكلمة (إذ قاموا) ليس معناها: قاموا من النوم، أو كمن كان مضطجعاً فقام بل معناها: صلب عودهم، هنا القيام بمعناه العام التام، (إذ قاموا) انتصبت قامتهم، فلما وجدوا القوة من أنفسهم قالوا -وواجهوا قومهم-: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، أي: لو ادعينا آلهةً مع الله عز وجل لقد قلنا شططاً من القول وانحرافاً. فإبراهيم عليه السلام لما وصل إلى يقين أنه لا يوجد في الكون -مما رأى- مثالٌ يعلق عليه معرفة الله عز وجل وأسماءه الحسنى، تبرأ من كل ذلك وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]، وكلام إبراهيم عليه السلام هنا كلام قرآني، وطريقة قرآنية معروفة في القرآن، أنه يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ} [الأنعام:79] (فطر) يعني: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]، أي: إني وجهت وجهي حنيفاً للذي فطر السموات والأرض. وإنما قال هذا الكلام وحاج قومه به، لأنه لما جهر بتوحيد الله بدءوا يحاجونه، فاحتج عليهم بهذه الحجة؛ لأن المشركين جميعاً يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجحدون أن الله عز وجل هو الذي خلق ورزق وأحيا ويميت، لا يخالفون في ذلك كله، ما علمنا من المشركين من يقول: إن آلهةً شاركت الله في خلق السموات والأرض، بل كانوا يقرون بذلك. فالمناسب في حصر الحجة: أن تأخذ من إقرارهم وسيلةً ودليلاً لإقامة الحجة على ما ينكرونه، وهذا لا يستطيع أن يقيمه إلا الراسخون في العلم، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] * {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. أليس هذا إقراراً؟ كلهم يقولون: الله، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، ثم عدَّد الله عز وجل آلاءه في الكون، فاستدل بما يقرون به على ما نفوه من توحيده وعبادته. الذي تفرد بالخلق وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أهل أن يتفرد بالعبادة، لماذا تستغربون؟! تفرد بكل شيء، فلماذا تشركون معه آلهة في العبادة؟ إذا كان هؤلاء الآلهة خلقوا مع الله عز وجل خلقاً، فأرونا ما خلقوا، لكنهم ما خلقوا. إبراهيم عليه السلام احتج عليهم بما يقرون به في أنفسهم، ولذلك جهر به: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:79] وهذا متعلق بتوحيد الربوبية: (فطر) أي: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]. نعوذ بالله تبارك وتعالى أن نشرك به شيئاً نعلمه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

اشتغال إبراهيم بربه

اشتغال إبراهيم بربه وواصل إبراهيم البحث، وكل ليلة يسهر مشغولاً، انظر القضية! شبابنا، رجالنا، نساؤنا بأي قضية شغلوا؟ بينما إبراهيم عليه السلام مشغولٌ بإلهه، هو كل حياته، يوظف كل شيءٍ في طريقه إلى الله ليزداد إيماناً، فهذه هي قضيته، قضية القضايا أن تُشغل بإلهك الذي تعبده، ليس هناك قضيةٌ ينبغي أن تطفو فوق هذه على الإطلاق إذا كنت محباً لربك، فقد وجدنا في حياة الناس وهم يتكلمون عن الحب والمحبوب فلو أن فلاناً من الناس قال: أنا أحب كذا. فيقول المحب: وفلان -أي: محبوبه- كذلك يحب كذا، للذي يحبه. فإذا سمع من يقول: أنا أكره كذا، يقول له: وكذلك فلان يكره هذا أيضاً. يقول: وأنا مالي ومال فلان، من الذي دخل فلاناً في الموضوع؟ ألأنه حبيبك تحشر اسمه في كل شيء، حتى ولو لم يكن لذكره معنى. فهل -مثلاً- إذا قال شخص: أنا أكره الخمر. أقول: وربي حرمه. هل مثلاً إذا قال: إني أحب السماحة وأحب التجاوز. فيقول: وربي يحبه هل ممكن تقول هذا الكلام؟ كلما جاءت نقيصة قلنا: إن الله يكرهها، وكلما جاء خير قلنا: إن الله يحبه؟ نحن نرى آيات الله في مظاهر الكون، ومع ذلك نمر عليها معرضين، أنا أتعجب! قبل عدة أيام المطر كان شديداً، وبعض الناس يقول: مطر في عز الصيف، أهذا وقته؟! ماذا يعني هذا؟ يعني أن الذي أنزل المطر لم يعلم مصالح العباد! هذا كثير من الناس يقول هذا الكلام، ألا يعلم أن هذا المطر يحيي به الله ملايين الكائنات، لماذا لم ينسب الفضل والجمال إلى إلهه ويسلم له بالحكمة؟ إبراهيم عليه السلام يواصل، قضية القضايا (إلهه الذي يعبده)، ويبحث له عن مثالٍ في الكون يتعلق به، وإن كان هو أجل من المثال؛ فإن الله ضرب مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، والله أعلى وأجل، إنما يبحث المرء عن مثالٍ جميلٍ كلما رآه ذكَّره بإلهه أو ذكره بمن يحب، فيواصل البحث. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، ثاني ليلة: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77]، أجمل من الكوكب وأشد نوراً، فهذا هو، إذاً البارحة شُبه لي، هو هذا الآن، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]. انظر: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إذاً: هو يعلم إلهه، ويعلم أن التثبيت بيده، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:78] ثاني يوم الصبح {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:78] لكنه أضاف صفةً أخرى، قال: {هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] إذاً: الوصف الذي يبحث عنه: ربٌ لا يغيب عن الوجدان، وهو أكبر، قال: (هذا ربي، هذا أكبر)، لم ير في الكون نجماً أكبر من الشمس، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] وصل إلى قناعة كاملة بعد ثلاث ليالٍ فقط، و {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79].

محنة الغرباء

محنة الغرباء الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قصة إبراهيم عليه السلام عزاءٌ لكل الغرباء، من كان غريباً في قومه يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فإنه يحتاج إلى من يسليه، ولذلك ضرب الله عز وجل الأمثال والقصص تسليةً وعزاءً للغرباء، وحسبك أن تكون متفرداً في معرفة الله عز وجل، وأن الله اجتباك واصطفاك وعرَّفك، فلا ترضى بالله بديلاً، وثق أنه مهما ابتليت فإن العاقبة لك. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن معاشر الأنبياء نبتلى، ثم تكون العاقبة لنا) وهذا كلام فصل واضح، وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. كل هذا يؤكد أن المرء إذا استقام لا يضره كثرة المخالفين له. وأنت سائر في طريقك إلى الله هناك لصوص، هناك قطاع طرق يريدون سرقة قلبك، أحدهم -بل كلهم- لا يريد جيبك، بل يريد قلبك، فكلما ساق إليك سهماً فإنما يسدده إلى قلبك، ثم إنهم يصرخون عليك وينادونك مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، وربما تفاجأ بأحدهم يبشرك بسوء العاقبة وأنت تمشي على الأرض، يقول لك: هذه السكة آخرها مشكلة، أنا لك ناصحٌ أمين، لا تواصل السير. فإذا كنت ضعيف القلب ووجد هذا الكلام صدىً عندك؛ إما أن ترجع وإما أن تتقاعس في السير فتطول المسافة على نفسك.

سر ابتلاء الصالحين

سر ابتلاء الصالحين لماذا جعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه؟ إنما نجلي الإجابة عن هذا السؤال لنقوي قلب المتقاعس المتردد. اعلم أن القلب يخالف البدن في مادة حياته؛ القلب مادة حياته غير مادة حياة البدن، الآفات والمصائب والأمراض والأوجاع هي علل البدن، إذا أصاب عضواً من الأعضاء عطب مات أو شُل أو ضعف، فهذه المحن تضعف الجسم، لكنها تقوي القلب؛ القلب لا يستمد مادة حياته إلا من المحن، والعباد يوزنون عند الله يوم القيامة بقلوبهم لا بأجسامهم، رب رجلٍ سمينٍ عظيمٍ يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً شديد النحافة، حتى ذكروا أن الريح إذا هبت كانت تكفؤه على ظهره من شدة ضعفه، ولما صعد شجرةً وأبصر الصحابة دقة ساقيه ضحكوا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله! من دقة ساقيه. قال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد). إن العبد لا يوزن عند الله بجسمه، إنما يوزن بقلبه، فلئن تذهب إلى الله عز وجل مبتلى بكل مرضٍ في بدنك أهون ألف مرة من أن توافيه وقد ابتليت في قلبك، فالقلب يستمد حياته من المحن، فلما كان الأمر كذلك وحياة القلب هي الحياة الحقيقية؛ جعل الله البلاء من نصيب أوليائه لتحيا قلوبهم ولا تموت، ويبتليهم في أبدانهم ثم يلهمهم الصبر على البلاء، فالحمد لله أولاً وآخراً.

الكرامة بالتقوى لا بمتع الدنيا

الكرامة بالتقوى لا بمتع الدنيا الحمد لله الذي ابتلى ورفع بالبلاء وصبَّر على البلاء: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، لا تتصور أنك أنت الذي تصبر، فإنه إذا لم يصبرك الله فلن تصبر، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. لذلك لا يستدل بالبلاء على أنه إهانة إلا أهل الكفر والجهل فقط، فالجاهل كلما يجد إنساناً مبتلى يظن هذا الإنسان أنه هين على الله، ويظن أنه إنسان سيء، يقول: قد أهان الله كرامته، هذا رجل ليس له كرامة. وهم لا يعلمون أن الله بذلك يرفعه، وهذا من جنس احتجاج المشركين، الذين يرون أن الابتلاء علامة غضب، وأن العافية من البلاء علامة رضا الله، والله عز وجل نفى هذا الكلام. وقالوا -أي المشركين-: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، أي: إذا كان يريد أن يعذبنا فلماذا يعطينا الأموال وأولاد؟ لا يمكن أن يعطيني المال والولد، إلا لأنني إنسان جيد؛ لأنه لو كان يريد أن يعذبني لأجاعني. هو هذا احتجاج المشركين، فالله سبحانه وتعالى رد عليهم بقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]، أي: ليس لها قيمة، ولا تقربك من الله سنتيمتراً واحداً، إلا من آمن، أي فالإيمان هو الذي يقربك من الله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]. {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:15 - 16] أي: ضيقه عليه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] فربنا نفى القضية كلها، فليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة، قد نمنع الطعام والشراب عن مريض -مثلاً- بعد أن أجرى عملية جراحية، وهو يتوجع ويتوسل يقول: أريد قطرة ماء، سأموت، ألا ترحموني؟ ومع ذلك أنت يتقطع قلبك أسى عليه ولا تعطيه الماء؛ لأنك لو أعطيته الماء لقتلته، فبرغم توجعه إلا أنك لا تعطيه الماء، وكمثل الدواء المر، نتحمل مرارته لما نرجوه من البرء والشفاء بعد ذلك، والأعمال بالخواتيم. فكذلك ذل الدنيا ساعة، سل الذي رُد إلى أرذل العمر، سل أطول الناس عمراً، قل له: ما قدر حياتك الماضية؟ يقول: طرفة عين. الإنسان ابن لحظته فقط، وجعلت متعته كحياته، فمثلاً قد يمر عليك زمن طويل تتمنى أكلة معينة تشتهيها، وإذا سئلت عن سائر أمانيك من الدنيا وأعظمها، تقول مثلاً: آكل الأكلة الفلانية، فإذا أكلتها كم تكون لذتك؟ كم قدرها من الوقت؟ ثلاثين ثانية فقط، وهي مدة بقاء الطعام في فمك، مجرد ما بلعته انتهت متعته، كذلك العمر وكذلك الدنيا، ما فات مات، وأنت إنما تعيش اللحظة التي أنت فيها، الآن لو مرض رجل فسألته عن العافية، يقول: كأني ما مر بي عافية قط، ما فات مات أيضاً. إذاً: ذل الدنيا ساعة، ولا خير في لذةٍ عاقبتها النار {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، ويوم النشور يتساءلون: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، فالدنيا قصيرة، مهما عمِّرْتَ فيها فهي قصيرة، فلا ترضَ عن الله بديلاً {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].

العاقبة للمتقين

العاقبة للمتقين فينبغي على العاقل وهو سائرٌ إلى الله عز وجل بعدما تحقق من صدق دعوته ألا يصغي إلى أحد، وربنا تبارك وتعالى قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] أي: لا يستفيد من قصص الأنبياء إلا أصحاب العقول، وهم الذين يعملون عقولهم ويستفيدون، قولوا لي: هل هزم نبيٌ حتى غُلب في آخر الأمر، قصوا عليَّ قصة نبيٍ غُلب، لا توجد أبداً، وأما البلاء فحدث ولا حرج، لماذا جعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه؟ هل لهوانهم عليه؟ هل لأنهم رخصوا فسلط عليهم السوقة الذين غضب عليهم ومأواهم النار؟ لماذا لا يعز الله عز وجل أولياءه ويجعل لهم الغلبة؟! الفاسق يركب أفخر السيارات، ويسكن الفلل العظيمة، ويحجز مائتين أو ثلاثمائة متر على القمر، إذ يزعمون أنهم يؤجرون القمر الآن، وإذا أحب أن يأكل أكلة سمك ركب الطيارة ويذهب ليأكل سمكاً في باريس، وهو ساكن في أستراليا! أليس المؤمن أحق بهذه المتع؟! أليس هو الذي يحمد ربه، وهو الذي يشكره، وهو الذي يثني عليه؟! أليس هو كل ما يفعل يقول فيه: باسم الله، إشارة إلى أن الله هو الممتن، ما نسيه قط، فيحرمه من الذي يريده، ويسلط عليه السوقة والدهماء والطغام؟ أليس المؤمن أولى؟!

طوبى للغرباء

طوبى للغرباء فيا أيها الغرباء في زمن الغربة: لكل زمانٍ غربة وغرباء، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء فقال: (طوبى للغرباء) طوبى للذين يصبرون على مخالفة السواد الأعظم، ويتركون متع الدنيا لما يعتقدون أنه الحق: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة؛ يسير في ظلها الجواد المضمر مائة عامة لا يقطعها، وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]) الظل الممدود: شجرة واحدة في الجنة، الفرس المضمر -الذي يمنع عنه الطعام ليلة السباق فتضمر بطنه ويخف وزنه فيسبق غيره من الخيل- فإذا ركبت الفرس هذا وأطلقت له العنان مائة سنة، لا يقطع ظل هذه الشجرة، هذه هي للغرباء، علامة لهم، إن هؤلاء صبروا على مخالفة السواد الأعظم، وضحوا بمتع الدنيا، ولم يضحوا بالهدى، والذي يعرف الله عز وجل يستعذب العذاب كله فيه لو عرفه حق معرفته. وسئل سعيد بن المسيب رحمه الله (عما يراه عند أهل الدنيا من المتع؟ فقال: مساكين! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا ألذ ما فيها. قالوا: وما ألذ ما فيها يا أبا محمد! قال: ذكر الله)، هذا ألذ ما في الدنيا كلها، الذي يتعود على الذكر ويدمنه، والذي هو حياة قلبه؛ لا يشعر بغربةٍ على الإطلاق؛ والله لا يغيب عنه طرفة عين. فلماذا يطول الليل على المريض؟ ولماذا الآلام تكون أشد على المريض في الليل دون النهار، مع أن المرض واحد، وقد يكون النهار أطول والليل أقصر، ولكن الليل دائماً طويل على المريض والمرض أشد فيه لماذا؟ لقلة العواد، لقلة الزائرين، وأما النهار فمهما كان مريضاً وكان المرض شديداً والزوار يعودونه فإنهم يخففون عنه، أحدهم يقول له: نحن نتمنى لك الشفاء. فلما يحس أنه محل أفئدة الناس، وأن كل الناس تحبه، وكل الناس متوجعة لما أصابه، وكل الناس تتمنى له الشفاء، فيخف عليه المرض، لكن في الليل لا أحد يزوره ولا أحد يعوده؛ لذلك يشعر أنه غريب وحيد منفرد، فتزيد عليه الآلام، برغم أن الآلام كانت بنفس قوتها في النهار. كذلك إذا شعر المرء أن الله غائبٌ عنه، وأن الله لا يكلؤه، وأن الله لا يرعاه؛ يشتد عليه البلاء. وأقل البلاء يكون -عليه- مصيبة كبرى بذلك، أما الذي يشعر أن الله لا يفارقه، وهو معه بصفة دائمة فكلما ذكره التذ بذكره، وما أجمل وأحلى وأعذب وأطيب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد)، ولا يقدّر مدى حب الماء البارد على ظمأ إلا رجل تكاد عنقه تنقطع من الظمأ في يومٍ شديد الحر وقدم إليه كوب ماء بارد، فإذا شربه وروى ظمأه شعر بحلاوة هذا الدعاء: (اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد). نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إليه رداً جميلاً، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة

كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة الدعوة إلى كلمة التوحيد تكون قبل الدعوة إلى توحيد الكلمة؛ لأن توحيد الكلمة على غير أساس من الكتاب والسنة والتوحيد لا فائدة فيه ولا منفعة، بل ربما عاد بالضرر الكبير، خاصة مع كثرة البدع والأهواء وقلة العلماء الربانيين.

كلمة التوحيد

كلمة التوحيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قرأت لأحد الكتاب مقالاً يزعم فيه أن الإنكار على الشرك يُتْرك إذا كان سيؤدي إلى تفريق الكلمة، ويقول: والدليل على ذلك: أن موسى عليه السلام لما عاتب هارون عليه السلام في تركه الإنكار أو مقاتلة الذين عبدوا العجل قال له: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فخشي هارون وهو نبي أن ينكر على الذين عبدوا العجل -وهذا داخل في صميم الشرك- حتى لا يقول له موسى: إنك لم ترقب قولي في بني إسرائيل. وكأن هذا الرجل يظن أنه ليس هناك أحد يحفظ القرآن أو يقرأ القرآن أو ليس هناك قرآن بين يدي الناس.

مخالفة المبتدعة لأصول أهل السنة

مخالفة المبتدعة لأصول أهل السنة وقبل أن تفكر في توحيد الكلمة بين المسلمين وحِّد عقيدتهم، إذ كيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله في كل مكان، وينكر أن يكون الله على العرش؟! وكيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يرى؟! ويوجد في بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام من يقول هذا، حتى قال القائل من أهل السنة: (إن المجسمة يعبدون صنماً والمعطلة يعبدون عدماً). المعطلة الذين لا يثبتون لله صفة؛ لأن إثبات الصفة عندهم يستلزم منه وجود الجارحة، فلما قال هؤلاء هذه المقالة، تطرف آخرون ضدهم، فأثبتوا الجارحة لله، والجارحة: هي العضو؛ فإذا كان يتكلم فلا بد من لسان وشفتين وأسنان ولهاة وفك وحنك، وإذا كان يرى فلا بد من عين وحدقة إلخ، وإذا كان يسمع فلا بد من صماخ أذن ونحوه. فالذي يسمع عند المجسمة له أذن مجسمة، وفي المقابل المعطلة الذين يقولون: لو أننا قلنا: (يسمع) لزم أن نقول بالتجسيم، فينفون عنه السمع، فهؤلاء يعبدون صنماً، وأولئك يعبدون عدماً، وأهل السنة هم الطريق الوسط، يثبتون الصفة لله تبارك وتعالى، ثم يقولون: كما يليق بجلاله. فأنت كيف تضع يديك في يد رجل، كلما جاءت آية من آيات الصفات، أوَّلها أو عطَّلها، وكلما جاء حديث من أحاديث العقائد أنكره ورده وقال: حديث آحاد؟! فالمبتدعة أصلوا أصولاً لأنفسهم؛ ليجادلوا أهل السنة بها، فالواحد منهم يقول وفقاً للأصل: أنا لا أنازعك فيما تقوله الآن؛ لكن أنازعك في الأصل الذي أصلته، فأنا لا أقبل عقيدة جاء إثباتها بخبر آحاد، فنقول: من سلفك في هذا الأصل؟ بل نقولها بكل تواضع: نتحدى من يأتي بحديث أو واقعة صحيحة، تذكر أن صحابياً روى حديثاً في العقيدة والصفات والأسماء لصحابي آخر فرده عليه بخلاف الأحكام الشرعية، فالصحابة اختلفوا كثيراً جداً في الأحكام الشرعية، ولم يختلفوا قط في أحاديث التوحيد والأسماء والصفات، فمثلاً: عندما روى أبو سعيد الخدري الحديث الذي رواه البخاري صحيحه وهو حديث الشفاعة، وفيه قال: (فيكشف الله عن ساقه)، وقد جاءت في القرآن الكريم م نكرة، ولم تنسب إلى الله عز وجل، في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، ولكن نسبت في حديث النبي إلى الله عز وجل، وكلامه مبين للقرآن الكريم، كما رواه أبو سعيد الخدري، فقال: (فيكشف الله عن ساقه) والضمير يعود على لفظ الجلالة، فهل هناك صحابي اعترض على أبي سعيد وقال: كيف تقول هذا الكلام؟! ومن الذي روى معك هذا الكلام؟! بينما إذا أردت أن تقف على عشرات بل مئات الأحاديث التي تضمنت أحكاماً فرعية، واعترض بعض الصحابة على بعض فيها، فدونك أحاديث السنن والصحاح، فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها لها اعتراضات وانتقادات كثيرة على كثير من الصحابة والزركشي له كتاب (الإجابة على ما استدركته عائشة على الصحابة) أتى باستدراك عائشة على كل صحابي ممن استدركت عليهم؛ حتى أنها استدركت على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهؤلاء السادة. فمثلاً: عندما روى عمر بن الخطاب حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين -وهما عمر وابنه- ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في يهودية قال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه. وقد رد أحد العلماء بهذا الحديث الأخير عليها رضي الله عنها، إذا لا يعذب الله حتى الكافر على ذنب لم يرتكبه، والكافر والمؤمن في هذه المسألة سواء، فلا يعذب أحد بذنب الآخر. ولا ينتقد على هذا الكلام بقول الله تبارك وتعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] فيقال: إنهم حملوا أثقال غيرهم؛ لأن هذا في الذين ضلوا وأضلوا، فهو عندما أضل غيره أذنب، فهو ذنبه في الحقيقة حينما ضل وذنبه حينما أضل، ولكن لا يزيد الله الكافر عذاباً بذنب لم يجنه ولم يكن له فيه يد، وهو والمؤمن سواء؛ فلا يعذب أحد بغير ذنب فعله. وهكذا أيضاً انتقاد أبي هريرة رضي الله عنه على ابن عباس في حديث الوضوء مما مست النار، وإنكار الصحابة على عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى، وإنكار أبي سعيد الخدري على أبي موسى الأشعري في جملة السلام، وهكذا. فكثير من الأحاديث في الأحكام الشرعية اعترض بعضُهم على بعض فيها وردوها؛ لكن لم يفعلوا ذلك في حديث توحيد أو حديث عقيدة على الإطلاق، فدل على أن حديث الآحاد كان يُتَلَقى بالقبول، لا سيما أحاديث العقيدة، فإنها كانت تُتَلَقَّى بالقبول عند الصحابة، ولا أدل على ذلك -ولا يجادل في ذلك إلا مكابر لا يذعن للحق- من حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل وحده إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذا عقيدة؛ فلو أن أهل اليمن لم يسمعوا لـ معاذ، لكانوا كفرة، ولو كان خبر الواحد في العقيدة لا تقوم به حجة، لما جاز تكفير هؤلاء، وقد اتفق جمهور المسلمين على أن الإمام المسلم لو أرسل نذيراً إلى بلاد الكفر، يدعوهم إلى التوحيد، فردوا دعوته، فإنهم كفارٌ، ويجب عليه قتالهم بناءً على إرسال فرد واحد، ولو كانت عقيدة التوحيد لا تقوم بحديث الواحد، لما جاز أن يكفر هؤلاء، ولا أن تنتهك أموالهم وأعراضهم. والأدلة على ذلك تطول بنا، والمقصود أن هؤلاء المبتدعة عندما رأوا قوة أدلة أهل الحق وعلموا أن أصولهم الفاسدة لا تقوى على الوقوف أمام أصول أهل الحق، لجأوا للنصوص التي تحتمل ظواهرها عدة معانٍ، فاختاروا المعنى الذي يؤكد أصلهم، وأتوا عليه بخيلهم ورَجِلهم، وصاروا ينافحون عنه بقضهم وقضيضهم.

النصر ليس بالكم وإنما بالكيف

النصر ليس بالكم وإنما بالكيف إذاً: (كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة) وكيف يقال: نجتمع جميعاً على كلمة الإسلام وهناك مَن يشرك بالله؟! والله تعالى يقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فلا تظن أنه يمكنك أن تنتصر بما عندك من التكنولوجيا وما عندك من المعدات العسكرية وغيرها، فنحن نعلم يقيناً أن هذا سبب؛ لكنه لا يكون مفتاح النصر، فالصحابة الذين كانوا يقتسمون التمرات في يوم بدر، غلبوا الذين كانوا يأكلون عشرة من الجمال في اليوم الواحد. وهذا هو الفرق بين الأجيال المتأخرة وبين جيل الصحابة.

الابتلاء يزيد العقائد ثباتا

الابتلاء يزيد العقائد ثباتاً كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر على الفئة الضعيفة المستضعفة وهي تعذب، إما في رمضاء مكة، وإما وجلودها تتوجع من عصي المشركين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لهم شيئاً، وكان الله تبارك وتعالى يريد أن يستخلص هؤلاء، فأنت لو استخرجت الذهب من باطن الأرض، وعرضته في الأسواق، فإنه لا يعطي شيئاً كبيراً، إنما يساوي الذهب قيمته إذا أدخلته النار، فتحترق كل شائبة خالطت الذهب، ولا يبقى إلا الذهب؛ لأنه لا يحترق، إنما يزيد لمعاناً في النار، بخلاف غيره، (والناس معادن خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) فالمؤمن إذا دخل في فرن الابتلاء احترقت كل الشوائب من رياء وسمعة وشرك ونفاق ونحو ذلك، ولن يبقى إلا الإيمان مصقولاً. ولذلك ترون -في الدنيا كلها- أن من يضطهد لأجل عقيدة يعتقدها لا يزيد عليها إلا ثباتاً، وإن كانت عقيدة باطلة، وخذ مثالاً على هذا: أحد المدافعين عن حقوق العمال طالب حكومته بحقوق العمال، فأبوا أن يستجيبوا، فأضرب عن الطعام ومات جوعاً بعد واحد وعشرين يوماً، وتصور الألم عندما تكون جائعاً جداً، فإنك تموت في كل ثانية وفي كل دقيقة، ولو كانت القضية طلقة رصاصة يستريح بها، أو مات دفعة واحدة لكان هيناً؛ لكن هذا يموت كل ثانية، وهو ثابت على الباطل الذي هو عليه أو على عقيدته التي يعتقد أنها حق، وبعدما مات صنعوا له تماثيل وصار إلهاً؛ لأنه رجل مات على عقيدة، لأنه دافع عن حقوق العمال، فصار هؤلاء العمال يوقرونه حتى عبدوه!! الهندوس فيهم عقول وعجول!! لأنهم يعبدون العجل، بل يعبدون أنثى العجل. ولو كان أحدهم يمشي بسيارته فاعترضته بقرة في مكان عام، فلا بد أن يسجد، ولا يمكن أن يتعداها، فهذا ممنوع، بل يقف، وإذا قعدت البقرة في الطريق، فإنه ينتظرها حتى تقوم من تلقاء نفسها!! بينما نحن نجد كثيراً من المسلمين لا يوقرون الله ورسوله -وهم أهل الحق- كما يفعل أهل الباطل بباطلهم. وقد قلت مقالة في هذا المسجد ولا أزال أقولها: إن من بيننا من يلبس دبلة الذهب وخاتم الذهب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هذا حرام على ذكور أمتي) فيا أيها الذكر الفحل المسلم هلاَّ نزعته الآن في الحال اتباعاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا ينبغي لي أن أخالف نبيي ورسولي، إذا فعلت هذا الآن فلن يعيبك أحد، بل هي مكرمة فيك أن تمد يدك فتنزع هذا الخاتم أو هذه الدبلة ولا تلبسها، وقد جمعني مرة مجلس برجل فأخرج (سيجارة) فقلت له: هلا أطفأت هذه السيجارة! فقال: أليس مكروهاً؟ فنقول: ولو فرضنا أنه مكروه، فلم تفعله؟! فهو يخالف وهو يسمع النهي عن المخالفة ولا يرتدع ولو مؤقتاً، بل في أثناء سماعه للنهي يفعل المنهي عنه. فتعجب عندما تنظر إلى رجل يعبد بقرة وقد تجده عالم ذرة أو صاحب شهادة دكتوراه في الهندسة أو في مجال آخر، ويكون ضليعاً في العلم وله عقل كبير ورغم ذلك ينتكس بعبادة البقرة.

العقل لا يستقل بمعرفة الله تعالى

العقل لا يستقل بمعرفة الله تعالى وبهذه المناسبة نصحح قولاً خاطئاً يجري على ألسنة الناس يقولون: ربنا نعرفه بالعقل فأقول: هذا كذب، لأن الله تبارك وتعالى لو عرف بالعقل استقلالاً لما كفر هؤلاء؛ لأن عقولهم أفضل من عقول كثير من عوام المسلمين المتقين الموحدين؛ لكن الهداية منة ومنحة من الله، ثم بعد ذلك يجيء دور العقل تبعاً، لتثبيت وجود الله تبارك وتعالى ومعرفته؛ لكن العقل لا يستقل بمعرفة الله وحده. وهذا قول علماء المسلمين، خلافاً للمعتزلة ومن جرى مجراهم من أشباه العلماء الآن، الذين يجعلون العقل قاضياً على النقل، فإن لم يقبل عقله الحديث رده، ونحن لا ننكر دور العقل؛ لكن العقل في المرتبة الثانية، فالنقل أولاً، ثم العقل، فإن جاءك نقل صحيح لم يقبله عقلك، فاتهم عقلك ولا تتهم النقل. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعقله يزن عقول أمم لما قَبَّل الحجر الأسود قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). فهو قام بتقبيل الحجر مع أن الإسلام قد جاء بهدم الأحجار التي اتخذت آلهة، ونحن لا نعظم حجراً، ولا نعبد حجراً، بل جاء الإسلام بتحطيم هذه العقيدة. وعمر رضي الله عنه يقول: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) وهذا من تمام عقيدته، وهو لا يفهم معنىً لتقبيل الحجر، ولكن الذي جعله يفعل ذلك هو ما بينه بقوله: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). وهكذا النصوص التي لا تفهم لها معنى، فإذا لم تفهم النص فكِلْه إلى عالمه؛ ولا ترد النصوص.

سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص

سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص هناك رجل ألَّف كتاباً يطعن فيه في السنة النبوية بزعم أن الفقهاء يخالفون المحدثين فيها، فلما جاء حديث: (الوائدة والموءودة في النار) قال: هذا مستحيل أن يكون، بل هذا حديث به علة قادحة. وليس في الحديث علة؛ لأن العلماء يقولون في هذا الأصل: إذا لم تعلم شيئاً فكِلْهُ إلى عالمه، فهلا سأل إذا لم يعلم. ! لكن لأنه ظن أنه لا يوجد في الأرض عبد يمكنه أن يرجع إليه لم يسأل. ثم إذا سألت غيرك فلم تجد جواباً، فاحمل اللفظ على بعض ما تقتضيه الأصول، وإلا فقل: الله أعلم. وهنا (الوائدة والموءودة في النار) الوائدة: لأنها ظلمت، فما بال الموءودة؟ أي التي قتلت ظلماً لماذا تدخل النار؟ من جملة ما يوفق العلماء به أن يقولوا: أن الألف واللام للعهد، وليست للاستغراق، فيقولون: إن الحديث خرج مخرج الخصوص، فهي وائدة بعينها وموءودة بعينها. فالألف واللام وإن كانت تفيد الاستغراق لكنها أيضاً تفيد العهد الذي يشبه الخصوص، كما أن الاستغراق يشبه العموم في قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] مع قوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فلفظ (الناس) في هذه الآية يفيد عموم الناس جميعاً، من يهود ونصارى ومجوس وزنادقة وشيوعيين، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فالألف واللام هنا خرجت مخرج العموم بنفسها وبمقتضى سياق الآية، في حين أن قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] يراد به خصوص المسلمين، فيخرج منه اليهود والنصارى وغيرهم، فقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] لا يشمل النصارى واليهود؛ لأنه لا يحج البيت مشرك. فالألف واللام في الحديث حملت على العهد، أي على الخصوص، في حين أنها حملت في الآية الأولى على الاستغراق، فشملت جنس الناس جميعاً. فمن جملة ما يوفق العلماء به بين الأحاديث أو الآيات التي ظاهرها التعارض: أنهم يحملون الألف واللام على الخصوص، فيقال: إن الحديث ورد بوائدة مخصوصة وموءودة مخصوصة، كأن تكون الموءودة قد طبعت كافرة، كما في الحديث الذي رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع كافراً) أي: خلقه الله كافراً، فيمكن أن تكون الموءودة طبعت كافرة، فهي في النار لهذا الاعتبار، والوائد في النار لظلمه. فلماذا لا نسلك سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض؟ لكن الواحد يعتد بعقله، وكل شيء لا يقبله عقله -كأنه ليس للناس عقول- يقول: هذا باطل وفيه علة، لذلك فالعقل مكانه في المرتبة الثانية بعد النقل، ووظيفة العقل إعمال الفكر في النقل، ولهذا المجنون لا يجتهد، بل المجنون قد سقطت عنه العبادة والتكليف، والمخالفون يقولون: إننا بتقديم النقل نزري بالعقل! ونحن -أهل السنة- ما وضعناه إلا في موضعه الصحيح، وما ضل المعتزلة عن منهج أهل السنة إلا لأنهم جعلوا العقل قاضياً على النقل، فكل شيء وافق عقولهم، فهو صحيح، وما خالف عقولهم فهو باطل مردود. فالمقصود بالكلام أن كلمة التوحيد تكون أولاً، وأي اجتماع لا يكون على التوحيد لا قيمة له.

الرد على من استدل بقصة هارون على ترك الكلام في التوحيد بحجة عدم التفريق

الرد على من استدل بقصة هارون على ترك الكلام في التوحيد بحجة عدم التفريق وفي مقدمة هذه الآية ما يدل على أن هارون عليه السلام أنكر عليهم قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]. ومما يدل على أنه أنكر ما قاله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] فلماذا يقتلونه إذا كان ساكتاً لم يتكلم؟ إنما كادوا يقتلونه لأنه أنكر عليهم، فكادوا أن يقتلوه، {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150]. ثم هل يليق بنبي أرسله الله تبارك وتعالى ليعلم الناس توحيده أن يراهم يعبدون عجلاً ثم يسكت حتى لا يتفرقوا؟!

لا قيمة للاجتماع إذا لم يكن على الكتاب والسنة

لا قيمة للاجتماع إذا لم يكن على الكتاب والسنة إذا لم يكن الاجتماع على الله ورسوله فلا كان، ما قيمته؟! والصحيح أن (كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة) ولا يكون الأمر إلا ذلك، أما مبدأ (كَتِّل ثم ثَقِّف) فهو مبدأ خاطئ، والصواب (ثَقِّف ثم كَتِّل). والذين يريدون أن يجمعوا العوام في صعيد واحد ويفرحون ويقولون: إن تعدادنا في هذا العام عشرة ملايين تقريباً، لا ينفعهم هذا، إذا كان تعدادكم عشرة ملايين فماذا فعلتم؟ لا شيء، بل استهانوا بكثير من الأوامر بدعوى أن غيرها أولى منها. ولو أننا أردنا أن نكتِّل أولاً ثم نُثَقِّف، فسنجمع الزنديق والملحد والكافر والشيوعي والرافضي وصاحب الهوى، وسنجمع الكل في صعيد واحد، ثم نبدأ نثقف، فإذا قلت شيئاً يخالف ما عند هذا الملحد، قال لي: لا. الأمر كذا وكذا وكذا، فأظل أجادل هذا الملحد، وقد لا أستطيع أن أجيب على شبهاته؛ لأنها قوية، فيفتن مَن يسمعون، أو على الأقل يصرف جهدي في تعليم هؤلاء لغير منفعة. وإذا كان صاحب هوىً وكلامك على غير هواه، فستظل تبين له أن المسألة كذا وكذا وتذكر له قال الله وقال رسوله وقال العالم الفلاني، وحتى يفهم يكون الجهد قد ضاع، بخلاف ما إذا ثقفت قبل أن تكتل، فإن تثقيفك لن يكون على منهج هؤلاء، ولن يبقى معك إلا من هو على منهجك، فإذا قلت الكلمة آتت ثمارها؛ لأنهم جميعاً على نفس منهجك، ولهذا لا يُفْرَح بالعوام، وإياك أن تفرح أن العوام في جانبك؛ لأنهم غداً ينقلبون عليك، وصدق الذي قال: إن العامي مشتق من العمى؛ لأنه بيد من يقوده غالباً أو دائماً. وإذا نظرت إلى العوام في زمن موسى عليه السلام: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:39 - 40]، إذا غلبوا فنحن وراءهم، هؤلاء هم العوام، ولا تنتصر أمة على الإطلاق عوامُّها هؤلاء.

حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين

حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين كثير من أتباع الحق لم يكتفِ بنور الحق الذي هو يمشي مع كتيبته، وعرض له الشك في قلبه، ومع قلة العلماء الربانيين يكثر اختطاف أهل البدعة والضلال لبعض من يمشي مع كتيبة أهل الحق. العلماء الربانيون قلة قليلة جداً، والمسلمون كثيرون، فنحن الآن مثلاً في بلدنا لو أردنا أن نعد العلماء الربانيين، الذين هم على طريقة السلف، وأقصد بالعالم الرباني العامل بعلمه، ممن هم معروفين للناس؛ لأننا لا ننكر وجود بعض العلماء الذين لا يُعْرَفون؛ لكن على الظاهر الآن: كم من العلماء في الفقه وفي الحديث وفي الأصول وفي التفسير؟ ترجع بخفي حنين؛ لأنك لا تستطيع أن تكمل العلماء الربانيين في شتى الفروع على أصابع اليد الواحدة، أو على أصابع اليدين. ولو نظرنا إلى عدد المسلمين المتشوفين إلى معرفة دينهم لوجدنا أنهم ملايين، فلو فرضنا أنه يوجد ألف عالم رباني، لكانوا عدداً قليلاً بالنسبة لهذه الملايين، حتى يلبُّوا حاجتهم إلى المعرفة. فالذين يتشوفون إلى معرفة دينهم ملايين، والعلماء الربانيون لا يكادون يوجدون، مع كثرة أبواق أهل البدع والضلال، كأمثال هذا الكاتب الذي يقول: إنه لا يجوز أن يتفرق المسلمون حتى لو اختلفوا في عقيدة التوحيد وهل بعد ضياع عقيدة التوحيد شيء؟! وهل ضعنا نحن الآن في الأرض شذر مذر، إلا بتضييع عقيدة التوحيد؟!

ظن العوام أن كل صاحب لحية عالم

ظن العوام أن كل صاحب لحية عالم بعض الناس إذا قابله شخص عليه سمت أهل العلم يقول له: يا مولانا يا شيخ، عندنا سؤال كذا وكذا وكذا. وهم يعتبرون أن كل صاحب لحية عالم. وهذا أيضاً من جملة الأخطاء التي هي عند العوام، وهو مما يحجبهم عن إعفاء اللحية، فحين تسأل الواحد منهم: لماذا لا تعفي لحيتك؟ يقول: أنا طالب في الهندسة، واللحية تريد عالماً، وتريد شخصاً عنده معلومات! ولا تدري من الذي اشترط هذا في اللحية! ولو أننا رأينا طالباً فاسقاً له لحية، فهل يجوز شرعاً أن نقول له: احلق لحيتك؟ لا يجوز؛ لأن اللحية هدي ظاهر يميزك، كأنها بطاقة علنية؛ تقول أنك مسلم، وأنت لك من الحقوق كمسلم ما ليس لغيرك، فإذا لم أعرف هل أنت مسلم أم لا فسأتوقف في إعطائك حقك، فأكون قد ظلمتك. وأنا أريد أن أعرف من أول نظرة أنك مسلم، فتأتي اللحية وغيرها من الهدي الظاهر، فتبين أنك مسلم، بدون أن أقول لك: أرني البطاقة. فيخطئ العوام ويقولوا: إن كل صاحب لحية عالِم. والصحيح أنه ليس كل صاحب لحية عالِماً، وليس كل معمم عالماً، كما أنه ليس كل حليق جاهلاً، وليس كل من معه يد كاتباً. فلا بد أن تتحرى عن العالِم الرباني حتى تتعلق به؛ لأنه هو طوق النجاة في بحر الشبهات، أو في بحر الظلمات، ولذلك وُقِّق ذاك الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً كل التوفيق حين سأل عن العالم، وكان قد أخطأ، عندما قال: دلوني على أعبد أهل الأرض، فدلوه على الراهب فأفتاه خطأ، فقتله، ثم قال: دلوني على أعلم أهل الأرض -وفَهم السؤال نصف العلم- ولم يقل: دلوني على عابد، وإنما قال: على أعلم أهل الأرض؛ لأن هذا هو الواجب؛ فإذا أردت أن تسأل عن شيء من دينك، فعليك أن تسأل شخصاً متقناً فيه، لا سيما إذا كان عاملاً بعلمه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

البحث عن العالم الرباني

البحث عن العالم الرباني لذلك كان من الضروري أن تبحث أنت عن العالم الرباني، فتتعلق به؛ لأنه طوق نجاة بالنسبة لك في بحر الشبهات والكفر، وأنت إذا مرضت تقول: دلوني على طبيب. فإذا قيل: الطبيب في الشارع المجاور. تسأل: معه دكتوراه؟ لأن هؤلاء الناس -أصحاب الدكتوراه- متقنون وفحوصهم دقيقة. وتكون مستعداً لأن تضحي بمبلغ كبير في مقابل أن يفحصك فحصاً جيداً ويحدد العلة بدقة ولا تبالي بالمال. فأنت إذا كنت في داء بدنك -وأنت لست بمخلد وستموت مهما عشت صحيحاً طيلة عمرك- تبحث عن أفضل الأطباء وأعلمهم. فمن باب أولى أن تبحث عن أفضل العلماء لدينك؛ لكن المرء يذهب ليبحث عن أحسن طبيب، ولا يبحث عن العلماء.

مع النبي وأزواجه

مع النبي وأزواجه لقد اختلفت مشارب الناس وآراؤهم في معاملتهم لنسائهم ما بين مشرق ومغرب، وإن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته وتعامله مع نسائه يرى سعة حلمه وكرم أخلاقه، ويدرك يقيناً أنه خير الناس جميعاً لأهله وأرحمهم بأزواجه. وهاك من قصصه مع أزواجه لطفاً ونبلاً ما يخلب الألباب ويطير بالقلوب في عوالم الرقة والعاطفة المشبوبة، ويحلق بها في سماء لم تطاولها سماءٌ عذوبةً وحلاوةً وجاذبيةً وحسن عشرة.

سؤال ابن عباس لعمر عن قصة التحريم والإيلاء

سؤال ابن عباس لعمر عن قصة التحريم والإيلاء إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، في باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لم أزل -وبعض الألفاظ من طرقٍ أخرى من خارج صحيح البخاري- حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلتُ معه، فقضى حاجته، فصببت عليه وضوءه، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فكان إذا نزل أتاني بخبر الوحي وما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوماً نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم. قال عمر رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: أَوَفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! لم تنكر أن أراجعك؟ ووالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل. قال عمر: فأفزعني ذلك، ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم. فقلت لها: قد خبت وخسرت! وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني: عائشة - أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال عمر: وكنا نتحدث أن غسان تُنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي يوم نوبته عشاءً، فطرق الباب طرقاً شديداً وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم فقلت: أجاء غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول! طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه! فقال عمر: قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون. قال: فجمعت علي ثيابي ونزلت، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟! أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، قال: فجلست معهم: ثم ذهبت إلى باب المشربة، وكان على الباب رباح -وهو غلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت للغلام: استأذن لـ عمر. فدخل الغلام ثم رجع، فقال: ذكرتك له فصمت. قال عمر: فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر. فدخل ثم رجع. فقال: قد ذكرتك له فصمت. قال: فذهبت فجلست مع الرهط الذي عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، قال: فقلت للغلام: استأذن لـ عمر. قال: فدخل ثم رجع إلي. فقال: قد ذكرتك له فصمت. فلما وليت منصرفاً، إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم. فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال في جنبه، فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، فرفعت بصري في بيته عليه الصلاة والسلام، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر -أي: يملأ العين- غير أهبة ثلاثة -أهبة: جمع إهاب، وهو الجلد- فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله. قال: فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان متكئاً، وقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! إن أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا إلى أن قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فبدأ بها، تقول عائشة: فدخل عليّ من تسع وعشرين أعدها عداً، فلما دخل قلت: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، وإنما أصبحت من تسعٍ وعشرين أعدها عداً. فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون. قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.

استحباب تلطف طالب العلم مع شيخه

استحباب تلطف طالب العلم مع شيخه هذا الحديث اشتمل على جملة من الفوائد، أظهرها ما سنسوقه في هذا الدرس إن شاء الله تبارك وتعالى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما زلت حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وللبخاري أيضاً: قال ابن عباس: مكثت سنةً أريد أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين التي قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فتمنعني هيبته، فقال ذلك لـ عمر. فقال له عمر: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فسلني. قال ابن عباس: (حتى حج وحججت، وعدل وعدلت) أي: وهم في الطريق قضى عمر بن الخطاب حاجته، فتبعه ابن عباس بإداوة، ليتوضأ منها عمر، وسأله وهو يصب عليه الماء سأله هذا السؤال. وفي هذا دليل على استحباب أن يتلطف طالب العلم بشيخه، وأن يتحرى مواضع خلو باله فيسأله، فإن كثرة سؤال الشيخ -لاسيما وهو متضجر- تزعجه، وقد كان هذا مذهباً لبعض الطلبة المجدين، كأمثال ابن حبان رحمه الله، فقد كان يصحب شيخه ابن خزيمة رحمه الله، ولا يتركه سفراً ولا حضراً، وكان يكثر عليه السؤال، فأكثر عليه ذات مرةٍ في سفرٍ، فقال له ابن خزيمة: (تنح عني يا بارد!) فكتبها ابن حبان. فقيل له: أتكتبها ولا فائدة فيها؟! قال: لا أدع لفظاً يخرج من فم الشيخ إلا كتبته. فالصواب في هذا: أن الإنسان يقبل على شيخه في وقت فراغه ونشاطه وخلو باله، وقد كان طلبة الحديث يزعجون مشايخهم كثيراً، وأشهر من أزعجوه في ذلك هو الإمام سليمان بن مهران الملقب بـ الأعمش، واستعمل معهم الشدة كثيراً، حتى ذكر الخطيب رحمه الله في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أن الأعمش اشترى له كلباً، فكان إذا سمع وقع نعالهم خارج البيت أطلق عليهم الكلب، ولك أن تتخيل من يجري أمام الكلب من أمثال شعبة وأمثال هؤلاء الكبار كـ عبد الله بن إدريس! فما أن يدخل الكلب الدار حتى يرجعوا مرةً أخرى، فيطلق عليهم الكلب، وهكذا كان يحول بينه وبينهم هذا الكلب، فجاءوا ذات مرةٍ وهم يتوجسون أن يخرج عليهم الكلب، وإذا هم يقتربون شيئاً فشيئاً ولم يخرج الكلب، فهجموا على الدار ودخلوا عليه، فلما رآهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! (يعني: الكلب). وكان الأعمش يكره أن يقعد بجانبه أحدٌ في أثناء الدرس، فجاء رجلٌ من الغرباء، فجلس بجانب الأعمش وهو لا يدري أن الأعمش يكره ذلك، فأحس به فتركه، فكلما قال: (حدثنا) بصق عليه (فلان) بصق عليه. والرجل ساكت حتى قضى الأعمش درسه! ويذكر الخطيب في هذا الكتاب أخباراً كثيرة أخرى عن الأعمش أنه كان يستعمل الشدة، وكان إذا غضب عليهم يقول: شرٌ أناسٍ على ظهر الأرض! فأنت -أيها الطالب النبيه- إذا أردت أن تستفيد، فاعلم أن الفوائد لن تتم إلا بصفاء الذهن، فعليك بالرفق؛ فإن القلوب إذا كلت عميت لأن هذا الإرهاق يحرمك خيراً كثيراً، ولا يحملك جدك ونشاطك ونهمك على أن تكثر من مماراة شيخك، فقد قال الزهري رحمه الله: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً؛ لكثرة ما كان يماري ابن عباس). فـ أبو سلمة كان كثير المماراة، فكلما تكلم ابن عباس بكلمة كان أبو سلمة يماريه ولا يسلم له ويناقشه ويعارضه، ويظهر معارضات وإلزامات، فمن كثرة ما كان يماري ابن عباس زهد ابن عباس في إفادته وفي مجالسته: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً لكثرة ما كان يماري ابن عباس). بخلاف ابن جريج فقد لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، وقال: قد استخرجت ما عند عطاء من نصح، ولم يتضجر منه عطاء بن أبي رباح، لماذا؟ لأنه كان يترقب خلواته، فإذا رآه صافي الذهن مقبلاً سأله. وكذلك فعل ابن عباس رضي الله عنه، فقد ظل سنةً يهاب أن يسأل عمر بن الخطاب حتى رأى أنه بمفرده معه (فانتهز الفرصة) فبادره بهذا السؤال، وقدم بين يدي السؤال هيبته إياه، فقال: (يا أمير المؤمنين! إني أريد أن أسألك منذُ سنةٍ فتمنعني هيبتك. فقال: يا ابن أخي! إذا كان عندي علمٌ فسلني. فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال له عمر: وا عجباً لك يا ابن عباس!) وإنما تعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ابن عباس لما كان لـ ابن عباس من الفضل في البحثٍ عن التفسير وعن التأويل، فعجب عمر أن يخفى عليه مثل هذا الموضع مع شهرته، لاسيما وقد كان عمر حسن الرأي في ابن عباس برغم صغر سنه، وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فغضب أحدهم -وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه- وقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! -أي: في مثل سنه- قال: فسمعها عمر فأضمرها -أي: أسرها- حتى كان يومٌ، فسألهم سؤالاً في حضور ابن عباس. قال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، ما تقول يا فلان؟ قال: هذا أمرٌ من الله عز وجل أنه إذا جاء نصر الله والفتح، فأمره أن يستغفر. -فسر الماء بعد الجهد بالماء- وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: أقول فيها ما قال أخي، وأنت يا فلان! قال ابن عباس: فعلمت أنه يريد أن يريهم لماذا يدخلني، فقال: وأنت ما تقول يا ابن عباس؟ أتقول بقولهم؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: فما تقول؟ قلت: هذا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلام بقرب أجله فأنه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] فما بقاؤك إذاً؟ فقد تمت الرسالة وكمل الدين وتمت النعمة، فهذا إشعارٌ بقرب أجله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها غير ما تقول. فقد بلغت منزلة ابن عباس أن عمر يدخله مع أشياخ بدر، وكان يضرب بأشياخ بدر المثل في رجاحة العقل وفي دقة النظر، حتى قال أبو حصين -وهو أحد التابعين- منكراً على الذين يتسرعون في الفتوى: إنكم لتفتون في المسألة؛ لو عرضت على عمر لعرضها على أشياخ بدر؛ أي: لا يجرؤ عمر -مع جلالته ورجاحة عقله- أن يفتي فيها حتى يشرك معه أشياخ بدر، وأنتم تتسرعون في الفتيا! الشاهد: أن عمر تعجب من ابن عباس لعدم معرفته بالمرأتين، مع أنه كان مهتماً بعلم التفسير، استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل). وهناك احتمال آخر وهو أن ابن عباس كان يعلم القصة مجملة، فأراد أن يعلمها مفصلة من عمر. وهناك احتمال ثالث: وهو أن ابن عباس سمع القصة بنزول، فأحب أن يسمعها بعلو، أي: ربما يكون قد سمعها من رجل عن رجل، فأراد أن يعلو بهذه القصة، فطلب ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عمر: (واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه.

الجمع بين التجارة والعلم مذهب كثير من العلماء

الجمع بين التجارة والعلم مذهب كثير من العلماء قال: (كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً). وهذا يدلنا على أنهم لم يكونوا يتفرغون لطلب العلم، بل كان بعض العلماء المشاهير لا يتفرغون أيضاً لطلب العلم، بل كانوا يجمعون ما بين التجارة وما بين طلب العلم. ومن أشهر هؤلاء الذين عقدت عليهم الخناصر في التجارة وفي العلم وفي الجهاد هو الإمام ذو الفضائل عبد الله بن المبارك. هذا الرجل لو قرأتم سيرته لأحببتموه غاية الحب! وكان تاجراً، وكان ينفق على أعظم ستةٍ من علماء عصره، بل من مشايخه، فكان ينفق على السفيانين والحمادين وابن علية والفضيل بن عياض، أي: كان ينفق على سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض وإسماعيل بن علية، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) وكان شديد السخاء، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، حتى أنه ذات مرة جاء إليه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقيل له: إن هذا الرجل لديه مالٌ كثير، وهو يأكل المشوي -همس إليه رجل بهذه المقالة- وهؤلاء يأخذون الأموال ويكنزونها، وهم أغنى منا، فلماذا تعطي هؤلاء؟ فليس بفقير طالما أنه يأكل المشوي واللحوم، فقال ابن المبارك: آلله؟! أي: أهذا حقاً يأكل المشوي؟! قيل: نعم. قال: إذاً هذا لا يكفيه عشرة دراهم، هذا لا يكفيه إلا مائة درهم. انظر إلى فقه هذا الإمام! لأن العبرة أن يخرج المال من يده، وليست العبرة أن يقع في موقعه أم لا، فهذه مسألة وهذه مسألة، ولكن عندما يطاوع المرء شحه، ويقول: هؤلاء الناس ليسوا محتاجين، وغير مستحقين، ومعهم أموال، ولو وجدت مستحقاً لأعطيته. هب أنك أعطيته وهو غير مستحق، فما يضرك؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه-: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل، فوجد امرأةً، فوضع الصدقة في يدها، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على زانية! فقال الرجل: الحمد لله! على زانية؟! لأتصدقن الليلة بصدقة. فخرج فوجد رجلاً، فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوجد رجلاً فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني؟!) لماذا أعاد الصدقة ثلاث مرات؟ لأنه في كل مرةٍ يرى أنها لم تقع في موقعها الذي يريد، فهو يريد أن يوقعها في يد مستحقٍ لها، فوقعت في يد زانية، فلعلها تستعين بهذا المال على الزنا، ووقعت في يد سارق، فبدلاً من أن تقطع يده يعطي مالاً، ووقعت المرة الثالثة في يد رجلٍ غني غير محتاج. فجاءه ملك في صورة رجلٍ، فقال له: (أما صدقتك فقبلت) هذا هو المطلوب، المهم أنك تتصدق، وتصل إلى أي مكان لا يضرك إذا ابتغيت بها وجه الله عز وجل (فأما المرأة الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله يخرج الذي عنده، فنحن نستدل بهذا الحديث على أن الصدقة على أهل المعاصي مع تتبعهم ورعايتهم أفضل من إعطاء الصدقة -أحياناً- لبعض الملتزمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطي العطاء لرجالٍ ويدع من هم أحب إليه منهم) ويقول: (أكلهم إلى إيمانهم) والرجل الملتزم إذا لم تعطه، فلن يكفر ويفسق ويترك التزامه، بل سيصبر على الجوع والعطش، بخلاف الرجل الحديث العهد بالإسلام، فإنك إذا أعطيته التزم، وسهم المؤلفة قلوبهم أخذ منه كثير من الصحابة الذين تألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال، ثم حسن إسلامهم. فكان عبد الله بن المبارك رحمه الله يتعامل بهذه العقلية؛ لأنه إمام فقيه محدث، فكان يجمع بين التجارة والعلم، وانظر إلى دواوين الإسلام، فلا تكاد ترى باباً يخلو من ذكر عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى. وكذلك أبو حنيفة رحمه الله كان تاجراً، والإمام الشافعي رحمه الله، كانت له تجارة لطيفة وصغيرة. المقصود: أن طالب العلم ليس من شرطه أن يتفرغ، بل قد يجمع بين العلم وبين التجارة؛ لكن ذلك يحتاج إلى همةٌ عالية. ابن أبي داود - عبد الله بن أبي داود السجستاني - قال: رحلت إلى أبي سعيد الأشج فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء فكان يأكل كل يوم أربع حبات أو خمس حبات. وليس كما نصنع نحن اليوم، نأخذ (الساندويتش) الفول، ونضع فيه نصف كيلو فول، ونأكله في لمح البصر! قال: فما نفدت الباقلا حتى كنت قد كتبت عن أبي سعيد الأشج ثلاثين ألف حديث. وكان معه الخبز اليابس الذي لو ضربت به في جلدك ربما جرحك، فكان يذهب إلى الفرات، ويبله فيه حتى يلين ويأكله، وكان مقدار أكله في اليوم الواحد عبارة عن أربع حبات فول مع رغيف واحد. وواصل هؤلاء الأئمة الكبار الجد والرحلة في طلب العلم، وقل أن تجد الآن رجلاً يجمع بين التجارة والعلم، أي: إما هذه وإما تلك، وإنما البكاء -كما يقول ابن الجوزي رحمه الله- على خساسة الهمم. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينزل يوماً إلى تجارته فيصلحها، وإلى معاشه فينظر فيه، وينزل يوماً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه طريقة جيدة حتى لا يفوته شيء من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل أتى بخبر الوحي وما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا نزلت فعلت مثل ذلك.

معاملة النساء بين أهل القرى وأهل المدن

معاملة النساء بين أهل القرى وأهل المدن قال: وكنا معشر قريشٍ قوماً نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار، إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم. وهذا هو الفرق بين أهل المدينة وأهل القرى، أهل القرى عندهم خشونة في معاملة النساء، فمهمتها الخدمة والخلفة فقط، أما المحاورات واللطف والمعاشرة بالمعروف، فليست عند هؤلاء، حتى أن عمر بن الخطاب في هذا الحديث من طريق آخر يقول: فصخبت علي امرأتي فراجعتني، فتناولت قضيباً فضربتها. فقالت: أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟! -هل تظن أننا لا زلنا بمكة؟! - لم تنكر أن أراجعك وهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح؟! كأنها تقول: لك فيه أسوة، ولي فيه أسوة، وأنا لم أهجرك بل راجعتك، أتنكر علي أن أراجعك.

تأثير البيئة على الإنسان

تأثير البيئة على الإنسان كل إنسان وليد بيئته، والبيئة تؤثر في الإنسان، ولا ينكر المرء أن البيئة تؤثر فيه، بل حتى المركوب يؤثر في صاحبه، ولست أعني بالمركوب الحذاء، بل ما يركبه الإنسان من الحيوانات فهو يؤثر في صاحبه، ودليلي في هذا من السنة، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالخيل من طبعها أن فيها نوعاً من الكبر، والإنسان حين يركب الخيل يشعر بالعظمة، وكانت هذه هي علامة العظماء آنذاك، كما في حديث أم زرع، الحديث الجميل، قالت أم زرع وهي تصف زوجها السابق؛ لأن أبا زرع طلقها، إذ أنه -كما قالت- (لقى امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، قالت: فنكحت بعده رجلاً سرياً): من سراة الناس وأشرافهم. (ركب شرياً) الشري: هو أجود أنواع الفرس. (وأخذ خطياً) الخط: مدينة كانت في البحرين، وكانت الرماح تجلب من الهند إليها، ثم توزع منها على جزيرة العرب، فنسبت السهام إلى الخط، وهي البلد التي توزع منها هذه الرماح. فالخط: هو الرمح، فزوجها هذا يركب فرساً ولكي يكمل مشهد الفخامة يضع الرمح تحت إبطه وهو راكب. فهذا الكبر الذي في الفرس ينتقل إلى صاحبه، وأنت تلاحظ هذا في أي إنسان يركب سيارةً فارهة، ونحن عندنا -مثلاً- أحدث نوع من أنواع السيارات هي (المرسيدس) ثمنها مليون وسبعمائة ألف جنيه، هذا ثمن سيارة وهي سيارة (مرسيدس) ضد الرصاص -أي: مصفحة- وأول من أدخلتها مصر راقصة! ولهذا كان اسم هذه السيارة- بكل أسف- (الفاجرة). وسيارات (المرسيدس) لها أسماء كثيرة مثل (الشنزيرة) و (التمساح) و (الشبح) و (الزنمكة)، و (البودرة). والبودرة هذه نسبة إلى تجار الهروين؛ لأنها سيارات باهضة الثمن، ولا يستطيع شراءها إلا تجار الهروين فقط، والشبح سموها باسم طائرة الشبح الأمريكية التي شاركت في حرب الخليج. فعندما يركب الإنسان سيارة فارهة فإنه يحس بالكبر. حدثني بعض أصحابنا ممن كان يركب هذه السيارات، ثم استبدلها عندما التزم، فكان يحكي لي لما سمع مني هذه المعلومة، قال: أنا أصدق الذي تقول؛ لأنني حين كنت أقود السيارة وارى سيارة أمامي، فإني أظل أضايق صاحبها بالأنوار، وأزعجه ببوق السيارة، وأنظر إليه باحتقار، وأكاد أضربه لماذا؟ لأنه تصور أنه انتقل إليه ثمن السيارة. ويقول: لما كنت أنزل عند صاحب الفواكه أنزل وأنا مغتر بنفسي، وأقف عند باب (العربية) بشكل ملفت. وقد أثبتت ذلك الدراسات، والذين يدرسون علم النفس يقولون بهذا، حتى وصل بهم الحال أن يقولوا: إن أكل اللحوم من حيوان معين يمكن أن يكسب الإنسان بعض صفاته. والبيئة تؤثر في صاحبها. فالإنسان الذي يعيش في البادية تجده جلداً، يقف في الشمس الساعات الطوال، ولا يدركه نصب ولا تعب ولا أي شيء من هذا وكذلك البيئة الصحراوية تؤثر في أخلاق من يعيش في الصحراء فيكون خلقه صحراوياً أيضاً، مثلما قالت أول امرأة في حديث أم زرع: قالت: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل). فهي تصف زوجها بأنه رجل جاف سيئ الخلق: (زوجي لحم جمل غث)؛ لأن لحوم الجمال أكثر الناس لا يأكلونها إلا نادراً -وهي من لحوم الجمال الجيدة- أما هذا فشبهته بلحم جمل غث، أي: رديء، هذا اللحم من الجمل الغث وضعوه على قمة جبال عالية، فمع رداءته انظر أين وضعوه، (لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل) ويا ليت اللحم الذي عليه جيداً فنتحمل المشقة في سبيل جلبه، فهي تشير إلى أنه في سوء خلقه كالجبل الوعر. ففي القرى كان الرجال يعاملون النساء معاملةً قاسية، ليس للمرأة إلا أن تلد وتخدم الرجل، فلما جاءوا إلى المدينة بلد الحضر، -يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه- طفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار. وهذا من أدب عمر؛ فمع أنه معترض على هذا الخلق الجديد، إلا أنه لم يقل: (فطفق نساؤنا يأخذن من قلة أدب نساء الأنصار) وإنما قال: (يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية: قال: (يأخذن من أرب نساء الأنصار)، والأرب: هو العقل والطريقة.

إعانة الرجل لابنته على طاعة زوجها

إعانة الرجل لابنته على طاعة زوجها قال: فصخبت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فتناولت قضيباً فضربتها. قالت: أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟! إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح، قال: فأفزعني ذلك. ولم يفزع على أم سلمة، ولا على عائشة، ولا جويرية، وإنما فزع على ابنته، قال: أو تفعل حفصة ذلك؟! وهذا فيه دليل على ضعف الوالد تجاه ولده، وحبه لسلامته، قال: أو تفعل حفصة ذلك؟! خابت وخسرت. قال: ثم نزلت إلى حفصة، فقلت لها: أي بنيتي! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم، وتهجره الليلة حتى الصبح؟! قالت: نعم. وفي هذا دليل على أن الهجر يكون ليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا باتت المرأة -والبيات لا يكون إلا ليلاً- هاجرةً فراش زوجها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح). فلو قال شخص: لو أنه دعاها إلى الفراش نهاراً فهجرته، فهل تدخل في الحديث؟ نقول: نعم. إذاً لماذا ذكر الليل فقط؟ لأن الليل هو داعية الفعل، وليس النهار، فالتقييد بالبيات وذكر الإصباح في الحديث خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أي: إذا باتت المرأة بالليل هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، فليس مفهومه أنه يجوز لها أن تهجره بالنهار، فإن القيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند العلماء. قال لها: خبت وخسرتِ! وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك. وهذا هو الذي عناه الإمام البخاري في الترجمة، فـ البخاري ذكر الحديث تحت قوله: باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها. فكذلك ينبغي للآباء أن يسلكوا هذا الخلق القويم: أنه لا يقوي ابنته على زوجها، بل عليه أن يعينها على طاعة زوجها؛ لأن هذا من النبل ومن الوفاء. بعض الإخوة كثيراً ما يشكوا من ذلك يقول: هل يحق لي أن أقطع رحم زوجتي؟ أي: لا أسمح لها أن تزور أباها ولا أخاها ولا أمها ولا غيرهم. لماذا يا أخي؟! فقطع الرحم لا يجوز، يقول: كلما ذهبت رجعت ناشزة علي. حتى أني حضرت بعض المشاكل والمرأة الحمقاء أم الزوجة تعين ابنتها على عصيان زوجها وطلب الطلاق منه، وما هي المصلحة في ذلك؟ وكان الأولى أن تأمرها بالمعروف وتقول لها: يا بنيتي! إن النبي عليه الصلاة والسلام أبصر أسماء بنت يزيد فقال لها: (أي هذه! أذات بعلٍ أنت؟ -أي: أمتزوجة أنت-؟ قالت: نعم يا رسول الله. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في طاعته- قال: فانظري أين أنت منه، فهو جنتك ونارك). فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لا تسأليه ولا تغضبيه ولا تستكثريه -أي: لا تكثري من الطلبات- وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يعني: عائشة) ومما يدل على عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنه وأنها كانت أحب نسائه إليه ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة قالت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى قال فأحبي هذه قالت فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها ما نراك أغنيت عنا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة فقالت فاطمة والله لا أكلمه فيها أبدا قالت عائشة فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة قالت فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم إنها ابنة أبي بكر). هذا يذكرني بالحديث الذي رواه البخاري عن أسماء قالت: تزوجني الزبير بن العوام وما له في الأرض شيء غير ناضح، وقطعة أرض من المدينة، قالت: ذهبت ذات يوم آتي بالنوى، فلقيها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة ومعه بعض أصحابه، قالت: فلما رآني أناخ البعير، ودعاني للركوب خلفه، وهو زوج أختها، ثم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من مجموع الأدلة أنه كان محرماً لنساء الأمة، قالت: أسماء: فذكرت الزبير وغيرته فاستحييت. وكان الزبير بن العوام رجلاً غيوراً، وكان قاسياً، وكان الزبير متزوجاً بامرأتين، وكان إذا أراد أن يضربهن يربط ظفائرهن، ببعض وكانت أسماء لا تحسن أن تدافع عن نفسها، فكانت فتذهب إلى أبيها أبي بكر الصديق تشتكي الزبير، فكان يقول: يا بنيتي! ارجعي، فإن الزبير رجلٌ صالح. والله إن هذا الجيل الفريد حق له أن يمكن وتصير له دولة في عشر سنوات، لماذا؟ لأنهم كانوا رجال صدقٍ. تقول أسماء: (فذكرت الزبير وغيرته) برغم أن راحتها أنها تركب خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن تذكرت الزبير وغيرته. وهذا من الحرص على شعور الزوج، فإذا كان الزوج يغضب من أمر معين، فلا ينبغي للمرأة الوفية المؤمنة أن تفعل ذلك الأمر، وأن تكدر خاطر زوجها وتعكر صفوه. قالت: فاستحييت؛ فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فتركني، فلما رجعت تحكي للزبير بن العوام ما حدث، فقال لها: لمشيك أشد علي من ركوبك خلفه.

حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة

حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فـ عائشة رضي الله عنها تقول: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر. قالت: فلما علمت أنه لا يكره أن أنتصر قمت لها فأفحمتها. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (إنها ابنة أبي بكر) كما نقول في المثل الشعبي: (ابن الوز عوام) أي: لها الحجة القوية مثل أبيها، وحق لها أن تكون مثل أبيها، وهذا يدلك على مدى حب الرسول عليه الصلاة والسلام لها، وأيضاً يدلك على كمال خلق النبي عليه الصلاة والسلام كيف أنه لم يغضب ولم يضرب هذه مرة وهذه مرة. وحين نتأمل في حال المتزوجين بامرأتين أو بثلاث أو بأربع وحال الرسول صلى الله عليه وسلم، تشعر أن هناك جانباً من جوانب العظمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته التسع. يظهر من هذا الحديث كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب عائشة رضي الله عنها، ويفعل معها ما لم يفعله مع أي امرأة، فعند أحمد وغيره أن عائشة قالت: (كنا في غزاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: تقدموا. فتقدموا، قال: تعالي أسابقك) فهل هناك أحد يعمل مع امرأته ذلك؟ ويقول لها: تعالي أسابقك، أو حتى يلين معها الكلام؟! فكثير من الناس يأنف أنه يعمل ذلك مع زوجته، لكن أنت تخيل فخامة الرسول صلى الله عليه وسلم وشموخه وهو يجري بجانب عائشة رضي الله عنها، الفتاة الصغيرة التي كان سنها لا يتجاوز الثلاث عشرة سنة. قالت: (فسابقته فسبقته، قالت: فتركني حتى نسيت) -نسيت هذا السباق- وحملت اللحم -أي: صارت بدينة- وكنت معه في غزوة فقال لهم: (تقدموا ثم قال: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك). فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يترفق بنسائه! وكان يقول: (رفقاً بالقوارير) أي أن المرأة مثل القارورة ومثل الزجاجة، فتحتاج إلى رقة في المعاملة، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنهن عوان عندكم) أي: المرأة مأسورة، فأول ما تزوجت دخلت السجن مباشرة، لماذا؟ لأنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك إلا إذا طلقتها. وأيضاً كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يعلمن هذه المكانة لـ عائشة، فمرة حفصة -أو أظن صفية - أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى عائشة وقالت: إني مستعدة أن أهبك ليلتي وترضيه عني. فكن يعلمن مكانة عائشة رضي الله عنها، فتقول عائشة: فبللت خماري بالماء ففاح عطره، فجلست بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إليك عني يا عائشة، ليس هذا بيومك. فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وظلت تترضاه حتى رضي. جاء في مسند الإمام أحمد أن بعض التابعين سمع من عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم) فاستغرب الأمر، فذهب إلى أم سلمة يسألها، فقال لها: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك وهو صائم؟ قالت: لا. قال لها: فإن عائشة تقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم). فقالت أم سلمة: لعله كان لا يتمالكها حباً، أما إياي فلا. فهذه حقيقة معروفة من كل من يعرف مكانة عائشة رضي الله عنها، ومنهم عمر الذي يقول لابنته: لا تغضبي النبي صلى الله عليه وسلم وتقلدي عائشة، فلست مثل عائشة، فهو يحتملها ويمكن أن يغفر لها، وليس لك من المكانة ومن الجمال ما لـ عائشة رضي الله عنها.

محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له

محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له قال عمر: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا). وكان ملك من ملوك غسان يهدد المسلمين، فكان المسلمون على أهبة استعدادهم لمقاتلة هذا الرجل إذا فكر أن يغزو المدينة. ففي ذات يوم كانت النوبة للأنصار، فجاء إلى دار عمر بن الخطاب وطرق الباب طرقاً شديداً على غير العادة، فخرج له بعض من في البيت قال: أثم هو؟ -أي: هل عمر موجود؟ ففزع عمر وخرج يجرجر إزاره؛ لأنه ربما كان نائماً. فقال: أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم: طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. فـ عمر قال: قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون؛ لماذا؟ لأن النشوز هذه نهايته، وكل شيء له نهاية، كما قال الله عز وجل: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] وعندما يستقر فسوف تعلمون. فجمع عمر رضي الله عنه ثيابه ونزل إلى حفصة فوجدها تبكي، قال لها: ما يبكيك؟! أولم أكن حذرتك؟! أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري. فذهب عمر بن الخطاب إلى المسجد، فلما دخل المسجد وجد رهطاً عند المنبر يبكي بعضهم. فانظر إلى الصحابة رضي الله عنهم: لو أن واحداً منهم طلقت ابنته فلن يذرف عليها دمعة، لأنه من العيب أن يبكي الرجل على طلاق ابنته عند العرب، فلقد كانوا يدفنوهن وهن أحياء؛ لأنهم كانوا يعتبروهن عاراً عليهم، فهل سيغضب أو سيبكي لأن ابنته طلقت؟! ولكنهم بكوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه وتكدر خاطره. وهذا الحب الكبير للنبي عليه الصلاة والسلام هو الفارق ما بين ذلك الجيل الفريد وبين كل الأجيال التي أتت بعد ذلك. قال عمر: فذهبت إلى المشربة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام جالساً فيها -والمشربة: الغرفة- وقد أمر رباحاً -الغلام- أن يحفظ الباب. وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً عند الحاجة، أي: للحراسة، وهؤلاء جائز استخدامهم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: (لأكونن مع النبي صلى الله عليه وسلم سائر يومي. وخرج فإذا النبي صلى الله عليه وسلم دخل بستاناً لبعض الأنصار، وقال له: احفظ الباب. فجاء أبو بكر، فقال أبو موسى: على رسلك، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو بكر بالباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على بئر وقد كشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر، فجاء أبو بكر فجلس عن يمينه وكشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر، قال أبو موسى: فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به -يريد أخاه وكان قد سبقه في الوضوء وسيأتي وراءه. قال: فجاء عمر، قلت: على رسلك، فقلت لرسول الله: عمر بالباب؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل، فجلس بجانب أبي بكر ودلى رجليه في البئر، قال: ثم جاء عثمان، فقلت: على رسلك، فقلت لرسول الله: عثمان بالباب. فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عثمان: الله المستعان! ودخل عثمان فوجد أن ناحية البئر امتلأت، فجلس في مقابلهم، قال سعيد بن المسيب رحمه الله: فأولتها قبورهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن بجانبه أبو بكر، ثم عمر، ودفن عثمان في البقيع). فهذا فيه دلالة على جواز استخدام الحاجب أيضاً. ولكن إذا لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك، فالأولى عدم اتخاذ الحاجب، كما في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على امرأة تبكي عند قبر جديد، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. قالت: ثم علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتاعت لذلك، فأتت بيته فلم تجد حاجباً ولا بواباً، فأخبرته بما كان من شأنها، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

استحباب الاستئذان

استحباب الاستئذان فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم رباحاً حاجباً على الباب، فجاء عمر فاستأذن، وقال له: استأذن لـ عمر. وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء نفسه إذا استأذن، وفي هذا حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، قال: (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قلت: أنا. فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا! كأنه كرهها). يقول ابن الجوزي: إنما كرهها النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيها نوعاً من الكبر، كأنما يقول: أنا الذي لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا تعريف نسبي، وكلمة (أنا) هي التي أهلكت إبليس لما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]. فلعل قائلاً أن يقول: في قصة صاحب الجنة المتكبر في سورة الكهف لما تحاور مع صاحبه استخدم المؤمن كلمة (أنا) أيضاً، قال تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فرد عليه المؤمن وقال: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:39 - 40]، فلماذا استخدم المؤمن كلمة (أنا)؟ نقول: الفرق بين استخدام المؤمن لـ (أنا) واستخدام المتكبر لـ (أنا): أن (أنا) عند الرجل المتكبر هي محور الارتكاز، بحيث أنك لو فرغت كلامه من (أنا) لا تجد لكلامه معنى، فكلامه يدور حول تمجيد نفسه، بخلاف المؤمن فقد يقول: (أنا) عرضاً؛ ولكنه لا يدور عليها ولا يعتبرها كاعتبار المتكبر لها. فهيا بنا نطبق هذا الكلام على الآيتين: الرجل الذي طغى قال: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، احذف (أنا) من الكلام واقرأ: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكثر منك مالاً) فإنك ترى الكلام غير مستقيم، لكن إن حذفت (أنا) من كلام المؤمن فسيبقى مستقيماً، {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] احذف (أنا): (إن ترن أقل منك مالاً وولداً)، ألا ترى أن الكلام مستقيم؟! وإنما ذكر (أنا) في مقابل (أنا) فقط، وكما حدث لقارون لما وعظه قومه فطغى عليهم وبغى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] إنما هذا الذي جمعته بعبقريتي وذكائي وجدي وحساباتي الدقيقة، فهذا أيضاً يدور حول نفسه. فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كره أن يقول الرجل المجهول الذي لا يعرفه صاحب الدار: (أنا)، والسنة أن تعرف نفسك. ولذلك قال عمر: (جئت فقلت: استأذن لـ عمر -فسمى نفسه- قال: فدخل ثم رجع، وقال: ذكرتك له، فصمت). وفي هذا دليل على أنه ليس كل سكوتٍ علامة الرضا. ولم يفهم عمر بن الخطاب أن السكوت علامة رضا، بدليل أنه لم يدخل.

سياق الكلام يكشف معناه

سياق الكلام يكشف معناه إذاً ما هي حكاية أن السكوت علامة الرضا؟ هل هذا الكلام صحيح؟ نقول: نعم، صحيح، ولكن في نكاح البكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (تستأمر البكر، فقالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي. قال: إذنها سكوتها) فسكوت البكر علامة على رضاها، فلأبيها أن يمضي العقد لمجرد سكوتها. ربما يقول قائل: فكيف نفرق إذاً بين السكوت الذي هو علامة الرضا والسكوت الذي هو علامة السخط؟ نقول: بالسياق، وعلماء الأصول يقولون: (السياق من المقيدات). فالسياق: هو الذي يرشدك إلى المعنى، فمثلاً التبسم: هناك رجل يتبسم تبسم رضاً، ورجل يتبسم تبسم المغضب، أما تبسم المغضب، فكما في حديث كعب بن مالك في الصحيحين، قال: (فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً حضرني همي -ثم ساق كلاماً- قال: فجئته، فلما رآني تبسَّم تبسُّم المغضب، وقال لي: ما خلفك؟) إذاً هذا تبسم المغضب. في قصة سليمان عليه السلام لما سمع النملة وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فالله عز وجل ماذا قال؟ قال: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النمل:19]، فلماذا قال: (ضاحكاً) هنا؟ ليدلك على أن هذا التبسم علامة رضا، وليس لأنه ملك وأن النملة تتكلم وتقول: (لا يحطمنكم)؛ فكأنها قالت له: اتق الله، لم يغضب من كلام النملة بل تبسم (ضاحكاً) هذه أعلمتنا أن التبسم علامة رضا، وأن سليمان رضي ولم يغضب من قول النملة. كذلك الترخيم، والترخيم: أن تحذف بعض حروف الكلمة على سبيل التدليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب يدلل عائشة فكان يقول لها: يا عائش. وليس: يا عائشة، وكان يقول لـ أسامة بن زيد: يا أسيم. والترخيم هذا فيه دلالة على مزيد الحب. وأذكر قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذا مع عائشة رضي الله عنها؛ حتى أريك أن السياق هو الذي بين لنا أن هذا الترخيم خرج مخرج الحب. فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه لما كانت ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً، وحمل نعله ومشى رويداً رويداً، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً - (رويداً رويداً) بهدوءٍ شديد- وما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش -وهي تحت اللحاف مستيقظة، وترى كل شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم يتصور أنها نائمة- ثم قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق -فحين خرج الرسول عليه الصلاة والسلام خرجت هي من تحت اللحاف مباشرةً- قالت: فتقنعت إزاري، وانطلقت وراءه، وظللت أمشي وراءه، والنبي عليه الصلاة والسلام ذاهب إلى البقيع، ورفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ويرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً فانحرفتُ، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحسر -أي: مشى بهدوء- فأحسرت وسبقته) فهو يرى الذي أمامه ولكن لا يعلم من هو، أول ما دخلت إلى الحجرة دخلت تحت اللحاف وتغطت به كأن شيئاً لم يكن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل وجد أن اللحاف ينخفض ويرتفع بحركة مستمرة، وهو قد تركها نائمة، فما هذا الذي جد؟ فقال: (مالك يا عائش؟ هذا هو الشاهد: مالك يا عائش: حشياً رابية -أي: هل ألم بك مرض خطير فجأة-؟). فالسياق فيه لطف وشفقة، إذاً الترخيم هنا علامة حب، بدليل السياق، قال: (ما لك يا عائش؟ حشياً رابية؟ قالت: لا شيء. قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير. فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله -في رواية أخرى أنه قال: نعم- فقصت عليه الخبر، قال لها: أنتِ السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم. قالت: فضربني في صدري فلهذني -وفي رواية أخرى: فلهدني، بالدال المهملة- في صدري لهدة أوجعتني -أي: ضربها بمجامع يده في صدرها- وقال لها: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!). فهي ظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة، أو إلى جويرية، أو إلى زينب، وهي لم تفكر في المسألة إلا بعقلية المرأة؛ وهذا الظن له شاهد من صحيح مسلم، فلعل بعض الناس يقول: وما أدراك أن عائشة ظنت ذلك؟ فأقول: هذا الظن فيه نص في صحيح مسلم عن عائشة أيضاً، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بجانبي، قالت: فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه، فنزلتُ -لأنها كانت نائمة على السرير، ولم يكن في البيوت مصابيح- فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. فقالت عائشة: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأنٍ وأنا في شأنٍ آخر). وروى مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة قالت: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي فغرت، فرجع فرآني غيرة، قال: مالك؟ أغرت؟ قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك) لفظ آخر قال لها: (أجاءك شيطانك؟ فقالت لرسول الله: أوليس لك شيطان؟) فـ عائشة كانت ذكية في تغيير دفة الحوار، فالمرأة الذكية تتعلم، ولا تقعد زوجها على كرسي الاعتراف وتقول له: أين ذهبت وماذا عملت؟ لا، والرجل يحاول أن يلملم الموضوع، وهي تقول له: لا تلملم الموضوع، لابد أن أعرف بالتفصيل الممل ما الذي حصل. نقول لها: تعلمي من عائشة. قالت له: (أوليس لك شيطان؟ قال: بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم). فقال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله، هو جبريل أتاني فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي) وأنت تعلم أن المرأة جبانة، ولاسيما إذا كانت صغيرة. فالنبي عليه الصلاة والسلام سيتركها وحيدة، ولم يكن في البيوت مصابيح آنذاك، وليس لها ولدٌ تتسلى به، فكره أن يوقظها فتستوحش. قال: (فقال لي: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. فقالت: وكيف أقول إذا مررت عليهم يا رسول الله؟ -انظر إلى ذكائها وتأمل كيف غيرت دفة الكلام! - قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع) الحديث. فالمقصود أن السياق هو الذي يبين لك إذا كان الترخيم المقصود منه التدليل والرحمة والحب، أو المقصود منه السخط أو الشدة كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى برجلٍ يوم القيامة فيقول الله عز وجل له: أي فل - فل: اختصار وترخيم: يا فلان- ألم أذرك ترأس وتربع، وأزوجك من النساء، وأكسبك من الخيل والإبل؟! فأين شكرك؟! قال: أي رب! نسيت. قال: اليوم أنساك). فانظر إلى كلمة (أي فل) فهذا ترخيم، ولكن السياق دلنا على أنه ليس المقصود به الترخيم السابق، مثل: يا عائش، ويا أسيم، ونحو ذلك. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. ففهم عمر بن الخطاب أن السكوت ليس علامة رضا فذهب وجلس عند المنبر، قال: فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرت له فصمت، فذهب وجلس عند المنبر، قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فانصرف عمر، فلما وصل إلى باب المسجد إذا بالغلام يناديه: قد أذن لك. فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً على رمال حصيرٍ قد أثر الحصير في جنبه).

الصحابة وحرصهم على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم

الصحابة وحرصهم على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأردت أن أستأنس) وهذا من فطنة عمر ومن ذكائه، فالرسول عليه الصلاة والسلام غضبان، فلابد أن يحدث عمر جواً من البهجة ومن الود حتى يستطيع أن يتكلم. يقول: (فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ قومٌ نغلب نساءنا، فقدمنا على إخواننا من الأنصار فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم. فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام). يقول: يا رسول الله! أنت أخذت بسيرة الأنصار فهجرنك ونشزن عليك، فلو أخذت بسيرة القرشيين ما وصل الحال إلى ما وصل إليه. وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك فيه دلالة على أنه رضي سلوك الأنصار في معاملة النساء، ففي سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نساء يشتكينه أن أزواجهن يضربونهن، فمنع من ضرب النساء، فجاء عمر فقال: يا رسول الله! ذئرن النساء على أزواجهن). فالرسول عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الضرب، قال: فما بقي بيتٌ إلا فيه ضرب. فطاف على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف على آل محمدٍ سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، وليس أولئك خياركم) أي: ليس الذين يضربون هم خياركم لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خيرهم ولم يضرب نساءه ولا ينبغي ضربهن إلا أن ينتهكن حرمات الله عز وجل. قال عمر: (فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعمر يريد أن يخلق جواً من الأُنس، حتى يلطف عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما به، وقد كان بعض الصحابة يمزحون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان هناك صحابي يلقب حماراً، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فلما جيء به وقد شرب الخمر، جلد فلعنه أحد الصحابة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعن الشيطان على أخيك) وقال في الرواية الأخرى: (إنه يحب الله ورسوله) فيمكن أن يجتمع حب الله ورسوله في قلب العبد مع بعض المعاصي التي يتلبس بها. وأيضاً صحابي جليل لا يعرفه كثير من المسلمين، اسمه زاهر، روى الترمذي حديثه في الشمائل، وكان زاهر دميم الوجه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان زاهر لطيفاً، فأبصره عليه الصلاة والسلام ذات يوم في السوق، وكان زاهر من البادية يأتي إلى السوق أحياناً ليبيع ويشتري، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، جاء من ورائه وأغمى على عينيه، فجعل زاهر يقول: مَن مَن؟!! ويحرك يده، فلما وضع يده على يد النبي صلى الله عليه وسلم عرفه، وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلصق ظهره ببطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته في السوق: (من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: إذاً يا رسول الله تجدني كاسداً -أي: بضاعة خاسرة- قال له: لا، ولكنك عند الله لست بكاسد -وفي الرواية الأخرى- قال: لا، ولكنك عند الله غال). فإحداث جو من الأنس كان يعمله بعض الصحابة، فـ عمر بن الخطاب لما رأى النبي متكدراً أراد أن يحدث هذا الجو، فلما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست). وجعل عمر بن الخطاب يدير عينيه في الغرفة، فلم ير فيها شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة. ولو أن أحدكم دخل بيت بعض الأمراء أو بعض الأثرياء ونظر إلى الحيطان وإلى النمارق والسجاد، لرأى قمة الأبهة والفخامة، فـ عمر بن الخطاب ينظر إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فيه، فلم ير شيئاً يملأ العين غير ثلاثة جلود -جلود مدبوغة- هذا هو الموجود في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. قال عمر: وكان متكئاً فجلس) (جلس) أي: اعتدل. وهنا طرفة حدثت بين الكسائي وبين هارون الرشيد، وكان الكسائي يهذب هارون الرشيد ويعلمه، فدخل الكسائي على هارون فقال له الرشيد: اجلس. فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين؛ -أي: لا تقل: اجلس، ولكن قل: اقعد، قال: وما الفرق؟ قال: القعود من القيام، والجلوس من الاتكاء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

ذم الكبر

ذم الكبر إن الكبر من المهلكات التي قد تصيب أي إنسان، والحذر منه فرض عين على كل مسلم، فهو من الأمراض التي قد يصاب بها المرء وهو لا يشعر، فيجب على المسلم أن يروض نفسه ويعودها على تذكر أصل نشأتها، حتى لا تستعلي على أحد من خلق الله تعالى.

شرح حديث وصية نوح عليه السلام لابنيه

شرح حديث وصية نوح عليه السلام لابنيه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج النسائي في سننه، والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد في المسند، والبزار والحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (أتى أعرابي من البادية عليه جبة من طيالسة، مكفوفة بديباج أو مزرورة بديباج فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن صاحبكم هذا هذا يريد أن يضع كل فارس ابن فارس، وأن يرفع كل راعٍ ابن راعٍ، ثم قام إليه فجذبه بمجامع جبته، وقال له: أرى عليك ثياب من لا يعقل، ثم تركه، وقال صلى الله عليه وسلم: إن نوحاً قال لابنه -وفي رواية لـ أحمد-: (إن نوحاً قال لابنَيه: إني قاصرٌ عليكما الوصية) هذا لفظ لـ أحمد، وهناك لفظ آخر لـ أحمد وغيره: قال: (إني قاص عليكما الوصية. إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه أو قال لابنيه: إني قاصرٌ أو قاصٌّ عليكما الوصية: أوصيكم باثنتين وأنهاكما عن اثنتين، أوصيكما ب (لا إله إلا الله)؛ (فإن لا إله إلا الله) إذا وضعت في كفة ووضعت السماوات والأرض في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله)، فلو كانت السماوات والأرض حلقة مبهمة -أي: مصمتة جامدة- لفصمتهن أو لقصمتهن (لا إله إلا الله)، وأوصيكم بـ (سبحان الله وبحمده) فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق، وأنهاكما عن الشرك والكبر - في رواية أحمد - قال رجل: يا رسول الله! إني أحب أن يكون لي نعلين حسنتين لهما شراكان حسنان، أفهذا كِبْر؟ قال: لا. قال: فإني أحب أن يكون لي حلة، أفهذا كِبْر؟ قال: لا. قال: فإني أحب أن يكون لي صحبة، أهذا كِبْر؟ قال: لا. فقالوا: فما الكِبْر؟ قال: الكِبْر بطر الحق وغمط الناس -وفي رواية للحاكم - قال -عليه الصلاة والسلام-: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس). هذا حديث جليل وهو من القصص الصحيحة التي قصها علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أخرج الطحاوي رحمه الله في شرح معاني الآثار هذا الحديث مختصراً تحت النهي عن لبس الحرير، وهذا يوضح لماذا جذب النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأعرابي جذبة شديدة، مع أن خلقه عليه الصلاة والسلام هو السماحة، وأنه كثير ما آذاه الناس أو كثير ما رأى بعض المخالفات من بعض المسلمين فكان يترفق بهم؟!

معنى قوله: (إني قاصر -أو قاص- عليكما الوصية)

معنى قوله: (إني قاصر -أو قاص- عليكما الوصية) وهنا ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فقال: (إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه أو قال لابنَيه: إني قاص عليكما الوصية -وفي رواية لـ أحمد - إني قاصر عليكما الوصية). كلمة: قاصر. هنا تحتمل معنيين: المعنى الأول: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إنني سأوصيكما أنتما فقط، ولعلك لو تأملت في قول نوح عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] تعلم أن امرأة نوح وابنه ومعظم قومه كفروا، وقد ظل ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فلم يستجيبوا، فهذا يوحي إليك أن المؤمنين كانوا قلة، فلم يجد في حال موته غير ابنيه، لذلك قال: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقتصر عليكما في هذه الوصية. هذا هو المعنى الأول. المعنى الثاني: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقصِّر في وصيتي ولن أطيل عليكم، فهذا واضح من رواية النسائي، والنسائي إنما روى هذا الحديث في السنن الكبرى -وله السنن الصغرى لم تطبع حتى الآن، إنما المطبوع من سنن النسائي الآن: السنن الكبرى- فيُفهم من سياق الحديث في سنن النسائي أن نوحاً عليه السلام قال: (إني سأقصر) يعني: لن أطيل عليكم حتى تحفظوا وصيتي، ولذلك قال: (آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين) ما أطال. (إني قاص عليكما الوصية): أي: وصية نوح عليه السلام، وتجد أن كثيراً من الأنبياء كانوا يوصون عند الموت، وكثير من الصحابة كانوا يوصون عند الموت، ولا ترى رجلاً صالحاً إلا ويوصي عند الموت، وهذا شيء يغفل عنه أهل الدنيا العاملين لها، قلَّما يوصي، يوصي بماذا؟ بماله الذي سيتركه فلا يحتاج هذا المال إلى وصية، قال صلى الله عليه وآله وسلم (خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تبقى حتى إذا كانت ههنا -أي: الروح- قلت: هذا لفلان، وهذا لفلان، وقد كان لفلان) يعني: بغير أن تتكلم، وبغير أن توصي هذا المال سيذهب رغم أنفك إلى فلان إرثاً يرثه.

من بدا فقد جفا

من بدا فقد جفا فهذا رجل أعرابي من أهل البادية، وفي الحديث: (مَن بدا فقد جفا) أي: مَن سكن البادية يورثه ذلك جفاء في الطبع، لذلك أنت ترى الفرق ما بين أهل المدينة وما بين أهل البدو، تجد البدو عندهم غلظة حتى في الألفاظ والطباع بخلاف الذي يسكن في الحضر وفي المدن ترى أن خُلُقَه أقرب، وأن ألفاظه ألين وأرق من ألفاظ الرجل الذي يعيش في البادية، فهذا يبين لك معنى: (من بدا). أي: من سكن البادية (فقد جفاء) أي: يصيبه جفاء في الطبع.

قوله: (إن هذا يريد أن يضع كل فارس)

قوله: (إن هذا يريد أن يضع كل فارس) فقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا يريد أن يضع كل فارس ابن فارس، وأن يرفع كل راعٍ ابن راع) ما معنى هذه العبارة؟ أورد الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية روايةً: أن هذا يريد أن يضع كل رأس ابن رأس وهوالفارس، يضع. أي: من الضعة، وهي الهوان، ويرفع. أي: من الرفعة، يريد أن يقول: إن هذا الرجل الأعرابي جاء متبختراً مختالاً مفتخراً بحلة من سندس، يريد أن يضع وأن يلحق الهوان بكل فارس ابن فارس، والفارس: هو الرجل النبيل. الرواية التي ذكرها الحافظ ابن كثير في البداية: (رأس)، فهذا يريد معنى الفارس، والمقصود به الرأس. وجرى في اللغة أنهم إذا رأوا رجلاً نبيلاً يسمونه فارساً، يقولون: هذا له أخلاق الفرسان. أي: أنه نبيل، رأس. فهذا الأعرابي جاء مختالاً متكبراً يريد أن يرفع كل راع ابن راع، فأنت تعلم أن الراعي هذا إنما يكون من أهل البادية، الذين يرعون أغنامهم، بخلاف أهل الحضر، فإن عندهم الخيول. فالمقصود من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الكبر على وجه هذا الرجل وعلى مشيته، فقال: إنه يريد أن يضع المرفوع ويرفع الوضيع. هذا معنى الكلام، ولذلك أخذه فجذبه جذبة شديدة.

قوله: (أرى عليك ثياب من لا يعقل)

قوله: (أرى عليك ثياب من لا يعقل) قال له: (أرى عليك ثياب من لا يعقل). أي: الحرير. هذه شهادة بأن الذي يلبس الحرير كأنه لا عقل له، والسر في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من لبس الحرير في الدنيا حُرِمَه في الآخرة) أهناك رجلٌ عنده عقل أو ذرة من عقل يلبس الحرير هنا ثم يحرمه إذا دخل الجنة وهو يرى أترابه يلبسون الحرير؟ فالذي يفضل هذا الحرير على حرير الجنة غير عاقل، لذلك قال له النبي: (أرى عليك ثياب من لا يعقل) أي: لا يزن الأمور وزناً صحيحاً.

هدي السلف الصالح في الوصية عند الموت

هدي السلف الصالح في الوصية عند الموت الذين يوصون عند الموت هم الذين يخافون الله تبارك وتعالى، قال عز وجل في حق إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:131 - 132] وصى بها بماذا؟ بـ {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]؛ لأن هذا أقرب مذكور للضمير، وأقرب مذكور للضمير هو المقصود من الكلام، فقوله: (بها)، والهاء هنا هو الضمير،؟ وأقرب مذكور: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: أنه أوصى أولاده بالإسلام. ويعقوب أيضاً وصى أولاده: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] فهو يطمئن على هذه الذرية، وعلى دورها في الحياة. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أوصى، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً) مِن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم، وهذا ومن آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك -ثلاث مرات). وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أوصى في مرض موته قال: (الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبِن كما صُنِع برسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي سنن ابن ماجة ومسند أحمد بسند حسن عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما جاءته الوفاة قال: (ألا لا تتبعوني بمجمر -أي: بنار - ولا تبنوا على قبري بناءً، وإني بريء مِن كل سلق وحلق وخرق، قالوا: أسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم). وقصة الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوه إنما أوصى بذلك؛ لأنه كان نباشاً للقبور، يعني: فإذا دفنوا الميت يفتح القبر ثم يأخذ الكفن ويترك الميت عرياناً. فلما قرب أجله وأحس بدنو أجله جمع أولاده فقال لهم: (أي بَنِيَّ! كيف كنتُ لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فإن أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني -أي: يطحنوه- ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قَدَر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات نفذوا الوصية، فجمعه الله تبارك وتعالى بقوله: كن، فكان الرجل فقال: أي عبدي! ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتُك، قال: أما قد خشيتني فقد غفرت لك). فجرت عادة الصالحين الخائفين من لقاء الله عز وجل أن يوصوا؛ ولكن لا يفوتني أن أنبه إلى أن الوصية إن كانت بمعصية فلا تنفذ بالاتفاق، وهذه قصة رجل ممن سبقنا، فلا حجة بهذه القصة؛ لأن في شرعنا ما يخالفها.

فضل لا إله إلا الله

فضل لا إله إلا الله نوح عليه السلام أوصي ابنيه -وهو من أولي العزم من الرسل- فقال: (أوصيكم باثنتين وأنهاكم عن اثنتين، أوصيكم بـ (لا إله إلا الله) فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت (لا إله إلا الله) في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله)) فلا يعقل أن تكون السماوات والأرض وهما من خلق الله تبارك وتعالى أثقل من (لا إله إلا الله) الكلمة التي بني عليها هذا الكون كله، والكرسي أكبر من السماوات والأرض، فـ (لا إله إلا الله) هذه الكلمة الطيبة المباركة لو وضعت في كفة، ووضعت السماوات والأرض بمن فيهن لرجحت بهن (لا إله إلا الله). وفي الحديث المشهور عند أهل السنة باسم حديث البطاقة: (أن رجلاً عاصٍ، يُنْشَر له تسعة وتسعون سجلاً من الذنوب -السجل الدفتر الطويل، فلما أيقن الرجل أنه ذاهب إلى النار وسُحب، فقال الله عز وجل: أعيدوا عبدي، فقال له: إنه لا يُظْلَم عندي اليوم أحد، وإن لك عندنا شيئاً، فأخرج بطاقة -انظر! تسعة وتسعون سجلاً موضوعة في كفة من الميزان- فأخرج بطاقة فيها: (لا إله إلا الله) -أي: أن هذا الرجل كان يقول هذه الكلمة -، فوضعت هذه البطاقة في كفة أمام السجلات فطاشت كل هذه السجلات، ورجحت (لا إله إلا الله وليس هناك شيء يترجح على اسم الله تبارك وتعالى)).

فضل التسبيح

فضل التسبيح فيقول: (أوصيكم بـ (لا إله إلا الله) - الكلمة المباركة التي ينجو بها العبد- وأوصيكم بـ (سبحان الله وبحمده) فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق) قال الله تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]. إذاً: هذا التسبيح هو حياة كل شيء، ولذلك الإنسان الذي لا يلهج بذكر الله عز وجل ميت، وذكر الله تبارك وتعالى بالنسبة للقلب كالماء بالنسبة لكل شيء حي، فيه الري وفيه الحياة: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]. وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] يدل على أن كل شيء يسبح بحمده، قال بعض السلف: حتى صرير الباب يسبح بحمده، انظر! لما تفتح الباب يصدر صريراً، فهذا الصرير تسبيح، وهذا الحجر الذي تراه يخر يسبح، {وَإِنَّ مِنْهَا} [البقرة:74] أي: من الحجارة {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (لا يسمع صوتَ المؤذن شجر ولا حجر -إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة). وقد وردت رواية مفصلة في سنن ابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، عن أبي سعيد بلفظ: (لا يسمع صوت مؤذن إنس ولا جن، ولا شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكله مع النبي صلى الله عليه وسلم). واحتج الذين يقولون: إن الذي يسبح هو الحي وليس الحجر بقوله صلى الله عليه وسلم لما مر على قبرين يعذبان: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، ثم دعا برقائق من جريد -جريدة خضراء- فشقها نصفين ووضع على كل قبر نصفاً وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) وقالوا: الدليل أنه قال: (ما لم ييبسا) فهذا يدل على أنهما إن يبسا لن يسبحا. ورد العلماء الآخرون على هذا القول منهم الخطابي أبو سليمان وغيره أن التخفيف عن صاحبي القبرين ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما بشفاعته -عليه الصلاة والسلام-، بدليل حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب، فوضع عليه رقائق من جريد، وقال: لعله يرفعه عنه بشفاعتي)، فدل على أن الشفاعة المذكورة أو التخفيف المذكور، ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما هي لشفاعته عليه الصلاة والسلام. ومن هنا تعلم خطأ الذين يضعون الأشجار في المقابر أو يضعون الرياحين والورود، وقد توسعوا فيه توسعاً منكراً، كما يفعل بعض مَن يُسَمون بالعظماء في بلاد المسلمين، فإنهم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفرة يأخذون هذه الورود التي لا حياة فيها ولا نداوة ولا طلاوة، ويذهبون إلى قبور الكفرة الفجرة ويضعونها، وقد عقدوا وجوههم مظهرين التألم والتأسف والحزن، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا مررتم بقبور الظالمين فمرُّوا مسرعين حاسري رءوسكم، خشية أن يحيق بكم ما حاق بهم)، زفتا صلى الله عليه وسلم: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار). ولكن هؤلاء -الذين يسمون بالعظماء- يقولون: تيتو صديقي، تيتو يرحمه الله، وتيتو هذا لم يكن حتى نصرانياً بل إنه شيوعي، ومع ذلك يقول: صديقي وماكاريو رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يترحم المسلم على الكافر. ومثل هذه الورود أو الأشجار أو الجريد لا يحصل بها تخفيف على صاحب القبر لمجرد النداوة الموجودة فيها، إنما هو لشفاعته عليه الصلاة والسلام في أولئك، وهذا كما قال بعض العلماء خاص به صلى الله عليه وسلم. فقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]: يدل على أن كل شيء يسبح كما قال سعيد بن جبير وغيره أن هذا عام في كل شيء، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]. ورد في صحيحي البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، زبد البحر: الفقعات التي تكون فوق الماء، وترى هذا لو ذهبت إلى أي شلال أو نافورة يطلع منها الماء بقوة ستجد هذه الفقاقيع، فهذا اسمه الزبد، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] يتفرقع، ولا أحد ينتفع منه: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد:17] ما الذي ينفع الناس؟ الماء، فهذا يمكث في الأرض. فيقول عليه الصلاة والسلام: (لو كانت ذنوبك مثل زبد البحر فقلت: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفِرَت لك ذنوبك). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل زاد عليه) أي: تزيد فوق المائة، تقول مائة وخمسين أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة على حسب ما يُتاح لك، أو على حسب ما تستطيع فهذا معنى قوله: (إلا رجل زاد على ما جاء به). وفي صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحارث وهي أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنها جلست بعد صلاة الغداة تسبح الله تبارك وتعالى، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة فوجدها جالسة كما تركها، تسبح؛ فقال لها: أنتِ جالسة منذ خرجتُ؟ قالت: نعم. قال: لقد قلتُ أربع كلمات أفضل مما قلتيه: سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)، هذه الكلمات النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنها أفضل مما قالته جويرية من صلاة الغداة حتى قرابة الظهر. وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). فـ (سبحان الله وبحمده) صلاة كل شيء كما قلنا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} [الإسراء:44] فالتسبيح صلاة. {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].

معنى الكبر

معنى الكبر ذوأنهاكما عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر، قالوا: يا رسول الله! فأما الشرك فقد عرفناه، فما الكبر، الرجل يتخذ نعلين حسنتين لهما شراكان حسنان أفهذا أكبر؟ قال: لا. قال: الرجل يتخذ حلةً أفهذا أكبر؟ قال: لا. قال: فيتخذ أصحاباً أفهذا أكبر؟ قال: لا، قالوا: فما الكبر؟ قال: بطر الحق وغمط الناس). وفي حديث أبي هريرة عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر. قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً أفَيُعَدُّ هذا من الكبر؟ قال: لا. إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) (بطر الحق): البطر. معناه: الكفر، بطر بالنعمة، أي: كفرها، بطر بالحق: أي كفر بالحق ورده بعدما ظهر له، فهذا هو الكبر، الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، من نازعني فيهما ألقيتُه في النار ولا أبالي). وقوله: (وغمط الناس) معنى الغمط: أي: الحط، غمط على فلان. أي: حط منه واحتقره، ونسبه إلى الضعف والهوان، فغمط الناس أي: الحط عليهم واحتقارهم. فهذا هو الفعل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونهى عنه نوحٌ عليه السلام وهو يوصي ولديه. وإن يسر الله تبارك وتعالى سيكون لنا بعض الدروس -لكن ليست في مواعيد ثابتة- في مثل هذه الصفات المذمومة مثل: الكذب، والعُجْب، والبطر، حتى لا يركن المسلم إلى مثل هذه الصفات؛ لأن مثل الرياء أو الشرك قد يكون أحياناً أخفى من دبيب النمل، والرجل قد يأمن مكر الله تبارك وتعالى، ويتصور أنه لا يمكن أن يغتر في يوم من الأيام، فتزل قدمه. ولا يدخل الجنة إلا خائفٌ، أي: لا يصل إلى الجنة بأمان إلا الخائف، فأين الذي قد نام ملء جفونه وظن أن مثل هذه الصفات لا يمكن أن تحوم حوله، ونام (قرير العين هانيها)! هذا في الغالب، وكما يقول بعض السلف: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً). ويقول بعض السلف -وهو متسرع في هذه الكلمة- (إن العبد ليذنب الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، وإن العبد ليفعل الطاعة فتقوده إلى النار). لو أن أي رجل سطحي التفكير قرأ هذا الكلام لهذا العالِم الجليل لظن أن هذا ضد الآيات وضد الأحاديث، وهو لا يقصد هذا، لا يقصد أن الذي يفعل الطاعة تأخذه طاعته إلى النار، وأن الذي يفعل المعصية تأخذه معصيته إلى الجنة، فهذا مستحيل، بل لا يمكن أن يخطر على بال أحد. إنما يقصد هذا العالِم الجليل أن الرجل قد يطيع الله تبارك وتعالى في طاعة ما، فيفتخر بها، ويقول: أنا أقوم الليل، وأصوم، وأتصدق بمالي، وفلان كان جائعاً وأنا أكَّلته، وفلان كان يريد غطاءً وأنا كسوته، وفلان الفلاني في المستشفى أنا وصِّيت عليه وأعطيته مبلغاً، ويجهر بهذا، وعنده من الشهوة الخفية وهو العُجْب، شيء كثير يحبط مثل هذه الأعمال. هذا معنى ما يريده هذا العالِم. (ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً): كالرجل يفعل الذنب ويظل مشفقاً على نفسه، ويظن أن الله تبارك وتعالى سيؤاخذه بذنبه، فيظل خائفاً من لقاء الله تبارك وتعالى، فلا يقارف المعاصي أبداًَ. فهذه المعصية عادت عليه بالنفع، وهذه الطاعة عادت عليه بالضر. ومحور ارتكاز هذا المفهوم هو: النية. فكلما أخلصت لله تبارك وتعالى، وخلَّصت أعمالك من شوائب الرياء والسمعة والعُجب، كان عملك أقرب إلى القبول. ففي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت عندما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، معنى الآية: أن عباداً لله تبارك وتعالى يفعلون الشيء وهم خائفون، وسر خوفهم أنهم سيرجعون إلى الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما فعلوا: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل الذي يفعلونه، ويأتون به: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) [المؤمنون:60] من هذا الفعل: ((أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) [المؤمنون:60] أي: بسبب أنهم راجعون إلى الله عز وجل، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الرجل يسرق ويزني؟ -الرجل يفعل الشيء وهو خائف، من المؤكد أنه يفعل معصية؛ فهل سيتصدق وهو خائف؟! أو يدخل مثلاً يصلي أو يقوم الليل وهو خائف؟! هذا لم يخطر في بال عائشة، إنما قالت: - يا رسول الله أهذا الرجل يسرق ويزني؟ قال: لا يا ابنة الصديق. هؤلاء أقوام يُصَلُّون ويزكون ويصومون ويخشون ألاَّ يُتَقَبَّل منهم). إذاً: المسألة لم تَعُد مسألة معصية، بل إن هذا أرقى درجات الورع، بمعنى أننا الآن بعيدون جداً عن حيز المعصية، نحن مع أتقى خلق الله عز وجل: ((يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] يتصدقون ويصلون، ويصومون ويزكون، ويفعلون الخيرات وقلب الواحد منهم خائف، خائف من أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه عمله، بأن يكون قد تسلل إلى قلبه شيء من هذه الشهوة الخفية، والله تبارك وتعالى لا يظلم، فإن رد على العبد عمله فهو لم يظلمه. (فيخشى هؤلاء ألاَّ يُتَقَبَّل منهم). لذلك من منطلق قول حذيفة رضي الله عنه في صحيح البخاري: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) أما وقد استطالت مثل هذه الشرور فإننا نضع إن شاء الله تبارك وتعالى معالم لكل صفة مذ مومة حتى يتجنبها المسلمون. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يتقبل منا العمل الصالح إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.

حول الصحوة الإسلامية

حول الصحوة الإسلامية تشهد الأمة صحوة إسلامية أثرية، تنزع بجذورها إلى الجذور الأولى للسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، ولكي تثمر هذه الصحوة كان لابد من النظر في أحوال سلفها للسير على خطاهم فيما وصلوا إليه مع ربهم مع أنفسهم مع بعضهم البعض.

تطبيق الصحابة لنصوص الكتاب والسنة دون جدال

تطبيق الصحابة لنصوص الكتاب والسنة دون جدال إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن هذه الأمة تشهد صحوة إسلامية أثرية، ومعنى أثرية: أي أنها تنزع بجذورها إلى الجذور الأولى للسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم جميعاً. وبلدنا هذا -مصر- أحد البلاد التي تشهد هذه الصحوة المباركة، وكما حدثني خلق كثير من بلاد كثيرة، وهم أناس لهم وزنهم الفكري: أن الله تبارك وتعالى لو أحيا هذا البلد؛ لانجرَّت وراءه كل البلاد الإسلامية وغيرها، ولذلك تجد أن المؤامرات والدسائس على هذا البلد أشد بكثير جداً من أي بلد آخر، حتى أن حجم الضرب الذي تشهده الحركة الإسلامية بلغ حداً عجيباً جداً، ولولا أن الله تبارك وتعالى أذن بحياة هذا الجسد لمات من كثرة الضربات التي تتوالى على رأسه. هذه الصحوة الإسلامية المباركة إن شاء الله تعالى يراد لها أن ترجع إلى الجذور الأولى، وهذا إنما يكون بمزيد من العلم، وهذا التخبط الفكري الذي يشهده المسلمون الآن سببه الجهلُ وقلةُ العلم، حتى أن بعض من نظنهم من الأخيار -هكذا ظاهرهم والله حسيبهم- وقد ظننته يأمر بناته بالحجاب قال لي: أنا لا أريد أن أجبرها، أنا أريدها أن ترتدي هذا الحجاب وهي مقتنعة. إن هذه السفسطة التي عشنا فيها وما زالوا حتى الآن يعرضونها بقضهم وقضيضهم، قد عرضت أصول الإسلام للجدل. إذا قال الله تبارك وتعالى ورسوله أمراً؛ لا يجوز للمسلم أن يجادل فيه، هل يمكن أن يقال: أنا أترك ابنتي حتى تلبس الحجاب عن قناعة؟ هب أنها لم تقتنع، تكره حكم الله أيضاً! ثم ما وزنها أصلاً وما وزن عقلها حتى يمكن أن يقال: اقتنعت أم لا؟ إذاً سيكون رأي البنت هو المقدم، وحكم الله تبارك وتعالى في آخر القائمة؛ لأنها لم تقتنع بهذا. هذا مما ورثناه، وما زال بعض المسلمين يعاني هذه السفسطة التي ورثها بدعوى الحرية العقلية، فعرضوا أصول الإسلام للجدل. لو نظرت أنت إلى أسلافك، وكيف أن الواحد منهم إذا جاءه أمر اجتهد في أن يلتزم به حتى وإن أخطأ، المهم أن يلتزم من وجهة نظره؛ وإذا تبين له الخطأ، يستمر فيه، إنما يرجع. انظر إلى هذا الحديث الصحيح: لما أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، كان بعض الصحابة يربط في يديه خيطاً أبيض وخيطاً أسود، ويأكل ويشرب حتى يظهر له الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ لكن هذا ليس هو المقصود من الآية، المقصود بالخيط الأبيض من الخيط الأسود هو: شعاع النور والظلمة. فهذا الصحابي عندما وصله النص وفهمه؛ بادر إلى العمل به على مقتضى فهمه، ولم يتوقف حتى يقول: حتى ألقى رجلاً مجتهداً أو نحو ذلك. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) أي: التي ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن، فكن يعتقدن أن التي يدها أطول من يد الأخرى هي التي ستموت عقب النبي عليه الصلاة والسلام. وبرغم العقل الراجح الذي كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتمتعن به، ما فقهن إلى معنى الحديث إلا عندما توفيت زينت بنت جحش رضي الله عنها، فهي أول أزواج النبي عليه الصلاة والسلام موتاً بعده، وكانت قصيرةً، ومن لوازم القصر قصر كل الأعضاء، فلم تكن هي أطول نساء النبي صلى الله عليه وسلم يداً بهذا المعنى المتبادر، فلما توفيت زينب رضي الله عنها علمن المقصود من الحديث، وأن معنى قوله: (أطولكن يداً) أي: في الصدقة، وكانت زينب رضي الله عنها أكثر نساء النبي صلى الله عليه وسلم صدقة. إذاً: مبادرة هذا الجيل للعمل بمفهوم الآيات والأحاديث كان يدل على عظم الإيمان في قلب أولئك. لا تعرض قول النبي صلى الله عليه وسلم للجدل، لاسيما إن كنت تجادل عن غير بينة أو أصول، وإلا فتناظر العالِمَين على مقتضى الأصول المعروفة في سبيل الوصول إلى الحق فيه مصلحة ومفسدة، حتى لا يقال: إن المناظرة أو المناقشة منهي عنها بإطلاق لا، إن لم تكن عالماً بأصول المناظرة والمناقشة -أي: أصول ما تتكلم به- فاعلم أن هذا الكلام كله داخل في باب الجدل المقيت. أما قول الله عز وجل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فالمقصود أنك إذا سمعت قولاً للنبي عليه الصلاة والسلام فتسلم به تسليماً، بحيث لا يترك حرجاً في القلب. جاء في سنن الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، وهذا كان في أول الإسلام: أن أي إنسان يأكل أو يشرب شيئاً مسته النار يُحدث وضوءاً جديداً. ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وغيره: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار). فـ أبو هريرة سمع الحديث الأول ولم يسمع النسخ، فصار يفتي بوجوب الوضوء على من أكل شيئاً مسته النار. فدارت بينه وبين ابن عباس هذه المناظرة: قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟ أي: لا يمكن أن آكل اللحم نيئاً، لا بد أن يُطبخ، وهذا مما أحله الله لي، فما هي العلة في إفساد الوضوء، فـ ابن عباس يلزم أبا هريرة بالجدل العقلي. كان أبو هريرة معه نص، وابن عباس معه فهمه. ولذلك استنكر أبو هريرة أشد الاستنكار على ابن عباس مثل هذا. فلما قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! أفلا نتوضأ من الحميم؟! يعني: ألا يجوز الوضوء بالماء الساخن والاستحمام بالماء الساخن، وهذا لا شك أن النار مسته، فكيف إذا توضأت بماء مسته النار هل أعيد الوضوء أيضاً؟! فأمسك أبو هريرة حفنة من الحصى وقال: أشهد بعدد هذا الحصى أنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، اتهم معرفتك، اتهم فَهمك؛ لكن لا تتهم هذا الحديث. هكذا كان توقيرهم! وكذلك سمع أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينهى المحرم عن التطيب. ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله وإحرامه جميعاً) وهذا واضح أنه معارض لحديث أبي هريرة، فما وصل أبا هريرة هذا الحديث الذي حدثت به عائشة. فقيل له في ذلك، فقال: (لأَن أطلى بالقار -الذي يطلى به الجربان - أحب إلي من أن أمس طيباً وأنا محرم). أيها الإخوة! هناك فرق بين الذين قاتلوا على آيات القرآن الكريم وبين الذين ورثوا القرآن الكريم، وهناك فرق كبير بين الذي عانى وعرض لكل أنواع المهانة في سبيل تبليغ آية من آيات الله عز وجل وبين الذي ورث القرآن الكريم وراثة؛ الأول كالرجل المكافح الذي يكون ثروته من عرق جبينه وتعب الأيام والليالي، هذه الثروة غالية جداً على نفس الرجل؛ لأنه كونها بكل ذرة من كيانه، بخلاف الذي يرث، فإنه يمكن أن ينفق كل هذه الأموال الطائلة في أسبوع واحد، والتي ظل يجمعها والده عشرات السنوات، ولذلك قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] يفرط في آيات الله عز وجل ويحرفها لأجل الدينار والدرهم، ثم يقول: أنا سيغفر لي، فإذا تأملت قوله عز وجل: (ورثوا الكتاب) علمت أن هؤلاء لا يختلفون عن الذين نزلت عليهم التوراة. فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم وراء كل صحابي قصة طويلة دامية في سبيل الإسلام، فهؤلاء كان إحساسهم بالنص الشرعي بخلاف حال المسلمين الآن.

صور من ورع السلف وزهدهم في المباحات

صور من ورع السلف وزهدهم في المباحات نحن نجد الآن من يرى ورع الصحابة داخل في جملة التنطع، يقول: هذا ورع! والورع لا يثبت حكماً. فنقول له: دعنا الآن من هذه القاعدة الفقهية، لماذا تزري بهؤلاء وبورع هؤلاء؟ يذكر أن امرأة قالت لولدها: افتح لي نصف الباب. فقاس الولد طول الباب بالشبر، فوجده ستة أشبار، ففتح الباب ثلاثة أشبار؛ لأنها قالت له: افتح لي نصف الباب، فخاف إن فتح أقل أو أكثر أن يقع في جملة الكاذبين. فهل نقول: إن هذا تنطعاً؟ لِمَ تعده تنطعاً؟ هب أنني فتحت أكثر من النصف هل سأكون آثماً شرعاً؟ لكن لا تزري على أمثال هؤلاء. باب الورع واسع جداً، وقد ضرب أسلافنا بفهم واسع في هذا الباب. جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في ترجمة الإمام العلم المفرد وكيع بن الجراح أن رجلاً سبه، فدخل وكيع داره، ومرغ أذنه بالتراب، ثم خرج على الرجل الذي شتمه، وقال له: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه. أي: هو لا يلوم الرجل؛ لأنه يعتبر نفسه هو المذنب، وما ذلك إلا من سوء المعصية، فكان أن مثلك يتجرأ عليَّ فيسبني. وجاء في ترجمة عبد الله بن وهب، الإمام العَلَم المفرد المفتي، وهو تلميذ الإمام مالك رحمه الله أنه قال: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يكف عن الغيبة ويؤدب نفسه- قال: فكنت أغتاب وأصوم، فأزهدني الصوم، فنذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة. هذا نوع من الأدب والسلوك كان أسلافنا يفعلونه مع أنفسهم لبلوغ درجة أعلى من درجة الورع، فهم يرتقون في المستحبات، ونحن في واد آخر، هم يرتقون في الصدقة والتطوع، وصيام الإثنين والخميس، ونحن لا يزال البعض منا يجاهد نفسه بالقيام بالواجبات، وإذا ذكرته بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم يرفع من درجته في الجنة، ويبعده عن النار استهزأ به، وهذا لا يمكن أن تجده إلا في رجل مقصر في الواجبات حقيقةً. فمثل هؤلاء يرون ورع هؤلاء المتقين داخلاً في باب التنطع، ويرونه من التشديد، ويقولون: الدين يسر. مثلاً: يذكر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه جاءه رجل فقال: قد سرقت شاتي. فذهب الإمام أبو حنيفة إلى راعي غنم وقال له: كم أقصى عمر تعيشه الشاة على الأرض؟ فقال له -مثلاً-: عشرين سنة. فحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة لماذا؟ لأنه قد يأكل من لحم الشاة المسروقة، فما يريد أن يدخل إلى بطنه إلا حلالاً صِرْفاً، مع أنه لو اشترى وأكل فليس عليه شيء. هؤلاء الأئمة لا ينظرون بهذه النظرة، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو أحد الأئمة المجتهدين الكبار- لا تغيب عنه مثل هذه الحقيقة أو الحكم الفقهي حتى يحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة، وهذا يدخل في باب الورع. نحن ننظر إلى هؤلاء السلف نظرة إعجاب وتقدير! وحالهم كحال النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يمشي في الطريق فرأى تمرة على الأرض فقال: (لولا أنني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها) أي: إنني لا أدري على وجه اليقين هل هي من تمر الصدقة أم لا؟ فهي مجهولة الحال بالنسبة لي. فالنبي عليه الصلاة والسلام هو سيد المتقين، وكلهم أخذ منه عليه الصلاة والسلام. جاءت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد وقالت له: بينما أنا أغزل إذ مر حرس السلطان بمشاعلهم -يعني: ذاهبون إلى قصر السلطان- قالت: أيحل لنا أن نغزل في ضوء هذه المشاعل؟ فقال لها: من أي بيت أنتم؟ قالت: من بيت بشر الحافي. فبكى الإمام وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في مشاعلهم. لا يتصور أن أحداً يقول: لا تغزلي في مشاعلهم، والغزل في مشاعل هؤلاء حرام. نحن الآن لا نتكلم عن الحرام. نحن نتكلم عن باب واسع جداً اسمه: باب الورع الذي لا حد له ولا نهاية، بل على حسب دينك تجد الورع، كلما ولجت في هذا البحر تجده يتسع جداً أمامك. امرأة فاضلة من العالمات، وهي عاتكة الكوفية كانت تسكن مكة، فظلت ثلاثين عاماً لا تأكل الفواكه ولا اللحوم التي تأتي من بلد من البلدان لماذا؟ لأنها علمت أن أهلها لا يورثون الغنائم، فلم تأكل، وكذلك أخوها نور الدين ما كان يأكل أبداً من ثمار المدينة لماذا؟ لأنه علم أن أهلها لا يؤدون الزكاة، مع أنه لو أكله لا يقال: إنه آثم شرعاًَ؛ لكن هو من باب الورع الواسع جداً. وكذلك الإمام النووي رحمه الله ظل طيلة عمره المبارك -ومات وعمره خمس وأربعون سنة، وبلغ مبلغ الاجتهاد المنتشر في مذهب الإمام الشافعي- لا يأكل من ثمار دمشق، فيُسئل عن ذلك، فقال: هي كثيرة الأوقاف. أي أن هذه البساتين أكثرها كلها وقف، فأخشى أن يدخل بطني من هذه الأصناف التي لا تحل لي. ولذلك هؤلاء الناس سادوا، والله تبارك وتعالى بارك في أعمارهم، نجد -مثلاً- حجة الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه ابن القيم في كتاب "الوابل الصيب من الكلم الطيب": وكان شيخنا -قدس الله روحه ونور ضريحه- يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في الجمعة، أي: يكتب في الليلة الواحدة ما لو أردتُ أنا أن أنسخ وراءه أظل أسبوعاً كاملاً أنقل ما كتب، مع أن الذي يصنف يريد أن يركز ويجمع أدلته، ومع ذلك تجده يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في جمعة. فترى أن هؤلاء العلماء بارك الله عز وجل في أعمارهم، لكن انظر أنت الآن وفكر بعد أن ترى مثل هذه الأمثلة وراقب وانظر إلى حال المسلمين الآن. هل هناك فرق بين هؤلاء وبين أولئك؟

الاختلاف في الفروع لا يفسد للود قضية

الاختلاف في الفروع لا يفسد للود قضية إن البعد عن التمسك بالنصوص الشرعية يكلف المسلمين تكليفاً باهضاًَ جداً، فتجده يتعصب لجهله ولا أقول لعلمه، فإن لدينا من الضعف والهوان أضعاف ما أوتي أسلافنا من الجد والقوة، فقد كانوا يتفاضلون بالعلم ونحن نتفاضل بالجهل، كان يقال: فلان أعلم من فلان، نحن الآن نقول: فلان أقل جهلاً من فلان، فمن مصائبنا ترك التعلم، وسبب وجود الفئات المنحرفة عن الكتاب والسنة هو ترك التعلم والتعصب للجهل، ولا أقول: التعصب للعلم؛ لأن التعصب للعلم خير، ويدخل في ذلك المجتهد، فإنه نظر في الأدلة الشرعية فيثبت على ما يعتقد أنه الحق، وهذا لا يُلام. كان ابن حزم في الأندلس يذهب إلى اجتهادات يخالف فيها الكتاب والسنة، وكان يرى أنه على حق وأن مخالفه على خطأ، فكان إذا علم أنه على الحق جهر بالحق، فهذا هو التعصب للعلم. وفي مثل هذا يقول ابن حزم: قالوا: تجمَّل فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محنُ أي: لا داعي أن تجهر بما تعتقد جهاراً نهاراً، لكن تجمل وتلطف بلسان الحق الذي تعتقده. فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أقول بالرأي إذ في رأيهم ثمنُ أي: فساد. وأنني مولع بالنص لست إلى سواه أرنو ولا في نصره أهن لا ضيفين في صدري وفي كتبي ويا سروري به لو أنهم فطنوا دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من قالتي عندي له كفن فهذا يعتقد أنه على الحق فلا يضره أن يجهر الآن بين المسلمين من يتعصب لبعض آرائه بالجهل، ولا أقول: بالعلم؛ لأن العلماء يسعهم الاختلاف، والجهال لا يسعهم الاختلاف، لذلك تجد المسلم إذا اختلف مع أخيه المسلم في مسألة فرعية يسيرة، ولست أقصد بقولي: (يسيرة) أنها يسيرة من جهة الشرع لا، أقصد أنها بالنسبة لمثيلاتها عند المتعصبين تعد يسيرة. مثلاً: من يرى الضم بعد الركوع الثاني، أو يرى أن الوتر واجب، أو يرى القنوت في الفجر دائماً. إن أولئك إنْ اختلفوا في مثل هذه المسائل الفرعية الكثيرة جداً، لعل بعضهم -وقد رأينا- يترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه. إذا رأيتَ رجلاً يسعه الخلاف شرعاً في المسائل الفرعية مع آخر؛ فاعلم أنه على قدر من العلم؛ لأنه يعذر هذا المخالف، لا يبدعه ولا يؤثمه، لاسيما إن كان الخلاف فيها معتبراً، أي: لا يجوز لك أن تبدع المخالف فيها؛ لأن للمخالف محمل ووجهة نظر معتبرة على أصل من الأصول، لأنه فهمها هكذا، وقد فهم بفهمه جماعة من العلماء السابقين. هذا اسمه خلاف معتبر؛ مثل مسألة ارتداء النقاب الواقعة بين الوجوب والاستحباب، فلا يجوز لأحد أن يبدع الآخر فيه، لكن لو وجد من يرى حرمة النقاب، فإن هذا الخلاف لا يعتبر؛ لأنه جاهل، ولأنه لم يفت بهذه الفتوى أحد من المحدثين إطلاقاً، وإنما القول فيها واقع بين الاستحباب والوجوب، وهذان القولان معروفان عند العلماء. وهذا الذي يرى حرمة النقاب يرى عدم حرمة أن تكشف المرأة عن فخذيها أو ساقيها أو نحرها أو صدرها، فهل رأيتم عالماً ممكن أن يتصور هذه الصورة؟! عندما ننظر الآن إلى عوام المنتسبين إلى هذه الدعوة المباركة، نراهم في خلافاتهم الفرعية وقد ضاق عقلهم، ولا يتحمل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إن هذا بسبب الجهل. وأنا أذكر هنا أمثلة تبين هذه المواقف، وأن الاختلاف الفرعي لا يفسد للود قضية -كما يقولون-. عندنا بعض المسائل اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم، فالذي ذكرته آنفاً بين ابن عباس وأبي هريرة، اختلاف يسعه الشرع، طالما أن المختلف عالم، أو على الأقل أدنى ضوابط العلم أو بعضها موجودة عنده. وهناك مثال آخر أخرجه أبو داود في سننه: قيل لـ ابن مسعود: (إن عثمان -رضي الله عنه أيام كان أميراً للمؤمنين، وكان أمير الحج- يصلي الظهر في منى أربعاً). فـ ابن مسعود استرجع قائلاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون) إن هذا خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، وصلى أبو بكر ركعتين، وعمر ركعتين، بل وعثمان أيضاً، في بداية خلافته صلى ركعتين، فما باله الآن يصلي أربعاً؟! فلما أُذِّن للصلاة؛ قام فصلى خلف عثمان أربعاً، فاستعظموا هذا الفعل منه، فقال لهم كلمتين اثنتين دلتا على عظم فقهه رضي الله عنه، قال: (الخلاف شر)، فنحن نفترض الآن أن جماعة قالوا برأي ابن مسعود وقالوا: لا، النبي عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ أربعاً. وأنت خالفت النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت أبي بكر وعمر، ألا فلا يصلى خلفه، من أراد أن يصلي اثنتين فليأتِ وراءنا فماذا سيكون حال المسلمين وقد انقسموا إلى فرقتين بين يدي الله عز وجل في أعظم شعائر الإسلام وهو الحج؟! كان رأي ابن مسعود ثاقباً، وهذه قضية متأصلة عند علماء الأصول: أن رأي المجتهد ليس بحجة على مجتهد آخر. فمثلاً: الآن أبو حنيفة أفتى بفتوى، والشافعي أفتى بفتوى، لا يلزم الشافعي برأي أبي حنيفة؛ لأن الشافعي عالم مجتهد عنده أصول تمكنه أن يستنبط كـ أبي حنيفة تماماً، إنما يكون رأي المجتهد حجةً على مَن هو دونه من العوام؛ لأن العامي ليس عنده ملكة الترجيح ولا الاستنباط، فله أن يتبع رجلاً من المجتهدين. فـ ابن مسعود رضي الله عنه رأى أن عثمان ما فعل ذلك لهوىً في نفسه، بل تأول، فقال لهم: (إن لي أهلاً بمكة) أي أنه أصبح مقيماً، فرأى أن القصر إنما يكون للمسافر، فقال: أنا لستُ بمسافر، فلِِمَ أقصر الصلاة؟ إذاً عثمان بن عفان فعَلَ هذا اجتهاداً منه، ووافقته عائشة رضي الله عنها في هذا الاجتهاد. وكذلك ما رواه الإمام أحمد بسند فيه مجهول، أن أبا ذر الغفاري لما كان في الربذة، قيل له: (إن عثمان أتم، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون) وهذا يدل على خطأ الفتوى من وجهة نظره، ومع ذلك عندما أقيم للصلاة صلى خلفه ولم ينازع عثمان. فانظر كيف أن خلافاً مثل هذا وسعهم. ولو حدث هذا بل لو حدث أقل من هذا بكثير جداً في وقتنا لحدثت عليه مقاطعات وتشنيعات. بل أنا أقول مثالاً أعظم من هذا: لما أراد عثمان بن عفان أن يجمع المصحف، قال لهم: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وقد كانت السور تكتب على الأوراق والعظام بغير ترتيب، أي بالترتيب الذي كان صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا) وأقصد بكلمة (بغير ترتيب) أي: على غير الترتيب الموجود الآن. فلما كانت العرضة الأخيرة في رمضان الأخير للنبي عليه الصلاة والسلام؛ جاء جبريل فعرض المصحف مرتين على النبي عليه الصلاة والسلام، فاستقر المصحف على ما هو عليه الآن، ولذلك تجد المصاحف السابقة مثل مصحف أبي بن كعب أن سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، وتجد سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، للتقارب الشديد جداً بين السورتين؛ ولذلك بعض الأئمة كالإمام السيوطي له كتاب قيم جداً اسمه "تناسق الدرر في تناسب السور" بين فيه أن هناك علاقة قوية جداً بين كل سورتين متتابعتين، مثل سورتي الفيل وقريش؛ فإن قريشاً كانت لها رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت هذه كل تجارتهم، ولو انقطعت هاتان الرحلتان لماتوا من الجوع؛ ولو دخل أبرهة أرضهم لعاث فيها الفساد، فالله تبارك وتعالى يمتن على قريش أنه أهلك أبرهة وجنوده، وجعلهم كعصف مأكول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] أي: لأجل أن تظل الألفة بين قريش. فـ عثمان بن عفان لما حدثت المعركة المشهورة التي قتل فيها القراء خشي أن يضيع القرآن بموت الحفظة، فأحب أن يجمع القرآن، فجعل لكل آية شاهدي عدل. فقال: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وأمر عثمان بإحراق جميع المصاحف ما عدا المصحف الجامع الذي يسمى الآن بالمصحف العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه. فماذا كان موقف ابن مسعود؟ قال: (والله لا أحرق مصحفي، أأنا أرجع إلى قراءة زيد؟ فوالله لقد أخذت سبعين سورة من فم النبي صلى الله عليه وسلم أقرأها عليه، وإن زيداً له ذؤابتان يلعب مع الصبيان) أي: أن زيداً كان لا يزال يلعب مع الصبيان، فأنا الذي أرجع إليه أم هو الذي يرجع إلي؟! وأبى أن يحرق مصحفه. فقال عثمان: (أيها الناس! من كان عنده مصحف فليلغه، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]) فقال ابن مسعود: أنا لا أرضى أن أقرأ بقراءة زيد. فأجبره عثمان أن يترك الذي سمع من فم النبي عليه الصلاة والسلام، ولقد كان الذي مع ابن مسعود قرآناً، وأظن لو أن هذا حدث الآن لتقومن الأرض على قدم وساق، ولكن ماذا حدث في النهاية؟ لقد نزل ابن مسعود على رأي الجميع، وإنما هي حمية كان يراها في الخير، فإن كدر المجموع أفضل من صفو الفرد، لأن تتعكر وأنت مع إخوانك خير من أن تكون صافياً وأنت وحدك. ولقد كانوا يأتون بالرجلين يشهدان للآية الواحدة، فلما جاءوا إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] الآية، ما وجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري وحده، فقبلوها منه باعتبار أن شهادته بشهادة رجلين، كما في الحديث الذي رواه أصحاب السنن كـ

إضاءات في طريق الصحوة الإسلامية

إضاءات في طريق الصحوة الإسلامية هذه الصحوة الإسلامية المباركة لابد لها أن ترجع، فتكون صحوة أثرية، ومعنى (صحوة أثرية): أن تكون صحوة بالنص، قبل أن تعمل شيئاً اسأل: ما حكم الله في هذه المسألة؟ لا تجعل حكم الله هملاً وقوله رأياً لا قيمة له، ولا يكون آخر ما تنظر إليه في المسألة هو قول الله عز وجل لماذا؟ كل خطوة تخطوها يجب أن تسأل نفسك قبل أن تخطوها: أهذا حلال أم حرام؟ يجب أن نتنبه له جيداً، لأن بعض الناس قد يقع في مثل هذا، فإذا قلت له: إن هذا حرام. يقول لك: لم أكن أعلم بذلك فما الذي جعلك لا تدري؟! وما الذي جعلك تقدم قبل أن تعرف قول الله تبارك وتعالى في المسألة؟ إذاً: هذه الصحوة تحتاج إلى هذا الضابط: وهو أن تتعلم حكم الله تبارك وتعالى في المسألة، وهل أذن الله عز وجل لك بهذا الفعل أم لا؟ جاء في ترجمة بهلول بن راشد، وهو أحد تلاميذ الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه أدمى إصبعه، فلفها بقماش حتى لا تنزف. ولماذا ذهب إلى الصلاة، نزع القماش من على هذا الأصبع ثم صلى، وظل قابضاً على هذه الإصبع لماذا؟ خشي أن يقتدي به الناس؛ لأنه في محل قدوة، وإنما فعله لشبهة عارضة، فأخبأ إصبعه حتى لا يقتدى به في المسألة، ولم تطب نفسه حتى أرسل إلى أحد أقرانه يسأله عن فقه هذه المسألة. فروى بسنده عن عبد الله بن عمر أنه كان يصنع ذلك، قال: الحمد لله الذي جعلني على سنة. الشاهد: أنه لما أتته أشكلت عليه هذه المسألة نظر فيها: هل هناك فيها نص يرجع إليه أم لا؟ يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل -أي: حبذا لو كان عندك نص يبيح لك ألا تحك رأسك إلا بأثر الرأي مرج والحديث درج، فإن كنت في المرج فسر حيث شئت، وإن كنت في الدرج؛ فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك). يريد أن يقول بهذه الكلمة الحكيمة: الرأي مرج: المرج هو البحار الواسعة أو المكان الفسيح، طالما في المسألة رأيي ورأيك، فالمسألة واسعة جداً، سر يميناً أو شمالاً، لأن الآراء لا تحد، ولا ترجع إلى نص. والحديث درج: الدرج هو السلم، أي: التزم بالنصوص الشرعية. إن كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، أي: إن كنت تمشي على مقتضى النصوص الشرعية؛ فاحذر أن تفهم خطأً، فتحرم الحلال أو تحل الحرام هذا معنى (فتندق عنقك). فهؤلاء كان التزامهم بمثل هذه النصوص الشرعية التزاماً مطلقاً عالٍ جداً، وهو الذي جعلهم في هذه السعادة الغامرة، والصلة العامرة بالله تبارك وتعالى. هذا الالتزام المطلق هو الذي يعطيك الفهم الواعي المطلوب، وهذا ما تنشده الصحوة الإسلامية الآن وهو: تقوية وازع الضمير، وتقوية جانب الورع في نفوس المسلمين. روى الإمام أحمد في كتاب الزهد قال: (حدثني سفيان بن عيينة قال: قال رجل لـ مالك بن مغول: اتقِ الله. فوضع خده على الأرض). هذا معنى: اتقِ الله. نحن الآن نقول: اللهم اجعلنا من المتقين. ثم نستمر في المخالفات الشرعية، وهذا يدلك على أنها مجرد كلمة ما مست شغاف القلب. عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اعتبر خامس الخلفاء الراشدين كما قال الإمام الشافعي، جيء إليه بقوارير العطر من الأمصار، وكان من بينها المسك، وأنت تعلم أن المسك له رائحة فواحة جداً، ولذلك كان يضرب به المثل في الأحاديث، فيقال: (أطيب من ريح المسك) والمسك الحقيقي مسك بعيد جداً عن هذا المسك، فالمسك الطبيعي فواح جداً، فلو أغلقت زجاجة المسك فإنك تشم رائحته. جيء بقوارير المسك ووضعت أمام الناس، فدخل عمر بن عبد العزيز يستقل هذه البضاعة، فأول ما دخل سد أنفه. قيل: يا أمير المؤمنين! هذا ريح! فقال: وهل يستفاد منه إلا لريحه؟! فانظر إلى مثل هذه المواقف، ثم انظر إلى الذين يتلبسون -لا أريد أن أقول: في المحرمات- على الأقل بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه). انظر إلى هذا الحديث الجامع المانع، قسم لك الأشياء الموجودة في الأرض إلى ثلاثة أقسام: - حلال محض. - حرام محض. - ثم بينهما مرتبة تتردد ما بين الحل والحرمة. فأما الحلال المحض فالكل يعرفه. والحرام المحض أيضاً الكل يعرفه، وإن أظهروا الجهل وأنهم لا يعلمون. قال بعض العلماء: وكيف لا يعلم الإنسان الحلال المحض من الحرام المحض، والحيوان يعلم به؟ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: انظر إلى الهر -مثلاً- إذا أخذ قطعة اللحم منك فإنه يجري هارباً، لا يستطيع أن يأكلها بجانبك، أما إذا أعطيتها له يأكلها بجانبك. الهر يميز ما بين الحلال وما بين الحرام، وابن آدم لا يستطيع أن يميز!! بعض علماء الأصول يقول: إن الشبهة من باب المباح؛ لأنها ليست بمحللة ولا محرمة، إنما هي داخلة في باب المباح، ومعروف أن باب المباح أقرب إلى الاستحباب والحل منه إلى الكراهة والتحريم. والإكثار من المباحات بابه واسع، فقد تجد الإنسان يأكل كثيراً فيأكل أي شيء وبأي ثمن، لكن تعوده على هذا المباح وإكثارك منه يدخله في باب الكراهة والتحريم، وهو وسيلة لمخالفة نص شرعي آخر؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)، فهذا من باب الاستحباب. ثم قد يورث هذا عنده البطر، حيث أنه لا يرضى إلا بهذا المستوى من العيش، ونحن قد وجدنا كثيراً من الناس أكثروا على أنفسهم في المباحات، وعندما ضاقت عليهم أحوالهم أبوا أن ينزلوا عن المستوى الاجتماعي الذي كانوا يعيشون فيه، مما اضطرهم بعد ذلك إلى ارتكاب الحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى -أي: ظل يقتحم الشبهات بدعوى أنها مباحة- كاد أن يقع فيه). ما هو الحمى؟ محارم الله. إذاً: فإكثارك من المباح باب إلى المكروه الذي هو باب إلى الحرام في النهاية. وانظر إلى أي إنسان تمسك بالمباح وأسرف فيه، فإنه لا بد أن يقع في الحرام. فالذين يقولون: إن الشبهة من باب المباح أخذوا هذا من قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات) قالوا: لو كانت من باب الحرام لما خير المكلف فيها، فقالوا: هي من باب المباح. ولو سلمنا جدلاً أنها من باب المباح، علمنا أن الإسراف في المباح مدعاة للوقوع في المكروه، وإذا اقتحم الإنسان أبواب المكروه قل إحساسه بالحرام. انظر إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان: أن رجلاً باع لرجل أرضاً، فبينما هو يحرث فيها يوماً، ويضرب فيها بفأسه، إذ ارتطمت سن الفأس بحجر، فلا زال يبحث حتى وقع على ذهب كثير، فأخذ الذهب وذهب إلى صاحب الأرض. قال له: خذ ذهبك، فإنما اشتريت منك الأرض دون الذهب. فقال له الرجل: إنما بعتك الأرض بما فيها، فلا آخذ الذهب. خذ ذهبك. فاختلفا، فمر بهما رجل فقالا: نحتكم إلى هذا الرجل. فقال الرجل: ألكما ولد؟ قال: نعم. لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال: فأنكحا الغلام الجارية، وأنفقا عليهما الذهب. فهذا الرجل من ورعه لا يرى أنه اشترى الذهب. وحدث في زمن التابعين: أن رجلاً باع لرجل داراً، وهذه الدار كانت على الطريق، وفي إحدى الأيام مر صاحب الدار القديم من أمام داره، وكاد حر الشمس أن يهلكه، فمر على داره السابقة، فصعد بجانبها الذي في الشمس، فخرج إليه صاحب الدار الجديد فقال له: يرحمك الله لم تقعد هنا؟! قال: إنما بعتك الدار، وظلها ليس ملكاً لي. كما قلنا: باب الورع واسع جداً، لا يحده حد، بل لو أراد هذا أن يتورع أكثر من هذا لاستطاع، كل هذا بشرط ألا يخالف حكماًَ شرعياً، فلو خالف الورع حكماًَ شرعياً كان المتورع آثماً، بل يكون الورع فيما لم يرد فيه نص خاص بمخالفته. كأن يكون هناك رجل يمشي في صحراء، ثم أدركه الجوع والعطش، فرأى خنزيراً -مثلاً- فيقول: أعوذ بالله، لقد حرم الله الخنزير، فأنا لا آكله، أنا أفضل أن أموت على أن آكل الخنزير. هذا لو مات -كما قال سفيان الثوري - لدخل النار؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] أي: في مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:3] أي: غير ملابس إثماً شرعياً، فلا إثم عليه، وهذا كله بعد قول الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] إلى آخر الآيات. إذاً: هذا الرجل في محل ضرورة شرعية، فلا بد أن يأكل، وإن تعفف عن رخصة الله تبارك وتعالى له فإنه معرض عن حكم الله -عز وجل- في المسألة، فهذا إن مات فقد قتل نفسه والعياذ بالله. إذاً: باب الورع واسع جداً؛ لكن هذا كله مشروط بأن لا يخالف ورع هذا الإنسان حكماً شرعياً. نحن نحتاج إلى هذا الباب، وهذا الباب -بطبيعة الحال- لن يأتي إلا إن استوفيت الواجبات، ثم حرصت على المستحبات فاستوفيتها، ثم دخلت في باب المباحات؛ فإنك إن فعلت ذلك فقد اقتربت جداً جداً من باب الورع. وهذا جواب سؤال على الذين يقولون: إننا نحاول كثيراً أن نجبر أنفسنا على بعض ما كان الصحابة يفعلونه من مثل هذه النماذج التي سردتها عن بعض الصحابة والتابعين، فنفشل فشلاً ذريعاً، فما الذي يجعلنا نخفق هذا الإخفاق الذريع؟ يقال: يا أخي! انظر! هل استوفيت الواجبات؟ وبعد أن تستوفي الواجبات؛ انظر! هل دخلت في المستحبات بجهد وافر؟ ولا أريد أن أقول لك: هل استوفيت المستحبات؛ فإن استطعت بعد ذلك أن تستوفي المستحبات فإنك لن تسألني هذا السؤال، أو أنا لن أسأل غيري هذا السؤال، لماذا؟ لأنك اقتربت قاب قوسين أو أدنى من باب الورع الواس

الأسئلة

الأسئلة

معنى الشهادتين

معنى الشهادتين Q ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ A هذا يحتاج إلى محاضرة خاصة؛ لأن المعنى باختصار شديد: لا معبود بحق سوى الله، يعني: لا شريك له في العبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا شريك له في الاتباع. فالشهادتان فعلاً تحتاج في شرحهما إلى عدة محاضرات؛ لأن عصب الدعوة الإسلامية يكون في تحقيق هذه الكلمة تحقيقاً عملياً، وكيف حققها المسلمون الأوائل! وكيف انحرف عنها المسلمون المتأخرون! حيث إننا نجد أن فهم بعض المشركين لكلمة "لا إله إلا الله" كان أفضل من فهم جماهير المسلمين الآن لكلمة "لا إله إلا الله" ولذلك قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم القتال الشنيع العنيف لأجل ألا يقولوها، كان يقول لهم: (قولوا (لا إله إلا الله) أضمن لكم بها الجنة)، فأبوا أن يقولوها، فالمسألة إذَنْ ليست مسألة قول، هم يعلمون أنهم إن قالوا: (لا إله إلا الله) خلعوا الأنداد وخلعوا السلطان، وانتُزع منهم كل شيء من زينة الحياة الدنيا بمجرد أن يقولوا: (لا إله إلا الله)، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] يعني: لم يعد هناك سلطان ولا هيلمان ولا هيمنة، فلذلك قاتلوا دون الاعتراف بها أشد القتال، وكان يمكن أن يقولوها ويتخلصوا من جميع الحروب التي قاتلوا فيها النبي وأصحابه، لكن المشركين كانوا يفهمون معنى "لا إله إلا الله" أكثر من كثير من المسلمين الآن. نسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر لنا محاضرات أخرى إن شاء الله؛ لكي نستتم الكلام فيما يتعلق بتحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

حكم توجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين

حكم توجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين Q ما قولكم في توجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين؟ A بالنسبة لتوجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين فنقول: إن معظم أطباء النفس يحتاجون إلى طبيب نفساني؛ لأنهم أيضاً مرضى، يذهب إليه الشاب يقول: أنا متعب. - فيقول له: أأحببت قبل هذا؟ - يقول له: لا، أبداً، ما لي أي تجربة. - يقول له: حاول تجرب. أسمعت موسيقى؟ - لا. - حاول تسمع موسيقى، لاسيما الموسيقى الكلاسيكية -مثلاً- من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة. هؤلاء الناس يحتاجون إلى طبيب يعالجهم؛ لأنهم مرضى فعلاً. لذلك ننصح أي مريض مرضاً نفسياً إن كان لا بد ذاهباً فليذهب إلى طبيب نفساني تقي، يأخذ بيده إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله عز وجل هو الذي سلبه النعمة، وهو الذي يرجعها إليه وحده تبارك وتعالى لا إله غيره، فأنت تذهب وتلتمس لعبدٍ مثلك، يمكن أن يكون هو مريض نفسياً، أنا أعرف أطباء مرضى نفسيين. يا أيها الرجل المعلم غيرَه هلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يُسمع ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ هؤلاء الذين يعانون من أمراض نفسية علاجهم -وهذا علاج مجرب- الصحبة الصالحة، يلغي كل هذه المعارف من حياته، ويعطيه الجرأة أن يقاطعهم ويخاصمهم لا، لا يستأمنهم على قلبه، وعليه بمصاحبة الأتقياء. صاحبك من إذا ذكرتَ الله أعانك، وإن نسيتَه ذكَّرك. هذا هو صاحبك، فالمشكلة من جذرها هو البُعد عن الله عز وجل بأي صورة كانت، ولو نظرت إلى أي رجل في حياته ذنب عظيم فهو الذي جعله ينطوي هذا الانطواء. فالعلاج: أن يرجع وأن يصحح هذه الصحبة. ثم يقول لصاحبه: أنا مريض، أنا مكتئب، أنا أحسست -مثلاً- أن الله لن يغفر لي؛ لأنني فعلت كذا وكذا وكذا، فيتلو عليه من آي الذكر الحكيم ما هو شفاء لما في صدره، ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يرغبه في الآخرة، ويجعله يجزم أن الله تبارك وتعالى بحسن ظنه سيتجاوز له عن ذنبه، هنا يأتي العلاج وشفاء الصدر. أما أن يطرق باب الطبيب النفساني الذي يحتاج هو نفسه إلى طبيب نفساني، فهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار. أتفر من الذي يرحمك إلى الذي لا يرحمك؟ هذا غير معقول! هذا دجال، ويريد أن يستحوذ أيضاً على ماله. ثم إن هذا الدجال الذي تستعين به -مثلاً- يستعين بالجن. بعضهم يقول: جني صالح. فأقول له: وما أدراك أنه صالح؟ أتأخذ دعوى الصلاح من فم الجني نفسه؟ الساحر أكفر رجل في الأرض، ويقول لك: أنا أعبد إنسان في الأرض، وكل ضال في الأرض يظن أنه على هدىً مستقيم. فالمعروف أن الجني لا يريد للإنسان خيراً، ومعروف أنه ليس لك عليه سلطان؛ بل العكس: قد يكون له عليك من السلطان ما ليس لك عليه، ومصداق ذلك قوله عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] هل هناك شخص يجعله الجني مستقيماً؟ طبعاً لا، هل سنصنع مثل ما صنع المفتي، الذي ذهب ليأخذ الفتوى من محافظ البنك المركزي فقال له: - أنت تتعامل بالربا؟ فقال له: أبداً يا سيدي، نحن نتعامل بالربا! فقال: يكفي يا جماعة، هذا الرجل يقول أنه لا يتعامل بالربا. فهذا يقول للجني: أنت مؤمن؟ - يقول له: نعم، أنا مؤمن. - إذاً أنا أتعامل مع جني مؤمن. طيب فما أدراك أيضاً أنه مؤمن؟ يقول: بدليل أن الجني غير المؤمن يتكلم كلاماً سافلاً. نحن أيضاً يمكن أن نقول هذا الكلام، وكما يقول الله عز وجل على لسان الجن: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11]، فيهم الشيوعي، والكافر، والنصراني، والمنافق كالإنس تماماً، فهذا الرجل عندما يقول: أنا مؤمن، ما أدراك أنه مؤمن؟ واعلموا أن هؤلاء الذين يتعاملون مع الجن لا يمكن أن يسخروا الجن إلا بعد أن يكفروا؛ لأن الجني لا يمكن أن يخدم أحداً من الإنس إلا إن طلب منه: ألا يصلي، وأن يضع المصحف في دورة المياه، وأن يعمل عملاً نجساً فيأتي بأوراق المصحف فيضعها في دورات المياه، ويقول: إن فعلتَ ذلك أنا تحت أمرك، أعمل كل شيء يخطر ببالك، وهناك كثيرون جداً ممن كتب الله تبارك وتعالى عليهم الشقاء، يكون الجني تحت أمره، ولا يكاد يقول له قولاً إلا وجده كما قال، كأنه يعلم الغيب. فهذا الجني هو الذي أعطى هذا الرجل هذه المعلومة، كما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين- فيما معنى الحديث: (إن الكهان يقذفون بالكلمة، فنجد فيها حقاً وباطلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء، إن الجني يأتي بالكلمة من الحق فيلقيها على أفواه الكهان فيخلطونها بمائة كذبة). في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان الجني يصعد إلى علو السماء ويسترق السمع، ويعرف الأخبار التي في السماء الدنيا، فينزل يلقيها على أفواه الكهان، يقول: سيكون كذا ويفعل كذا، فتنزل الأقدار على نحو ما التقط الجني، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام جعل الله تبارك وتعالى على السماء حراسة مشددة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] أي واحد من الجن يسترق السمع ويضع أذنه على بابنا ويستمع؛ نرسل عليه شهاباً ثاقباً يقتله، فماذا يفعل الجن؟ يركبون على بعضهم، إلى أن يصلوا إلى باب السماء، فيأخذ الكلمة ويطير، ثم يذهب إلى الكاهن قبل صلاة الفجر، يقول: قل لفلان: ابق في مكان كذا وكذا، ولا تمش من طريق كذا؛ لأن ثمة شيء سيقع، وسيقع كذا في بلاد كذا. يخرج إلى الناس في الصبح وفعلاً يجد هذا كما قال الكاهن تماماً، فيظنون أنه يعلم الغيب، وهذا لا يعد غيباً؛ لأن الغيب المطلق إنما يستأثر به الله تبارك وتعالى، فإذا قضى الله عز وجل أن فلاناً سيموت، فيُخبر ملك الموت أن فلاناً سيموت في وقت كذا، فملك الموت مع الملائكة الموكلين بقبض الأرواح يأخذون هذا الأمر ويبدءون بتنفيذ الأمر الإلهي في هذا الإنسان. إذاًَ: طالما علم بالخبر ملَك أو أكثر لم يعد غيباً، فالغيب غيبان: - غيبٌ مطلق لا يعلمه أحدٌ إلا الله. - وغيب نسبي: يعلمه بعض الخلق دون بعض. فهو غيب بالنسبة لنا، وليس غيباً بالنسبة للملائكة، فيأتي هذا الجني فيلقي بهذا الشيء الذي لم يعد غيباً مطلقاً على أفواه الكهنة فيُحْدِث تناقضاً، فيمكن يقول لك: أنت مكتئب لأن فلان الفلاني مات. - فتقول له: نعم. - وقد صارت عندك حمى لمدة خمسة عشر يوماً. - نعم. فتجد أن أخباره صحيحة؛ لأن الجني زوده بها. فما زال بك حتى يستحوذ عليك وعلى مشاعرك، فتتصور أنك إن ابتعدت عنه خطوة فلن تعالَج. وأنه فعلاً أتى بالمرض من قراره كما يقولون. فالإنسان يتشبث به، ويتصور أن الشفاء بيده، فلا يجوز الذهاب إلى هؤلاء العرافين؛ لأنهم دجالون؛ لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، والذي يملك هذا كله هو الله تبارك وتعالى.

حكم لبس الثوب الأحمر

حكم لبس الثوب الأحمر Q ما حكم لبس الثوب الأحمر؟ A بالنسبة للُبس الثوب الأحمر، فلو أن إنساناً يلبس جلابيةً حمراء -أحمر بحت- لا يخالطها لون آخر، فهذا أقل درجاته الكراهة، للحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم بُرداً أحمر، فعلمتُ الكراهة في وجهه، فذهبتُ إلى أهلي، فجردته واقفاً ورميت به في التنور، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن القميص الأحمر، فقلت: تيممت به التنور فسجرته -يعني: أحرقته- قال: لم لم تلبسها بعض أهلك؟! فإنه لا بأس للنساء). إذاً: الثياب الحمراء البحتة مكروهة بالنسبة للرجال. فإن قلتَ: فما قولك في الحديث الصحيح الذي قال فيه أحد الصحابة: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وعليه حلة حمراء، فكان أجمل الناس)؟ فيقال: لعل الغالب عليه كان اللون الأحمر، ولا زال الناس يحكمون بالغالب. الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الثوب الأحمر على عبد الله بن عمرو يقول عبد الله: فعلمت الكراهة في وجهه، فلا يتصور في وصفه عليه الصلاة والسلام أن يكره الشيء ثم يفعله، فلابد من هذا التأويل: أن هذا الثوب لم يكن ثوباً أحمر بحتاً، وإنما كانت تخالطه بعض الألوان الأخرى، فلم يكن كالذي كرهه النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم تأخير الأذان بعد طلوع الفجر الصادق بنحو نصف ساعة

حكم تأخير الأذان بعد طلوع الفجر الصادق بنحو نصف ساعة Q بالنسبة للفجر الصادق، لو قلت لرجل: إن الفجر الصادق هو قبل الأذان الذي يؤذن في الجمهورية عموماً بنحو ثلاثين دقيقة أو خمس وعشرين دقيقة، فهل هناك إثم علي؟ A أنت لا جناح عليك، لأنك لا تؤخره، ولا نستطيع الحكم ببطلان صلاته إلا إذا أقمنا عليه الحجة؛ لأنه قد تكلم في ذلك علماء وهم أعلم منك وأنت لست بعالم، أنا أتركها لشيخ الأزهر أو للمفتي. أما إن علم الحق مثلاً، وأُقيمت عليه الحجة بحيث لم يبق له دليل أو لم يبق له أي علة يمكن أن يعتل بها؛ فحينئذ قد يترجح الحكم ببطلان صلاته؛ لأنه خالف الحجة بغير دليل.

حكم اقتناء الصور

حكم اقتناء الصور Q هل أباح أبو حنيفة التصوير؟ وما حكم اقتناء الصور؟ A أنا لا أدري، ولا يحضرني النص عن الإمام أبي حنيفة أنه أباح الصور، وبالنسبة لاقتناء الصور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، الذين يضاهون خلق الله عز وجل، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم). فذهب العلماء إلى أن الصور المذكورة في الحديث قسمان: - قسم لم يختلف العلماء في تحريمه وهو النحت، والمقصود بها التماثيل المجسمة التي يقول العلماء فيها: ليس لها ظل. - لكن استثنى العلماء المحرمون للتصوير ما كان لضرورة كصورة البطاقة الشخصية، أو صورة الجواز، أو صورة البحث عن مجرمين، أو، أو إلى آخره، فكل الأشياء التي تدخل في نطاق الضرورة أباحوها تحت القاعدة المشهورة: (الضرورات تبيح المحظورات).

تفسير قوله تعالى: (لا يسمن ولا يغني من جوع) [الغاشية:7]

تفسير قوله تعالى: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:7] Q ما هو تفسير قوله تعالى: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7]؟ A { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] أي: أنه يأكل فلا يشبع، ويشرب فلا يرتوي، فيظل دائماً يقول: أنا جوعان، أنا عطشان، أي: يأكل الزقوم باستمرار ويشرب ماء الحميم باستمرار، وهذا أدعى لعذابه، أي أن هذا لا يسمنه ولا يغني عنه جوعه، فتظل حاجته دائماً إلى الطعام والشراب. أما بالنسبة لأهل الجنة -نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهلها وإخواننا المسلمين جميعاً- فإن جسوم أهل الجنة تختلف عن جسوم أهل الدنيا، فهذا الجسد يفنى بعد موت الإنسان وتظل الروح فقط؛ لأن الله تبارك وتعالى يوم قضى علينا أن ننزل في هذه الدنيا قال للروح: اركبي هذا البدن، فالبدن مركوب فقط لكي تمضي بك الحياة الدنيا، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، وبعد أن يموت الإنسان ما عاد له أي حاجة من هذا الجسد، فهذه الروح ستذهب إلى الجسد الخاص بها إن كان في الجنة أو في النار. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (أهل الجنة على طول آدم ستين ذراعاً) فكل أهل الجنة ستون ذراعاً، وعلى خلق آدم، جميعاً كنفسٍِ واحدة. فهذا الجسد -الذي هو كجسد آدم- يناسب الخلود، لذلك لا يمرض، ولا يهرم، ولا يشيخ، ولا تصيبه العلل، وهذا يُفهم من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على هيئة كبش فيُذبح بين الجنة والنار، فيُقال: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت). فهذه الأبدان مركبة بشكل خاص بحيث تناسب الخلود، ولذلك في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد) إذا كان ضرسه فقط كجبل أحد، فما بالك برأسه ويديه ورجليه وكتفيه؟! فكل الموجودين في النار لهم أبدان تناسب النار، وكل الذين يدخلون الجنة -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها- لهم أجسام تناسب هذا الخلود. إذاًَ: لا نقيس ما نجده في حياتنا الدنيا الآن من الهرم والتعب وغير ذلك من الأشياء على الحياة الأخروية؛ لأن لها مقاييس تختلف تماماً عن مقاييس أهل الدنيا والله أعلم.

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع Q هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده على صدره بعد القيام من الركوع على أساس أنه يعد من القيام؟ A مسألة القبض بعد القيام من الركوع مسألة اجتهادية. فالذين أفتوا باستحباب وضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد القيام من الركوع إنما أخذوه من عموم بعض النصوص الشرعية التي وردت في وصف صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، كما في حديث وائل بن حجر وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في القيام وضع اليمنى على اليسرى) فقالوا: القيام لفظ عام يشمل كل القيام، يشمل القيام الأول والقيام الثاني، فمن فرق بين القيامين فعليه بالدليل، وإلا فنحن متمسكون بهذا العموم. هذا فحوى ما أجاب به الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز عالم السعودية المبجل -رحمه الله تعالى- وعليه تقريباً معظم البغداديين من العلماء الأفاضل الذين يرون جواز بل استحباب الضم بعد القيام من الركوع. أجاب المانعون وفي مقدمتهم الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته بأن هذا العموم لم يكن عليه عمل السلف الصالح، وجاء بالقاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الذي نوصي كل مسلم باقتنائه والاطلاع عليه، وتدبره سطراً سطراً لأهميته في هذا العصر، وهو كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم". ذكر في هذا الكتاب هذه القاعدة التي تقول: (إن العمل بأي جزئية من الدليل العام لم يكن عليه عمل السلف الصالح سبيل إلى الابتداع في الدين). فأقول: ليس كلُّ عموم يُعمَل به، وإن كان السلف الصالح أعرض عنه، فهذا من أعظم القدح فيه. فضرب -مثلاً- وقال: لا شك أنه لو دخل رجل إلى المسجد فوجد رجلاً يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وجد عشرةً -مثلاً- يصلون، قال: لماذا تصلون فرادى؟! لماذا لا نصلي هذه الشعيرة جماعة؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبع وعشرين)، فلم يقل: فرضاً ولا نفلاً، وإنما قال: (صلاة الجماعة)، فلماذا نصلي فرادى؟! فقاموا جميعاً وصلوا تحية المسجد جماعة، فهل هؤلاء مبتدعون أم لا؟ مبتدعون بلا شك مع أن الأدلة العامة تعضد فعلهم، وهم لم يخرجوا عن الشرع، بل أتوا بأدلة عامة تقضي باستحباب صلاة الجماعة مطلقاً، وتحية المسجد صلاة، فهي داخلة! قال: الجواب معروف: أن هذا لم يكن عليه عمل السلف الصالح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان العمل ينهض به هذا العموم لبادر السلف الصالح إلى فعل هذا. والذين نقلوا لنا أدق الحركات والجزئيات في صفة الصلاة، فنقلوا لنا حركة الإصبع، ونقلوا لنا أن أصابع القدم تكون متجهة في حالة السجود إلى القبلة، ونقلوا لنا أن الراكع يجب أن يكون ظهره متساوياً، بحيث لو وضعت قطرة ماء على الظهر لا تتحرك، ونقلوا لنا كيفية القبض بالكف على الركبة. أفيغفلون هذا القبض الذي هو ظاهر جداً، على اعتبار أنه لو كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يوجد نص خاص في المسألة يقول: إن الضم في القيام الأول دون القيام الثاني، ويُترك هذا للعموم؟ هذا غير ممكن! ثم هناك مسألة أخرى وهي قوية جداً، وهي: أن هيئات الصلاة لا يصلح فيها الاجتهاد ولا الاستنباط، إنما هي توقيفية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فلا يجوز أن تستنبط هيئة بفهمك من النص، بل لا بد لكل هيئة من دليل قاطع. فقالوا: اجتهاد مشايخنا من علماء الحجاز اجتهاد في فهم النصوص الشرعية، وهيئات الصلاة توقيفية تحتاج إلى أدلة خاصة تقوم بها. فلذلك المسألة فيها -كما قلتُ- خفض ورفع. لكن ماذا لو أنه لم يفعله؟ مثلاً: إن كنت أنا أنكر عدم مشروعية القبض، فهل هذا الإنكار يجعلني -مثلاً- لا أصلي خلف من يرى المشروعية، ولا أصافحه، ولا أسلم عليه لا، هو مقلد لأئمة مجتهدين علماء، وهؤلاء العلماء سواء أصابوا أم أخطئوا، فهذا بالنسبة إليك بمنزلة العامي مع المجتهد، فهؤلاء من تبعهم لا جناح عليه كما يقول الإمام الشافعي: قول المجتهد بالنسبة للعامي كالدليل بالنسبة للمجتهد. انظروا إلى الكلام الجميل! أي: كما أنه لا يجوز للمجتهد أن يخالف الدليل، فلا يجوز للعامي أن يخالف قول المجتهد لماذا؟ لأن العامي سيخالف قول المجتهد بوجهين: إما بعلم الدليل المخالف، فلا يكون -كما قلنا- عامياً، وإما أن يكون أقل منه في العلم فلا يحل له أن يخالف قول العالم، وإلا كان متبعاً لهواه. ولذلك العلماء يقولون: مذهب العامي مذهب مفتيه، أي رجل عامي من المسلمين أفتاه عالم بفتوى لا يجوز له أن يخالفها؛ بدعوى أن هناك عالم آخر أفتى بفتوى مضادة؛ لأننا سنقول له: اثبت لي أن القول الذي ذهبت إليه أرجح من القول الذي صرفته؟ ولن يستطيع بمستطيع حتى يلج الجمل في سم الخياط لماذا؟ لأنه من العوام، فَقَدْ فَقَدَ مَلَكَةَ التمييز والترجيح، فكيف له أن ينتقل من قول هذا المجتهد إلى قول مجتهد آخر إلا بداعي الهوى؟! فلذلك مثل هذه المسائل يكفينا فيها اختلافاً، وإن خاصمت أخاك لأجل مسألة فرعية بحيث أنك تهجره؛ فاعلم أن صرح الأخوة هش جداً بينك وبينه، ولو كان هذا الصرح قوياً لا يمكن أن يزول لا بهذه المسألة ولا بعشرين مسألة مثلها. فمثل هذه المسائل نحن نبتعد عنها بمثل هذا النقاش. والله أعلم.

حصوننا مهددة من الداخل

حصوننا مهددة من الداخل تتعرض السنة النبوية المطهرة للمهاجمة من قبل أناس متأثرين بالشيعة والمستشرقين، فهؤلاء يحاولون التشكيك في صحتها، وذلك بطرح الشبهات، واختلاق التناقضات والمخالفات، وهذا قد يتأثر به كثير من أبناء المسلمين، وقد تنطلي عليهم هذه الأباطيل، فكان لزاماً علينا أن نعد أنفسنا ونربي أبناءنا التربية السليمة، الكفيلة بدفع هذه الشبهات وبيان زيف هذه الترهات.

الهجوم على السنة

الهجوم على السنة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فدرسنا في هذا المساء بعنوان: (حصوننا مهددة من الداخل). وأفتتح هذه المحاضرة بقول الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] نور الله عز وجل هو الذكر، قرآناً وسنة (يريدون أن يطفئوا نور الله) أي: حجة الله عز وجل على الخلق (بأفواههم) أي: بما يثيرونه من شبهات حول هذا الذكر، فالقرآن الكريم من جهة ثبوته لا يمتري أحد فيه، ولو شك أحد في ثبوت القرآن الكريم فهو كافر بإجماع المسلمين. بقيت السنة من جهة الثبوت، فهناك المتواتر الذي أجمع العلماء على أن منكره كافر، لكن هذا المتواتر لا يشكل إلا قدراً يسيراً جداً بالنسبة لمجموع الأحاديث التي ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فدخلوا من هذا الباب الواسع، المتواتر لا يشكل (1 %) بالنسبة لمجموع الأحاديث التي صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

ضرر المتعالمين على العلم

ضرر المتعالمين على العلم فظن الرجل أنه بمجرد قراءة كتاب في المصطلح أو كتاب في أصول الفقه يصير عالماً، وبدأ يستخدم كلمة الأصول يهدد بها ويرهب المخالف، فكلما قرأت عدة أسطر يقول لك: (كما هو مقرر في الأصول)، وهذا حتى يرهبك ولا تعترض عليه، ومثال ذلك: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، يقول لك: العلماء يقولون هذا، السند في البخاري مالك عن نافع عن ابن عمر يقول لك: أصلاً علماء الحديث قالوا: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن. وهذا كلام حق، فالسند صحيح مالك عن نافع عن ابن عمر، لكن المتن ما له قيمة. بدأ يدخل ويهدم في السنة من خلال هذا القول، أخذ كلام الكبار وتكلم به بغير دراية ولا روي، فاضطره ذلك إلى مساورة جبال الحفظ والأئمة الثقات الفحول، وظن أنه رجل مثل هؤلاء الكبار فساورهم، ونقول: لا. ليس كل ذكر رجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] وليس من المؤمنين ذكور، هناك ذكران الإناث أفضل منهم، لكن لا تكون المرأة أفضل أبداً من الرجل، لكن ممكن تكون أفضل من الذكر. وهذا ذكرني بقصة ظريفة: أن رجلاً ينتحل لبس رجل آخر ويظن أنه صار مثله، أو يتكلم باصطلاحه ويظن أنه صار مثله، هذه القصة ذكرها أهل الأدب منهم صاحب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك في الجاهلية، وهو من أشهر ثلاثة منهم، وشعره أكثر الشعر دوراناً في الكتب لهذه الطبقة، طبقة الشعراء الصعاليك، واسمه: ثابت بن جابر ولقبه: تأبط شراً , معروف في الكتب بـ تأبط شراً، قال تأبط شراً ثم يذكرون أبياته اسمه غير معروف. ولماذا قيل تأبط شراً؟ حكايات، منها أنه وجد الغول -حكاية- على هيئة خروف، فوضع الغول تحت إبطه، وذهب إلى أهله فقالوا: ما لك يا ثابت؟ ما هذا؟ هذا الغول، لقد تأبطت شراً، فقالوا: تأبط شراً ومضى هذا اللقب والتصق به. فهذا تأبط شراً كان دميماً ونحيفاً، فقابله رجل ثقفي فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد، قال: بهذا فقط؟ قال: ليس أكثر من هذا. ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بكم تشتريه؟ قال: بهذه الحلة الجيدة -كان لابساً قميصاً جديداً- وبكنيتي، أعطيك كنيتي على البيعة كذا، وأعطيك هذه الحلة الجيدة، قال: موافق، اخلع، أخذ منه الحلة وقال له: أنت فلان، قال له: وأنت إذاً تأبط شراً، والرجل الثقفي كان يكنى أبا وهب، قال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب! فـ تأبط شراً أرسل إلى زوجة هذا الثقفي الأحمق ثلاثة أبيات من الشعر، قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وثورتي وأين له في كل فادحة قلبي نعم. هو أخذ الاسم، لكن هل أخذ قلبي وجرأة جناني، وثباتي على الأحداث؟ هل أخذ جلدي؟ ما أخذها، أهو أبو وهب هذا الجبان الذي لبس جلد السبع، إذا قابل رجلاً وأراد أن يخوفه، يقول له: أنا تأبط شراً وقلبه ضعيف؟! صحيح إنه لابس جلد سبع، لكن قلبه ضعيف، فـ تأبط شراً أعطاه الاسم فقط، لكن بقي قلبه القوي. ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهذا الرجل بمجرد أنه تصور أن صحة السند تستلزم صحة المتن ظن أنه صار كـ أبي حاتم الرازي، أو كـ أبي زرعة الرازي، أو صار كالإمام البخاري، أو الإمام مسلم، لا. فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد لو كب على نفسه دواة حبر سنقول له: اذهب اشتغل بأي شيء إلا الكتابة، فالرجل بمجرد أنه قرأ كتاباً في المصطلح ظن أنه يستطيع أن يساور جبال الحفظ وأئمة الدين والورع، هيهات هيهات!! هذه العلوم تحتاج إلى ملكة، وحتى صحة السند تستلزم صحة المتن أيضاً.

السنة بيان للقرآن فلا يجوز العبث بها

السنة بيان للقرآن فلا يجوز العبث بها ونحن نعلم أن السنة بيان للقرآن، وإذا ضاع المبين لم تنتفع بالمجمل، لأن أغلب الإشكال يأتي من الإجمال، والمبين يزيل الإشكال، إنما أكثر المشاكل أتت من الكلام المجمل الذي يحتمل معنىً ومعنين وثلاثة وأربعة وخمسة، فيختلف الناس وتذهب العقول فيه كل مذهب، فإذا ساغ أن يلعب في هذا البيان بدعوى أن الرواة ليسوا معصومين فقد ضيعنا الدين كله، وهذه هي أعظم المحن التي ابتلي المسلمون بها، وهي أعظم من غزو اليهود لأراضي المسلمين. العبث بهذا الصرح العظيم من أناس جهلة أتيحت لهم الفرصة أن يتكلموا باسم الحياز والنقاش العلمي، فبدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ومنهم هذا البيطري الغلام الذي نشر كتاباً قبل ذلك سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، هذا الكتاب لا يساوي شيئاًَ بجانب الكتاب الذي نشره بعنوان: تبصير الأمة بحقيقة السنة، ويقول: إن هذا هو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء. الرجل ينشر فيه جهله وضلاله على الأمة، ويقول في افتتاح هذا الكتاب: إن علماء المسلمين جميعاً لا يستثني واحداً، من أيام سعيد بن المسيب، تتابعوا يقلد بعضهم بعضاً، ويسلمون بأقوال ليست بحجة حتى أقامه الله ليقيم الحجة للمسلمين، وليبين ضلال الألوف المؤلفة من العلماء الذين مضوا على توالي هذه القرون، وقلد بعضهم بعضاً بلا روية وبلا أي فهم. فهذا افتتاح الكتاب. وهذا الافتتاح ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم). رجل يدعي أنه وحده على الهدى، فالعدل والأقرب إلى سواء الصراط أن يكون هو الهالك، إذ إن الباطل أقرب من الواحد وأبعد عن الجماعة، لاسيما إذا مضت القرون الفاضلة بمثل هذا الفهم، فيأتي هذا ليعبث بهذا الصرح، صحيح أنه لا يضر السحاب نبح الكلاب، لكن بكل أسف هناك من ينطوي تحت لواء أهل السنة والجماعة ولا يفهم شيئاً عن مذهبهم، وهذه المحاضرات التي نبثها في كل مكان إنما هي حماية ووقاية لأمثال هؤلاء، وهم يشكلون سواداً عظيماً بين صفوف المسلمين. العناوين تشد انتباه الغالب الأعم، لأن أكثر الناس لا يقرءون، لذلك اختيار العناوين البراقة أحد أساليب خطف القلوب، يعني: هذا البيطري الغلام صاحب الكتاب، لما قام المسلمون العلماء وهاجموا هذا الهراء والخبل والخطل الذي نشره باسم العلم. فقال: أنتم اكتفيتم بقراءة عنوان كتابي ما قرأتم الكتاب، ويحتج بمثل هذا، يقول: لا بد من قراءة الكتاب، فلا تحكموا على الكتاب من هذا العنوان، نقول: من ينشر كتاباً بعنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فماذا تريدني أن أقرأ؟! قد لخصت كل الكتاب في العنوان (تحريم النقاب) كان لو وضع عنواناً موهماً مثل رسالة للجلال السيوطي سماها: إسبال الكساء على النساء، أنت عندما تسمع العنوان تظن أن موضوع الكتاب هو الحجاب، مع أن هذا الكتاب يتكلم عن النساء: هل يرين الله في الآخرة أم لا؟ الموضوع بعيد جداًَ، الموضوع لا علاقة له بعنوان الكتاب (إسبال الكساء على النساء) أنت تتصور أنه يتكلم في الحجاب والنقاب وهو يتكلم عن القضية المختلف فيها بين العلماء: هل النساء يرين الله عز وجل في الآخرة أم لا؟ والصواب الراجح الذي لا محيد عنه أنهن يرين الله أيضاً كالرجال. فهذا عنوان موهم، فمثله يمكن أن تقول: أنت لا تحكم على الكتاب حتى تقرأ مضمونه. لكن إذا قال: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، فقد فصل في القضية، فلو كتب رجل كتاباً وسماه مثلاً: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، تريدوني أن أقرأ الكتاب! لو أنني هاجمت هذا الكتاب وقلت: هو دعوة للفجور والفحش، يأتي يتوجع ويقول: لم يقرأ كتابي! هذا عنوان واضح جداً، و (العناوين أنساب الكتب) كما يقال. فعندما يأتي هذا الرجل ويدخل على السنة النبوية، هذا الصرح الشامخ الذي تحمَّل كل ضربات المبتدعة وما زال شامخاً، لأنه تتمة الذكر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، علماء المسلمين أجمعوا على أن المقصود بالذكر في هذه الآية هو القرآن والسنة، إذ لو جاز أن يضيع البيان لم ننتفع بالمجمل، (أقيموا الصلاة) هذا إجمال، (آتوا الزكاة) هذا إجمال، بيان الأنصبة، بيان تنوع الزكوات، بيان الركعات والسجدات، ما يقال في الركوع وما يقال في السجود، كل هذا حفظته السنة، فلو جاز أن يضيع هذا البيان لضاع كثير من أحكام القرآن والإسلام.

منهجية الحياد العلمي في ميزان الشرع ومعيار الألقاب الأكاديمية عند العلماء

منهجية الحياد العلمي في ميزان الشرع ومعيار الألقاب الأكاديمية عند العلماء فهذه المحاضرة إطلالة على الخطر الداهم الذي يدهم ديار المسلمين من أبنائهم، أو ممن ينتسبون إليهم بدعوى البحث العلمي، ودعوى الحياد العلمي الموجود الآن في مناهج الدراسات العليا ومناهج تحصيل الدكتوراه والماجستير في الجامعات، خرجت لنا دكاترة، وخرجت لنا من يدرس وعنده انتماء ضعيف لهذا الدين، سبب هذا الانتماء الضعيف هذه المناهج التي وضعت باسم الحياد العلمي. إذا أراد رجل أن يكتب في مقارنة الأديان أو في المذاهب يقول له: لابد أن تتجرد من كونك مسلماً؛ لأنك إذا كتبت عن الفرق الأخرى، أو عن الديانات الأخرى، أو الشرائع الأخرى وأنت مسلم ستنحاز إلى دينك، وإلى مذهبك، فهذا يضللك عن الوصول إلى الحق بحياد، كيف تكون محايداً لا تكن منتمياً. وظن البسطاء الذين وقفوا على عتبات طلب العلم أن هذا حق، وأنه ينبغي فعلاً أن يكون الإنسان محايداً، ويأتون بالأدلة العامة، العدل في الغضب والرضا، والعدل مع الخصوم ومع غير الخصوم، سبحان الله! أعداؤنا هل يتعاملون معنا بهذا الحياد؟! لا يتعاملون بهذا الحياد أبداً. قيل للإمام أحمد: -وقد تكلم في بعض المبتدعة- هلا سكت؟! قال: وهل سكتوا حتى أسكت؟!! أي: ماداموا هم يتكلمون فأنا لا أسكت أبداً، والكلام في أهل البدع من أعظم الجهاد لاسيما في هذا الزمان، لاسيما إذا كانت البدعة قبيحة منتشرة، مع هذا الفقر المدقع الذي يعاني منه جماهير المسلمين، أعني: فقر العلم. نشر الرجل الكتاب وكتب على آخره: حصل على بكالوريوس في الطب البيطري سنة كذا، وبعد ذلك عين فوراً معيداً، وموضوع فوق (فوراً) نقطتين، كأنه هو الذي أنقذ الحيوانات والبهائم! ها هو كل المعيدين يعينوا فوراً ما الإشكال؟ وضع (فوراً) بنقطتين حتى لا تفور، وبعد أن حضر الماجستير أخذ وعين مدرساً مساعداً، وحتى ترقى إلى حد أستاذ، وبعد ذلك رئيس قسم، وبعد ذلك رئيس لجنة السموم الثلاثية، وبعد ذلك رئيس قسم إلخ، أخذ نصف الصفحة في نياشين يشاركه فيها أي واحد وصل إلى درجة الأستاذية في الجامعة، لأنه يمر بهذه المراحل كلها. لكن الناس عندهم اغترار بالألقاب والنياشين، فمثلاً: شخص يريد أن يكشف عن مرض في جسده، فيبحث عن دكتور، فيذهب لدكتور له اسم طويل عريض وتحته خمس سطور: زميل هيكل الجراحين وزميل مشارك وصديق , وخمسة سطور، فهذا هو الممتاز، يدخل هذا زميل الجراحين في كذا وكذا وكذا والأمر أسهل من هذا، لكن الناس أسرع لهذه النياشين والألقاب، ولا مانع من أن يكتب نصف الصفحة حتى وصل إلى اللجنة الثلاثية في السموم. لكن ما هي المؤهلات الشرعية التي حصل عليها؟! أنت لا تتكلم الآن في الطب، أنت تتكلم في الشرع، فما هي مؤهلاتك في الشرع؟ دبلوم في القراءات من الأزهر الشريف! دكتوراه في الفلسفة! وأخذ في كلية الحقوق! كل هذا أيضاً على حسب النياشين العلمية لا تؤهلك أصلاً أن تتكلم في الشرع. لكن كما قلت لكم الناس أسرع للنياشين، وهذا يذكرني بصاحب القط: يقال أن رجلاً كان له قط أراد بيعه، فجاءه رجل فقال: كم ثمن هذا القط؟ قال: كذا درهم، فتركه وجاء آخر فقال: كم ثمن هذا الهر؟ ثم تركه، وجاء ثالث فقال: كم قيمة هذا السنور؟ ثم تركه، وجاء رابع وخامس وكل واحد يذكر له اسماً ثم لا يشتريه، فرمى به وقال: قاتلك الله، ما أكثر أسماءك وأقل غناءك! أسماء كثيرة ونياشين بمقدار نصف صفحة كاملة، لكن ما أقل غناءها! هذه لا تعطيه علماً ولا أدباً عندما يتكلم عن أبي هريرة، يقول: أبو هريرة كان من المصائب التي ابتلي بها المسلمون، وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بحسن نية بلا شك! ولم يكن عنده فقه ولا دراية! لذلك كان ينقل الأحاديث التي تهدم الدين ولا يدري، إذ لو كان يدري ما رواها أصلاً، لمز أبا هريرة في أكثر من عشرين موضعاً في الكتاب. أما الإمام البخاري فمسح به الأرض، قال: إن البخاري رجل طيب، (يعني: مغفلاً) ينقل الأحاديث؛ لكن لم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري! يعني: لو جاء رجل وقال سيبويه والكسائي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد والأخفش الصغير والكبير لا يعرفون أن الفاعل مرفوع بالضمة لرجموه بالحجارة، سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع بالضمة! عندما يقول للبخاري: الرجل طيب، أي: المغفل، ولم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري الذي وضع أصول هذا العلم مع العلماء الجهابذة الكبار لم يكن له دراية! تصور عندما يمشي الكتاب كله على هذه الوتيرة! وتكلم عن الصحابة والتابعين كلاماً سخيفاً جداً، كل هذا بدعوى الحياد العلمي ومنهجية: لا نجامل أحداً أصلاً، الكل أمام الحق سواء، بدءاً من أبي بكر إلى آخر شخص، نعاملهم على أساس أن الدماء متكافئة، ومشى بهذه الصورة في الكتاب كله، وسنعرض بعض النماذج، وأنا اتخذت هذا العرض صورة لتجسيد المحنة التي نعيشها الآن، ثم كيف الخلاص من هذه المحنة؟!

امرأة لبنانية تنشر كتابا تنتقد فيه السنة الصحيحة بالعقل

امرأة لبنانية تنشر كتاباً تنتقد فيه السنة الصحيحة بالعقل وهذه امرأة لبنانية نشرت كتاباً، والله فوضى لا عمر لها! نحن نحتاج إلى رجل مثل عمر، من أجل أن يجلد هؤلاء المفترين على الله ورسوله، وعلى أئمة العلم، هؤلاء ينبغي أن يحجروا حفاظاً للديانة، وحجرهم أولى من حجر الذين يستحقون الحجر الصحي، حجر هؤلاء عن المسلمين ديانة ينبغي أن يكون واجباً في عنق أولياء الأمور. امرأة كتبت كتاباً: هل النساء أكثر أهل النار؟ فمعترضة, تقول: لا. ليس النساء أكثر أهل النار، هي تدافع عن حرية المرأة وحقوقها، فمن ضمن حقوق المرأة أنها تدخل الجنة حتماً. من الذي صنع القنبلة الذرية في هيروشيما؟ ومن يصنع الأسلحة الفتاكة، وأسلحة الدمار الشامل، وصواريخ عابرات القارات، والذي يدمر الدنيا؟ ومن الذي أقام الحروب وحرق إلخ أليس الرجال؟ هم الذي ينبغي أن يكونوا أكثر أهل النار، لا اللاتي يقطعن الثوم والبصل، وهن مساكين ومكسورات الجناح، فلا يجتمع عليهن عذاب في الدنيا والآخرة! الذي يدخل النار هو الذي أفسد فقتل العباد وخرب البلاد. يا امرأة! ماذا تفعلين بحديث البخاري؟ قالت لك: ابن الجوزي قال: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، أنت أيضاً تقولين الكلام هذا؟! صحة السند لا تستلزم صحة المتن؟! سبحان الله! يعني: لو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث

العقل يحكمه الشرع

العقل يحكمه الشرع ثم تنقد الرواية فتقول لك: الرواية هذه لا يمكن للعقل أن يقبلها، والله عز وجل لم يشرع شيئاً يخالف العقل، أي شيء يرفضه العقل السوي المستوي فليس من الممكن أن ينزل في الشرع شيء يخالفه ويضاده. نقول: نعم. لكن عقلك أو عقل فلان أو عقل أبي إردان الذي نحن نرد عليه الآن. لكن عندما تختلف كل هذه العقول أليس من اللازم وجود حاكم يرجعون إليه عند التنازع، أليس كذلك؟ ألا يكون هذا العقل الحاكم هو عقل الرسول عليه الصلاة والسلام؟! لو نحن تكلمنا بهذا المستوى، أليس هو الذي ينبغي أن نرجع إليه في التحاكم؟ هذا اختلف! وهذا اختلف! وهذا اختلف! وكقضبان القطار خطان متوازيان، إذاً ماذا نفعل؟ أليس يوجد عقل ثالث يحكم بينهم؟ حتى في القضاء والقوانين يقولون: السلطة القضائية للفصل بين السلطات، السلطة هذه اختلفت وهذه اختلفت وهذه اختلفت، يقول لك: القضاء لا يعرف لمن يحكم، لا بد أن يرجع إلى عقل في النهاية تجتمع عليه كل هذه العقول. فهي تقول: هذا الحديث مخالف للعقل، طيب أين الخلاف فيه؟ تقول لك: إن حديث البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في يوم عيد، فذكر النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن، فقلن: نكفر بالله؟ قال: لا. تكفرن العشير -أي الزوج- وتكفرن الإحسان، وإذا أحسن الرجل إليكن الدهر، لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط). ما هو المنافي للعقل هنا؟ تقول لك: الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الأخلاق، يأتي في يوم عيد بدلاً من أن يقول: (كل سنة وأنتم طيبون) يقول: أنتن في جهنم وبئس المصير! أهذا الكلام يعقل!! من صاحب الأخلاق. رأيت العقل المستوي!! فتقول لك: لا. وصحة السند لا تستلزم صحة المتن. ليس أضر على العلوم من دخول غير أهلها فيها، روي أن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، وهذا الرجل كان من أبلغ الناس، فدخل يوماً الحمام، وكانت الحمامات عامة، فجاء رجل من غبراء الناس بابنه إلى الحمام، فرأى ابن صفوان، فيريد أن يبين لـ ابن صفوان أنه ليس هو وحده البليغ، فأنا أيضاً بليغ أتكلم العربية بالسليقة، قال: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك) الباء هذه تجر بلداً، لأنها حرف جر والأصل أن يقول: (يا بني! ابدأ بيديك ورجليك)؛ لكنه يريد يعرفه أنه ليس أنت لوحدك المتفرد بالبلاغة في الدنيا، أنا كذلك موجود: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك)، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا ابن صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له ابن صفوان: هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط. فعندما يدخل من هؤلاء على سيبويه يريد يتلاحن عليه، فأعظم ضرر على العلوم أن يدخل غير أهلها فيها. شخص قابل رجلاً وكان لحاناً كلما ينطق جملة يقول له: يا أخي! هذا مرفوع، وهذا مكسور، وهذا منصوب، لا يستطيع التكلم معه، كلما تكلم عدله، فجاء الرجل العالم، وطرق عليه الباب وقال: أخوك هنا؟ قال له: لا، لي، لو! أنا لو قلت: لا، ستقول: لي، لو، خذ الثلاثة واختر أحدها. لا لي لو! وقابل رجل لحان رجلاً آخر لحاناً فقال له: من أين أتيت؟ قال: أتيت من عند (أهلونا)، فقام اللحان الآخر فقال: قاتلك الله ما أفصحك! أنا أعلم من أين أخذتها: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، الرجل يتكلم بالقرآن. فعندما يدخل هؤلاء في العربية كم من الفساد يحصل أو عندما يدخل هذا البيطري في علوم الدين والحديث والفقه والاستنباط وهو ضعيف الملكة، متخلف النظر فيها، كم يكون من الجناية إذا ترك أمثال هؤلاء؟!

معنى قاعدة: صحة السند لا تستلزم صحة المتن

معنى قاعدة: صحة السند لا تستلزم صحة المتن صحة السند لا تستلزم صحة المتن، قالها العلماء لطبقة معينة من علماء الحديث، وهم العلماء الذين تمرسوا على هذه الصناعة حتى اختلطت بشحمهم ولحمهم وصار لهم ملكة فيها، حتى إن العالم من هؤلاء إذا سمع متناً بغير سند يحكم عليه بالبطلان، ثم تكتشف أنه باطل بعد ذلك، كيف حكمت عليه بالبطلان بغير سند؟ بالدربة والممارسة, ولا زالت الممارسة شيئاً أكيداً يعترف الكل به في كل الصناعات والفنون، ليس في العلم الشرعي فقط. مثلاً الطبيب الذي مر عليه أربعون سنة في المهنة يختلف عن الطبيب الذي معه أعلى دكتوراه في الدنيا ومر عليه عشر سنين فقط، لأن هذا ممارس وعنده من الخبرة أكثر من الذي معه دكتوراه، أحياناً الطبيب ينظر إلى رجل يقول هذا مريض بكذا، أأنت منجم؟ يقول لك: لا. لكن من دربته وممارسته أن لون العين تغير! أن لون الوجه تغير! أن لون الجلد تغير! يقول: هذا عنده المرض الفلاني، ويسلمون له، يسلمون لكل واحد في فنه إلا للشيخ، إذا الشيخ تكلم في الطب يقولون: أنت ما لك والطب؟ وإذا هم دخلوا يهجمون على الشيخ قال: لماذا تهجمون عليّ؟ يقولون: هذا الدين ليس لك، الكهنوتية هذه ليست في الإسلام، الدين للكل. نعم. الدين للكل اعتقاداً، لكن العلم لطائفة معينة فقط, كما أنك تنكر أن يتكلم غير الأطباء في الطب، أيضاً لابد أن ننكر أن يتكلم غير العلماء في العلم، لكن جدار المشايخ قصير والكل يتسلق عليه ولا صريخ لهم.

نماذج من الاعتراضات على السنة

نماذج من الاعتراضات على السنة نماذج من الاعتراضات التي أوردها وزعم أن علماء المسلمين جميعاً لم يفهموها وهو الذي فهمها.

حديث طواف سليمان عليه السلام على مائة امرأة في ليلة

حديث طواف سليمان عليه السلام على مائة امرأة في ليلة حديث آخر: الذي هو شتم الإمام البخاري فيه، واتهمه أنه جاهل بعلم الحديث مع أنه رجل طيب، وقال: هذه هي المصيبة في أمتنا، تنساق وراء الأسماء اللامعة، يعني: أول ما يقول له: رواه البخاري، يثق به لأنه رواه البخاري: ليس بعد البخاري للمرء مذهب قال لك: هذه هي المشكلة عند المسلمين، يلغي المسلم عقله عند الأسماء اللامعة، ما الحديث الذي كان سبباً في تطاول هذا الغلام على الإمام البخاري؟ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو هريرة، قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو قال تسعة وتسعين امرأة- كلهن تلد غلاماً يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقلها، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة، ولدت نصف إنسان، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو قالها -يعني لو قال: إن شاء الله- لكان دركاً لحاجته، ولأخرج الله عز وجل من صلبه مائة فارس يجاهدون في سبيل الله جميعاً). ما المشكلة إذاً في هذا الحديث؟! يقول لك: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، -انتبه من الذي سيأتي- ليلة واحدة تكفي لمجامعة مائة امرأة، (وانتبه جيداً)، ووضعها لك بين قوسين، ثم: هل سليمان يقدر؟ انظر إلى هذا العنين، يظن أن الناس مثله كلهم، انظر الإسفاف في رد كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتهم أبا هريرة أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (بحسن نية) بين قوسين، هذا رقم واحد. رقم اثنين: يقول لك: وهل يليق بنبي أن يتحدث بمثل هذه المسائل المحرجة على الملأ، وهم كانوا أشد خلق الله حياءً؟! ثالثاً: هل يجوز أن يفتات على الله؟ يعرف أن النساء يخلفن ذكراناً وإناثاً، ويقول: يا ربنا سآتيهن بشرط أني أريد ذكوراً فقط، مائة ذكر يجاهدون، فهذا افتيات على الله، يعني: الأنبياء الذين أدبهم الله يعملون هذه العملية؟ ولا أريد أن أكثر. يعني: يكفي أدلة على بطلان الحديث. فأنتم ترون -أيها الإخوة الكرام- أن هذا الذي ذكره معترض لا يجوز أن يذكره رجل عاقل، ولا يجوز أكثر وأكثر أن يعد دليلاً في الاعتراض، ومعلوم عند العلماء أن الكلام إذا كان له مخرج ومحمل مقبول ينبغي حمله عليه، وإلا فإننا سنرد آيات القرآن الكريم بهذا المنطق، وبهذا الأسلوب، فهذا الاعتراض يرد على كلام الله عز وجل أيضاً، لا يرد على كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا على كلام أي أحد، لماذا تجتهدون إذاً في التوفيق ما بين الآيات التي ظاهرها التعارض، فهذا الحديث لا إشكال فيه، لكن أتي الرجل من سوء فهمه، وصدق المتنبي عندما قال: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا وللرد عليه نقول: أولاً: مسألة أن يأتي نبي مائة امرأة أو ألف امرأة في يوم واحد هذه قضية ما فيها أي إشكال، إذا سلمنا أن النبي معان من الله، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قدرة أربعين رجلاً في الجماع)، ثم هل اليوم هو يومنا هذا، ولا زالت كما في الأحاديث الصحيحة الأيام تتناقص، والأحاديث المعروفة بينت أن السنة ستكون كيوم، فهل عنده دليل أن يوم سليمان عليه السلام كان بهذا القصر، ثم إن إتيان المرأة كم يأخذ من الوقت؟ دقيقة، دقيقتين، ثلاث دقائق، أنا أشعر بكثير من الحرج وأنا أتكلم بهذا الكلام؛ لكن اضطررت إلى قوله رفعاً لهذه المغالطة التي ما يكاد يتردى فيها إنسان عاقل، حتى يقول: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، إنه هام؛ يقول هذا الكلام السخيف! لو أن رجلاً عنده القدرة فعلاً على إتيان ألف امرأة لاستطاع أن يأتي ألف امرأة في زماننا هذا، وما يكون عليه أي إشكال فيها. ثانياً: هل في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وذكر لهم تفاصيل العملية: وأنا سأفعل وسأفعل؟! ليس في الحديث شيء من ذلك، في الحديث أنه قال: (فقال له صاحبه)، فليس في المجلس إلا رجل واحد. وقد ثبت في البخاري أيضاً أن هذا الصاحب كان ملكاً ولم يكن رجلاً من الإنس. ثم لو قال لي قائل في هذا المسجد: يا فلان! لماذا تزوجت بامرأتين، وتنوي أن تتزوج الثالثة والرابعة؟ فأقول له: والله يا أخي نحن في حاجة إلى رجال، تزوجت لأنجب من كل امرأة مجموعة يدافعون عن دين الله، أكنت أنا مفتئتاً على الله متألياً عليه؟ لو قلت: أتمنى أن يخرج من صلبي مائة رجل؛ ولأن الدعوة تناط بالرجال، وما تناط الدعوة وجهاد الدعوة بالنساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وهن النساء، المرأة في الجدل والمناظرة لا تستطيع أن تبين ولا تقيم حجة على أحد، ما يقيم الحجة إلا الرجال، لذلك كان منهم العلماء وكان منهم الرسل، وما نعلم أن الله عز وجل أرسل امرأة إلى أهل الأرض، إنما أرسل الرجال، لأنهم أقدر على ذلك، لذلك جعل الله للرجال على النساء درجة، بما فضل الله بعضهم على بعض، وكان هذا من جملة ما فضل الله به الرجال على النساء. ولو قال لي رجل: لماذا تزوجت؟ قلت: والله أنا أتمنى أن يكون الصف الأول في المسجد أولادي، أأنا إذا قلت هذا أكون افتأت على الله وقلت: يا رب أنا لا أريد إناثاً، إما أن تعطيني رجالاً وإلا فلا، هل أنا قلت هذا الكلام؟ وهل يفهم ذلك من قولي؟ كان له نية صالحة طيبة، يريد مائة فارس يجاهدون في سبيل الله، فقام ذاك النبي الكريم بهذه النية وأتى النساء، وينبغي أن يكون لنا هذه النية في إتيان النساء، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إني لأكره نفسي على مجامعة النساء، رجاء أن يخرج الله نسمة توحده)، يعني: قد لا يكون له رغبة أن يأتي المرأة، لكن يأتيها بهذه النية، رجاء أن يخرج الله عز وجل من صلبها ومن صلبه نسمة توحد الله عز وجل، ألئن قال هذا النبي الكريم ما قال يقال له: أنت تفتات على الله؟ وأين الافتيات على الله عز وجل في هذا؟ نلعب بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمثل هذا الهراء، وهذا السخف، إذا كنا سنتخذ هذا منهجاً علمياً فلن يسلم كتاب الله من ذلك، في كتاب الله آيات أشد إشكالاً من هذا الحديث.

حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)

حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) حديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو حديث متواتر عند علماء الاختصاص وهم علماء الحديث، هذا الحديث أنتم كلكم تحفظونه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني ودماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). يقول فض فوه: هذا الحديث مكذوب بلا شك، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، لأنه يعارض القرآن، وأتى بآيات: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]. طالما أنك لست عليهم بمصيطر لماذا تقاتله؟ أيؤمن غصباً؟ طالما أنك لا تهدي من أحببت أتريد أن تدخله بالغصب؟! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] لماذا تقاتله؟! لو قدر الله عليه الهداية لاهتدى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس) حديث مكذوب، لماذا تقاتلهم وقد كفل الله حرية العقيدة للناس؟ هل أحد يجيب؟ السواد الأعظم يقف محتاراً يعانون من أمية علمية. صدق عمر بن الخطاب المحدَّث الملهم قال: (إن القرآن حمال ذو وجوه، فخذوا أعداء الله بالسنن) لذلك أرادوا أن يلعبوا في هذا الصرح، لأن الحجة إنما تقوم عليهم بهذا الصرح، فإذا جاز له أن يلعب به ضاعت الحجة، القرآن حمال ذو وجوه، إنما السنة يصعب اللعب فيها. رجل لم يتكلم إلا ثلاث أو أربع ورقات يقول لك: كما هو مقرر في الأصول! أنا أحس أنه ماسك أعصابه. سأبين لكم الآن أنه لا يفقه شيئاً في الأصول، وهذا الإشكال هو شبه فقط، والشبه تزول بالبيان، لأنها لا يصح أن تكون دليلاً، إنما هي شبهة. الناس: لفظ عام يدخل فيه كل الخلق، إن أسماء الجنس المحلاة بالألف واللام تفيد الاستغراق، والاستغراق يفيد العموم، كما لو قلت: حيوان، هذا اسم جنس، تدخل عليه الألف واللام فتكون (الحيوان)، فالألف واللام إما أن تفيد العهد أو تفيد الاستغراق، العهد الذي هو التخصيص، كما لو قلت: يا أيها الرجل قف، يبقى أنت قصدت رجلاً بعينه، فالألف واللام هنا رغم أنها دخلت على كلمة رجل وهي من أسماء الجنس إلا أنها تفيد العهد، لأنك قصدت رجلاً بعينه ولم تقصد كل الرجال. يا أيها الرجال! هذا يفيد العهد بالنسبة للنساء؛ لأنه خرج منه النساء والحيوانات والأشجار والرمال فصار يفيد العهد على جنس الرجال فقط، ويفيد الاستغراق على جنس الرجال الذكور، الألف واللام إما تفيد العهد أو الاستغراق. لكن كيف أعرف أنها تفيد العهد والاستغراق؟ قال: السياق من المقيدات، فلفظة الناس رغم أنها تفيد العموم إلا أنها مرة تفيد الخصوص ومرة تفيد العموم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كالإبل المائة، لا ترى فيها راحلة)، يعني أن الناس مثل مائة ناقة، لكن التي تستطيع أن تركبها واحدة فقط، فالناس كثير، لكن الذين تنتفع بهم من الناس أقل القليل، هذا معنى الحديث، فالناس هنا لفظ عام يراد به الخصوص. كما قال الطحاوي في مشكل الآثار. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الناس هنا تفيد الخصوص أم العموم؟ تفيد الخصوص، لأن اليهود من الناس والآية لا تخاطبهم، والنصارى من الناس والآية لا تخاطبهم، المجوس بقية الخلق، الآية تخاطب المسلمين فقط، وليس كل المسلمين، فهي لا تخاطب الأطفال ولا المجانين، ولا تخاطب الذين لم يجب عليهم الحج، ومع ذلك فالآية لا تتناولهم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] فهذا الصبي الصغير ابن ثلاث سنوات لا يدخل في الآية مع أنه من الناس، إذاً: لفظ الناس وإن كان عاماً لكن يراد به الخصوص. ما الذي أعلمنا أنه يراد به الخصوص؟ السياق، والسياق من المقيدات. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] لفظ عام يفيد العموم أم يفيد الخصوص؟ يفيد العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل الخلق، ويدل على ذلك استخدام لفظة: (جميع) وهي من ألفاظ العموم، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] مثل لفظة: كل، ومثل لفظة: معاشر, (إنا معاشر الأنبياء) وهذه تفيد العموم. بعد هذا البيان نأتي إلى هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس) فيدخل فيه المسلمون دخولاً أولياً، لأن الأصل في الأدلة العموم -كما يقول الشاطبي - وليس الخصوص، والأصل في الأدلة الإطلاق وليس التقييد، والأصل في الأدلة عدم النسخ وليس النسخ، يبقى الأصل في الأدلة العموم، فنحن نتعامل مع لفظة (الناس) على أنها من العموم حتى نصل ونرى هذا الرجل كيف فهم هذا الحديث. (أمرت أن أقاتل الناس) يدخل في الناس المسلمون، هل المسلمون مقصودون بالحديث أن الرسول سيقاتلهم؟ لا. لأنهم مؤمنون، إذاً المسلمون خرجوا من الحديث، فالناس مؤمن وكافر، والمؤمن غير مراد من الحديث لأنه آمن، بل أنت تقاتل به، وهو من جنودك، إذاً ما بقي إلا الكافرون، الكافرون قسمان: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] كلمة (حتى) لفظ لانتهاء الغاية، يعني: سنقاتلكم حتى تدفعوا الجزية، فإذا دفعتم الجزية فلا نقاتلكم. إذاً: الكافرون قسمان: قسم دفع الجزية وهو صاغر، إذاً هل هو داخل تحت الحديث؟ لا. ليس داخلاً تحت الحديث؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: قاتلوا حتى فإذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلا يحل لنا قتالهم. القسم الثاني: المناوئ للدعوة، الذي لا يريد أن يدفع الجزية والذي لا يريدك أن تنشر الإسلام، هذا هو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهذا الكلام ليس فيه غموض، ولا يوجد فيه أي إشكال. ولو أتى الأمر من بابه! لكن علامة أهل البدع أن يحطم كل الرءوس أمامه حتى يبقى هو الوحيد الذي يرجع إليه، يعني: جماعة التكفير قبل أن يكسر الله عز وجل شوكتهم، أول أصل من أصولهم: هم رجال ونحن رجال، وثاني أصل قولهم: هذه طواغيت، أي: لا تحتج بـ الشافعي وعندك القرآن والسنة، ربنا سبحانه وتعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] يقول: يا أخي! أنا من أهل الذكر اسألني، لماذا حجرت أهل الذكر عليك أنت، وجعلت نفسك في موضع الحجة؟! لأني سأعارضه بأقوال الآخرين فيضيع بيانه، وتضيع حجته، فحتى لا أحتج بقول الآخرين فيضيعهم لك الكل، ويدمرهم جميعاً، حتى لا يبقى في الساحة إلا هو. فأنت إذا أردت أن تحتج بقولهم يقول لك: لا. اجعل من نفسك رجلاً يبحث عن الحق، أنت تعتقد شيئاً ناقشني يا أخي! رأساً برأس، فإن كنت أنا رجلاً عامياً، ما عندي أسلوب في إقامة الحجة، ولا درست. والله عز وجل لما قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أعلمنا أن الناس عالم وجاهل، ولو كان كل الناس علماء فمن يسألون؟ فمعنى: (اسألوا أهل الذكر) أي: أيها الجهلاء اسألوا من هم أعلم منكم، فهذه الآية أثبتت أن هناك عالماً وجاهلاً، فأنا رجل جاهل، يقول لك: لا، لابد أن تستدل بالقرآن والسنة، وإلا فأنت على ضلال. هذه أول درجة في سلم المبتدعة: أنه لا حجة لأحد، فهو عندما يأتي يناقش يضيع كل العلماء، نقول: العلماء جمعوا بين هذه الأحاديث، فهل من العقل أن هذه الشبهة مرت على علماء المسلمين، وهم كانوا يأتون بشبه لا تخطر على باله ويحلونها؛ خشية أن يتطاول على الناس زمان فتصير الشبهة دليلاً؟! كانوا يقترضون اقتراضات ويقوم العالم فيحل هذه الافتراضات ويرد عليها خشية أن يأتي زمان مع ضعف العلم فيتصورونها أدلة. ما بقي من الناس إلا صنف واحد من المشركين، الناس إما مؤمن وكافر، فلا خلاف أن المؤمن لا يتناوله الحديث، فما بقي إلا الكافر. الكافر قسمان: قسم يدفع الجزية وهو صاغر، إذاً هذا لا يحل لنا أن نقاتله بنص الآية، ما بقي إلا الصنف الثاني من الكفار، وهو الذي لا يريد أن يدفع الجزية، ثم هو يناوئني ولا يمكنني من نشر ديني في ربوع بلاده، هذا هو الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث. ومما يدل على ذلك دلالة أكيدة قوية ما رواه النسائي رحمه الله وأحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلفظة (المشركين) دلتنا على أن لفظة (الناس) خرجت مخرج العموم لكن يراد بها الخصوص، وأفضل ما فسر به الحديث، الحديث نفسه، وأفضل ما فسر به القرآن، القرآن نفسه، وهذا معروف، وإذا لم تجمع ألفاظ الباب لم يظهر لك فقهه، وهذا معروف عند العلماء. فأي غرابة حتى نعارض بين الآية والحديث: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. أنا أريد أن أقول له ش

خط الدفاع الأول في تربية الأبناء

خط الدفاع الأول في تربية الأبناء أين خط الدفاع الأول الذي أعده الغرباء لأمثال هؤلاء السفهاء؟ نحن قصرنا جداً، أين خط الدفاع الأول؟ دولة بلا جيش دولة مهزومة مهما كان رصيدها من المال، السعودية ليس عندها جيش قوي خائفة دائماً، الإمارات والكويت وكل البلاد التي ترفل في نعم الله عز وجل خائفة، يدها على قلبها، ليس عندها خط الدفاع الأول المتين الذي يحمي بيضة البلد. طيب! أين خط الدفاع الأول الذي أنشأناه نحن معاشر الغرباء؟! أنا لا أطالب الذين يمشون في الشارع، أطالب الذين يحضرون المحاضرة معنا، كل رجل يخطط مستقبل أولاده قبل أن يتزوج، بعدما يتزوج وينجب يكون مستقبل الأولاد واقعاً، تدخل لتزور شخصاً تقول: تعال يا محمد! قل لعمك: تريد أن تكون ماذا عندما تكبر؟ قل: أريد أن أكون دكتوراً، فهذا الولد الصغير (ابن أربع سنوات) من أين عرف دكتوراً أو مهندساً؟ الوالد هو الذي نفث في روعه، إذ يقول له: ذاكر أريدك أن تكون دكتوراً، كلما تكلم قال: أريدك أن تكون دكتوراً، قبل أن يولد له أماني يتمناها، وقد لا ينجب، وقد لا يتزوج، وقد يموت، لكن على عادة ابن آدم أن أمله أكبر من أجله وأطول. تراه يحلم حتى وليس عنده مؤهلات؛ وهذا ذكرني بصاحب جرة السمن المتعلقة، رجل فقير يريد أن يتزوج، فهو يحلم بالمال والغنى، فقال: غداً أذهب السوق وأبيع هذه الجرة، وأشتري فراخاً وبطاً وإوزاً، وبعد ذلك أغناماً، وبهائم وعجولاً، ثم أكون أكبر تاجر في البلد، والفلوس تكثر معي، أبني قصراً منيفاً الكل يتمنى يدخله، أي امرأة تتمناني، ثم أذهب وأتزوج أحسن امرأة، وبعد ذلك أنجب ولداً جميلاً، وأعلمه الأدب، ولا أرضى بالحال المائل، إذا عصاني أضرب هكذا، فأخذ العصا فضرب فكسر الجرة، فاق الرجل من حلمه على السمن الذي سقط عليه. أو رجل يحلم يبني مستقبل نفسه ومستقبل أولاده من لا شيء!! كم رجل فينا قال: هذا الولد وقف لله، كما قالت امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران:35] وأنا أسأل هذا السؤال لخواص الإخوة الذين هم مصنفون على كل موائد العالم أنهم إرهابيون، وقضيتهم مطروحة من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وغرباء مستضعفون يبحثون عن مكان لهم تحت الشمس، ولا يشعرون بهذا الاستضعاف ولا بهذه الغربة، هل خطر ببال أحدهم أن يقول: أنا سأعبد أولادي جميعاً لله، وأوقف واحداً أو اثنين للعلم؟ كم واحداً فينا فكر وعقد النية في إنجاب الولد هكذا، قد تفاجأ أن أقل من واحد في المائة هو الذي فكر، وربى أولاده وساعدته امرأته على الوصول إلى هذا الهدف النبيل.

من آثار عدم التربية

من آثار عدم التربية شكاوى كثيرة تصلني كل يوم، من بيوت المفترض فيهم الالتزام، لم يعرفوا كيف يربوا الأولاد، الأولاد أخذوا ألفاظ الشارع، وصاروا يكذبون ويسرقون وتفلت منهم القرآن، ماذا تفعلين أيتها المرأة في البيت؟ طوال النهار تغسل وتنظف. وأنت أيها الرجل؟ يقول لك: أخرج من الشغل الساعة الثانية، أدخل في شغل إلى آخر الساعة الثانية، لمن يا أخي الكريم؟ اشتغل إلى الساعة الثانية، وعلم أولادك الزهد، وقنع نفسك، ورب أولادك الذين هم رأس مالك، أكبر محن الأولاد وهو الشذوذ والفساد فهي مشكلة مؤجلة. التقصير في تربية الولد مشكلتها أنها مؤجلة إلى أن يكبر الولد ويشتد عوده ولا تستطيع أن تفعل معه شيئاً، فهو مؤجل إلى ما بعد عشر سنين، عشرين سنة. مشكلة معروضة عليّ من عدة أيام، امرأة ابنتها ذهبت وتزوجت ولداً وغداً عند المأذون، ماذا نعمل يا مأذون؟ قال لها: قولي له: وهبت نفسي لك، ووهبت نفسها وتزوجت، ثم الأم المغفلة والوالد المريض الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً يريدون أن يداروا المسألة، فقاموا وأخذوا غرفة نوم، واستأجروا شقة على حسابهم لهذا الوغد، فلما مرضت البنت وجاءها تسمم حمل، ذهبت أمها تزورها في المستشفى، قابلها الوغد بالسباب، قال: أتيت تأخذي امرأتي! دخلت على ابنتها تبكي عليها لأنها مريضة، تقوم البنت مكشرة في وجه أمها، لماذا؟ أشتمت محمداً؟ قالت: يا ابنتي لم أشتم أحداً. ذهبت تزورها فقابلتها بهذا الوجه، وبعد ذلك تقوم من تسمم الحمل -ويا ليتها ماتت- فتبلغ الشرطة عن أمها أنها أخذت غرفة النوم منها بالقوة، من أجل تستلم غرفة النوم، تقوم الأم تأتي وتسأل: هل أعطيها غرفة النوم أم لا؟ أعني أن هذا شيء يفور الدم!! وتأتي أمام العمارة، والأسرة الوادعة التي ما كان أحد يسمع لها صوتاً في العمارة افتضحت، صراخ وعويل، ويأتي الناس كلهم لينظروا، ويغمى على الأم مرات عديدة، فهذه هي الخسارة المؤجلة، أنت تنفق على من؟ تشتغل اثنتي عشرة ساعة في اليوم لمن؟! ربّ أولادك فهم رأس المال.

التربية في الصغر

التربية في الصغر أين الخط الدفاعي الأول الذي قصرنا جميعاً في إيجاده حتى الآن؟! حتى نرد على أمثال هؤلاء الذين يطعنون في ديننا ويريدون هدم هذا الصرح على رءوسنا جميعاً، وإذا هدم هذا الصرح فلا قيمة لنا في الحياة ولا نستحقها، التمكين -أيها الإخوة الكرام- يحتاج إلى جيل، وهذا الجيل يحتاج إلى تربية من وقت الرضاع، ولهذا السبب موسى عليه السلام من أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن، ولم يذكر ميلاده إلا مرة واحدة في سورة واحدة، وهي سورة القصص، لماذا؟ انظر مطلع السورة، وهذه السورة سورة المستضعفين، أيها المستضعف! تريد أن يُمكن لك، اقرأ سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6] كيف يكون هذا المن يا رب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] يبقى التمكين يأتي من الرضاع، لا تترك الولد حتى يكبر وبعد ذلك تقول له: تعال نجعلك شيخاً، أو عالماً: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب سبحان الله العظيم! عامل ولدك معاملة الشجرة التي تغرسها أمام دارك، أحياناً تمشي أمام دارك، فترى الشجرة التي مازالت عوداً صغيراً مشدودة بحبل، لماذا شددتها بحبل؟ لكي تكبر معتدلة. لماذا لا تتركها حتى تصير شجرة كبيرة قوية ثم تشدها بجنزير؟ لو أن رجلاً فعل هذا لاستحمقوه، فعامل ولدك معاملة هذه الشجرة، وعدله مادام صغيراً، لا يمكن له أبداً إلا إذا كان على النهج السديد، فهذه السورة أفادت أن الذي يبحث عن التمكين لابد أن يبحث عنه التمكين من وقت الرضاع. بل أقول: إذا بحثت عن التمكين فابحث عن التمكين من وقت وضع النطفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) إذاً: من التمكين للولد ألا يضره الشيطان أبداً، هذا هو الذي يمكن له، إذاًَ: نريد جيلاً يمكن له، فمن وقت وضع النطفة نسمي الله عز وجل. الآن يا إخوة! المشكلة التي نبعت من محافظة الدقهلية ومن مدينة المنصورة، هذا هو التعاون مع اليهود، وهذا هو أول الغيث. بنت تطلب رجلاً، هذا هو المطلوب، لماذا لا يكون العكس؟ أن الرجل يطلب امرأة؛ لأن طلب الرجل للمرأة مشكلة، لأن المرأة قد تفضحه، لكن إذا كانت المرأة هي الطالبة انتهت القصة، إذاً: لا فضيحة، وبعد ذلك الرجل ركب فيه الميل الغريزي إلى النساء بطبعه، فإذا وجد امرأة تطلبه انتهى الإشكال، ولذلك استدل العلماء بهذا على عفة يوسف عليه السلام، وعلى طهارة نفسه, عندما تعفف عن امرأة العزيز تحت المقولة القائلة: ظهر المقتضى كلما كان ذلك أرفع. يوسف عليه السلام تقول له امرأة العزيز: (هيت لك). إياك أن تتصور أن عفة يوسف عليه السلام كانت كعفة أحدنا، أو كانت كعفة الرجل الذي كان في أصحاب الغار عندما قال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال من النساء، فراودتها عن نفسها فأبت، فأصابتها سنة إلى آخر الحديث، فقال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. هذا الرجل الذي قام عن المرأة وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، ووصل إلى بغيته وأمنيته، وبمجرد ما قيل له: اتق الله، قام واقفاً، هذا الرجل عملاق، ومع أنه عملاق فإنه يعتبر قزماً بالنسبة ليوسف عليه السلام؛ لأن الدواعي التي كانت حول فعل يوسف كانت أعظم بكثير من الداعي الذي كان عند الرجل، وأنت خذ الدواعي هذه كلها ثم قارن. أولاً: يوسف عليه السلام كان شاباً، والشاب يجد من قوة الشبق ما لا يجده الكهل والشيخ، وهو شاب لم يتسر ولم يتزوج، هذا رقم واحد. ثانياً: ثم هو عبد، والعبد ليس عنده من النخوة ما عند الحر، ثم هو مملوك، والمملوك حريص على إرضاء مالكه، ثم هو غريب، والغريب يفعل في دار الغربة ما لا يفعله الحر المقيم بين أهله وإخوانه، والمثل عندنا يقول: (البلد الذي ما تعرف فيها أحداً اعمل فيها ما بدا لك)؛ لأنه غريب لا أحد يعاتبه، ولا يرعى عين أحد، ثم المرأة جميلة، ثم هي الطالبة فقد أمن من الإحراج، وأمن من الخوف أنها تنزل به العقاب، ثم المرأة ذات سلطان وتهدده، فكان ربما يقول: أنا عملت الذي علي، وقد هددت بأنها ستدخلني السجن، وأنا أعمل ماذا إذاً؟ يقول: أنا تعديت مرحلة الاختيار إلى مرحلة الإكراه، فهي امرأة ذات سلطان وقادرة على إيقاع العقوبة، ولكنه مع ذلك يرفض. ثم فوق ذلك غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، مع كل هذه الدواعي المتوفرة على الفعل يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] فأين في الناس يوسف عليه السلام؟ فالرجل عنده من الغريزة للمرأة، ولذلك قال عليه السلام قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] أصبُ من الصبوة، أي: أكون صبياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء، ما رأيت أذهب للب الرجل العاقل منكن) تلعب به وهو العاقل، الرزين الهادئ، الذي عقله يزن بلداً، لكن أمام المرأة صار صبياً، ولذلك تجد المرأة الماكرة تطلب طلباتها في وقت إقبال الرجل، وهو مقبل مرتاح تطلب الذي تريده، (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ): أي يصير الرجل العاقل صبياً {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. أين خط الدفاع؟ وهذا أول الغيث: (فتن كقطع الليل المظلم) كجسد بلا كرات دم بيضاء تدافع عنه، إذا كنا نحن في محنة من أعظم المحن، فكيف أيها الغرباء -أنتم على وجه الخصوص- لم تتخذوا للأمر عدته، ولم تتأهبوا لهذه المعارك الفاصلة التي ستأتي على كل الجبهات، أين الجنود الذين أعددتموهم لله عز وجل؟ إني أعيذ نفسي وإياكم من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في الجحود والنكران وإهمال الدين، وترك نصرته.

عبر من غزوة تبوك

عبر من غزوة تبوك إن الله تبارك وتعالى أنزل آية أخرها ثماني سنوات: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] هذه الآية تتحدث عن حادثة الهجرة، ونزلت في غزوة تبوك، لأن غزوة تبوك كانت غزوة في غاية الصعوبة، وسمي جيشها جيش العسرة. أولاً: كانت في حر شديد، وقال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، فرد الله عليهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]. ثم كانت الغزوة في وقت طابت فيه الثمار، فكل رجل ينتظر الحصاد، فالناس تريد المقام في زراعتها حتى تحصد. ثم استقبل النبي صلى الله عليه وسلم سفراً بعيداً ومفازاً، سافر إحدى وعشرين يوماً مشياً على الأقدام في هذا الحر الشديد، فتخلف المنافقون، بل بعض فضلاء الصحابة تخلف، منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وأبو خيثمة، لكن أبو خيثمة كان متزوجاً بامرأتين، كل امرأة تهيئ المقام لـ أبي خيثمة، مهيئة الخيمة ومبردة ماء ومحضرة طعام، فدخل أبو خيثمة ووجد النساء متهيئات، أول ما جلس تذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخٍ يا أبا خيثمة! يعاتب نفسه، أبو خيثمة بين امرأتين حسناوين! وظل ظليل! وماء بارد! ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والشمس، والله ما هذا بالنصر! وقام قال: والله لا أطعم طعام واحدة منكن ولا أشرب شراب واحدة منكن، وجهز نفسه ومشى. وأبو ذر أبطأ عليه بعيره، ترك البعير ومضى، أخذ الخرج ومضى على رجله، لأن قلبه ممتلئ حماساً، مع أنه ربما كانت الدابة مع مشيتها البطيئة أسرع منه، لكن قلبه شاب. فكانت الغزوة في غاية الصعوبة، وبدأ بعض المسلمين يتفلت، وتفلت كثير من المنافقين، فأنزل الله هذه الآية تثبيتاً له: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] في هذه الغزوة هو لا يحتاج إليكم، لقد نصره بغير واحد منكم، ما احتاج لكم، كان هو وصاحبه فقط ونصره الله عز وجل، فلو تخليتم عنه في هذه الغزوة فلا عليكم أن تتخلفوا، إلا تنصروه في هذه الغزوة وتقفوا موقف الرجال فلا حاجة لله فيكم: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] فنصره الله عز وجل. فلا نريد أن ندخل تحت هذه الآية ونتقاعس، لابد من دراسة جدول حياتنا، لماذا خلقنا؟ وهل الخط الذي نمشي فيه خط سديد؟ هل إذا قابلنا الله عز وجل وسألنا عن ديننا سندلي بحجة ونتخلص بعذر، أم سنقف بلا عذر ولا حجة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

حديث القدرية

حديث القدرية عقيدة أهل السنة هي أوسط العقائد فيما يتعلق بمسائل الخلاف؛ إذ إن أهل السنة يخالفون أهل البدع والضلال في مسائل الأصول، بينما يعدون مسائل الفروع مما يسع فيه الخلاف؛ لذلك كان موقف أهل السنة من القدرية من الصنف الأول الذي لا يسع فيه الخلاف، بل الأصل فيه المفارقة والمفاصلة، وهذا يظهر جلياً في منهج أهل السنة وتطبيقهم لهذا المفهوم في موقفهم من الرافضة، والتحذير من الدعوات المطروحة للتقارب الفكري معهم، والذي ليس لها نتيجة في النهاية إلا تذويب هوية أهل السنة، وصرفهم عن العقيدة الصحيحة.

الاختلاف بين أهل السنة والقدرية اختلاف أصول

الاختلاف بين أهل السنة والقدرية اختلاف أصول قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر. وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر في البصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّين أو معتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قَدَر وأن الأمر أُنُف- قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُرَآء مني، ثم يقول عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب ومعبد الجهني كان يقول: لا قَدَرَ، والأمرَ أُنُف. الأمرُ أُنُف معناه: مستأنف، يعني: أن الله تبارك وتعالى لا يعلم بالشيء حتى يقع -تعالى الله عما يقول معبد ومتابعوه علواً كبيراً- فنفى علم الله السابق لأفعال المكلفين أو لأفعال العباد. يقول: لا قدر، والأمر مستأنف بالنسبة لله. هذا كافرٌ أم لا؟ هذا كافر، لا شك في ذلك؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر؛ لأن البراءة من المسلم لا تجوز، وهذه المقالة كفر، وقائلها كافر؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر. فواعجباً لهؤلاء الجهلة، الذين يصرخون صباح مساء: قَرِّبوا بينكم وبين الشيعة. نقول: لا تقارب بيننا وبينهم! لماذا؟ لأننا مختلفون معهم في الأصول، فلو كنا مختلفين في الفروع لكان الأمر قريباً. فمثلاً: أنا حنبلي المذهب، وأنت شافعي المذهب، أو أنا مالكي، وأنت حنفي، ونحن مختلفون في مسائل الأحكام الشرعية العملية التكليفية، فالمذاهب مختلفة في بعض هذه المسائل، ومتفقة في بعضها، ومع ذلك لا يجوز لأحدٍ أن يتبرأ من الآخر في مثل هذه المسائل؛ لأنه يسع الخلاف فيها. لأجل هذا أنكر العلماء العاملون الفاهمون بعض التطرف الذي حصل من بعض العلماء، مثل ما يقول أحد علماء الشافعية -وهذا موجود في كتاب كفاية الأخيار في الفقه الشافعي-: أنه لا تجوز الصلاة خلف حنفي. لماذا؟ قال لك: لأن الحنفي يرى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، والشافعي يرى أنه ينقض الوضوء، فإذا توضأ حنفي ومس فرجه فيكون وضوءه قد انتقض، فإذا صلى إماماً بالناس فكأنما صلى بغير طهارة، فلا تجوز الصلاة خلف هذا الحنفي. فالواجب أن يُنْكَر على قائل هذه المقالة أياً كان منصبه، وأياًَ كان مقدار علمه. لماذا؟ لأن المسألة من مسائل الاجتهاد، وقول الأحناف فيها له وجه. والذي توصل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه جمع ما بين القولين: الشافعية والمالكية والحنابلة، يقولون: من مس فرجه؛ رجلاً كان أو امرأة فوضوءه منتقض، ويلزمه إعادة الوضوء؛ لأن الحديث صريح، واللفظ صريح: (من مس ذكره فليتوضأ). والأحناف يعتبرون بحديث طلق بن علي: (ما هو إلا بضعة منك)، فسواءً مسست أنفك أو مسست أذنك أو مسست رأسك أو مسست ذكرك، فكله شيء واحد، فشيخ الإسلام ابن تيمية جمع بين حديث طلق بن علي وحديث بسرة بنت صفوان، وكان نتيجة هذا الجمع أن الأمر في حديث بسرة ليس للوجوب، إنما جعله للاستحباب. فيكون: (مَن مس ذكره فليتوضأ -استحباباً-؛ إذ ما هو إلا بضعةٌ منك). فيكون بهذا قد جمع بين القولين. وحتى لو قلنا: إنه لم يجمع بين القولين، فالأحناف لهم وجه في الدليل. إذاً: لا يقال: إن هذا طهارته انتقضت، وأن هذا يصلي بلا وضوء إلى آخر هذه الإلزامات التي لا وجه قوي لها. ومثل هذا القول ذكَّرنا بجرح بعض علماء الحديث لبعض رواة الحديث قديماً قبل أن يستقر علم الجرح والتعديل، حيث مَرَّ أحد أئمة الجرح -ولعله حماد بن زيد - على رجل يبول قائماً، فقال: لا أروي عنه أبداً. - فقيل له: إن بول الرجل قائماً جائز لحديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً). سباطة قومٍ: مقلب الزبالة، والعلة المذكورة في بوله صلى الله عليه وسلم قائماً ضعيفة لجُرْحٍ برُكْبَتُه كما نُقل، فكان لا يستطيع أن يقعد، فبال قائماً لهذا، وهذا التعليل ضعيف الإسناد ولا يصح. إنما (بال قائماً) هكذا بالإطلاق. إذاً: هذا فيه دلالة على جواز البول قائماً؛ لكن يُخشى على الذي يبول قائماً أنه يستقبل الريح، فالريح ترجع رذاذ البول على ثوبه، إلى آخره؛ لكنه إذا جاء على مكان رطب كرمل أو تراب أو نحو ذلك وبال قائماً وأَمِن من رجوع رذاذ البول إليه فهذا لا بأس به. فلما رأى الرجلَ يبول قائماً، قال: لا أروي عنه. - فلما سئل عن ذلك قال: إنه يبول قائماً، فيرتد الرذاذ إليه، فيصلي وعلى ثوبه نجاسة فصلاته باطلة. فالعلماء ردوا مثل هذا الجرح، وقالوا: هذا جرحٌ بالتأويل، أي: أنه يفترض أن الرجل حين يبول قائماً فإن الرذاذ سيرجع عليه، ويفترض أنه سيصلي بنفس الثياب وهو عالمٌ بالمسألة، فهذا جرحٌ بالتأويل وهو مردود، ولذلك لم يعتبروه، وروَوا عن هذا الراوي ولم يعتبروا بمسألة الجرح بالتأويل. فلذلك رد العلماء مسألة الجرح بالتأويل؛ لأن فتح باب التأويل مشكلة. فالأحكام الشرعية العملية التي يسوغ فيها الخلاف لا نبني على الاختلاف فيها، ما نبينه على الاختلاف في المسائل الأصولية.

ظهور كفر الرافضة

ظهور كفر الرافضة إن قال لك أحدهم: إن القرآن الذي بين يديك ثلث القرآن الحقيقي، والقرآن الحقيقي عندهم (18000) آية، وهؤلاء هم الشيعة الإمامية أصحاب إيران ومسألة تحريف القرآن مسألة ثابتة في كتبهم، وبما أن القرآن عندهم قرابة (18000) آية، والقرآن المذكور عندنا في المصاحف حوالي (6000) آية ونيِّف، (3 × 6 =18) يعني أن الموجود عندنا هو ثلث القرآن فقط. إذاً، فثلثا المصحف المزعوم على ماذا يحوي؟! قالوا: يحوي على مناقب علي بن أبي طالب والعترة، وإمامة علي، وخلافة علي بن أبي طالب، والبغاة الذين خرجوا عليه كل هذا، وأن هؤلاء الصحابة كلهم كتموا هذا من أجل أن يسلِّموا الخلافة لـ أبي بكر الصديق. ومن أصولهم أيضاً: أن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق، ما عدا ستة منهم، وأظهرُ الملعونين عندهم: أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة.

ظهور كفر الخميني في كتاباته

ظهور كفر الخميني في كتاباته والخميني الذي كان يهلل له جميع الشيعة وقالوا عنه: إن هذا الرجل هو المنقذ وهو المخلص، ألف كتباً وأورد فيها دعاء من تأليفه، وكان يعلمه لأتباعه، وكان يدعو في هذا الدعاء على أبي بكر وعمر فيقول: اللهم العن الطاغوتَين الكافرين أبا بكر وعمر والعن ابنتَيهما. وفي كتابه أيضاً في كتاب الطهارة: في أحكام السلام: أنه لو سلم شيعي على سني فإنه يلزمه أن يغسل يده بالتراب، ويصرح في أكثر من موضع أن السني أنجس من الكلب. وكتبه مطبوعة والذي يمتري في هذا نأتيه بهذه النصوص من الكتب. وهذا الخميني الذي يعتبره أصحابه القائد المظفر صاحب الثورة المجيدة. فلا عجب أن كفَّره الشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، وجماعة من علماء المملكة، وصدر في تكفيره كتيب بعنوان: (لماذا كفر علماء المسلمين الخميني؟). فهؤلاء الشيعة مختلفون معنا في الأصول. فالذي يقول: نقرب المذهب بيننا وبين الشيعة فهذا رجل جاهل ليس عنده فَهم. إنما يحصل تقارب بيننا وبين من اختلف معنا اختلافاً سائغاً يجوز الاختلاف فيه؛ لكن أن نختلف في الأصول ثم ندعو إلى التقارب، فهذا ما لا يجوز. نحن بُرَآءُ منهم، وهم برآء منا، مع العلم أنهم يتبرءون منا جهاراً، وأهل السنة في إيران يعامَلون معاملة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر، فأهل السنة في إيران مضطهدون غاية الاضطهاد، لو أنهم موجودون بين ظهراني اليهود والنصارى للَقَوا من الأمن ومن الحرية أكثر مما يجدونه في إيران. فالأصل أن لا يحصل تقاربٌ بيننا وبينهم على الإطلاق، لكن قاتل الله السياسة، ولعن الله مادة (ساس) و (يسوس) وما انشق منها. لأن من لوازم هذه (السياسية)، أننا لو اصطلحنا مع إيران غداً، ستُفتح مراكز ثقافية، ويدرَّس المذهب الشيعي رسمياً، ويحصل تبادل للبعثات الثقافية والعلمية بيننا وبينهم، والتشيع مثل الجرب، فمن يبتلى به فإنه يظل يحك طول عمره، ولذلك فكل مَن ابتلي ببدعة في بداية طلبه للعلم، فإنها تلازمه إلى أن يموت ولو بجزءٍ يسير. انظر إلى أي واحد ممن كان في جماعة التكفير، أو في أي جماعة من الجماعات الدعوية المنحرفة، إذا وصل إلى الحق في نهاية المطاف يظل عنده رواسب وظلال تلقى عليه، وهذا بخلاف من بدأ عمره وحياته على دعوة الحق، فالفرق كبير جداً وشاسع.

خطورة الدعوة إلى التقريب بيننا وبين الشيعة

خطورة الدعوة إلى التقريب بيننا وبين الشيعة فمسألة التقارب هذه مسألة خطيرة، وكأن المسألة قريبة، وأنها يُمَهَّد لها، فبدءوا ينشرون بعض مسائل المذهب الشيعي عندنا، مثل نكاح المتعة، فهم يتكلمون ليل نهار في الجرائد والمجلات عنه، مع أنه عند أهل السنة كما في الصحيحين محرم إلى يوم القيامة، ولم يُبَحْ نكاحُ المتعة إلا ثلاثة أيام فقط، ثم حرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، الآن يستغلون الظروف الاقتصادية الضيقة والتي بسببها عجز الشباب عن أن يتزوج، واحتجوا بكل أسف بما صدر عن لجنة البحوث، حيث اعتبروا المذهب الشيعي أحد المذاهب المعتمدة، ولذلك وضعوه مذهباً في موسوعة الفقه الإسلامي التي كانت قديماً أول ما صدرت تسمى موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، فلما مات حولوا الاسم مباشرة وجعلوه: موسوعة الفقه الإسلامي، وقد صدر منها خمسة وعشرون مجلداً، وتوقفت عن الصدور، وكل الخمسة والعشرين مجلداً السابقة لا زالت تتناول حرف الألف.

دور العلمانيين في تقويض أصول الدين

دور العلمانيين في تقويض أصول الدين حين ذكر أصحاب موسوعة الفقه أن المذهب الشيعي أحد المذاهب المعتمدة، احتج عليهم العلمانيون الذين يلعبون في بنياننا، حتى الصلاة صارت بالمزاد، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فتجد أن كل من يرشد إلى الصلاة يقال له: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. حتى يطلع الجيل الجديد فيرى كل ثوابتنا مهزوزة. وحتى (لا إله إلا الله) ستهز، لا تظن أنها لن تُهَز أبداً! لحديث حذيفة: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا يعرفون قليلاً ولا كثيراً من الدين، لكن يقولون: لا إله إلا الله -أولادهم يسألونهم: ما معنى لا إله إلا الله؟ فيقولون: والله -يا بني- لا أعرف، أنا جئتُ فوجدتُ أبي يقول: لا إله إلا الله، فأنا أقول هكذا- يدْرُسُ الإسلامُ كما يدْرُسُ وَشْيُ الثوب، والوشي هو الرسم والزينة التي تعمل على الثوب، فالإسلام يذوب مثل ذوبان هذه الرسوم التي تكون على الثياب- حتى لا يدرون ما صلاة، ولا زكاة، ولا حج، ولا يعرفون شيئاً) فيقولون لأولادهم: ورثنا هذه الكلمة عن آبائنا وهم لا يفهمون شيئاً عنها. فيأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون كلمة التوحيد. فهؤلاء العلمانيون أتوا إلى كل شيء ثابت فهزوه. كمسألة الختان بالنسبة للإناث مثلاً: جاء ناس بعد أربعة عشر قرناً من الزمان وقد تقرر عند جميع المسلمين أن الختان إما واجب أو مستحب، فهو على أي حالٍ مشروع ومتقرر عندنا خلال أربعة عشر قرناً، وفجأة ظهر أن الختان ليس من الدين في شيء! وأن هذه عادة جاهلية! فإذا ما كبر الولد الصغير -وطبعاً الولد جاهل، لا يعرف شيئاً عن دينه- يقول: أربعة عشر قرناً وهم يضحكون علينا، وقد أدخلوا في الدين ما ليس منه؟! ما المانع أن يكونوا قد ضحكوا علينا في حكم آخر وحكم ثان وثالث ورابع؟! إنهم يقولون: إن الختان غير مشروع، وصدر قرار رسمي وصُدِّق عليه: أن الختان جريمة، ومَن ارتكبه يعاقب بالسجن وغرامة ثلاثمائة جنيه، ومع ذلك لا زال يدرَّس في مناهج الأزهر! ماذا يعني هذا الكلام؟! أيعني أن الأمر مجرد لعبة؟! ثم يأتون إلى مناهج السنوات الأولى مثلما عملوا في كتب الدين الخاصة بالسنة الرابعة: في زمن الود والإخاء، الولد في المدرسة دعا زميله وأباه وأمه إلى بيته، وتظهر والدته في الصورة محتشمة، وكذلك والدة زميله، ثم قعدوا على المنضدة وأكلوا جميعاً، فقال أولئك العلمانيون: ما دمنا نحارب الحجاب، ونصدر قرارات بمنع الحجاب، إذاً: لماذا نضع صورة امرأة لابسة مثل هذا اللباس؟ كأنني وكأننا رسمياً نقول: إن تغطية الشعر من الدين، مع أن المفروض أن ندعو إلى خلاف ذلك، فلما جاءت كتب الدين بعد هذا في السنة التي تليها مباشرة ظهرت الأم متبرجة، والتي تزورها أيضاً متبرجة، والكل يأكل أيضاً على المنضدة، فتفطنوا لذلك من أجل ألا يبقى أي شيء للفضيلة على الإطلاق. فما عليكم إلا أن تنتظروا وتصبروا على أنفسكم إلى أن تزيلوا الختان من مناهج الأزهر، وتضعوا المناهج الجديدة التي هي ليست من الدين، وتستخدموا الذين سيحاسبهم الله حساباً عسيراً في هذا الأمر ليكتبوا لكم فتوى شرعية: أن الختان ليس من الدين، فيكبر الولد وهو يدرس في الأزهر أن الختان ليس من الدين، وهذا سيحدث نوعاً من الصراع النفسي، فكتب الأزهر الرسمية تقول: إن الختان ليس من الدين؛ بينما كتب الفقه تثبت أنه من الدين. وأكثر من ذلك؛ بل والشيء الذي يغيظ ويفجر المرارة: أن المذهب الشافعي عندنا هو المذهب السائد، والمذهب الشافعي هو المذهب الأول في الأزهر، والحكم الشرعي في المذهب الشافعي: أن الختان واجب، انظر العجيب في المسألة! يعني هو المذهب الأول الذي يدرس، والفتوى في المذهب الشافعي كما ذكر النووي في المجموع شرح المهذب: أن ختان النساء واجب، فلما يكبر الناشئ ويجد الثوابت تهتز، ولا شيء ثابت على الإطلاق، فما الذي يمكنه أن يعمله، فتهتز حينئذٍ العلاقة بين النشء وبين دينهم، ويسيئون الظن بالعلماء، ويظنون أنهم لعبوا في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأخرجوا منه ما هو فيه، فيحصل هذا. فلما يأتي أصحاب هذه الفتاوى ويقولون: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، فإن العلمانيين سيطبلون ويزمرون ويقولون: يا إخواننا! إذا كنتم أنتم رسمياً تقولون في أبحاثكم العلمية: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، وأنه يجوز اتباع المذهب الشيعي في بعض المسائل فتعالوا للناقش هذه المسألة: الشباب غير مستطيع للزواج، وكذلك البنات، والمهور غالية، فلماذا لا نزوجهم بنكاح المتعة؟! أي شاب معه خمسة عشر جنيهاً فليتزوج ليوم أو يومين، والذي معه مائة جنيه يتزوج لمدة أسبوع أو أكثر، وهذا يجعله يجدد دائماًَ، فمتعته تكون مستمرة، وهذا الشيء جيدٌ وليس سيئاً، لماذا تريدون أن تحرموا الناس؟ لماذا أنتم مغتاظون من الناس؟ لماذا تربطون الرجل بامرأة واحدة طوال العمر؟! دعوه يجدد، فالمذهب الشيعي نحن نراه أنه مناسب للظروف الاقتصادية، وأنتم تقولون في أبحاثكم الرسمية أنه مذهب معتبر. فيأتون لنا بهذا الكلام!

عقيدة التقية عند الرافضة

عقيدة التقية عند الرافضة لما تأتي -إن شاء الله- إيران وتشرفنا بمجيئها وتدخل علينا، سيكون رافضتها أعداء لكل شيء فمذهبهم الرسمي واعتقادهم البراءة من أهل السنة، فما بالكم إذا جاءونا بمذهب التقية الذي ينقلون بشأنه عن جعفر الصادق -وكذبوا على جعفر الصادق - قوله: التقية ديني ودين آبائي. فالتقية: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، يكون الشخص منهم يكرهك ثم يقول لك: أنا أحبك جداً، ويكون مراده أن يضع لك السم ثم يقول لك: هاهو العسل، ويبادر في خدمتك! وهذا هو أيضاً حال النصارى عندما يكونون أقلية في بلد ما فتجد الواحد منهم عندما يعيش في ريف أو قرية، فإنك تجده أحسن شخص، فهو الذي يقرض الناس، وهو الذي يعامل الناس معاملة حسنة، وهو الذي يضحك في وجوه الناس، وهو الذي يقول لهم كثيراً ودائماً (صلوا على النبي) ودائماً يتعامل معهم بذوق وأخلاق، ونحن ليس عندنا ولاء ولا براء، فيقول القائل من أبناء المسلمين إن فلاناً النصراني أحسن بكثير من المسلمين! فهؤلاء أشر من النصارى. وهناك رجل ألَّف كتاباً -وأنا أدعوكم إلى شرائه وقراءته وقد أعجبني، وهو كتاب مفيد جداً- كشف لنا فيه جوانب خفية عن مذهب الرافضة اسمه: (بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود)، جاء بأول تشابه ما بين الرافضة وما بين اليهود، وهو اتصافهم بالكذب، والكتاب مطبوع في السعودية. فهؤلاء عندهم مذهب التقية، فالرافضي سيدخل فيك مثل السرطان، لا تشعر به على الإطلاق، فيشعرك أنه على مذهبك السني، وثَمَّ رجل أحمق أخرج كتاباً اسمه: (رحلتي من السنة إلى الشيعة)! انظر إلى قلة الحياء!!! سبحان الله! نحن في زمان العجائب! ونَشْرَ كتابه، وهذا يعد أمراً طبيعياً، بداعي أن حرية الرأي وحرية الكفر -وليس الفكر- مكفولة للجميع! وأي شخص يريد أن يخرج أي شي يخرجه، فليس عندنا هيئة لكبار العلماء، ولا عندنا مراقبة للذين يكتبون، ولا عندنا أية مراجعة ولا أي شيء من هذا، مع أن كل هذه الأمور يمكن أن تطبق بجرة قلم، مثلما أغلقوا كل المساجد الغير التابعة للأوقاف، وكما أغلقوا الجمعيات الخيرية في صلاة الجمعة، بجرة قلم، فباستطاعتهم أيضاً بجرة قلم أن يقروا هيئة لكبار العلماء، وأن ينشئوا هيئة رقابة، وأن يحاربوا الخمر، وأن يطبقوا الحدود، كل هذا بجرة قلم، فيستطيعون بجرة قلم أن يعيدوا حكم الله إلى النفاذ، وأن يُعَبِّدوا الناس للهعزَّ وجلَّ، كل هذا بجرة قلم؛ لكن نحن ليس عندنا هذا النوع، إنما الموجود عندنا أن كل إنسان يستطيع أن يكفر بالله العظيم، وينشر كفره. أحد الإخوة المصلين أعطاني منذ جمعتين تقريباً كتاباً اسمه: (الألوهية والجنس) بينما نحن كنا مستفظعين لطعن بعض الكتاب على الصحابة فأصدروا (علماء الإسلام والجنس)، و (الصحابة والجنس)، فاستفظعناها، وظللت ليالي عَدَداً لا أستطيع أن أنام -إلا غفوات- من الكمد، وذلك أول ما رأيت (علماء الإسلام والجنس)، كيف صدر هذا العنوان؟ لكن كلما مضى الزمان. - أو كما يقول أنس -: (ما من يومٍ يأتي إلا والذي بعده شرٌ منه إلى يوم القيامة) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الكتاب المسمى بـ (الألوهية والجنس) تمت مصادرته؛ لكنه خرج وبِيْعَ، مثل كتاب (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ مُصادَر وبِيْعَ على الأرصفة رغم أنف الأزهر، هذا الكتاب ممنوعٌ تداوُله وقد طبع في سنة 1958م، ومع ذلك بيع رغم أنوفهم؛ لأننا ليس عندنا هيئة لكبار العلماء، وحتى لو كان عندنا هيئة لكبار العلماء فإنها لن تحل ولن تربط، وإنما سيوكل إليها فتاوى في الصلاة والزواج، والمواريث، ونحوها؛ لكن أن توقف شخصاً علمانياً يكتب فلا.

حكم المخالف في الأصول

حكم المخالف في الأصول فمسائل الأصول مسائل خطيرة (لا يستقيم الظل والعود أعوج). مسألة أن يخالفك شخص في الأصول فيجوز لك أن تتبرأ منه؛ لكن إذا كان الخلافُ سائغاً فلا تقل: أنا بريءٌ منه وهو بريءٌ مني، ولذلك تبرأ عبد الله بن عمر من هؤلاء الذين كفروا بالله العظيم ونفَوا علمه القديم المتقدم على أفعال العباد، فقالوا: إن الأمر أنف -أي مُستأنَف- فقال عبد الله بن عمر: أنا بريء منهم وهم برآء مني. ثم قال: (حدثني أبي) وكلما قرأت في الأسانيد (حدثني أبي) شعرتُ بمرارة، وشعرت بغصةٍ في حلقي وقلتُ: أين هؤلاء الآباء؟! رحم الله هؤلاء الآباء، كم واحداً في هذا المسجد يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن كذا فقال: كذا، فيما يتعلق بالشرع وبدين الله عز وجل؟! كم واحداً يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن المسألة الفلانية فأجابني بكذا؟! ضاع هذا النمط، والسبب أن الأجيال الماضية كلها عاشت في فترةٍ حالكة السواد بالنسبة لدين الله عز وجل، فترة كلها مؤامرات، فسخروا من هذه الأسانيد، وسموها (العنعنات) حتى مر على الناس زمان إذا وجدوا الإسناد فإنهم يتجاوزونه سريعاً ليصلوا إلى المتن، ما عندهم صبر على الإطلاق أن يقرءوا سنداً أو يقفوا على سند، ولذلك دخل علينا أعداؤنا وطعنوا في السنة بسبب جهلنا بهذا السند؛ لذلك رأيت أن أفشي هذا العلم وهذا الفضل في مثل هذا الجمع؛ أقرأ الإسناد، وأقف عليه، وأقف على بعض رجاله، وأظهر الصناعة الحديثية كلها أو بعضها حتى تعلموا هذا الجهد الهائل الذي بذله علماؤنا. أنت الآن مستريح، معك صحيح مسلم، إلا أنك لا تعلم مدى الجهد الذي بذله مسلم رحمه الله حتى يجمع وينتقي، ولا تعلم التحري الذي بذله ليخرج لنا هذا الصحيح، فضلاً عن بقية العلماء الذين جمعوا ونقَّحوا للأمة المسلمة، ومع ذلك يا ضيعة جهود المحدثين عند من جاءوا بعدهم! فالعلماء الذين رووا لنا هذه الأسانيد يقولون: إن رواية الولد عن أبيه لها مزية، وعند الاختلاف يقدمون رواية الولد على غيره الولد فمثلاً سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر: أحياناً ترى الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع الذي يروي عن ابن عمر هو مولاه، فكان ملازماً له مثلاً بنسبة (90 %)؛ لكن سالماً يلازم أباه بنسبة (99 %)، أو (98 %) أو (97 %) المهم أنه أكثر ملازمة له من نافع، فإذا اختلف نافع وسالم في حديثٍ عن ابن عمر فإن العلماء كـ أحمد بن حنبل وغيره يرجحون سالماً في أبيه، يقولون: الولد أدرى بأبيه من غيره، وأضبط لحديثه من غيره، ومع ذلك فلم يختلف نافع وسالم إلا في أربعة أحاديث فقط، كان الصواب فيها كلها في قول سالم. فأنت لما تقرأ: (حدثني أبي) تدركك الحرارة، وطبعاً: (حدثتني أمي) هذه لها متاهات، أتعرف (حدثتني أمي) هذه كانت مع من؟ مع الحسن البصري هو الذي يقول: (حدثتني أمي)، من النادر في الأسانيد أن يقول قائل: (حدثتني أمي)، هو موجودٌ نَعم؛ لكنه نادر، وهو موجود فيما يسمى بأسانيد النساء، فمثلاً عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة رضي الله عنها، ومعاذة العدوية أيضاً وحفصة بنت سيرين أيضاً، فهناك نساء كثيرات، ومن أراد أن يستزيد من أخبار النساء وروايتهن في الكتب الستة فعليه أن يطالع الجزء الخاص بهن في كتاب تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجاج المزي، أو في مختصره الذي هو كتاب تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، أو في مختصره الذي هو كتاب تذهيب التهذيب، للحافظ أبي عبد الله الذهبي فقد ذكروا فيه جمعاً من النساء اللاتي لهن رواية في الكتب الستة. وكانت النساء أيضاً مهتمات بالحديث، فنحن عندنا مثلاً: أمة الله الحنبلية، لها مسند ونُشِر حديثاً، وكذلك بيبي بنت عبد الصمد الهرثمية لها جزء عن ابن أبي شريح عن شيوخه، وهذا أيضاً مروي في الأسانيد. وأيضاً فأصح روايات صحيح البخاري رواية كريمة بنت أحمد المروزية كانت تروي صحيح البخاري، وكان إسنادها عالياً. وكان أكابرُ العلماء يأتون إليها ليسمعوا منها. فالحافظ ابن عساكر رحمه الله، صاحب التاريخ المشهور بتاريخ دمشق والذي طبع منه ستون مجلداً حتى الآن وربما يطبع في نحو مائة مجلد، وقد سكن دمشق، هذا الحافظ روى عن ثمانين امرأة ذكرهن من شيوخه. والحافظ أبو عبد الله الذهبي تجاوزت شيخاته المائة، وكان منهن قرابة العشرين ممن تسمى (زينباً). فلما تسمع هذا الكلام -وأنت رجلٌ محب لدين الله، وأنت رجلٌ حي الضمير- ترجع فتطلب العلم من جديد حتى تنقله إلى ابنك، فيكبر ابنك، ويقول: حدثني أبي، وسألت أبي، مثل أولاد أحمد بن حنبل رحمه الله، عبد الله وصالح، ومثل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وفي السلف علماء كثيرون لهم أولاد، كانوا يأخذون عنهم العلم، وهم الذين أفشوا علمهم ونشروه. فيقول عبد الله بن عمر لما سمع هذه المقالة: (حدثني أبي) ومن فطنة المحدث أن يستحضر الحديث أو الآية التي تدل على الواقعة، أول ما يسمع نازلة من النوازل فيقول هذا الكلام.

الرد على من طعن في حديث الآحاد

الرد على من طعن في حديث الآحاد وهنا مسألة مهمة، وهي: أن الصحابة ما كانوا يفشون الأحاديث إلا إذا وجد ما يقتضي، يعني: لا نتصور أن عبد الله بن عمر يجلس في مجلس ويسرد الأحاديث سرداً كما لو كان يقرأ من كتاب، ولكن لما ظهر له المقتضى وسُئل عن مسألة فرأى الحديث يدل عليها ذَكَره. ونحن نذكر هذا الكلام هنا؛ لأن بعض الذين طعنوا على الأحاديث يقولون لك: وهل عمر بن الخطاب هو الذي سمع هذا الحديث لوحده، أين بقية الصحابة؟! لماذا لم يسمعوا كلهم الحديث؟! ويطعن على الحديث أن صحابياً واحداً هو الذي سمعه، فلابد أن يكون واحداً واثنين وثلاثة وأربعة. لا، فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما كان يتكلم بالكلمة غالباً إذا وجد ما يقتضي ذلك، يُسأل سؤالاً فيجيب، أو يستأنف الكلام من نفسه، إذا رأى ما يوجب ذلك. على سبيل المثال: الحديث المشهور الذي تعرفونه جميعاً: (لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جدي أسكٍ ميتٍ فوقف مع الصحابة وقال لهم: أيكم يشتري هذا بدرهم؟ -هو الذي ابتدأ الكلام- فقالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه لأنه أسك مقطوع الأذنين، قال: أترون هذه هينةً على أهلها؟! والله! للدنيا أهون على الله من هذا على أهله). فكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الواحد والاثنان والثلاثة من الصحابة، ويغيب الجمع الأعظم؛ لأنهم يكونون في مشاغلهم، وما حديث ابن عباس في الصحيحين منك ببعيد، لما سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، قال عمر بن الخطاب: كنتُ أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فإذا نزلتُ أتيته بالوحي، وبما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك. فهذا يدلك على أن عمر بن الخطاب أراد أن لا يفوته شيء من العلم فعمل مناوبةً مع جارٍ له من الأنصار، كل الصحابة لم يعملوا هكذا، أبو بكر الصديق لا نعلم أنه فعل مثل هذا، وأيضاً كثير من الصحابة الذين هم في أماكن بعيدة ما أنابوا عنهم أحداً. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلم بالحديث فلا يحفظه إلا من كان حاضراً، وأغلب الصحابة كانوا غائبين، إنما كانوا يسمعون ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغون ذلك العلم إلى غيرهم إذ لم يكن آنذاك كذب. فالذي يقول: أنه لابد أن يروي الحديث الاثنان والثلاثة والأربعة والخمسة! نقول له: لا. كذلك إذا قال: وهل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري هما -فقط- اللذان رويا عن ابن عمر؟ أين بقية الأصحاب؟ نقول: هذان هما اللذان سألا، فلأجل هذا السؤال روى عبد الله بن عمر هذه الحكاية. فـ يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري إنما خرجا من بلدهما ليسألا عبد الله بن عمر هذا السؤال. فلما سمع ابن عمر هذا الكلام وتبرأ منهم قال: (حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ثم ساق الحديث.

الأسئلة

الأسئلة

غربة الشاب الملتزم وسط مجتمعه

غربة الشاب الملتزم وسط مجتمعه Q إننا -وخاصة من يلتزم منا حديثاً- نكون بين أهلينا وأسرنا العوام كأننا غرباء، وكذلك في الجامعة نتعرض للاضطهاد المستمر، فنريد توجيه كلمة إلى كل أصحاب هذه الغربة؟ A أنا أذكر هذا السائل بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). و (طوبى) شجرة في الجنة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في وصفها: (يمشي الجواد المضمر المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30])، فالجواد المضمر يجري في ظلها مائة عام كأعوامنا لا يقطع هذا الظل، فهذه الشجرة للغرباء، وإذا عدت بذاكرتك إلى الغرباء الأولين، وجدتَ أن ما أنت فيه لعب بالنسبةِ لما كانوا فيه، وتجد أن البلاء إنما اشتد عليك؛ لأنك ليس عندك من الإيمان ما كان عندهم، فالمصيبة أننا إنما أوتلينا من ضعف الإيمان، لا من قوة البلاء. لا أحد يصبر على الإطلاق على الذي كان فيه الصحابة إلا إذا كان عنده مثل إيمانهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً) فوصف الغربة شَرَف، مثل ما حصل عندما ظهرت اللحية منذ حوالى عشرين سنة كان مظهر الملتحي يعد غريباً، فكان المستهزئون إذا أرادوا الاستهزاء به يقولون له: يا سُني!! بمعنى أنها سبة، فكان أحياناً بعض الملتحين يحسون بنوع من الإهانة، وربما جرى أحدهم وراء المستهزئ به وضربه ودخل في عراك معه؛ لأنه قال له: يا سني! مع أنه لم يسبه أصلاً، ولو كان العلم منتشراً آنذاك لعرف أنه بهذا كأنه يقول له: يا ابن الأصول. تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها وفي قصة عبد الله بن الزبير لما أراد الحجاج أن تعييره؛ كأن يقول: ابن ذات النطاقين، بمعنى أنه يشتمه ويعيره بـ ذات النطاقين أمه أسماء بنت أبي بكر لما شقت نطاقها شطرين، وقد كانت حينها حاملاً! لله درك يا أسماء، ومن لنا بمثلها من بين مليون شخص من أشباه الرجال الآن. انظر إلى الجد والاجتهاد! امرأة حامل في الشهر الأخير تصعد الجبل تحمل الطعام على كتفها، تربطه بنصف نطاقها وتربط بطنها بالنصف الآخر، وتأخذ المتاع وتصعد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أبيها! وما حملها هذا إلا الفداء والتضحية والحب لهذا الدين؟! فلابد لك من أن تعمل شيئاً لهذا الدين، فنحن عندما نفتخر بنسائنا من الصحابيات والتابعيات، ما ذاك إلا لأن الواحدة منهن تساوي أمة من أشباه الرجال، فما بالك بالرجال الذين فضلهم الله عز وجل على النساء. فيأتي يُعَيِّرُها ويَعِيْبُها ويقول في عبد الله بن الزبير له عنها: ابن ذات النطاقين. تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها أي: دعها أنت -يا ابن الزبير - فلا تكن أنت المُعَيَّر، فهو شَرَفٌ، وأيُ شَرَفٍ! فأنت حين تتصف بالغريب اسم الغريب، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لك: (بدأ الإسلام غريباً)، ومعروف أن البداية كانت مشرفة، ثُلة من المتقين شرفوا جبين الزمان من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، صدقوا الله عز وجل، لم تكن بينهم أحقاد، ولم تكن بينهم الخلافات التافهة الموجودة الآن بين أفضل الإخوة مع بعضهم بكل أسف، فتجد الرجل فاضلاً وعالماً وداعيةً، وبينه وبين غيره من الأحقاد ما يعجز عن وصفه اللسان. فالصحابة جردوا العزم لله عز وجل، وكانت البداية لهذا الدين بتضحيتهم وإخلاصهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الجمع بين الأحاديث الواردة في استحلال دم المسلم

الجمع بين الأحاديث الواردة في استحلال دم المسلم Q كيفية الجمع بين حديث: (لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ومع غيره من الأحاديث التي في بعضها التصريح بقتل غير هؤلاء؟ A إن هذا الحديث: (لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: زناً بعد إحصان، وكفرٍ بعد إيمان، والمفارق لدينه التارك للجماعة) فهذه هي الثلاث الكبار؛ مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يقول: (الكبائر سبع) فهل في هذا الحديث حصرٌ للكبائر؟ ليس فيه حصر للكبائر؛ لكن هذه الكبائر التي لها علاماتها البارزة، مع أن أي رجل حلال الدم يمكن أن تضع ذنبه تحت واحد من هؤلاء الثلاث، يعني: هذا الحديث، ليس فيه: أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بهؤلاء الثلاث مع وجود أسباب أخرى! يعني: مثلاً لما تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، هل المسألة محصورة في هؤلاء السبعة؟! وكما في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر: (من أنظر معسراً) وانظر إلى جمال الحديث وإلى اسم الراوي الذي رواه (من أنظر معسراً كان في ظل العرش يوم القيامة، أو أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله) فهذا شخص ثامن. فالأصل في الأحاديث أننا نجمع بعضها إلى بعض، ولا نضرب بعضها ببعض. والله أعلم.

حالة ضعف المسلمين

حالة ضعف المسلمين يمر المسلمون هذه الأيام بمرحلة استضعاف رهيبة غير معهودة في سالف عصورهم، فقد تسلط عليهم الأعداء في جميع المجالات، ولم يعد لهم هيبة في أعين أعدائهم، وما ذلك إلا بسبب الذنوب والمعاصي التي طغت على المجتمعات الإسلامية فأورثتها المذلة أمام الأعداء، وعدم العمل بالشريعة الإسلامية وتحكيمها على مستوى الفرد والمجتمع. وإن الهجرة إلى الله تعالى نجاة من الضعف، وقوة القلب خير معين على الصبر حال الضعف إلى أن يمكن الله تعالى لهذه الأمة في الأرض.

الاستضعاف بين المحمود والمذموم

الاستضعاف بين المحمود والمذموم إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. أيها المسلمون! لا ينفك الإنسان عن حالة من الضعف تركبه، لكن ليس كل ضعف محموداً؛ بل هناك ضعف مذموم وضعف محمود، وكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة. وخصال السلب ضد الخصال الإيجابية، فلو قلت: رجل قوي، فسالبه ضعيف رجل غني، فسالبه فقير رجل عزيز، فسالبه ذليل وهكذا. فكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إضاعة المال، وعد ذلك من باب التلف لنعم الله عز وجل يؤاخذ العبد عليها، ومع ذلك فإذا أتلف العبد ماله في الله كان محموداً. روى الإمام أبو داود في كتاب الزهد بسند صحيح: (أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قابل راعي غنم، فقال: يا غلام! بعني شاة من الغنم. فقال: ليست لي. فقال: بعني شاة وقل: أكلها الذئب. فقال الغلام: وأين الله؟! فبكى ابن عمر وجعل يردد: وأين الله؟! وأين الله؟! ثم قال: يا غلام! وافني وسيدك غداً في هذا الموضع، فلما كان من الغد جاء الرجل والغلام، فاشترى الغلام والغنم من مالكها، ثم أعتق الغلام ووهب له الغنم). إن الذي جعله يفعل ذلك هي الكلمة التي كررها ابن عمر وبكى لأجلها: (أين الله؟! أين الله؟!) فاشترى الغلام والغنم، وأعتق الغلام وترك له الغنم. وروى أبو داود أيضاً في نفس الكتاب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما أنا ذات ليلة إذ تفكرت في قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، فقلت: إن أحب ما أملكه هي رميتة -وهي جارية لـ ابن عمر، والجواري والعبيد آنذاك كانوا مالاً- قال: فلما رأيت أنه ليس عندي أغلى من رميتة قلت: هي في سبيل الله، ووالله لولا أني أكره أن أرجع في شيء وهبته لله عز وجل لأعتقتها وتزوجتها). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل له أمة فأدبها وأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها)، فهذا يؤتى أجره مرتين، فكان عنده هذا الباب، يؤتى أجره مرتين ثم يحقق لنفسه ما يشتهي من محبة المرأة والقرب منها، ومع ذلك فضل الباب الآخر؛ لأنه انتصار على حظ النفس. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الرجال- ولكن الشديد الذي يملك نفسه)، هذا هو الشديد، فمن ملك حظ نفسه فهو الشديد، لقد كان هؤلاء رجالاً يحبون معالي الأمور، قال ابن عمر: (فأنكحتها نافعاً)، ونافع هو مولى ابن عمر. فإذا فعلت الشيء لله عز وجل وكان بالسلب عند الناس كنت به محموداً. كذلك الاستضعاف المحمود: أن تخرج من بيتك ومالك لله، فلا تندم أبداً أنك تركت مالك أو دارك أو أهلك لله عز وجل، فإن البقاء في الدار لا يخلدك، وإن البقاء في مالك لا يطيل عمرك. إن الله عز وجل قص لنا جانباً من الاستضعاف المذموم، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، لقد كانوا مستضعفين في الأرض، لكنه استضعاف مذموم، لقد كان بإمكانه أن يخرج لكنه قصر في الخروج؛ بدليل أن الله عز وجل قال بعدها: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98] * {َأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99]، هؤلاء المستضعفون الذين لا يهتدون حيلة ولا يجدون سبيلاً استثناهم الله عز وجل. إذاً: هذا يدلنا على أن الذين قالوا: (كنا مستضعفين في الأرض) كاذبون، لقد كان بإمكانهم أن يخرجوا فقصَّروا، فكذلك كل رجل كان بإمكانه أن يفعل ما أوجبه الله عليه ولم يفعل، أو أن ينتهي عما نهى الله عز وجل عنه ولم يفعل؛ هذا لا يقبل منه شيء، ولا تقبل منه حجة؛ لأنه كان بإمكانه أن يفعل، إنما يعفى عن العاجز الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي إلى سبيل للخروج من مأزقه الذي وقع فيه.

الهجرة في سبيل الله نجاة من الاستضعاف

الهجرة في سبيل الله نجاة من الاستضعاف إن المهاجر في الله عز وجل له أجر عظيم، لو تفطن له كثير من العباد لهانت عليهم دورهم وأموالهم في الله الهجرة هي علاج الاستضعاف، إذا كنت مستضعفاً فهاجر، استبدل بيئة غير البيئة التي حاربتك وأذلتك ووقفت ضد دعوتك؛ لعلك تجد أناساً آخرين أرفق بك وأرحم من الذين ولدت بينهم اترك دارك لله إن استطعت إذا كنت في بيئة يسب فيها الله ورسوله، أو يعصى فيها الله عز وجل، وتخشى على نفسك وعلى أولادك؛ فينبغي بل يتعين عليك أن تهاجر، وهذه هي الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال الهجرة ما قوتل الكفار)، فهذه هي الهجرة التي لا تنقطع، وهي علاج الاستضعاف. روى النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (شهد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل المدينة مات في المدينة -ولد في المدينة ومات بها- فقال عليه الصلاة والسلام: يا ليته مات في غير مولده -يعني: يا ليته مات غريباً- فقالوا: لِم يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة)، هذا يكون ملكه، رجل هاجر من مصر -مثلاً- إلى آخر الدنيا، فراراً بدينه من الفتن، ومات غريباً؛ فإنه يقاس له في الجنة من موضع مولده إلى موضع وفاته. ولذلك نهي المهاجرون أن يرجعوا إلى مكة أو يسكنوا بها؛ حتى لا يرجعوا في شيء خرجوا منه لله عز وجل، ولم يرخص لمهاجري أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مرضت في حجة الوداع مرضاً أشرفت فيه على الموت، فزارني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وساق حديثاً طويلاً، وفي آخره- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم امض لأصحابي هجرتهم، اللهم لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة)، سعد بن خولة مات بمكة، فوصفه النبي عليه الصلاة والسلام: بـ (البائس)؛ لأنه فقد أجر الموت غريباً، وخسره؛ لأنه مات بمكة: (لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة، يا ليته مات بالمدينة، يا ليته مات غريباً). وفي صحيح مسلم في إحدى طرق هذا الحديث قال سعد: (وأخشى أن أموت فأكون كما كان سعد)، لقد كان يخشى على نفسه أن يموت بمكة، وهو في طاعة في زمن حجة الوداع؛ لأنه سوف يفقد أجر الموت غريباً، فإذا كانت الأرض لله عز وجل فما يضيرك أن تموت في أقصى الأرض؟ إن الله عز وجل يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] * {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]، مت في أي مكان لكن على التوحيد، مت مسلماً ومت في جوف سبعٍ أو في قعر بحر، أو في أي مكان، لا يضرك: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56]، فلا تتردد أن تخرج إلى الهجرة؛ لأن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]. بعض الناس يوصي ألا يدفن ليلاً؛ لأنه يظن أن القبر كالدنيا فيه نهار وليل، يظن ذلك، ويظن أنه لو دفن ليلاً فسيشعر بالوحشة، لا والله ليس في المقابر ليل ولا نهار، كله ليل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور ملآنة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينيرها لهم بصلاتي عليهم)، فكلها مظلمة، لكنه يظن كما يستوحش إذا أفرج إفراج الساري في الليلة الظلماء في الدنيا أنه يكون كذلك في القبر. فالخوف من هذه الوحشة هو الذي جعل هؤلاء يبقون في دارهم ولا يهاجرون، ويلابسون أصحاب المعاصي حتى تأثرت قلوبهم، ثم وافوا الله عز وجل بقلوب مريضة أو ميتة، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97]، فهذا الاستضعاف المذموم يكون مع القدرة على الخروج والهجرة. أما العاجز فإن الله عز وجل قد وضع كل أمر أمر به أو نهي نهى عنه إذا خرج عن مقدور العبد، كما ثبت ذلك في القرآن والسنة، قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال عز من قائل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به). الاستضعاف المحمود: أن تنحاز إلى الله؛ لذلك قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5]، فلا يمن الله إلا على عبد انحاز إليه، ولذلك أراد ففعل، والله عز وجل إذا وعد فلا يخلف وعده، وإذا أوعد فهو بالخيار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل أجراً فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد عبداً فهو بالخيار)، إذا هدده فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وهذا من فعل الكرام: إذا وعد لا يخلف الميعاد؛ لأن هذا هو مقتضى الكرم والإحسان؛ لأن الرجوع في الإحسان نقص.

هل للعباد حق على الله عز وجل؟

هل للعباد حق على الله عز وجل؟ هناك إشكال قائم بين أهل السنة والمعتزلة في: هل للعباد حق على الله عز وجل أم لا؟ فالمعتزلة يقولون: يجب على الله عز وجل أن يفعل الأصلح لعباده، وهل لأحد على الله حق؟! لا والله، ما لهم عليه حق، أنشأهم من العدم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً، ووافاهم بالنعم، فأين الحق الذي لهم عليه؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله؟)، فأثبت للعباد حقاً هنا، فلربما قال قائل: فهذا إثبات لحق العباد على الله، فنقول: لا، إنه صار حقاً لهم لأنه وعدهم، وهو لا يخلف الميعاد؛ لا لأن لهم ما يستحقون به ذلك الحق من ذات أنفسهم، لكنه سبحانه إذا أوعد فتكرماً منه لا يخلف ميعاده للعبد، كما في حديث البطاقة وغيره الذي رواه الإمام الترمذي رحمه الله، وهو من أرجى أحاديث أهل السنة للعصاة، قال صلى الله عليه وسلم: (يصاح برجل على رءوس الأشهاد، وينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها ذنوب وخطايا، فيقول الله عز وجل له: عبدي! هل تنكر مما في كتابك شيئاً؟ يقول: لا يا رب. فلما علم أنه داخل النار يقيناً، قال الله عز وجل: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، إن لك عندنا بطاقة، ثم يخرج بطاقة مكتوب فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فتوضع هذه البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش هذه السجلات كلها، ولا يرجح باسم الله شيء). فهذا العبد فعل ذنوباً، وقد توعد الله عز وجل العاصي بالنار، ومع ذلك أخلف الله ميعاده للعبد العاصي وأدخله الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما امرأة بغي -تتاجر بعرضها- تمشي فوجدت كلباً يلهث ويلعق الثرى من العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ونزلت في البئر فملأته ماء، فسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها)، وهذه امرأة بغي؛ لأن إسقاط العقوبة تكرم يناسب الله عز وجل، فإذا كان يسقط العقوبة تكرماً أيرجع في الإحسان والهبة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على العبد أن يرجع في الهبة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) فأنكر على العبد، وهو لا يملك شيئاً ذاتياً يفتخر به، لا موهبة ولا مالاً، أنكر عليه أن يرجع في الهبة، أيرجع فيها رب العالمين؟ لا والله. لذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآيات: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:100] هذا هو الانحياز المحمود {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} [القصص:5] فمن، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ابتلاء الله لعباده بالاستضعاف سبب لتعلقهم به

ابتلاء الله لعباده بالاستضعاف سبب لتعلقهم به الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قد يقول القائل: أليس المستضعفون هم عباد الله وهم أولى الناس بالتمكين في الأرض؟ فلم يتركون في مهب الريح؟ ولم يدال عليهم ولا ينصرهم الله عز وجل بـ (كن) ويمضي أمره في الكون؟ فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل ذلك فتنه للعباد، فقال عز من قائل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، دفع الله الناس بعضهم ببعض هذا محق وهذا مبطل، إنما جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين؛ لأن أعظم ثمرة للاستضعاف هي تعلق القلب بالله عز وجل، هذه أعظم ثمرة يحصلها المؤمن: أن يتعلق قلبه بالله؛ لأنه ضعيف، فيحتاج إلى من يقوي ضعفه، فلا يكون إلا الله، وحياة القلب لا تكون إلا في وسط العواصف والمحن، لذلك رفع الله عز وجل شأن عباده بهذا الاستضعاف.

قوة القلب تعين على الصبر حال الاستضعاف

قوة القلب تعين على الصبر حال الاستضعاف إن العبد يوزن عند الله بقلبه لا بجسمه، وقد صدق ابن القيم رحمه الله لما قال على حديث: (يأتي العبد السمين فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة). قال: فقيمة العبد في قلبه؛ لذلك كان نصيب القلب من البدن هو الملك، فالقلب ملك البدن، فهو مستقر الإخلاص والتوحيد للملك، والعبد الذي وهب قلبه لغير الله لا يعبأ الله به، ولا قيمة له عند الله عز وجل. وقد ذكر الله عز وجل القلب كثيراً، مثل الصدع والران والختم والغلف، ولما ذكر الوحي وما يؤثر به في القلب ذكر الحيلولة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ولذلك فلا تأمن مكر الله عز وجل. استضعافك المحمود أساسه قلب سليم، ولذلك جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين، كم من رجال كانوا إذا سمعوا بالسجن ارتعدوا خوفاً، لكن لما دخلوا وخرجوا عظمت قوة قلوبهم، فلم يعودوا يرهبون شيئاً، ضع الإنسان في وسط العاصفة واتركه، بخلاف الجوارح فإنه لا يستقيم حالها مع البلاء والمحن، فإن البلاء والمحن تضعف الجارحة لكنها تقوي القلب، وتدبروا قصص الأنبياء والصالحين وانظروا إلى قوة قلوبهم، فإن العضو يستقي قوته من القلب، ومن الشواهد على ذلك: ما حدث لـ جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد قطعت يده اليمنى فحمل الراية باليسرى فقطعت، فحماها بعضده. هذه هي قوة القلب وليست قوة العضو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فإذا اشتكت هذه اليد لا تستريح تلك، ولا تستريح الرجل ولا يستريح الدماغ؛ لأن هذه الأعضاء كلها تتداعى في المحن، إلا القلب فإنه ملك لا يكاد يشعر بالبلاء. وهنا قصة عجيبة، ولولا أن سندها صحيح لما صدقها أحد، ذكرها الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله، وقد كان أحد التابعين الفضلاء، روى عن أنس بن مالك وغيره، حكى هذه القصة رجل كان يمشي بين الجبال، قال: (فإذا أنا برجل قد قطعت يداه ورجلاه، وذهب بصره، وثقل سمعه، فلما ذهبت إليه واقتربت منه سمعته يقول: الحمد الله الذي فضلني على كثير مِمَن خلق تفضيلاً! قال: فقلت في نفسي: والله لآتين هذا الرجل، وأي نعيم هو فيه؟! لقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وثقل سمعه. قال: فذهبت وسلمت عليه، وقلت: يا عبد الله! سمعتك تقول كذا وكذا، فأي نعمة أنت فيها وقد ذهبت يداك ورجلاك وبصرك وثقل سمعك؟! قال: يا عبد الله! والله لو أرسل الله عليَّ النار فأحرقتني، والبحر فأغرقني، ما ازددت إلا شكراً له على هذا اللسان الذاكر، ثم قال: يا عبد الله! إنك إذ وافيتني فلي عندك حاجة. قلت: ما هي؟ قال: إن لي ولداً كان يطعمني ويسقيني ويحضر لي الوضوء، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فهل لك أن تبحث لي عنه؟ قال: فقلت في نفسي: والله لا أسعى في حاجة عبد هو أفضل من هذا العبد. قال: فمضيت أبحث عن ولده، فما مضيت بعيداً حتى وجدت عظم الشاب بين الرمال، وإذا سبع قد افترسه، فركبني الهم وقلت: كيف أرجع إلى الرجل وماذا أقول له؟ وجعلت أتذكر أخبار المبتلين، فحضرتني قصة أيوب عليه السلام. فذهبت إليه وسلمت عليه، فقال: يا عبد الله! وجدت ولدي؟ قال: فقلت له: يا عبد الله! أتذكر أيوب؟ قال: نعم. قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه في نفسه وفي ماله. قلت: كيف وجده؟ قال: وجده صابراً. قال: يا عبد الله! قل ماذا تريد. فقلت له: احتسب ولدك، فإني قد وجدت السبع افترسه. قال: فشهق شهقة، وقال: الحمد الله الذي لم يخلق ذرية مني إلى النار ومات. قال: فركبني الغم، ماذا أفعل وأنا وحدي؟ فإذا أنا بقطاع للطرق، فلما رأوني أغاروا عليَّ -بعدما سجى هذه الجثة وجلس يبكي، أغاروا عليه ليسرقوا الذي معه- فلما رأوه كذلك قالوا: ما يبكيك؟ فقال: مات صاحب لي ولا أملك له شيئاً. فقالوا: اكشف عن وجهه، فلما كشفوا عن وجهه، فإذا هو أبو قلابة؛ فبكى اللصوص وقالوا: العبد الصالح! وصلوا عليه ودفنوه). هذه هي قوة القلب: رجل فقد المنفعة، لا أطراف له، ولكنه لا يحس بعظمة المحنة التي ركبته بسبب قوة قلبه! إذا من الله عليك بقوة القلب فلا تأسى على ما فاتك من الجارحة، لذلك أعظم الناس أجراً عند الله عز وجل هم الصابرون، فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، لا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان.

أسباب ضعف المسلمين وتسلط الأعداء عليهم

أسباب ضعف المسلمين وتسلط الأعداء عليهم نحن مستضعفون في الأرض، حتى إن أذل الخلق استطالوا علينا، يذلوننا ويمضون ما يريدون وهم خمسة عشر مليون يهودي في الأرض كلها، ونحن ألف مليون مسلم، لو بصق الواحد منا بصقة واحدة لأغرقناهم، فكيف استطالوا علينا؟! لقد ضعفت قلوبنا، ولا أقول: قويت قلوبهم؛ فهم أجبن من أن تقوى قلوبهم، لكنهم متمسكون بباطلهم، فهذا النتن الذي تولى الوزارة في إسرائيل، لما أراد أن يخطب خطبة الافتتاح في البرلمان لبس القبعة السوداء، والقبعة السوداء عندهم هي والتوراة شيء واحد، لأن لبس القبعة السوداء تعني أنه رجل متدين، لا يخرج عن حكم التوراة هكذا يعظمون التوراة. أما نحن فقد ظهر عندنا من يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية! وينشر هذا الكلام في الصحف -في صحيفة الأخبار-! وهو مستشار ومازال يحكم بين الناس، وكان ينبغي أن يقتل، يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية، كقوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] الجاهل الغبي يقول: (هذان) مرفوعة، و (إن) تنصب الاسم، وجهل هذا الغبي أن (إنْ) هنا ليست (أنَّ) ولا (إنَّ)، فلا عمل لها حتى تنصب الاسم، إن الأطفال الصغار الذين يتعلمون (إنَّ وأخواتها) يعلمون هذه الحقيقة، ثم يطفح بهذا الجاهل على صفحات الصحف ولا زال يُذكر إلى الساعة!! هذه أمة لا تقوم لها قائمة وكتاب الله عز وجل لا يعظم فيها. وهناك رجل آخر ألف كتاباً ونشرته هيئة رسمية، وهي الهيئة العامة المصرية للكتاب، واسم هذا الكتاب: (آية جيم) وقد نشر وطبع طبعة أولى وثانية على رغم أنف الأزهر، يفتتحه مؤلفه بالشرك فيقول: باسم الشعب والسلطان الغشوم، وبعد ذلك يقول: إن القرآن غبن الجيم حقها، ولم يعطِ الجيم قدرها، وصاحبنا هو الذي أعطى الجيم قدرها! فألف هذا الكتاب وعمل فيه فقرات على وزان فقرات القرآن الكريم! ويريدون النصر على إسرائيل! لا والله، سنة الله لا تتخلف، والله لا يحابي أحداً من عباده، فإذا عظمنا الكتاب والسنة، وعظمنا الله عز وجل؛ رفعنا الله بغير كسب منا، إن الله عز وجل هزم الأحزاب وحده بغير كسب من المسلمين، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها وهزمهم. فإذا رجعنا عبيداً لله عز وجل مكن لنا في الأرض ولو كنا أضعف الناس، مكن لنا بغير قذيفة واحدة نطلقها، لذلك كانت الدروس عن الاستضعاف وكيفية الخروج من الاستضعاف في غاية الأهمية للغرباء، نحذو حذو هؤلاء الغرباء وهم في طريقهم إلى الله عز وجل. اللهم قو ضعفنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.

الهجرة في سبيل الله تعالى

الهجرة في سبيل الله تعالى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. قلنا: إن الهجرة علاج الاستضعاف، ولإن كانت الهجرة من البلد متعذرة، حتى وإن كان فيها عصاة، يظهرون خلاف الدين، لتعذر الخروج من مكان إلى مكان، فهناك الهجرة التي لا تنقطع، وهي الهجرة الواجبة التي يستطيع كل مسلم أن يحققها، وهي بوابة الهجرة الكبيرة، ألا وهي: الهجرة من المعصية إلى الطاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السوء)، وفي لفظ آخر: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه). إن إيماننا ضعيف؛ بسبب هذه القرون المتطاولة التي ورَّث الآباء ضعفهم إلى أبنائهم كما يورثون المال، بخلاف الصحابة الأوائل، فقد كان الواحد منهم يقوى ولا يبكي أبداً، ولا يلتفت إذا ترك ماله وداره وولده؛ لقوة قلبه.

منزلة الآباء والأمهات

منزلة الآباء والأمهات وهنا لفتة: فلم يقل أحدهم: بابني أنت وأمي، أو بابني وأبي؛ وهذا يدل على أن الأب والأم أغلى من الولد. ذات مرة أرسلت إلي امرأة رقعة تستحلفني فيها بالله عز وجل أن أجيب بصراحة: هل أمك أغلى أم أولادك؟ ففهمت أن لها أبناء عاقين، وكأنها تستحلفني بالله عز وجل حتى أتكلم وأوصي الأبناء بالأمهات، ومادام أنها قد استحلفتني بالله عز وجل، فوالله الذي لا إله غيره: لزوجتاي وأبنائي في شراك نعل أمي، لا أقول: إن زوجتي وأبنائي يساوون أمي أبداً، بل في شراك نعلها! ولو كان أحد ينوب عن أحد في المرض ويفتدى به لافتديت بكل أولادي لرفع المرض من جسد أمي! لقد كان الصحابة يقولون: (بأبي أنت وأمي) مباشرة! أي: يفدونه بالأغلى الذي لا غالٍ بعده، (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه. قالوا: خاب وخسر يا رسول الله! -فذكر أصنافاً من الناس ومنهم-: من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له). وروى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر رأى رجلاً يحمل أمه في الطواف، وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر! تراني وفيتها -أي: وفيت أمي جميلها لما حملتها على كتفي، وطفت بها في هذا الزحام الشديد-؟ فقال له عبد الله بن عمر: لا، ولا بزفرة، والزفرة: هي وجع المرأة في الولادة، أي: هذا الذي فعلته لا يساوي زفرة من زفرات الأم في حال الوضع.

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما رآه قال: بأبي هو وأمي! ما جاء الساعة إلا لأمر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرج من في الدار -يريد أن يقول له شيئاً هاماً- فقال: يا رسول الله! إنما هم بعض ولدك قال: فإن الله قد أذن لي في الهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: فبكى أبو بكر، وما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح. فكان أبو بكر رضي الله عنه قد حبس راحلتين له وللنبي عليه الصلاة والسلام، ليركبا عليهما في الهجرة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتاي حبستها لك. فقال صلى الله عليه وسلم: بالثمن)، أي: أدفع ثمنها. وهنا لفتة: فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد: (إن عبداً خيره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فأختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الله)، فمعلوم أن أبا بكر واسى النبي صلى الله عليه وسلم بماله، فكم أعطاه من ماله! فلماذا أبى أن يأخذ منه الراحلة هنا إلا بالثمن؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يدنس العمل الذي عمله لله بشيء من الدنيا، فلا تدنس إخلاصك بشيء من الدنيا، أخذ الراحلة ليركب عليها وأعطاه الثمن؛ ليكون ذلك كله لله عز وجل، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً للاستضعاف، وذهب فأبدله الله عز وجل بأناس آخرين غير الذين قاوموه وحاربوه وأخرجوه، واجتهدوا في أن يوصلوا إليه الأذى.

هم أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة

همُّ أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لم أعقل أبويّ قط إلا يدينان الدين) أي: من ساعة ما ولدت لم يكن أبوها على غير دين الإسلام، وكذلك أمها أم رومان، قالت: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا بكرة وعشياً)، كان يأتيهم في الصباح الباكر، ويأتيهم في آخر النهار، وهذا كل يوم، فلما ضاق الأمر على أبي بكر واشتد أذى المشركين خرج مهاجراً إلى الحبشة، وقد كان هاجر قبله إلى الحبشة مجموعة من المسلمين: أربعة عشر رجلاً وثلاث نسوة؛ خرجوا هروباً بدينهم من أذى قريش. فخرج أبو بكر خلفهم إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أخرج في الأرض -أو قال: أريد أن أسيح في الأرض- وأعبد ربي. قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرُج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق ارجع وأنا جار لك-أي: أنت في حمايتي-. فرجع ابن الدغنة فوافى كفار قريش قبيل المغرب، فجمعهم وقال: إن أبا بكر جار لي. فقالوا له: مره فليصل في داخل الدار ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا. فأخذ على أبي بكر ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر أن يستعلن بعبادته -هذا أنموذج للرجال الأبطال! - فبدا لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يخرج خارج الدار ويصلي، وكان لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكان يقرأ ويبكي، فتتقذف عليه النساء والأولاد يتفرجون على هذا النمط الجديد الذي ما رأوا مثله قط. فشكا كفار قريش إلى ابن الدغنة وقالوا: إننا نكره أن نخفر جوارك، ولا نرضى بالذي فعله أبو بكر، فإما أن يدخل وإما أن يرد عليك جوارك. فقال له ابن الدغنة: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، فإما أن تدخل الدار وإما أن ترد عليَّ جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري. فقال له: بل أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. وظل أبو بكر رضي الله عنه هكذا والصحابة يهاجرون، حتى أراد أن يهاجر إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تريث؛ فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال: أو ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم). وفي يوم من الأيام جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، وهذا وقت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي فيه إلى بيت أبي بكر، إنما كان يأتي بكرة وعشية، فلما رآه أبو بكر قال: (بأبي هو وأمي)، وهذه كانت كلمة معهودة عند الصحابة، يقول أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي) أي: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فأنت عندنا أغلى من آبائنا وأمهاتنا.

التحذير من اقتناء التلفاز في البيوت

التحذير من اقتناء التلفاز في البيوت إذاً: الهجرة علاج الاستضعاف، لكننا الآن في زماننا لا نستطيع أن نهاجر ونترك بيوتنا، فبقيت الهجرة التي لا تنقطع، وهي هجر معاصي الله تبارك وتعالى. لماذا -أيها المسلم- تترك جهاز الرائي في بيتك؟ إن الذي لم يستطع أن يخرج هذا الجهاز من بيته لن يستطيع أن يترك داره وولده ليهاجر في سبيل الله. مع أن هذا أقل تكلفة وجهداً، فليس عليه مضرة في أن يرفع جهاز التلفاز من البيت، ومع ذلك لا يفعل، ولا يقوى على أن يفعل؛ لأن هواه غلبه، وزوجته لا يستطيع أن يخالفها، وأولاده قد تعودوا على جهاز التلفاز، فتجده يقول: بدلاً من أن يذهب أولادي يتسكعون في بيوت الناس، فخير لهم أن يجلسوا في البيت وهذا منطق أعوج! فهل يليق بعاقل أن يقول: يا بني، اشرب الدخان عندي، ولا تدخن من خلفي، فإني لا أحب أن يضحك عليَّ أحد؟! هل ينفع هذا الكلام؟ وهل يجوز هذا في عقل عاقل؟ يقول: بدلاً من أن يتفرجوا عند الناس يتفرجون عندي! والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فإذاً كنت أباً مؤتمناً فعلاً على أولادك وتخاف عليهم من عذاب الله، فلا تعرضهم لعذاب الله عز وجل باقتنائك لهذا الجهاز المدمر للأخلاق وللدين وللشريعة! ألا تهاجر إلى الله عز وجل؟! ولن تندم، فإن البيت الذي ليس فيه تلفاز أنت فيه أبو ولدك، وأنت فيه القيم على ولدك، بخلاف البيت الذي فيه تلفاز، فإن تأثيره على الولد أقوى من تأثير الوالد، لاسيما إذا كان الوالد يقضي معظم نهاره في العمل. وبعض الآباء ينتقد دائماً كل شيء، فحياته كلها انتقاد، وكأنه ليس هناك شيء جميل أبداً. وستكون النتيجة أن حياته في البيت عبارة عن توجيهات: لا تفعل افعل، فمثل هذا المنطق وهذه الطريقة يستاء منها الأولاد وتستاء منها الزوجة، وهم يريدون أن يهربوا من هذا الهم، فيتفرجون على المسلسلات ويضيعون الوقت بكل أسف! ويا ليت هذا النظر يقتصر على مجرد التسلية وإملاء الفراغ؛ إنه يترك أسوأ الأثر في العقل الباطن للمتفرج، وأنا لا أنقل هذا الكلام من عندي، بل نشرته شركة ناشيونال اليابانية، وهذه الترجمة نقلتها مجلة البيان التي تصدر في لندن باللغة العربية. فتقول: إن من خصائص الأشعة التي يرسلها التلفاز أنها تجعل العقل نصف نائم، تصيبه بعملية شلل في بعض خلايا العقل فلا يفكر، بل يكون مستسلماً، فتصور عندما يكون الإنسان عقله نصف نائم، ويتفرج على مثل هذه الأشياء؛ سوف تلقي تلك الأفكار في روعه، لاسيما التي تتكرر بصفة دائمة. فهذه معصية من أعظم المعاصي! ولا يتذرع أحد بالدروس الخصوصية، والدروس التعليمية، فإن هذه حجة ليس لها أي قيمة، ولا تجري على قدم ولا خفٍ ولا حافر عند الله عز وجل أبداً، فإن دروس التلفاز لا تعطي شيئاً للطالب، ولو أعطته شيئاً فليس له قيمة في مقابل الشر المستطير. فهذه معصية ألا تهاجر إلى الله عز وجل منها؛ حتى لا تدخل في آية الاستضعاف الممقوت؟! وهاجر إلى الله عز وجل ولن تندم أبداً. وقد جربنا هذا في بيوتنا: أولادنا أكثر استقامة لنا؛ لأنهم لا يتلقون الأوامر إلا منا، والمرأة ضعيفة الخلقة، ضعيفة النفس، يمكن لأي إنسان أن يضحك عليها. وقد حدث أن ضحك رجل على امرأة، وأخذها من زوجها بعد خمسة وعشرين عاماً من زواجهما، وجعل يمنيها بالسعادة الموهومة، مع أن أولادها في الجامعة، وزوجها في مركز مرموق جداً، ولا ينقصه أي شيء، وهي من سيدات الطبقة الأولى، ومع ذلك تعطي أذنها، وحولت بيت زوجها إلى نكد مستمر حتى طلقها، فلما أن انقضت العدة تزوجها ذلك الرجل أربعة أشهر ثم طلقها! وهكذا النساء كلهن على خليقة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة)، ولذلك ينبغي أن يكون مذهبك في التعامل مع المرأة مذهباً مختلفاً لكل يوم، فلابد أن تكون عندك طرق متعددة في التعامل، فهي اليوم راضية، وغداً غاضبة، وأيضاً بعض النساء لا تعرف متى يغضب زوجها ولا متى يفرح، فالواجب أن تتعامل مع هذه النوعية بتعاملات شتى، والله عز وجل قد أباح التعدد للرجل وجعل في مقابل هذا التعدد أخلاقاً عنده كي يتعامل مع نسائه، لكن لا يستخدم هذه الأخلاق إلا الأذكياء. فلو شاء الرجل لما نشزت عليه امرأته، والكلمة الطيبة تؤثر فيهن، والرجل يستطيع أن يتلافى كل هذه المشاكل بكلمة طيبة، فمرة يشتد ومرة يلين؛ لأن لديه صلاحية أن يتعامل مع أربع نساء، وبعد ذلك إذا قام الجهاد وأفاء الله عز وجل علينا، وأخذ كل واحد منا عشرين أو ثلاثين أمة، فلابد أن يتعامل معهن جميعاً، وليعلم أن المرأة لن تستقيم له على طريقة واحدة، فيعامل هذه بأسلوب وهذه بأسلوب آخر، وهذا ليس نفاقاً، بل إنه عمل مشروع. فإذا كانت المرأة وهي سِلم لزوج واحد لا تكاد تستقيم له على طريقة واحدة، ثم هي أسيرة الكلام الناعم، وكل المسلسلات والأفلام كلامها ناعم، كلهم يبيعون كلاماً؛ فهم يأخذون عليه مالاً، الحلقة الواحدة بخمسة وأربعين ألف جنيه، وهذا هو بائع الكلام الوحيد الذي يكسب، هو هذا الإنسان. إذاً: المرأة مع ضعفها أمام كلام المسلسلات، ومع وجود المشاكل بين الزوجين، مع أن ذلك الممثل بينه وبين امرأته مشاكل، فإذا كانت المرأة ضعيفة أمام هذا السحر، إذاً: أنت تعرضها لأن ترى رجلاً أجمل منك، وتسمع كلاماً أعذب من كلامك. وبعد ذلك يشتكي الرجل ويقول: امرأتي ناشز عليَّ!! يا أخي! أزل أسباب الشكاية أولاً، روى الإمام مسلم أن أنجشة لما كان يحدو للإبل وقد كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يركبنها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أنجشة! رويداً! رفقاً بالقوارير)، والظاهر من لفظ الحديث (رفقاً بالقوارير) أي: حتى لا تجري الجمال وتشتد سرعتها فتتعب أمهات المؤمنين اللواتي يركبن على ظهرها، هذا هو الظاهر من رواية مسلم. لكن ورد في مستدرك الحاكم بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حتى لا يتأثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصوت أنجشة، قال: (رفقاً بالقوارير) فقد خشي أن يؤثر فيهن ذلك الصوت الجميل، مع أنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد لهذا المعنى قول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقوله لهن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، سبحان الله! الذي في قلبه مرض سوف يطمع في ماذا؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد نكاحهن أبداً. إذاً: معنى هذه الآيات يشهد لمعنى الحديث، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أزواجه وعلى قلوبهن من الصوت الحسن؛ فكيف بالمرأة في هذه الأيام وهي تسمع آهات الرجل وهو يغني، وآهات المرأة وهي تشتكي بعد حبيبها؟! إنها مصيبة عظيمة، وأنت مسئول عنها أمام الله عز وجل! فإذا كنت لا ترجو نجاتهم فارج نجاتك أنت، لا تعرض نفس للتلف، وكن أنانياً محباً لنفسك. فمن أراد أن يحقق الهجرة -وهذه بداية الهجرة الكبيرة- فليخرج من هذه المعصية إلى الطاعة، يخرج من جهاز التلفاز والمعاصي الموجودة في البيت إلى الطاعة، اخرج من ملابسة أهل العصيان اختياراً، فإن من لابس المعصية ولو بجهل فلا يلومن إلا نفسه، فلو أن رجلاً مثلاً عطش فوجد خمارة -حانة- فدخل وشرب ماء وخرج منها، فرآه الناس فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، لقد كان يشرب خمراً! وهم لم يعلموا ماذا كان يعمل في الداخل، كذلك لو دخل رجل بيت دعارة يبحث عن مسكن ثم خرج، فرآه الناس فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل ماذا كان يعمل! واتهموه ووقعوا فيه، فلا يلومن إلا نفسه، مع أنه فعل هذا بغير قصد، فكيف إذا لابس أهل العصيان؟! نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معاصيه، وأن ينفعنا بما سمعنا. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جانب من حياة الصحابة

جانب من حياة الصحابة المتأمل للصحابة رضي الله عنهم، ولإحاطتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يجد شيئاً عظيماً جداً، فقد كانوا يحيطونه ويحرسونه ويفدونه بأرواحهم، بل كانوا ينقلون عنه كل صغيرة وكبيرة من أمور الآخرة والدين، بل كانوا يضيقون على كل من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان قريباً منهم، فقد كان رضا النبي صلى الله عليه وسلم هدفهم دون غيره.

تلقي الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدين كاملا

تلقي الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدين كاملاً إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حج فحججت، وعدل فعدلت فقضى حاجته، فصببت عليه من الإناء وهو يتوضأ. فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ٌ) [التحريم:4] فقال: وا عجباً لك يا ابن عباس إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجارٌ لي من الأنصار، ينزل يوماً فيأتي بخبر الوحي، وما يكون من العلم فإذا نزلت أنا فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فطفقت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني. قبل هذه الفقرة قال عمر رضي الله عنه: فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه اليوم حتى الليل؛ فأفزعني ذلك ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم إلى الليل، قالت: نعم، فقلت لها: ومن يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، لا تسأليه شيئاً ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني عائشة رضي الله عنها- أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فخرجت أجر ردائي، قلت: مالك، أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، قال عمر: فنزلت إلى حفصة فوجدتها تبكي فقلت لها: لم تبكين؟ أو لم أكن حذرتك -وفي بعض الروايات خارج الصحيحين قال عمر: والله لولاي لطلقك، ثم صلى عمر الغداة ثم دخل المسجد فإذا رهط حول المنبر يبكي بعضهم، قال: فجئت مشربة -المشربة مثل الحجرة لها باب على المسجد- وغلام للنبي صلى الله عليه وسلم واقف على باب الحجرة يمنع أي أحد من الدخول، قال: فجئت فقلت للغلام. استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت عند المنبر، فجلست لكن غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فذهبت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، قال: فانتظرت، فبينما أنا عند الباب إذ ناداني، فقال لي: قد أذن لك، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: لا أجلس حتى يتبسم، أو قال: حتى أستأنس. قال: فقلت: يا رسول الله، لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: فجلست، وجعل عمر رضي الله عنه يدير عينيه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاث -ثلاثة جلود- فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فجلس، وقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، فلما دخل عليها، قالت: يا رسول الله، إنك حلفت ألا تدخل علينا شهراً، وقد مضى تسع وعشرون أعدُّها عداً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون، -وفي رواية قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين. هذا الحديث يبين لك جانباً من حياة الصحابة وحياة النبي عليه الصلاة والسلام، الصحابة ليس لهم نظير أبداً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له). لم يرزق نبي قط بأصحاب مثل نبينا، ولا جرم! فهو سيدهم، فالمناسب أن يرزقه أيضاً بأصحاب يناسب سيادته. نحن نعرف كثيراً من الأنبياء، ونخص منهم أولي العزم: نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، تعرفون شيئاً عنهم أكثر من رسالاتهم؟ لا تكاد تسمع عنهم شيئاً، بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، نقلوا كل شيء حتى أدق المسائل. كانوا ينظرون إليه مثل الكاميرات المسجلة، وباعث ذلك هو شدة الحب. أحد الصحابة يقول: لأرقبن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، يريد أن ينظر إليه وهو يصلي، ماذا يفعل؟ حتى الشيء اليسير في الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فقرأ بسورة المؤمنين، فلما بلغ ذكر موسى وهارون أصابته سعلة فركع. حتى مثل هذا ينقلونه، وكانوا يقولون: كنا نعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر باضطراب لحيته، عندما كان يسجد، كانوا ينظرون إلى أصابع اليدين والرجلين. فنقلوا عنه كل حركاته وسكناته، ولم ينقل عن بقية الأنبياء عشر معشار ما نقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا الحديث إطلال على حياة الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.

الفرق بيننا وبين الصحابة في تحقيق الشهادتين

الفرق بيننا وبين الصحابة في تحقيق الشهادتين أيها الإخوة الكرام المؤذن يرفع الأذان كل يوم خمس مرات، وأنت تردد خلفه ومن جملة ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وسُنّ لنا أن نقول مثلما يقول المؤذن، فأنت أيضاً قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. الشهادة لم يحققها إلا الصحابة وأقل القليل من الذين جاءوا بعدهم. ومعنى (أشهد) أي: أرى بعيني، فأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أرضى وأشهد شهادة حضور وهي ضد الغيب كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:73]، ثم إنه لا يجوز لك أن تشهد إلا بما استيقنته، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. إذاً: ركنا الشهادة: العلم والفهم، وأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله كأنك تقول: أنا أراه وأشهده، فإذا كنت تعتقد أنك تراه أيقوم قلبك على شهود العصيان؟ لا يقوى قلبك على ذلك لو كنت تحقق كلمة (أشهد)، فإذا عجزت فعلاً أن تراه فاعلم أنه يراك وبذلك نزلت درجة، وهذا النزول من قمة الدين الذي هو الإحسان. الدين: إسلام، وإيمان، وإحسان، وتعريف الإحسان كما عرفه النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام قال: (أن تعبد الله كأنك تراه)، هذا معنى الإحسان (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فهل حققنا كلمة (أشهد) التي نحن نقولها خمس مرات في اليوم والليلة وعرفنا معناها؟. الركن الثاني من الشهادة: أشهد أنّ محمداً رسول الله، أي: إذا بلغك عنه حديث فتوهَّم أنك تراه، نحن أحياناً نعرض الأحاديث على بعض الناس فيردونها، ولا يمتثلون لها، فأنا أقول لهذا الضرب من الناس: تخيل أنك لست واقفاً أمامي بل أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لك: افعل كذا، هل تستطيع أن تعارض؟ تقول: لا أفعل؟ أنا أجزم أن كل الجلوس ستكون إجاباتهم: لا نستطيع أن نعارض. وقد اتفق العلماء على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى سنته بعد مماته؟

الفرق بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبين بلوغك كلامه من غيره

الفرق بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبين بلوغك كلامه من غيره فما هو الفرق يا ترى بين وجوده عليه الصلاة والسلام، وبين بلوغ كلامه لك؟ الفرق: (أشهد). (هذا هو الفرق) لو كنت تعتقد أنك تشهد أنّ محمداً رسول الله؛ ما عصيته أبداً، ولذلك تقي الدين السبكي -رحمه الله- طرح سؤالاً في جزء له اسمه: (بيان قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي)، -والإمام المطلبي هو الإمام الشافعي رحمه الله-. سئل الإمام تقي الدين السبكي عن رجل قرأ عليه حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام وهناك فتوى تخالفه من أي عالم، فقال: (وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بذلك، فهل يحل له أن يخالف؟) في هذا المجلس قد يكون من بعض الجلوس أحد ابتلي بلبس دبلة ذهب، أو خاتم من الذهب، وكل هذا لا يحل، ولا يجوز للرجال، فالآن هو لابس الدبلة وقد لا يكون عالماً بالحكم، فأنا لو قلت الآن: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الذهب في يد والحرير في يد وقال: (هاذان حرام على ذكور أمتي). أيها الأخ الذي يلبس الذهب ولا يعلم بالحكم! هل مجرد أن سمعت الحديث مباشرة الآن خلعت الذهب؟ هل امتثلت وخلعته فوراً، أم تباطأت حتى أُنهي الكلام، ثم تعود إلى البيت، وتعمل جلسة طارئة تحدث فيها نفسك وأنت متردد، هل أخلع الدبلة أم لا؟ هذا هو الفرق. في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يلبس خاتم ذهب، فنزعه من يديه نزعاً شديداً وطرحه، فلما أراد الرجل أن يقوم وينصرف، تاركاً خاتمه، قال بعض الجلوس: خذ خاتمك وانتفع به، فقال لهم الصحابي: (ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله) طالما رماه على الأرض، أنا فلن تمتد يدي إليه، هذا هو تصرف الصحابة. والذين جاءوا من بعدهم، وامتثلوا لمثل هذا النداء العظيم، أشهدُ أن محمداً رسول الله، فحقق معنى الشهادة التي يكررها في اليوم خمس مرات، فالصحابة حققوا هذا أتم تحقيق، وضربوا المثل الأعلى لمن يأتي بعدهم للاتباع، وهذا الحديث شاهد صدق على ذلك.

ابن عباس يقف مع قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله) الآية

ابن عباس يقف مع قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) الآية يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (فلم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، ونقل عنه أيضاً في كتاب التفسير قال: ظللت سنة أريد أن أسأل أمير المؤمنين عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، حتى حج وحججت معه. و (عدل) أي: ترك الطريق ليقضي حاجته، وعدلت، فقضى حاجته ثم جاء. ففي هذا دليل على استحباب أن يلتمس التلميذ خلوات العالم ليسأله. وهذا أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم، وليس كلما ظهر له سؤال جاء وسأله، فهذا ليس من الأدب، إنما ينبغي عليه أن ينظر إلى خلواته، فإذا رآه وحده، أو رآه منبسطاً، أقبل عليه وسأله، وهذا الذي فعله ابن عباس، لبث سنة كاملة يريد أن يتحين فرصة يختلي بـ عمر ليسأله هذا Q لأن الهجوم المستمر على الشيخ يضجِّره من التلميذ، فهذا الذي يظهر به التلميذ كثيراً، لماذا؟ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها. فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يلتمس خلوات العالم، فيسأله، ولا مانع حتى يرقق قلبه عليه أن يخدمه بشيء يسير خدمة بين يدي السؤال، مثلما فعل ابن عباس حديث حمل الإبريق لـ عمر ومشى خلفه، وانتظر حتى قضى حاجته، ثم سأله السؤال، قال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أسألك منذ سنة، فأمتنع تهيباً منك أن أسألك، قال: يا ابن أخي، إذا علمت عندي علماً فسلني، فمهابة العالم لا تصدك عن أن تسال سؤالك فإنه لا يتعلم اثنان، كما قال مجاهد فيما رواه أبو نعيم في كتاب الحلية عنه بسند ضعيف، وعلقه البخاري في صحيحه قال: (لا يتعلم اثنان)، يظلون جهلاء طوال عمرهم (مستح ومستكبر) المستحيي يمنعه الحياء والهيبة وما إلى ذلك أن يسأل السؤال. ابن عباس سأله قال: لا، (إذا علمت أن عندي علماً فسلني) فقال ابن عباس من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فقال: (واعجباً لك يا بن عباس) (إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه) بدأ يحكي القصة، وسر عجب عمر من ابن عباس قد يكون لما عُهد من ابن عباس من معرفة التفسير والبحث عن ضوابطه، وهذا من التفسير فكيف خفي عليه، أو لعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعجب من فطنة ابن عباس وذكائه الوقاد أن يسأل هذا السؤال وتخفى عليه هذه الواقعة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له رأي حسن في ابن عباس وكان يحبه. فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع شيوخ بدر): وهم الثلة المضيئة في جبين المسلمين، فهم كل من شهد غزوة بدر، ولذلك ينسب إليها من شهدها لشرفها، ولا ينسب إلى أي غزوة أخرى، فيقال مثلاً: فلان البدري، ولا يقال: فلان الأُحدي ولا الخندقي ولا أي نسبة لغزوة أخرى، إنما ينسب إليها فقط، فينسب شاهدها إليها من باب الفضل. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يستشير أو يعقد مجلساً، كان يحضر شيوخ بدر، ثم يستدعي ابن عباس فيدخله معهم، فغضب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقال لـ عمر: (تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله)، فأسرها عمر في نفسه، فلما جمعهم بادر عمر فطرح سؤالاً، قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، قال أحدهم: إنه أمر من الله عز وجل أنه إذا دخل الناس في دين الله أفواجاً بأن يسبحوه ويستغفروه، وقال آخر: لا أعلم إلا ما قاله، ووافق الجميع على ذلك، فقال: وما تقول فيها يا ابن عباس؟ قال: أرى أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه. فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها إلا ما تقول. قال ابن عباس: (وكنت أرى أنه أراد أن يريهم ما عندي)، وفي هذا دلالة على استحباب اصطحاب الصغار إلى مجالس الكبار؛ ليتعلموا، فالولد الصغير عندما يصاحب الكبير يستفيد من خبرته وتتوسع مداركه، ولذلك كانت سنة الآباء قبل ذلك أنهم إذا حضروا مجالس العلم أن يصطحبوا الصغار. كان سفيان بن عيينة -رحمه الله- يلقي درساً لأصحابه، فدخل صبي صغير ومعه ورق وقلم ومحبرة، فبمجرد أن دخل الصغير وكلهم طلبة كبار -تلاميذ سفيان بن عيينة - فمجرد أن ضحكوا فتلا سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، ثم التفت إلى أحمد بن نضر راوي الحكاية عن أبيه قال: يا نضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، أكنافي قصار، وسيفي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، كـ الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير. وتبسم سفيان وضحك، وتبسم نضر وضحك، وتبسم أحمد راوي هذا عن نضر وضحك، وضللوا يضحكون حتى وصلوا إلى الحافظ راوي الحكاية، وكلهم يضحكون، وهذا من الأمانة في أداء الرواية، واسم هذا النوع من الرواية المسلسل بالضحك، وهناك أحاديث اسمها المسلسلات، وهي: أي أداء الحديث على وصف معين وهيئة معينة، والتشبيك قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني علان وشبك يده في يدي، والكل شبكوا في أيدي بعض، أو المسلسل بالأولية، وهو مشهور وهو حديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني علان وهو أول حديث سمعته منه وهكذا. كان الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله يأخذه أباه إلى مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهو ابن ثلاث سنين، وكان السيوطي يفتخر جداً بأن عمر ابنه كان ثلاث سنين، وجالس في مجلس الحافظ ابن حجر، فأدخل أولادك الصغار في مجالس الكبار، سيأخذون من عقولهم ومن تجربتهم، ابن عباس اكتسب خبرة من مجالسة أشياخ بدر، فكأن سيدنا عمر رضي الله عنه تعجب من خفاء تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] الآية، مع شهرة على ابن عباس وعلمه بالتفسير. ثم استقبل عمر الحديث يسرده، فبدأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجملة يريد أن يقول فيها: إن هذا الأمر هو سبب الإشكال كله، فقال: (كنا معشر قريش قومٌ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) فلم يكن للمرأة قيمة في المجتمع القرشي، إنما هي للولادة والخدمة فقط، فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والمجتمع المدني مجتمع حضاري، كالفرق الآن ما بين القاهرة الكبرى وما بين أي ريف من الأرياف، فأي رجل من الأرياف يدخل متجراً لكي يشتري، يلقى الرجل من المدينة يشاور المرأة في شراء شيء معين، تقول له: لا تعجبني هذه، فيقول لها: أتعجبك هذه؟ فتقول له مثلاً: لنذهب إلى متجر آخر، فيرد عليها: حاضر حاضر أما هذا فاعتاد طوال عمره أنه لا رأي للمرأة، فهو صاحب الرأي الأول والأخير في الموضوع، إنما المدينة مختلفة، المرأة لها كلمة، والرجل يشاور، فلما خرجت النساء من مجتمع مكة، (أم القرى)، وذهبوا إلى المدينة رأين شيئاً جديداً، رأين الشيء الذي ذكرته الآن كمثال.

أدب الصحابة فيما بينهم

أدب الصحابة فيما بينهم يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا) هذا هو الأدب، هو مُغضب من تصرف إخوانه في المدينة، حيث لم يعجبه، ومع ذلك قدم بكلمة (إخواننا) حتى لا تظنوا أنه يطعن أو يعيب أو يسب أو يعير، وذكر لفظ (الأخوة) فيه معنى جميل، فالأخ أغلى من الابن، فربنا سبحانه وتعالى في معْرِض الانتصار يقول: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) [البقرة:178]، لم يقل: مِن قاتلِهِ، ولا ممن اعتدى عليه، فلما ذكر الحق ذكر الأخوة، لكي يعفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]. قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34]، فبدأ بذكر الأخ، كأنه برغم الآصرة القوية وأن الأخ يفتدي أخاه، إلا أنه في هذا الموضع يفر منه، وقدمه على سائر الأصحاب، حتى على أبيه وأمه، فـ عمر رضي الله عنه قدم بلفظة (إخواننا) حتى لا تستشعر أنه يسب أو يعير، قال: فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم. قال: (فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني)، وفي خارج الصحيحين: (قال: فتناولت قضيباً فضربتها)، وانظر إلى لفظ: (فصخبت) حيث اعتبر أن مجرد المراجعة صخب، (فتناولت قضيباً فضربتها)، قالت: (أو في هذا أنت يا بن الخطاب، ها هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح) أي: أنا لست أقل منهن، ولا أفضل منه، قال: فأفزعني ذلك، وقلت: أو تفعل حفصة ذلك، ما قال عائشة ولا صفية ولا زينب بل سأل عن ابنته قال: وتفعل حفصة ذلك، ونزل إلى حفصة مباشرة قال: أي بنيتي! أتراجع إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل، قالت: نعم، قال: (وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله) أي: ما الذي أعطاك صكاً بالأمان، أنك تنشزي عليه فيغضب عليك لغضبه، فالله يغضب عليك؟ لماذا كان هذا الموقف من نسائه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من رحمة الله عز وجل أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يعاملنه كزوج، لا سيما عائشة رضي الله عنها كما ألمح عمر بن الخطاب، وذكر الحقيقة الشهيرة، التي كانوا يعرفونها جميعاً، وهي أن عائشة كانت أفضل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت أحبهن إليه عليه الصلاة والسلام. فيقول لها: (لا يغرنك أن كانت جارتك) وهذا من حسن الكلام والتعبير، ولم يقل لها: لا يغرنك أن كانت ضرتك لماذا؟ لأن الألفاظ قوالب المعاني، وضرتُك مأخوذة من الضر، والنحاة العرب والصحابة كان لديهم ذوق عالٍ حيث لم يكونوا يستخدمون اللفظ الذي فيه إهانة لفظاً قبيحاً أو شاذاً. قال: المأمون مرة لأحد علماء الدولة الكبار: ما الأمر من السواك؟ عندما تقول لشخص استخدم السواك ماذا تقول له؟ قال له: استك يا أمير المؤمنين، قال: بئس ما قلت. مع أن كلامه صحيح، ثم قال لآخر: وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت. مع أن إجابة الأول صحيحة، والثاني خطأ، لكن كان عندهم ذوق، فـ عمر بن الخطاب تنكب لفظة ضرّتُك؛ لأنها مشتقة من الضُّر، هذا هو منهج الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان يغير الأسماء، على مقتضى المعاني الجميلة، مثال: لما قال لـ بريدة بن الحصيب: ما اسمك؟ قال: اسمي بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وخمد، وقال لآخرين: الجماعة من أين؟ قالوا: من غِفار. فقال: غفر الله لها، ثم قال: وأنتم؟ قالوا: من أسلم. فقال: سالمها الله، فيأخذ المعنى من باب الاسم. ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير الأسماء، وجعلها على معنى جميل؛ لأجل هذا، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء مثل: رباح ويسار ونجاح ونجيح وفلاح، قال: لا يسمين أحدكم غلامه رباحاً ولا نجاحاً ولا فلاحاً أو نجيحاً أو يساراً، لماذا؟ مع أن يسار خير من اليسر، ورباح خير من الربح ونجاح خير من النجاح، وفلاح من الفلاح أيضاً، فلماذا نهى عن هذه الأسماء الجميلة، قال: (حتى إذا قيل: أثم هو فيقال: لا)، مع أن المتكلم والسامع لا يخطر على باله هذا المعنى، فإذاً: العلة هي ما يقع في سمع السامع وأنه لا فلاح ولا نجاح ولا يسار لما يقول له: غير موجود، لا فلاح ولا نجاح وما إليه. لذلك حين تختار اسماً، فاختر إما اسماً له دليل كمريم وفاطمة، وعائشة، وخديجة، أو اسماً له معنى جميل، مثل ميمون، فميمون من اليُمن، ولاحظ المصيبة، شخص أراد أن يسمي ابنه (ميمون)، فقالت أمه: نسميه على اسم القرد؟ من الذي قال: إن القرد اسمه ميمون، والقردة اسمها ميمونة؟ من قال هذا؟ أو مثل معاذ، أي: أن الله أعاذه، وأنس من الأنس، وهكذا. فاختيار اللفظ مسألة مهمة: عمر بن الخطاب تنكب أن يقول: ضرّتك، ومحمد بن سيرين كان يسمع يقال من يقول عن المرأة الثانية أنها ضرّة، فكان يقول: إنها لا تضر ولا تنفع ولا تذهب برزق إلا بكتاب،، إنما يقال جارة من الجوار، والجار له حق على الجار، ليس فيه معنى قبيح.

فضل عائشة رضي الله عنها على نساء النبي صلى الله عليه وسلم

فضل عائشة رضي الله عنها على نساء النبي صلى الله عليه وسلم يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منك)، أي: أجمل وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أنت ليس لك تلك المكانة، فلماذا تقلدينها؟ وعائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام فعلاً يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها. وفي بعض الأحاديث أن صفية رضي الله عنها تقريباً غضب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى عائشة ووهبت لها ليلتها نظير أن تتوسط وتصلح بينها وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، قالت لها: وأعطيك الليلة الخاصة بي، بشرط أن تقومي بدور الوسيط وتجعليه يرضى عني، قالت عائشة: (فجئت إلى خماري فبللته ففاح عطره، وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست بجانبه) ولم تكن ليلتها، كانت ليلة صفية، فقال: (إليك عني يا عائشة)، أي: ابتعدي عني، قالت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) هذا رزق جاء من السماء لـ عائشة رضي الله عنها. نقول هذا الكلام لإخواننا الذين يعيشون في المدينة بعقلية القرويين، صحيح أنهم من أهل المدينة لكنهم يتعاملون بالبداوة، فنقول له: تأسَّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأرجوك عندما تكلم امرأتك هدأ نفسك، وحكم عقلك، واتق الله فيها، قد يكون كلامها صحيحاً، فأرضها وطيب خاطرها، طالما أنه ليس فيه معصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. كان يقول لـ عائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى)، قالت عائشة: فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلتِ: لا ورب إبراهيم)، هل يضره غضبها؟ لا. لكن غضبه يضرها، ومع ذلك لاحظ التلطُّف، قالت: فقلتُ: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما أهجر إلا اسمك) فيحتمل هذا منها عليه الصلاة والسلام ولا يعاقبها، ولا يغضب عليها، فكان لـ عائشة حظوة أيما حظوة، فكان هذا معلوم للكل. فـ عمر بن الخطاب يوصي ابنته ويقول لها: لا تقلدي عائشة؛ لأنه ليس لك من الحظوة ولا من الجمال ما لها. وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه العدل في ابنة أبي قحافة، لأن الناس كانوا يتحرون في هداياهم ليلة عائشة، يتوددون إلى النبي في بيت أحب نسائه. فالصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ويريدون أن يتقربوا إليه، فعندما يأتي بهدية يحبسها عنده حتى ليلة عائشة ويرسل الهدية، فتجمع عند عائشة رضي الله عنها هدايا كثيرة، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يرين هدايا من كل شكل ليس عندهم شيء منها، فيردن من الناس القسمة على جميع نسائه، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره عن نسائه أنهن يردن أن يقسموا، تقول عائشة رضي الله عنها: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم)، تمشي مثله (والنبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة في لحاف واحد، فقال: أهلاً بابنتي، فأجلسها، ثم قال لها: إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة -التي هي عائشة - قال: (أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟ قالت: أجل قال: فأحبي هذه)، أي: أنهي الموضوع ولا تراجعيني، كان أزواج النبي مجتمعات في بيت إحداهن، بانتظار الرد. فجاءت فاطمة فدخلت، فقالت: (والله لا أراجعه فيها أبداً)، فلم ييئسن وأرسلن زينب، أغلى واحدة من أزواجه بعد عائشة تقول: (إن زينب هي التي كانت تساميني في المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم)، فجاءت زينب، فدخلت تقول: -وهو في لحافي- فتكلمت بكلام شديد وأضجعت، أي: قالت كلاماً شديداً، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، قالت عائشة رضي الله عنها: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟) انظر إلى وفاء الزوجة، ليست من ذلك النوع الذي إذا علمت أن زوجها يغضب من شيء، فتأتي ذلك الشيء، لماذا هكذا، تغضبيه وتتعبيه وتفعلي الشيء الذي يغضبه؟ هذا ليس من الوفاء. فـ عائشة تستطيع أن ترد مباشرة، لكن نظرت في وجهه أولاً، هل أسارير وجهه تنطق بعدم الرضا لو تكلمت أو بالرضا؟ فهمت من العشرة أنه لا يكره أن ترد عليها، قالت: فقلت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر، وضحك وتبسّم، وانتهى الموضوع. فقال عمر بن الخطاب لابنته حفصة: (لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، والإمام البخاري رحمه الله بوب في كتاب النكاح بهذه الجملة على الحديث كله، فقال: (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها). نحن نوصي الآباء بأن يحذوا حذو عمر، لا أن يقوم خصام بين ابنته وبين زوجها فيمسك زوجها ويخاصمه لماذا؟ يا أخي! حافظ على قوامة الرجل إذا أردت أن تعاتبه فاختل به، وقل له: يا فلان هذا لا يجوز، أنت أخذت ابنتي بكلمة الله، واستحللتها بأمانة الله، فلا يحل لك أن تفعل كذا وكذا وكذا؛ أما أن تأتي وتعاتب الرجل أمام المرأة فهذا ليس من الحكمة في شيء، لماذا؟ لأن هذا يضعف من قوامة الرجل على المرأة، فينبغي على الرجل أن يعين ابنته على البر بزوجها، وعلى طاعة زوجها. كما فعل عمر رضي الله عنه قال: (يا بنيتي! لا تسأليه شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، قال عمر رضي الله عنه: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) لاحظ الكناية الجميلة هذه، (تنعل الخيل)، تلبس الخيل حذاء، ومعناها: أنها تستعد، كما أن الشخص يلبس حذاءه ليمشي، (فتنعل الخيل لغزونا) أي: تعد الخيل لغزو المدينة، وكان ملك غسان هو آخر ملك من ملوك الروم يهدد المدينة، فكان الصحابة على أهبة الاستعداد.

تناوب الصحابة في طلب العلم وطلب الرزق

تناوب الصحابة في طلب العلم وطلب الرزق قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول الكلام أنه كان وصاحب له يتناوبان النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يستطيع أن يترك حياته ولا معيشته؛ لأن هناك نفقة واجبة عليه، لأن النفقة على الأولاد وعلى الزوجة واجبة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته)، كما في صحيح مسلم، وكما في حديث بسند ضعيف (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، كفى إثماً به أن يضيع امرأته وعياله، فكان لا بد أن يعمل ليسقط هذا الواجب عنه، وفي نفس الوقت لا يريد أن يفوته علم ولا خير من النبي صلى الله عليه وسلم، فاتفق هو وجاره من الأنصار أن ينزل يوماً عند النبي عليه الصلاة والسلام وعمر يشتغل في تجارته أو زراعته، واليوم الثاني ينزل عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب الأنصاري هذا اليوم إلى تجارته، وكل يوم في الليل الذي عليه الدور يذهب لصاحبه في البيت ويقول له: نزل من الوحي كذا وكذا، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وتحدث بكذا، ويحكي له وقائع ذلك اليوم. فـ عمر بن الخطاب يقول: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً، وطرق الباب طرقاً شديداً) أي: على غير العادة، (وقال: أثم هو) أي: أهو موجود؟ وفي الرواية الثانية: (أنائم هو؟) فسمع عمر بن الخطاب صوته (فخرج يجر رداءه، ثم قال له: ماذا جرى! أجاء غسان؟) أي: الملك هجم على المدينة، قال له: (لا، بل حدث ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلّق النبي نساءه) لاحظ تعبير الصحابي، يعتبر أن تطليق النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته وتكدر خاطره أعظم من اجتياح العدو المدينة، وكانوا يراعون النبي عليه الصلاة والسلام، مراعاة ليس لها حدود، حتى أن عمر بن الخطاب لما دخل المسجد وجد حول المنبر رهطاً يبكي بعضهم، ليس لأجل النساء، حتى لو كانت ابنته أو أخته، بل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معتزل في المشربة، وقد تكدر خاطره، لأنهم كانوا يحبونه غاية الحب، ومن عرفه أحبّه ولم يخالفه أبداً، فالذي يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ويدمن النظر في سيرته، لا يستطيع أن يخالفه أبداً؛ فكيف بمن شاهده وسمع كلامه، ورأى حنوه عليهم، عليه الصلاة والسلام. نريد أن نعلم الزوجات ترك الاعتراض على الزوج وتكدير خاطر الزوج؛ لأن نهاية هذه المعاملة دمار البيت. نحن نتكلم كثيراً عن جيل التمكين، فإذا البيت يدمر فقد عندنا أي رصيد لجيل التمكين، فعلى الأم والأب أن يتعاونا معاً لأجل الوصول إلى هذه الغاية، قد تخفى الأم على الأب خبر أن الولد يشرب سجاير، لمصلحته كما تزعم، والأب ليس عنده أي علم بذلك، فهذه خيانة، لابد من عرض هذه المسألة على الأب. فترك الاعتراض وعدم الاعتراض في حق الرجل يوجب الغضب على المرأة يقول عمر رضي الله عنه: (كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فكل هذا الذي يحدث ما هو؟ فنزل إلى حفصة فوجدها تبكي قال: (لم تبكين؟ أولم أكن حذرتك؟ أطلّقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما أدري).

من فوائد الحديث: جواز أن يتخذ الحاكم حاجبا

من فوائد الحديث: جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً دخل المسجد ووجد رهطاً عند المنبر فجلس عندهم، ثم أتى غلام فقال: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً أو بواباً، وأقول: جواز، وإلا لو رأى الحاكم أو الأمير أو الرجل الكبير، حتى ولو لم يكن له منصب رسمي، لكن له منصب في الناس، خاصة إذا رأى أنه لا يستقيم الحال إلا بحاجب حتى تضبط الأمور، ولا يقال له: أنت مفرط ولا مقصر، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة، اصنع لي رحى، قال له: أنا سأعمل لك رحى، والله أعلم أن عمر بن الخطاب كأنه فهم كلامه يتحدث بها أهل المشرق والمغرب. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلق على هذه المقولة فقال: توعدني العبد، هذا أمير المؤمنين وهذا عبد، قال: توعدني العبد، يهددني ومع ذلك لم يتخذ قراراً إجرائياً، ولم يتخذ حاجباً، حيث ترك القضية هكذا برغم أنه قال: توعدني العبد، فلم لم تتخذ حاجباً طالماً توعدك؟ إذاً: اتخاذ الحاجب على الباب فيه دلالة على جوازه، فللأمير أو الحاكم أن يتخذ حاجباً أو بواباً إذا لزم الأمر، وإلا فله أن يترك ذلك. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي، فقال: (اتق الله واصبري) قالت: إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي، ثم تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخبرت المرأة أنه رسول الله، فانطلقت تسأل عنه، فجاءت فلم تجد حاجباً ولا بواباً؛ فدخلت إليه، فقالت: إنها لم تعرفه، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى). يقول العلماء: الأحمق يجزع في المصيبة ويرتكب المخالفات، وبعد شهر تقول له: عظم الله أجرك، يقول لك: الحمد لله، بعد شهر يرضى بقضاء الله، لذلك لا يقال للذي استسلم للمقادير بعد الاعتراض: إنه صابر، لأنه استوعب المصيبة وما معه إلى الرضا فليس بصابر، إنما الصابر حقاً من إذا قرعته المصيبة فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى). فقلت للغلام: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء اسمه عند الاستئذان، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم فطرقت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، قال: فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا)، كأنما كرهها، فأنت حين تطرق الباب، فيقال: من؟ قل: فلان، لكن تقول: أنا أنا؟ ومن أنت؟ إن ابن الجوزي لما شرح هذا الحديث، أثبت فيه كراهة الحبيب صلى الله عليه وسلم لقول: أنا، قال: كأنه يقول: أنا الذي يُعرف نسبي، ولا أحتاج إلى ذكر اسمي، وتخيل كم في الدنيا من الناس لو قال كل واحد منهم: أنا، هل سيعرف من في الباب؟ كـ الفضل بن دكين رحمه الله، كان له طلبة وامتنع أن يحدث، لأنهم ضجّروه، فأحب أن يعاقبهم فامتنع عن تعليمهم فجاء شخص وطرق عليه الباب فقال: من؟ قال: رجل من بني آدم، ففتح الباب وأخذه بالأحضان، قال: ما كنت أظن أن هذا الجنس بقي منه أحد. فـ (أنا) فيها نوع من الاعتزاز بالنفس، وأنت إذا نظرت إلى إبليس وجدت أنه دخل النار لما قال: أنا، وقارون أهلكه الله لما قال: أنا، وصاحب الجنتين لما قال: أنا أزال الله النعمة عنه، فاحفظ هذا يقول إبليس:: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، ويقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] المال هذا حصلت عليه بعبقريتي وذكائي وحساباتي الجيدة، والرجل الثالث قال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وهو يحقره بالكلمة هذه، حيث استخدم أنا وهو يريد الكبر والأنفة، فقال له الضعيف: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، ولنا أن نقول: هناك فرق بين أنا التي جاءت على لسان الغني المتكبر، وأنا التي جاءت على لسان الآخر. إن المؤمن حينما يقول: أنا، لا يقصد أن يتكبر بها ويفاخر، بخلاف غير المؤمن، والفرق: أن المؤمن قال: أنا، للمشاكلة فقط، لم يرد بها التفاخر كالآخر. فيسن للمستأذن إذا سئل: مَن؟ أن يقول: فلان، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (قلت: استأذن لـ عمر)، (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت)، والسكوت: علامة الرضا، فلماذا عمر لم يدخل؟! إذاً: المسألة فيها تفصيل، السكوت أحياناً يكون علامة عن الرضا، وأحياناً يكون علامة عن الغضب، فالسكوت علامة الرضا في الزواج مثلاً، وفي القعود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (تُستأمر البكر، قالوا: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، قال: إذنها سكوتها)، إذا سكتت فقد رضيت؛ فالسكوت علامة الرضا. أما السكوت في هذا الحديث فليس علامة الرضا، وكيف عرف ذلك بالقرائن، والرسول عليه الصلاة والسلام مغضب وهجر نساءه، هذه قرائن، فالقرائن هنا تدل على أن السكوت ليس علامة الرضا، إذا نحن نعتبر القرائن في فهم الكلام من السياق، والعلماء يقولون: السياق من المقيدات. عندما تقرأ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، ستظن بأنه لا عزيز ولا كريم، أليس كذلك؟ لأن السياق يدل على الإهانة، والتنقص ليس في النار عزة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]، فلا خزي أكثر من هذا، مع أن كلمة عزيز وكريم لو وضعتها في سياق آخر تؤدي نفس كلمة عزيز وكريم، لكن في هذه الآية أدّت العكس. إذاً: السياق من المقيدات، وهذه مسألة مهمة جداً. وبعض الذين احتجوا على نجاسة الدماء كلها، احتجوا بحديث أسماء، لمّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قال: (واغسلي عنك الدم). بينما هي لما سألته عن الدم، سألته عن الاستحاضة، وليس غيره، فلا يأتي شخص ويقول: الدم كله نجس، والدليل الحديث السابق، ولفظ (الدم) يفيد العموم، نقول له: لا، الكلام جاء في سياق الكلام عن دم الاستحاضة، والسياق من المقيدات، فلما جاءت لتسأله، إنما جاءت لتسأله عن دم الاستحاضة، لكن إن أردت دليلاً على نجاسة الدم مطلقاً فابحث عن حديث آخر يدل على نجاسة الدماء، أو أدلة أخرى، لكن لا تحتج بهذا الحديث على نجاسة الدماء؛ لأن اللفظ وإن خرج مخرج العموم إلا أنه خاص بدم الاستحاضة بدلالة السياق. لما قال عمر: استأذن لي ثم استأذن له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المنبر فجلس، قال (ثم غلبني ما أجد) أي: تعب، قال: فقمت، فقلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست عند المنبر، فغلبني ما أجد قلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخرج من الباب، وهو عند الباب ناداه، وقال: قد أُذن لك. (فدخل عمر بن الخطاب). وحين تدخل على شخص حزين لا تقل له: ما الحكاية من أولها؟ فيبدأ يحكي لك الموضوع ويبكي وما إليه، أنت لابد أن تنسيه الموضوع أولاً ثم تسمع منه، ف عمر بن الخطاب أول ما دخل قال: (فأردت أن أستأنس) أي: أطلب الأنس، ليس هذا وقت إعادة الحكاية من أولها، صحيح أنك تريد أن تسمع القصة، ولكن لا تبدأ بالحزن، بل قدم بين يدي القصة ابتسامة أو استأنس، ونحن ننصح الزوجة بأن تكون عندها فطنة وذكاء، فإذا كان بينها وبين زوجها إشكال في موضوع معين، فلا تباشره من أول دخوله بقولها: تعال نكمل الموضوع. لا، المفترض أنه عند وصول الرجل تحوِّل الموضوع كله، وتغيره بمقدمة، ثم لا بأس بإكمال الموضوع، هذا هو معنى قول عمر (استأنس). فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فأردت أن أستأنس، فقال: يا رسول الله، لو رأيتنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) أليس هذا الذي حصل؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فهم قصد عمر. فقال عمر: (يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فهو يهضم حق ابنته، ويقول لها: لا يغرنك أن كانت عائشة أجمل منك وأحسن، وأنت لست مثلها، فهو حط من قدر ابنته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عمر بن الخطاب أنه تبسم مرتين، شعر عمر أنه أدى ما عليه من الأنس، فجلس، فلما جلس نظر في البيت إلى الجدران. (قال عمر: لم أر شيئاً يرد البصر) أي: يملأ العين، قال: (فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله) أنت رسول الله وأنت أحق من قيصر وكسرى، قال عمر: (وكان متكئاً فجلس) وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين يكون الأمر خطر والخطب عظيم، ويريد أن ينبه المستمع إلى أهمية ما سيقول فإنه يجلس، (وكان متكئاً فجلس). دخل الكسائي على هارون الرشيد، فقال له هارون: اجلس، قال له: بل اقعد يا أمير المؤمنين. وكان العلماء يؤدبون الخلفاء، وكان الخلفاء يقربون العلماء ليتعلموا منهم، لما يكون هناك ولي العهد، لا يذهب ليلعب ويركب الخيل، بل هذا إنسان سيقود أمة، فيها من هو أفضل منه بكثير، فلذلك لا بد له أن يعيش بين العلماء فيتعلم الحكمة والعلم. أمير من أمراء بني أمية كان يعلم ابنه ليكون ولياً للعهد من بعده، فأظن أن معلمه كان الأصمعي أو غيره من العلماء، كان يتحدث إلى هذا العالم حتى يلقِّن أولاده العلم، وجعل على هذا العالم والأولاد جاسوساً، لكي ينقل هذا الجاسوس كل كبيرة وصغيرة تدور في المجلس لأمير المؤمنين، فقد يكون المعلم غير

سعة الرزق ليست دليلا على رضا الله عن العبد

سعة الرزق ليست دليلاً على رضا الله عن العبد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن سعة العيش في الدنيا ليست دلالة على الرضا، فالذين ما زالوا يظنون بالله ظن الجاهلية؛ أن ربنا أنعم عليهم وأعطاهم مالاً وأولاداً ومناصب لأنه يحبهم، ولو كان يكرههم ما أعطاهم شيئاً، هذا من جنس ظن أهل الجاهلية بالله عز وجل {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، فربنا سبحانه وتعالى رد عليهم، قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17]، ليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة. فنفى القضية كلها، وقال: {كَلَّا} [الفجر:17]، إذاً: السعة والبسط في العيش ليس دليل الرضا؛ لأن من الناس من يفعل مقارنات ما بين سعة الغرب والحضارة الموجودة، وبين تخلف المسلمين، ويعتقد أن تخلف المسلمين سببه أنهم متمسكون بدينهم حتى الآن، وأن هذا سبب تخلفهم، فنقول: هذا ليس صحيحاً، اليابانيون يعبدون الأصنام، وهم أول دولة صناعية في العالم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا). قالت عائشة رضي الله عنها: (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فلما دخل وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فقلت: يا رسول الله، إنك دخلت علي من تسع وعشرين أعدها عداً، وقد أقسمت أن لا تدخل شهراً والشهر ثلاثون يوماً، فقال عليه الصلاة والسلام: (الشهر تسع وعشرون). فهذا الإطلاق ظنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه حكماً، وكان يقول: (الشهر تسع وعشرون)، فـ عائشة رضي الله عنها سمعته -كما في الحديث الصحيح- يقول ذلك، فقالت: (يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهر قد يكون تسعاً وعشرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا) أي: مرة كامل ومرة ناقص، قالت عائشة: (وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين). فيؤخذ من هذا أنه يستحب أن يُذَكّر المرء إذا نذر أو حلف فخالف؛ لاحتمال أن يكون نسي، قال (ما أنا بداخل عليهن شهراً)، فـ عائشة تذكِّره أنت قلت: شهراً، ودخلت في تسع وعشرين يوماً، فإذا نذر الرجل نذراً أو حلف أن لا يدخل شهراً أو نحو ذلك، وخالف المعهود فلا بد أن يُذكَّر بذلك كما فعلت عائشة رضي الله عنها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم حفظ القرآن عند أهل البدع

حكم حفظ القرآن عند أهل البدع Q هل يجوز أن أحفظ القرآن على رجل صوفي علماً بأن هذا الرجل من حفظة القرآن، والعارفين بأحكامه، وما الحكم لو حفظت منه بعض الشيء؟ A يمكن أن نصوغه بصورة مختلفة، والسؤال هو: هل يجوز أخذ العلم على يد المبتدع أياً كانت بدعته؟ علماء الحديث لما ردوا رواية المبتدع الغالي في البدعة، ردوها لأن هذا المبتدع لم ينفرد بأصل ليس عند أهل السنة، لذلك ردوا عليه حديثه، فلو أن مبتدعاً لم ينفرد بعلم تخصص فيه دون غيره من أهل السنة، فلا يجوز أخذ العلم عنه، إنما متى يرخّص في أخذ العلم على يد مبتدع؟ إذا كان متفرداً بهذا العلم، وكان المتلقي عالماً ببدعته، وهذا شرط، أما إذا كان لا يعرف شيئاً عن بدعته؛ فهذا لا يحل له أن يتعلم عليه؛ لاحتمال أن يلقنه البدعة. أحد أئمة الحديث لقبه الجرجاني، كان الجرجاني رحمه الله -وهو من مشايخ النسائي - كان ناصبياً، إذا وقع بمتشيّع لا يبقي ولا يذر، فالنواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب، والشيعة: الذين غلوا في علي رضي الله عنه، فـ الجرجاني كان ناصبياً، والناصبي ضد الشيعي تماماً، فبمجرد أن يمر به راوٍ متشيع يقول: زائغ عن القصد، مائل عن الجادة، هالك، زائغ، وهكذا كل هذه عباراته في الشيعة. قال: (ومنهم) يعني: من المبتدعة (من تفرد بسنة لا تُعلم إلا عندهم، فمصلحة حفظ السنة مقدمة على مصلحة العلم) لماذا العلماء قديماً لم يأخذوا العلم من المبتدعة؟ لأنه كان هناك ألف واحد أفضل منهم وعندهم نفس العلم الذي عندهم. فيقول السائل: إن هذا الرجل مجوّد لأحكام القرآن، ورجل ضليع، فنحن نقول: الحمد لله يوجد في أهل السنة من هو أضلع منه. فلذلك لا تأخذ العلم على مبتدع إلا إذا كان المبتدع متفرداً بهذا العلم، ثم أنت على علم كامل ببدعته، حتى لا يلبّس عليك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم

التكفير حكم مخرج من الملة فلابد من ضبط الأحكام الشرعية وعدم التعجل

التكفير حكم مخرج من الملة فلابد من ضبط الأحكام الشرعية وعدم التعجل Q ما تقول في شخص كان ملتزماً ومطيعاً لله ومؤمناً، وفجأة انقلب حاله وأصبح مشركاً؟ A أنا لا أدري هذا السؤال من التوقف أو من التكفير أو من ماذا؟ لأنه يقول: (أصبح مشركاً) لماذا، ماذا فعل؟ السؤال هنا مجمل، ونحن نحتاج أن نعرف ما هو مظهر الشرك الذي أظهره هذا الرجل الذي كان ملتزماً مؤمناً، أنا أخشى أن يكون فيه تخليط في الأحكام الإيمانية، إنما كاتب السؤال يقول: إنه يتخبط في ظلمات الشرك والضلال، فماذا يفعل هذا الشخص إذا أراد أن يعود إلى الإيمان؟ الجواب: الكفر هو الخروج من الإيمان إلى الكفر، والحل أن يرجع إلى الله. إذا كان السؤال ماذا يفعل؟ نقول: يرجع إلى الله عز وجل مسلماً كما كان أولاً، لكن في الحقيقة: أنا مرتاب من هذا السؤال وأشعر أن شيئاً من الشدة، كأنه مثلاً اشتغل في التجارة، فيقول له صاحبه: إنه عبد المال من دون الله، فيعتبر أن هذا مشرك، وهكذا، إذا كانت المسألة كذلك، فينبغي أن يعدّل السؤال ويكتب بصورة أفضل من هذا؟

حكم جهاد الدفع والفرق بينه وبين جهاد الطلب

حكم جهاد الدفع والفرق بينه وبين جهاد الطلب Q أود أن أعرف ما الذي يجب على كل عربي في حالة قيام حرب مع إسرائيل حتى لا نصاب بالفزع حيالهم؟ A أيحتاج هذا السؤال إلى جواب؟ رجل داهمك، أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع؟ إذا عجزت عن جهاد الطلب أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن تخرج من بيتك وتذهب إلى الكفرة في بلادهم، وتقول لهم شيئاً من اثنين: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون، وإما تتركونا ننشر الإسلام، وإذا منعنونا من الدخول نحاربهم، فهذا هو جهاد الطلب وهناك شيء اسمه جهاد الدفع: وهو أنك تكون جالساً في بيتك فتجد واحداً دخل عليك، فإذا دخل عليك أو هاجمك، هل هناك شخص يمكن أن يتوقف ويقول: هل يجوز لي أن أدفع هذا اليهودي أم لا؟

صحة حديث: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)

صحة حديث: (الساكت عن الحق شيطان أخرس) Q يقول: الساكت عن الحق شيطان أخرس. هل هذا حديث صحيح أم لا؟ A نقول: لا، هذا ليس بصحيح.

حكم العمل في محلات الحلاقة

حكم العمل في محلات الحلاقة Q ما حكم الكسب في محلات الحلاقة؟ A حلاقة اللحية حرام، فلذلك لا يجوز للحلاق أن يتكسب من مهنة حلاقة اللحية، وقد أجمع العلماء على حرمة شيئين: حلق اللحية وحلاقة القزع التي فيها تشبه بالكفار، والله نحن في زمن العجائب! فحلق اللحية حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) وقال: (خالفوا اليهود والنصارى)،

حكم استخدام وسائل منع الحمل

حكم استخدام وسائل منع الحمل Q هل وسائل منع الحمل ومنها الحبوب، حلال أم حرام، مع العلم أن الاستخدام بنية التنظيم لا بنية المنع؟ A كل وسيلة تؤدي إلى العزل، فهي جائزة ما لم يثبت ضررها، فمثلاً: حبوب منع الحمل، قال الأطباء فيها: إن هذه الحبوب لها آثار وخيمة على المرأة، أنها تشوه الأجنة، وتسبب سرطان عنق الرحم، ولها مشاكل وأضرار كثيرة تؤثر على المرأة التي تتعاطاها. فشأن وسائل منع الحمل شأن العزل، إذا كانت الوسيلة ليس فيها ضرر فهي جائزة، والله أعلم.

من كان عنده حق للناس لا بد من إيصاله بأي طريقة

من كان عنده حق للناس لا بد من إيصاله بأي طريقة Q أنا كنت أشتغل في متجر، ثم أخذت منه مالاً من غير علم صاحب المحل، فماذا أفعل؟ A لابد من إرجاع المال إلى صاحب المتجر، وليس بالضرورة أن ترجع المال إلى صاحب المحل وتقول له: أنا اختلست هذا المال، لكن يمكن أنك تضع هذا المال في ظرف، وشخص يوصل هذا المال لصاحب المتجر، ويقول له: إن هناك رجلاً قال: إنه استدان منك ديناً، وبلّغني أن أعطيك هذا الدين، فيكون الدين وصل إلى الرجل من غير أن تفضح نفسك. والله أعلم.

كتاب عمر أمة الإسلام

كتاب عمر أمة الإسلام Q جاءتني أسئلة عن كتاب (عمر أمة الإسلام)، وأن هذا الكتاب عمل ضجة ونحو ذلك، ويظنون أن مؤلفه أتى بالأدلة على ذلك؟ A الحقيقة الكتاب تناولته منذ يومين فقط، ونظرت فيه نظرة عجلى، ولذلك لا أستطيع الحكم عليه إلا بعد أن أقرأه، لكن أقول كلاماً عاماً: هذا الكتاب من سلبياته أنه يوهم الدعاة كأنه يقول لهم: كفوا عن دعوتكم فلا فائدة من ذلك، لماذا تُرجعون الناس إلى الله وما بقي إلا سبعون أو عشرون سنة وانتهت الدنيا، ولا يوجد حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار فيها كلام كثير، وقد سبق السيوطي مؤلف الكتاب إلى مثل هذا الكلام، ومرت الأيام وقال برأي السيوطي، وكان هو يحدث الناس كم سنة على قيام القيامة ومضت الألف عام، وهذا شيء من الغيب، فنحن نرجو من المسلمين أن ينظروا إلى قضاياهم العظيمة، ولعلي أستطيع إن شاء الله أن أجيب عما ورد في هذا الكتاب، إن كان فيه حق أحققناه، وإن كان فيه من خطأ صوبناه بما عندنا من العلم، والله أعلم.

حكم العقد على المرأة الحامل

حكم العقد على المرأة الحامل Q شاب زنا بفتاة وسافر، فعلم الأهل أنها حامل، فقام والد الشاب بالعقد على هذه الفتاة حتى يرجع ولده، وبعد رجوع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن؟ A هذا لا يجوز، سبحان الله! هذا يعني أنهم في جاهلية جهلاء، أولاً: لا يجوز العقد على الحامل، ولا الدخول بها حتى تضع حملها، حتى لو كان من زنا فمن المشاكل الحادثة الآن ولد يزني بفتاة وتحمل منه، فيزوجونهم لبعضهم، لماذا؟! يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فأولات الأحمال مطلقاً، ليس أُولات الأحمال من حلال فقط، فالكلام مطلق، ولذلك لا يحل هذا العقد أبداً، ولا يحل طبعاً الدخول بها، وهذه الصورة جائرة جداً، شاب زنى بفتاة وسافر فعلم الأهل أنها حامل فقام والد الشاب الزاني بالعقد عليها، فلما رجع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن كأننا في جاهلية جهلاء، كله لا يجوز.

الذكر يدمر الشيطان

الذكر يدمر الشيطان إن عداوة الشيطان لبني الإنسان أمر لا ريب فيه ولا خفاء، فعداوته ظاهرة لا تحتاج إلى برهان؛ فمن العجب أن يعلم الإنسان عدوه ومع ذلك ينقاد له! وإن الشيطان ليبذل كل طاقته وجهده لإضلال الإنسان عن منهج خالقه سبحانه وتعالى ولكن هيهات هيهات فقد حذرنا سبحانه وتعالى من اتباعه وجعل لنا سلاحاً يصده ويحفظنا من وساوسه، وهو ذكره سبحانه وتعالى والتزام أمره، فمن داوم على ذكره سبحانه ولزم أمره حفظ عليه قلبه ودينه.

عداوة الشيطان لبني الإنسان

عداوة الشيطان لبني الإنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. مِن أشهر القصص التي يعرفها الخواص والعوام: قصة العداء الأول بين آدم عليه السلام وبين إبليس عليه لعنة الله. وهذه قصةٌ مشهورة، تفاصليها معروفة، فكان المرجو من المسلمين ألاَّ يغفلوا عن هذه القصة مع شهرتها. هذا الشر الموجود في العالم الآن؛ أليس مصدره إبليس؟! كيف تكون جندياً لهذا الملعون المرجوم، وأنت تعلم أنه عدوك سلفاً؟! هذه من المواطن التي يتعجب منها اللبيب، عدوك! ليس أمرُه ملتبساً عليك، ولا تدري عداوته؛ لكنك تعلم كل ذلك، ومع هذا ينقاد له بعض الناس مع تنبيه الله تبارك وتعالى الناس بهذه العداوة، قال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، (مبين) أي: عداوته ظاهرة لا تحتاج إلى برهان. وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]، أي: بئس البدل أن تستبدل الشيطان الرجيم بالله الرحيم. ولعل البعض يظن أني أخطأت في العبارة، فيقول: الصحيح: أن تقول: بئس أن يستبدل الناس الله بالشيطان، كما تقول أنت: استبدلتُ الثوب القديم بثوب جديد، هذا هو الدارج على ألسنة العوام، مع أن هذا التركيب خطأ، فإن الباء (باء البدل) إنما تلتحق بالمتروك الذي تركته، فمن الخطأ أن تقول: استبدلت الثوب القديم بثوب جديد، إنما الصواب: استبدلت الثوب الجديد بثوبٍ قديم، و (الباء) هنا التحقت بالمتروك، بالشيء الذي تركته أنت، وهو الثوب القديم، وشاهد هذا في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فالباء هنا أُلحقت بالمتروك الذي تركه الناس وهو الطيب، وقال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]، تركوا المن والسلوى، وأرادوا البصل والثوم، فالذي هو خير: المن والسلوى ألحقت به الباء: {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]. فبئس للظالمين بدلاً أن يتولوا هذا الشيطان ويتركوا الله تبارك وتعالى.

تفكيك الأسرة المسلمة مراد الشيطان

تفكيك الأسرة المسلمة مراد الشيطان إن الشيطان الرجيم له كل يوم برنامج مع بني آدم، كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء كل يوم، ثم يأتيه كل من يعمل تحته من الشياطين -طاغوت-فيرسلهم إلى بني آدم يضلونهم ويفتنونهم، وفي نهاية اليوم يأتي كل شيطان بخط سيره، وماذا فعل في بني آدم،) محاكمة يومية يعقدها هذا الشيطان للذين يعملون تحته، لو أن بني آدم اتعظوا وأخذوا الدقة والحذر من فعل الشيطان ما استطاع هذا الشيطان أن يتغلب عليهم. أما نحن بنو البشر يأمر الآمرُ بعمل ولا يتابعُه، يعيث فيه فساداً يكمله أو لا يكمله، لا أحد يسأل، إنما هذا الشيطان كل يوم لا بد أن يعلم هل استطاع أن يذل بني آدم أم لا. ثم هو يقوم عمل الشيطان الصغير في الحال، يقول له: أنت أفلحت أم لم تفلح في الحال، ويعطي مكافأة للذي يفلح، والذي يظل من بني آدم أكثر من غيره، كما هو واضح من الحديث: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يرسل سراياه إلى بني آدم يضلونهم ويفتنونهم، وفي آخر اليوم -وهو قاعد على العرش- أي: على السرير، الكرسي العظيم- يأتونه واحداً واحداً: ماذا فعلت؟ يقول له: ما تركتُه حتى زنا، فيقول له إبليس: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى سرق، يقول: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى قتل؟ يقول: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فعل كذا، يقول: لم تصنع شيئاً. فيأتي آخَر فيقول له: ماذا صنعت؟ يقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين أهله، فيقوم الشيطان من على العرش ويلتزمه -أي: يحتضنه- ويقول له: نِعْمَ أنتَ! أنْتَ أنْتَ!) أي: أنت أجودهم وأفضلهم وأحسنهم، ماذا فعل؟! ما ترك الرجل حتى طلق زوجته. ولعل سائلاً يسأل ويقول: إن الطلاق مباح، والزنا محرم، والسرقة محرمة، وشرب الخمر محرم، والقتل محرم، فلِمَ لَمْ يفرح إبليس بوقوع هذه المعاصي المحرمة وفرح فرحاً عظيماً لهذا الشيء المباح الذي يرتكبه بنو آدم، ولا إثم عليهم؟ A إن كل معصيةٍ يمكن أن يتوب العبد منها، وقد جعل الله تبارك وتعالى له فيها فَرَجاً ومخرجاً، وجعل لها كفارة، إما بحدٍ أو باستغفار. فالزاني إذا زنا وهو غير محصن فجلدٌ مائة وتغريب عام، فإذا زنى الرجل المحض؛ فإنه يحفر له حفرة في الأرض ويوضع فيها، ويُضْرَب رأسُه بالحجارة حتى يموت، وهذا هو المعروف في حد الرجم، فإذا رُجِمَ المسلم وجلد فكأنما لم يزنِ، ولم يرتكب الذنب وشاهد ذلك: (أن المرأة الغامدية التي زنت وهي متزوجة في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، فرَجَمَها بالحجارة حتى ماتت، ثم لما أراد عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليها ووقف أمامه عمر، وقال: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال: خلِّ عني يا عمر: لقد تابت توبةً لو وُزِّعت على سبعين من أهل المدينة لَوَسِعَتْهُم) كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟! فهذه زنت؛ لكن بمجرد أن أقيم عليها الحد ذهب الفعل والجُرْم، ومعنى أن يذهب الجرم، أي: فشل الشيطان في كل فعله؛ لأنه أقسم بعزة الله تبارك وتعالى ليُغْوِيَنَّ الناس جميعاً إلا المخلَصين، و (المخلَصين) بفتح اللام، أي: الذين أخلصهم الله لنفسه؛ لذلك لا يستطيع إبليس أن يغوي رجلاً أخلصه الله لنفسه، ولذلك المخلَص أعلى درجة من المخلِص؛ لأن المخلَص: الله هو الذي أخلَصه لنفسه، أما المخلِص: فهو الذي أخلَص نفسه لربه، ولا شك أن الذي يخلصه الله بنفسه أعلى درجة وأقوى حرزاً ومَنَعَة من الذي يخلِصُ نفسه لربه تبارك وتعالى. فمعنى أن يُتابَ على هذا العاصي، ذهاب جهدُ إبليس هدراً، وكذلك الذي يشرب الخمر، أو الذي يقتل مع فداحة هذه المعصية إلا أن إبليس لا يهتز لها، وإنما يهتز للطلاق! لماذا؟ لأن غاية مراد إبليس أن يرى العباد جميعاً في غوايةٍ وضلال، تصور! رجل طلق امرأته، فتزوجت المرأة، والزوج الجديد ليس على استعداد أن يربي أولاد غيره، فيأبى حضانةَ الأولاد، فتتركهم الأم، ويتزوج الرجل الزوجة الجديدة وليست على استعداد أن تربي أولاد غيرها؛ فيطرد الأولاد، وهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا، فينحرفون وتسيطر عليهم عصابات الفساد. وهذا مراد إبليس، أن يرى عتلاً زنيماً في الأرض، أن يرى جندياً مخلصاً له، لا يمكن أن يحصِّل جنوداً مخلِصين إلا بتفكيك الأسرة؛ لأن وجود الوالد وهو ضابط عظيم، ووجود الأم كل حركة يحاسب الولد عليها، إذا فعل الولد فعلاً شائناً يخشى العقوبة، إما أن يسترها، وإما أن لا يفعلها من الأصل، لأن هناك محاسباً. أما إذا خرج الولد من هذا الضابط، ولا يحاسبه أحد على الفعل تم مراد إبليس. لذلك يقول: (لم تصنع شيئاً)، إنما الذي قال: (ما تركتُه حتى فرقتُ بينه وبين أهله) قام له واحتضنه. إبليس له مقام عظيم بالنسبة للشياطين الصغار، فمثلاً: لو أن شخصاً صافحه رئيس الجمهورية لكاد أن يمشي على السحاب من العُجْب، فما بالك بإبليس هذا يقوم له من على العرش، ولا يسلم عليه وإنما يحتضنه ويعانقه، ولا يكتفي بهذا، إنما يؤكد أنه من المَهَرَة: (نِعْمَ أَنْتَ! أَنْتَ أَنْتَ!) يعني: لا يوجد لك مثيل، قد فاز على بقية الشياطين الصغار، فهذا يفتح شهيته لمزيدٍ من الإضلال وتخريب البيوت المسلمة. فإذا كان الشيطان يحمل سلاحه ويشهره في وجوه بني آدم جميعاً، أفيليق بك أيها العاقل أن ترى هذا الشيطان ممسكاً سلاحه، ثم تلقي سلاحك على الأرض؟! أهذا يعقل؟! عدوُّك معه سلاحه، وهو يتربص بك، وأنت تعلم أنه سيقتلك، ثم ترمي سلاحَك أمامه؟!

ذكر الله سبحانه وتعالى أقوى سلاح يواجه به الشيطان

ذكر الله سبحانه وتعالى أقوى سلاح يواجه به الشيطان ما هو سلاحك الذي تستطيع أن تقاوم به هذا الشيطان الرجيم؟! إن أفتك سلاح يستخدمه الإنسان في محاربة الشيطان هو ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا هو سلاحك الأعظم؛ أن تذكر الله، وأن يكون لسانك رطباً بذكره. ولذلك شُرِعَت الأذكار، فكل سكنة وحركة لها ذكر، هلاَّ أدمنت على الذكر حتى ينجيك من الشيطان ومكائده؟! كل شيء له ذكر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصر في تعليمك، ولا في تبليغك، ولا في تأديبك، إنما أوتيتَ مِن قبل نفسك وتقصيرك.

دعاء النوم

دعاء النوم إذا أردت أن تنام جعل الله لك أدباً وذكراً وحمايةً من الشيطان. وكم من المسلمين يعلمون أذكار النوم والاستيقاظ، وأذكار الصباح والمساء؟! والشيء العجيب أنك ترى بعضهم يستشكل حفظ الأذكار، مع أنه يحفظ الأغاني، ويحفظ شطراً كبيراً من المسرحيات والأفلام، وهناك فرقٌ بين الكلام الذي يقْطُر نوراً وبين الكلام الذي يقْطُر خسةً ونذالة، فالكلام الذي يقْطُر نوراً: كلام النبي عليه الصلاة والسلام. فقد علمك أنك إذا أردت أن تنام أن -: (تتوضأ وضوءك للصلاة، ونم على جنبك الأيمن، وضَعْ يدك تحت رأسك، وقل: (باسمك اللهم أحيا، وباسمك أموت، باسمك اللهم وضعتُ جنبي وبك أرفعه، وجهتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيك الذي أرسلتَ)، ثم يقرأ آية الكرسي -التي تقال في دبر الصلوات-) أيشق عليك هذا؟! لا. فلا مشقة. وكل ذكر من هذه الأذكار يترتب عليه أجر عظيم وفائدة كبيرة، وإن بعض الناس يتعاملون معاملة التجار، فلا يفعل الشيء إلا بمقابل، وكل ذكرٍ له مقابل وفائدة، وأنت تتعامل معاملة التجار، وحُقَّ لك؛ فهذا ليس بعيب، فإننا نعمل الخير لأجل أن نحرز الجنة، وهذا غاية المراد؛ أما القول الذي ينسبونه إلى رابعة العدوية: (ما عبدتُك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، اللهم إن كنتُ عبدتك خوفاً من نارك فاحرقني بنارك، وإن كنتُ أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك رجاء وجهك فلا تحرمني النظر إليك)، فهذا ينسبونه إلى رابعة العدوية، وسواءً نسبوه إليها أو إلى غيرها فهذا قولٌ خطأ! كيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من النار، ويسأل الله تبارك وتعالى الجنة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، والله تعالى عَلَّم عباده أن يقولوا: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. إذاً: عَمَلُك الخير خشيةَ أن تدخل النار، هذا غاية المراد من الفعل، كيف أقول: (إن كنتُ أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بنارك)! هذا ضلالٌ عظيم، وكل شيءٍ له فائدة.

قراءة آية الكرسي قبل النوم

قراءة آية الكرسي قبل النوم إذا أردت أن تنام وقلتَ هذا الذكر، وقرأتَ آية الكرسي، كان عليك من الله حارسٌ حتى تصبح. ومصداق هذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استودعه على تمر الصدقة، فبينما أنا بالليل إذ جاء رجلٌ يحشو التمر في ثوبه، فأمسكتُه وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا حاجة عياله فرق له قلب أبي هريرة فتركه، فلما أصبح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل صاحبُك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، شكا لي حاجة عياله فتركتُه، قال: أما إنه سيعود، فلما كان من الغد رآه أبو هريرة يحشو التمر في حجره، فأمسكه، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود، فرق له قلب أبي هريرة وتركه، فلما أصبح قال له عليه الصلاة والسلام: ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: شكا لي حاجة عياله وأقسم أنه لا يعود، قال: كذبك وسيعود، فلما كان في اليوم الثالث رآه أبو هريرة يحشو التمر في حجره، فأمسكه وأصر أن لا يدعه، فقال له: أفلا أدلُّك على شيءٍ وتتركني -أي: من الخير-؟ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك إن قرأتها لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح، فاغتبط أبو هريرة بهذه الفائدة وتركه، فلما أصبح قال له عليه الصلاة والسلام: ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: صَدَقَك وهو كذوب، أتدري من تكلم منذُ ثلاثٍ يا أبا هريرة؟ ذاك شيطان) شيطان في صورة آدمي، شيطان يعلم السلاح الذي لا يستطيع أن يدفعه، أن يقرأ آية الكرسي: (فإنك إن قرأتَها لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح). لذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (صدقك) أي: في هذه الجزئية وهو كذوب طيلة عمره، أي: أن كل قولٍ يقوله كذب؛ لكنه في هذه الجزئية صَدَقك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية الذكر وفضله

أهمية الذكر وفضله الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ولعل سائلاً أن يقول: لماذا يجعل الله لمن قرأ آية الكرسي حارساً؟ فنقول: هناك قول يقول: (إن الجزاء من جنس العمل)، وحتى تعلم لطف الله تبارك وتعالى بك، فانظر في هذا الحديث وتأمل: لِمَ يجعل الله عليك حارساً؛ لأنك وأنت مستيقظ تلهج بذكر الله تعالى، فهذا جُنَّةٌ لك من الشيطان، فإن هجم عليك عدوك رددته بسلاحك القوي -الذكر-؛ لكن إن نمتَ فلا تستطيع أن تتنبه لعداوة معتدٍ، فمن رحمة الله أن ينصب عليك وأنت نائم حارساً؛ لأنك ما غفلت عنه وأنت مستيقظ، فيرحمك وأنت نائم، حتى لا ينزل الشيطان عليك، والذين ينامون يستيقظ أحدهم مثلاً وهو مشلول، أو أنه ينام صحيحاً معافىً فيستيقظ وبه علةٌ أو مس، ما ذاك إلا لأنه ترك سلاحَه ونام وعدوُّه لا ينام. فالله تبارك وتعالى من لطفه بك أنك إن ذكرته وأنت مستيقظ ذَكَرَك وأنت نائم، ومَنَعَك من عدوَّك. هذا فائدة الأذكار: أن يجعل عليك حارساً ما دمت معه وأنت مستيقظ. وقصة الصحابي الجليل عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قُتِل في موقعة القراء -ماء الرجيع- مشهورة، عندما رفض وضع السلاح ووضع يده في يد مشرك فقتلوه، وكان عاصم بن ثابت قَتَل عظيماً منهم في الجاهلية، وفي الحرب الدائرة بين الإسلام والكفر بمكة، فأرادوا أن يقطعوا رأسه ويسيرون به في القبائل، ليزيلوا المعرة التي حدثت بقتل عاصم بن ثابت لعظيمهم، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه أرسل الله عليه الدَّبْر -أي: ذكران النحل- فجأة وجدوا نحلاً عظيماً حول الجثة ولم يستطيعوا أن يصلوا إليه، قالوا: نقطع رأسه ليلاً، فإن النحل يرجع إلى بيوته ليلاً. قال أحد الصحابة: فلما جاء الليل رأيت جثة عاصم ترتفع بين السماء والأرض. وقد علق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الواقعة، فقال: إن الله ليحفظ عبده المؤمن، عاصم بن ثابت أبى أن يمس مشركاً وهو حي، فيأبى الله أن يمسه مشركٌ وهو ميت. إذا كان وهو حي أبى أن يمس مشركاً فجناب الله أقوى وحفظه لعبده أتم، فيأبى الله أن يمسه مشرك بعدما مات، والجزاء من جنس العمل. فأدم ذكر الله عز وجل وأنت حي مستيقظ، يذكرك وأنت نائمٌ أو ميت. وإذا كنا لا نذكر الله في حياتنا! فمتى سنتذكره؟! وأنت الآن خيرٌ من أهل القبور، فأهل القبور ماتوا، فمنهم من أُخِذ فجأة، ومنهم العاصي الذي ما استطاع أن يتدارك نفسه، ومنهم المسوِّف، الذي يقول: أتوب اليوم أو أتوب غداً، فأنت الآن حي، تستطيع أن ترجع وتذكر ربك في كل سكنةٍ ونفس وحركة، فتدارك ما فاتك. فالتسويف شر ما يلقاه المسلم؛ أتوب اليوم، أتوب غداً، أو أفعل هذه وأتوب من أول الأسبوع، أو أصلي غداً، وما يدريك؟! لعلك غداً تكون من أهل القبور، كم من أناسٍ خططوا لأعوامٍ قادمة، وقد سقطت ورقتهم، وأذن الله عز وجل بقبض أرواحهم، وهم يخططون غداً نفعل كذا وكذا، وبعد غدٍ يأتينا مال من كذا، فنرفع البنيان، ونسكِّن لا. اترك هذه العمارة؛ لأن اليوم القادم لا تدري ما يكون فيه، قد يقضي الله أنك ميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (موت الفجأة أخْذَةُ أسف) وبعض الناس يرى أن موت الفجأة من حسن الخاتمة، ويدعو الله أن يموت هذه الميتة! مع أن هذه الميتة شر، فالنبي يقول: (موت الفجأة أخْذَةُ أَسف) إذا كان له مال: لا يستطيع أن يقول: لي عند فلان مال، وإذا كان عليه دين لا يستطيع أن يقول: عليَّ دين، وإذا كان عاصٍ فليس عنده فرصة للرجوع، وإذا كان قد سرق أشياء، فليس عنده فرصة أن يردها إلى أصحابها، يموت ولا يعرف عنه أحدٌ شيئاً. فالمرض نعمة من الله تبارك وتعالى؛ لأنها فرصة، ولا سيما الذي مرض مرضاً شديداً، وظن أنه سيموت في ذلك المرض، فيتوب ويرعوي، ويأتي بالذين ظلمهم فيستسمحهم، بخلاف الذي يموت فجأة. فذكرك لله تبارك وتعالى واجب، وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة. وفي الحديث الصحيح: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أرضى عملٍ يعمله قبل أن يموت، فقال له عليه الصلاة والسلام: أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر الله عز وجل). انظر إلى لفظ الحديث، فإن الألفاظ قوالب المعاني: أن تموت ولسانك رطبٌ، والرطوبة: ضد اليبوسة. فكما أن الماء هو السبب في نماء كل شيء حي، فذكر الله تبارك وتعالى هو حياة القلوب، قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، وهذا الضَّنْك تستشعره في اليبوسة التي هي ضد الرطوبة، فكل رجلٍ ذاكر لله عز وجل عنده من الصفاء القلبي ما عبر عنه بعض التابعين قديماً، فقال: لو عَلِم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالَدُونا عليها بالسيوف. فأنت أسعد وأهنأ من ملوك الأرض، لأنه يمشي في حراسة، ولا يستطيع أن يمشي في الشارع آمناً على نفسه مستمتعاً كما تمشي أنت، إذاً: لتوارى وزال منصبه، وشعر بكآبة وتعاسة لا حد لها، هذا جزء من الضنك المفروض على هؤلاء؛ لأنهم من أبعد الناس عن ذكر الله عز وجل، ومن ترك هذا الذكر مآله الضَّنْك، هذا في الدنيا،: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، فالجزاء من جنس العمل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]. والله تعالى يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. قَدِّم لنفسك: إن أردتَ أن تذكر عند الله عز وجل، فلا تنسَه، أما أن تنساه وتريد أن يذكرك فهيهات! هيهات! إذا عاملت الناس بالود عاملوك بالود، ولا تنتظر أن تجفوهم، فيودوك. ومِن مثل هذا المعنى: نفهم لِمَ يتفلت القرآن؟ خذ هذا المعنى واربطه بهذا السؤال. رجلٌ حفظ القرآن لكنه لا يداوم على مراجعته والعناية به، فينساه بطبيعة الحال؛ لأن القرآن عزيز، ولا يكون القرآن عند رجلٍ يهمله وينساه أبداً، وليس من إعجاز الكتاب أن تهمله وألاَّ تقرأه، ثم تطمع أن يظل في قلبك. فاعلم: أن أرضى عمل تلقى به الله أن تموت ولسانك رطبٌ بذكره عز وجل، ولكن المسلمين اليوم غافلون عن الأذكار، مع سهولتها ويُسرها وسماحتها وجمالها.

دعاء ركوب الدابة

دعاء ركوب الدابة فمثلاً: كم منا عنده سيارة؟! هل الذي ركب السيارة سواءٌ كان يملكها أو كان يركبها، تذكَّر دعاء ركوب الدابة، التي هي السيارة أو الطائرة أو الباخرة أو الحمار أو البغل أو الحصان؟! كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا ركب دابةً قال: ({سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14])، (مقرنين) أي: مُخْضِعِين، ما كنا نستطيع أن نُخْضِع هذا الحديد فنجعله آلةً تتحرك وترتفع في السماء لولا أن الله تبارك وتعالى هو الذي أخضعه لنا؛ لذلك وأنت تركبها تقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، إذا تأملت في سياق الآيتين، من سورة (المؤمنون)، تقول: ما هي العلاقة بين ذكر الآخرة: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14] مع ذكر تسخير الله تبارك وتعالى للدواب، ما هي العلاقة بين الآيتين، وبينهما بُعْدٌ على الظاهر؟! فالمتأمل في هذه الآية يرى مَعْنىً في غاية الجمال، وهو أن الآية ذكرت سَفَرَين: - سفر الدنيا. - وسفر الآخرة. فسفر الدنيا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] فإن علمت أنك مسافرٌ هذا السفر القصير، تذكرت أنك مسافرٌ سفراً أكبر من هذا وأطول: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14]. فالجامع ما بين الآيتين هو السفر، فهذا يحملك على أن تتذكر أنك مسافرٌ إلى الآخرة، إلى ربك تبارك وتعالى، فيحملك أن تتقي الله عز وجل. وإذا ركبتَ الدابة أيضاً، قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير، رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). أتعلمون الفائدة من وراء هذا الذكر؟ ورد في الحديث الصحيح: أن علي بن أبي طالب ركب دابته وقال هذا الدعاء، ثم ضحك، فقال لأصحابه: (ألا تسألوني لِمَ ضحكت؟ قالوا: ومم ضحكتَ يا أمير المؤمنين، قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته وقال هذا الدعاء وضحك، فقال لنا: ألا تسألوني ممَّ أضحك، قالوا: ممَّ تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضَحِك رب العزة: يقول: علم عبدي أن له رباً يغفر فغفرت له). فانظر إلى هذا الدعاء! (رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فيضحك الله عز وجل، ويقول: علم عبدي أن له رباً يغفر، فغفرت له). كيف تغفل عن هذا الذكر، وأنت تركب الدابة ذاهباً وآيباً طيلة النهار؟! لماذا تخسر هذا الأجر، وهو لا يكلفك شيئاً: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

دعاء دخول الخلاء

دعاء دخول الخلاء إذا أردت أن تدخل الخلاء، فللخلاء ذكر، حتى وأنت تدخل دورة المياه، فإن لها ذكراً. تأمل في نفسك! كم أنت مقصِّر، فقد ظللت ردحاً من الزمان تفوت على نفسك الحسنات، وإذا كنت طيلة عمرك تجهل هذا الذكر، فستلقى الله بماذا وقد فعلت كل شيءٍ لم تؤمر به، وتركت الشيء الذي أُمِرْت به؟! إذاًَ: على الإنسان أن يتدارك نفسه! ولا يتهاون بالذكر فإن أجره عظيم. يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]. قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (مَن ذكرني في مَلَإٍ ذكرتُه في مَلَإٍ خيرٌ منه) لأن هذا الذكر مستوجب للمحبة، والشكر مستوجب لمزيد النعمة، فإن شكرتَ يزيدك، وإن ذكرتَ يحبك؛ لذلك فإن مرتبة الذكر أعلى من مرتبة الشكر. قال -وهذا ينسب إلى موسى عليه السلام- (يا رب! كيف أشكرك ولك في كل شعرةٍ من بدني نعمتان: نعمة أن ليَّنت أصلها، وطمست رأسها) تصور لو أن الشعرة كانت مثل الشوكة هل تستطيع أن تنام أو تتحرك؟! لكن ليَّن لك أصلها. (لك في كل شعرةٍ من بدني نعمتان: نعمة أن ليَّنت أصلها، وطمست رأسها، قال: يا موسى! أما قد عرفتك ذلك فقد شكرتني). هذا الشكر يستوجب الذكر، وإن علمت أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل عليك فلِمَ تغفل عنه، والمشاهَد في حياة الناس اليوم أن الواحد إن كان له طلب أو حاجة عند بعض الناس يذكره ليل نهار، ويخطط ويبحث عن أفضل السبل في استجلاب رضائه، فكيف لا تفعل هذا مع الله تبارك وتعالى وهو ملِك كل هذه الأملاك، ورب كل هذه الأرباب تبارك وتعالى. فالمسلم إنما أُتِي مِن نفسه ومِن جهله. وكما قلنا فإن لدخول الخلاء ذكراً فلا تغفل عن ما علمك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء، أن تقول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أي: تقدم رجلك اليسرى وتقول الدعاء قبل أن تدخل دورة المياه؛ لأن ذكر الله محرم داخل هذه الأماكن. قال العلماء: الخبث جمع خبيث وهو: ذكران الجن. والخبائث: إناث الجن. كأنك تقول: اللهم إني أعوذ بك من الجن ذكرِه وأنثاه؛ لأن العلماء ذكروا أن -دورة المياه- أحد الأماكن التي يستقر الجن فيها، فإن قلت هذا أمِنْت من مسهِ لك، فمن الممكن أن يحدث لك مس في دورة المياه، فإن قلت هذا الدعاء كأنك تشرفت بِجُنَّة، ولَبِسْتَ جُنَّة ووقاية، فعندما تقضي حاجتك تخرج برجلك اليمنى، ثم تقول: (غفرانك). ما معنى غفرانك؟! أنت دخلت دورة المياه في دقيقة واحدة، فقضيت حاجتك، وخرجتَ، ولا توجد مشاكل، ولا أي شيء، وتبوَّلت في نصف دقيقة، فاذكر غيرك الذي ابتلاه الله -عز وجل- بالفَشَل الكِلَوِي، يذهب أسبوعياً إلى المستشفى لأجل عمل غسيل كِلَوِي بمائة جنيه، وغيرك يجمع البول من الدم عن طريق جهاز، يظل أسبوعاًَ معذباً! معنى أن البول ينتشر في الدم فهذا يسبب ضيقاًَ، ويؤثر على خلايا المخ، ويستشعر المرء أن حياته لا قيمة لها، يظل أسبوعاً كاملاً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة يتألم حتى يأخذوه إلى هذا الجهاز، فيجمع هذا البول من الدم فيستريح يوماً واحداً، ثم يبدأ العذاب من جديد. فإذا علمتَ أنك تخرج هذا البول في دقيقة أو في نصف دقيقة مع تقصيرك في حق الله عز وجل، وأنه لو أراد أن يعاملك بفعلك لانتقم منك، فتخرج بعدما قضيت هذه النعمة تقول: (غفرانك)، أي: رب اغفر لي؛ لأنك إن عاملتني بجنس تقصيري عذبتني وحبَسْتَ الأذى فيّ، وهذا معنى غفرانك، فإن استغفرت ربك عز وجل حفظ عليك تمام هذه النعمة. أتعجز أن تقول: غفرانك أيها المسلم، وهي كلمة واحدة بعدما تقضي حاجتك؟! والإنسان إذا حبست فيه ريح فقط يكاد ينفجر، وهذه ريح، كما يقول بعض العلماء: بلغ من ضعف ابن آدم أن تؤذيه دقة، وأن تميته شرقة. انظر إلى الإنسان الذي طلع إلى الفضاء والقمر، وصنع القنابل الذرية والصواريخ والطائرات يموت بشرقة ماء، فهذا منتهى العجز والهوان، وأنت لا تدري متى تموت، فلِمَ تقصِّر -إذَنْ- في ذكر الله؟! إنك لا تدري: إذا جن عليك ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ إن الموت يأتي بغتة! كما قال الشاعر: الموت يأتي بغتةً والقبرُ صندوقُ العملْ وهذه الأذكار لا تكلفك شيئاً، بل تأخذ مزيداً من رعاية الله بك، فلِمَ تُغْفِلُها إذَنْ؟! إذا نمتَ على الوصف المذكور، فجعل الله عليك مَلَكَاً فإنه لا يقترب منك شيطان إطلاقاً وأنت نائم، آمن.

دعاء الاستيقاظ من النوم

دعاء الاستيقاظ من النوم إذا قمت من النوم فقل: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). أول ما تستيقظ تقول هذه الكلمة العذبة، ذكر فيه جمال؛ (الحمد لله الذي أحيانا) أنت نائم ميت، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، أي أن الله يتوفى الأنفس على قسمين: - التي ماتت. - والتي نامت. فكلاهما ميت؛ لكن هذا موتٌ أكبر، وهذا موتٌ أصغر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً} [الزمر:42]. فإذا نام -مثلاً- اثنان من الرجال، فأرواحهما تصعد إلى الله عز وجل، وكل إنسان ينام روحه تصعد، فإن كان أجله قد حان، لا ترجع إليه روحه، ويموت، وإن كان في العمر بقية يُرْسِل الله إليه روحه إلى أجلٍ مسمى. وهذا هو معنى الآية: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]. وأيضاً يتوفى التي {لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]: الأرواح جميعاً عنده تبارك وتعالى. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]: لا يرسلها إلى صاحبها، وتصير جثة. {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً} [الزمر:42]: فدل أنك عندما كنتَ نائماً كنتَ ميتاً. ومثله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون). لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]، فلو ناموا لذاقوا الموت. فمِن كمال الاستمتاع في الجنة أن تكون مستيقظاً دائماً. وقد يقول رجل: وهذا البدن يتعب أليس له حق؟ نقول: إن بدنك الموجود الآن ليس بدنك في الجنة، فإن الله عز وجل لما أذن بنزول الإنسان إلى الأرض أخذ روحه فركبها في هذا البدن الضعيف في الدنيا. ثم يموت فيتحلل وتزول هذه الأجساد كلها، فإن كان من أهل الشقاء فهذه الروح تَرْكَب على بدنٍ يناسب الشقاء، وإن كان من أهل النعيم وأهل السعادة، فهذه الروح ترجع إلى البدن الأول الذي يناسب الخلود. وفي الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة على طول أبيهم آدم) وآدم عليه السلام لما خلقه الله عز وجل خلقه على ستين ذراعاً. والحديث في الصحيح، يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق آدم على ستين ذراعاً، ولا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة). - فأهل الجنة لا ينامون: فأبدانهم مهيأة لهذا الخلود، ورَشْحُهم المسك: -العرق- ولا يتبولون ولا يتغوطون، أي: ليس هناك دورة مياه، ولا أي شيء من هذا. - وثمر الجنة لا رجيع فيه؛ فإذا أكلت ثمر الجنة؛ فإن الجسم يأخذه كلَّه، ولا يَبْقَى منه شيء. - لهم كل جمعة نظرٌ إلى وجه الله عز وجل: وهذا هو أجلُّ ما يتمتع به أهل الجنة. - وفي الجنة سوق كل يوم جمعة يلتقي فيه جميع أهل الجنة: الذين في جنات عدنٍ، والذين في الفردوس الأعلى، والذين في الجنات التي هي دون هذه الجنات العالية؛ لأن أحد الصحابة قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إذا أنا مت لا ألقاك: لأنك في الفردوس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) فما فرح -الصحابة- بعد الإسلام بشيء كفرحهم بهذا الحديث، يلتقون جميعاً: الأنبياء، والرسل، والمؤمنون. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلِّمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هَزْلَنا وجِدَّنا، وخطأَنا وعمدَنا، وكلُّ ذلك عندنا.

الشفاعة

الشفاعة إن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مكانة عظيمة عند الله عز وجل، فقد خصه الله بالشفاعة العظمى يوم القيامة لأهل الموقف، حين يأتيه الناس طالبين إليه أن يشفع لهم عند الله في فصل القضاء، وهذه إحدى الفضائل التي ميز الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، وهذا الحديث دليل واضح على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه. فالواجب علينا اتباع سنته، والتأسي به، ومحبته وتعظيمه، والدفاع عنه وعن سنته.

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى دون بقية الرسل

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى دون بقية الرسل إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهس نهسة من ذراع أعجبته، ثم رفع رأسه وقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ثم استقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث وفي آخره قال: تدنو الشمس من رءوس العباد ويقفون في موقف عظيم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون من يشفع لنا؟ ألا ترون ما نحن فيه؟ فيقول بعض الناس: اذهبوا إلى آدم. فيذهبون إلى آدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، فهل تشفع لنا عند ربك؟! فيقول آدم عليه السلام: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي، وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لكن اذهبوا إلى نوح أول نبي أرسل. فيذهبون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه -يعني من الشدة والكرب- فيقول لهم نوح عليه السلام: لقد كانت لي دعوة فدعوتها، إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي. ولكن اذهبوا إلى إبراهيم خليل الله عز وجل اصطفاه واجتباه إليه. فيذهبون إليه فيقول لهم: إني كذبت ثلاث كذبات فأخشى أن أؤخذ بهن، إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبل مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي، ولكن اذهبوا إلى موسى. فيذهبون إلى موسى عليه السلام فيقول لهم: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبل مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، ثم يقول: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، ولكن اذهبوا إلى عيسى. فيذهبون إلى عيسى عليه السلام فلا يذكر ذنباً، لكنه يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فيأتي الناس جميعاً فيقولون: اشفع لنا، فأقول: أنا لها أنا لها، ثم أذهب عند قوائم العرش فأسجد وأدعو الله بدعوات يفتحها الله عز وجل عليَّ، وأحمد بمحامد لم يفتحها على نبي قبلي، فيقول الله عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، قال: فأشفع للناس لفصل القضاء). جاء في حديث حذيفة في صحيح مسلم قال: (فمن أمتي من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يجري على الصراط كالريح، ومنهم من يجري عليه كالطير، ومنهم من يجري عليه كسير الرجال -يعني الرجال الذين يقطعون المسافات بسرعة عالية- ومنهم من يمشي زحفاً، وعلى الصراط كلاليب -يعني: خطاطيف- تخطف من تؤمر بخطفه، فمخدوش ناجٍ، ومكردس في النار). قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً. هذا حديث الشفاعة العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عمر: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا. بل هي للمسيئين الخاطئين المتلوثين، وإني لأشفع لأكثر من عدد رمل عالج) اعالج شاطئ عظيم جداً وطويل، لو عددت الرمل الذي على هذا الشاطئ لوجدته ألوفاً مؤلفة. وقد اختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الشفاعة دون بقية الرسل، لذلك قال في مطلع الحديث: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ثم ساق بقية الحديث، فهذا يدل على أنه سيد ولد آدم، وأن الله لم يقبل شفاعة -يقصد الشفاعة الكبرى- إلا منه. انظر إلى أولي العزم من الرسل؛ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم جميعاً، أولئك أولو العزم، يعني: أفضل الرسل، وكل رسول أفضل من النبي؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولاً. كل رسول أرسله الله عز وجل برسالة إلى بعض الناس فهو نبي أولاً ثم رسول، أما النبي فلا يشترط أن يكون رسولاً؛ لأنه قد يعطى النبوة تشريفاً له، وعليه أن يؤمر بتبليغ شيء ما، كإدريس عليه السلام مثلاً، ويعقوب عليه السلام، وبقية الأنبياء الذين أعطاهم الله النبوة تشريفاً لهم، بغير أن تقترن هذه النبوة برسالة إلى الناس. هناك رسل كثيرون، لكن أفضل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة، قال الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فالرسل بعضهم أفضل من بعض، وهؤلاء الخمسة أفضل الرسل، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخمسة. فإذا كان حال أولي العزم من الرسل يوم القيامة أن كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، فما حالي وحالك أنت؟ نرتع في المعاصي كأننا ضمنا الجنة، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظم من عصيت، لا تقل: إنه ذنب صغير، ولكن انظر إلى من عصيت وإلى عظمته وجلاله.

مراقبة الله عز وجل وتعظيمه ينجي من الزلل

مراقبة الله عز وجل وتعظيمه ينجي من الزلل إن الله تعالى يلوم العبد الذي لم يعظمه حق التعظيم، بينما تراه عندما يهم بمعصية يجتهد في أن يتوارى عن أعين الناس، والله تعالى يقول: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. فانظر إليه كيف استعظم نظر العبد ولا يملك له شيئاً، حتى اجتهد في أن يتوارى عنه في حال المعصية، ومع ذلك لم يرع نظر الله تبارك وتعالى حين لا يراه المخلوقون. قيل: إن شيخاً من المشايخ أراد أن يختبر طلابه، ومن بين الطلاب الإمام الشافعي فقال الشيخ: ليأخذ كل واحد منكم ديكاً فليذبحه في مكان لا يراه فيه أحد، فأخذوا جميعاً الديوك وذبحوها ورجعوا، كل واحد توارى خلف حائط، عدا الإمام الشافعي فإنه رجع بديكه حياً، فقال له شيخه: أي بني! أعجزت أن تدخل مكاناً لا يراك فيه أحد، وتفعل كما فعل أقرانك؟ قال: نعم أيها الشيخ! فإنني ما دخلت في مكان إلا رأيت الله يطلع عليَّ، وقد اشترطت علينا أن لا نذبحه إلا في مكان لا يرانا فيه أحد. فكان هذا من فطنة الإمام الشافعي، فتنبأ له شيخه بمستقبل زاهر، فالإمام الشافعي جعل المراقبة العظمى هي المنوطة بهذا الأمر من الشيخ وليس مراقبة العبد.

خوف آدم عليه السلام من ذنبه كما في حديث الشفاعة

خوف آدم عليه السلام من ذنبه كما في حديث الشفاعة آدم عليه السلام أكل من الشجرة، وقد غفر الله له ذنبه في حياته: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] فهو يعلم أن الله قد تاب عليه، وهو يعلم أن الله أكرم من أن يعاتب العبد بذنب قد غفره له قبل ذلك، ومع ذلك يستحضر هذا الذنب في حال الشفاعة، ويقول: (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، نفسي نفسي -خلوا بيني وبين معصيتي- إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط).

أهوال يوم القيامة وحال المتقين وحال الكافرين

أهوال يوم القيامة وحال المتقين وحال الكافرين يوم القيامة يأتي العباد إلى الله يطلبون منه الرحمة، وقد كان أكثرهم ينفي عن الله عز وجل صفات الألوهية والجبروت، ويأتي أولئك الصعاليك الذين كانوا يتعالون عليه في ملكه، لكن يوم الحساب لا تكون الرحمة إلا للمحسنين فقط: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] كانت الرحمة في دار الدنيا أقرب إليك من شراك نعلك لو اتجهت إلى الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً -ثم قلت: يا رب اغفر لي- أتيتك بقرابها مغفرة). قراب الأرض: يعني: لو أتيت بملء الأرض خطايا، لكن لا تشرك به شيئاً؛ لأن الشرك داء ليس له دواء إلا أن تنزع عنه، وأن تفر إلى ربك. الله عز وجل هو الوحيد الذي لا يكون الفرار منه إلا إليه، أنت تفر من العبد إلى عبد آخر، وتفر من الأرض إلى أرض أخرى، أما الله عز وجل فالفرار منه يكون إليه وحده؛ لأنه هو الذي ملك أقطار السماوات والأرض، ولا يستطيع أحد أن ينفذ إلا بسلطان منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما ينام: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك). إذاً قد كانت رحمة الله قريبة منك وأنت في الدنيا، أما الآن فإن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل ولا من بعد ذلك قط، فهو في ذلك اليوم سينزل الناس منازلهم التي يستحقونها، وسينزل الكافرين في جهنم وهذا منتهى غضبه، فهو لا يغضب بعد ذلك، ينزل الكافرين في جهنم، وينزل المتقين في الجنة، وهو لا يسخط على المتقين، قال الله عز وجل: (. اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) هذا بالنسبة لأهل الجنة، أما بالنسبة لأهل النار فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضرس الكافر في النار مثل أحد) الكافر تكون هيئته في النار عظيمة جداً، ليس هذا الجسد الهزيل النحيل، فضرسه كجبل أحد، فما بالك بفكه، وما بالك برأسه وبقية جسده؟! وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (غلظ جلد الكافر في النار مسيرة سبعين عاماً) سمك هذا الجلد مسافة أن يمشي رجل سبعين عاماً؛ لأن هذا أشد من جهة العذاب، فذلك الجلد الرقيق الذي إن أخذ لسعة من النار احترق، أصبح سمكه سبعون عاماً، حتى يشعر الكافر بحرق الجلد شيئاً فشيئاً، ويشعر بشدة النار. فهذا آدم عليه السلام وهو أبو البشر وقد غفر له، ومع ذلك يخاف أن يأخذه الله بذنبه، فيريد أن ينجو بنفسه، المهم أن ينجو هو: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2] تذهل: أي تنسى. تقابل الأم ولدها لا تعرف أن هذا ولدها، مع أنها حملته تسعة أشهر، وأرضعته سنتين، وخافت عليه حتى بلغ أشده لكن هناك تنساه وتذهل عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب) لم يقل: من دخل النار، بل من نوقش فقط. يقال: (إن رجلاً كان يعيش في جزيرة، فأنبت الله له شجرة رمان، وأخرج له عيناً من الماء، فكان يشرب الماء ويأكل من الرمان، وكان طيلة عمره يتفرغ للعبادة، ودعا الله عز وجل أن يقبضه إليه وهو ساجد، فلما جاء موعد أجله قبضته الملائكة وهو ساجد، فقال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: أي ربي، بل بعملي، فقال الله عز وجل: إنه لا يظلم اليوم عندي أحد، ضعوا نعمة البصر في الميزان، وضعوا عبادة ستمائة سنة لهذا العبد مقابل البصر، فوضعوها في مقابل نعمة البصر فرجحت نعمة البصر عبادة ستمائة عام. فقال: خذوا عبدي إلى النار، فجعل يتوسل إليه ويقول: أي ربي برحمتك! أي ربي برحمتك!). والنبي صلى الله عليه وسلم وضح هذا جلياً في الحديث المتفق عليه حيث قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته). فالله عز وجل يحاسب عباده بالفضل لا يحاسبهم بالعدل؛ لأنه إن حاسبهم بالعدل أهلكهم، قال الله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] هذا هو مقتضى العدل، أنه لو حاسبك على ما اقترفت لأهلكك من أول ذنب. فيوم القيامة يحاسب الله عز وجل الناس بعدله -أي الكافرين- لا يظلم مثقال ذرة.

نوح عليه السلام وامتناعه عن الشفاعة

نوح عليه السلام وامتناعه عن الشفاعة قال آدم: (ولكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول نبي أرسل -لعل له كرامة على ربه تبارك وتعالى- فيقول نوح عليه السلام: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط، وقد كانت لي دعوة فدعوتها). وهذا وضحه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي). انظروا إلى رحمته صلى الله عليه وسلم بنا، كل شيء كان يفعله لصالح أمته، مع أن أغلبهم لا يقيمون لهذا القرآن وزناً، ولا يقيمون لسنته صلى الله عليه وسلم وزناً. وخرجت نابتة من المسلمين يقول أحدهم: (والله لا يكون المسلم الهندي أقرب إليَّ من النصراني المصري)، يعني: النصراني المصري أقرب إليه من المسلم الهندي، ما الذي جناه المسلم الهندي؟ لا شيء، إلا لأنه هندي بعيد الدار، ويزعمون أن هذا هو فهمهم، ولا يكون الإسلام إلا كما يفهمون. هذه القومية القبيحة التي جعلت الناس يعبدون التراب والأرض، ويغنون للتراب والأرض، ومن شعارهم: (أن الدين لله والوطن للجميع) الدين لله، بمعنى أن كل إنسان يعبد ما يشاء، حتى خرج علينا بعض من يتسمى بأسماء المسلمين، فينكر على الذي يجبر الناس على الصلاة، ويقول قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وهو جاهل لا يدري ما الدين في هذه الآية، إن الله عز وجل أنزل هذه الآية ليقولها النبي صلى الله عليه وسلم للذين يدينون بغير دين الإسلام، أما تارك الصلاة فلا إسلام له، وإلا كيف يكون مسلماً وقد تحلل من دينه شيئاً فشيئا حتى صار مضاداً له. سبحان الله! عندما تنظر إلى صنيع النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر إلى صنيع الأمة فإنك تقول: إنهم لا يستحقون شيئاً مما فعله ومما سيفعله من أجلهم، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إني آخذ بحجزكم من النار ولكنكم تغلبونني -آخذ بحجزكم: أي أحجزكم عن النار، ولكنكم تتفلتون مني وتتهافتون في النار- ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله ويقربكم إلى الجنة، ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به)، فقد بلَّغ وأدى الذي عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا الذي علينا. فنوح عليه السلام دعا دعوته المستجابة: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وذلك حين قال هذه دعوة نوح عليه السلام، استجابها الله فوراً، ولم يعد لنوح دعوة مدخرة ليوم القيامة ليدعو الله ويشفع للناس، فيريد أن ينجو بنفسه فقال: (اذهبوا إلى إبراهيم) وإبراهيم كما قال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] تصور عندما يكون أمة واحدة، كيف سيكون قدره عند الله عز وجل؟ وقال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. عندما قالوا له: (اشفع لنا عند ربك، قال: إني كذبت ثلاث كذبات، نفسي نفسي) ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه السلام ويخشاها، اثنتان منها في ذات الله عز وجل، كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كذب إبراهيم ثلاث كذبات: في قومه لما قال المشركون: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]-هذه الكذبة الأولى. الكذبة الثانية:- لما دعاه الناس إلى عيدهم فأراد أن لا يشارك المشركين في عيدهم، قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] وهذه الكذبة الثانية). الكذبة الأولى: أنه عليه السلام حطم الأصنام ووضع الفأس على عنق الكبير، فلما رجعوا وجدوا الأصنام جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم يرجعون، فجاء جمع وأخبروا أحد المحافظين وقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء:60] يعني: يذكرهم بسوء، أي: يسب آلهتهم، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] فجاءوا به وقالوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63]، هذه لا تعد كذبة إنما هي من المعاريض؛ لأن الأنبياء يستحيل عليهم الكذب، الكذب خاصة؛ لأنهم يبلغون كلام الله إلى الناس، وما آفة الأخبار إلا الكذب، فلا يجرب على نبي كذب أبداً.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كذب إبراهيم ثلاث كذبات)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كذب إبراهيم ثلاث كذبات) إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كذب إبراهيم ثلاث كذبات) فيقال: الكذب في الأصل هو قول غير الحق، سواء كنت عامداً أو غير عامد، فإن كنت مخطئاً يقال عليك: إنك كاذب، من باب التغليب، أي: أنك قلت غير الحق، أما مسألة أن تتعمد أو لا، فهذا شيء خارج عن حقيقة تعريف الكذب. لذلك لما جاء عبد الله بن محيريز إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقال: إن هاهنا رجل يقال له: أبو محمد يقول: إن الوتر واجب، فقال عبادة: كذب أبو محمد، أي: قال غير الحق، ولم يقصد أنه افترى. وكذلك قول ابن عباس: كذب عدو الله، مع أن مولى زيد بن ثابت رجل مسلم، والمقصود بقوله: كذب، أي: أنه أخطأ، وقال غير الحق.

بيان الكذبة الثالثة

بيان الكذبة الثالثة أما الكذبة الثالثة: فهي أنه لما دخل مصر مع زوجته سارة، وكان حاكم مصر جباراً عنيداً، كان لا يرى امرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه واغتصبها، فقال إبراهيم لزوجته سارة: (إنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فإذا سألك فقولي: إنه أخي) يعني ليس زوجي. ما الذي دفعه إلى هذا القول؟ الذي دفعه إلى هذا القول، هو أن هذا الجبار كان إذا رأى امرأة جميلة متزوجة برجل قام وقتل الزوج وأخذ المرأة، بخلاف الأخ لا تكون غيرة الرجل على امرأته كغيرته على أخته، غيرته على امرأته أشد من غيرته على أخته. قال: فجيء بـ سارة وكانت من أجمل النساء، فأراد الجبار أن يقترب منها فدعت الله عز وجل فشلت يده، فقال: ادعي الله لي ولا أقربكِ، قالت: اللهم إنه إن مات قالوا: قتلتِه، فرد الله عز وجل له يمينه، فمد يده مرة أخرى فشلت يده بصورة أشد من الأولى، فقال: سلي الله أن يعافيني ولا أقربنك، فدعت الله فرفع عنه البلاء. فنادى للجماعة الذين أتوا بـ سارة، فقال لهم: إنكم أتيتموني بشيطان وليس بإنسان، فلما رأى أنها جميلة وأنها تشبه الملكات أخدمها هاجر، أعطاها هاجر أم العرب لكي تخدمها؛ لأنه رآها ليست أهلاً أن تعمل بيدها، إنما رأى أن تخدمها هاجر، فخرجت سارة بـ هاجر وأتت بها إبراهيم عليه السلام. هذه هي الكذبة الثالثة التي خشي إبراهيم عليه السلام أن يأخذه الله عز وجل بها.

بيان الكذبة الأولى

بيان الكذبة الأولى فإبراهيم عليه السلام لم يقل الحق في هذا، بمعنى: أنه قال شيئاً عرض به: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] هو يعلم أن الأصنام لا تنطق، وإنما أراد أن يلزمهم الحجة بذلك، وأن الأصنام لا تنطق ولا تنفع ولا تضر، وهذه في ذات الله عز وجل، هو يريد أن يثبت لهم أن أصنامهم لا تساوي شيئاً. هذه هي الكذبة الأولى، ونستأنف ذلك بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى. أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

بيان الكذبة الثانية

بيان الكذبة الثانية الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ذكرنا في الخطبة الأولى أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، وذكرنا الكذبة الأولى، والآن نذكر لكم الكذبة الثانية: وهي قوله عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وكان كما قال أهل التفسير: إن قوم إبراهيم كانوا يخرجون في عيد لهم، ويلزمون الجميع بالخروج، وعندما أتوا إلى إبراهيم وطلبوا منه أن يخرج معهم في عيدهم، تظاهر بالمرض، وقال: (إني سقيم) يريد أنه سقيم القلب لكفرهم. {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] أي فروا منه خشية أن ينتقل المرض منه إليهم، وبذلك نجا من أن يحضر أعياد الكفرة؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يحضر أعياد الذين يحادون الله ورسوله، وهذا بكل أسف يفعله المسلمون الآن، لا تراهم يحتفلون بعيد الفطر أو الأضحى مثلما يحتفلون بعيد رأس السنة الميلادية، وليس هذا فقط، بل يشربون الخمر، والمسلمون قد نهوا أن يحضروا أعياد المشركين الكافرين. وتنظر إلى هذا الغثاء وقد خرج كله من بيتك، وفي الحدائق يأكلون النتن، ويشاركون اليهود في عيدهم، فتقيم الدولة احتفالاً رسمياً بهذه المناسبات، أنَّى لهؤلاء أن ينتصروا؟ أنَّى لهؤلاء أن ينزل الله نصره وقد حادوه، ولا يقيمون لشرعه وزناً؟ وصل النفاق إلى درجة عالية عند هؤلاء، حتى أصبح مخالفة الإسلام عندهم أمراً هيناً لا يؤبه له، بينما مخالفة أسيادهم من المشركين والكفار هذا أمر عظيم. أحد الوزراء قال في مذكراته: إنه حضر مع رئيس سابق -ونشرت مجلة لبنانية نتفاً من مذكرات هذا الوزير- يقول: إنه ذهب مع الرئيس السابق الكنيسة، ثم إن الرئيس السابق أراد أن يكون كـ عمر، أذن الظهر، فقال ذلك الرئيس: يا جماعة تعالوا نصلي، وتقدم للإمامة. وهذا المسكين -أي: الوزير- كان جنباً، وزير يمشي جنباً، قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون سنون خداعة، يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة) السفيه يكون رأساً، فهو الذي يأمر، وهو الذي ينهى، وهو الذي يتحكم، ومع ذلك يمشي جنباً!! لو أن هذا الوزير عندما رأى المسلمين قاموا إلى الصلاة ولم يصل، فسيقف بالباب ينتظرهم حتى يتموا الصلاة، لكنه استحيا من هذا الموقف، ولشده حيائه صلى وهو جنب. فانظروا إلى هذه الصورة وقيسوا عليها، وما خفي كان أعظم، والغريب أن تصل به الجرأة أن ينشر هذا الكلام على المسلمين. وأنا قد رأيت أحد المحافظين في صلاة الجمعة وقد التقطت له صورة مع رئيس سابق، ووضعوها في جريدة الجمهورية في أول صفحة، وهو يصلي وواضع يده اليسرى على اليمنى في الصلاة! ابن أربع سنوات أو ثلاث سنوات يعلم أن اليمنى هي التي توضع على اليسرى في الصلاة، وهذا المحافظ لا يعرف!! ألا يخاف أولئك أن ينزل الله غضبه عليهم، إن هذا الضنك الذي يعاني العباد منه، إنما هو بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] وليس يذيقهم كل الذي عملوا بل بعض الذي عملوا، ما العلة؟ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] لعلهم يتوبون من قريب، لعلهم يرجعون إلى ربهم، فيذكرهم الله عز وجل ببعض ما كسبت أيديهم ليتوبوا. لا يجوز للمسلم أن يشارك في أعياد الكافرين، ولا أن يكثِّر سوادهم، فإبراهيم عليه السلام لا ينبغي له أن يشارك قومه في أعيادهم؛ كيف يشاركهم وهو أمة وحده، وهو من يدعوهم إلى التوحيد: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لذلك كانت هذه الكذبة في ذات الله عز وجل.

استحالة الكذب في حق الأنبياء عليهم السلام

استحالة الكذب في حق الأنبياء عليهم السلام أما بالنسبة للكذب: فإنه لا يجوز في حق الأنبياء؛ لأن الكذب إنما يخرج من فم بني آدم، فإذا جرب على إنسان كذب فلا يمكن أن يوثق بشيء يخرج من فيه، لذلك كما عند الترمذي وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان خلق أبغض إليه من الكذب). وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (على كل شيء يُطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب)، لا يكون المؤمن كذاباً. وفي الحديث الصحيح في البخاري: (لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). الكذب جناية عظيمة، وما حرفت الأديان إلا بالكذب، لم يقع شيء قط إلا وترى أن الكذب من أصوله، فالكذب جناية عظيمة ينزه عنه الأنبياء، حتى لا يتطرق ذلك إلى البلاغ الذي يحملونه من الله عز وجل إلى البشر، هذا بالنسبة للأنبياء. أما بالنسبة لغيرهم: فإن الكذب كله حرام غير ثلاثة أنواع من الكذب، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من الكذب لا أعدهن كذباً -وفي رواية: لا أعباء بهن- كذب الرجل في الحرب، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل على امرأته). هذه الأنواع الثلاثة هي التي يمكن لنا أن نسميها تجاوزاً (الكذب الأبيض) وإلا فالكذب كله أسود، وذلك لما يتحمله العبد من الويلات ومن الحساب بسبب الكذب. إذاً: المعاريض تشبه الكذب ولكنها تختلف عنه في الحكم، ولذلك نحن قلنا: إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إنما عرض بالكلام.

معنى التعريض والفرق بينه وبين الكذب

معنى التعريض والفرق بينه وبين الكذب التعريض يسميه علماء البيان: التورية، والتورية: هي أن يكون للكلمة معنيان: معنىً قريب، ومعنىً بعيد، إذا قلت الكلمة خطر على بال السامع المعنى القريب، وأنت تقصد المعنى البعيد. مثلاً لو قلت لي: تفضل كل، فقلت لك: إني صائم، كلمة صائم إذا سمعها أي إنسان ما الذي يخطر على باله؟ يخطر على باله أنني صائم عن الأكل والشرب، وقد أقصد أنني صائم عن اللغو، أو صائم عن الرفث، كما جاء على لسان مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] فعبر عن الكلام بالصوم، وكل شيء تنطق به يمكن أن تعبر عنه بالصوم؛ لأن الصوم في الأصل هو الإمساك. وهذا حدث لـ أبي هريرة رضي الله عنه، أنه نزل مرة على جماعة وكان يكره طعامهم، فقالوا: اقعد يا أبا هريرة وكل معنا، فقال: إني صائم، فلما كان في عصر ذلك اليوم رأوه يأكل فقالوا: كيف يا أبا هريرة تأكل وقد قلت إنك صائم؟ قال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر كله). فهو رضي الله عنه يصوم الثلاثة الأيام من كل شهر، فيعتبر صائماً كل الدهر. فهو صائم باعتبار ذلك الفهم، لا أنه صائم عن الأكل كما فهم الناس، فلا يقال: إنه كذب، إنما يقال: إنه عرّض بالكلام. الكلام له وجهان: وجه قريب، ووجه بعيد، إذا قيل الكلام فهم السامع منه الوجه القريب، وأنت إنما تقصد المعنى البعيد الذي لا يخطر على بال السامع. ورد أن أحد الخلفاء أراد أن يقلد سفيان الثوري منصب القضاء، وسفيان الثوري أحد الأئمة الأعلام الذين حفظ الله عز وجل بهم هذا الدين- وكان يأنف القرب من المناصب، ويرفض القرب من هؤلاء الأمراء. وكما قال أحد السلف: إنك ما أصبت من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك ما هو أعظم، فاقترب منهم قد تأخذ مالاً أو سيارة أو منصباً، وإذا أشرت بيدك قعد الناس وقاموا، لكنه مقابل هذا قد ترى الرئيس أو الأمير يظلم وأنت ساكت، ولا تستطيع أن تنكر؛ لأنه قد أعطاك أشياء كانت سبباً في سكوتك، بل قد يظلم وتكون عوناً له في هذا الظلم، وتفعل هذا من باب المجاملة، وكونه قد تفضل عليك بأشياء كثيرة. فكلما أعطاك من هذه الدنيا الفانية التي لا قيمة لها، كلما أخذ في مقابله ما هو أعظم من هذا الذي أخذته منه، لذلك كان السلف يأنفون القرب من الحكام، مع أن أمراء ذلك الزمان كانوا هم حكام الدنيا والدين، وكانوا يدينون بالإسلام، ومع ذلك فعلماء السلف كانوا يكرهون أن يقتربوا منهم. فأراد أمير المؤمنين أن يحمل سفيان الثوري على القضاء وهو لا يريده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) لأن القاضي قد يخطئ، وقد يجامل، وقد يحكم على إنسان وهو غضبان، مع أنه لا يحل له أن يحكم وهو غضبان، ولأنه قد يعتريه ما يعتري البشر من الغضب والرضا، ومن الخطأ، ومن المجاملة، ومن قسوة القلب، وكل هذا يؤثر على قضائه وحكمه في القضايا. فأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذا الذي ظلمته: فكان الواحد منهم يخاف على نفسه، لكن أمير المؤمنين أصر على أن يتولى سفيان الثوري القضاء، فهرب سفيان، فأرسل الشرطة وراءه فأحضروه، فلما أتي بـ سفيان الثوري ودخل على الخليفة تظاهر بالجنون، وتحسس السجاد تحسس المجنون، ويقول: بكم اشتريتم هذا؟ ليقول الخليفة: هذا رجل مجنون لا يصلح للقضاء. لكن ما كان يغيب على أمير المؤمنين سمعة سفيان، وأنه إمام رباني، انتشر ذكره في الناس بكل خير، ففي مرة من المرات كان سفيان مع أمير المؤمنين، وجعل أمير المؤمنين يتحدث عن القضاء، فخاف سفيان أن يوليه القضاء، فاستأذن في الخروج لقضاء الحاجة، فقال الخليفة: إنك إن خرجت لا تأتينا يا سفيان، قال: والله لآتينك، فانطلق حافياً، ثم خرج ورجع سريعاً فقال: نسيت حذائي. فلبس حذاءه وخرج ولم يرجع، فقال الخليفة: أين الرجل لقد أقسم أنه سيجيء؟ قالوا: نعم قد رجع فأخذ حذاءه وانصرف. فهذا من المعاريض. أراد أمير المؤمنين أنه بعد أن يرجع سفيان يقوم بتوليته القضاء، لكن سفيان كان فاهماً ما يريد منه الخليفة، ولأنه لم يأذن له بالخروج إلا بعد أن أقسم بأنه سوف يعود، فعمد سفيان إلى حيلة وهي أنه خرج بدون حذاء؛ ثم رجع وأخذ حذاءه وانصرف، حتى يبر بقسمه. وهذا الإمام المروذي أحد أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحم الله الجميع، كان عليه دين لبعض الناس، فلما جاء صاحب الدين ليطالب المروذي قبل أن يصل خرج المروذي من بيته ودخل بيت الإمام أحمد، وقال للإمام أحمد: سيأتيني الرجل يطلب دينه وليس عندي مال، فقال: ادخل. فجاء الرجل فطرق باب الإمام أحمد ثم قال له: المروذي هنا؟ فإن قال له: نعم إنه هنا لفائدة من هربه. فقال الإمام أحمد وأشار إلى كفه ما يفعل المروذي هنا وأشار إلى كفه، فظن الرجل أنه يمكن أن يكون في البيت، فالإمام أحمد إنما أشار إلى كفه، والمروذي ليس في كفه، فهذا اسمه تعريض، وهو يشبه الكذب ولكنه يختلف عن الكذب في الحكم، فهذا التعريض إنما يكون في المباح. أما أن تعرض لأجل أن تأكل حقوق الناس، فهذا كذب وليس بتعريض، ولذلك فالمسلم الذكي العاقل هو الذي يستفيد من هذه المعاريض في إصلاح بيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه) والضلع: هو العظم الذي في رأسه ميل واعوجاج، فالمرأة خلقت معوجة في طباعها وأخلاقها، مثل المكان الذي خرجت منه وهو الضلع. (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاقبلوهن على عوج)، لو علم المسلم هذه الحقيقة، لعرف كيف يتعايش مع الزوجة بدون مشاكل، امرأة خلقها الله معوجة، فإن أردت أن تقيمها فلا تستطيع، وإنما تتعايش معها مع بقاء العوج فيها؛ لأنها مجبولة على ذلك، ويكون التعايش مع المرأة بالمداراة، وبالمعاريض، وبالصبر عليها، خاصة إذا كانت الأخطاء التي تصدر من المرأة لا تخالف الشرع، وإنما أخطاء لا تنفك عنها الحياة الزوجية. ولا يستطيع الرجل أن يفعل أفعال المرأة أبداً، لماذا؟ لأن الرجل مجبول على شيء والمرأة مجبولة على شيء آخر، فلذلك الأئمة يقولون في هذا الحديث: إن فيه مداراة المرأة، بمعنى: أن على الرجل أن يقبل منها الشيء من غير تضجر، وله أن يكذب عليها -ليس الكذب المطلق- كما في حديث أسماء بنت يزيد: (ثلاث من الكذب لا أعدهن كذباً كذب الرجل على امرأته) قال الإمام النووي رحمه الله: أما كذبه عليها لأجل أن يأكل حقها فهذا حرام بالإجماع، كأن يأخذ الذهب الذي هو ملكها ويقول لها: عندي مشروع وأريد منك الذهب، وأول ربح أدفعه لكِ وهكذا، وهو ينوي في ضميره أن لا يرده إليها، فهذا حرام عليه أخذه منها؛ لأنه ملكها، وقد يكون صداقها الذي به استحل فرجها، والصداق هو أطيب مال المرأة، فيأخذه ولا ينوي إرجاعه، فهذا يعد كذباً محضاً، وهو حرام بالإجماع. فهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام يعد من المعاريض ولا يعد من الكذب، لذلك قال الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر: إن هذه ليست كذبة، إنما هي كذبة من باب اللغة فقط، يعني من باب التسمية اللغوية فقط، فبعد أن اعتذر إبراهيم عليه السلام عن أن يشفع لهؤلاء الناس قال: اذهبوا إلى موسى.

موسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة بسبب ذنبه

موسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة بسبب ذنبه فلما ذهبوا إلى موسى عليه السلام وهو كليم الله، ومن أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن؛ لأنه أرسل إلى جبار عنيد، ألا ترى أن موسى عليه السلام له حظ من الذكر في غير ما سورة من القرآن؟ ومع ذلك لم تأت سورة باسم موسى، كما سميت بعض السور باسم هود، ويونس -مثلاً- أو مريم. أرسل الله موسى إلى فرعون ذلك الجبار الطاغية، ونافحه كثيراً جداً كما تعلمون من قصته، فقال لأولئك الذين أتوا إليه ليشفع لهم عند الله في فصل القضاء: (إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) كما ورد في سورة القصص، وهي: أن موسى عليه السلام رأى رجلاً من قومه يقاتل قبطياً، فوكزه موسى فقضى عليه، فهذا هو الذي عناه موسى، مع أن الله عز وجل غفر له حيث قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] وقال: (إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط -فخاف أن يعاقب بهذا الذنب، فقال لهم-: (اذهبوا إلى عيسى).

عيسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة

عيسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة وعيسى عليه السلام لم يذكر ذنباً؛ لأنه لم يذنب، ظل على الأرض سنوات قليلة ثم رفعه الله عز وجل إليه، ولقد ورد كما في الأحاديث الصحيحة المتواترة في الصحيحين وغيرهما بأن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ويحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا ختام خروج الدجال. من شرف هذه الأمة أن عيسى عليه السلام يصلي مأموماً خلف المهدي، قال بعض العلماء: حتى لا يتصور بعض الناس أن عيسى قادم بشرع جديد، بل هو من هذه الأمة، ويحكم بشرع هذه الأمة، ويصلي خلف أئمتها، وهذا ثابت في صحيح مسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم وابن مريم منكم). وفي الحلية لـ أبي نعيم الأصبهاني: أن المهدي رضي الله عنه -وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم- سيكون هو قائد الطائفة المنصورة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: هم بالشام يومئذٍ). ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين

العصبية للدين

العصبية للدين العصبية للدين أمر ممدوح شرعاً، ودليل على مدى تمسك المسلم بعقيدته ودينه، وهي واجبة ضد أعداء الدين ومؤامراتهم، ولا يقبل فيها بما يسمى بالتسامح الديني والأخوة الإنسانية. أما العصبية المذمومة فهي التي يكون أساسها الخلاف بين المسلمين في المسائل الفرعية التي تحدث التمزق والشقاق وتلغي المحبة والمودة بين المسلمين، وقد بينت السنة مواقف الصحابة في هذ الباب، واعتمادهم أدب الخلاف في المسائل التي يسعهم الخلاف فيها.

العصبية للدين بين المدح والذم

العصبية للدين بين المدح والذم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد فقد جرت كلمة لها مشتقات ومترادفات على ألسنة الناس، سواء ممن يكنون العداء للإسلام والمسلمين، أو ممن يظهرون الولاء له، والله أعلم بنياتهم، إنما كل مدار كلامهم يدور على الذم لهذه الكلمة ولمشتقاتها، وهي كلمة: (العصبية)، فيقولون: ليس في الإسلام عصبية، ولا تعصب، ولا عصبة، وهذه مشتقات، وكلامهم هذا إن كان له وجه صحيح؛ فله وجوه كثيرة من الخطأ والباطل، والله أعلم بنيتهم: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]، فلا نشق عن صدورهم ولا ننقب عما في قلوبهم، وندع ذلك لرب الأرباب، ولكن يجب أن نعيد الحق إلى نصابه بالدلائل النيرات، والحجج الدامغات: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42]. إنه لا يجوز أن نأتي على مصطلح إذا أطلقه الإنسان كان دليلاً على الانحراف فيجرف تحته أئمة من أئمة المسلمين كانوا يوماً ما يطلق عليهم هذا الاصطلاح كدليل على الصلاح والاستقامة على السنة، مثلاً: الصوفية نراهم يعدون الإمام أحمد بن حنبل والجنيد والثقفي في الصوفية. وهؤلاء السادة كانوا من أتبع الناس للسنة، وإنما كان مصطلح الصوفية عندهم لا يتعدى أن يكون هو الزهد في ملذات الحياة فقط، والترفع عن الدنايا، لأن له أصل أصيل في السنة، فلما دار الزمان وصار مصطلح الصوفية علماً على الانحلال والانحراف عن السنة والقول بالاتحاد ووحدة الوجود إلى كل هذه الأشياء الكفرية، صار لا يجوز لنا في هذه الحال أن نقول: إن الإمام أحمد بن حنبل كان صوفياً، لما وقر في أذهان الناس أن الصوفي له علامات كذا وكذا. وإن كانوا يطلقون عليهم قديماً لفظة صوفي بالتعريف القديم، لكن الصوفي الآن له تعريف آخر يختلف عن تعريف القدماء لمعنى الصوفية، فالحاصل أنه لا يجوز لنا أن نأتي على شيء حادث يدل على أشياء مشوهة فنأخذ به القدماء، لما يعمي ذلك عند الناس ويضيع الحق والحقيقة. مصطلح العصبية يجب أن يتبدى واضحاً جلياً، كلنا ننكر التعصب والتنطع والعصبية في فروع الدين، يجب أن يكون في صدرك محل لخلاف أخيك، فرجل يرى هذا الرأي الفقهي وآخر يرى غيره، إننا نمقت العصبية، وهي أن يختلف أصحاب الدين الواحد في مسألة فرعية تؤدي بهم إلى الشقاق والتناحر، مثلما حدث منذ خمسين سنة فقط، وما زالت العلامة على هذا الحادث موجودة حتى الآن، فالذي يدخل الجامع الأزهر يجد أربعة محاريب -المحراب هو المقوس في القبلة- محراباً للشافعية، ومحراباً للحنفية، ومحراباً للمالكية، ومحراباً للحنابلة، لماذا يا قوم؟! أليس دينكم واحد وقبلتكم واحدة وربكم واحد ونبيكم واحد وقرآنكم واحد؟ ما معنى أن هذا شافعي وهذا مالكي وهذا حنبلي وهذا حنفي؟ وليس الأمر واقفاً على مجرد هذه التسميات، إنما كان له أثر في تفكك علاقة المسلمين، فكان الشافعية يرون أن الفجر يصلى بغلس، أي: يصلي الفجر في أول وقته وما زال الظلام يغطي الدنيا، فكان الشافعية يرون استناداً إلى حديث عائشة في الصحيح أنها قالت: (كنا نصلي الفجر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نخرج لا يرى بعضنا بعضاً من الغلس -أي: من الظلام-) فهذا يدل على أن الفجر يصلى في أول وقته، وكان الشافعية يبادرون إلى الصلاة في أول الوقت. أما الحنفية فكانوا يرون أن الصلاة لا تكون إلا بعد إشراق النهار، ليس إشراق الشمس، ولكن بعد بزوغ النهار، وكانوا يستندون أيضاً إلى حديث صحيح رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر)، فقالوا: إنه يجب أن نسفر، ومعنى الإسفار هو: بزوغ النور بعد رحيل الظلام، فقالوا: إنه أعظم للأجر، فيجب علينا أن نصلي الفجر بعد أن يبزغ النور. فيقوم الشافعية يصلون في محرابهم، والحنفية قاعدون ينتظرون إمامهم، فإذا انتهى الشافعية من الصلاة؛ جاء الحنفية واستأنفوا صلاة الفجر. إننا نكر أشد الإنكار هذا النوع من التعصب الذي كان من نتيجته أن صار المسلمون أحزاباً، ننكره ونجحده ونكفره ولا نقر به، فإن قال قائل: فما وجه الجمع بين ما رآه الشافعية والحنفية، وحديث عائشة رضي الله عنها يوضح أن الصلاة في أول الوقت، وحديث أبي رافع الذي احتج به الأحناف يوضح أن الصلاة تكون بعد أن يسفر الليل؟ فيقال: جمع ابن خزيمة والطحاوي وغيرهما من العلماء بين الحديثين، فقالوا: يبدأ في الصلاة على وقتها فما يخرج منها إلا بعد أن يسفر النور، فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر) حضٌ على إطالة الصلاة من أول وقتها في الغلس حتى يسفر الفجر، فنبدأ الدخول فيها بغلس ونخرج في النهاية بعد أن يسفر النور، ويدل عليه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى بالمسلمين الفجر حتى أشرقت الشمس وهم يصلون، فقالوا: (يا خليفة رسول الله! طلعت علينا الشمس! فقال لهم: طلعت، فلم تجدنا غافلين). يريدون أن يتراشق المسلمون بسهام الملام بعضهم مع بعض لمجرد الاختلاف في مسألة فقهية. وننكر أيضاً أن يتكلم الرجل عن جهل، ولا يقدر هذا الدين قدره، إنما يتكلم فيه العلماء الذين ينطلقون من الأصول، أما الذي لا يُنْكر في معنى العصبية فهو أن تتعصب لدينك وألا تقدم عليه شيئاً، فالعصبية هنا واجبة، بل عدم وجود العصبية خلل في إيمانك، فالعصبية هنا شيء حقيقي وهو وقود الإيمان؛ لأن الإنسان إذا عرف أنه متعصب لشيء ما، فيعلم أنه شديد الاعتزاز به شديد الحب له؛ لذلك يقال: فلان متعصب جداً، ما الذي جعله يتعصب؟ اعتزازه بما يراه، وحبه الشديد له، فدينك يجب أن تتعصب له، ويجب ألا ترضى بالدنية فيه، وهذا ما أرادوا أن ينفوه من قلب المسلم لا تعصب! وخرجت علينا بدعة التسامح الديني، والتسامح الديني إنما في حق المسلمين فقط، ويجب على المسلمين أن يتسامحوا دينياً، أما غيرهم فهم في منتهى التعصب ولا يلومهم أحد، وهي منقبة لهم، لماذا تذكرون تسامح الإسلام ولا تذكرون عصاه وقوته؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتسامح إلى ما لا نهاية.

مصطلح (التسامح الديني) والهدف من نشره بين المسلمين

مصطلح (التسامح الديني) والهدف من نشره بين المسلمين إن التسامح إلى ما لا نهاية هو الضعف بعينه. رجل يتلقف الضرب يمنة ويسرة ثم يقول: سامحه الله! إلى متى يضرب فيسامح؟ يجب أن يكون هناك حد يعرف به الضارب المعتدي أن هذا التسامح لم يكن عن خور أو ضعف. إن الشاعر عمرو بن أبي عزة لما شبب بالمسلمين وبنساء المسلمين وهجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فأخذوه وأتوا به، فاعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم وشكى له أنه مشفق وحاجة عياله إليه، وقال له: كن خير آخذ! فسامحه على ألا يعود، فاستنفر المشركون الشاعر مرة أخرى، فهجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشبب بنساء المسلمين وذكر عوراتهن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فجاءوا به، فاعتذر وقال: تبت وأنبت ورجعت، وهذه آخر مرة، فتركه. فلما مني المشركون بمقتل رؤسائهم في غزوة بدر، وصار أبو سفيان يعبئ المشركين واليهود لقتال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؛ استعانوا بلسان الشاعر عمرو بن أبي عزة؛ لأنه كان سليط اللسان، وقالوا: اهجه ونحن نحميك، فهجاه هذه المرة هجاءً لاذعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فجاءوا به، فجعل يشكو: آخر مرة، ويطلب السماح والعفو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، والله لا أدعك تمشي في طرقات مكة فتقول: ضحكت على محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فصارت مثلاً، وأمر به، فقتل. التسامح له نهاية، ليس هناك تسامح إلى ما لا نهاية، وليس هناك جهل وهجوم وجسارة إلى ما لا نهاية، كل شيء له حد: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. لماذا تقول دائماً: إن الله غفور رحيم، وتركن إلى هذه المغفرة وهذه الرحمة ولا تذكر عذابه؟! إنك لو ذكرت عذابه ما انتهكت حرماته، ولكن غرك حلمه، وأنه لا يأخذ العاصي بعصيانه في الحال، فتقول دائماً: إن الله غفور رحيم، رحمته واسعة ولو ذكرت عذابه لوقفت عند حدوده. إن التسامح له نهاية، لماذا التسامح الديني في حق المسلمين فقط؟ فإن أظهر أحد المسلمين تعصباً لدينه يدينونه ويمقتونه ويقولون: الإسلام دين التسامح! الإسلام دين الرحمة! أين عصا الإسلام التي أدب بها شرار البشر، أين ذهبت أيها المسلمون؟ إن التسامح الديني بدعة ابتدعها المشركون ليقتلوا الحمية في قلوبكم لدينكم، يتمعر وجهك في المرة الأولى، وفي المرة الثانية يتمعر أقل، ثم أقل فأقل، حتى يموت ذلك الوقود الذي في قلبك، وحتى تموت النفس اللوامة التي يتميز المسلم بها عن سائر الناس في الأرض. ألا ترى أن هذا حالك، خذ مثلاً: جهاز التلفزيون وأنت ترى امرأة عارية ترقص، فإن كنت حديث عهد بالنظر؛ وضعت عينيك في الأرض، أو تشاغلت بأي شيء حتى ينتهي ذلك المشهد، ثم لا تلبث أن تعود، وفي المرة الثانية راقب حالك وسترى أنك أقل ازوراراً لهذا المنكر، نظرت إليها دقيقة ثم ازوررت بعينيك حتى انتهى المشهد، فإذا تكرر المشهد مرة ثالثة تموت النفس اللوامة، ولو ماتت النفس اللوامة من المسلم؛ ارتكب كل فجور على وجه الأرض، إثباتاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: إذا ماتت نفسك اللوامة التي تحجبك عن المعاصي والخبائث فاصنع ما شئت. إن بدعة التسامح الديني التي ابتدعها المشركون ووردوها لنا على ألسنة عملائهم من العلمانيين الذين ينددون بأي شيء، ووصل التنديد بالذين يقولون: (إن صلاة الجماعة في المساجد واجبة، بمعنى أن الذي يصلي في بيته وهو قادر على أن يصلي في الجماعة بغير عذر له أنه آثم يقولون: إن هذا تجني، إن ديننا فيه سعة والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في الجماعة تعدل صلاة الفذ بسبع وعشرين). قوله: (صلاة الفذ) أي: صلاة الفرد. تعدل درجة من سبع وعشرين درجة، مما يدل على صحة الصلاة، نحن لا نناقش أن صلاته باطلة، إنما نناقش هل هو آثم أم لا، لقد كان ابن مسعود كما روى مسلم في صحيحه يقول: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، ولقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) فالرجل الغير قادر على أن يقف على قدميه في الصف، يحمله اثنان لكي يستوي في الصف. فيقولون: يجب أن يكون هناك تسامح ديني، نقول: نعم تسامح ديني في المسائل الفرعية، لكن أن تعتدي على عقيدتي وتريد أن أتسامح هيهات هيهات!! ذلك خدش وشرخ في إيمان المسلم، وقد يظهر في إيمانه كله. ولعلكم تذكرون، وأقول: لعلكم؛ لأن المسلمين أصيبوا بداء النسيان، ألا تذكرون يوم ضربنا في (67) وهزمنا شر هزيمة، قال أحد جنرالات إسرائيل: (الآن أخذنا بثأر إخواننا في خيبر)، أين خيبر وأين أنت أيها الجنرال؟ خيبر على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآن في القرن العشرين لا ينسى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيهود خيبر، لا ينسون، ليت أن لنا ذاكرة كذاكرة اليهود فلا ننسى. داؤنا النسيان، سرعان ما ننسى الإساءة حتى وإن كانت في عقر دارنا، أقول: لعلكم تذكرون مصرع الرئيس السابق لما أهلكه الله عز وجل وجاء الكفرة يشيعونه -وقبض على المسلمين وهذا أمر طبيعي- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب قوماً حشر معهم) فجاء الرؤساء الكفرة الذين لا يغنون عنه من الله شيئاً، وصلاة الجنازة المقصود منها دعاء المسلمين للميت، فهؤلاء شفعاء للميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى عليه أمة من الناس غفر له) وفي الحديث الآخر: (من صلى عليه أمة من الناس فيهم أربعون صالحاً غفر له) هذه نفعية صلاة الجنازة: الدعاء للميت، آخر ما يأخذه منكم في دنياه أن تدعوا له بالرحمة؛ لأنكم ستنسونه بعد ذلك. لذلك من الظلم البين والعدوان على الميت أن يقف المشيعون في خارج المسجد ولا يصلى عليه إلا أربعة أو خمسة، لماذا يا قوم؟ إن الميت لا يستفيد من خطواتكم وراءه شيئاً، خطواتكم لا تشكل له شيئاً، إنما الذي يشكل له دعاؤكم له، فما بالكم ظلمتموه، آخر شيء يأخذه منكم ضننتم به عليه، المقصود من صلاة الجنازة دفعة من الرحمات يأخذها الميت قبل أن يلقى ربه. فلما جاء الناس يشيعون الرئيس السابق وكان منهم صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، فالذي ذهب إلى القاهرة ونظر إلى المسافة بين المنصة التي دفن أمامها وبين الفندق الذي نزل فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي يجد أن المسافة نحو أربعة كيلو مترات أو أكثر، فهذا في أول شارع الطيران من هناك، والمنصة في شارع النصر، أربعة كيلو مترات أو خمسة. وصادف أن يوم الدفن كان يوم سبت، والتوراة تحرم على اليهود في يوم السبت أن يركبوا الدواب أياً كانت؛ فماذا فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق؟ أصر على أن يمشي من الفندق إلى المنصة، وهذا يكلف تكاليف أمنية رهيبة، فوزير العدو الإسرائيلي يمشي على قدميه في شوارع القاهرة، إذاً لابد له من حراسة في الأرض وفي السماء، أربعة كيلو مترات يمشيها ويصر عليها، لأن التوراة تحرم عليه أن يركب في يوم السبت شيئاً. فأين المغفلون، هل وصفوا هذا الرجل بالتعصب؟ ما سمعنا أن هذا الرجل متعصب متزمت أو أنه زجر، أو أنه عيب عليه، بل قد كلف أجهزة الأمن تكلفة باهضة؛ لأنه مشى على قدميه أربعة كيلو مترات، وانظروا إلى حمايته، وما تكبدته الشرطة المصرية من حشود وجنود، وكانت البلد هرج مرج، لا يأمن أحد عاقبة شيء، فانطلق يثبت التوراة، في حين أن المسلمين يرمون القرآن وبعضهم يدوس عليه. لكن وجدنا من المسلمين من إن لم يفعل هذا الفعل فعله معه من جهة أنه لا يعيره اهتماماً ولا يقيم لأحكامه وزناً، فيذهب الرجل من هؤلاء ويلبس الكوفية السوداء؛ حزناً على من مسخهم الله قردة وخنازير في يوم السبت؛ ولأن هذا من المراسم، ولا يرى أن هذا عاراً ولا شناراً ولا رجعية ولا تخلفاً، ولا يرى أن هذا تدنساً، ويرى أنه معتز بدينه، ويرفع أنفه شامخاً في وسط أشباه المسلمين الذين يتبرءون من دينهم. العصبية هنا جزء لا يتجزء من الإيمان، والذي يتسامح في هذه العصبية نقول له: جدد إيمانك، وانظر إلى نفسك، إنما نفرق بين العصبية للدين وبين العصبية في فروع الدين، في فروع الدين: لا نتعصب ونطلب الحق على حسب الأصول المتفق عليها عند علماء المسلمين، أما العصبية للدين التي هي الحب له والانتقام له وأن يتمعر وجهك -على الأقل- له، فهذا جزء من الإيمان لا يتجزأ. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ظاهرة تحلل المسلمين من دينهم

ظاهرة تحلل المسلمين من دينهم الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ذكر أحد الوزراء في مذكراته أنه بينما كان على مأدبة عشاء أو غداء -وفيها الخمر بطبيعة الحال؛ لأنها كانت في بلاد أوروبا- فإذا به يمسك السكينة بيده الشمال ويمسك الشوكة بيده اليمين ويأكل، قال: فرأيت غضباً على وجوه بعض من كان على المائدة، يعني: الجهة التي استضافت هذا الوزير، قال: وكادت أن تحدث أزمة دبلوماسية بسبب أنه أكل بيده اليمنى، لولا أنه تدخل شخصياً وقال: إنها عادة! ونفى أن يكون فعلها لأنه نهي عن الأكل بالشمال. هذا موقف عابر لعل المرء يقرؤه وهو غير عابئ به؛ لكنك إذا تأملت هذه الكلمات، واستحضرت عداوة عدوك ولم تنسها -على عادة المسلمين بعد ما ضعفت ذاكرتهم- وجدت أن هذا الموقف يمثل معانٍ كثيرة، ما الذي يغضب هذا الرجل أن يأكل المسلم بيمينه أو أن يأكل بشماله؟ ما الذي يضره؟ ولماذا كادت أن تحدث أزمة دبلوماسية حتى اعتذر الوزير شخصياً باسمه، ولعله اعتذر باسم الدولة عن هذا الفعل. ما الذي يعني هؤلاء أن يأكل كل إنسان كيفما يشاء، وهم في حريتهم الشخصية يقولون: إن أراد أن يمشي عارياً فله أن يمشي عارياً؟ لماذا يا قوم لا تقولون: وإن أراد أن يأكل بيمينه أكل؟! هؤلاء الناس لا يخففون المنكرات، فرضوا علينا الرسميات التي تناقض ديننا أظهر مناقضة، فخرجت النساء كاسيات عاريات، ولا مانع أن يقبّلها الرئيس الآخر، وقد رأينا هذا على شاشات التلفزيون، فهذا لا مانع منه لأنه تحضر، ولو أننا تمسكنا بديننا نكون قد رضينا بالرجعية، ونحن نبرأ من الرجعية ومن أهلها، وهؤلاء تقدموا بغير دين، والذي أخرنا هو الدين، هذا هو فحوى ما يدعو إليه العلمانيون في الجرائد الرسمية: (الدين لله والوطن للجميع)، عبارة كافرة ابتدعها سعد زغلول المارق. اقرءوا مذكرات سعد زغلول هذا البطل القومي الوطني، فقد كان يشرب المخدرات والخمر، ورغم ذلك يعتذر عنه عباس العقاد قائلاً: إن الأطباء كانوا ينصحونه أو يأمرونه بشرب الخمر لقرحة في المعدة، فقبل أن يذهب إلى النمسا كان شخصاً، وبعدما رجع قال: (الدين لله والوطن للجميع) أي: الدين هو عبارة عن شعائر وعلاقة بينك وبين ربك، لا مجال له في الواقع العملي، أما الوطن فهو للجميع وفيه غير المسلم. هذه فحوى العلمانية، والقائم عليها حزب الوفد الذي أسسه سعد زغلول، ولما اندرج الإخوان المسلمون في حزب الوفد الجديد وصاروا يدعون إليه، وكسب الوفد ونجح، بدأ التخلص من الإخوان شيئاً فشيئاً، وعللوا ذلك بقولهم: إن الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، يعني أن الإخوان المسلمين يريدون أن يديروا العجلة إلى الدين، وهذا الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، وأخطأ الإخوان المسلمون في تأييدهم لهذا الحزب. هذه الدعوة التي تفصم المسلم عن دينه، هي ما يريدونه في الخارج، وهم يربون أجنادهم عليه، فالأكل باليمين أو بالشمال لا يعني الغرب في شيء، لكن لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن أن يأكل المسلم بشماله أو أن يشرب بشماله) تدبر أخي المسلم بأي يد تأكل وترفع الطعام إلى فمك، لا ترفعن طعاماً ولا شراباً إلى فمك بيدك الشمال أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (فإن الشيطان يأكل بشماله) من منكم يريد أن يتشبه بالشيطان؟ فالأكل باليمين يحدث أزمة، لكن خرتشوف في مباحثات هيئة الأمم المتحدة في الستينيات خلع نعله ووضعه على مائدة المفاوضات أمام المندوب الأمريكي وغيره من أعضاء الدول التي لها حق الفيتو، فما جرؤ أحد أن يتكلم، ولم ينبس أحد ببنت شفة، ثم رجعوا أحباباً. إن دول المسلمين يجب أن تعود إلى دينها، إن العزة كل العزة في هذا الدين وفي العصبية له، إن العصبية لهذا الدين شرف بل هو محض الإيمان، وانظر إلى هذا الموقف في غزوة أحد، لما قتل من المسلمين نفر كثير بسبب مخالفة الرماة الذين تركوا مكانهم على الجبل، وكشفوا ظهر المسلمين، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع خالد فقتل من قتل، فقُتل سبعون من خيرة المسلمين منهم حمزة أسد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقات المغفر الحديد في وجنته، وجالد عنه طلحة كأشد ما يكون الرجال، وجالدت نسيبة بنت كعب هذه المرأة التي تساوي أمة من أشباه الرجال، وناضلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترّس عليه أبو دجانة حتى كانت السهام تقع في ظهره ولا يتحرك حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبعدما انتهت الغزوة انحاز النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ونفر وقعدوا في سفح الجبل، وعلا أبو سفيان على قمة الجبل ثم قال لهم: أفيكم محمد؟ وكان الشيطان قد صرخ بأعلى صوته: محمد مات؛ حتى حدث هرج ومرج في صفوف المسلمين -يطول الأمر بذكره- فوقع في نفوس المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، فأراد أبو سفيان أن يتشفى بموت النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على قمة الجبل وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجيبونه؟ قال: أفيكم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه؟ قال: أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه) فظن أبو سفيان ومنته نفسه أن هؤلاء قتلوا؛ فثارت حمية الجاهلية في قلبه ثم قال بأعلى صوته: اعل هبل!! وهو صنمهم، كأنه يقول: مات الذين كان الإسلام يقوم بهم، حينئذٍ: (اعل هبل وارجع إلى مكانتك)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وثارت الحمية في قلبه لدينه: (ألا تجيبونه؟) وهو الذي قال في المرة الأولى: لا تجيبوه! لكن لما جاء الأمر على استنقاص الدين قال: (ألا تجيبوه؟)، يعني: لا يجوز لكم أن تتأخروا في الرد عليه، (قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا غرى لكم، قال: ألا تجيبونه؟! قالوا: بم نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال عمر: لا يا عدو الله، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار). ففي المرة الأولى لما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر قال: (لا تجيبوه) لماذا؟ لأنه إنما ينطلق من الغل والحسد والتشفي، ومن الفطنة أنك إذا رأيت حسوداً أن تدعه يأكل بعضه؛ لإنك إن رددت على الحسود وجد له متنفساً ورد عليك، وروى غيظ قلبه في الرد عليك، لكن أن تدعه كالكلب ينبح لا تعيره اهتماماً، فإن هذا يزيد من وطأة الألم على نفسه، على حد قول الشاعر: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله فتركه النبي صلى الله عليه وسلم يموت بغيظه ولم يشف غيظه بالرد عليه، فكان ترك الجواب أفضل وأحسن، ولكن لما أراد أن يستعلي ويقول: اعل هبل، ويطعن في عقيدة التوحيد؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بعزة من عبده المسلمون وبسيادته على هذا الكون فقال: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: وبم نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل). حمية الحب لهذا الدين لا يجوز لك أن تتخلف عن نصرته، بل عليك أن تنمي وتغذي هذه العصبية، وهذا الإيمان الحار في قلبك. إننا نحتاج إلى العصبية في هذه الأيام أكثر من احتياجنا إليها في أي أيام مضت؛ لكثرة الدعوات الانحلالية والاباجية، ولكثرة جنود العلمانية، الذين ينشرون كفرهم في كل صحيفة رسمية وغير رسمية بدعوى حرية الرأي. لماذا لا تعدلون؟ لماذا تكيلون بكيلين وتلعبون على الحبلين؟ فكما قلت لهذا: لك حرية الرأي ولك الجرائد الرسمية، أتيحوا لنا الجرائد الرسمية إذاً حتى نرد، ونبين للناس وهاء دعوى العلمانية. إن شيخ الأزهر شخصياً يشكو أنه يرسل رده إلى الجرائد الرسمية ولا تنشره، وهذا أكبر علاّمة في البلد، فإن كان هذا هو التصرف مع أكبر علاّمة فرحمة الله علينا، فإذا كان شيخ الأزهر يشكو أنه يرسل الرد، ولكن لا ينشرونه له، ويأتي هؤلاء فيكتبون المذكرات وينشرون الكفر والإلحاد بدعوى حرية الرأي. فإذا مشت المرأة (بالمايوه) قيل: اتركها عارية، لا يحل لك أن تكبت حرية المرأة ولا حرية الرجل، كل إنسان يفعل ما يريد، فإن لبست المرأة النقاب وأرادت أن تدخل الجامعة؛ قالوا: لا. أين يا قوم الحرية المزعومة التي تزعمونها؟ أنا حر! أفعل ما أريد، لا. أنت لست حراً، هو حرٌ وأنت لست حراً، هذا هو لسان الحال ودعك من المقال، دعك من الزيف المنشور، ولنكن في الواقع؛ لأنه سيد الأدلة، أنت لست حراً بل أنت مضطهد وهو حر، إن فعلت أي شيء من باب الحب لدينك، فأنت متعصب، ولماذا لا تنزل إلى الدركة الدنيا، وإذا أخذت بعوالي الأمور وعزائمها؛ قالوا: هذا تشدد وتنطع نهى الله عنه! فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (هلك المتنطعون)، مثل الذين قالوا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]. كما قال شاعرهم: ما قال ربك: ويل للأولى سكروا وإنما قال: ويل للمصلينا ما قال أن هناك ويل للذي سكر وسرق، إنما قال: ويلٌ للمصلين، يسمونها بغير اسمها، ويدلسون على الناس. أيها المسلم! أنت الآن في مفترق الطرق، وحولك دعوات كثيرة تزين لك الانحلال، وتبين لك أن التمسك بدينك تعصب، ارفض هذه الدعوات، وامض في طريقك إلى ربك يلهمك رشدك. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدمنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في دي

أدب الخلاف في المسائل الفرعية

أدب الخلاف في المسائل الفرعية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أريد أن أبيّن المسألة الأولى بخصوص العصبية في المسائل الفرعية؛ لأن كثيراً من المسلمين يحتاجون إلى بث لهذا الفهم، ونراهم يشوهون على بعضهم أعظم تشويه، فإذا ما اختلف هذا مع ذاك في مسألة فرعية، تجد الكل يتعصب لرأيه كما لو كان هو على الحق ومخالفه على الباطل. لذلك نريد أن نذكر أدب الخلاف على سبيل الاختصار، وإلا فالموضوع طويل ومهم جداً، ولعل الله عز وجل ييسر ذلك بعد. وسوف نعرض لأدب الخلاف في الإسلام وكيف يعذر بعضنا بعضاً ومتى، وليس معنى هذا أن تعذر أخاك دائماً على طول الخط، كأن يأتي ببدعة أو يخالف الدين مخالفة صريحة وتقيم عليه الحجة ولا يدفع هذه الحجة بعلم من عنده، ومع ذلك يصر على ما هو عليه، فهذا مبتدع متلاعب، يجب أن يردع ويهجر بوسائل الهجر المعروفة المشروعة. أقدم بين يدي هذا الحديث الذي أصله في صحيحي البخاري ومسلم، والشاهد الذي أريده خرجه أبو داود، فقد قيل لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو في الحج: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين) في الحج يصلون جمعاً وقصراً، فالصلاة الرباعية تكون ثنائية، ويقدمون العصر إلى وقت الظهر جمع تقديم، وكلامنا الآن ليس عن الجمع إنما هو على القصر، فقالوا لـ ابن مسعود: (صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، وصليت مع أبي بكر ركعتين، وصليت مع عمر ركعتين، وصليت مع عثمان صدراً من خلافته ركعتين، فما حملك على أن تصلي أربعاً؟) والقصة بدأت بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته كان إذا حج بالمسلمين قصر الصلاة مثلما هو معروف، لكن في أخريات خلافته لم يقصر بل أتم، فصلى الصلاة الرباعية رباعية، والمسلمون يتابعونه على ذلك، فقيل لـ عثمان: لم فعلت؟ قال: (أنا أتيت بأهلي ومالي) فصار شأنه كشأن المقيم الذي معه أهله، فهو ليس بمسافر، فتأول عثمان أنه مقيم، فصلى أربعاً وصلى المسلمون معه أربعاً، فلما قيل لـ عبد الله بن مسعود أحد الذين صلوا ركعتين بداية ثم تابعوا عثمان على الصلاة أربعاً: لم صليت أربعاً مع عثمان ولم تصلِّ ركعتين؟ فأجاب إجابة الإمام الفقيه العالم قال: (الخلاف شر) وهذه الجملة هي التي لم يخرجها الشيخان وإنما خرجها أبو داود. فما الذي تتصورونه لو جاء عبد الله بن مسعود وأخذ عصابة من المسلمين ونوى العصيان وقال: لا. هذه عبادة ونحن غير مقتنعين بهذا كما اقتنعت به وسنصلي ركعتين، ثم افترق المسلمون أحزاباً في منسك الحج الأكبر، كيف يتأتى لهم نصر أو وحدة؟ فنظر عبد الله بن مسعود نظرة الثاقب، فقال: إنه لو أتم خلف عثمان -وهو متأول- أن هذا لن يصيب الأمة بضرر مثلما سيحصل لو أنه أخذ لنفسه وضعاً خاصاً وصلى ركعتين ومن ثم يتحزب ويشق عصا المسلمين. يجب أن ننظر إلى خلافاتنا في المسائل الفرعية هذا النظر، ولا يجوز التكذيب أيها الناس! ما معنى أن يتكلم رجل فيقول: الطائفة الفلانية كذا، والطائفة العلانية كذا لماذا تذكرون الأسماء أيها الناس! مع أنها ليست فيها مصلحة؟ لماذا لا تسلكون مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو التعريض: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) بدون أن تصرح. نعم تلجأ إلى التصريح إن كان فيه مصلحة راجحة، وإلا فدونك التعريض فإنه أدعى ألا يتفرق المسلمون أكثر من الفرقة الموجودة الآن، فإذا نظرنا إلى جيل الصحابة -هذا الجيل الكريم- كيف كانوا يختلفون في أشد مراحل الاختلاف، وانظر إلى المسلمين الآن إذا اختلف رجل مع آخر، لمزه بأنه من أهل البدع، ولا يصلي وراءه ولا يسلم عليه، وإن قابله في طريق أخذ طريقاً آخر، وقد رأينا مثل هذه النماذج. مثلاً: أن يقنت دائماً في صلاة الفجر بالدعاء الذي يقال في صلاة الوتر: اللهم اهدنا فيمن هديت إلى آخره، ذلك بدعة، وبعض إخواننا من الشافعية يقولون بوجوب هذا الدعاء حتى إن بعضهم قال: لو نسيه فإنه يسجد للسهو؛ وعمدتهم في ذلك حديث ضعفه أهل المعرفة بالحديث وإليهم المرجع في هذا الأمر، وهو حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى قبض) لو صح هذا الحديث لكنا أول الداعين إليه، وليس هذا الحديث بصحيح بل هو منكر كما قال الأئمة وإن صححه بعض الشافعية؛ خلافاً للمتعارف عليه من علم أصول الحديث، فهذا الحديث ضعيف، وهو عمدة الشافعية الوحيد في أن دعاء الفجر دائماً يقرأ. لا. بل هو بدعة، وقد روى الترمذي في سننه بسند حسن صحيح أن أبا مالك الأشجعي قال لأبيه وكان من الصحابة: (يا أبتي! صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي، فهل كانوا يقنتون في صلاة الفجر؟ قال أبوه له: أي بني محدثة) -يعني بدعة- وهذه صلاة ولا أظن هذا الصحابي يغفل؛ لأن هذا الأمر لو حدث لكان اشتهر بالأسانيد الصحيحة، ولم يتفرد به أبو جعفر الرازي هذا الراوي السيء الحفظ. فهذا الدعاء وإن كنا نصر على أنه بدعة، لكن لا نسوغ أن يكون أُسّاً للخلاف بين المسلمين، فيذهب الرجل فيقول: هو بدعة في الدين، ولابد من مناوأة البدعة، إذاً: ماذا ستفعل بأخيك؟ لن أسلم عليه، وأهجره، وأزجره، ولا أساعده، ولا أزوره إذا مرض، ولا أمشي في جنازته إذا مات!! إن هناك بعض من غلا في قضية الخلاف بين المسلمين، وهذا الغلو الفاحش الذي لا يقره أحد شم ريح الإسلام وشم ريح الأدلة الصحيحة. فلو أن رجلاً لا يرى القنوت في الفجر دخل مسجداً، فإن كنت ترى أن القنوت باستمرار بدعة في صلاة الفجر، فإن جعلوك إماماً فلا تقنت، وأما إن كنت مأموماً فاقنت كما قنت الإمام. انظر إلى هذه المسألة وانظر إلى ما هو أعظم ألف مرة منها وكيف عالجها الصحابة الأكابر، ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه جعل أبو بكر قيادة الجيوش ومحاربة المرتدين لـ خالد بن الوليد، وكان عمر وزير أبي بكر الصديق ونعم الوزير ونعمت البطانة، فذهب خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة التميمي، وكان مالك بن نويرة رجلاً تابع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ولكنه بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وظهر أمر مسيلمة الكذاب وارتدت أناس من العرب؛ انحاز مالك بن نويرة إلى سجاح المرأة المتنبئة الكاذبة التي كانت تزعم أن الوحي يأتيها، فانحاز إليها وتابع الذين يمنعون الزكاة. فكان أبو بكر يقول لـ خالد: (إذا دخلت على مكان فسمعت فيه أذاناً، فكف يديك -مما يدل على أن الأذان علامة المسلمين- فإن لم تسمع أذاناً؛ فادعهم إلى الإسلام قبل أن تقاتلهم، فإن أبوا عليك فقاتلهم) منتهى الإنصاف! لا تهجم عليهم مباشرة، بل ادعهم، لعل فيهم مغرّرون، إذا سردت لهم من الأدلة ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن كلام الوحي الشريف رجعوا أدراجهم إلى دينهم. فذهب خالد بن الوليد وقاتل، فمن جملة ما حدث أنه دعا مالك بن نويرة وقال له: (أما علمت -وكان مالك مسلماً- أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الزكاة كما فرض الصلاة) يعاتبه على أنه كيف انحاز إلى الذين منعوا الزكاة، فأجاب مالك خالداً: (كذا يقول صاحبكم، فقال له: ويلك أوليس بصاحبك؟ -يعني: هل هذا النبي صلى الله عليه وسلم صاحبي أنا وليس بصاحبك- أولا تعلم أنه قال كذا وكذا فقال مالك: كذا يقول صاحبكم، فثار الدم في دماغ خالد وقال: هذه بعد تلك، والله لأقتلنك) ثم أمر به فقتل. إن الرجل يعبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كذا قال صاحبكم!! إذاً: هذا ليس في قلبه شيء من الحب ولا التوقير ولا الاحترام للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: يقتل، فأمر به فقتل، لماذا؟ لأنه صار كافراً، فامرأته تصير من السبي، فاستبرأها خالد بحيضة؛ لأن الأمة ليست كالحرة، تستبرأ بحيضة حتى يأمن خلو رحمها من الحمل، ثم تزوجها خالد. فصيّر الناس هذه القصة إلى أبي بكر الصديق على غير هذه الحقيقة، فقالوا: إن مالكاً رجل مسلم، وخالد تسرع فقتله ونزى على امرأته، وطبعاً لو كان الأمر كذلك؛ لكان الأمر مستبشعاً، إذ لو كان مالك بن نويرة مسلماً لما حل لك أن تأخذ امرأته، إنما يحل لك أن تأخذ امرأة في السبي، يعني: كانت تحت كافر، لا يحل لك أن تسبي المرأة المسلمة، لكن خالداً رأى أنه كفر، لأنه كرر المسألة مرتين، فقتله وسبى امرأته، واستبرأها بحيضة واحدة وتزوجها. فلما وصل الأمر إلى أبي بكر الصديق وعمر قاعد عنده، انتفض عمر وقال: (عدو الله، قتل امرءاً مسلماً ونزى على امرأته؟!! القصاص، وأبو بكر يقول: لعل له عذراً! لعل له عذراً) حتى يسمع من خالد، فلما جاء وقص خالد القصة؛ عذره أبو بكر ولم يعذره عمر. فهل تظن أن عمر قام وقال: لا. أنا غير موافق على هذه المسألة، وانشق على أبي بكر مث

الوصايا الخمس

الوصايا الخمس جرت العادة عند عامة الناس أن الوصية هي من الأمور اللازم تنفيذها، والمتعين الإتيان ببنودها، فحين يأتي التوجيه بصيغة وصية، فإنما يدل ذلك على خطورة الموضوع الذي تتناوله الوصية، وأهمية استيعاب المتلقي لبنودها. ومن أعظم الوصايا التي شهدها التاريخ وصايا الأنبياء لأتباعهم فيما يتعلق بتقرير الدين وعبادة رب العالمين.

الأنبياء هم أول العاملين بوصاياهم

الأنبياء هم أول العاملين بوصاياهم إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * A=6003603> يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ ليعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإن يحيى أبطأ فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات؛ لتعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى عليه السلام: إني أخشى إن أبطأت أن أُعَذَّبْ أو يخسف بي، فامتلأ المسجد -بيت المقدس- بالناس لما دعا يحيى عليه السلام إلى هذه الموعظة حتى قعد الناس في الشرفات فوعظهم قائلاً: إن الله أمرني بخمس كلمات، لأعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: آمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -أي: مثل من أشرك- كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله وقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟! وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك، وهو في عصابة، فكلهم يعجبه أن يجد ريحها، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو وأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ فجعل يعطيهم القليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله).

الأمثال في الكتاب والسنة

الأمثال في الكتاب والسنة هذه الوصايا الخمس اشتملت على المثل، والأمثال إنما تضرب لتقرير الفتوى، فالأمثال تدخل في باب المبين، فمن ضرب له المثل فلم يفهمه فينبغي أن يبكي على نفسه، فالكلام إما أن يكون مجملاً وإما مبيناً، وإنما يقع الإشكال في المجمل، ولا يقع الإشكال في المبين، فمن لم يفهم المثل فحقه أن يبكي على نفسه، قال الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عمرو بن مرة رحمه الله أنه كان يقول: (إذا قرأت المثل في كتاب الله عز وجل ولم أفهمه بكيت على نفسي، وذلك أن الله يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]). وإنما يضرب العالم المثل للذي لا يعلم؛ لذلك أنزل ربنا تبارك وتعالى على الذين يضربون له الأمثال، قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:73 - 74]. فالعالم هو الذي يضرب المثل؛ لأنه يدري ما هو المجمل، ويدري كيف يبين هذا المجمل، إن الذين يضربون الأمثال لرب العالمين لم يؤمنوا حق الإيمان، فهناك أوامر أنت لا تفهمها فلا تعترض وسلِّم للذي يعلم. جاء رجل من الذين يضربون الأمثال للناس -وهم كُثر- إلى إياس بن معاوية فقال له: (لم حرم الله الخمر، ومفرداتها مباحة؟). فإن الخمر عبارة عن ماء وعنب، أو ماء وتمر، أو ماء وشعير، فإن الماء حلال! والعنب حلال! والتمر حلال! فإذا كانت مفردات الشيء مباحة لم يحرم في المجموع؟! فقال له: (أرأيت لو ضربتك بكف من ماء أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تبن أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تراب أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: فإذا جمعت التبن على الماء على التراب فصار طيناً فجففته وضربتك أكنت قاتلك؟ قال: نعم، قال: فكذلك الخمر) مفرداتها لا تقتل، لكن إذا جمعتها وضربت بها قتلت، فلا يضرب المثل إلا الله عز وجل.

مثل الضال والمهتدي في سورة النحل

مثل الضال والمهتدي في سورة النحل {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [النحل:76] وهذا المثل أوضح من الأول {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] هذا الطرف الأول للمثل، والأبكم هو الإنسان الذي لا يتكلم ولا يُحب، وإنما يحب المرء لمنطقه، والإنسان إذا تكلم أعرب عن حبه وشكره وامتنانه؛ فله مكانة في القلوب، لكن الأبكم الذي لا يصارحك، ولا ينادمك، ولا يسامرك كعمود من خشب، إذا جلس معك لا تأنس به ولا تشعر بوجوده. أبكم لا يقدر على شيء! وهو عبد، فالمناسب أن يخدم العبد سيده، وليس سيده هو الذي يخدمه، فهذه مصيبة أخرى! وهو كّلٌّ على مولاه، يأكل ويشرب فقط فليته يشكر أو يعرب عن هذا الجميل لكنه أبكم، فأنت لا تشعر بأي مزية له بل إنك تخدمه وأنت متضرر، فالأصل أنه هو الذي جاء ليخدمك فإذا بك تخدمه، فإن بدا لك أن ترسله إلى جهة معينة فلابد أن يأتيك بمصيبة ولعل هذا معنى: (أينما يوجهه لا يأت بخير). هل يستوي هذا مع الطرف الثاني من المثل وهو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط المستقيم؟ يا للوضوح! هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟! ففي الطرف الأول من المثل أربع صفات: أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كلٌّ على مولاه، أينما يوجه لا يأت بخير. أما الطرف الثاني: ففيه من الصفات ما يقابل هذه الأربع وزيادة (هل يستوي هو ومن يأمر) فلا يكون آمراً إلا متكلماً، ولا يكون آمراً إلا إذا كان في جهة عليا وقادر على إمضاء أمره، فهو متكلم في مقابل أبكم لا يقدر على شيء، والآمر يقدر ولو لم يكن يقدر لما كان للأمر معنى، يأمر بالعدل، فلا يستطيع أن يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] أي: ليس كهذا الذي أينما توجهه لا يأت بخير؛ لأنه على صراط مستقيم، فالمسألة في غاية الوضوح.

مثال على عجز الكافرين

مثال على عجز الكافرين ثم ذكر الله مثلاً آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] وهذا المثل كله استهزاء بالذين يدعون من دون الله، فالذباب هو: هذا الذباب الذي نعرفه وإنما سمي ذباباً لأنه كلما ذُبَّ آب، فقيل ذباب؛ أي: كلما تذبه يرجع إليك، هذا الذباب الذي أنت تعرفه وتستنكف منه، لو سقط في طعامك لأرقت الطعام، فإذا وقف هذا الذباب على شفير إناء وأخذ رشفة من هذا الإناء فلن تستطيع أن تستنقذ منه شيئاً، مع ضعفه، فالذين تدعون من دون الله لا يملكون شيئاً من القوة كهذا الذباب {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:73] وهذه الآية هي التي كفر بها بعض الكتبة حين قالوا: إن ميلاد الخلية المستنسخة أعظم من ميلاد المسيح، فيقولون: إن الإنسان استطاع أن يخلق الخلية، وهذا كذب، إنما يأخذون الخلية التي خلقها الله ويصورون عليها نسخاً، لكن أصل الخلق أن توجد الشيء من العدم من دون مثال سابق، وهذا مستحيل! بدلالة هذه الآية: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]. وهذا المثل الأخير أشد وأنكى، وكل هذه الأمثلة في باب التوحيد؛ ليبين رب العالمين قبح الشرك، وأن الإنسان العاقل إنما يلجأ إلى من يدفع الضر عنه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] هذا الطرف الأول من المثل {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] وهذا الطرف الثاني {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] فإن أكفر إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان، رجل عبد خادم له عشرة من السادة وهم متشاكسون، وكل سيد يريد أن يمضي كلامه على الآخر؛ لتكون له الغلبة، فيقول الأول للعبد: اذهب يميناً، وتجد الثاني المعاند المشاكس يقول له: يا غلام اذهب يساراً، ويقول الثالث: اذهب جنوباً والرابع يقول: اذهب شمالاً وهو لا يستطيع أن ينفذ قول واحد منهم، فإذا لم ينفذ قول الآمر ضربه وجره واستخدمه إلى ما يريد، ولكنه لا يستطيع؛ لأن الآخر يجره إلى الجهة المعاكسة، ثم لأنه لا يستطيع أن ينفذ أمر واحد منهم فليس له جميل عند أحد، فإذا طلب شيئاً من أحدهم يقول له: وهل صنعت لي شيئاً؟! أمرتك ولم تفعل! فيول له: إن سيدي فلان أمرني بضد أمرك، وليس لي شأن! هل يستوي هذا العبد المعذب مع رجل آخر له سيد واحد إذا أمره بأمر ابتدر أمره، فإن فعل المأمور به حفظ له الجميل؟! فهل يستوي هذا مع ذاك؟! {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29]؟! الحمد لله لأنه أعمى هؤلاء الضلال عن موضع الحجة مع وضوح المثل. إن الأمثال تضرب في القرآن لتبيين الفكرة، وتجد المثل في غاية الوضوح، فكذلك ضرب يحيى عليه السلام في باب التوحيد مثلاً، لا أظن أحداً رزقه الله عز وجل شيئاً من العقل لا يميزه، (أمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -مثل من يشرك بالله عز وجل- كمثل رجل) واجعل نفسك في مقام هذا الرجل: جاءك عامل فقلت له: يا غلام هذا محلي وهذه الأسعار بع وأتني بمحصول المبيعات آخر النهار، فكان الغلام يخرج بحصيلة اليوم ويذهب إلى غيرك ويعطيه الحصيلة، أفليس من الممكن أن يبقى معك يوماً واحداً؟!! فإذا كنت تأنف أن يكون عبدك يأخذ البيع ويعطيه لغيرك، فصرف العبادة لغير الله وهو الذي يرزقك أشد وأكبر، ولذلك تقدم في سورة النحل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73]؛ لأن قضية الرزق هي التي جعلت كثيراً من الناس يترك أمر الله، فكثير من الذين خالفوا الأوامر خالفوها بحجة الرزق والبحث عن الرزق وأكل الأولاد، فلذلك ضرب المثل ونص على الرزق نصاً. فإذا كان الله عز وجل هو المتفرد بذلك فكيف خلطت ماله بغيره؟!! وأنت تستنكف أن يكون هذا من عبدك، وكلاكما عبد (وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

بطلان القول بإيمان فرعون

بطلان القول بإيمان فرعون إن الذي يجري على الساحة الآن من القول بإيمان فرعون، وأنه مات مؤمناً، وأننا نحن هنا في مصر أجدادنا فراعنة، ولا بد أن ندافع عن جدنا الأعلى، معاذ الله أن يكون لنا جداً، إنه عريق في الضلالة، إن رب العالمين ذم فرعون بقدر ما ذم إبليس، ثم يأتي آت بعد ذلك ليقول: إن فرعون مسلم، ليرد بذلك على رب العالمين! ولا يوجد أي هيئة رسمية تحمل شعار الإسلام ردت على هذا الكافر الأثيم حتى هذه اللحظة، إن كفر فرعون مثل الشمس في رابعة النهار، لا يمتري فيه أحد على الإطلاق، ثم يأتي رجل فيقول: إن فرعون مسلم، وإنه في الجنة!! وقد صنف كتاباً سماه: (كشف الأستار عن المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) فذكر فرعون في المقطوع لهم بالجنة مع وضوح القرآن في أمر فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] وقال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] وقال تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]، وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وهذا يقول: إن (الآل) ليس المراد به الشخص! هذا كذب، (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على آل إبراهيم) فإن آل إبراهيم هو إبراهيم نفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) وما ثمَّ إلا داود الذي كانت الجبال والشجر والأرض تردد ترتيله، فلم يكن من ذرية داود من كان حسن الصوت مثله. يقول هذا الكاتب: إن آل فرعون سيدخلون كلهم النار، وأما فرعون فيدخل الجنة، كيف وهو قائدهم، وهو معلمهم، وهو رائدهم؟!! لكن الشاهد في المسألة: أن يخرج رجل فيتكلم على شيء مقطوع به عند الخاص والعام، وهذا الذي يسميه العلماء: المعلوم من الدين بالضرورة، أي: يستوي فيه علم الخاصة وعلم العامة، وهذا هو الذي يقول فيه العلماء: يكفر تاركه أو جاحده، إنما الذي لا يعلمه إلا أهل العلم لا يكفر المرء به حتى تقام عليه الحجة المثالية التي يكفر تاركها. فإذا قال رجل: إن فرعون مسلم، فما بال بقية أركان الإسلام؟ وما بال بقية أحكام الإسلام إن جحدها جاحد؟! وأطم من ذلك الرجل الذي قال: (إن إبليس هو الذي وحد الله والملائكة أشركوا) وينشر هذا في كتاب فيقول: إن إبليس هو الذي وحد الله، لماذا؟ قال: لأنه أبى أن يسجد إلا لله، لكن الملائكة سجدوا لبشر، والسجود لغير الله شرك. أرأيتم إلى هذا الكلام!! ينشر فينا هذا الكلام ولا يحاسب فاعله ولا يقتل ردةً!! هذه علة لم يذكرها أحد من العالمين، بل أظهر رب العالمين العلة في عدم سجود إبليس فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] لم يقل: أنا الذي وحدتك ولا أسجد إلا لك، وهذه علة مبتكرة، هذا الكفر الذي يظهر الآن ويصادم المعلوم من الدين بالضرورة لهو علامة ضعف! وكيف لا يتجرأ اليهود علينا وقد رأوا مثل هذا في ديارنا، ومن كتَّاب ينتمون إلى الإسلام؟! إن الذي فعله اليهود برسم النبي صلى الله عليه وسلم على الصورة المشينة التي حدثت قبل ذلك ناجم عن مثل هذا. لو كنا في أيام الخلافة العثمانية -التي وصفوها بالرجل المريض، لكنها كانت تقض مضاجع الأعداء- ما تجرأ أحد أن يفعل هذا، فهذا كفر مجرد، إنما أغراهم بفعل ذلك أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يسب في ديار المسلمين، ورأوا رب العالمين يسبُّ في ديار المسلمين، ومع ذلك لا توجد عقوبة رادعة فأغراهم ذلك ففعلوا الذي فعلوا!! فضياع موضع الحجة على أمثال هؤلاء نعمة؛ لأنهم إذا علموا موضع الحجة حرفوها، فليسوا أمناء، فإذا حرفوها ضل من ورائهم جيل، فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: الذي أعماهم عن موضع الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75].

العبادة نوعان: معقول المعنى وغير معقول المعنى

العبادة نوعان: معقول المعنى وغير معقول المعنى العبادات على قسمين: قسم يسميه العلماء معقول المعنى، والقسم الآخر: غير معقول المعنى، ومعقول المعنى: هو ما ثبتت منه الحكمة من تشريعه، وغير معقول المعنى: هو ما لم يُعقل الحكمة من تشريعه. وهذا النمط الثاني يبتلى به المؤمنون، فمن آمن سلم، كما روى مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (أتانا بعض عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لنا نافعاً وهو -ابتغاء الأجر- وطاعة الله ورسوله أنفع) نهانا عن شراء الأرض، وقد كانت تجلب المال، لكن طاعة الله ورسوله أنفع، هذا هو التسليم الذي كان يتميز به دين الصحابة فلا إنكار ولا اعتراض؟ فهذا النمط الثاني الغير معقول المعنى، لا يسعك فيه إلا الاتباع؛ لأنه لم تظهر الحكمة منه، وهذا مثل الحديث الشهير وهو في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبَّل الحجر الأسود قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فكأنما قال: أنا لا أفهم معنى لتقبيل الأحجار، وقد جاء هذا في ديننا، والعرب كانوا يصنعون الأصنام من الحجارة ثم يعبدونها، فكان المناسب أن لا يأتي الأمر بتعظيم أي حجر؛ سداً للذريعة، لكن قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحجر فنحن نتابعه وإن لم نفهم لهذا التقبيل معنى. لا يفعل هذا إلا المؤمنون الذين إذا علموا وتيقنوا أن هذا من عند الله أو أن هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بادروا إلى العمل به، ولم يعترضوا على الله ورسوله، كأن يقولوا: يا رب! لم فعلت هذا، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]. ثم ضرب رب العالمين مثلين، كأنما قيل: لا تضربوا لله الأمثال، فإنكم لا تعلمون حقيقة ضرب المثل، وإن أردتم أن تتعلموا فسأضرب لكم مثلين، ثم ذكر الله عز وجل مثلين بعد ذلك.

مثل المؤمن والمشرك في سورة النحل

مثل المؤمن والمشرك في سورة النحل قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا الطرف الأول للمثل، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} [النحل:75] هذا الطرف الثاني، والمثل في العادة لابد أن يكون له طرفان، ثم قال: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل:75] فالمثل واضح، ثم من الحكمة والبلاغة أن لا يُعيَّن الجواب {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل:75]؟ فلا جواب؛ لأنه واضح، فالمثل في غاية الوضوح، عبد لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وزاد الله عز وجل في بيان عجزه أن قال: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] مع أننا نعلم أن العبد لا يقدر على شيء، حتى إن بعض العلماء لم يعتد بشهادة العبد، قالوا: لأن سيده يمكن أن يمنعه من أداء الشهادة، فلا يعتد بشهادته؛ لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ومع ذلك فإن بعض العبيد قد يملك من الأمر ولو شيئاً جزئياً، إنما هذا العبد المضروب به المثل لا يملك شيئاً قط، رجل مكبل مقيد، هل يستوي هذا الرجل مع آخر آتيناه رزقاً حسناً وأعطيناه؟ فهذا يملك المال فهو ينفق منه سراً وجهراً، إذن عنده إرادة في النفقة، وإرادة النفقة يقابلها عجز ذلك العبد الآخر الذي لا يملك شيئاً على الإطلاق، حتى لو أراد. (هل يستوون؟) لم يقل رب العالمين: لا يستوون؛ لأن ترك الجواب هنا أبلغ، والإبهام دليل الإعظام والفخامة، كما في قصة يوسف عليه السلام لما كاد له الله عز وجل ووضع صواع الملك في رحل أخيه ونادوا في الناس: إننا نفقد هذا الصواع {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:71 - 72] فلما اتهمهم قال لهم: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] إن وجدنا الصواع في رحل أحدكم فما جزاؤه؟ فلأنهم كانوا متأكدين مائة بالمائة أنهم لم يسرقوا أبهموا الجزاء: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] ما تعملونه به فهو جائز لكم. ولو علموا أن السارق منهم لعينوا العقوبة وقالوا: يجلد أو يضرب أو يسجن، لكنهم لثقتهم أن السارق ليس منهم أرادوا أن يفخموا العقوبة فأبهموها: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75]. وكذلك الرجل الذي ذكر أهل التفسير حكايته: (أنه كان من المستضعفين، وكان رجلاً كبير السن، فلما تذكر إخوانه المهاجرين في المدينة واجتماعهم، ووجد أنه يفتقد الأخوة، ويعيش في وسط هؤلاء الكافرين، مع أن الله وضع الهجرة عن أمثاله، خرج -رغم شيخوخته وعجزه- مهاجراً من مكة إلى المدينة ماشياً فأدركه الموت في الطريق، فلما أحس بذلك ضرب كفاً بكف وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك ومات، فأنزل الله عز وجل في شأنه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] لم يعين له جزاء إنما أبهم الجزاء للإعظام. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور المتفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) ولم يعين جزاء، فمثل هذا السكوت والإبهام دليل الفخامة والإعظام. (هل يستوون)؟ بعد ضرب المثل لا يستوون عند أي إنسان، فالجواب واحد عند كل من يسمع هذا المثل إن كان عاقلاً: (لا يستوون) فالحمد لله أن جعل من سنته وحكمته أن لا يستوي العبد العاجز مع الحرّ الصالح، فتنزه رب العالمين أن يساوي بين المسلمين والمجرمين، فكمال عدله يأبى ذلك، وهناك جواب آخر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: الذي ضيَّع موضع الحجة على المشركين فضيع لهم الفرق بين المثلين مع الوضوح، وهذا من منن الله عز وجل أن لا يرزق كافراً حجة حتى لا يلبس على الذين آمنوا، قال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) وهذا النمط موجود لكن كانوا قديماً كالفئران لا يخرجون من الجحور، فلما قلّ عدد العلماء ظهر أمثال هؤلاء وكانوا يتوارون قبل ذلك. إن وجود النفاق دلالة على قوة الإسلام، وإن وجود الكفر دلالة على ضعف المسلمين، فالكفر لا يظهر أبداً إلا مع الضعف، والنفاق لا يظهر إلا مع القوة. في مكة لم يكن ثمة نفاق على الإطلاق، بل كان إيمان وكفر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصارت له دولة ظهر النفاق، فالمنافق كافر لكن يريد أن يحفظ دمه، ويريد أن يستفيد بذلك، ولا يستطيع مع هذه الشوكة أن يظهر عقيدته، فيبطن الكفر ويظهر الإسلام.

عمل الجارحة دليل على عمل القلب

عمل الجارحة دليل على عمل القلب الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال: (وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا)، وفي الحديث: (إن الله ينصب وجهه في وجه العبد ما لم يلتفت) يعني: فإذا التفت صرف الله وجهه عنه. إن الجارحة تتبع القلب، ولا تلتفت الجارحة إلا بعد التفات القلب، فإذا التفت القلب التفتت العين والتفت الرأس؛ لأن القلب بمنزلة الملك، فلما قال: (لا تلتفتوا) دل ذلك على التفات القلب، والمسائل التي لا يعرفها الإنسان ولا يستطيع أن يحكم عليها تنصب لها علامة في الخارج يعلق الحكم بها، فإذا التفت إنسان برأسه في الصلاة نعلم يقيناً أن قلبه التفت، لكن بدون وجود هذه الأمارة وهي التفات الرأس لا نستطيع أن نقول للإنسان إن قلبك التفت. لأن هذا لا يعلمه أحد، وكذلك الأحكام التي تجري في هذا المجرى لابد أن تنصب لها أمارة في الخارج يعرف الحكم بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالسرور أمر قلبي لا يعلمه أحد، فنحن في هذه الحالة ننظر إلى أمارة في الخارج، فإذا وجدناها علقنا الحكم بها، فإذا قلنا للأستاذ: حين تدخل الفصل ويقوم لك الطلاب، ويتخلف أحد الطلاب عن القيام فهل تضربه؟ فإذا قال: نعم، نقول له: إنما ضربته لأنه ساءك وأغضبك، إذن فغضبك دلالة على أنك تسرس بأن يقوم لك، فكان الغضب أمارة خارجية نحن نعلمها ونراها فعلقنا الحكم على الباطن بها، ويسوغ لنا ويصح لنا أن نقول: إنك مسرور بأن يقوم لك التلاميذ في الصف، لأن فيك علامة دلت على ذلك. في تاريخ بغداد للخطيب: أن المأمون نادى في تجار الذهب، وأراد أن يشتري ذهباً، فأقبل تجار الذهب الكبار لأمير المؤمنين لكي يشتري منهم، فأقبل بالحيتان والقطط السمان، ودخل في وسطهم علي بن الجعد الإمام العالم، ولم يكن عنده من الذهب ما يساوي عشر معشار هؤلاء التجار الكبار، فدخل المأمون، فقاموا له جميعاً ما عدا ابن الجعد، فلما رأى المأمون ذلك قال: (لمَ لم يقم الشيخ؟ قال: أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وانظر الجواب، فلم يقل له: أنت بشر، أو أنت عبد، فلماذا أقوم لك؟ لا، إن الكبار يأنفون أن تقابلهم بهذا، فكبير المحل لا يقبل أن تخاطبه بهذا أبداً، إنما كن كما قال هذا الإمام العالم، وهذا هو الفرق بين العالم والجاهل، قال: (أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له المأمون: وما ذاك؟ فقال: حدثني المبارك بن فضالة عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فحينئذٍ أطرق المأمون ساعة وقال: لا ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ، وهذا من باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فاشترى المأمون منه بثلاثين ألف دينار، فلم يغضب المأمون من قوله، فلما لم يغضب وخضع للحديث علمنا أنه لا يسر أن يقوم الناس له، وهذا ما يسميه العلماء علامة أو قرينة، ولاجرم أن يعلق الحكم عليها. ومثله -بل أدق منه- في الفهم والاستنباط ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقاموا من بيننا واقتطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، فجاء أبو هريرة حائطاً لبعض الأنصار فالتمس باباً ليدخل فلم يجد، لكنه وجد ربيعاً -والربيع: هو ممر لقناة ماء تمر من أسفل الجدار- حاول أن يدخل من ممر هذه القناة فلم يستطع، قال: فاحتفزت كما يحتفز الثعلب -أي: جمع أطرافه بعضها إلى بعض حتى يستطيع أن يدخل، وفي رواية أبي عوانة أو ابن حبان قال: فحفرت كما يحفر الثعلب -وذلك ليوسع لنفسه- ودخل، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره للحائط، قال: فلما رآني قال: أبو هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: مالك؟ قلت: يا رسول الله! قمت من بين أظهرنا واقتطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، قال: يا أبا هريرة! خذ نعليَّ هاتين -وهنا الشاهد- فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فالمقصود أن يشهد مستيقناً بها قلبه ولا أحد على الإطلاق يعلم هذا إلا الله أو من أطلعه الله عز وجل على ذلك. (من تلقاه خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) وأنَّى لـ أبي هريرة أن يعلم ذلك؟ أستيقن أم لم يستيقن، فهذا من عمل القلوب (فبشره بالجنة، فخرج أبو هريرة كما دخل فأول من لقيه عمر فبشره بالجنة، فضربه عمر ضربة، قال أبو هريرة: فخررت لأستي، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، فلما رآني قال: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله! إن هذا عمر وركبني عمر -أي جاء بعده مباشرة- فقلت له الذي أمرتني، فضربني ضربة خررت لأستي فقال عمر: يا رسول الله! أأنت قلت لهذا كذا وكذا؟ قال: نعم، فقال عمر: يا رسول الله! خل الناس يعملون) يعني: حتى لا يتكلوا، فإنهم إذا سمعوا هذا الكلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) اتكلوا فكل من يقول: لا إله إلا الله، سيترك عمله، فالذي في القيام يقول: أنا أقول لا إله إلا الله فلماذا هذا العناء. وعندئذ ستفتر همم العاملين، فكأنه قال: يا رسول الله! احجب هذه البشارة عن الناس حتى لا يتكلوا عليها. الشاهد هنا، كيف لمثل أبي هريرة أن يعلم أن فلاناً هذا قلبه مستيقن بالإيمان؟ هذا كما قلنا أخفى من المثل الأول، وهذا يدل على أن الحديث -وإن خرج مخرج الغموض- لا يراد به إلا عمر؛ لأنه لم يلق إلا عمر، فكأن الكلام منزَّل عليه: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) فلم يلق إلا عمر، فكان هذا خاص بـ عمر وهي بشارة له، وإن خرج الكلام مخرج العموم، وهذا الأمر ثابت عند جماهير العلماء: إن الكلام قد يكون عاماً في لفظه خاصاً في مراده، كقول الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فالناس: لفظ عام يشمل الكل، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] لكن في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] المراد بالناس هنا هم المسلمون فقط، فلا يراد به غيرهم. فيجوز إذا كان الأمر باطناً أن يبحث عن أمارة خارجية يعلق بها الحكم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

المرء تحت ظل صدقته

المرء تحت ظل صدقته قال: (وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثق يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ -أن أعطيكم مالي وتتركوني- فقبلوا ذلك، فأعطاهم القليل والكثير) كأنما قال: لم يبق معه شيئاً ليستنقذ نفسه ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة) فلا تحقرن شيئاً من الصدقات، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه فيربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) فيأتي الإنسان يوم القيامة وله جبال من الحسنات، وما هي إلا من صدقة قدمها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فاجتمعن نساؤه لينظرن أيهن أطول يداً. ولم يعلمن وجه الحديث حتى ماتت زينب، وكانت أكثرهن تصدقاً. فلما ماتت زينب رضي الله عنها علمن أن المقصود بطول اليد في الحديث هو طول اليد بالصدقة، وكانت زينب كثيرة الصدقة، ومرة أرسل لها عمر بن الخطاب بعطائها فقالت: (مالي ولهذا؟! لأفرقنه كله، ثم قالت: اللهم لا تدركني صدقة عمر)، فماتت رضي الله عنها.

تنبيه مهم في إطلاق معنى اليد

تنبيه مهم في إطلاق معنى اليد لكن قبل أن أنهي هذا الكلام أحببت أن أنبه على مسألة أصولية، وهذه المسألة يعيِّرُ بها أهل السنة والجماعة كثير من الجهلة الذين يستخدمون عبارة: روح النص، فهو يقول لك: (نحن طلعنا روحه) والمفروض أن الألفاظ قوالب المعاني، وهو يقول: لا القالب روح النص، فيقول أهل العلم: إن الأصل في الألفاظ الحقيقة أي: الأصل في اللفظ ما وضع له أولاً، ولا ينقل إلى غير الحقيقة إلا بقرينة، فلو قلت لك: هذه يد فأول شيء يخطر في ذهنك هو هذه الجارحة، فإذا قلنا: فلان له عليَّ أياد، فلا يخطر في الذهن أنه واضع يديه على أكتافه، إذن فنحن نفهم بدلالة السياق أن الأيادي أو اليد في هذا السياق ليس المقصود بها الحقيقة؛ لأن السياق من المقيدات كما يقول أهل العلم، فبعض الناس يغفل عن هذه القاعدة وهي مهمة: (السياق من المقيدات) فمثلاً: كلمة (عزيز) ليست كلمة ذم، وكذلك كلمة (كريم) فإذا قرأت قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] فكلمة عزيز وكريم في هذا السياق ذم. وذلك من أجل السياق؛ لأنه هو الذي غير معنى الكلام، فالسياق من المقيدات، فمثلاً قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] فلماذا ذكر ضاحكاً، ولم يقل: تبسم فقط؟ قال: لأن الابتسام على نوعين: ابتسام المغضب، وابتسام المعجب، فابتسام المغضب كما في قصة كعب بن مالك في الحديث الذي في الصحيحين: (فلما أظل النبي صلى الله عليه وسلم قادماً من تبوك، وجاء الناس قال: وجئت فدخلت المسجد فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟) وفي آخر الحديث لما نزلت توبة كعب بن مالك قال: (فلما دخلت المسجد فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، وكان إذا سر استنار وجه كأنه قطعة قمر، وقال: أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك) أما قوله: (فتبسم ضاحكاً) فهمنا بكلمة (ضاحكاً) أنها ابتسامة المعجب؛ لأنه لم يغضب من قول النملة، بينما من الممكن أن أي ملك من الملوك تقول له كلمة حق يغضب منها وليس له حق في الغضب، فأراد ربنا تبارك وتعالى أن يبين لنا أن سليمان لم يغضب من قول النملة إنما تبسم من قولها، ولذلك أعقب الابتسامة بالشكر: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] ولا يتبسم بهذه الصفة إلا لأنه معجب بقول النملة وليس غاضباً، فقوله: (تبسم ضاحكاً) أدت المعنى (100%)، أما كلمة تبسم مجردة لا تدل دائماً على الضحك، إذاً فكلمة (الضحك) هنا جاءت من المقيدات ومن هذا الباب أيضاً قولهم: (إن السكوت علامة الرضا) فليس كل سكوت رضا، فهناك سكوت القهر، وسكوت الرضا، وسكوت الغضب.

ذكر الله حرز للعبد من الشيطان

ذكر الله حرز للعبد من الشيطان قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً) إن الشيطان إذا رأى العبد ليس صاحب كبيرة أو صاحب صغيرة فإنه يحاول أن يدخل عليه من باب آخر فيشغله بالمفضول عن الفاضل فيقل أجره، فيصير مشغولاً بفضول المباحات فيضيع المستحبات، يعني مثلاً: يأتي هذا الرجل ويقول: والله أنا طوال السنة في عمل وأريد أن أتفسح وسأذهب إلى المصايف -والذهاب إلى المصيف ومخالطة أهل الفسق والعري لا يجوز شرعاً- فيأتيك من يقول: إن الناس يمشون بهذه الملابس العارية في الشوارع، فما الفرق؟ فنرد عليه بالقول أنت لا تستغني عن المشي في الشارع فمن الضروري أن تمشي فيه وترى مثل هذه المناظر، فأنت هنا لست مخيراً، لكن متى ما ذهبت إلى المصيف فأنت مختار لملابسة أهل العصيان، فيرد هذا الرجل قائلاً: أنا سوف أذهب إلى المصيف وأقصد أبعد مكان عند الحدود بحيث تفصلني عن هؤلاء مسافة طويلة، ولا أختلط بأهل العصيان. يرى بفعله هذا أنه أتى مباحاً، فيذهب إلى هناك، ويقعد يلعب مع الأولاد ويسبح ويمضي وقته في اللهو، فنقول له: هذا المباح على حساب أعمال أهم، فكونك تجعل الذكر رياضتك، فإنك لن تحتاج إلى هذه المباحات التي يسعى الناس إليها، إذا أنست برب العالمين استغنيت عن الخلق. إذاً ذهابك إلى هناك وإن كان مباحاً شغلك عن مستحب، وطالما أن المسألة كانت مسألة تحصيل للأجر، فينبغي على المرء أن يسعى إلى تحصيل أعلى الأجرين، فالشيطان عدو الإنسان يسعى وراءه. قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو -والعدو هو الشيطان فلا يوجد غيره- في أثره سراعاً) أي: لا يدعه طرفة عين (فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) فاذكر الله تبارك وتعالى؛ لأنك لو ذكرت ربك احتميت من شيطانك، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] فالشيطان عدو مبين وخطير وله من الإمكانات أكثر مما لنا، لكنه كان ضعيفاً؛ لأنه في مقابل كيد الله. وأخيراً: أود أن أنبه إلى أن بعض الناس يخطئون في الجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] وبين قول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] فيقول لك: إن كيد النساء أشد من كيد الشيطان، ونحن نقول: هذا خطأ، لأننا قلنا من قبل إن السياق من المقيدات، فهذه الآية لها سياق وتلك لها سياق آخر، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]؛ لأن كيد المرأة كان مقابلاً بكيد يوسف عليه السلام، فالنساء كيدهن عظيم إذا قوبل بكيد الرجال، لكن الشيطان كيده ضعيف؛ لأنه مقابل بكيد الله فلو وضعت كل كلام في سياقه يتبين لك المعنى. نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الصيام مدرسة الإخلاص

الصيام مدرسة الإخلاص فالإنسان بالصيام يحقق مرتبة الإحسان، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي المتفق عليه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فقوله تعالى: (فإنه لي) دلالة على عظم الأجر؛ لأنه لم يحدد أجراً، قال: (فإنه لي) وأنا أكرم الأكرمين، لأن الصائم قد يكون أمامه الماء العذب والأكل الجيد ومع ذلك لا يستطيع أن يفطر، ومع أنه معلوم أن الصلاة أعظم من الصيام، إلا أن الله قال عن الصيام: (فإنه لي)؛ لأن العبد لا يستطيع أن يرائي بصيامه، فنحن الآن جالسون في المسجد وقد يكون بيننا صائم، فهل يستطيع أحد أن يعرف من هو الصائم في هذا الزحام؟ لا، لكن كلنا يقطع أن كل من في هذا المسجد صلى الجمعة، إذن فالصلاة مما يمكن أن يرائي العبد بها رغم عظمها فهي أعظم ركن عملي من أركان الإسلام، وثاني ركن بعد الشهادتين، لكن يمكن أن يرائي المرء فيها. كذلك الزكاة قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فيمكن للعبد أن يرائي بالصدقة، والحج كذلك فبعض الناس حج مرة وحج مرتين وحج ثلاث مرات فيقال له: الحاج فلان. فيمكن للإنسان أن يرائي في كافة الأنساك إلا الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (فإنه لي وأنا أجزي به) إنما جعل الأجر له لأن العبد يحقق به أعلى مراتب الدين وهو الإحسان.

من خشع قلبه خشعت جوارحه

من خشع قلبه خشعت جوارحه الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال يحيى عليه السلام: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قلنا: إن التفات الجارحة دلالة على التفات القلب قبلها، وفي بعض الأخبار الضعيفة: (إن العبد إذا حوَّل وجهه في الصلاة عن القبلة يقول الله له: إلى خير مني؟!) فالله عز وجل ينصب وجهه في وجه العبد، (ما لم يلتفت) أي: إذا التفت صرف عنه وجهه، فإذا التفت إلى شيء آخر يقال له: إلى خير من الله تبارك وتعالى؟! وفي هذا دلالة أكيدة على اهتمام الشرع بأمر القلب، فبعض الناس يظهر عمل القلب -مع أن القلب هو الملك- ويظن أن عمل القلب غير داخل، لا، بل عمل القلب أشرف من عمل الجوارح، ولذلك إذا انعقد القلب على الكفر وإن لم تنفعل له الجوارح عوقب به، ولا يُعارض هذا بحديث: (إذا همَّ العبد بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة) فيظن أن العمل مقصور على عمل الجوارح، لكن هذا خطأ، بل القلب عمله أشرف من عمل الجوارح، لأنه الملك، فإذا انعقد القلب على شيء من الكفر يؤاخذ المرء به؛ لأن عقد القلب عمل. فالعبد إذا عمل حسنة جوزي بعشر أمثالها، فهل إذا عمل سيئة فانصرف عنها يأخذ حسنة؟ المناسب أن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه إذا عمل سيئة استحق سيئة، فالطرف الأول: هو الذي عمل الحسنة وجوزي بعشر أمثالها، والطرف الثاني: هو الذي عمل السيئة فأخذ مثلها، وعلى هذا فيكون الوسط: أن لا يعمل شيئاً فلا يأخذ شيئاً، هذا هو المناسب. وقد ورد التعليل في بعض الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل قال: (لو همَّ عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة؛ إنه تركها لأجلي) فالذي جعله يتركها هو قلبه وخشية الله عز وجل، فلم تنفعل الجوارح لذلك، إنما الذي جعله يتركها هو خوف الله، ويفهم بمفهوم المخالفة: أنه إذا تركها لغير مخافة الله فلا يأخذ حسنة، هذا إن لم يكن قد دخل في منطقة الإثم، ومثال ذلك: رجل أراد أن يسرق بيتاً فلم يستطع لكنه لا يزال مُصراً على السرقة وعقد قلبه على أن يسرق هذا البيت ولم يمنعه خوف الله عز وجل، إنما لم يتمكن، فهذا انعقد قلبه على هذا الفعل فيؤاخذ به. فهذا لم يترك هذا العمل لأن السرقة حرام، أو لأن الفاحشة التي كان يريد أن يفعلها حرام، لا، إنما تركها للعجز، وهذا دليل أن القلب هو الأصل، والجارحة إنما تنفعل له سلباً وإيجاباً، وقد قلت من قبل: إن القلب هو الذي يعطي صورة العظمة. إذا كنت واقفاً في الصلاة لمدة طويلة وخاشعاً ولا تتمنى أن تجلس ولا تشعر بملل ولا ضجر؛ فإن قلبك مقبل، أما إذا لدغتك بعوضة فأخذت تتملل فإن قلبك غير مقبل، وغير منتبه؛ لأن القلب هو الذي يعطي العزم للجارحة، وإذا أبدل القلب عنها ذهبت قوتها، فالقلب إذا أقبل ظهرت القوة في العضلة، فإذا أبدل القلب سحبت قوة العضلة معه. فلو جئت إلى أقوى الناس جسماً، وأخبرته بخبر خارت له عزائمه فوقع على الأرض، فنقول: أين العضلة التي كانت تحمله منذ قليل؟ لما انكشف قلبك انكشفت العضلة، ولهذا عروة بن الزبير رحمة الله عليه؛ تابعي جليل كبير الشأن، لما انتشرت الأكلة في رجله ونصحه الأطباء بقطعها، قالوا له: (اشرب الخمر لنقطعها، فقال: ما كنت لأستعين على دفع البلاء بمعصية الله، ولكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها) وهذا خبر صحيح، وبعض الناس يكذب هذا الخبر؛ لأنه لم يتصور أن إقبال عروة على ربه في الصلاة كان إقبالاً كاملاً، لما دخل في الصلاة واستجمع قلبه سحب قوة العضلة وإحساسها، فلما قطعوا رجله بالمناشير لم يحس بها عروة. فعمل القلب خطير، فنبي الله يحيى عليه السلام حين قال: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قصد به التفات القلب ثم التفات الجارحة تبعاً لذلك. قال: (وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك وهو في عصابة) فهو يمشي مع رفقة ومعه صرة مسك والكل يشم المسك من على بعد، وكلهم يتمنى لو كان المسك معه، أو على الأقل يجد رائحة هذا المسك من الصرة. (وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فخلوف فم الصائم كريه الرائحة، ومعنى هذا أنه ليس كل شيء يكرهه العبد يكون كذلك عند الله، إن الله عز وجل لام وعاتب بعض الصحابة في حديث الإفك حين نقلوا الخبر وتناقلوه، فقال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ألا تعلم أن آدم خرج من الجنة بذنب واحد، وأن إبليس دخل النار بذنب، فما يؤمنك؟ من الذي أعطاك صكاً بالأمان أن تمشي في هذه الدنيا وأنت غير خائف من سوء الخاتمة؟ سفيان الثوري رحمه الله لما هرب من الخليفة بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب آخر جوهري: هو أن سفيان كان يخشى أن يقربوه فيفتنوه فأمير المؤمنين في موسم الحج لما تذاكر هو وسفيان الثوري خلع خاتمه ورماه وقال: أعط هذا لـ أبي عبد الله وقل له ليحكم البلاد بالكتاب والسنة. فجاء رجل إلى سفيان يقص عليه ما جرى فقال له: والله ما أخشى إهانته إنما أخشى إكرامه، فلا أرى سيئه سيئاً، ففر من الخليفة واختبأ منه عند يحيى بن سعيد القطان، تصور حين يجتمع في الزمن الواحد مئات العلماء من أمثال هؤلاء الكبار فعلاً، ما كان لمبتدع أن يرفع رأسه، أو أن يكتب مثل هذا الذي يكتب في الجرائد، وما كان لأحد أن يجرؤ على ذلك. كان أحدهم يروي حديثاً موضوعاً فقال له الطلبة: (إن لم تتب لنبلغن عنك السلطان) فذهبوا إلى الأمير فوراً يشكونه لمجرد رواية حديث موضوع واحد، والأحاديث الموضوعة هي (زاد المستنقع) الكثير من الخطباء والوعاظ الذين يروون الأحاديث الموضوعة، حتى صارت مشتهرة ومعروفة عند الجماهير، ولو قلت لأي شخص: قل لي ما عندك من الأحاديث؟ تجد عنده (60%) من الأحاديث الموضوعة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم ينطق بها أبداً، إنما هي افتراءات كاذب. فـ سفيان كان هارباً عند يحيى بن سعيد القطان في البيت، وكان رأسه في حجر يحيى بن سعيد القطان ورجله في حجر عبد الرحمن بن مهدي، وكانا من تلاميذه، ونحن نعرف قدر الأستاذ من قدر التلاميذ، والتلاميذ هم رزق من الله كسائر النعم، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رزقاً له، ولم يرزق نبي بأصحاب مثل أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام. وابن حجر العسقلاني الحافظ رحمه الله يقول في كتاب الدرر الكامنة في ترجمة لكتاب ابن تيمية يقول للدلالة على إمامة هذا الإمام الكبير: (ولو لم يكن لهذا الإمام -أي من حسنة- إلا تلميذه ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف السعيدة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان كافياً)، مع أن سائر أصحاب شيخ الإسلام كانوا أئمة، وكان من أصغرهم الحافظ ابن عبد الهادي صاحب: الصارم المنكي في الرد على السبكي، ومات شاباً دون الأربعين رحمه الله، فلما حضرت سفيان الوفاة كان عنده عبد الرحمن بن مهدي فأخذته رعدة ونوبة بكاء فقال له عبد الرحمن: (يا أبا عبد الله! أتخشى ذنوبك فتناول سفيان -ذلك العابد الزاهد الأواب، فيما نحسب والله حسيبه- حفنة من على الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عليَّ من هذا، إنما أخشى سوء الخاتمة)؛ لأن الذنب قد يغفر لكن إذا ختم للإنسان بسوء ضاعت حسناته. فما هذا الأمان الذي تتحرك به؟ كأنما كتب أنك من أصحاب الجنة فتمشي في الناس آمناً لا تخاف ذنباً؟ فتقبل على الذنوب وعلى أعمال قد تراها ليست من الذنوب، مثل حلق اللحية! وكثير من الناس يتساهلون في مسألة اللحية فإذا نبهته إلى ذلك قال: الإيمان في القلب، بينما الصحيح أن إطلاق اللحية واجب وحلقها حرام باتفاق العلماء، خالف في ذلك بعض المتأخرين، لكن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إن حلق اللحية حرام، فما يؤمنك أن يكون مثل هذا الذنب هو الذي يوردك؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ به ما بلغت، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، ثم لا يلقي لها بالاً) ولا يظن المسلم أن ربنا سبحانه وتعالى يؤاخذه بها (وإن العبد ليقول الكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات) فأنت لا تدري قد يكون الشيء في الدنيا مذموماً وهو عند الله ممدوح، فليس مقياس المسائل عند الله على ميزان الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فانظر المباينة بين أحكام الخلق وبين حكم رب الخلق تبارك وتعالى، إذا فتحت الباب ووجدته تغلق الباب دونه، وتزدريه بنظرك لكنه عند الله غال. كالحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث ثابت، كان هناك صحابي اسمه زاهر، وكان جميل الوجه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً داخلاً السوق فرآه فأتاه من خلفه ووضع يديه على عينيه، وجعل ينادي في السوق: (من يشتري هذا العبد) فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن هذه اليد الناعمة -كما يقول أنس: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم- المباركة على عينيه وعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل لا يألو، أي: يجتهد في أن يلصق ظهره ببطن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذن يا رسول الله! تجدني كاسداً) -يعني: لو بعتني لما وجدت من يشتريني- قال له: (لا، ولكنك عند الله لست بكاسد) يا لها من بشا

إنما الدنيا لأربعة نفر

إنما الدنيا لأربعة نفر أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على عدة قضايا تأكيداً لها، وإزالة للشك الذي يحصل فيها، وذلك لأهميتها وعظمتها. أولها: أنه ما نقص مال من صدقة بل هو زيادة وبركة. ثانيها: أن من صبر على الظلم رفعه الله وأعزه. ثالثها: أن من فتح على نفسه باب سؤال الناس أذله الله تعالى. رابعها: أن الناس في الدنيا أربعة أصناف لا غير: عالم غني، أو عالم فقير، أو جاهل غني، أو جاهل فقير، والمؤمن يحرص على أن يكون من أهل المرتبتين الأولى والثانية.

شرح حديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر)

شرح حديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار. روى الإمام الترمذي وأحمد بسندٍ قوي عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقْسِم عليهن: ما نَقَصَ مالٌ من صدقة، ولا صَبَرَ عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً، ولا فَتَحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب ذل، إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٍ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رَحِمَهُ، ويؤدي لله فيه حقَّه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٍ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي كَفُلان لفعلت فِعْله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٍ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رَحِمَهُ، ولا يؤدي حق الله فيه، فهذا بأخبث المنازل، ورجلٍ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، يقول: لو أن لي كَفُلان، لفعلتُ فِعْلَه، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء). هذا حديث صحيح جميل! ما أحوجنا إلى معرفة فقهه! إذ ليس هناك أحد في الدنيا إلا وهو واحدٌ من هؤلاء الأربعة. فانظر أين أنت منهم؟ - عالم غني. - عالم فقير. - غني جاهل. - جاهل فقير. لا يخرج الناس عن هؤلاء الأربعة. فالسعيد العاقل: هو الذي يختار لنفسه أفضل المنازل، أو التي تليها.

معنى: سؤال الناس ذل

معنى: سؤال الناس ذل قال: (ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): وهذا -واللهِ- حق. وانظر إلى أي شَحَّاذ الآن! قبل أن يمتهن هذه المهنة القبيحة الرديئة، هل كان يتخيل أنه يمكن أن يُقَبِّل نعلَك بعشرة قروش؟! ما كان يتخيل هذا لا في عشرة قروش ولا عشرة جنيهات بل ولا أكثر من ذلك، إذ ما قيمتها، وهو يظل يترجى برغم أنه ليس محتاجاً، وحتى وإن كان كذلك فقد أراق ماء وجهه، فيرده مَن هو أحقر منه، وهذا ذُلٌّ، يظل يسأل الناس فيردونه أو يعطونه، والذي يعطيه يكلِّح في وجهه ولا تكاد ترى رجلاً يعطي الشحاذ من أول مرة، بل يقول: الله يفتح عليك، ولا يعطيه إلا بعدما يكاد الشحاذ يمسك بتلابيبه ويقول: اعمل معروفاً، أريد أن آكل، أريد أن أشرب، فيعطيه المال وهو كاره، فهذا منتهى الذل. ففَتَح هذا على نفسه باب مسألةٍ فأراق ماء وجهه على كل الأعتاب، حتى على عتبة اللئيم الذي لا يستحق التكريم، لذلك يجب أن يتعفف الإنسان. الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات رائعة في العفة، وفي صَوْن النفس عن المهانة، قال رحمه الله: لقَلْعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمْسِ وقَرُّ بَرْدٍ وقَوْدُ فردٍ ودَبْغُ جلدٍ بغير شمْسِ ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ برُبعِ فلْسِ كل هذا أهونُ مِن وقفةِ الحرِّ يرجو نوالاً ببابِ نحْسِ مع أن الأشياء التي ذكرها منها ما هو مستحيل، كأن ترجع الأمس! وأن تحمل عاراً، بأن يحمل الإنسان العار على أكتافه، ويبيع داره بربع فلس، فيبيعها بخسارة واضحة جداً، ودبغ جلدٍ بغير شمس، مع أن الجلد لا يدبغ بغير الشمس؛ لأنه يتعفن مباشرة، بل لا بد من الشمس، وإلا فلن تنتفع بالدباغ ويذهب عليك الجلد، فكل هذه الخسائر أهون من أن يقف الحر على باب لئيم، يطلب نوالاً، أي: يطلب عطاءً.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما صبر عبد على ظلم)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما صبر عبد على ظلم) قال: (وما صبر عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً): يعطي له هيبةً في قلوب الخلق؛ لأن رد السيئة بالسيئة أسهل ما يكون، وأنت تجهل على من جهل عليك هذا أسهل؛ لكن أن تكتم غيظَك، وتحلُم على من أساء عليك، فهذا لا يستطيعه إلا الرجال. معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعدما حصل الخلاف الذي حصل واستتب له الأمر، قام يخطب في المسلمين، وكان المسلمون يريدون عبد الله بن عمر أميراً للمؤمنين، وعبد الله بن عمر رجلٌ من رجالات الآخرة، حتى قال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وغير واحدٍ من الصحابة: (ما منا من واحدٍ إلا تقلبَت به الدنيا وتقلب بها إلا ابن عمر؛ إنه على العهد الأول) أيام كان الرسول موجوداً. فهذا رجل من رجالات الآخرة أتته الخلافة تحت قدمه فأباها ورفضها، ولو أن عبد الله بن عمر رشَّح نفسه للخلافة لأخذها بإجماع، ليس لأن أباه عمر، بل لأنه عبد الله بن عمر نفسه، وبسبب عمله. فـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما استتبت له الخلافة، قال: (إننا أحق بهذا الأمر من فلان وأبيه)، يعرض بـ ابن عمر، فالكلمة أغاظت ابن عمر، وكان جالساً في الناس، قال: (فحملت قبوتي، وأردت أن أقوم، فأقول له: بل مَن جالَدَك وأباك على الإسلام أحق بها) قال: (ثم خشيتُ أن تكون فتنة، فذكرتُ ما عند الله، فجلستُ). أي: ذكر الجنة، وذكر الصبر. وهناك ناسٌ يستفيضون في أعراض الخلق، ولا يردعهم رادع من تقوى ولا سلطان، فمثل هذا إن أردت أن تحفظ عزتك وكرامتك لا ترد عليه، وقديماً قيل: (لا تجاري السفيه بسفهٍ مثله) فهذا يدل على أنك رضيت سلوكه فحذَوت مثالَه إذ لو كنت تنكر عليه سفاهته فلم تسافهتَ عليه؟! يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍِ زاده الإحراق طيبا وهل تحس بحلاوة البخور إلا إذا أشعلت النار فيه؟! فما تشعر بقيمة الرجال إلا في الغضب، فالرجل نقي المعدن الذي لا يجتاله الغضب عن الحق ولو قليلاً، ولذلك يعرف الناس في هذه المواقف، فإذا رأيت رجلاً متحولاً متقلباً، إذا أغضبتَه انقلب عليك، فإذا أرضيتَه كان كالنعل في قدمك، اغسل يديك منه، لأنه لا خير فيه. ولذلك مدح الله تبارك وتعالى هذا الصنف قال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] كلمة (الغيظ) فيها حرف الظاء وهو من حروف الاستعلاء والتفخيم، وشكل الحرف نفسُه يوحي لك بالمعنى، فتحس أنه قربة ملأى، أي: ممتلئ غيظاً؛ لأن الغيظ يملأ الإنسان، ودائماً حروف الاستعلاء تحس فيها بفخامة {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ليس هذا فقط. بل أيضاً: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] لأنك لا بد أن تصرف الغيظ، ولا يكفي أن تكظم فقط؛ لأنك إن كظمت مرة بعد مرة ستنفجر، لذلك سن بعد الكظم العفو؛ لأنه لا بد من تصريف للغيظ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. وهذا التصريف ليس سهلاً، وقليل من الناس هو الذي يصرِّف غيظ، ولهذا رغَّبك في التصرف فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] كأن كظْمَك ثم صَرْفَك لهذا الغيظ بالعفو إحسان، والإحسان هو أعظم الدرجات كلِّها، فإن المراتب ثلاث: - إسلام. - إيمان. - إحسان. وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وقليل من الخلق هم أصحاب هذه المرتبة؛ بل هم أندر من الكبريت الأحمر. إذاً: الصبر على المظلمة عز بما يجعل الله لك من الهيبة في قلوب الخلق، ولذلك أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (إن الرجل ليكبُر في نظري حتى يتكلم) طالما أنه ساكت فهو كبير؛ لأنك لا تدري أهذا عاقل أم مجنون؟ كلامُه در أم بعر؟ فإذا تكلم الإنسان وَزَنَ نفسَه؛ لكن كلما كان الإنسان ساكتاً ظَلَّ كبيراً. فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام تثبيتاً لأصحاب هذه المرتبة أقسم عليها، أي: ليس ردُّك وانتقامك من صاحبك دليل العز والغلبة، بل بما يضعه الله لك من الهيبة في قلوب الخلق. (وما صبر عبدٌ على مظلمة إلا زاده الله بها عزاً).

أسباب قسم الله ورسوله على أمر ما

أسباب قسم الله ورسوله على أمر ما بدأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بصيغة لم نعهدها منه، وهو أنه يُقْسِم على صدق الكلام، مع أنه مُصَدَّق بدون قسم، وقلَّ ما يُقْسِم على شيءٍ، فإذا أقسم على شيءٍ فاعلم أن المسألة فيها لبس، وتحتاج إلى تجلية، كما قال تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23] فأقسم بذاته على هذه القضية؛ لأن كثيراً من العباد يخلط فيها، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]؛ فأكثر الناس لا يصدق هذه الحقيقة، مع أن رزقك ورزق الذي يهددك بقطع رزقك في السماء لا في الأرض، وهذا الذي يهددك بأن يَفصلَك من عملك ويُجوعَك ويُضيعَك هو لا يملك رزقَه، بل رزقُه في السماء، ولو أن الرزق كان في الأرض لأذل الناسُ بعضُهم بعضاً، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} [الإسراء:100]، لو أن هذا الرزق بيد أحدٍ لاستكثره على الناس؛ لأنه بخيل ظالم جهول، وهذه صفة الإنسان، وأصله. فلأن العباد لا يصدقون هذه المسألة، أقسم الله تبارك وتعالى أن هذا حق مع أننا نصدقه بغير قَسَم، وكان بعض سلفنا إذا قرأ هذه الآية بكى لها، ويقول: مَن أغضبَ الجليلَ حتى حَلَف؟! أي: نحن نصدقه بغير حَلِف، فحَلَف أن هذا حق، ثم ضرب لك مثلاً بدَهياً لا تشك أنت فيه قال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] إذا كنت تشك في أنك تتكلم فشُكَّ في هذه القضية، فإذا كان الشك لا يرقى أصلاً إلى مسألة الكلام هذه فكيف يرقى إلى مسألة الرزق، وأنه في السماء؟! فإذا رأيت الآية أو الحديث فيهما حَلِف فاعلم أن الأمر جليل.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة) النبي صلى الله عليه وسلم حلف على هذه الثلاث: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، العبد يظن أن الصدقة ضرراً، فإذا كان معه عشرة جنيهات فتصدق بجنيه يقول: أصبح معي تسعة، مع أنها لا تُحسَب هكذا، فحسابك أنت غير حساب الملك، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى عائشة رضي الله عنها تعد تمراً في جراب لتعرف كم سيبقى هذا التمر، وكذلك كان الناس يفعلون، كما نعد البرتقال، حتى نعرف كل واحد كم يأخذ! وهذا العد يضيع البركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وهي تعد وتحسب: (لا توكي فيوكي الله عليك) لا تحسبي فيحسب الله عليك، وهي لما رأت أن في الجراب تمراً، كل يوم تأخذ منه ولا ينفد، استغربت، وقالت: ما هذا التمر؟ هل هذا في جراب أم أنه تمر في مخزن؟! فبدا لها أن تعده، فعدته. والصدقة إذا أخرجتها يتلقاها الله بيمينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليأخذ الصدقة بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فلوه) (الفلو) هو الفرس المولود، تربيه على عينك حتى يصير مُهراً كبيراً، فالله تبارك وتعالى يأخذ منك الصدقة قرشاً أو جنيهاً، فإذا بك عندما توافي ربك يوم القيامة تراها كأمثال الجبال، وهذا مما يُسْعِد العبد. ألم تر أنك وقد وضعتَ في جيبك مبلغاً كبيراً من المال، ثم نسيتَه، وليكن في قميص شتوي، فإذا انتهى الشتاء خلعت القميص ووضعته في الدولاب، وأنت تسأل نفسك: أين ذهب هذا المال؛ لكن لا تعرف، حتى يأتي الشتاء القادم، فتلبس القميص، فتضع يدك في جيبك، فإذا بك تجد المال، فتكون فرحتك به كبيرة، بالرغم أنه مالك، وما أحدٌ أعطاك إياه، لكنك تسعد به؛ لأنه جاءك عن غير حساب. ولذلك المصيبة عندما تأتي غير متوقعة يكون ألمها شديداً جداً؛ كذلك النعمة إذا جاءت غير متوقعة يكون فرحها شديداً جداً أيضاً. فإذا تصدقت فلا تحسبها كما يحسب بقية الخلق؛ لأن المال لا ينقُص من صدقة أبداً، إنما الله تبارك وتعالى يربيها لك. إذا أعطيت الدينار أو الدرهم فوقع في يد الكريم الملك الغني، فإنه يضاعفها لك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وليست المسألة ستقف عند هذا الحد، بل الله يضاعف لمن يشاء. فلأن العباد يحسبونها خطأً أقسم علي أنه لا ينقص أبداً (ما نقص مال من صدقة).

أقسام الناس في الدنيا

أقسام الناس في الدنيا بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضايا الثلاث دلف إلى أنواع الناس، وهذا رباط قوي جداً بين أول الحديث وآخره.

ليس الخبر كالمعاينة

ليس الخبر كالمعاينة قال: (إنما الدنيا لأربعة نفرٍ) ولم يقل: إنما الآخرة، فذكر منهم مَن هم من أهل الآخرة، بل هم أجلُّ أهل الآخرة، حتى يقول لك: إنك ستجني ثمرة الذي تفعله وأنت حيٌ قبل أن تموت، فتعاينه بأم رأسك، فإن الإنسان يحب العاجلة، وبعض الناس قد يدفعه أن يرى مكانه في العاجلة ليعمل للآخرة، فليس المُخْبَر كالمعايِن، وإذا رأيت الشيء بعينيك زاد إيمانك إذا كنت من أهل الإيمان، وتصوُّرك للمسألة هو الذي يرسخ الإيمان في صدرك، ورؤياك للقضية هو الذي يثبِّت اليقين. ألم ترَ إلى موسى عليه السلام لما كان يناجي ربه في الطور، فأبلغه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل، فعلم موسى عليه السلام أنهم عبدوا العجل، أخذ الألواح في يده وفيها هدىً ونور، لكنه أول ما ذهب ورأى العجل ألقى الألواح من الغضب، بينما لم يلقِ الألواح لما أخبره الله عز وجل أنهم عبدوا العجل لأنه لم يرَ بعينيه. وبهذا البحث تفهم النكتة في قوله تبارك وتعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، فإن المظلوم لا يشفى إلا إذا رأى مصرع ظالمه، فإذا رأى ظالمَه وقد هلك فيشعر ويحس أن الغيظ ذهب، بخلاف ما لو كان يسمع أنه هلك ولا يراه. لذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الدنيا)، أي: إن مَن فَعَل هذه الأشياء سيكون له في الدنيا شأن، لكن شأن يختلف على حسب الصفات الموجودة في الإنسان. هناك أشخاص حتى الآن يذكرون باللعنات: كفرعون، وقارون، وهامان، وأبي جهل، وأبي لهب؛ حتى دفع حب الذكر ذاك الرجل أن يبول في ماء زمزم أيام الحج، فلما قيل له: لِمَ؟ قال: أردتُ أن أُذْكَر ولو باللعنات!! فهناك كثير من الخلق يُذْكَرون؛ لكن إذا ذُكِروا لُعِِنوا. لذلك المسلم لا يبحث عن الشهرة؛ فإن هناك مشهورين؛ لكن باللعنات، ولكن يبحث عما يشتهر به. ومن عاقبة الإخلاص أن الله تبارك وتعالى يجعل لك لسان صدقٍ في الآخِرين، وهذا نوع من العز الذي أشار إليه الحديث: (إنما الدنيا)، فالأنبياء والأولياء الذين كانوا أخلص الناس لله، نحن الآن نذكرهم، بل إن بعض العباد كان يعبد الله بين أربعة جدر، وصل إلينا خبره، وكان يستتر بعبادته، فكيف وصل؟! هذه هي عاقبة الإخلاص. فالله تبارك وتعالى يصير ذكرك حسناً، برغم أنك لم تسعَ إلى هذا الذكر؛ لكنه يصيره لك. فالدنيا لهؤلاء الأربعة.

نعمة العلم والمال

نعمة العلم والمال قال: (رجلِ آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحِمَهُ، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل). انظر إلى هذا الرجل، وإلى الرجل الثالث، الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل آتاهُ الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط). الفرق بين الرجل الثالث والرجل الأول هو العلم.

الغرض العيني من العلم

الغرض العيني من العلم فتعلم الفرض العيني هذا واجب عليك، وهو ما يحصل به من تصحيح عقيدتك، وتصحيح عبادتك، ومصيرك في الآخرة مرهون بتعلم هذا العلم، وكيف تلقى الله تبارك وتعالى وقد عرفت كل أنواع المعارف ولم تعرف كيف توحده؟ فتجد الرجل عارفاً لدقائق كل شيء، كالطبيب مثلاً من كثرة الممارسة أول ما يرى مريضاً يقول: هذا عنده كذا وهذا من خبرته، ولكن إذا سألته سؤالاً في الوضوء: إذا كنت متوضئاً وجاء كلب وتمسح بك، فلن تجد عنده حلاً، مع أن هذه المسألة تعلمها أيسر من تعلم الطب، لأن تعلم الشرع أيسر من تعلم أي صنعة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، ولم يذكر صنعة ولا معاشاً؛ لأن الكل محجوج بالقرآن والسنة، والناس يتفاوتون في الفهم والعلم، فجاء القرآن في الوضوح على منزلة أقل واحد بحيث أن الكل يفهم، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولم يقل: (وما جعل عليكم في الدين حرجاً). بل قال: (مِنْ)؛ لينفي أقل الحرج؛ لأنه إذا قال: (وما جعل عليكم في الدين حرجاً)، فهذا بدلالة المفهوم قد يثبت بعض أنواع الحرج، لكن لما قال: (مِن حرج)، نفى كل أنواع الحرج وإن دقت. إذاً: الدين الذي هو العلم في متناول الكل. فكيف تلقى الله تبارك وتعالى ولم تعرف شيئاً عن أسمائه وصفاته، وقد كنتَ تقف تتوجه لوجهه خمس مرات في اليوم؟ ونحن نعرف أن الإنسان إذا أحب آخر يعرف عنه كل شيء يعرف دقائق حياته وتفاصيلها، ويعرف أموره كلها من شدة الحب، فالذين آمنوا يعرفون عن الله تبارك وتعالى أسماءه الحسنى وصفاته العلى، قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، ومن شدة حبه أن يأنف أن يراه الله تبارك وتعالى حيث نهاه، وأن يفتقده حيث أمره، لا يمكن أن تحقق هذا أبداً إلا بالعلم.

الجهل يوقع صاحبه في الشبهات والوساوس والعلم يعصمه منها

الجهل يوقع صاحبه في الشبهات والوساوس والعلم يعصمه منها من الأدلة على أن العلم يحرسك: أنك إذا جاءتك شبهة وعندك علم، لا تؤثر فيك، ولا تضيع مذهبك؛ لأنك عارف لجوابها، لكن إذا جاءت شبهة على رجلٍ آخر، تؤثر فيه وتربكه. فإذاً: العلم حرسك، وحرس قلبك. والآخر اجتالته الشبهات. كنت مرةً في محطة الحافلات فجاءني رجلٌ، كأنه توسم فيّ أن يجد عندي حلاً، قال: كنت أخرج في سبيل الله، وفي يوم من الأيام هجم على قلبي خاطر سيئ في ذات الله، حاشا لله العلي الكبير، فجعل يدخل قلبي ويطرق بابه بشدة: مَن خَلَق الله؟! مَن كان قبل الله؟! هل الله يرى كل هؤلاء؟! يستطيع أن يعرف كل هذا؟! هل هذا كذا هل هذا كذا؟! إلخ. فهذه الوساوس ما استطاع أن يتخلص منها ولم يجد لها حلاًّ، فقال في نفسه: هذا من كثرة العبادة، سأروِّح عن نفسي ساعة، (ساعةٌ وساعة)، أدخل في الدنيا أتاجر، ربما أنسى هذا الخاطر، قال: فخرجت، فما هي إلا أيام استرحتُ فيها ثم عاد علي أشد مما كان، فقلت له: أنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، شخصٌ وجد الدنيا حارة فدخل فرناً، كما يقول أهل الشام: كنا تحت المطر صرنا تحت المضراب. وهذا يذكرني بشخص كانت لحيتُه سابغة، قابلته ذات مرة وقد حلقها، فلم أعرفه، ولذلك لم أُلْقِ عليه السلام فناداني، فلما رأيته استعجبت، وقلت: ما هذا يا فلان؟ ما الذي جرى لك. قال لي: أنا حلقت لحيتي. فقلت له: لماذا؟ ما الذي حصل؟ احْكِ لي. قال: دخلتُ مسجداً يوم جمعة، وكان الإمام قد غاب عن صلاة الجمعة، فأول ما دخلتُ قالوا: مولانا وصل، رجل ملتحٍ واللحية سابغة، فأول ما دخلتُ قالوا: الحمد لله، وجدنا الإمام، وسارعوا إلي: قم يا مولانا اخطب. فقلت: أنا لست مستعداً. فقالوا: لا بد أن تخطب، قل أي شيء، أو أي موعظة، أنصليها ظهراً؟! فحاول أن يعتذر ولكنهم غلبوه. فصعد على المنبر ولم يستطع قول شيء، فقال كلمات مما عنده، ثم صلى وهو لا يحسن التجويد، وبعد هذا الموقف خرج، فهل قرر أن يتعلم ويسد النقص والفضيحة التي وقع فيها، وقال: أنا دوائي العلم، لابد أن أحفظ لي خطبة أو شيئاً من هذا؟ لا. بل قرر أن يحلق لحيته! وهذا كحال الذين ذكرهم الله في كتابه: {قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] ما قالوا: اهدنا إليه، بل قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:32]، مع أن كلام العقلاء أنه: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] فاهدنا إليه، هذا الكلام الذي يجب أن يقال، وليس {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:32]. فهذا بدل أن يتعلم ويقول: إن العلاج في العلم، قال: أحلقها، حتى أكون من غبراء الناس. فعجباً لهذا الحل!! وهذا عندما رأى الوساوس تهجم على قلبه، قال: أنا استكثرت من العبادة، وهنا كان الواجب عليه أن يتجه إلى العلم؛ ولكنه اتجه إلى الدنيا، مع أن أهل الدنيا في حيرة، يعني: الذي في الدنيا تائه، فكان بإمكانه أن يتجه إلى العلم قليلاً، من أجل أن يخفف عن نفسه قليلاً من العبادة؛ لأنها سترهقه. فهذا لأنه عابد، ما عنده علم، أول ما تصرف تصرف تصرفات ليس عليها نور. فلو كان هذا الرجل يصاحب العلماء لعرف الحل مباشرة؛ لأن مثل هذا الذي وقع فيه هذا الإنسان حدث لأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن الشيء ليخطر ببالنا في ذات الله لَأَن يخر أحدنا من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَقَد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان). هذا هو الإيمان المحض (والصريح) هو الخالص، يقال: صريح اللبن، أي: اللبن الخالص (ذاك صريح الإيمان) أي: هذا هو أس الإيمان وحقيقته، وليست حقيقة الإيمان هي الشك في ذات الله، بل المقصود من الحديث، (ذاك صريح الإيمان) أنه لولا الإيمان الذي حجزك لتكلمتَ. فإذا خطر ببال الإنسان شيء من هذا فكتمه واستغفر الله منه فهذا هو الإيمان؛ لأنه لو لم يكن عنده إيمان لتكلم به، إنما الذي حجزه وربط لسانه هو الإيمان، فذاك صريح الإيمان، وفي لفظ آخر لهذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، ما استطاع أن يأخذ أكثر من الوسوسة، والوسوسة معفوٌ عنها، فكأن الشيطان ما أخذ شيئاً. إذاً: العلم نور.

أهل العلم دنياهم في أيديهم لا في قلوبهم

أهل العلم دنياهم في أيديهم لا في قلوبهم لكن أهل العلم هذه المسألة لا تساوي عندهم شيئاً، فأهل العلم المال في أيديهم، وأهل الدنيا المال في قلوبهم، لذلك تجد الواحد من أهل الدنيا ميتاًَ على المال، وليس في يده فلس، وعنده أحلام وآلام كثيرة، وليس في يده قرش واحد، بينما أهل العلم إذا بذلوا المال وراح كله لا يتحسرون عليه، كما كان أبو الدرداء وخباب بن الأرت يفعلون. قال خباب بن الأرت وأشار إلى صندوق. قال: (هذا فيه ثمانون ألف درهم) وذكر مصعب بن عمير، فبكى له، قال: (لما قتل مصعب فكنا إذا غطينا رأسه ظهرت قدماه، وإذا غطينا قدميه ظهر رأسه، ولم يكن معه إلا بردة صغيرة) لأن مصعب بن عمير كان من أولاد الملوك، فلما هاجر في الله ترك الدنيا وراءه، وجعل يذكر المحن التي قابلتهم وأنهم كانوا يأكلون ورق الشجر، وأنهم لم يكونوا يجدون شيئاً، فعاش حتى امتلك ثمانين ألف درهم. قال: ما رددتُ سائلاً -ها هو الصندوق مليء، ما سألني سائل فرددته-. فهؤلاء هم أهل العلم، لذلك العلم يزين صاحبه. فالرجل الذي عنده مال يُغْبَط على المال ليس لأجل المال وحده، بل لأنه سلطه على هلكته في الحق، فهو يُغْبَط من أجل هذا؛ أما المال في ذاته فلا يُغْبَط الإنسان عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة -وهذا عند العقلاء- لأن المال رزية، فالأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بنصف يوم، أي: بخمسمائة سنة، مع أن هناك أغنياء -أغنياء ممن تأخروا عن دخول الجنة- أفضل من فقراء سبقوهم، والغني هذا عندما يدخل الجنة بعد الحساب يكون في درجة أعلى من درجة الفقير الذي سبقه بالدخول. لكن ما الذي أخره ماله. والحساب في يوم القيامة حساب بالذرة وبمثقال الذرة، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]؛ فالذي يرتكب المعصية ينسى تفاصيل كثيرة من المعاصي؛ لكن كلٌ {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] كله محصور. قرأت أن بعض الصالحين وكان له أخٌ في الله يحبه، فمات أحدهما قبل صاحبه، فرأى الحيُّ الميتَ في المنام، فقال: ماذا فعل الله بك؟ قال: سألني عن مسألةٍ ما خَطَرَت لي على بال. قال: وما هي؟ فقال: إنه كان يمشي في الحقول، فوجد سنبلة على الأرض فأخذها ورماها يميناً أو شمالاً، حتى لا يدوس عليها أحد، فسُئل: لم حذفتَها يميناً؟ وما أدراه فربما تكون للحقل الذي على اليسار، مع أنه فعلها بعفوية، أي: أنه ما قصد شيئاً، وما أخذ سنبلة وقطعها ورماها في الحقل الآخر، بل وجدها على الأرض. فالعبد يُسأل عن كل شيء، ولهذا الملَكان اللذان يدونان كلام بني آدم، يسجلان عليه الضحكة والعطسة والكحة، وما هناك شيء يترك أبداً. فإذا كانت هذه الأشياء المباحة تُدَوَّن على العبد، فكيف يمكن للعبد العاقل الذي سيلقى الله تبارك وتعالى غداً أن يمشي في الدنيا كما لو لم يأته رسول؟ فلذلك العلم يعصمك، والعلم يحرسك.

العلم يحرس صاحبه والمال يستعبد صاحبه

العلم يحرس صاحبه والمال يستعبد صاحبه العلم يحرسُك وأنت تحرس المال، فانظر عندما يجعل الشخص نفسه عبداً لما يجب ألا يكون له عبداً، وهذا المال أنت أصلاً ستدفع منه للحفاظ عليه، لكي تستخدمه في الحلال، ولكي تستعبده لا لتعبده، كما قيل: (المال عبدٌ جيد لكنه سيدٌ رديء) (عبد جيد): يحل لك مشاكلك ويقضي لك كل حاجاتك، كما لو كان لك عبد إذا قلت له: اعمل كذا، قال: نعم. واعمل كذا قال: حاضر. فهو عبد جيد، لكنه إذا تسلط على صاحبه صار سيداً رديئاً، إذ يصير صاحبه بخيلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن البخل: (أي داءٍ أدوى من البخل؟!) أي: أي داءٍ أقبح من أن يكون الإنسان بخيلاً؟! فالمال صاحبه هو الذي يحرسه، إن كان مضطجعاً تجده يَعُدّ، أو قائماً تجده يَعُدّ، يَعُدُّ النقود ألف مرة؛ ويريد أن يضع العشرة على العشرة، والعشرين على العشرين، ويرص الأرقام على الأرقام، ويحسب، حتى يتأكد أنها متسلسلة أم لا! ولا ينام من كثرة الحسابات. يخشى أن تصرف أمواله، أو أنه سيُقْدِم على مشروع ويخاف أن يأخذه آخر، أو يخاف أن يخسر، فقلبه يتفطر من الحسرات، ولذلك تجد الإنسان من هؤلاء إذا أصيب في دنياه خسر الدنيا والآخرة، فتجد الواحد مثلاً إذا قيل له: المصنع احترق، تأتيه سكتة قلبية! وماذا لو أنه اشتعل؟! فأنت خرجت من بطن أمك لا تملك شيئاً ولا عندك دينار ولا درهم، فما مُتَّ حتى اغتنيتَ وصرتَ من أصحاب الملايين، فكما أعطاك الله المال يمكنه أن يعطيك ثانية، فما نفدت خزائنه. فهذا يخسر دنياه وآخرته. والآخر صاحب أزمة الكويت لما نزل الدينار من تسعة جنيهات إلى سبعة وتسعين قرشاً، مشى في الشارع وهو يكلم نفسه! لأنه عبدٌ لهذا المال.

الجهل يوقع صاحبه في البدع

الجهل يوقع صاحبه في البدع وهنا قَدَّم أولاً العلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً) ثم قال: (ورجل آتاه الله مالاً): فنستشعر من هذا: أن الرجل الذي آتاه الله المال عنده علم؛ إذ كيف يسلط الرجل ماله على هلكته في الحق وهو جاهل؟! وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل صاحب المال: (سلطه على هلكته في الحق) (الهاء) في (هلكته) تعود على الرجل أم تعود على المال؟ تعود على الرجل؛ لأنه عمل فكسب، ومن فسد مِن عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العابد عندما يكون ليس على علمٍ فإنه يبتدع، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]. وتجد دائماًَ العابدَ الذي ليس عنده علم من أكثر الناس وقوعاً في البدع، فنفسه تسول له أنه بعد كل صلاة يسجد سجدة شكر طويلة، ويرى أن هذه قربة، وأنها ليس فيها شيء، وإذا أنكر عليه يقول: وهل أنا شربتُ خمراً، أو زنيتُ أو قتلتُ؟! كذلك أي مبتدع يقول هكذا. أخبرني بعض الإخوة أن ثَمَّ واحداً من بعض الطرق الصوفية يصلي على النبي بعد التراويح، وفي نصفها يقرأ قرآناً، ويريد أن ينقل مثل هذه البدع في المسجد، وأهل هذا المسجد يريدون أن يقيموه على السنة، فهمس في أذني بعد صلاة الفجر بأنه حصل كذا وكذا، ويجب أن أنبه على هذا الكلام. فقلت: سأنبه، فتكلمت كلمة مختصرة لطيفة من أجل أن أدخل بها إلى الموضوع، أول ما بدأت الدخول في الموضوع قام فالتقط المكبر، فقال لي: مع احترامي لك -وطبعاً عندما تسمع أحداً يقول: مع احترامي لك، اعلم أن الكلام الذي سيأتي ليس فيه احترام، وأنه سيقل أدبه مباشرة، وهكذا- أنا أقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ما المشكلة فيها؟ هذا قرآن يا أخي، وقراءة القرآن واجبة، وأصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، ماذا بكم؟ ألا تريدون أن تصلوا عليه؟! ثم ما هو الذنب الذي أنا ارتكبته؟ أقرأ قرآناً ويكون عليَّ وزر، أصلي على النبي ويكون عليَّ وزر، ما هذا الكلام الذي أنتم تقولونه؟! فأول ما تكلم الرجل بهذا الكلام عرفت أنه لا يستطيع تعريف معنى البدعة، ولم يخطر بباله شيء اسمه: بدعة؛ لأن أي شخص يقول هاتين الكلمتين اعرف أنه ليس لديه خلفية عن البدعة. فالبدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، طريقةٌ يفعلها الإنسان ليتقرب بها إلى الله، نزَّلها هذا الرجل منزلة الشرع فصارت تضاهي الطريقة الشرعية. وهذه البدعة يفعلها للتقرب إلى الله عز وجل، وليس عليها دليل، هذه هي البدعة. فقلتُ له: إذا عطس رجل وقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ما رأيك في الصلاة على النبي بعد العطاس؟ فقال لي: قل أنت. قلت له: أنا أسألك لأتحقق هل تعرف معنى البدعة أم لا! فالصلاة على النبي ماذا فيها؟ أنت لِتَوِّك تقول: إن الصلاة على النبي ليس فيها شيء. قال: نعم. قلت: إذاً ما رأيك في شخص عطس، وبعد كل عطاس يصلي على النبي؟ فسكت. وأنا إنما أستدرجه لأننا عندنا في هذا أثر، فلو تكلم أصكه به مباشرة، وهو ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً عطس عنده، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: (وأنا أقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ولكن ما هكذا علَّمنا رسول الله). فلكي لا يقول الرجل: هؤلاء ينكرون الصلاة على النبي. قال له: أنا أيضاً أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مثلك؛ لكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرن الصلاة عليه مع العطاس. فقال لي: صحيح، لا يصلي بعد العطاس. قلت له: إذاً: فأين الدليل على أنه يصلي بعد التراويح؟! وأين الدليل على أنه يقرأ قرآناً بين الأربع ركعات؟! فالمبتدعة خُلُوٌّ من العلم، فالذي يفسد مِن عُبَّادنا يكون فيه شبه بالنصارى الذين ابتدعوا، إذ ليس عندهم علم؛ ولذلك تجد أكثر الناس وقوعاً في الوسوسة والشبهات العُبَّاد؛ أما العلماء فلا. لأن العالم عارفٌ بالحدود، يعرف كيف يفرق بين الحرام والحلال والشبهة، وليس عنده مشكلة؛ لكن العابد يحصل عنده إشكالات؛ لكثرة عبادته، وليس عنده علمٌ يقع في هذه الشبهات.

لا حسد إلا في اثنتين

لا حسد إلا في اثنتين الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً، فهو يعلِّمه الناس). لهذا الكلام تفسيران معروفان عند العلماء: التفسير الأول: راجح وهو التفسير الأول، أي: لا غبطة، فالحسد هنا: ليس الحسد المذموم، إنما هو الغبطة، والفرق بين الحسد والغبطة: أن الحسد: هو تمني زوال النعمة عن المحسود، أن تتمنى أن يكون عندك ما عند فلان، بشرط ألا يكون عند فلان شيءٌ من هذا، فتتفرد أنت بهذا النعيم. إنما الغبطة: أن يكون عندك مثل ما عند فلان بدون أن يزول النعيم عن فلان، يعني: أن تكون أنت مشاركاً له أو مساوياً له فقط، كرجل غني أتمنى أن يكون عندي مثل ما عنده، فنصبح نحن الاثنان أقراناً في هذه المسألة. فالمقصود بالحسد هنا: الغبطة، أي: ليس هناك أحدٌ يستحق أن يُغْبَط، وأن نقول: ليت لنا مثله، إلا أحد رجلين: رجل عالم يعلِّم الناس، ورجل غني؛ لكن مالَه مقيدٌ بالعلم. التفسير الثاني: (لا حسد) أي: ما حَسَدَ، نفيٌ لوجود الحسد، فإن كان حسدٌ فهو في اثنتين، فكأن هذا الكلام فيه حذف. ولكن التفسير الأول هو التفسير الصحيح، لثبوت الحسد، كما قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. فالحسد موجود. إذاً: يتعين التفسير الأول.

فضل القرب من العلماء

فضل القرب من العلماء فهذا يدل على شرف العلم؛ لذلك كان الملتصقون بالعلماء أشرف من الملتصقين بالأغنياء، وإن كانت الدنيا تحت ركاب الأغنياء. فحتى لا يقول رجل: أنا أريد الدنيا، والعاجلة ولا تكون إلا بالمال، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا) وبدأ بالعلم، ليكون لأهل العلم الدنيا أيضاً؛ لكن شتان بين دنيا أهل العلم، ودنيا أهل المال، أهل العلم يموتون على الحمد والثناء الحسن، ولذلك كان الرسل يقولون للناس: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، ما نريد أجراً، فالذي يقدم لك الإحسان ولا يأخذ نظيره محمود بخلاف الرجل الذي يقدم الإحسان وينتظر، مثل مسألة النقطة في يوم الزفاف، بأن يذهب من أجل أن يعطي العريس مالاً لغرض أن يأخذه فيما بعد، لذلك الرجل العريس مباشرة يدون هذا المال في دفتر؛ لأنه عارف أنه ليس هبة بل هو دين، وأنا أعرف بعض الناس اشتكى بعضَ الناس الآخرين بأنه لم يرد له النقطة. فمثل هذا الرجل ليس محموداً؛ لأنه كما أعطى يُعْطَي. وبهذا الكلام اللطيف نفهم تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا انقطع رحمه وصلها)، أي: ليس الجميل أنك ترد الزيارة بزيارة؛ لكن الجميل أن من قطعك تصله، وإذا كانت هذه الزيارة في مقابل زيارة! فأين فضلك إذاً؟! فليس الواصل الذي يكافئك بزيارةٍ كما زرته واصلاً، بل الواصل من إذا انقطعت رحمه وصلها، هذا هو الإحسان. تجد الذين يلتصقون بأهل العلم، عندهم من الخير والشرف والترفع عن الدنايا ما ليس عند الملتصقين بأهل المال، فأهل المال أذلاء؛ لأنهم على استعداد أن يفعلوا أي شيء في سبيل زيادة رأس المال، لكن أهل العلم يراقبون الله تبارك وتعالى ويتحرون مواضع أقدامهم قبل أن ينقلوها، فمن أين يأتيهم الشر؟ ولهم الشرف أيضاً، كما قال القائل لولده وهو يعظه، قال: (يا بني! من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم). كذلك الإمام البخاري رحمه الله كان أبوه من كبار التجار، ترك لابنه يوم مات ألف ألف درهم -أي: مليون- فلما حضرته الوفاة قال لابنه: (يا بني! أنا لا أعلم درهماً فيه شبهة في هذا المال) فماله ليس حراماً، بل بينه وبين الحرام مفاوز. فاستطاع مثل هذا الرجل الصالح أن يتجنب الحرام، والأصل أنك لا تستطيع أن تتجنب الحرام، إلا إذا عرفت الحرام، كما قال القائل: عرفتُ الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه فكيف عرف الحرام؟ لأنه كان مخالطاً لأهل العلم. ولهذا ابنه الإمام البخاري لما أراد أن يذكر له منقبة، وكل واحد عندما يذكر أباه يأتي له بأفضل شيء، فيقول مثلاً: كان رجلاً صواماً قواماً، أو كان يمشي على الماء، أو كان يطير في الهواء، أو أي شيء من هذا مما يراه مدحاً، فالإمام البخاري لما أراد أن يذكر منقبة لوالده ذكر أفضل شيءٍ يعلمه عن والده، فقال: (وسلم على فلان بكلتا يديه) هذه هي المنقبة الجميلة، أنه صافح أحد العلماء بكلتا يديه، ووجه الفخر في هذا أن يده مست يد هذا العالم الجليل ولعله عبد الله بن المبارك. فهذا الرجل الصالح لما خالط أهل العلم كان دائم Q أأفعل هذا؟ أهذا فيه شبهة؟ أهذا فيه حرام؟ فيفتوه، فاستقامت له دنياه بمصاحبة أهل العلم، بخلاف الآخر الذي ليس عنده شيء من العلم إنما يريد أن يزيد رصيده، وسنضرب الأمثال على سوء هذا النمط الثاني، وأن صورته مظلمة، وأنه لا يخرج أبداً بحمد.

فضل العلم

فضل العلم إذاً: العلم زَين صاحبه، فالعالِم لا يضره أن يكون فقيراً، والغني الجاهل يضره ماله، لأنه لا يدري: أهذا الذي أنفق فيه المال مشروعٌ أو غير مشروع، ويمكنه أن يمسك المال فيغضب الله تبارك وتعالى، كما فعل رجلٌ جاهل خُلوٌ من العلم، لما هبت ريح عاصف، والناس جأروا إلى الله، قالوا: (لئن أنجيتنا لنصدقن)، وهذا النوع من النذر المشروط فيه سوء أدب مع الله، أن تقول: إن الله تبارك وتعالى شفاني أو عافاني أو رزقني أو سهل لي مهمتي سأتصدق، فإذا لم يفعل فماذا تفعل؟ سيقول: لا أتصدق، والله تبارك وتعالى لا يعامَل هذه المعاملة أبداً؛ لذلك كان هذا النذر المشروط فيه سوء أدب مع الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره؛ لكن يستخرج به من البخيل) فالنذر لا يقدم شيئاً. وإذا أردت أن تنذر فانذر نذراً مطلقاً، قل: لله علي كذا، سواءٌ جاءت أو لم تجيء، هذا هو الأدب. لكن مع ذلك النذر المشروط مع سوء الأدب يلغي هذا النذر. ويلزم الناذر أن يوفِّي بنذره؛ ولكن شتان بين رجلٍ يوفي بنذره وقد أساء الأدب مع ربه، وبين رجلٍ آخر يوفِّي بنذره وهو متأدب مع الله تبارك وتعالى، فلذلك يجب أن ننتبه لمسألة النذر. فهذا الرجل عندما هبت ريح عاصف على السفينة، وكل واحد قال: (لئن أنجانا الله لنصدقن)، وأنجاهم الله تبارك وتعالى، وكل واحد أخرج ما تيسر، إلا رجلٌ واحدٌ جاهلٌ، قال: رب! ليس عندي ما أتصدق به، ولكن امرأتي طالقٌ لوجهك ثلاثاً، ولا يجوز أن يُتَقَرَّب إلى الله بمثل ذلك؛ لكنه جاهل، والجاهل عدوٌ نفسه، والجهل معرَّة؛ لذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. الرجل الأول: الذي آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث الذي آتاه الله مالاً، استحضِرْ موقف هذين الرجلين مع الخصلة الأولى والثالثة التي شرحناها الآن: (ما نقص مالٌ من صدقة): لا يعرف هذه الحقيقة إلا العالِم؛ لأن الجاهل كيف يعرف؟! (وما صبر عبدٌ على مظلمةٌ إلا زادهُ الله بها عزاً): لا يعرفها إلا العالِم. (ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): هذا أيضاً لا يعرفه إلا العالِم. ونقيض هذه الأشياء تراها في الجهلة الذين ليس عندهم علم. لذلك كان شرف الأول والثاني: العلم، وكانا بأفضل المنازل: (رجل آتاه الله علماً ومالاً). والرجل الثاني: (آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً). فهذان بأفضل المنازل. وإفراد العلم بالرجل الثاني هو الذي جعلنا نقطع أن العلم هو الذي شرف الأول. والرجل الثالث: (آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً) قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (فهو يخبط) خبط عشواء، خالٍ من العلم. الرجل الرابع: لا هذا ولا ذاك، لكن أسوته كانت الرجل الثالث، الشرير، الخُلْوُّ من العلم، قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الغني الجاهل: (فهذا بأسوأ المنازل، أو بأخبث المنازل) وقال في الثاني: (فهما في الوزر سواء).

نعمة العلم بلا مال

نعمة العلم بلا مال قال عليه الصلاة والسلام: (ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، يقول: لو أن لي كفلان لفعلت فعله فهو ونيته). وقوله: (فهو ونيته) يفهم منه أن هذا العبد عاجز عن تحقيق الفعل، فلم يملك إلا النية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو)، وهذه هي النية هنا. قال عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء)، كلمة (سواء) هي بدلالة أحاديث أخر لا تقتضي التسوية من كل وجه؛ بل من بعض الوجوه. فإنك لو قلت مثلاً: محمد والأسد سواء، لا تقصد التسوية بينهما في كل شيء بل تقصد التسوية في خصلة واحدة إما الشجاعة وإما عدم الرحمة إلخ، فكلمة (سواء) ليس المقصود بها أن يُشبه بهذا الحيوان في كل شيء، وهكذا في الحديث؛ لأن مَن تعدى خيره بخصلتين، أفضل ممن تعدى خيره بخصلة واحدة، فرجل آتاه الله علماً ومالاً؛ لا شك أنه أفضل ممن آتاه الله المال فقط؛ لأن هذا الرجل مع تعليمه الناس يفرج الكربات، فهذا أفضل من الذي يعلم الناس فقط. فالرجل الأول: خيره تعدى بخصلتين. والثاني: خيره تعدى بخصلةٍ واحدة وهي العلم. أضف إلى ذلك: أن العلم قد ينتفع المرء به وحده، أما المال فينتفع المرء به وينفع غيره. هذا وجه. الوجه الثاني: أن يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (هما في الأجر سواء) أي: وإن لم يكن الثاني كالأول؛ لكن يكمل الله له الأجر بنيته، فصار الثاني مساوياً للأول تكرماً من الله عليه، فيكونان في الأجر سواء من هذه الحيثية.

وجود المال مع فقد العلم

وجود المال مع فقد العلم الرجل الثالث: (رجل آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهذا بأخبث المنازل) كقارون لما وعظوه، وقالوا له: اتق الله ولا يجوز لك أن تنفق المال في هذا، ارعَ حق الله تبارك وتعالى إلى آخر الوصايا الغالية التي قالها له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. ولأنه (جاهل غني) رد عليهم، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: إني أنا كنت عارفاً أنني سأكون غنياً؛ لأنني حسبتها حساباً صحيحاً، القرش عندي يأتي بعشرة، أو ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} أي: لولا أني أستحق الخير ما أعطاني الله، ولو كنت رجلاً سيئاً لحرمني، فأنا لا أستحق هذا إلا لأنني مقربٌ عند الله، وهذا الجواب ينمُّ عن جهلٍ فاضح. فقارون خرج على قومه في زينته، قال تبارك وتعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] فهؤلاء ليس معهم شيء؛ لكنهم قعدوا يتمنون، هذا هو الصنف الرابع، لا معه مال ولا علم، ويقول هؤلاء الذين حالهم كحال الذي يخبط خبط عشواء ويركب الظلماء {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، هذا الرجل الذي يقولون: إنه لذو حظ عظيم، لما خسف ربنا سبحانه وتعالى بقارون وداره الأرض قالوا: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، مع أنهم كانوا يتمنون أن يكونوا كقارون.

حال الإنسان الخالي من العلم والمال

حال الإنسان الخالي من العلم والمال يوجد صنف من الناس قال الله تبارك وتعالى فيهم: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] لا يأتي طواعية، بل هو مثل المسمار، لا يدخل في الخشب إلا إذا ضُرِب على رأسه، وهؤلاء هم الصنف الأخير، لا يثبت على مبدأ، وليس عنده مبدأ، بل مبدؤه هو هواه، وما أُشْرِب من هواه، ويتقلب على حسب المصالح، فاليوم إذا كان المدح يأتي له بنتيجة يمدح، وغداً إذا كان الشتم يأتي له بنتيجة يشتم.

فائدة صحبة العلماء

فائدة صحبة العلماء المسلم إما أن يكون غنياً أو فقيراً، فإذا كنت غنياً من أصحاب الدرجة الثالثة فاقفز إلى الدرجة الأولى، وإذا قلت: أنا رجل ما عندي همة لطلب العلم، ولكل مقامٍ مقال، وأنا عقلي لا يستوعب هذا العلم. فماذا أفعل؟! فأقول لك: كن عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالثة فتهلك، فإما أن تكون عالماً أو متعلماً؛ لأن بعد هذين الاثنين لا يوجد غير الجهل. وإذا لم تكن متعلماً، فلا أقل من أن تصحب أهل العلم، كما ذكرنا عن والد الإمام البخاري رحمه الله، عندما قال لابنه: (ما أعلم درهماً من هذا المال فيه شبهة)، فهو ما استطاع أن يتجنب الشبهات فضلاً عن المحرمات، إلا لأنه صاحب أهل العلم، فكان كلما يأتي له نوع من أنواع المبايعات يسأل أهل العلم: أهذا حرام أم لا؟ فيقال له: لا؛ ليس حراماً؛ لكن فيه شبهة، فيترك الصفقة كلها، وإذا كان حراماً يتركها قولاً واحداً. فأنت تسعد بصحبة أهل العلم. ولذلك قال بعض طلاب العلم بعد أن سأله رجل: أوصني. قال له: حيثما كنت فكن بقرب فقيه. ثم قال له: أفلا أدلك لِمَ أنا أوصيك هذه الوصية؟ قال له: كنتُ رجلاً مجوسياً، فأسلمت، فأتيت الأوزاعي وهو من طبقة الإمام مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وكان إمام أهل الشام، كان مالك رحمه الله يقول: أهل الشام بخيرٍ ما بقي فيهم الأوزاعي وسفيان الثوري، كان إماماً فحلاً جبلاً، لما ذهب الأوزاعي ليحج أمسك سفيان الثوري بلجام ناقة الأوزاعي يقودها في الازدحام، ويقول: أفسحوا لناقة الشيخ، فكان جليلاً، جاء رجل إلى سفيان الثوري وقال: إني رأيت في منامي أن ريحانةً قلعت من ديار الشام، فقال: ويحك إن صَدَقَت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فجاء نعيٌ الأوزاعي في مساء نفس اليوم. هذه شذرات عن الأوزاعي، ومن سوء حظنا أننا لا نعرف هؤلاء، ونعرف من لا يساوون قلامة ظفر الأوزاعي - قال هذا: كنت رجلاً مجوسياً فأسلمت فلازمتُ الأوزاعي رحمه الله، فقال لي: من أي البلاد أنت؟ قلت: من بلد كذا. قال: ألك والد؟ قلت: نعم تركتُه مجوسياً. قال: ارجع إليه فلعل الله أن يهديه بك. قال: فرجعتُ فوجدتُه في النزع الأخير. فجعل يرغبه في الجنة ويرغبه في الإسلام. قال: يا بني اعرض علي دينك. فعرض دينه، فاستحسنه، فأسلم، ومات. فلولا أن الأوزاعي أمره أن يرجع إلى والده لمات والده على المجوسية والله أعلم. فانظر إلى وصية العلماء، خيرٌ مُتَعَدٍّ مباشرة، لا سيما أنه لا يسألك أجراً، والإنسان دائماً عندما يُسأل -وبالذات المال- يحس بثقل. الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيَّ آدمَ حين يسألُ يغضبُ وعندما يقول لك شخص دائماًَ: هات، هات، هات، أول ما تراه يكلح وجهك؛ لأنك عارف أنه سيقول: هات. فأنت آمن (100 %) من هذه الجهة وأنت بقرب العلماء؛ لأن العالم يكون له الفضل عليك دائماً؛ لأنه لا يسألك شيئاً وأنت تسأله، فالفضل دائماً لليد العليا. والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله أجمعين.

أصحاب الصنف الرابع أكثر الناس تقلبا

أصحاب الصنف الرابع أكثر الناس تقلباً فأصحاب الدنيا هم الصنف الرابع، حيثما وجدوا مصلحتهم يذهبون، لذلك تجد الواحد منهم على استعداد بأن يغير موقفه مع تَغَيُّر المصلحة. قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، ولما خسف الله بقارون الأرض قالوا: الحمد لله أننا لم نكن كقارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82] وكأن المسألة عندهم شك فيها، أي: ليس أكيد أن الله ربنا سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لا. بل كأن الله، والذي يقول: (كأن) يكون غير متأكد من الموضوع، مثل بلقيس {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] فلما دخلت: {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، أي: أنه يشبهه؛ لكنها ليست متأكدة، أهذا هو العرش حقاً أم لا؟ بل {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]. وهم طبعاً لأنهم عوام -والعامي مشتق من العماء، ليس عنده تصور عن أي شيء- قالوا: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، كأنه لا يفلح الكافرون، أي: أنه ليس متأكداً أن الظالم نهايته سيئة؛ لأنه من العوام.

المفاضلة بين العالم الغني والعالم الفقير

المفاضلة بين العالم الغني والعالم الفقير فلذلك المسلم العاقل الذي يعرف أن الآخرة خيرٌ وأبقى يجتهد على أن يكون من الصنف الأول أو الثاني فقط. فإما أن يكون رجلاً غنياً فيجتهد في أن يكون دائماًَ من الصنف الأول بأن يتعلم، ولا يرضى لنفسه بأن يكون بأخبث المنازل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وإما أن يكون رجلاً عنده علم لكنه فقير، فلا يتحسر على نفسه لأنه الثاني مباشرة في الترتيب، ثم هو وصاحب الدرجة الأولى سواء، بل هو في ذات نفسه أفضل من الأول، فالأول أنفع للناس، والثاني أنفع لنفسه. فالغني يتأخر؛ لأن هناك حسابات، فلو كان هناك عالم غني وعالِِم فقير، الذي يدخل الجنة أولاً هو الفقير. فإذاً: الفقير نفع نفسه وأما الغني فنفع غيره؛ لذلك كان الأول أفضل بالنسبة لله، والثاني كان أفضل بالنسبة لنفسه. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، وهناك فرق بين من يتصدق علانيةً ومن يتصدق في السر. الذي يتصدق في السر، الخير عائد عليه هو؛ لأنه حفظ نفسه من الرياء، لذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وليس لهم؛ لأن (لهم) فالأول أحسن. وفي المقابل قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]، أي: نعم ما فعلتم؛ لأنه قد يغار شخص فيقول: وهل فلان أحسن مني؟ لماذا يتصدق وأنا لا أتصدق؟ فيتصدق. فيكون هذا أصلح للفقراء؟ لذلك كان الذي يظهر الصدقة خيره يتعدى؛ لذلك قال الله: نعم ما فعل. لكن الثاني الذي تصدق في السر، ضمن إخلاصه وحصَّن نفسه من الرياء، فكان خيراً له مثل الفقير.

من أخبار الشعراء المتقلبين حسب المصالح

من أخبار الشعراء المتقلبين حسب المصالح هذا مثل الشعراء، فمثلاً: المتنبي يعد مِن أشعر الشعراء، إذا قرأت شعرَه أحسست بجزالة ورشاقة، وشعره جميل جداً، ومع ذلك كان شاعراً مثل الشعراء الذين قال الله فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، والكلام أسهل شيء على الإنسان، فهذا أبو العلاء المعري يقول: إني وإن كنتُ الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل فقيل له: فهاتِ لنا حرفاً زائداً عن حروف الهجاء، هي ثمانية وعشرون حرفاً. فعجز؛ لأنه مجرد كلام، وأسهل شيء الكلام. فهذا المتنبي لما جاء مصر ودخل على كافور الإخشيدي حاكم مصر أخذ يمدح فيه وكاد أن يوصله إلى درجة الألوهية. فلما انصرف عنه وذهب إلى أمير آخر وصفه بأوصاف قذرة جداً جداً، حتى وصفه بأنه لا يستطيع مباضعة النساء. فهذا الكلام بحسب المصلحة، إذا كانت مصلحته يميناً ذهب يميناً أو يساراً ذهب يساراً، بل ربما يقتل نفسه إذا كانت مصلحته في ذلك، كما فعل أبو دلامة الشاعر: كان المهدي وعلي بن سليمان رئيس وزراء المهدي، يصطادان، وأبو دلامة كان شكله قبيحاً، وكان كل شعرٍ يقوله يأخذ عليه نقوداً، ومرةً خرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان في رحلة صيد، فرمى المهدي ظبياً، ومرَّ كلب فأصابه سهم علي بن سليمان. فقال المهدي لـ أبي دلامة: قل لنا شعراً في هذ! الموضوع. فقال: قد رمى المهدي ضبياً شك بالسهم فؤادَه وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيئاً لهما كلُّ امرئ يأكل زاده فأعطى له المهدي ثلاثين ألف درهم، كل بيت بعشرة آلاف درهم. فعندما كانوا جميعاً -هؤلاء الثلاثة- قال له المهدي: يا أبا دلامة اهجُ أحدَنا. فهل عنده جرأة ليهجو المهدي، أو يهجو رئيس الوزراء؟! إذا فعل سيقع في مصيبة. فوجد أن أخف الضررين أن يهجو نفسه، فقد قال له: لا بد أن تهجو أحدنا، أحد الثلاثة. فقال: ألا أبلغ لديك أبا دلامة فليس من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة كان قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة فأعطاه عشرة آلاف درهم. ومرةً مرَّ جماعةٌ من الشعراء، وكان لهم لبس معين عندما يكونون ذاهبين إلى الخليفة في عيد لأجل أن يمدحوه. فرآهم واحد من الذين يحبون الأكل، فقال: هؤلاء ذاهبون إلى وليمة، فتبعهم ودخل، فلما دخل، جاء فدخل أمير المؤمنين، وبدءوا من اليمين، فأخرج الأول عريضة وأخذ يقول شعراً، والطفيلي هذا في الأخير، فأحس بالورطة التي وقع فيها؛ لأنه جاء ليأكل، وكان يظنها وليمة، وإذا بها ورطة أمام الخليفة، فكل منهم قال شعراً حتى وصل الدور إلى الطفيلي. فقال الخليفة: ماذا يا فلان؟ أنشدنا من أبياتك. فقال: ليس عندي شيء. فقال: إذاً: ما الذي أدخلك؟ وكيف جئت؟ النقع والسيف! -النقع هو الجلد-. فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين! ألم يقل الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]؟ فأنا غاوٍ! كنتُ ماشياً وراءهم.

الاستسلام لله

الاستسلام لله إن الله خلق الخلق بقدرته، وقدر أقدار الخلائق قبل خلقها، وعلى الإنسان أن يسلم لقضاء الله تعالى وقدره، وذلك بأن يعمل بما أمره الله، وينتهي عما نهى الله عنه، ثم يسلم لما حكم الله به وقدره عليه. والذي ينظر إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، يلحظ طرفاًَ من حكمة الله تعالى في القضاء والقدر، مما يدفعه إلى التسليم والخضوع لله.

من أحكام اللقطة

من أحكام اللقطة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:7 - 9]. أيها المسترشد! لا تنظر تحت قدميك، فإن تحت قدميك سوءَ الحال؛ ولكن بالصبر واليقين. وإذا نظرتَ أمامَك سوف ترى بعينيك جميلَ المآل، فالإنسان في حياته يمر بهذين الطورين ولا بد، ولو معكوساً، إما أن يمر بسوء الحال ثم يجني حسن المآل، وإما العكس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الله على عبدٍ أمنين ولا خوفين، إن أمَّنه في الدنيا أخافه في الآخرة، وإن أخافه في الدنيا أمَّنه في الآخرة). ولو نظرت إلى سيرة الأفاضل الأماثل بدءاً من الرسل، لرأيت أنهم يمرون في حياتهم بسوء الحال، لكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نُبتلى، ثم تكون العاقبة لنا): (نُبتلى): هذا سوء الحال. (ثم تكون العاقبة لنا): وهذا جميل المآل، أي: ما يئول إليه الأمر. وقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ} [القصص:8] يوجد باب في الفقه اسمه باب اللُّقَطَة، أي: مَن وجد شيئاً على الأرض، ليس مِلْكاً له فالتقطه، فلا يظن أنه صار ملكاً له، بل هذا الشيء له أحكام. سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن لُقَطة الغنم، ماذا نفعل فيه؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) أي: إما أن تأخذها، وإما أن يأخذها أخوك؛ صاحبها، وإما أن يأكلها الذئب، فيكون هذا فيه حظ لك أن تأخذها؛ لأن أخاك الذي هي ملكه تاهت عنه، فما بقي إلا أنت أو الذئب، والأصل: إصلاح المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، فلو تَرَكْت خروفاً لذئبٍ افترسه فخذه أنت. وسُئل عن ضالة الإبل فغضب، وقال: (معها حذاؤها وسقاؤها) أي: ما لك وما لها، كأنما قال له: خذ ضالة الغنم ولا تأخذ ضالة الإبل. لماذا؟ لأن الجمل معه حذاؤه -خُفُّه- وهو سريع، يستطيع أن يفر من الذئب والسبع، ثم هو صبور معه سقاؤه، يمكنه أن يظل يومين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أيام بغير ماء، ثم يعثر عليه صاحبه. إذاً: نفهم من هذا أن أموال الناس الأصل فيها العصمة والحرمة، إذ لو تساوت ضالة الإبل مع الغنم لسوى بينهما في الحكم؛ لكن لما افترقت الضالتان من حيث القدرة على الامتناع فكأنما قال لك في ضالة الإبل: اتركها لعل صاحبها أن يجدها؛ ولكن لما كان الغالب على ضالة الغنم أن يفترسها الذئب فحفاظاً على المال قال: (خذه). ثم لا يحل لك ما أخذته مما ليس من مالك إلا بعد أن تعرِّفه سنة، فمثلاً: وجدت ضالة الغنم، عليك أن تعرفها سنة بأي وسيلةٍ من وسائل التعريف التي يحصل بها الإعلان، وليس كما يفعل بعض الناس يكذب وهو لم يعرفه إلا ساعة في العمارة التي وجده عندها، يقول: أضاع الجدي، وأين صاحب الجدي؟! ولماذا سيصعد العمارة؟! فإنه لا يكون إعلاناً إلا إذا تم المراد منه، فهو إما أن يستأجر سيارة، أو ينشر لافتات في الميادين العامة التي تعتبر مظنة ورود أكبر عدد من الناس، أو يلصق على أبواب المساجد من الخارج، أيضاًَ هذا مظنة وجود أكبر عدد من الناس. ثم إذا جاء الرجل يدَّعي أن له حقاً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف عفاصها ووكاءها) العفاص: أنت تعرف أنك عندما يكون معك محفظة، فشكل المحفظة الخارجي اسمه العفاص. والوكاء: مثل الخيط الذي يُشَد به فم القربة، هذا هو الوكاء. فإذا جاء رجلٌ يدعي أن له حقاً، قل له: صفه لي؟ فإذا أتى بالأوصاف على وجهها، أعطيته، وإذا ضل في الوصف فلا تعطه. وإنما شدد النبي صلى الله عليه وسلم علينا في الضالة واللقطة؛ لأن النفس تفرح إذا جاءها الرزق بغير جهد، وكم من إنسان وقع في أزمةٍ مالية، وهو يحلم أن يكون لديه محفظة، أو يجد مثلاً مبلغاً من الفلوس هكذا في الشارع؛ لأن النفس إذا جاءها الرزق بغير جهدٍ فإنها تسعد وتفرح.

من أسرار القدر وحكمة الله فيه

من أسرار القدر وحكمة الله فيه

فرح فرعون بما هو سبب لزواله

فرح فرعون بما هو سبب لزواله نفهم من قوله تبارك وتعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8] مدى الفرحة الطاغية التي أصيب بها آل فرعون لما وجدوا الصندوق، فالتقطوه، فكانت فرحتهم بهذا الصندوق كفرحة المفلس إذا وجد مالاً في الطريق. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاًً وَحَزَناً} [القصص:8] وفي القراءة الأخرى المتواترة: {لِيَكُوْنَ لَهُمْ عَدُوَّاً وَحُزْنَاً} [القصص:8]. Q هل آل فرعون التقطوا موسى ليكون لهم عدواً وحزناً؟ لا. إنما (اللام) في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ} [القصص:8] (لام المآل) و (لام الصيرورة)، أي: أنه يصير لهم في نهاية الأمر كذلك؛ لكنهم يوم التقطوه إنما التقطوه ليكون قرةَ عين: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]. فلو أردنا أن نرتب الآيات بحسب المعاني كان الأمر كذلك: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين وهم لا يشعرون أنه يكون لهم عدواً وحزناً. كما لو قلت: تزوج فلانٌ ليشقى. وهل تزوج ليشقى؟ إنما تزوج ليسعد، فبنى بامرأة سوءٍ أشقته. أو مثلاً كقول الشاعر: لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب لِدُوا للموت؟! فهل الأم التي تعاني آلام الحمل، وآلام المخاض، وآلام الرضاع، وآلام التربية، لو وقر في صدرها أن ابنها يموت عندما ينزل من بطنها ما حملت، إنما حملت وشقيت لتنتظر حياة الولد، ولو كانت تعلم يقيناً أنه يموت عندما ينزل من بطنها ما حملت. فاللام (لام المآل)، أي: ما يئول إليه الحال. وهكذا: اعلم أن أهلك سيدورن في هذا الفلك، فينبغي أن تُسَلِّم لله عز وجل فيما قضى واختار لك: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. انظر إلى الترفع في الآية: (ما كان لهم الخيرة) لأنهم لا يعلمون شيئاً، كم من والدٍ تمنى الولد، فلما رزق الولد وعَقَّه تمنى موته، ولو كان يعلم أن أمره يئول إلى ذلك ما ربَّى ولا تعب ولا أنفق.

طفل رضيع أنطقه الله بما لا تعلم أمه

طفل رضيع أنطقه الله بما لا تعلم أمه رب إنسان تمنى تَلَفَه وهو لا يدري: إن طفلاً رضيعاً بصَّره الله عز وجل فعلَّمنا الحال والمآل، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لم يتلكم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج -وساق قصة جريج - ثم قال عليه الصلاة والسلام: وبينما امرأةٌ تُرْضِع ولدها إذ مر رجلٌ على دابة فارهة وله شارةٌ حسنة)، (دابة فارهة): قوية، نشبهها الآن بأفخم السيارات، وشارة حسنة: -أُبَّهة وعز، رجلٌ في موكب، وابنها يرضع، فعلى عادة الآباء والأمهات يتمنون لأولادهم أفضل مما هم فيه، كل والد يتمنى لابنه أفضل مما هو فيه، وكذلك الأم- فقالت الأم -التي تنظر بنظرة أهل الدنيا- (فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك الولد الرضيع ثدي أمه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثدي أمه يمصه، قال: أبو هريرة: ولَكَأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضع إصبعه في فمه يمصها) وهو يقلد فعل الولد، وهذا فن من فنون الدعوة؛ أن يكون عندك القدرة أن تستحضرَ المشهد وتُجَسدَه للمستمع، حتى ولو عن طريق السؤال والجواب، أو سرد حكاية كنوع من ضرب المثل، المهم أن تتفنن في إيصال المعلومة، وكان هذا دأباً للنبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الدعاة إلى الله عز وجل. ومن بعض ما ذَكَرَ لنا تعلمنا أنه مَرَّ هو وأصحابه على جدي أسَكٍ ميت: فوقف وقال لأصحابه: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسَك مقطوع الأذنين- فقال: أترون هذه هينةً على أهلها؟ -يعني الجيفة- قالوا: أجل، قال: والله للدنيا أهون عند الله من هذا على أهله). فلما سأل وقال: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) كان يعلمُ سلفاً أنه لا أحد يشتريه، إنما يريد أن يستحضر حقارة الدنيا؛ ويقيم الحجة عليهم بألسنتهم، فقد قالوا: (والله لو كان حياً ما اشتريناه) أي: نحن زاهدون فيه حياً وميتاً، فيكون الجواب بعد ذلك: فلِمَ تقتلُ أخاك على الدنيا إذا كانت بهذه الحقارة؟ نور الاستحضار للمشهد! ولذلك ضرب الله الأمثال في القرآن لنا: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. اربط ما بين المثل وما بين الواقع. فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبل على إصبعه يمصها، مع أن الصحابة يعلمون كيف يمص الصبي ثدي أمه؛ لكنها مبالغة واستحضار للمشهد، كما قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فجعل يشير إلى عينه وأذنه، تأكيداً للمعنى، وليس تفهيماً بطبيعة الحال. قال: (ثم مروا بفتاةٍ يضربونها ويقولون لها: زنيتِ، سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت: الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك ثدي أمه، وقال: اللهم اجعلني مثلها. قالت له: حلقاء!) دعت عليه، (حلقاء) أي: أُصِبْتَ بوجعٍ في حلقك، يعني: لماذا تخالفني؟ وما هذا الذي تقول؟ (فقال لها: فأما الرجل الذي يركب دابةً فارهةً، وله شارة حسنة، فإنه جبار من الجبابرة؛ وأما التي يقولون لها: زنيتِ؛ ولم تزنِ، سرقتِ؛ ولم تسرق، فإنها مظلومة). مَن الذي علم هذا الولد الرضيع هذا السر الذي خفي على أمه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، أن تبصرَ بالحال والمآل وتستقيمَ، هذا لا يبصرك به إلا الله.

التسليم لقضاء الله وقدره

التسليم لقضاء الله وقدره لا بد عليك أن ترضى بالقضاء، هذا هو حلك الوحيد، ليس لك حلاً غيره، وأن تُسَلِّم لله عز وجل فيما اختار، ولا تعترض على ربك فيما فعل، فإن الله عز وجل لا يفعل الفعل إلا لحكمة جلت عن أفهام العباد. وصدق إبراهيم الحربي رحمه الله حين قال: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه. أي: فهو ساخط وكاره بصفة متسمرة. ذكر يحيى بن عاصم الغرناطي في كتاب (جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى) عن بعض الكتب الإسرائيلية: أن نبياً من أنبياء بني إسرائيل كان يجلس على قمة جبل، فرأى فارساً وبيده صُرة مال، وأتى على بئرٍ فوضع الصرة على حافة البئر ونزل فشرب، ثم نسي المال وانصرف، فجاء راعي غنم يسقي غنمه فوجد المال فالتقطه، وسقى الغنم وانصرف، ثم جاء رجلٌ شيخٌ كبير، فجاء البئر بعد انصراف الراعي فشرب وجلس، وتذكر الفارس مالَه فرجع، فوجد ذلك الرجلَ يجلس على حافة البئر، قال: أين المال؟ قال: ما أعرف شيئاً، قال: المال معك. ولم يشك الفارس أنه التقط المال، فلما أنكر الرجلُ أخرج الفارسُ رمحاً وقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيُقْتَل البريء ويفر الآخذ؟ فقال الله عز وجل له: إن لي حكمةً جَلَّت؛ أما هذا المال فكان مِلْكاً لوالد الراعي أعطاهُ والدَ الفارس، ولا يدري الراعي ولا الفارس، وأما هذا الذي قُتِل؛ فإنه قتل أبا الفارس، فسلطت ولي الدم عليه، فأخذ بثأر أبيه، فبَكى ذلك النبي وقال: لا أعود! مجرد Q يا رب ما هذا؟ إن لم تسلم بأن الله عز وجل فعال لما يريد، ولا يظلم مثقال ذرة، تسلل إليك الشيطان من هذا الباب. والذين ضلوا في باب القضاء والقدر هم القدرية والجبرية، فِرَق فيها عباقرة، وفيها أناس من أذكياء العالم، لماذا ضلوا؟ لأنهم ولجوا هذا الباب، وهذا الباب بضاعته التسليم والرضا، وليست بضاعته العقل، ولذلك كان هناك فرق واضح بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأجيال التي خلفت بعد ذلك. ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دَفَنَ جنازةً في بقيع الغرقد، وكان بيده مسطرة، فجعل ينقش بها في الأرض، فقال: ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا وكتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! أهذا أمرٌ مضى وجفَّ به القلم أم مستأنَف؟ قال: بل جف القلم بما أنت لاق، وفي بعض الروايات قال سراقة: فلا أجدني أشد حرصاً مني على العمل مثل الآن) ولم يفهم هذا الفهم المعكوس الذي تسرب إلى جماهير المسلمين فسألوا السؤال المنكوس: إذا قدر الله عليَّ المعصيةَ فلِمَ يعذبني؟! وهذا اتهامٌ لله عز وجل، والصحابة لم يكونوا كذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بل جف القلم بما أنت لاقٍ) أي: انتهى وكُتِب عند الله عز وجل: أنك من أهل الشقاوة، أو من أهل السعادة.

قصة الخضر وموسى عليهما السلام

قصة الخضر وموسى عليهما السلام إذاً: سَلِّم لربك، فله العلم المطلق، وهو الذي يعرف الخواتيم، ولا حيلة إلا إذا علَّمك الله، واعتبر بحديث موسى عليه السلام، فهو نبي من أولي العزم ومرسلٌ إليه، ومع ذلك اعترض على الخضر. الخضر علمه الله هذه الآيات، وموسى أفضل من الخضر بالاتفاق، ومع ذلك غاب عن موسى ما لم يعلمه ربه، وكانت رحلة موسى إلى الخضر بسبب كلمة واحدة قالها موسى عليه السلام، فأراد الله عز وجل أن يؤدبه وأن يعلمه؛ ذلك أن موسى عليه السلام كما في الصحيحين: (خطب بني إسرائيل خطبةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، ورقت لها الجلود، فقال رجل من بني إسرائيل: يا نبي الله! أحدٌ في الأرض أعلم منك؟ قال له: لا. فعَتَب الله عليه إذ لم يرجع العلم إليه) أي: لماذا لم يقل: الله أعلم (فقال الله له: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي ربِّ! كيف لي به؟ قال: خذ حوتاً) إلى آخر القصة المعروفة. فالله عز وجل هو الذي علَّم الخضر هذه القضايا وحجبها عن موسى؛ ولذلك بادر موسى إلى الاعتراض بما عنده من العلم، فالغلام الذي قتله الخضر اعترض موسى عليه السلام، وقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74]، أي: فعلتَ شيئاً منكراً! لأن في شريعة الأنبياء أن مَن قتل نفساً يُقتل بها، فقتلَ {نَفْساً زَكِيَّةً} [الكهف:74] وفي القراءة الأخرى المتواترة: {زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] بغير أن يرتكب الطفل جرماً فيُقتل بمقابل المقتول. فأعلمه الخضر أن هذا الولد له أبوان مؤمنان شيخان كبيران، والله عز وجل خَلَقَه كافراً، وسيعيش كافراً، ويشب ويشيخ ويموت كافراً، فما ظنك بأبوين شيخين مؤمنين ضعيفين في بيتٍ فيه كافر متمرد! ماذا نفعل فيهما: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانَاً وَكُفْراً} [الكهف:80]. من الذي يعلم هذه العواقب؟ الله عز وجل، ومَن علَّمه الله عز وجل. وإذ قد انقطع الوحي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى إلا التسليم المطلق لأحكام الله عز وجل والرضا بما يقدره على العبد. ومن أصول الإيمان: الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره. أقول قولي هذا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

العمل بالأسباب والتسليم للقدر

العمل بالأسباب والتسليم للقدر يوم يقول سراقة بن مالك صاحب الفكر المستقيم والعقيدة المستقيمة: (لا أجدني أشد حرصاً مني على العمل مثل الآن) فعلم هذا الموفق: أن العبد منه السبب، والسبب يكون على وفْق ما أراد الله عز وجل، فلا تعارض بين السبب والقدر؛ لأن السبب جزءٌ من القدر. لا تقل كما قال البعض: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] أبداً، لا تقل: لولا أنه خرج من بيته ما مات، كان لا بد أن يخرج ليموت؛ لأن خروجه جزءٌ من القدر، وليس القدر منفصلاً عن السبب: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5 - 6]. هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بعد كلام سراقة: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) يوجد ثَمَّ إعطاء من العبد، {أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6]. إذاً: أعطى، واتقى، وصدق، كل هذا كسبُ العبد وشغلُه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]: هذا هو القَدَر. إذاً: لا يمكن أن يُيَسر لليُسرى إلا إذا أعطى، واتقى، وصدق، فالذين يقولون: إنه كتب علينا النار وأدخلنا النار، وما لنا حيلة، أين هذا؟! هذا مضاد لكلام الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:8 - 12]. إذاً: بيَّن لنا ربنا عز وجل أنه يوجد سبب ممدود منه، وهذا السبب يكون على وَفْق النهاية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قيد شبرٍ- عَمِل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبرٍ- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة). فهذا أيضاً حال ومآل؛ لكنه معكوس لتتم حكمة الله عز وجل، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، وقَبْل أن يموت بشبرٍ يعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، فيَتُوْه العباد، ويسألون: كيف ذلك؟ وأين ذهب هذا العمل في الزمن الطويل؟ أما نفعه هذا الزمن الطويل، ودخل النار في شبر. هنا يُمْتَحَن الذين آمنوا، والذين رق دينهم هم الذين يعترضون على ربهم. ورجلٌ يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراعٍ أو قال: قيد شبر، -يعني: مسافة بسيطة وزمناً يسيراً- عمل بعمل أهل الجنة ودخل الجنة، فأين ذهب عنه السوء؟ فيقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، رجلٌ صلى صلاةً طويلة، قرأ فيها بالقرآن كله، وقبل أن يسلم أخرج ريحاً، فما حكم صلاته؟ باطلة! ورجلٌ صام في يومٍ طويلٍ شديد الحر، حتى إذا كان قبل المغرب أفطر، فما حال صيامه؟ باطل! وأين شقاء اليوم كله؟ ذهب هذا هو توضيح الحديث. وهناك زيادةٌ وَرَدَت في صحيح مسلم تكشف هذا اللَّبس، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس). إذاً: نفهم أن العمل الحسن لم يكن مخلصاً فيه، وكان يرائي الناسَ: (فيما يظهر للناس)، ولذلك خُتِم له بالشقاء؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] أي: أحسن عملاً بالإخلاص ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا هو الإحسان في العمل، فإذا لم يخلص يُخْتَم له بذلك، وإن كان عند الناس محسناً. وكذلك الذي عمل بعمل أهل النار مثل الرجل الذي قتل مائة نفسٍ وخرج إلى الأرض التي أرشده الراهب إليها ليتوب، فما خرج غير بعيدٍ حتى قُبِض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى الأرضَ من تحته، فأوحى لهذه أن تقرَّبي، وهذه أن تباعدي، فقاسوا المسافةَ ووجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد. ماذا فعل؟ قتل مائة نفسٍ، وتوجه إلى أرضِ التوبة، هذا كل الذي فعل، هذا الشبر.

فوائد الذكر

فوائد الذكر الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناءُ الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. نبينا صلى الله عليه وسلم علَّمنا أن نلجأ إلى ربنا عز وجل ونحن في قمة العجز، وذكرنا أن نتلو هذه الكلمات يومياً عدة مرات. كان يعلِّمنا فيقول: (إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فليَنَمْ على شقه الأيمن، وليضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وليقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك، رغبةً ورهبةً إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. قال صلى الله عليه وسلم: فإن مات من ليلته، مات على الفطرة). الأذكار المفرقة: - أذكار الصباح. - أذكار المساء. - دخول الخلاء. - الخروج من البيت. - رؤية الرعد. - رؤية البرق. - رؤية المطر. - رؤية المبتلى. - رؤية الشمس. - رؤية الريح. - رؤية الماء. - النظر في المرآة. - إذا عطست. - وأنت تمشي. كل هذه لها أذكار، كل شيءٍ في الكون تنظر إليه بعينك له ذكر، فحيثما وجهتَ وجهك ذكرتَ، هذه وظيفة الأذكار، وفائدتها أنها سلاحك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يعلمك: (اللهم ألجأت ظهري إليك) لما جاء قوم لوط يُهْرَعون إلى أضيافه، ماذا قال لوط؟ {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوّ َةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، أي: لو أن هناك واحداً يحميه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم معقباً: (يرحم الله لوطاً قد كان يأوي إلى ركن شديد). فهذا هو الركن، وهو ربنا عز وجل، قد كان يأوي إلى ركنٍ شديد.

الأذكار حصن للنائم سلاح لليقظان

الأذكار حصن للنائم سلاح لليقظان وأنت مستيقظ تتكلم ذاكراً لربك، فلا يغلبك شيطانك أبداً، مع أنه أقوى منك جسدياً، وعنده مواهب وإمكانات أعطاه الله عز وجل إياها، ولم يعطِكها، ومع ذلك أنت أقوى منه بالله. كذلك وأنت مستيقظ، إذا كنتَ تقول الأذكار لا يتمكن منك الشيطان. فإذا نمتَ وكَلَّ وتوقف لسانك عن الذكر فكأنك ألقيت سلاحك، وعدوُّك شاهرٌ سلاحَه أبداً، لا يَمَل ولا يَكِل في طلبك وفي اصطيادك، ودَّ الشيطانُ وأعوانُه {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} [النساء:102] الأذكار! {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]. وأنا مستقيظ لا يقدر علي، فإذا نمت، والنوم أخو الموت، وقد ألقيت سلاحي؟! سن لك النبي صلى الله عليه وسلم أن تذكر ربك قبل منامك فيتولى هو حفظُك؛ ولذلك جاء في الحديث: (ألجأتُ ظهري إليك)؛ فإن الإنسان لا يُغتال إلا مِن قِبَل ظهره؛ ولذلك طعنات الغدر لا تأتي إلا مِن قِبَل الظهر، لا تأتي مِن الوجه، تأتي غيلةً وخيانةً وغدراً، وأنا أحتاج إلى أن يُحْمَى هذا الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألجأتُ ظهري إليك)، فأنت في حال المنام آمَنُ منك في حال اليقظة. ولذلك قال بعض العلماء: إن الذي يُبْتَلى بالمس عادةً يُبْتَلى وهو نائمٌ، أغلب حالات المس التي يصاب الإنسان بها يُبْتَلى بها وهو نائم، كشخص مغفل يرمي سلاحه، وعدوه جاهز، ما المُتَصَوَّر؟ أن يغتاله عدوه، فأغلب حالات المس تصيب الإنسان وهو نائم. فكل مرة تنام فيها تقول هذا الدعاء: (ألجأت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك)، (وجهت وجهي): الوجه هنا أو الجهة معناها: يا ربِّ ألجأت ظهري إليك، فاحمني من عدوي في حال حياتي؛ فإذا قضيتَ منامي فوجهي إليك، هذا معنى (وجهت وجهي إليك) وجهي إليك إذا متُّ؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الدعاء: (من مات في ليلته، مات على الفطرة)؛ لأن الشخص يقول: يا رب! وجهي إليك إذا مُت. فهذا الذكر أنت مطالبٌ أن تقوله كل يومٌ، فإذا كنت تقوله كل يوم فمتى تغفل؟! فخلعت حولك وقوتك عندما قلت: (ألجأتُ ظهري إليك فاحمِني)، وخلعت حولك وقوتك وعلمت أنك راجعٌ إلى ربكَ رغم أنفك فقلت طواعيةً: (وجهتُ وجهي إليك). فإذا أذن الله لك في عمرٍ باقٍ فاستيقظت في صباح غدٍ، فأول شيءٍ يلهج به لسانك ذكر من تحب: (الحمد لله، أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). عندما يكون الإنسان بهذا العجز وهذا النقص، فعلمه ناقص، وقدرته ناقصة، وتفكيره ناقص، وقوته ناقصة، وكل صفاته ناقصة، فما باله يدعي كمال العلم، فيعترض على ربه في باب القضاء والقدر؟!

التسليم لنصوص الشرع

التسليم لنصوص الشرع آل فرعون التقطوا موسى ليكون لهم قرة عين؛ لكن الله عز وجل قدر أن يكون عدواً وحزناً، وهم لا يشعرون أنه يكون كذلك، إذ لو شعروا ما فعلوا. وكذلك باب القضاء والقدر، كله يأتي غفلة. ثم ذكر الله عز وجل العلة في هذه العقوبة، والعلماء يقولون: إن النصوص قسمان: - معقول المعنى. - غير معقول المعنى. كل النصوص إما أن تكون معقولة المعنى لك، تفهم الحكمة منها والحكمة من تشريعها، وتعرف لماذا أراد ربك لك ذلك، ولماذا فرض النبي صلى الله عليه وسلم عليك ذلك أو استحبه لك. وهناك نوعٌ آخر لا تعلم الحكمة منه؛ إنما ابتلاك الله به ليرى أتسمع وتطيع أم لا! حركات الصلاة، والحج، والسعي، والطواف، كله توقيفي لم يظهر لنا وجه الحكمة من تشريعه: - تضع اليمنى على اليسرى في الصلاة؛ لماذا؟ لا ندري. - ترفع يديك هكذا تجاه القبلة؛ لماذا؟ ليس عندنا علم. - تضع جبهتك في الأرض بالطريقة الفلانية؛ في السجود مرتين، وفي الركوع مرة؟ لماذا؟ - ما الفرق بين التورك والافتراش؟ ولماذا التفريق بينهما؟ - ولِمَ الإقعاع بين السجدتين؟ ولماذا لا نقعي في غير ذلك؟ كل هذا نقول فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهو صلى كما علمه جبريل، وجبريل صلى كما علمه الله عز وجل. إذاً: هناك نصوص لا ندري لماذا شرعت، إلا التسليم والإذعان والانقياد. ونصوصٌ أخرى فيها العلة. الفرق بين النص الذي أتى بالعلة والذي لم يأتِ بالعلة: أن النص الذي فيه العلة يريح قلبك، وكل الآيات التي فيها عبر وعظات ذكر فيها العلة، حتى تعتبر، فإنه لو لم يذكر لك العلة لم توجد العبرة. لماذا عاقب الله عز وجل فرعون بموسى؟ {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، هذه هي علة العقوبة، لأن هناك من الناس مَن يقول: أنا عبد المأمور، نقول: هذا التعبير غلط، كيف جعلتَ نفسك عبداً لعبد؛ ولكن إذا كنت لا بد قائلاً، وإذا كنت لا بد أن تستخدم هذه العبارة، فقل: أنا عبدٌ مأمور، ولا تقل: أنا عبد المأمور، فأنت والمأمور عبدان لله، إلا العبودية الخاصة أو العبودية العامة، عبدٌ رغم أنفه، حتى لو تمرد فإنه في النهاية عبد. فلو قال لك قائل: اقتل هذا البريء وإلا قُتِلتَ، فلو قَتَلْتَه استحققت القتل، وهذا معنى قول الله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:8]؛ لأن قائلاً يقول: الجندي معذور، لأنه مأمور، فهذه الآية نصٌ في هذا الأمر، والعلماء لهم في هذه المسألة تفصيل، (الشيء الذي يعذر به والشيء الذي لا يعذر به). فهذا إن شاء الله نقف عليه بعد ذلك. أقول قولي هذا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الأمر بالمعروف

الأمر بالمعروف إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل أصيل في دين الإسلام، وسبب من أسباب حفظ الأمة من العقاب العام، يجب على المسلمين أن يعرفوه بشروطه وآدابه، ويمتنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا جر ذلك إلى مفاسد أشد مما هو موجود؛ فعلى المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما علم، إذا كان مستطيعاً لذلك، قادراً على التمييز بين المصالح والمفاسد المترتبة على أمره ونهيه.

المقصودون بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)

المقصودون بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن المتأمل في سيرة سلفنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يستشعر معنى هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]. ((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) هناك جماهير من المفسرين يقصرون هذه الآية على جيل الصحابة فقط؛ لأنهم هم الجيل الفريد الذي حل هذه الأرض، فلا يوجد جيل مثلهم، وفتشوا إن أردتم أو إن استطعتم عن جيل له هذه الخصائص والمميزات التي كانت لجيل الصحابة رضي الله عنهم. انظروا إلى أصحاب أي نبي آخر، ثم انظروا إلى أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنوا؛ فلن تروا نسبة أبداً بين أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب غيره من إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. لذلك مدحهم الله عز وجل، ومن مدحه الله فهو ممدوح على الحقيقة، بخلاف مدح بني آدم، فقد يمدح الرجل وهو منافق؛ لأنك لم تسلط على قلبه، ولا تعرف خباياه ولا حنايا صدره. أما الله تبارك وتعالى فإذا مدح رجلاً فهو الممدوح على الحقيقة، وإذا ذم رجلاً فهو المذموم على الحقيقة، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فهو يصف هذا الجيل الفريد بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، و (الناس) هنا لفظ عام، يشمل الناس جميعاً، فيقال: كانوا خير أمة أخرجت من لدن آدم حتى قيام الساعة. والناظر في تصرفات الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يرى أنهم خير أمة فعلاً. وأنا أسوق مثلاً واحداً، وقد أتبعه بمثال آخر أو أكثر على حسب الحاجة؛ لنتبين حال أولئك الأخيار.

قصة الثلاثة الذين خلفوا ودلالتها على خيرية الصحابة وتميزهم

قصة الثلاثة الذين خلفوا ودلالتها على خيرية الصحابة وتميزهم تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك، وكعب هذا كان رجلاً أميراً في الجاهلية، فلما أسلم صار من عوام البشر، وعانى الفقر أيضاً برغم أنه كان أميراً لقد خرج من ماله ومن داره، وأرجو أن تتصور: خرج من ماله! على حد قول بني إسرائيل لبعض أنبيائهم {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]، والمتأمل يعلم أن كلمة (أبنائنا) معطوفة على (ديارنا) مكسورة، فكأنه أخرج من داره وأخرج من ولده، وكيف يخرج من ولده؟ أي: ينسلخ. وهذا يبين عظم المصيبة التي يعانونها أُخرج من داره ومن ولده، كأنما اختطف ولده منه فأخرج منه، لقد كانا كالشيء الواحد فانفصما، فـ كعب بن مالك مثال لواحد من الصحابة الذين خرجوا من ديارهم وأموالمه، وقد تخلف عن غزوة تبوك، ولم يتخلف لكونه يستهين بالغزو، إنما تخلف لشيء عرض في نفسه، وظن أنه يدرك الغزو، ففشل في ذلك. لقد كان له بستان أو حائط، وقد أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الغزو، فكان يذهب إلى البستان وينظر هل أينعت ثمرته فيقطفها قبل أن يغزو أم لا، فما زال يروح ويجيء، وكان قد جهز راحلتين قبل الغزو، وهذا مما يبين أنه جاد في أن يغزو، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه خرجوا إلى الغزو وهو يقول: غداً أقطف الثمر، فيذهب غداً فيقول: بعد غد حتى يطيب، ثم يقول: أنا قادر على اللحاق بهم إن أردت؛ لأن معه راحلة قوية، فما زال يمني نفسه أنه سيدركهم، حتى تفارط الغزو، وأيقن أنه لن يدركهم. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه -لأنه كان رجلاً أميراً، فإذا لبس شملة أو بردة تكبر فيها واختال ونظر إلى أكتافه من العجب- فقام معاذ بن جبل وقال له: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً. فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو، جاء المعذرون من الأعراب يعتذرون، ويبدون أعذاراً واهية: إن بيوتنا عورة أنا ضعيف أنا رجل إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت إلى غير ذلك من الأعذار الواهية، ويحلفون على ذلك، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل. فجاء كعب بن مالك واثنان آخران معه ممن صدقوا واعترفوا أنه لا عذر لهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وكان هلال بن أمية ومرارة شيخين كبيرين، بخلاف كعب بن مالك فكان أشد منهما سمعا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غضب عليهما، لأنهما لم يعتذرا بشيء. حتى جاء كعب، قال: (فدخلت المسجد، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لي تبسم المغضب، وقال: ما خلفك؟ ألم تعد راحلتين؟! فقلت: يا رسول الله! والله لو كنت عند غيرك من أهل الدنيا، لرجوت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -رجل جدِل يستطيع بحلاوة لسانه أن يقلب الحق باطلاً- وأوشك إن حدثتك بحديث كذب ترضى به اليوم عني؛ أن يسخطك الله تبارك وتعالى علي، فوالله ما كان لي من عذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق). يقول العلماء: لهذه العبارة مفهوم آخر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق)، فكأنه يشير إلى أن المنافقين الذين قبل علانيتهم لم يصدقوا، وإلا فما معنى تخصيص كعب بن مالك بالصدق دون كل أولئك؟ فمفهوم المخالفة منه: (وأما الآخرون فقد كذبوا). لكنه صلى الله عليه وسلم يعلِّم الأمة أنه لا يجوز لأحد أن يستطيل على قلب أحد، ولا أن يحكم على الذي فيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحد يعلم الغيب لكان هو أولى الناس بأن يعلم الغيب، فهذا تشريع، والنبي عليه الصلاة والسلام يسُن لمن يأتي بعده فيحكم على منواله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (قم حتى يقضي الله فيك)، هذه قضية واحدة من مئات من القضايا التي تحدث كل يوم. فانظر إلى جيل الصحابة فقد منعهم النبي صلى الله عليه وسلم من كلام أولئك الثلاثة، وليس عليهم رقيب إلا الله تبارك وتعالى، قال كعب: (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، فألقي السلام فلا يرد أحد). ولعل قائلاً يقول: إلقاء السلام واجب، فكان المفروض أن يؤدى هذا الواجب إلى كعب. فيقال: إنهم أخذوا النهي على إطلاقه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا)، فيشمل كل كلام، بما فيه إلقاء السلام، وهذا هو الفهم الحق: أنك إذا نهيت عن شيء فتنتهي عن كل مفرداته، إلا أن يأتيك دليل خاص يخرج هذه الجزئية من النهي العام. ولماذا هذه القاعدة غير مفهومة لنا؟ لأننا بالنسبة لديننا أعاجم، بالنسبة للغة العربية أعاجم؛ فترى المرء منا يسمع كلاماً ولا يعقل معناه، برغم أنه بلسان عربي مبين! أعرف كثيراً من الناس حفظوا قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] يحفظها وهو ابن سنتين أو ابن ثلاث، ويموت وهو لم يعرف ما هو الغاسق وما معنى (وقب)، حفظها ومات ولم يعرف معناها. لذلك فسوء الفهم بالنسبة للغتنا العربية ينجر على جميع النصوص؛ إذ هي بالعربية أيضاً. (نهى عن كلامنا أيها الثلاثة) فينتهي المسلمون جميعاً حتى عن رد السلام الواجب، (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، وألقي السلام فلا يرد أحد). وأبلغ من ذلك: أن كعباً يقول: (فكنت أدخل المسجد فألقي السلام، فأتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) عقوبة. قال كعب: فلما ضاقت علي الحال، وكنت كما وصف الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]، لما ضاقت عليه الحال ذهب إلى بيت ابن عمه وأحب الناس إليه، وهو أبو قتادة الأنصاري، وكان في بستان، قال كعب: فتسورت الحائط -أي: تسلقته- فنظرت فإذا أبو قتادة مسند ظهره إلى الحائط، وليس إلا أنا وهو، فقلت له: السلام عليك يا أبا قتادة! فوالله ما رد علي السلام أين هذا الجيل؟! أين هؤلاء الناس؟! مع أن كعباً يقول: وليس إلا أنا وهو، حتى لا يقال: إنه مرائي، أو إنه يخاف من أحد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رد عليه، قال: فقلت له: نشدتك الله يا أبا قتادة! أما تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فلم يرد عليه، فكررها عليه ثلاث مرار: نشدتك الله! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟! ذنب واحد فقط ارتكبه كعب بن مالك. فقال له أبو قتادة: الله أعلم! قال كعب: ففاضت عيناي. ونزل مكسور القلب، فبلغه أمر آخر وهو أن يعتزل امرأته يعتزل امرأته!! هل كفر؟! لأنه لا تطلق المرأة إلا بيمين طلاق أو إذا كفرت أو إذا كفر الرجل! فاعتزلها. وظل خمسين ليلة يعدها عداً حتى جاء الفرج، ونزلت توبة الله تبارك وتعالى عليهم، فجاء رجل يركب فرساً بعد صلاة الفجر، وكان كعب يصلي الفجر على سقف البيت، قال: بينما أنا أصلي إذ سمعت صوتاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك! فسجدت. لم يكن يعلم من أين الصوت ولا من قائله، فقد كان رجلاً يركب فرساً، وكان الصوت أسرع من الفرس، يقول: أبشر يا كعب بن مالك بتوبة الله عليك! قال: فلما جاءني الرجل خلعت عليه ثوبي، ووالله ما أملك غيرهما -من الفرح- واستعرت ثوباً، وذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما إن دخلت المسجد حتى قام إلي طلحة بن عبيد الله فالتزمني، وهنأني بتوبة الله علي، فوالله لم يقم غير طلحة، ولست أنساها لـ طلحة، وأقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم طلعت عليك فيه شمسه). فقال كعب: إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل قال كعب: فما أعلم أحداً ابتلي بصدق الحديث ما ابتليت أنا، ووالله ما كذبت قط منذ هذه. لماذا لم يكذب؟ لأنه لما صدق برأه الله عز وجل، رأى العاقبة، ثم في المقابل رأى عاقبة المنافقين الذين ذمهم الله عز وجل برغم قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلانيتهم. قال: وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي من عمري. انظروا في هذه القصة! موقف واحد يؤمر المسلمون فيه بأمر فينصاعون جميعاً، حتى وإن كانوا كارهين. كعب بن مالك ابن عم أبي قتادة، وأبو قتادة أحب الناس إليه، كان يمكن أن يقول له: لا تقنط من رحمة الله، لا تيئس، سيجعل الله لك فرجاً، ويبشره، وهناك نصوص كثيرة عامة في التبشير، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بشروا ولا تنفروا)، لكنه أبى، وامتثل للأمر مع كونه لا يحب ذلك. وهذه هي طبيعة المسلم: أن يكون كالجمل الأنف، حيثما قيد إلى الخير وإلى البر انقاد، وأن يضع حظ نفسه على الأرض فيدوسه؛ لأن حظ النفس مخلوط بكبر وعجب واعتداد بالرأي، فحظ نفسك ضعه تحت قدمك وكن كالجمل الأُنف. ولو نظرت إلى مفردات معاملات الصحابة لوجدتهم فعلاً كانوا خير أمة أخرجت للناس. انظر إلى المسلمين اليوم، أهؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟! أهؤلاء خير أمة؟! معاملاتهم رديئة المنكر موجود الحرام موجود، وكل امرئ يخشى، يريد أن يقبع في الجحر.

المواصفات المؤهلة للخيرية

المواصفات المؤهلة للخيرية لقد ذكر الله تبارك وتعالى عقب قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] المواصفات التي جعلت هؤلاء الناس خير أمة، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فذكر تعالى هذا الأصل الأصيل الرصين، الذي يجب على المسلمين أن يعرفوه بقيوده وحدوده، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أصالة المعروف وطروء المنكر

أصالة المعروف وطروء المنكر (تأمرون بالمعروف) لأن هذا هو الأصل، (وتنهون عن المنكر)؛ لأنه طارئ على الأصل، إذ الأصل في الناس العدالة، والأصل في الناس هو الإيمان والإسلام، والشرك والكفر أمر طارئ على الأصل؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). والفطرة هي الإسلام، فمعنى الحديث: أن المولود يولد على الإسلام، يولد وقد أخذ الله عز وجل عليه الميثاق، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} ميثاق الفطرة {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:172 - 173]، فهذا ميثاق الفطرة، ولذلك يولد المرء على فطرة الإسلام. فحينما يشهد الرجل على نفسه أن الله تبارك وتعالى هو باريه -هو خالقه- ثم يأتي بعد ذلك يشرك، فإن هذا دليل على أن الشرك طارئ على هذا الأصل إذا قُدم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر لسببين: السبب الأول: أن الأصل هو الأمر بالمعروف، والمنكر طارئ. السبب الثاني: أنه لا يمكن أن يكون هناك إنكار إلا بخروج عن معروف، أي: بخروج عن الأصل. والأصل هو المعروف، كما قلنا: إن الأصل هو الإسلام أو الإيمان، والشرك طارئ، كذلك المسلمون عدول كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطابه إلى أبي موسى الأشعري: (المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور)، فالأصل هو الأمر بالمعروف؛ لأنه طريق الجنة، والنهي عن المنكر إنما يكون بعد أن يخرج الإنسان من ربقة فعل معروف إلى فعل منكر.

ذم أهل الكتاب لتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ذم أهل الكتاب لتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقد ذم الله عز وجل بني إسرائيل فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، لا ينهى بعضهم بعضاً عن منكر اقترفه بعضهم، (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، ولذلك يقول تعالى في تمام الآية التي نحن بصددها: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110]، (لو آمن أهل الكتاب) أي: لو فعلوا مفردات الإيمان -وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]، فلم يقل: (وأكثرهم الكافرون)؛ لأن الذي يترك النهي عن المنكر مع القدرة على إنكاره لا يكون كافراً، إنما يكون فاسقاً.

حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربع درجات: أن تنهى عن منكر فيحصل ضده فهذا مشروع. أن تنهى عن منكر فيقل فهذا مشروع، وإن لم يزل بالكلية. أن تنهى عن منكر فيحصل لك القدر الذي تنهى عنه فهذا محل اجتهاد. أن تنهى عن المنكر فيحدث أشد منه فهذا محرم). وهذه الدرجات مهمة جداً في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر. فالدرجة الأولى مشروعة، وقد تكون واجبة، وهي إذا أنكرت المنكر فحصل ضده، أي: المعروف، كقصة البئر التي حكاها أبو شامة رحمه الله قال: كان بعض العلماء من السابقين يمر ببعض الطريق، فإذا أناس كثيرون حول بئر، ومعهم أطفالهم، فسأل: ما بال هؤلاء الناس؟! وما بال البئر؟! فقالوا: إن في هذا البئر بركة، والناس كلما مرض أحدهم جاء إلى ماء هذا البئر فانغمس فيه، فسكت العالم، ثم جاء من الليل ومعه أصحابه وردموه، ولما انتهوا من ردمه أُذن للفجر، فأذن على هذا البئر وأقام الصلاة، وقال: اللهم إني ردمتها لك، فلا ترفع لها رأساً، فلم يرتفع لها رأس. فقد كان هؤلاء الناس يشركون بالبئر؛ فهذا منكر تستطيع أن تغيره بضده، فهذا مشروع. وهناك نوع من المنكر لا تستطيع أن تزيله بالكلية، لكنك إن حاولت في إنكاره خف المنكر، وهذا أيضاً مشروع. وهناك نوع من المنكر إذا أنكرته حصل من المفسدة ما يساوي هذا المنكر الذي أنكرته، فهذا محل اجتهاد، فالعالم يوازن بين المصالح والمفاسد في هذا الأمر، فإذا استوى طرفاه احتجنا إلى مرجح. فهل ننكره أم لا ننكره؟ هو محل اجتهاد، فكل واقعة من هذا الضرب تحتاج إلى فتوى مستقلة؛ حتى نعرف كل الملابسات والظروف التي تحيط بهذا المنكر. والنوع الرابع الذي أفتى ابن القيم رحمه الله بتحريمه: هو النوع الذي لا يستوي طرفاه، وهو الذي إذا أنكر المنكر وقع في منكر أشد منه، لأن الشريعة أتت بدفع المضار والمفاسد، والشرع يقول: إن كان هناك أمران لا بد أن تختار أحدهما، وكانا مضرين، فاختر أقلهما ضرراً؛ فإن اختيار أخف الضررين عند نزول البلاء هو الأصل في الشريعة. وحكى ابن القيم رحمه الله حكاية ابن تيمية المشهورة في هذا الأمر فقال: سمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: (بينما أمشي أنا وبعض أصحابي في زمان التتار، إذ وجدناهم يشربون الخمر -سكروا- فأنكر بعض أصحابي عليهم، فقلت له: إن إنكارك منكر؛ لأن الله تبارك وتعالى نهى عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء الخمر تصدهم عن سبي الذراري وقتل النفوس). فانظر إليه ما أفقهه رحمه الله تعالى! ولم يغب عن باله أبداً أن الخمر حرام، لكنه نظر بعقل الرجل الفاقه لدينه، العالم بنصوصه، العليم بمقاصده. شرب رجل خمراً فسكر، هذا الرجل إن كان الخمر يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، فهذا هو المنكر في الأمر، ويجب أن ينكر عليه، فإن كان في مثل حال الذين مر عليهم شيخ الإسلام: رجل عدو، إن أفاق قتل وسبى النساء وقتل الذرية؛ فشرب الخمر أهون؛ لأنه لا يتعداه إلى غيره، إنما القتل يتعدى إلى الغير، إلى إزهاق النفس. فهذه الدرجات الأربع يجب على المسلم أن يضعها نصب عينيه.

الشروط المطلوبة في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر

الشروط المطلوبة في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا توفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون قادراً على إنكار المنكر. الشرط الثاني: أن يكون عالماً بالفرق بين المعروف والمنكر. وهذا شرط مهم جداً، فلقد رأينا أناساً ينهون عن الواجب وعن المعروف وليس عن المنكر لماذا؟ لأنهم يظنونه منكراً. رجل جاهل، لا يعلم أن هذا من الواجب أو من المستحب، أو على الأقل من المباح، فقد رأينا أناساً ينهون عن الصلاة قبل صلاة المغرب -أي: بعد الأذان- ويغلظون ويشددون جداً في هذا الأمر، ويقولون: المغرب غريب. ونحن أسعد الناس بالدليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم (صلوا قبل المغرب ركعتين)، ثم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين)، ثم قال في الثالثة: (صلوا قبل المغرب لمن شاء)، فلولا هذه الجملة الأخيرة لكانت الصلاة قبل المغرب واجبة. وترى أحدهم ينكر عليك أشد الإنكار أن تطيل شعرك، مع أن إطلاق الشعر مباح، وبعضهم يجعله مستحباً بشرط أن يعتني به، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من كان له شعر فليكرمه)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب شعره إلى منكبه، فهذا مباح أو من سنن العادة على أقل تقدير، فيقع هذا المسكين في إنكار ما هو معروف، في حين أنه يرى الذين يطوفون حول القباب والقبور، فيزعم أن هذا ليس من الشرك. فلا بد أن يكون الرجل عليماً بالفرق بين المعروف والمنكر. ولذلك فإن كافة العلماء متفقون على أن الجاهل لا يجوز له أن ينكر المنكر؛ لأنه بجهله قد يقع في منكر أشد منه.

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس بعد ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان). فإذا رأيت المنكر فغيره بيدك، فإن عجزت عن تغييره بيدك فانزل إلى الدرجة الثانية، فإن عجزت فانزل إلى الإنكار بالقلب الذي ليس لأحد سلطان عليه، ولا يظهر إنكار القلب، فإن لم ينكر المسلم والحالة هذه، فاعلم أنه كافر أو فاسق والعياذ بالله! وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (وليس بعد ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان)، أي: أنه إذا رأى المنكر فلم ينكره بقلبه؛ كان ذلك دليلاً على أنه يعرف المنكر ويستمرئه ويحبه، وهذا -والعياذ بالله- قد يفضي به إلى الكفر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

منزلة العلم وكيفية الحصول عليه

منزلة العلم وكيفية الحصول عليه طلب العلم من أسمى الغايات، ومن أنبل الأهداف التي تصرف في سبيلها الأعمار، فالعلم هو ميراث النبوة، ولكن لا ينال العلم بطّال ولا كسول، إنما يناله رجال هممهم جاوزت قمم الرواسي ولامست السحاب، فألزموا أنفسهم الصبر الجميل في هذا المسلك الطويل، وحملوا عصا الترحال ليبلغوا العلم في مكامنه، وقصدوا من سبقهم في هذا المضمار فوقروه، وعرفوا له ولعلمه قدره فرفعوه.

العلم هو ميراث الأنبياء

العلم هو ميراث الأنبياء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. ليس هناك خلاف بين أحد في أن أشرف موروث هو العلم؛ ذلك لأنه ميراث الأنبياء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، ذلك أن للعلم حُسناً ذاتياً، فهذا هو ميراثهم. كما روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند قال فيه الحافظ المنذري إنه حسن إن أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى السوق فقال للتجار هناك: ما أعجزكم يا أهل السوق! أنتم هنا والناس يقتسمون ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فتركوا تجارتهم وهرعوا إلى المسجد، فدخلوا فوجدوا الناس بين مصل وبين ذاكر وبين متفقه، فوقف ينتظرهم، فلما رجعوا قالوا له: ما وجدنا شيئاً يقسم في المسجد. فقال لهم: وما وجدتم؟ قالوا: وجدنا الناس ما بين مصل وذاكر ومتفقه. قال: ذلك ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو الميراث الذي يجب أن يحرص عليه الناس ليورثوه أبناءهم؛ إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يغبط المرء إذا حصّله هو العلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).

معنى حديث (لا حسد إلا في اثنتين)

معنى حديث (لا حسد إلا في اثنتين) ليس هناك شيء يحسد المرء لأجله إلا هذين فقط: العلم والمال، لكن المال لا يحسد لأجل ذاته أبداً، ما حسد صاحب المال إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، وإلا فصاحب المال المتعالي عن العلم مذموم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل. ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رحمه، ولا يعرف لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء). فأنت ترى الرجل الأول آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال عليه الصلاة والسلام في الرجل الأول: (فذلك بأفضل المنازل)، وقال في الرجل الثالث: (فذلك بأخبث المنازل)، فما الذي رفع الأول ووضع الثالث؟ لا شك أنه العلم؛ لأن الأول عنده علم ومال، والثالث عنده مال فقط، فعندما تأخذ القاسم المشترك بينهما تجد الأول متفرد بالعلم، فالذي رفع هذا إلى أفضل المنازل وحط ذاك إلى أخبث المنازل هو العلم. فلذلك صاحب المال الذي يُحسد ليس هو صاحب المال المحض فقط، ما حسد هذا الرجل إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، ولا يستطيع الرجل أن يسلطه على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، أو طالب علم، أو يصاحب عالماً، هذا لابد منه، إما أن يكون عالماً كالرجل الأول، وإما أن يكون طالب علم، أقل شيء أن يعرف البيوع المنهي عنها والتي يجوز أن يتبايع بها.

متى يكون العلم واجبا عينيا؟

متى يكون العلم واجباً عينياً؟ معرفة فقه البيوع فرض عين على التجار، لا يعذرون بجهلهم في هذا الباب، طالما أنه دخل في التجارة لا بد أن يدرس فقه البيوع دراسة جيدة، وهو ليس فرضاً عينياً علي مثلاً، فإن فرائض الأعيان بعد المتفق عليه، بعد معرفة التوحيد ومعرفة تصحيح العبادات وهذه الأشياء، هناك أشياء تتفاوت، ممكن تكون فرضاً عينياً على إنسان، وفرضاً كفائياً على رجل آخر. فالرجل صاحب المال إما عالماً وإما طالب علم، وإما أن يكون ملاصقاً لعالم يستفتيه ويستشيره، فهذا الإمام البخاري كان والده تاجراً، وقد بارك الله تعالى له في تجارته، فقال لابنه -الإمام البخاري - أثناء الموت: يا بني! تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة، لم يقل: ما أعلم درهماً حراماً، لا، الرجل بعيد، لأن المناطق ثلاث: منطقة الحلال المحض، ثم منطقة الشبهة، ثم منطقة الحرام، فما بين الحلال والحرام منطقة واسعة جداً، وهي منطقة الشبهة، إذا قفزت السور من باب الحلال ودخلت في الشبهة فأنت تقترب شيئاً فشيئاً من الحرام، لكن الرجل لو اتقى الشبهة يظل في منطقة الحلال المحض، بينه وبين الحرام مفاوز بعيدة. والد الإمام البخاري ليست له رواية، ولو كانت له رواية لكان ابنه الإمام البخاري روى عنه وأثبت له رواية، فما الذي أوصله لهذه المرتبة؟ ليس عنده درهم فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لأنه كان ملاصقاً للعلماء، دائماً يمشي مع العلماء، ولقد كان يصاحب سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والواحد من هؤلاء يزن بلداً، فهو حين يلتقي بهؤلاء جميعاً كلما عنَّ له شيء فيه شبهة يسأل العالم: أفعل أم لا أفعل؟ أو هل فيه شبهة أم لا؟ فيقول له، فانتفع بصحبة العلماء إذ لم يكن مؤهلاً لأن يكون عالماً. فلأن حسن العلم ذاتي، وأن العلم هو الحكمة، كما فسرته الرواية الأخرى: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) وفي الرواية الأخرى: (رجل آتاه الله العلم) فالعلم هو الحكمة، والحكمة حسنها ذاتي، ولذلك عندما تقرأ قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، انظر الترتيب الجميل، لم يقل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة)، لأن الحكمة حسنة في ذاتها فلا توصف بها أصلاً، لكن الموعظة يمكن أن تكون جافة، فمثلاً قد يخرج عليك رجل غليظ الرقبة يتهجم ويشتم وهو يعظ، وحين يخوّف بالنار ينسى أنه من البشر أيضاً، ويندد بالمعاصي التي قد يكون هو مقيماً على بعضها، فلذلك لما ذكر الله عز وجل الموعظة وصفها بالحسنى، ولأن الرجل قد يعظ بدون شد وجذب، فوصفها بالحسن، وفي أثناء الجدال أمرك بالأحسن، لا بالحسن فقط، لأن الجدال فيه أخذ ورد، وفيه حظوظ للنفس، فالإنسان حين يذهب ليناظر إنساناً، فإنه يكون حريصاً جداً أن يغلبه ويسحقه ويقيم عليه الحجة، وهذا مما هو مركوز عند الإنسان، أعني حب الظهور، ولذلك عندما تغالب نفسك تؤجر؛ لأنك تجاهد ما هو مغروز فيك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) دل هذا الحديث على أن المركوز هو ألا تحب لغيرك ما تحب لنفسك، لذلك كلما غالبت وتعبت ارتقيت، فالمركوز في النفس هو محبة العلو، لاسيما بسلطان العلم، فحروف العلم وسلطانه أشد من سلطان المال والجاه، العلم سلطانه شديد جداً، لذلك الذي يُحرم الأدب والإخلاص في العلم يكون وبالاً عليه. لقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أقوام فقال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] فتستعجب من هذا الرجل! المفروض أن العلم يضيء لصاحبه، فكيف إذاً ضل؟! نقول: إن عماه حصل من داخله، وإلا فالمصباح موجود، فمثلاً: أنت لو رأيت رجلاً معه مصباح، وهو (يمشي) وكلما واجه حفرة وقع فيها، بل لو فاتته حفرة يرجع حتى يقع فيها مرة أخرى، إذاً فالرجل لا يمكن أن يكون مستفيداً بنور الكشاف الذي معه، لأن عماه داخلي. فسلطان غرور العلم شديد جداً، لذلك العلماء وضعوا آداباً لطالب العلم، فهو إذا لم يتق الله عز وجل، ولم يخلص النية لله كان وبالاً عليه، فـ ابن العميد كان صاحب الوزارتين، أي: كرئيس الوزراء في أيامنا، يقول: شهدت مرة مناظرة بين الطبراني وأبي بكر الجعابي، فكان أبو بكر يغلبه بدهائه والطبراني يغلبه بحفظه، فهما طرفا رهان، فهم متساويان، لم يغلب أياً منهما الآخر في المناظرة، فـ أبو بكر الجعابي قال له: عندي حديث ليس في الدنيا لأحد غيري. قال له: وما هو؟ قال: حدثني أبو خليفة، قال: حدثني سليمان بن أحمد، قال: حدثني فلان عن فلان وساق حديثاً. فقال له الطبراني: أنا سليمان بن أحمد، سمعه مني أبو خليفة فخذه مني عالياً. قال: فاستحى الجعابي وفرح الطبراني، فتمنيت أن لم تكن الوزارة لي وفرحت كفرح الطبراني. لما قال له: أنا سليمان بن أحمد، يعني الحديث عند الطبراني، وهو أخذه بواسطة عن الطبراني أيضاً: أبو خليفة عن الطبراني، قال له: لا، خذه مني مباشرةً عالياً، فالعلم حسنه ذاتي، كذلك يكون الغروبة شديد ولذلك قال علي بن أبي طالب (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه). تجد بعض الناس يدعي من العلم ما ليس له، في أي منحى من مناحي الحياة، ولو عيرته بالجهل لغضب، لكن لو وصفته بأي نعت آخر لا يهتز، لو قلت له: يا فقير، يقول لك: الأنبياء أغلبهم فقراء، ولازال الفضل موجوداً في الفقراء، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، ويظل يعدد فضائل الزهد والفقر فيغلبك. ولو قلت له مثلاً: أنت لست ملكاً. يقول لك: كم من أهل الأرض كان ملكاً، الأنبياء لم يكونوا ملوكاً، خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: لا عبداً رسولاً، فترك الملك، إذاً: وجود الملك ليس من العلم. فقد يستطيع الرجل أن ينصب أدلة على أن عدم وجود هذه الصفة فيه أفضل، إلا ما يختص بالاتصاف بالعلم.

الشروط اللازمة لطلب العلم

الشروط اللازمة لطلب العلم إذاً: طالب العلم كيف يصل؟ نحن الآن بعدما سمعنا هذه المقدمة تحمسنا ونريد أن نكون طلاب علم، هل هناك آداب وشروط لطالب العلم ينبغي أن يسلكها حتى يصل؟ أقول: نعم، هذه الشروط نظمها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في بيتين من الشعر، فقال: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان هذه هي الصفات الست التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم ليصل. وبعض الطلاب يطلب العلم منذ سنوات، ومع ذلك لم يقتنع بالقدر الذي حصله! لأن الخلل في هذه الشروط يورث خللاً في التحصيل، لذلك إذا التزم الإنسان بهذه الشروط ونفذها تنفيذاً حسناً، فإن تحصيله يكون حسناً. أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان

الصبر على طول زمان الطلب

الصبر على طول زمان الطلب إن العلم بحر واسع جداً، وإتقان الباب الواحد من العلم يحتاج إلى عمر، فلا يستوي في العلم من أمضى نصف قرن مع من أمضى خمس سنوات، لاسيما أن هناك شيئاً يذكره العلماء اسمه الذوق والملكة، والذوق هذا غير ذوق الصوفية، ولا تحصل من الكتب، وإنما تحصل من الدربة والممارسة، ولذلك الإنسان يتعجب حين يرى بعض الصغار يتكلمون في المسائل الكبيرة التي يتهيب الكبار عن الكلام فيها! يدخل على مسألة عويصة جداً تحتاج إلى عمر! يا أخي! إذا شككت في مسألة فضع علامة استفهام وابحث، وعندك عمر طويل، لماذا تتعجل بوضع العنوان للكتاب قبل أن تكتب حرفاً فيه؟! لاسيما إذا كان هذا الإنسان لم يسبق إليه بل هو مجرد فهم فهمه، فهذا ينبغي أن يشفق على نفسه، وينبغي أن يعرف أنه لم يريّش بعد فكيف يطير؟! فالذي له باع في الاستقراء يكون أقرب إلى إصابة الحق من الأقل، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، وهو كان من أئمة الدنيا في علم الحديث، شهد له بذلك المخالف والموافق، منهم الغماريون الذين هم المغاربة، وهؤلاء معروف أنهم مبتدعة، وأهل طريقة صوفية، ولديهم خبط كثير في العقيدة وفي السلوك والمنهج. أحمد أبو الخير -الذي توفي، وكان من أقران الشيخ أحمد شاكر - لمّا ذكر الألباني -وكان الألباني آنذاك ابن أربعين سنة- ومعروف أن أحمد الغماري كان يرى أن الألباني مبتدع ووهابي، وكان يقول هذا في الخطاب الذي أرسله إلى صاحب له هنا في القاهرة، بشأن الألباني وما كان بينه وبين الحبشي هذا الضال المضل، الذي هو في لبنان الآن، ولعله قارب المائة، وكان هناك نقاش علمي بين الشيخ الألباني والحبشي في ذلك الوقت، فـ أبو الخير أحمد الصديق الغماري يكتب رسالة لصاحبه في مصر عن هذين الرجلين: عن الحبشي وعن الألباني قال له: أما الحبشي فينقل كما ينقل الناس، وأما الألباني فمن الأفراد في معرفة الفن، لكنه وهابي خبيث. فبرغم أنه مخالف له ووصفه بأنه وهابي خبيث، إلا أنه لما جاء في ذكر علم الحديث قال: إنه من الأفراد، وكان ابن أربعين سنة أو يزيد قليلاً، فكيف بما حصله الشيخ من العلم في أربعين سنة أخرى. نحن نقول: إن الشيخ الألباني ليس بمعصوم، وله أخطاء هو يعرفها ويعرفها الناس، والله تبارك وتعالى لم يعط أحداً أماناً من الغلط فنستنكف له منه، بل وصف عباده بالعجز وقرنهم بالحاجة، فقال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. لكن نقول: إنه من جهة التفصيل فقد يكون الحق مع الصغير، لا ننكر هذا، فقد يكون الشيخ قد صحح حديثاً أو ضعّف حديثاً أو حسّن حديثاً، فيأتي من هو أقل منه -وقد يكون من تلاميذ تلاميذه- يتعقبه، ومن الممكن أن يصيب ويكون الحق معه؛ لكني الآن أريد أن أتكلم في الجواب المجمل، أما الجواب المفصل فأمره يطول، الجواب المجمل: إذا كان هناك مسائل مختلف فيها، كأن يتكلم في حديث مثلاً: هل هو حسن أو ضعيف؟ أنت تعرف أن الحديث الحسن -بالذات الحسن لغيره- هذا شأنه مثل اللبن {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل:66]، على حسب عمر ومهارة وذكاء ودربة المحسّن، إذا كان ماهراً جداً سيستخلص هذا الحديث من هذه الطرق كما يستخلص اللبن من بين فرث ودم، لا فيه من لون الدم، ولا فيه من رائحة الفرث، فإذاً بقدر تمكن هذا العالم بقدر إصابته في هذا الباب. ولذلك الإمام الذهبي رحمه الله قال في كتاب "الموقظة في علم الحديث": أنا على إياس من وجود حدٍ للحديث الحسن، ليس له قاعدة حتى تستطيع أن تطبقها على كل حديث، أبداً. فإذا كان هناك رجل عالم متمرس متمكن، أمضى أكثر من ستين عاماً في هذا الفن، فخالفه رجل مثلي في حديث ما، وأنت تعرف قدر الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد تعرف قدري وقد لا تعرف، لكن إجمالاً أنت تعرف أن الشيخ أعلى كعباً، وأنت تريد أن تقلد واحداً منا، لا شك عند جميع العلماء أن الأولى والأصوب هو تقليد الأعلم والأكبر والأدين، وهذا ما يقولونه في باب الفقه، فيقولون: إن الإنسان يقلد في الحكم الشرعي الأعلم والأدين والأورع والأطول عمراً إلخ لماذا؟ لأنه أولى بإصابة الحق.

ملازمة العلماء ومخالطة النجباء

ملازمة العلماء ومخالطة النجباء ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ (تلقين الأستاذ): هو أخذ العلم مباشرة عن الشيوخ، وأنا أوصي هنا بقراءة فصل نافع جداً في كتاب الموافقات للشاطبي في الجزء الرابع، لما تكلم عن التلقي تكلم كلاماً نافعاً جداً في هذا الباب. وتلقين الأستاذ مهم جداً، وكما قال العلماء: يستفاد من ملازمة الأستاذ ثلاث فوائد، أعظم هذه الفوائد: الأدب، أن يتأدب المرء، وابحث عن أي رجل سيء الأدب في باب العلم فلن ترى له شيوخاً؛ لأنه أخذ العلم من الكتب، وظن أنه إذا حصَّل علم الكتاب صار كصاحب الكتاب، مثلاً لو افترضنا أنه حفظ كتاب الرسالة للشافعي عن ظهر قلب، فهو يتصور أنه صار كـ الشافعي في هذا الباب وهيهات! ليس من قلد كمن ابتكر، من السهل عليك أن تأخذ هذا عن الشافعي وتحفظه، لكن هل تستطيع أن تصوغه كما صاغه الشافعي من بنات أفكاره؟ أبداً، لذلك رأينا العلماء يحضون على ترك الأخذ من الذين لا شيوخ لهم، فكانوا يقولون: (لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي) لا تأخذوا العلم من صحفي -أي: رجل يأخذ من الصحف- ولا تأخذوا القرآن من مصحفي -أي: يقرأ من المصحف مباشرة- لماذا؟ لأن أقل شيء يقع فيه هذا الإنسان هو التصحيف. وقديماً كان الإملاء لا يكون فيه إعجاماً، فالإعجام هذا متأخر قليلاً؛ لأن أول من نقط المصاحف هو يحيى بن يعمر بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت الحروف قبل ذلك مكتوبة ليس عليها نقط، فكيف تُقرأ؟ لأن الكلمة في هذه الحالة تحتمل أكثر من وجه، فصار وضع النقط يحدد معنى الكلمة، ولذلك كان المتقدمون يحرصون جداً على الضبط، وعلماء الحديث لهم كتب في ذكر تصحيفات المحدثين والفقهاء والأدباء وأصحاب القراءات، وضبطوها وحصروها، ووضعوا قيوداً وقوانين يضبطون بها العلم، ولولا ذلك لضاع العلم. مرة كان هناك حطاب -وهو: الذي يجمع الحطب- دخل المسجد فوجد شخصاً يتكلم ويقول: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب) قال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟ وهي على اللفظ الصحيح: (الذين يشققون الخطب) يشققون: أي يتكلمون بالألفاظ التي لها وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) ألفاظه رنانة، فالحديث وقع على أصحاب الخطب، فهذا قال: (الحطب)، فالمشكلة أن الرجل الحطاب كان موجوداً، فقال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟! وأرسل أحد الأمراء إلى خليفة المسلمين يقول له: إن المخنثين أفسدوا البلاد عندنا. فأرسل إليه بأن يعدهم حتى يوضعوا في مكان لوحدهم فقال له: (احص من عندك من المخنثين). فالقلم قطر نقطة فوق الحرف، فصارت (اخص من عندك من المخنثين) فدعاهم فخصاهم، انظر! خصى كل المخنثين بسبب نقطة واحدة وضعت على الحاء. فالتصحيف حين تقرأ ما جاء في أخباره -خاصة في كتاب التصحيف للعسكري، والذي يقع في ثلاثة مجلدات- تعلم أن أخذ العلم من الكتب جناية كبيرة جداً على العلم، ولذلك تجد أن كثيراً منا الآن يغلط في ضبط أسماء الرواة؛ لأن أسماء الرواة لا يدخل فيها القياس، لكن تؤخذ بالسماع، فمثلاً عبد الله بن لهيعة، أو لَهِيْعة؟ لا يوجد قانون يحدد (لُهَيْعة) أو (لَهِيْعة)، هذا لا يدخل فيه القياس، إنما يؤخذ بالسماع، فلذلك نحن نتلقى ضبط هذه الأسماء سماعاً؛ لأنها لا تدخل في القياس كما قلت، فكيف يقرؤها الإنسان، لاسيما إذا كان الكتاب الآن لا يشكل، وقد يكون الذي حقق الكتاب ليس لديه علم بكيفية الضبط لهذه الأسماء؟! فحين تأخذ العلم من الكتب فإن أقل جناية تقع فيها هي التصحيف، ومن أعظم الجنايات التي يقع فيها الإنسان: أنه يفتقد الأدب، لاسيما -كما قلت- إذا بدأ حياته بكتاب المحلى لـ ابن حزم، وكتاب المحلى لـ ابن حزم مع قوة هذا الكتاب من جهة الفقه، وأن الرجل قرر مسائل فقهية لم يسبق إليها، وأقام عليها الدليل، وكان قوله فيها راجحاً، إلا أنه وهو يقرر مثل هذا اللون من الفقه لم يستوقفه حرمة عالم، وكلامه عن أبي حنيفة في غاية الشدة، بينما كلامه عن أحمد بن حنبل والشافعي أقل شدة. سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان، الحجاج كان سيفه طائشاً لا يميز، كذلك لسان ابن حزم، ولذلك قلت في مطلع الكلام: تكون جناية على طالب العلم أن يبدأ بقراءة المحلى، بل ينبغي أن يبدأ بقراءة الكتب المختصرة. وتلقين الأستاذ له فوائد منها: أن يتعلم الطالب منه الأدب، وأن يفهم المسائل فهماً صحيحاً.

الاغتراب والرحلة في طلب العلم

الاغتراب والرحلة في طلب العلم الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة عن الناس. النوع الثاني: الغربة عن الوطن. وكلاهما مقصود، أما الغربة عن الناس فهي تعني: أن طالب العلم ينبغي ألا يشغله شيء مما يشغل الناس؛ لأنه إذا لم ينصرف إلى العلم بكليته فلن يحصل ما أوهم نفسه أنه تفرغ له، وهي ما يسميها بعض العلماء: (العزلة الشعورية) بأن تكون في وسط الناس لكن تزايلهم بعملك، فطالب العلم ينبغي ألا ينخرط في سلك الناس؛ لأن اهتمامات الناس لا تعينه بشيء، إنما يقبل بكليته على العلم، فلا يرى من الدنيا إلا العلم. أما النوع الثاني، وهو النوع الأعظم والأكبر والأشهر: وهو ما يسمى بالرحلة في طلب العلم، فيغترب الإنسان عن الوطن لتحصيل العلم، وهذا هو أشهر المعنيين بالنسبة للغربة، لكن هذا النوع يحتاج إلى همة أكبر من النوع الأول، ولذلك تجد من جلد هؤلاء العلماء في الرحلة، والصبر على الجوع والبرد، والصبر على المهانة والذل ما تقف أمامه مستعجباً مستغرباً!! فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما نفدت نفقته باليمن حين ذهب هو ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي وجماعة من المحدثين إلى عبد الرزاق بن همام، وكان عبد الرزاق آنذاك هو عالم اليمن ومحدثها الكبير، فلما رحلوا إليه نفدت نفقة الإمام أحمد في اليمن، فقدَّم بعض أصحابه مواساة له، فأبى أن يأخذها -والمواساة أن يعطيه نفقة ونوعاً من المعونة- فقال له: خذها على سبيل العارية، وردها إذا رجعت إلى بغداد؛ فرفض أيضاً، فماذا فعل؟ أكرى نفسه عند بعض القوافل حتى لا يأخذ مواساة من أحد! وكان لا يأخذ الدقيق إلا من رجل واحد فقط، وكان إذا ذهب اقترض الدقيق يرده سريعاً، فذات مرة بعدما رجع من رحلة من هذه الرحلات، والإنسان حين يرجع من الرحلة يكون منهك القوى ومتعباً جداً، فذهب البيت فلم يجد دقيقاً، فذهب إلى صاحبه هذا فجاء بدقيق وأعطاه امرأته، فبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فاستغرب من ذلك وسألها؟! فقالت: وجدنا تنور صالح موقداً فخبزنا فيه، فأبى الإمام أحمد أن يأكل. صالح هذا ابنه، فلماذا يأبى أن يأكل؟! لأن صالحاً قبل جائزة الخليفة المتوكل، عندما أرسل للإمام أحمد صرة فيها مال فردها، فلما أرسلها إلى ابنه صالح قبلها، فأغلق الإمام أحمد الباب بينه وبين ولده، وكان بينهما باب فأغلقه، مع أن قبول جوائز الأمراء لا شيء فيها، ومن الصحابة من كان يقبل ذلك، ومنهم الصحابي الورع العابد التقي عبد الله بن عمر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله!)، وقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح)، وكان إذا أتاه المال من الحجاج أخذه، فسُئل عن ذلك، فقال: (لست أطلب منهم شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله عز وجل) وهذا إنما أخذه من قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه)، والمقصود أن لا تطمع، لكن لو جاءك المال من غير مسألة ولا استشراف فخذه. فالجوائز قبلها الأئمة الكبار، كـ مالك، والشافعي وعلي بن المديني وابن معين، وقبلها أئمة كثيرون، ورفضها أئمة كثيرون أيضاً، فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف: والحق في المسألة أن القبول والرد لا بد أن تحتف به قرائن للقبول أو الرد، بمعنى إذا علمت أنك إذا أخذت جائزة الأمير طمع فيك وكسر عينيك فلا تأخذها؛ لأنه إنما يعطيك ليأخذ، والإنسان في مقابل الإحسان يذل، كما قال الحكيم الترمذي: (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) فإذا أردت أن تسترق إنساناً فأحسن إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على محبة الإحسان، كما قال تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ومعنى الآية: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه. فالإمام أحمد لما نهى ولده عن الأخذ؛ لأن الفتنة التي خرج منها الإمام أحمد كانت مدلهمة؛ فأبى أن يأخذ جائزة المتوكل، فلما أخذها ابنه صالح أغلق الباب بينهما، وأبى أن يأكل الإمام أحمد الخبز، فمن يحمل نفسه على هذا الورع؟ ومن يتحمل مثل هذا؟! فينبغي للطالب أن يتجلد في الرحلة لطلب العلم ويصبر؛ لأن الرحلة فيها ذل كبير، وأعظمها ذل الحاجة، لاسيما إذا نفدت النفقة، لكن صاحب الهمة العالية تجبر همتُه هذا الذل والحاجة. ومن العلماء أصحاب الهمة العالية أحد النحويين وهو أبو نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي، يقول: كنت أختلف إلى مجالس أبي علي القالي، وكان يملي في مسجد الزهراء بقرطبة -وكتابه اسمه النوادر- قال: فبينما أنا ذاهب إليه يوماً -وكنا في الربيع- أصابتني سحابة فأغرقت ملابسي وكتبي، فوافيت المجلس وحول الشيخ أعيان قرطبة فاستحييت، فلما رآني، قال: مهلاً يا أبا نصر ادنُ. قال: فدنوت. قال: لا عليك، خطبك سهل، إنما هي ثياب تبدلها بغيرها، أما أنا ففي جسمي ندوب تدخل معي القبر، وبعدها بدأ يقص عليه قصته حتى يهون عليه الذي حصل له، قال: كنت أختلف إلى مجلس ابن مجاهد رحمه الله الإمام المقرئ الشهير صاحب كتاب (السبع في القراءات) - قال: فبكرت إليه يوماً فإذا باب الدار مغلق، وصعب علي فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور وأُغلب على القرب منه! قال: فنظرت فإذا سرب بجانب الدار -أي: ممر صغير جداً، كان الممر كبيراً ثم ضاق من الوسط- قال: فمضيت فيه، فلما وصلت إلى منتصفه لم أستطع الخروج ولا النهوض، فجمعت قوتي ومضيت، فتمزقت ثيابي وتمزق لحمي وانكشف العظم، ثم لقيت الشيخ، وكان قادماً، فكنت أول الحاضرين، ثم أنشأت أقول: دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا والصبر: هو المر، قال: فكتبنا هذه الفائدة من النوادر قبل أوانها، ولازمته رحمه الله إلى أن مات. ما الذي يجعله يندفع حتى ينكشف عظمه، ويتمزق لحمه؟ لأنه رجل أراد أن يكون قريباً من الشيخ؛ لأن القرب من الشيخ فيه ميزة، وقديماً لم يكن هناك مكبرات صوت، فكان الرجل الذي يجلس بجوار الشيخ مباشرة يسمع لفظه بوضوح بخلاف البعيد، فقديماً كان هناك رجل اسمه (المستملي) يقوم مقام مكبرات الصوت، فالمستملي هذا يكون في منتصف الجمع فيسمع ويبلغ، ولعل المستملي لم يسمع جيداً فيبلغ خطأ، فيحصل الخطأ، فينقله الذين من بعده، فكان الطلبة يحرصون جداً على أن يكونوا قريبين من الشيخ تحاشياً من تصحيف الأحاديث. فالرحلة في طلب العلم تحتاج إلى همة عالية، ولا نعلم أحداً من العلماء الذين دارت عليهم الفتيا، وكان لهم منصب في العلم لم تكن لهم رحلة إلى الآفاق، والرحلة في طلب العلم سنة؛ لأن ضمام بن ثعلبة رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتثبت مما قاله له رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟ قال: نعم) إلى آخر الحديث. فـ ضمام بن ثعلبة أراد العلو؛ لأنه لو كان مكذباً لذلك الرسول -وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم- لكفر؛ لأن مكذب رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لو أن أهل اليمن كذبوا معاذ بن جبل -لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليبلغ التوحيد- لكانوا في حكم الكافرين،، فهو ما جاء لأن الرسول كاذب، كما قال العلماء؛ لكنه أراد أن يسمع مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم أيضاً كانوا كذلك، روى الإمام البخاري في صحيحه معلقاً، ووصله أحمد، وهو أيضاً -كما أظن- في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند حسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (بلغني أن رجلاًً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده حديث في القصاص -القصاص يوم القيامة- قال: فابتعت بعيراً وركبته شهراً، فلما ذهبت إليه فإذا هو عبد الله بن أنيس الصحابي، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلاً بهماً، قال: قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات) وكذلك التابعون أخذوا نفس هذا المنهج، فهي سنة متوارثة، كسنة القراءة مثلاً، فالرحلة في طلب الحديث سنة متوارثة يحرص عليها كل فحل؛ لكن العلماء قالوا: ينبغي له أن يأخذ علم أهل بلده أولاً، ثم يرحل إلى العلماء الآخرين، ولا ينبغي له أن يرحل إلا بإذن الوالدين، ولابد؛ لأن الرحلة فرض كفاية، وطاعة الوالدين في المعروف فرض عين. وهناك قصة طريفة للإمام الذهبي رحمه الله، فإنه بدأ أول حياته بالقراءة، أعني بجمع قراءات المصحف، القراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة أو الواحدة والعشرين، وبرع فيها جداً،

الافتقار والتواضع

الافتقار والتواضع وقوله: (وافتقار) الافتقار في هذه الأيام، التواضع، بأن تكون في زي الفقير، لا تتعالى على غيرك، ليس عندك من العلم ما تتعالى به، فحين تشعر دائماً أنك فقير إلى هذا العلم تزداد منه، كالمؤمن الذي يخشى الله تبارك وتعالى ويعبده بالخوف والرجاء؛ فإنه دائماً في ازدياد؛ لأنه كلما عمل عملاً يقول: ربما لا يتقبله الله؟ إذاً: الحل أن أحسن العمل فإذا لم تستحضر النية، لم تركع وتسجد كما ينبغي، كنت مرائياً، إذاً: أنا سأحسن العمل أكثر، فترجع النفس اللوامة تقول له: ما صنعتَ شيئاً، فماذا أفعل؟ حسِّن العمل أكثر، فلا يزال يحسن عمله أكثر فيلقى الله تبارك وتعالى في ازدياد دائم، فطالب العلم ينبغي أن يكون هكذا فقيراً مفتقراً متواضعاً، لا يعلو على أقرانه. كان بعض العلماء يقول: ما رأيت أفضل من أحمد بن حنبل، كان والله يجمع ألواناً من العلم وما افتخر علينا قط، والذي يقول هذه المقالة هو أحد أقرانه الكبار. يقول: أبو زرعة الرازي (ما افتخر أحمد علينا)، برغم ما كان عنده من العلم؛ بل كان الإمام أحمد متواضعاً دائماً، وكان معدوداً في أئمة الجرح والتعديل الكبار، ومع ذلك كان إذا ذُكر أحد الرواة يقول: ليس هنا أبو زكريا -أي: يحيى بن معين، فقال له رجل: وما تصنع به؟ قال له: ويلك! إنه يحسن هذا الشأن، مع أن الإمام أحمد قد تكلم في هذا الراوي الذي احتاج فيه لـ يحيى بن معين، لكنه يقول: ليس هنا فلان؛ لأنه يحسن هذا الأمر، لكن هذا هو التواضع والافتقار!. قال سفيان الثوري رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه). لأن منا من يستنكف أن يكتب عن تلميذه، يقول: أنا شيخه، فلا أكتب عنه، فهذا من حظ النفس وليس من النبل. وهذا الإمام البخاري فقد روى عن الترمذي مع أن الترمذي تلميذ الإمام البخاري، وكان الترمذي يرى أن رواية البخاري عنه مدعاة فخر، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ورواه عني محمد بن إسماعيل البخاري، كلما يروي هذا الحديث يقول هذا التنبيه. وابن خزيمة أيضاً من طبقة تلاميذ البخاري، ومع ذلك روى عنه البخاري. ومسلم بن الحجاج -رحمه الله- أيضاً روى عنه الإمام البخاري، والإمام البخاري شيخ مسلم كما هو معروف. فعندما تنبل فإنك لا ترى استنكافاً، أن تأخذ من تلميذك، فالافتقار نحتاج إليه، وكذلك التواضع! مهما أخذت من العلم، فاعلم أن الذي لم تحصله أكثر وأكثر، فهذا يحملك على ألا تجعل لنفسك مقاماً أعلى من مقامها، لاسيما إذا كنت في بدء الطلب.

الحرص على الأوقات

الحرص على الأوقات ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب. وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل. ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن! طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال. ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر. وفي مقدمة الجرح والتعديل لـ ابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر. فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى. وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها. وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت. عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق! - قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث. ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً. وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين. فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟! إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء. أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه! بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة! والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً. فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت. وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟ يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع. وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره. وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر

الذكاء

الذكاء أما الذكاء فهو أول درجات السلم، إن العلم لا يسلم زمامه لغبي ولا بليد، لابد أن يكون طالب العلم ذكياً جداً، نحن ابتلينا بأناس تصدروا للفتيا ليس عندهم ذكاء، لأن الذكاء يورث ما يسمى عند الفقهاء: بفقه النفس، وفقه النفس: هو مراعاة مقتضى حال المخاطب. جاء رجل وطلب منك فتوى، فأنت لابد أن تتفرس في الرجل وتزنه، وهذه الفراسة كانت موجودة عند أسلافنا بكثرة، لكنها أصبحت الآن أندر من الكبريت الأحمر. وقد صح عن ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـ سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس، فجاءه رجل فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر). فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـ ابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة. وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد. والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به. ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك. والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي. فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك. فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم. أول واجبات طالب العلم: والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـ ابن حزم، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـ ابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة. لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟ لا يمكن إلا واحدة من ثلاث: 1 - إما أن يختار بهواه القول المناسب له. 2 - وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى. وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد. فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار. أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر. هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟ فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك). والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء). وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين). أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس) هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول: إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة. ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه. كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد. فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً. فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر

أدب الخلاف بين الطالب والعالم

أدب الخلاف بين الطالب والعالم عندما أختلف مع أي عالم كان، فلابد أن أراعي الفرق بيني وبينه، وقد أكون أنا لم أهتد إلى هذا العلم إلا على يد هذا الرجل، فكيف أعامل هذا الشيخ -أياً كان هذا الشيخ- مثل هذه المعاملة؟! إن هذا يعد من العقوق. ألا ترى موسى عليه السلام لما ذهب إلى الخضر عليه السلام، وطلب منه أن يعلمه، ماذا قال له؟ {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، انظر جمال السؤال! حاجته صاغها في سؤال حتى يتيح الفرصة للشيخ ليقول: نعم أو لا، فهو لم يفرض نفسه فرضاً، وكذلك انظر إلى كلامه (هل أتبعك) فجعل نفسه تابعاً، ولا شك أن التابع أقل من المتبوع، وموسى كليم الله، وهو عند جميع أهل السنة أفضل من الخضر، لا شك في ذلك، بل لعله عند جميع أهل الأرض أفضل من الخضر عليه السلام؛ لأنه من أولي العزم، والخضرفي نبوته خلاف، لكن موسى عليه السلام ليس في نبوته ولا رسالته خلاف، يقول: (هل أتبعك) -فخفض نفسه ورفع الخضر؛ لأنه أستاذه في هذه المسألة- (على أن تعلمن) -فنسب نفسه للجهل ونسب شيخه للعلم؛ لأن الرجل يريد أن يتعلم، (على أن تعلمن مما)، (من): تبعيضية، أي: بعضاً مما عندك، فأشار إلى كثرة علم شيخه، (من ما) و (ما) هذه من صيغ العموم، فيدل على أن شيخه شمل جملة العلوم، وهذه تؤيد البعضية التي ذكرناها (من ما عُلمت) كلمة (علمت) مبنية للمجهول، يرقق قلب الشيخ عليه، كأنه قال له: كما علِّمت رُدَّ الإحسان وعلمني (مما علمت رشداً)، واشترط عليه أن يأخذ منه الرشد دون الغي، وهذا هو الأصل في تلقي العلم، وأنت لو حاولت أن تتأمل في هذه الآية وتتبحر فيها ربما تجد أيضاً آداباً أخرى. فانظر إلى لطافة السؤال، وأنت حين تدخل على الشيخ بهذا الأسلوب فإنه يرق قلبه لك، وهذه من الآداب، قال ابن جريج: لقد استخرجت ما عند عطاء من العلم بالرفق. ابن جريج لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، واستخرج علم عطاء بالرفق، وقال الزهري: لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً بمماراته ابن عباس؛ لأنه كان كلما جلس مع ابن عباس يماريه ويجادله، فأنا لو أعلم أن أحداً كلما جلست معه يماريني فلن أتكلم لماذا؟ أريد أن أريح دماغي. لكن أوليس المقصود من الجدل عموماً تقرير الحق؟ فإذا كان الطرف الآخر إنما يجادل لغرض الجدل، فالصواب ألا أتكلم، فـ أبو سلمة بن عبد الرحمن من كثرة ما كان يماري ابن عباس خسر ما عنده من العلم. فالإنسان إذا تلطف حصّل مراده، ولذلك قال الشاطبي في الموافقات: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود)، وساق تحت هذا العنوان، أو تحت هذه الكلمة فصلاً نافعاً جداً في أدب الطلب، ترك الاعتراض على الكبراء محمود لاسيما إذا كانوا من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وإذا كانوا مبرزين في العلم والتقوى؛ لأن الإنسان قد يعترض على ما لم يدركه علمه. وذكر الشاطبي رحمه الله اعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو لما جاء يرسف في أغلاله وقد عذب في الله عذاباً أليماً، فكان سهيل بن عمرو مازال يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الاتفاق، فكان منها أنه إذا أتاك رجل مسلم فاراً بدينه ترجعه إلينا، وإذا فر رجل من عندك كافراً لا نرجعه، فقال المسلمون: سبحان الله نرجعه وقد جاء مسلماً! وهم في حال تحدثهم جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في أغلاله، فرمى نفسه بين ظهراني المسلمين وقال: يا معشر المسلمين! ألا ترون ما أصابني؟! وأبو جندل هو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الاتفاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! هذا أول ما أطالبك به أرجعِه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لم يقض الكتاب بعد، قال: أبداً. فقال: فأجزه لي. أي: سنكتب الكتاب كما تريد، ولكن هذا نستثنيه. قال له: لا. قال: بل أجزه لي. قال له: لا. فكان الموقف في نظر عمر بن الخطاب وسائر المسلمين موقفاً في منتهى الذل، فما الذي يجبرنا على هذا؟ نحن نستطيع أن ندخل عليهم فنأكلهم أكلاً، لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لذلك لم يتحمل عمر واعترض، وقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألستَ رسول الله حقاً؟ قال له: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قال: أولم تقل لنا أنا نطوف بالبيت؟ قال: قلت لك نطوف به العام؟ فقال له: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به)، لكن الكلام لم يقنع عمر، لأنه ثائر فلم يتحمل هذا الذل، فقام إلى أبي بكر الصديق، فقال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله وليس يعصيه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه. العجيب في المسألة توافق الكلمات بين أبي بكر الصديق وبين النبي عليه الصلاة والسلام! نفس الكلام الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف قاله أبو بكر الصديق، لكنه زاد عليه (استمسك بغرزه)! قال عمر بن الخطاب: فعملت لذلك أعمالاً أي: تصدق وصام وما إلى ذلك؛ ليكفر عن هذا الاعتراض. فـ الشاطبي تحت هذا العنوان الجميل ذكر هذه القصة، قال: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود) لاسيما -كما قلت- إذا كان هذا الكبير ضليعاً بعلم الكتاب والسنة؛ لأن عنده من المدارك ما ليس عندك فتسلم له، لاسيما إذا لم يكن في يدك دليل واضح على رد قول هذا العالم. فليس من الأدب ولا من الإنصاف أن لا يعترف الإنسان لهؤلاء بالفضل. ابن جرير الطبري رحمه الله -وهو أحد العلماء الكبار جداً- كان له مذهب اسمه (المذهب الجريري) لكن هذا المذهب اندثر في جملة ما اندثر من المذاهب، كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد؛ لأن تلاميذه لم يقوموا به، قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير -وكان يملي من حفظه- قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار. قال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة مختصراً، وهو الآن في ثلاثين مجلداً، مطبوعة بالأحرف الصغيرة، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله وأخوه الشيخ محمود شاكر حفظه الله كانوا قد بدءوا يحققون تفسير الطبري، فوصلوا في ستة عشر مجلداً إلى سورة الرعد، ولو أكملوا لكانوا وصلوا إلى المجلد الثمانين. فقال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ! قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: نحواً من التفسير، قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه أيضاً في نحو مما أملي فيه التفسير. هذا الإمام الكبير لما دخل عليه بعض عواده وهو في مرض الموت تناقشوا في مسألة من مسائل المواريث، فدعا ابن جرير بقرطاس ودواة ليكتب له هذه المسألة لأنه أول مرة يسمعها، فقيل له: أفي هذه الحال -أي: وأنت تموت-؟! قال: أترك الدنيا وأنا بها عالم خير من أن أتركها وأنا بها جاهل. وإن كان لا يترتب عليها عمل عنده؛ لأن الاستكثار من العلم جيد، وليست فيه مضرة. إن العلم يحتاج إلى عمر، نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى ألا يستعجلوا، قال الإمام الشافعي: (فكلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي)، ولا شك أن الذي نجهله أكثر من الذي علمناه. نسأل الله تبارك وتعالى أن يؤدبنا وإياكم بأدب النبوة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم

الأسئلة

الأسئلة .

خطأ طالب العلم في الاعتماد على كتب الفروع وإعراضه عن كتب الأصول

خطأ طالب العلم في الاعتماد على كتب الفروع وإعراضه عن كتب الأصول Q يعمد بعض طلاب العلم إلى دراسة كتب الفروع والإكثار منها، دون إرفاقه ذلك بدراسة الأصول، فهل ينتفع طالب العلم من هذا المنهج؟ A ( من حرم الأصول حرم الوصول) لماذا الإنسان يتأرجح ما بين الأقوال المختلفة؟ لأنه ليس عنده أصل ثابت يرجع إليه، والرجل إذا حفظ كل كتب الفروع، مثلاً: حفظ المغني لـ ابن قدامة، حفظ المجموع للنووي، حفظ المحلى لـ ابن حزم حفظ كل هذه الكتب، فلن يصير فقيهاً ولا يستطيع أن يثبت في تقرير الحق؛ لأنك لو كنت درست الأصول تستطيع أن تهدم له الحكم الذي وصل إليه من كتب الفروع، وسيكتشف أنه في النهاية ما هو إلا مقلد، رجل حفظ شيئاً فقاله ولم يتحققه، المشكلة أننا أهملنا الأصول. لابد في العلم من أصلين مهمين جداً: علم الحديث وعلم أصول الفقه، فعلم الحديث يثبت لك الدليل، وعلم أصول الفقه يثبت لك الحجة، الفهم عن الدليل؛ لأنك إذا تضلعت في علم واحد فقط كنت كالطائر بجناح واحد فقط، فلو كنت محدثاً صرفاً فلن تتمكن من الأصول. ومع ذلك فليس من العيب الاقتصار على باب من أبواب العلم، إنما العيب أن تتخطى إلى ما لا تتقن، لكن لو وقفت على ما تحسن فلن تعاب، كن محدثاً ولا تتكلم في الفقه، كان الدارقطني رحمه الله محدثاً صرفاً، وليس له كتاب فقهي، لكنه في الحديث إمام يوضع في جبين المحدثين، أملى كتاب العلل من حفظه، وكتاب علل الحديث للدارقطني يعد معجزة باهرة! قال الذهبي: لو كان هذا الإمام أملى هذا الكتاب من حفظه فلا أعلم له في الدنيا نظيراً. وأنا قبل خمسة عشر عاماً لما ذهبت أنقل من كتاب العلل من دار الكتب المصرية كان أول حديث هو حديث (شيبتني هود وأخواتها) هذا الحديث أنا نسخت فيه حوالي خمس عشرة ورقة كلها في الاختلافات بين الرواة، والله! كان دماغي يلف وأنا أنقل الطرق التي يذكرها الإمام على البديهة، وأنا ناقل فقط، فهي ليست في ذهني، والذي طالع علل الدارقطني يعلم أن الإمام أعظم مما وصفت، ومع ذلك لم يُذكر في باب الفقهاء انتهى. (آفة المرء أن يتكلم فيما لا يحسن)، فمثلاً جاءت امرأة إلى محدث صرف فقالت له: كان عندي دجاجة وسقطت في بئر ماء فغرقت وماتت، فما حال الماء -يعني: أنتوضأ به-؟ قال: ويحك! لِمَ لم تغط البئر؟ أهذا هو الموضوع؟! قضاء الله نفذ، أنا أريد حكماً على الحالة الواقعة، قال لها: لم لم تغط البئر؟ لأنه ليس عنده جواب على هذه المسألة الفقهية. لكن الإنسان إذا ضم لعلم الحديث علم أصول الفقه فقد جمع بين الخيرين. أحياناً يكون المرء فقيهاً، لكنه ضعيف في علم الحديث، وإنما عنده مشاركة، مثلاً يقول: صححه ابن حجر صححه الذهبي، فهو رجل ينقل ومهتم بنقل تصحيح علماء الحديث للحديث، فحين يأتي مبتدع ماكر فيقول له: إن دليلك الذي تتكلم عنه ضعيف فسقط الحكم بسقوط الدليل فيقول له: كيف؟ هذا صححه ابن حجر؟! يقول له: دعنا من باب التقليد، فأنت حينما تقرر الحق تصير مجتهداً، أثبت صحة الحديث، فأنا بإمكاني أن أقول لك: فلان ضعفه، ولن نصل، كما أنني أقرر الحق بدليله هنا وهناك، فقرر أو أثبت لي أنه صحيح. فيعجز، ولا يستطيع إلا أن ينقل أنه صحيح عن فلان أو علان، حينئذ لو كان ورعاً يتوقف، ويقول: طالما أن المسألة هكذا فدعني أبحث. فالمبتدع بإمكانه أن ينقض الحكم كله لأنه قد ضيع الدليل، فإذا ضاع دليل الحكم لا يثبت الحكم، إذ لا يتصور فناء الأصل مع وجود الفرع، لكن لو أنه متضلع يستطيع أن يفعل في المبتدعة ما لا تفعله الجيوش الجرارة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن شيخ الإسلام ابن تيمية فعل في المبتدعة ما لم تفعله الجيوش الجرارة في الكفار، والإمام الذهبي كان محدثاً من شعر رأسه لأخمص قدمه، وبالرغم من ذلك فقد كان رحمه الله يقول: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث؛ من سعة حفظه، وكنت تتعجب من حفظه وسرده للأسانيد وتخريجه من الكتب، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نصنفه في كتب الطبقات نصنفه في طائفة الفقهاء، ليس في طائفة المحدثين، كان أن الخطيب البغدادي ترجم لـ أحمد بن حنبل فصنفه في طائفة المحدثين، وقد ترجم للشافعي فجعله في طائفة الفقهاء، فغضب عليه الشافعية والحنابلة، لأنه لما قال في الشافعي تاج الفقهاء، قالوا: لم تذكره في الحديث فسلبته الحسن كله، ولما جاء يترجم لـ أحمد قال: سيد المحدثين، قالوا: لم تذكره بالفقه، فأي معنى للحديث بغير فقه؟! لا، الإمام الشافعي كان محدثاً كبيراً، والإمام أحمد كان فقيهاً كبيراً، لكن غلب على هذا الفقه فاشتهر به، وغلب على هذا الحديث فاشتهر به. فالعالم كلما كان متضلعاً -بالذات بعلم الأصول- يستطيع أن يمضي في الأدلة مضي السهم، لذلك نحن نقول لإخواننا المتأرجحين بين التيارات الموجودة أو الفتاوى الموجودة: لن تعدوَ أن تكون رجلاً من اثنين: إما أن تكون طالب علم جيداً، فإذا عرفت الطريق فاسلك طريق الأصول والدراسة، وإما أن لا يكون لك وقت وليس عندك صبر ولا جلد، ولا تطمع حتى أن تدرس الأصول، فحينئذ انظر إلى العالم أو إلى طالب العلم الجيد الذي تعتقد أنه الأدين والأعلم والأورع فالزم فتواه، لكن إذا جعلت دينك عرضة للخصومات أكثرت التنقل، إذا كنت رجلاً من العوام ما الذي يحملك على أن تنتقل بين الأقوال؟ لماذا تعطي أذنك لكل ناعق؟ إذا عرفت أن هذا هو الحق فالزمه، واصحب من تعتقد أنه الأعلم والأدين والأورع، فليس هناك سبيل إلا هذا.

عدم جواز القدح في الأئمة الأعلام في المسائل العلمية الخلافية

عدم جواز القدح في الأئمة الأعلام في المسائل العلمية الخلافية Q حين ذكرت ابن حزم فإنك لم تترحم عليه، فما السبب؟ A يقول: إنني لم أترحم على ابن حزم فأقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله رغم أنف أصحاب التكفير؛ لأن هناك من يقول: لا يجوز الترحم على ابن حجر العسقلاني، ولا يجوز الترحم على ابن حزم، ولا يجوز الترحم على ابن الجوزي، ولا يجوز الترحم على كل من له بدعة في العقيدة. أنا أحيل على الجزء رقم عشرين من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول: لا يجوز التبديع في المسائل العلمية إذا كان لها وجه. فيقول: لا يجوز تضليل الذي يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة، لاسيما إذا كان متأولاً كـ مجاهد بن جبر الذي يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، اعتماداً على قوله تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]. فلو أن رجلاً أخطأ متأولاً، فإنه لا يخرج بذلك من جملة المسلمين، فإذا كان لم يخرج من جملة المسلمين فأي معنى لأن تقول: (لا يرحمه الله)، وكذا من قال: إن الاستواء معناه الاستيلاء (لا رحمه الله). ! هلا تأدب هذا القائل مثلما تأدب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهما يكسران أصنام الجهمية، وهما من أفضل وأقوى الذين ردوا على هؤلاء الجهمية، ما سمعنا (لا رحمه الله) أو (يذهب إلى سقر)، أو هذه الأشياء منهم، بل هذا مسلم أخطأ، لا نقره على خطئه ونرجو له المغفرة. فأنا إذا كنت لم أقل (ابن حزم رحمه الله) فلا أقصد ترك الترحم عليه، بل أقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم.

مفهوم العزلة والحصار للتفرغ لطلب العلم

مفهوم العزلة والحصار للتفرغ لطلب العلم Q هل المقصود بالعزلة والحصار وعدم الاختلاط بالناس من أجل التفرغ لطلب العلم؟ وهل يلزم طالب العلم عدم الوعظ حتى يكون متمكناً في أبواب العلم؟ A ليس معنى كلامي أن يعيش المرء أخرس، المتأمل في جملة الكلام يرى أن بعضه يكمل بعضاً، لما قلت: إن طالب العلم ينبغي أن يضرب على نفسه حصاراً ذكرت من الأمثلة أنه يضيع الليلة في الجدل، هذا هو الحصار الذي أقصده، لكن رجل يرى شيئاً من المنكرات وبإمكانه أن ينكر فلا يقال له: انتظر حتى تتضلع من العلوم ولا تنكر لا، لأن المسألة واضحة، رجل لسانه طلق وبإمكانه أن يقول كلمة يذكر بها غافلاً، فهذا يجب عليه أن لا يتأخر؛ لأن هذه ليست فتوى ولا يترتب عليها شيء. نحن في باب الفتوى نقول: لا؛ الإنسان لابد أن يتضلع من العلم، على الأقل في المسألة التي يفتي بها؛ لأن العلم يتجزأ، فإذا تصدى لموضوع ما يتقنه، فله أن يتكلم فيه، لكن ليس له أن يتكلم مطلق التكلم إلا إذا تضلع بالعلم جملة، فلا يفهم من كلامي أنني أقول: إنه لا يحل لأحد أن يتكلم ولا يعظ ولا ينكر ولا هذه الأشياء لا، أرجو أن يكون هذا واضحاً، أعني خذ كلامي جملة واحدة، فلربما صاحب السؤال كتبه قبل أن أتم كلامي.

ضرورة حضور طالب العلم حلقات العلم وعدم الاكتفاء بالقراءة المنفردة لكتب العلم

ضرورة حضور طالب العلم حلقات العلم وعدم الاكتفاء بالقراءة المنفردة لكتب العلم Q كثير من الإخوة يريدون أن يطلبوا العلم، وفي سبيل ذلك فإنهم يعتزلون الناس ويتفرغون لقراءة الكتب، حتى إنهم يمتنعون عن نصح الجاهل وإرشاده إلى ما يجب عليه من أمور دينه بحجة أنهم لم يتعلموا بعد، ومن جانب آخر يسأل بعض الشباب عن كيفية البدء في طلب العلم، وكيف يبدأ في دروس الفقه والحديث والعقيدة، إلى غير ذلك، فالسائل يريد أن يضع قدمه على أول الطريق في طلب العلم أرشدنا جزاك الله خيراً؟ A قلت سابقاً: إن هذه الحلقات لابد منها، ولكن لا تجد أحداً قط حصّل قدراً كبيراً من العلم اعتمد فقط على مثل هذه الحلقات، بل لا بد من البحث الشخصي، ولابد من التعب، فإن التدريس في الحلقات يفتح لك الباب، فتتوفر لك الفرصة لتصحح ما تقرأ، أما أن يأتي الرجل ليسمع فقط لا غير، لا يقرأ ولا يجهد نفسه ولا يلخص هذا لا يمكن أن يحصل على علم كثير، فهذه الحلقات هي المفتاح لاسيما في هذا العصر. سمعت شخصاً يقول: الشيخ بخمسة ريالات، فأقول له: ماذا تعني بقولك: الشيخ بخمسة ريالات؟ فيقول: أي شيخ ممكن يكون عندك في بيتك بخمسة ريالات -يعني الشريط- وترجعه كما تريد، وتأخذ آخر، وتسمع كما تريد، وقد لا تستطيع أن تستوضح مسألة من الشيخ في الجلسة لكن في الشريط ممكن تسمع الدرس أكثر من مرة، فالشريط هذا كأنه نصف شيخ. طبعاً في مسألة الملازمة والأدب الشريط لا يعلِّم؛ لأن الشريط شأنه شأن الكتاب، فلزوم حلقات أهل العلم يستفيد الإنسان بها الأدب الذي هو زين العلم، فهناك بعض المشايخ شرحوا كتباً كبيرة، بإمكان الإنسان أن يأتي بالكتاب ويسمع الشريط، هذا إذا تعذر عليه أن يوافق شيخاً على عقيدته، أو يجد شيخاً متضلعاً بالكتاب والسنة، فهذه الحلقات لابد منها. ولأن العزلة وهذا شيء أنا جربته وبلوته- غير محمودة، ومسألة الانكباب على الكتاب وعدم الذهاب حتى لإخوانك من طلاب العلم، فتكلمهم وتناظرهم، وتأخذ ما عندهم من الفوائد، فطالب العلم الذي يعمد إلى هذا السلوك يخسر كثيراً جداً. بعض إخواننا يقول: كثيراً ما قرأت ونسيت، فكيف أحفظ؟ فلماذا نسي؟ لأنه وهو يقرأ ليس له هدف، فلو أن الكلام الذي سيقرؤه يريد أن ينفع به بعد ذلك لن ينساه، إنما إذا قرأ لمجرد القراءة قد يفهم، لكن إذا ترك القراءة ثلاثة أيام ينسى الذي قرأه، فمعظم الذين ينسون ما يقرءون ليس لهم هدف تعليمي، وما المانع يا أخي! أن تطمع في فضل الله عز وجل، وأن تدعو الله عز وجل أن يجعلك للمتقين إماماً؟! فما عرفنا أحداً من العلماء كان يظن أنه سيصل في نهاية حياته إلى مرتبة الإمامة، فلِمَ تحتقر نفسك؟ فالإمام أحمد أو الإمام يحيى بن معين أو الإمام البخاري لم يرد عن أحد منهم أنه كان يظن أنه سيصل إلى هذه المرتبة، ولذلك تجد في تراجم هؤلاء العلماء أن تاريخ ميلادهم قد يكون مجهولاً، لكن تاريخ وفاتهم معلوم عندنا بالساعة والثانية، ويرجع ذلك إلى أن الواحد منهم يوم ولد ولد كآلاف المواليد، لا أحد يعرف يومها هل سيكون نجيباً؟ هل سيكون إماماً؟ هل سيكون صالحاً؟ هل سيكون فاسقاً؟ لا أحد يعرف، لذلك لم يهتم أحد بتدوين تاريخ ميلاده، حتى صار إماماً فعرف تاريخ وفاته، فكل واحد لما وصل للإمامة في آخر حياته ما كان يظن قط أنه سيصل. لذلك لا تحتقر نفسك، وسل الله تبارك وتعالى أن يجعلك للمتقين إماماً، أول ما تجعل هذا الهدف أمامك كل علم ستستفيد منه، ولن تقرأ شيئاً في باب من أبواب العلم إلا وتستفيد منه، فكن غواصاً في المعاني، فالغوص في المعاني يحتاج إلى تهيئة سابقة. الإمام الشافعي رحمه الله قال: حديث ذي اليدين فيه سبعون باباً من العلم. وحديث ذي اليدين هو الذي جاء فيه قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس. ثم التفت إلى الناس، قالوا: صدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين وسجد للسهو) فهذان السطران كتب فيهما الحافظ صلاح الدين العلائي مجلداً ضخماً، اسمه "نظم الفرائد لما في حديث ذي اليدين من الفوائد" استخرج منه جملة من العلوم والفوائد، فكيف يحصل الإنسان هذا؟ يمكنه ذلك بالغوص في المعاني، وحضور دروس المشايخ، الاختلاط بإخوانه من طلاب العلم. كان الزهري رحمه الله أول ما يسمع من سعيد بن المسيب أو من أبي سلمة بن عبد الرحمن أو غيره من المشايخ يأتي الدار في الليل فيوقظ جاريته، ويجلسها، ثم يقول: حدثني سعيد بن المسيب قال: حدثني أبو هريرة ويسوق الأحاديث، فتقول: يا سيدي! ما لي وما لـ سعيد؟! فيقول لها: آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة، وأخشى أن أنسى. أيقظها من أجل أن يسمعها الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينسى إذا لم يجد من يذاكره، لذلك تجد المنغلق على نفسه أكثر الناس نسياناً لماذا؟ بسبب عدم وجود من يذاكرهم.

تأملات في سورة ق

تأملات في سورة ق القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر منه، وإن كان عسيراً فما بعده أعسر منه، والمقصود بما بعده هنا: البعث والوقوف بين يدي الله، والحساب والجزاء، وقد جاءت هذه الملامح مفصلة في سورة (ق)، حيث صورت الأحداث والمشاهد كأنها ماثلة أمام الناظر، فبينت صفات أهل الجنة، والأسباب التي بها يدخلون الجنة، وكذلك بينت صفات أهل النار وما ساقهم إليها من أسباب.

معالم القرآن المكي

معالم القرآن المكي إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم هشام بنت حارثة أنها قالت: ما حفظت سورة (ق) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقرؤها على المنبر. وهذه الحفاوة من النبي عليه الصلاة والسلام لهذه السورة لها مغزى، وسورة (ق) من القرآن المكي، والمعاني الرئيسية التي يدور عليها القرآن المكي هي: إثبات التوحيد لله عز وجل، وإثبات صفاته تبارك وتعالى، وذكر القيامة والبعث والجزاء والجنة والنار، وذكر أصناف الناس، ثم ذكر العلة في دخول الداخل النار وفي دخول الداخل الجنة، هذه هي أهم المعاني التي يدور عليها القرآن المكي. لذلك إذا قرأت القرآن فافتح أذنيك وقلبك؛ لأن الله عز وجل أمرنا بذلك في سورة (ق) أيضاً فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فتأمل في قوله: (ألقى السمع). (ألقى) فيها معنى الاستسلام، فلو قلت لك: ألق أذنك، أي: لا تخف، إنما سيلقى عليك حق، لأن هذه الأذن ينبغي أن تغربل ما يلقى إليها، فقد يلقى إليها الكذب، فينبغي أن يميز المرءُ، فلا يقال: ألق السمع، إلا والكلام حق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فإذا أصغى المرء بقلبه، انتفع بالقرآن، كما ذكره البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (دخلت المدينة في فداء أسرى بدر -وكان كافراً إذ ذاك- فوافى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بالناس، فسمع بعض آياتٍ من سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍأَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} [الطور:35 - 37] قال: فكاد قلبي أن يطير) وهذا رجل كافر، دخل المدينة كافراً، فلما سمع هذه الآيات قال: (فكاد قلبي أن يطير) أن يطير من موضعه؛ لأن ما جاء في هذه الآيات من الأسئلة لا يستطيع منصف على الإطلاق أن يجد لها جواباً على نحو جواب المشركين، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35]؟ فلا بد لكل صنعةٍ من صانع. جماعة من الملاحدة أتوا أبا حنيفة رحمه الله يجادلونه في الله تبارك وتعالى: أهو حي؟ أهو موجود؟ فقال لهم: دعوني أتفكر فإني مشغول، قالوا: بم؟ قال: قيل لي: إن سفينةً تمشي في البحر بغير قائد، وتأتي فترسوا على الشاطئ بغير قائد، وتحمل نفسها بالبضائع، وتفرغ البضائع أيضاً بنفسها، فقالوا له: هذا مستحيل!! فقال لهم: (يا نوكى)! -الأنوك: هو الأحمق- إذا كان هذا في سفينة، وأنتم تنكرون أنها تحمل نفسها، وتفرغ نفسها، وتمشي على البحر بغير قائد وترسو بغير قائد، أهذا الكون على ما فيه من الترتيب منذ خلق، ليس له صانع؟!! فهذا المشرك لما يقال له: قول الله عز وجل: (أم خلقوا)؟ انظر إلى كلمة (أم) هذه، وخزة في هذا الضمير الوثني، تكررت لفظة (أم) هذه أربع عشرة مرة، كلها وراء بعضها، أربع عشرة مرة، تخز في هذا الضمير الوثني، الذي لو وقف وتدبر لحظة لأجاب، ولذلك يقول جبير بن مطعم: (كاد قلبي أن يطير) من وقع الآيات.

الغفلة عن ذكر الموت

الغفلة عن ذكر الموت فانظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)، فواقعهم يقول: إن الموت لا يأتي، مع أنه آتٍ لا ريب فيه، فجملة عملهم يقول: إن الإنسان يشك في موته شكاً لا يقين فيه، مع أن الموت في حقيقة أمره يقينٌ لا شك فيه، فقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] كل المشاكل التي يجنيها المرء بعد ذلك سببها عدم ذكر الموت؛ ولذلك بدأ تبارك وتعالى بذكر أهل النار: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] أي: بما أنك جعلتني رقيباً عليه وعلى تصرفاته، فقد جئتك بكل ما يعمل، فهذا معنى عتيد. فلما جيء بهذا العبد الذي كان يحيد عن الموت، ولا يظن يوماً أنه سيموت، قال: {((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد} [ق:24] فأورد هنا ست صفات لمن يدخل النار ((كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ق:24 - 26] وهذه الست الصفات للإنسان الذي يهرب من الموت، وهذا متمثل في الكافرين، الذين يستمتعون بزهرة الحياة الدنيا، فبدأت الأوصاف بالكفر وختمت بالشرك، فكان مبدؤها الكفر وكان خاتمتها الشرك فأطبق عليه. وذكر أيضاً صفات أربع لأهل الجنة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33]. فعدم ذكر الموت هو سبب كل المشاكل، وقد ترتب على هذا الإهمال إهمال آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده)، فكم شخص منا كتب وصيته؟ إن كثيراً منا لم يكتب الوصية، ولم يخطر بباله أن يكتب هذه الوصية، ما هذا الأمان الذي نعيش؟! الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل المرء يؤمل استمرار الحياة، مع أنه كم من رجلٍ خرج من بيته ولم يعد إليه، وقد كان يؤمل العودة، حوادث كثيرة نقرؤها في الجرائد، فهذه امرأة أوصلت الإفطار للأولاد، فذهبت لتعبر الشارع وإذا بها تدهسها سيارة فتقتلها، والطعام ما زال ساخناً، والأولاد ينتظرون الأم لتأكل معهم. فما هذا الأمان الذي يجعل المرء لا يكتب وصيته؟! ما فرط في الوصية إلا لأنه لا يذكر الموت (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلةً -فقط- إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده). فأول ما يتوجب عليك -أيها المسلم- عند رجوعك إلى أهلك أن تكتب الوصية، فاكتبها وقل: هذه وصيتي، ومرهم بتقوى الله عز وجل، وأن لا يغتروا بالدنيا، وأن يعملوا الصالحات، وأن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وإذا كان الموصي عليه ديون أو له مال في الخارج فليكتبها، فمن علامة ذكر الموت: ألا يفرط في الوصية. قال تبارك وتعالى أيضاً: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29]، هذا أيضاً من آثار الحيد عن ذكر الموت. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] إذا مات المرء لا تلتف ساقه على الحقيقة، إنما هذا إشارة إلى تعسير السير إلى الله عز وجل، تخيل أن رجلاً يمشي في الشارع فالتفت ساقاه، ماذا سيحدث له؟ سيسقط على الأرض. فمعنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] أنه عاجز عن السير إلى الله كالذي التفت ساقاه فلا يستطيع أن يسير، ولذلك قال عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، وفي هذا بيان للسبب الذي جعله متعسر السير، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنازة حين تحمل على أعناق الرجال إذا كان المحمول فاجراً يقول ويصرخ بصوت يسمعه كل مخلوق ما عدا الإنس والجن: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) بعدما عاين وراءه، يقول: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هذا من آثار قلة ذكر الموت. إذاًَ فالوصية الأولى في هذه السورة المباركة: هي كثرة ذكر الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتخيل أي لذة أنت فيها لو ذكرت الموت لتعكرت عليك، فلو تخيلت حين تكون وسط أولادك ووسط الناس الذين يهنئوك بالعيد، وفاجأك الموت من بين هؤلاء، وبقيت رهين عملك، ولا أحد يزورك، ولا أحد يدعو لك، ولا أحد يتصدق عنك، لو تدبرت هذا المعنى لعكر عليك هذه اللذة. (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وحشة القبر

وحشة القبر لو أن الله عز وجل امتحنك ببلاء: مرض أو فقر، أو أي مصيبة من المصائب، وذكرت وحدتك عند دفنك، وأنك غريب، ولا أحد يشعر بك، ولا يتوجع لك، أعني: أن أهلك لا يعلمون أنك تتألم فيتصدقون عنك، ليتهم يعلمون أنك في كرب فيدعون لك؛ لكن شُغل الأولاد بالدنيا، فقليل من الأبناء الذين يترحمون على آبائهم، لاسيما إذا طال بهم العهد فجاوز ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة، فإنهم لا يلبثون أن ينسوهم، فليت أن مصاب الميت يصل إلى الأحياء حتى يترحموا عليه ويدعوا له. ذات مرة في سنة واحد وثمانين حين كنا في السجن، كان معنا سجين من أسوان، والمسافة ما بين أسوان وما بين القاهرة ثماني عشرة ساعة بالقطار، وكان كل خمسة عشر يوماً في وقت الزيارة يأتي أهلنا إلينا بالطعام والشراب، فنطمئن عليهم ونراهم، ونأكل ونشرب معهم، أما هذا فطول مدة سجنه لم يأته أحد، فقلنا: إن هذا الرجل يعيش في كرب، أليس له أحد يسأل عنه؟ فتشعر حينها بغربة الرجل، ففي كل زيارة تنظر إليه فتراه مكتئباً، ويظل يومه ذاك في هذا الاكتئاب؛ لأنه لا أحد يتوجع لمصابه، ولا أحد يسأل عنه، ولا أحد يهتم به، فخطر لي هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، كحال من يؤتى به يوم القيامة فيدخل الجنة، بينما يقاد ابنه إلى النار ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً. في مذابح البوسنة التي ارتكبها أهل الصليب ضد المسلمين، كانوا يأخذون الولد أمام أبيه، والولد يصرخ: يا أبي! أنقذني، يريدون أن يذبحوه، ولا يستطيع الوالد أن يفعل شيئاً، قلبه يتمزق وهو يرى الولد يستغيث به ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، بينما في الآخرة فلن يذبح الولد وإنما سيساق إلى النار، ولا يستطيع الوالد أن يفعل لابنه شيئاً، إذا خرج من رحمة أرحم الراحمين فمن يرحمه؟!! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة مائة جزءاً، فأنزل على الأرض جزءً واحداً -من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل الخلائق من إنس وجن، وحشرات وطيور، كل المخلوقات تتراحم بجزء واحد- حتى إن الدابة -أي: العجماء التي لا تعقل- لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه كل ذلك بجزء واحد من الرحمة، وادخر تسعةً وتسعين جزءاً لعباده الصالحين في القيامة) فإذا حرم المرء من تسعة وتسعين رحمة فيا له من شقي! يا له من شقي، هذا الذي لم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى!. الزهد في الدنيا: القصد به زهد القلب، لو كانت الدنيا في يديك وزهد فيها قلبك لتركتها في لحظة، وإذا سلبت منك فلن تبكي عليها، وإنما ستفعل كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون. طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، نام في فراشه يوماً مسهد الطرف، لا يستطيع أن ينام، جفاه النوم، وامرأته إلى جانبه، فقالت: (ما لك؟ هل رابك منا شيء فنعتبك -تعني: هل ظهر منا ما يغضبك فنعتذر لك-؟ فقال لها: ِنعمَ حليلة المرء المسلم أنت -يعني: أنت نعم الزوجة، لا أشتكي منك- ولكن جاءني مال، ولا أدري ماذا أفعل به -لا يقول هذا إلا رجل خرجت الدنيا من قلبه إلى يده- فقالت: ادع أرحامك ففرقه فيهم. قال: نعم الرأي. فدعا أرحامه ففرَّق فيهم ثلاثمائة ألف درهم) (ثلث مليون) درهم، ولم تؤثر على الرجل أبداً، لماذا؟ لأنها ليست في قلبه، بل هي في يده، فالذي أعطاه ثلاثمائة ألف درهم سيخلف عليه أضعافاً مضاعفة، وعنده اعتقاد بهذا، وعنده قناعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، فالإنسان حين يعطي أرحامه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه). فهان عليه ثلاثمائة ألف درهم، هذا هو الزهد الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام وربى أصحابه عليه. كل أحاديث الزهد الموجودة في كتب السنن وكتب الصحاح، المقصود بها زهد القلب في الدنيا، فإذن لا تعارض، لكن إذا وجدنا الناس تكالبوا على الدنيا فمن العبث ومن الخطر ومن الخطأ أن نجر إليهم الزاد ونقول لهم: انطلقوا في الدنيا نحن نحتاج إلى الكادر المسلم هذا الرجل الذي تشجعه على الدنيا لا يخرج زكاة ماله، فكيف تقول: نريد التاجر المسلم، وهو لا يخرج ماله؟! هذا الإنسان ما أسلم بعد الإسلام المنجي. كذلك الكلام عن الموت يرقق القلب، وكتب الرقائق وكتب الزهد كلها إنما تجر إلى هذا، وما زهد الزاهدون في الدنيا إلا لقصر عمرها وعظيم خطرها، قال صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله عز وجل طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير!) كيف يأكل الطعام الشهي، ثم انظر كيف يخرج هذا الطعام؟ كذلك الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا أينعت نعت، إذا أدبرت عن المرء سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه خلعت عليه محاسن غيره. ويظهر هذا في حال كثير من الطغاة، نظرت في كتاب -أيام أن كان بيننا وبين العراق وفاق- وكان الكتاب يوزع مجاناً في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وكان عبارة عن صور للرئيس العراقي، وظهر في إحداها وهو يمسك يمسك المصحف ومكتوب تحتها: الرئيس المؤمن، وصورة له وهو يضع يده على الفرس مكتوب تحتها: فارس العرب وهكذا، فالكتاب كله صور، فهل هو فارس؟ هل هو مؤمن؟ هل هو بطل؟ هل هو مغوار؟ قد يكون فيه بعض ما في هذا الكتاب من الأوصاف، لكن ليس كلها، فلما أقبلت الدنيا عليه خلعوا عليه محاسن غيره، كل ما عرف من فضائل الناس جعلوها فيه وهي ليست كذلك، فلما خلعت منه الرئاسة وأصبح فأراً وصار مثل بقية خلق الله، ينظر إلى نفسه فلا يجد الصفات التي كانت تسبغ عليه، أقبلت عليه الدنيا فكانت فيه كل الصفات، فلما أدبرت عنه الدنيا فقد كل تلك الصفات، حتى الصفات الأصلية التي كانت فيه فقدها فلم يعد يوصف بها. هكذا الدنيا: إذا أقبلت على إنسان خلعت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فعندما يعلم المرء أن هذه الحياة في القبر طويلة، مقارنة بالحياة التي سيقف أمام الله بها، والتي لا تتجاوز ثلاثين سنة، كما أن الذي يحكم عليه بالمؤبد -وهو ما يعادل خمسة وعشرين سنة- في السجن يفرج عنه بعد مضي هذه المدة، بينما من يسجن في هذا السجن الانفرادي -الذي هو القبر- لا يخرج منه إلا مع النفخ في الصور، ولا يعود إلى ملاعب صباه مرةً أخرى، ولا يلتقي بأولاده مرةً أخرى، ولا يعرف عن أحدٍ شيئاً قط، فإذا فصل الله عز وجل بين الناس فإنه لا يتعرَّف على أولاده إلا في الجنة إذا دخل الجنة، فهي رحلة طويلة جداً، هذه الرحلة الطويلة قبلها إعداد لمدة ثلاثين سنة فقط. فلو قدرنا أن الإنسان يعيش ستين سنة، فإنه لا يؤاخذ عن الستين عاماً كلها، إنما يؤاخذ عن نصفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ) والإنسان في العادة هو ينام ست أو سبع ساعات في اليوم في ستين سنة، فيكون بذلك قد نام عشرين سنة، فهذه عشرون عاماً لا يؤاخذ فيها لأنه نائم، ثم لا يؤاخذ حتى يبلغ (وعن الصغير حتى يحتلم) فهذه عشر سنوات على الأقل تضاف إلى العشرين عاماً، فيبلغ مجموعها ثلاثين سنة، إذن ما بقي من الستين عاماً إلا نصفها -أي: ثلاثون عاماً- وهي التي يحاسب عليها المرء أمام الله عز وجل.

ذكر القيامتين، الصغرى والكبرى

ذكر القيامتين، الصغرى والكبرى فسورة (ق) من جملة القرآن المكي الذي يخاطب القلب، ذكر ربنا تبارك وتعالى فيه القيامتين: القيامة الصغرى، والقيامة الكبرى، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذه هي القيامة الصغرى، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] وهذه هي القيامة الكبرى، فذكر القيامتين معاً، لكنه تبارك وتعالى نبهنا على داءٍ عظيم، يقع فيه أكثر الناس: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، يقال: هذا فلان حاد عن الطريق. أي: تركها وسلك بنيات الطريق، أي: ترك الطريق العمومي الواضح وسلك الطرق الفرعية، فيقال له: حاد، أو من ترك سبيل الحجة وكابر وجادل يقال: حاد، أي: انحرف، فربنا عز وجل ينبهنا إلى هذا الداء العظيم؛ وهو عدم ذكر الموت. هذا الموت الذي كنت منه تحيد، وكنت طول حياتك تهرب منه، ولا تريد أن تذكره، ولا تريد أن تعمل لما بعده، ولو قدر وذكرت الموت في بيتك فإن كل من فيه سيشورون عليك قائلين: اترك الكلام في هذا الموضوع، لماذا نترك الكلام فيه؟ كل المصائب -بلا مبالغة- سببها عدم ذكر الموت.

حقيقة الزهد

حقيقة الزهد جاء من آثار نشر المذهب الإرجائي في الأمة، أن خطباء المساجد يتلقون توصيات شفوياً في الاجتماعات فيقال للخطيب: لا تكثر من ذكر الموت ولا النار حتى لا ترهق نفسية الناس، ولكن اذكر رحمة الله تبارك وتعالى، واذكر الجنة وما فيها من النعيم، فإن هذا الرجل إذا عرف الجنة كان من الصابرين موقناً أنه سوف يدخل الجنة، وأنه إذا لم يحرز الدنيا فسيحرز الآخرة، وهذا خطأ في وضع العلاج، ويأتي في مقابلهم الذين رفضوا أحاديث الزهد في الدنيا، وقالوا: كيف نقول للمسلمين وهم يعيشون على هامش الحياة: ازهدوا في الدنيا؟ وكيف يملك الكفار الدنيا ونحن نقول للمسلمين: ازهدوا في الدنيا؟ وكأننا نطلق الدنيا ويتزوجها الكافر، لابد أن تكون الدنيا بأيدينا، ويحضون الناس على الدنيا وعلى التجارة وعلى الزراعة وعلى استثمار الأموال، وهذا أيضاً يحتاج إلى تخصيص. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما زهَّد الناس في الدنيا زهَّدهم في فضولها، ولم يزهدهم فيما يجب على المسلم أن يحصل، فمثلاً: لم يزهدهم في الإنفاق على الأولاد. حيث قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتاً)، وفي اللفظ الآخر لـ أبي داود: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). استرعاك الله عز وجل رعية: زوجة وأولاداً وأباً وأماً، فيجب عليك أن تنفق عليهم، فإذا قصر الرجل في النفقة على أهله وعلى أولاده فإنه يؤاخذ عند الله يوم القيامة، فعليه أن يجتهد، حتى لو كان العائد قليلاً، وهذا المفهوم لا يتطابق مع ما جاء في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن التكالب على فضول الدنيا، وأكثر الناس لا يسعون في الواجبات، بل يسعون في الفضول، فيريد أن يحصل أموالاً أكثر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) يعني: إذا وجدوا الغداء لا يكون عندهم العشاء، وإذا كان عندهم العشاء لا يكون عندهم الإفطار، هذا هو القوت. وإنما كان يقول ذلك حتى يعتمد بقلبه على الله، فالذي ليس عنده العشاء يقول: يا رب!، لكن كثيراً من الناس الذين معهم أموال لا يقولون: يا رب؛ استغناء عن دعائه تعالى، (فالشيك) في جيبه، والفلوس في (البنك)، متى احتاج المال ذهب إلى (البنك) ليصرفه، بخلاف الفقير، الذي يذكر الله عز وجل عن حاجة، فهذا هو الذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه؛ أن تكون الدنيا في قلبك، وقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تبسط الدنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من سبقكم). وأنت تجد الفقراء متحابين ليس بينهم خصومات؛ لا في الأموال، ولا في أعراض الدنيا، ففيهم راحة القلب، فكلما استراح القلب فقه عن الله عز وجل كلامه، فالذي يعين المرء على التخلص من الدنيا ذكر الموت، قال علي بن أبي طالب: (ما كان الموت في ضيق إلا وسعه، ولا في واسع إلا ضيقه).

فتنة الدجال هي أخطر فتنة تتعرض لها أمة محمد

فتنة الدجال هي أخطر فتنة تتعرض لها أمة محمد الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. (ما كان الموت في ضيقٍ إلا وسعه، ولا في واسعٍ إلا ضيقه). الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتنة القبر كثيرة: منها: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريب من فتنة الدجال) فلما سمع الصحابة بذلك أجهشوا بالبكاء، حتى إن أسماء لم تسمع الحديث. فتنة الدجال قال صلى الله عليه وسلم عنها: (ليست هناك فتنةٌ من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال). ففتنةُ الدجال سر خطورتها أنها تكون في زمن قلة العلم وقلة العلماء، والدجال كما قال عليه الصلاة والسلام: (يأتي بالرجل يمزقه، ويقطعه قطعاً قطعاً صغيرة، ثم يقول له: قم، فيقوم متهللاً ضاحكاً) فتخيل أن أمامك واحد قطع إنساناً قطعاً، ثم قال له: قم، فاستوى بشراً، أي فتنة أعظم من هذه؟!! وإذا مر على أرضٍ خربة فيها ذهب يقول للكنوز التي في الأرض: اتبعيني، فتخرج الكنوز من الأرض تتبعه كيعاسيب النحل، وعنده جنةٌ ونار، فهذه فتنةٌ عظيمة! وأعظم ما فيها غياب العلماء، كل يوم يمر على الناس والعلم يتناقص، وسر تناقص العلم موت العلماء، فعالمٌ ملأ الأرض علماً لما دفناهُ دفناه بعلمه، فمن الذي يخلفه على نفس كفاءته، وعلى نفس إحاطته بالعلوم، وفي ورعه وزهده؟!! قليل، وهكذا دواليك إلى أن تقوم الساعة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يسرى على القرآن في ليلة، فلا يبقى على الأرض منه آية) ينزع القرآن من صدور الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام في الأمانة: (ينام الرجل في فراشه فتنزع الأمانة من صدره). فأعظم فتنةٍ تشهدها البشرية إطلاقاً فتنةُ الدجال، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذكر فتنة الدجال، حتى إنه ذات مرة كان يخطب فجعل يرفع فيه ويخفض قال الصحابة: (حتى ظنناه في طائفة النخل) أي: أكثر من الكلام عليه، ظننا أنه جالس بين النخل، وكان يقول لهم: (إن خرج الدجال وأنا فيكم، فأنا حجيجه -أنا الذي سأناقشه، وأقيم الحجة عليه- وإلا فكل امرئٍ حجيج نفسه). ثم وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لهم فقال: (إنه أعور العين اليمنى وربكم ليس بأعور) لأنه سيقول: أنا ربكم، وسيتبعه أناسٌ كثيرون؛ بسبب قلة العلم، وقلة العلماء الذين ينبهون الناس أن هذا كافر، وأن هذا ليس بإله.

مشابهة فتنة القبر لفتنة الدجال في خطرها على العبد

مشابهة فتنة القبر لفتنة الدجال في خطرها على العبد فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال) فلما كان الصحابة عندهم علم بفتنة الدجال وخطورتها، وعرفوا أن فتنة القبر كذلك أجهشوا بالبكاء. آخر فتنة يتعرض المرء لها هي فتنةُ القبر؛ لأن الملكين يشككانه في جوابه حين يسألانه: (من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ فيجيب: ربي الله، فينهرانه بشدة ويعيدان عليه Q من ربك؟) وأصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف، فيصرخان فيه: من ربك؟ فيظن أنه قد أخطأ، وإلا لماذا يراجعانه، فيزل هذه المرة ويجيب بإجابة غير الأولى، لذلك بكى الصحابة، فأنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] عن الحجة وعن الجواب الصحيح، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، لا يستطيع رجلٌ أن يثبت على هذا الجواب إلا إذا كان في الدنيا حين يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فإنه يعتقدها في الدنيا ويعمل بها، وتكون منهج حياة له، فقبل أن يقدم على عمل ما يسأل أهل العلم: أهذا أحله الله لي؟ أهذا أجازه الله لي؟ أهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لي؟ حياته كلها على مقتضى لا إله إلا الله، فمثل هذا يثبته الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] مع الفتن الموجودة، ومع الضغط المرهق الذي يعانيه، إلا أنه لم يتخل عن الكلمة ولم يتخل عن الالتزام، فبعض الناس إذا شيك بشوكة أول شيء يفرط فيه التزامه، بينما لا يتردد في إتلاف نفسه من أجل الدفاع عن مكاسبه الدنيوية. فالإنسان يبذل في الدنيا جهداً كبيراً في تحصيل المال؛ فيتغرب في البلاد، ويشتغل عند الناس في أعمال وضيعة لا يرضى أن يعملها في بلده، مع أن الغربة اسمها يدل عليها، ومع ذلك يتحمل بعده عن أولاده وعن أهله وعن أبيه وعن أمه في سبيل المال، فلماذا يتنازل عن دينه لمجرد أنه اعتقل لمدة يومين أو تعرض لنوع من الأذى؟! فينبغي على المرء أن يكون عالماً بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا، ملتزماً بها؛ ليثبته الله عز وجل في الآخرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] فيثبت على هذا في الدنيا، ويصبر على اللأواء، وقد يخرج من بلده ويترك ماله وراءه كما فعل الصحابة، وما ندموا أبداً على هذا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة الذين هاجروا أن يقيموا في مكة أكثر من ثلاثة أيام لماذا؟ لأنهم لما خرجوا من مكة خرجوا منها لله وهجرة في سبيله، فلا يجوز لهم أن يرجعوا في هذا العقد مرةً أخرى، فإذا جاء أحدهم إلى مكة لحج أو عمرة لا يمكث بعد انقضاء النسك أكثر من ثلاثة أيام؛ حتى لا يتعكر احتسابه وبذله، قد يؤدي بك التمسك بـ (لا إله إلا الله) إلى أن تضحي بعنقك، فإذا ثبتَّ على هذا المر في الدنيا ثبتك الله عز وجل في الآخرة، والجزاء من جنس العمل. وللحديث بقية إن شاء الله. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

أسباب دخول النار

أسباب دخول النار إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

السبب الثاني من أسباب دخول النار

السبب الثاني من أسباب دخول النار {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [ق:25] ومناع صيغة مبالغة {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25] معتد: لحدود الله تبارك وتعالى، مريب: مشكك، فإنه يشكك في كل شيء، ما يأتيه من آية ولا حديث إلا وهو يشكك فيها، فكل هذه بوابات تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26].

كفران النعمة ورد البراهين من أسباب دخول النار

كفران النعمة ورد البراهين من أسباب دخول النار ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة الفاجر والمؤمن، وذكر جزاء كل واحدٍ منهما، وعللّ ربنا تبارك وتعالى هذا الجزاء. وقد بين الله تعالى سبب دخول العبد النار، وأنه بسبب إتيانه لست جرائم؛ فأول جريمة: أنه كفَّار، والعلماء قالوا: (الكفَّار) هنا المقصود به من يكفر النعمة، وهذا من أوسع الأبواب التي تؤدي إلى الكفر بالله، فإبليس اللعين لما عصى رب العالمين تبارك وتعالى، حين أمره بالسجود لآدم فأبى، وطالب الإمهال، فوعده الله عز وجل بذلك، فقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] لا يشكر أبداً. وأنا أقول: إن أكثر الناس مبتلى بهذا الأمر، فمن الناس من ابتلي بزوجةٍ لا ترضى، فهي لا تعرف كيف يأتي الرجل لها بالمال، ولا يهمها ذلك، ولو بذل في سبيل ذلك فوق طاقته فإن هذه المرأة تترك للرجل مرارة في الحلق لا يشعر بها إلا المبتلى، وهذا من كُفر النعمة، وقد يؤدي هذا الفعل إلى الكفر بالله تبارك وتعالى؛ لأن من الوفاء الشكر، وكثير من الناس -وأنا أعرف بعضهم- لا يشكرون الله عز وجل على عطائه، ولذلك لا يأبه بالنعمة ولا يعظمها، فمثلاً حين يكسب التاجر عشرة بالمائة زيادة على رأس المال، فيحلف بالله العظيم أنه خسران، لأنه كان مقدراً في نفسه أن يكسب عشرين بالمائة، فلما كسب عشرة بالمائة اعتبر نفسه أنه قد خسر عشرة بالمائة، ويحلف بالله العظيم أنه خسران، مثل هذا لا يرعى لله نعمة، كثير الشكوى والاعتراض على الله تبارك وتعالى، وهذه الصفة يتبعها صفات أخرى، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24] فهذا الكفر يورث العناد للرسل، وتجد أكثر هذه الطبقة -طبقة المعاندين- من أهل الدنيا الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى المال، فمن المعلوم أن أعداء الرسل هم المفرطون، وأعداء الدعاة هم المفرطون أيضاً، يظن الواحد منهم أنه يفعل ما يريد، وبعد ذلك يطهر ماله بعمرة أو بحج أو يعمل موائد الرحمن في رمضان، ففي القاهرة يعملون موائد الرحمن. واحدة من أشهر الراقصات كانت تقيم موائد رمضانية في بيتها، فتأتي باللحوم والأكل من أفخر المطاعم، وتنصب موائد الرحمن، ثم تذهب لتؤدي (عمرة رمضان)، وبعد ذلك ترجع إلى العمل وهكذا، وتراها تقول لك: نحن لا نرقص في رمضان احتراماً للشهر الكريم! ولكن أين احترام رب العالمين {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]. ومن الممثلين من يقول لك: أنا رجل ملتزم، ولا أمثل في رمضان، وهذا إقرار منه على نفسه أن الذي يعمله في غير رمضان غير جائز، وأنه لا يحل له. فهؤلاء يظنون أنه بمجرد أن يفعل ذلك فإنه يعود طاهراً من الذنوب، وإذا به يعود للمعصية مرة أخرى، ونحن لا نتألا على رب العالمين، ولا نقول: إن الله لن يغفر لها، ولا نقول: إن الله يقبل سعيها؛ لأنه لا يحل لأحد أبداً أن يتجرأ على إطلاق هذه الأحكام حتى لو كان المقصود فاجراً، فالخواتيم لا نعرفها، لكن نقول: إن من وقع في المعصية ولم يقلع عنها فلا يظن أنه إذا تصدق أو فعل شيئاً من البر أنه قريب من ربه، كان الصحابة المتقون الأخيار رضي الله عنهم، كلما ازداد إيمان أحدهم كلما اشتدت خشيته لله تبارك وتعالى، وأنت كلما أحببت خفت، فالمحب قد يذل لكنه لا يغتر، فهؤلاء أعداء الرسل وأعداء الدعاة إلى الله عز وجل؛ لأنهم يتصورون أن الدعاة أو الرسل أتوا ليأخذوا الدنيا منهم؛ فلذلك يعادونهم. ونحن نقول لكل داعية إلى الله: إذا دعوت رجلاً غنياً فكن حذراً في دعوتك، فالإنسان الغني له طريقته في الدعوة، بخلاف الإنسان الفقير، والحكمة أن تنزل الكلمة في موضعها، فحين تذهب إلى إنسان غني مترف، محاط بكل متع الدنيا، وتقول له: اخرج من مالك واتركه، ولأن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فهذا لا يستطيع أن يتبعك، نعم بعض الناس قد يتبعك، لكن أغلب الناس لا يستطيعون ذلك، يستوحشون هذه الوصية، كما قال قوم قارون له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: نحن ما جئنا لنأخذ مالك، ولا لنقول لك: لا تتمتع، فإن كنت تريد أن تأكل السمك، أو تريد أن تأكل اللحم أو تذهب إلى استراليا وترجع، نحن لا نحرج عليك، لكن نقول: احمد الله الذي سخر لك هذا، ولولا الله ما كنت لتستطيع أن تربح مثل هذا، لا بذكائك ولا بعبقريتك، لولا أن الله سخر لك هذا، فالله تبارك وتعالى يقول: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل:79] مثلاً حرب الخليج كان هناك طائرات عملاقة، وهي حاملات الدبابات، وهذه الطائرات تطير بأكثر من مائة دبابة، فسبحان ممسك هذا (الأسطول) في جو السماوات. فإذا كنت في الطائرة فتذكر أن تكبر ربك سبحانه وتعالى وتحمده، وحين تهبط أن تحمد الله أنك هبطت، وتذكر حين تدخل مطعماً أن تسمي الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو الذي رزقك بمثل هذا وهكذا دواليك. اسكن في أفخم القصور واعمر جنباته بذكر الله تبارك وتعالى، إذا كنت قادراً على ذلك؛ وأقل الناس هو الذي يقدر على هذا، وانتبه إلى قول قوم قارون لما نصحوه وهم يعلمون محبته للمال، لم يقولوا له: اخرج من مالك وتصدق بمالك كله، فالمرء لا يقوى على ذلك، لكن قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] واعمل لنفسك، وفي نفس الوقت: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أي: لم يكن معك مال ولم تكن لك نباهة ولا ذكر، وربنا سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] أي: كان واحداً من قوم موسى لا نباهة له ولا ذكر له ولا شأن له، فلما آتاه الله عز وجل المال بغى عليهم، هكذا تكون بداية الكفر والبطر على النعم، وكثير من الناس هكذا، إن الإنسان الغني الذي ورث الغنى لا يستوي مع الذي طرأ عليه الغنى، فالذي يرث الغنى كابراً عن كابر لما ولد وجد أباه ثرياً أخذ نفس الصفة من أبيه، بخلاف الذي طرأ عليه الغنى، فإنه يلقن ابنه: يا بني كن ذئباً حتى لا تأكلك الذئاب؛ لأن الحياة عنده عبارة عن معركة، تراه يعمل عمل الذئب، فيغمض عيناً ويفتح الأخرى، فهو يقضان هاجع كما يقول الشاعر، فهو يعلم ابنه ليكون مثله، فالأب في العادة يكون مثالاً يحتذيه الابن، حتى لو كانت مماثلة الابن لأبيه في خلق ذميم، كما يروى في بعض الكتب قصة ذلك الرجل البخيل الذي أتى بعظمة فأراد أن يختبر بنيه أيهم يحسن استغلالها، وأعطاها في النهاية لمن أحسن وصفه لكيفية الاستفادة منها، وأثنى عليه. فنقول: إن من تعلق بالدنيا مهما ذكرته أو قلت له: التمس في ما آتاك الله الدار الآخرة فلن ينفع، لكن ينبغي عليك أن تسلك معه السبل الصحيحة، أولاً: أن تذكره بقول تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. وثانياً: أن ترقق قلبه بأن تذكره بحاله، وأن الله أحسن إليه، فمن هذا الباب عليه أن يعامل الناس بنفس الوفاء، أحسن الله إليه فيحسن إلى الناس، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] فإن لم ينفع ذلك انتقل إلى التهديد، فتأمل درجات الدعوة: أولاً تقول له: أد حق الله وتمتع، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] ثم بعد ذلك تهدده: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] فإن الإنسان قد يرعوي إذا هدد. ونضرب هنا مثلاً الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل ثلاثة: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله عز وجل أن يبتليهم، فأرسل إليهم ملكاً في صورة رجل، فذهب إلى الأقرع، فقال: ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال له: أي المال تحب أن تُرزق؟ قال: البقر. فأعطاه بقرة حاملة، قال: بارك الله لك فيها. ثم ذهب إلى الأبرص فقال له مثل الأول. فقال: أن يعطيني الله جلداً حسناً وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال: أي المال تحب؟ قال: الغنم. فأعطاه غنمةً وليدها، وقال: بارك الله لك فيها، ثم ذهب إلى الأعمى، وقال: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، وقال فأي المال تحب؟ قال: الإبل، فأعطاه ناقة حامل، فلما دعا لهم الملك دعا لهم فبارك الله عز وجل للأول في الأغنام والثاني في الأبقار والثالث في الإبل، حتى صار لكل واحد منهم وادياً من الإبل ومن البقر ومن الغنم، ثم بعد حول جاء الملك للأبرص في صورة رجل أبرص وقال له: عابر سبيل انقطعت بي السبل، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني غنمة أتبلغ بها في سفري؟ فقال له: الحقوق كثيرة) أي: أنا رجل مديون، ولو أعطيتك وأعطيت هذا وهذا فسينتهي ما معي (فقال له الملك: كأني أعرفك ألم تكن أبرص فأعطاك الله جلداً حسناً ولوناً حسناً؟ ألم تكن فقيراً فأغناك الله؟ قال: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، أباً عن جد، ولم أذق الفقر أبداً في حياتي) فانظر إلى كفران النعمة كيف يؤدي إلى الكذب! فكل العناد مبني على الكذب، والعناد: أن تدفع بصدرك في نحر الحجة، هذا هو العناد، وحين تقرأ سير المكذبين في القرآن ترى كيف كذبوا قومهم، فإن العناد هذا كله مبني على قاعدة الكذب، وأول يجحد المرء الوفاء يكذب. (قال له: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، قال: إن كنت كاذباً صيرك الله كما كنت، فرجع كما كان) فالله عز وجل لا يتعاظمه أحد، وإن ذلك على الله يسير، فاحذر إذا آتاك الله عز وجل المال من هذا الجحود، أو أن يردك الله عز وجل

أسباب دخول الجنة

أسباب دخول الجنة

حفظ حدود الله من أسباب دخول الجنة

حفظ حدود الله من أسباب دخول الجنة إذاً فأول صفات أهل الجنة الذين وصفهم الله عز وجل بالمتقين: هي (أواب). وثاني صفة هي: (حفيظ) بمعنى حافظ لحدود الله عز وجل لا يتجاوزها، فهو أواب حفيظ، ومن حفظ العبد لحدود الله تبارك وتعالى أنه إذا ذُكّرَ بالله ذكر واتعظ، فإذا قيل له: اتق الله في أموالك -أي: خف ربك تبارك وتعالى-. فإنه يستجيب في الحال. فإذا وقف عند أمر الله فهو حفيظ، إذا كره الرجل المرأة عليه ألا يذرها كالمعلقة، إنما يطلقها؛ فإنه إذا علَّقها فقد تجاوز حدود الله ولم يحفظها، الرجل إذا كان وحده وليس عليه رقيب إلا الله ينبغي عليه أن لا يتجاوز حدود الله؛ لأنه حفيظ أمين، ولذلك ذكر الله عز وجل بعدها: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر:18] وهذه أميز صفة يتميز بها المسلمون عن بني إسرائيل، عن الأمم السابقة أنهم يخشون ربهم بالغيب، لم ير ربه تبارك وتعالى ولكن يخشاه ويخافه. الشرطة العسكرية في الجيش منذ زمن تعلم أفرادها شيئاً وهو: إذا دخلت الغرفة ولقيت (بدلة) الضابط معلقة فعليه إلقاء التحية. فإذا رأيت بدلته فكأنه موجود، فهم يعلمونهم هذا الأمر، ومن لا يلتزم يعاقب، ويقال له: إن مغيبك مشهدك. نحن نقول: إن وجود رب العالمين في قلب كل مسلم إن كان عامراً بذكر الله تبارك وتعالى، فإذا خلوت فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب. فإذا وقفت عند حدود الله عز وجل، خاصة وأنت لوحدك، فأنت بذلك تكون حفيظاً، ولا يكون المرء حفيظاً إلا إذا خشي الله بالغيب، وبنو إسرائيل إنما عذبهم الله العذاب الأليم؛ لأنهم رأوا الآيات البينات وجحدوا بها، وجعل الله عز وجل المثوبة لهذه الأمة؛ لأنها آمنت بالله ولم تره، وآمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم تره، وقد ذكرت هذه الصفة في أول صفات المؤمنين في أول سورة البقرة.

الرجوع والتوبة إلى الله من أسباب دخول الجنة

الرجوع والتوبة إلى الله من أسباب دخول الجنة ذكر ربنا سبحانه وتعالى أسباب دخول النار. فما هي أدلة دخول الجنة؟ قال تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:31 - 32] فأول صفة: (أواب)، كثير من الناس يرجعون إلى الله في أول رمضان، ورمضان شهر فاضل، وكثير من العصاة يبدأ رحلة التوبة في رمضان، فنحن نقول لكل رجل رجع إلى الله عز وجل في رمضان: ينبغي عليه أنه يجدد هذه التوبة ويقويها، وعليه أن يتذكر مرارة العصيان والبعد عن الله تبارك وتعالى. والأواب: الرجَّاع. إذا أذنب سرعان ما يحدث توبة، انظر في الحديث القدسي، قال الله تبارك وتعالى: (أذنب عبدي ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرتُ لعبدي، فليفعل عبدي ما شاء). نفهم من هذا الحديث أن أول درجات الأوبة الاعتراف بالذنب؛ لأن عدم الاعتراف بالذنب فيه اتهام لله، فإذا جاء رجل فقال: يا رب إني ما ظلمت ولا تعديت حدودك، ولكن كتبت عليّ سيئات، فإن هذا اتهام لرب العالمين بالظلم؛ لأنه إذا لم يعترف فقد اتهم الطرف الآخر، فلذلك لا يقبل من العبد توبة إلا إذا اعترف، لابد أن يعترف الأول أنه مذنب وأنه مخطئ، بعد هذا الاعتراف يقبل الله عز وجل منه توبته؛ ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في حديث الإفك: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله، فإن العبد إذا اعتراف بذنبه وتاب؛ تاب الله عليه) ولذلك حين أذنب العبد بذنب قال: (رب إني أذنبت) فهذا إذاً، ولذا قال: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به). إن عدم الاعتراف فيه مكابرة، كما في الحديث الصحيح: (يجيء العبد يوم القيامة فيقرره الله بذنوبه) فيقول العبد لربه: لم يحصل مثل هذا ولا هذا، (فقال العبد: رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى، قال: فإني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني) لأنه يعلم أنه أقفل على نفسه الغرفة وعمل المعصية، فهو يظن أنه لن يكون هناك من يشهد عليه فيقول: (ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى. قال: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي، حينئذٍ يختم الله عز وجل على فيه وتنطق جوارحه) تنطق جوارحه بما كان يفعل، فيقول لهن: (سحقاً لكن، فعنكن كنت أناضل) بخلاف العبد الآخر، كما في حديث النجوى: (المؤمن عبد يقربه الله عز وجل من كنفه ويقرره بذنوبه بينه وبينه، يقول له: فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: أتذكر ذنب كذا؟ فلا يزال يقرره بذنوبه حتى يتساقط وجهه حياءً من الله، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم). فالأواب: أي الرجَّاع، والإنسان الأواب له بشارة، وهي أنه يعد مهاجراً إلى الله، وحقيقة الهجرة كما قال صلى الله عليه وسلم حين سئل: عن المهاجر من هو؟ قال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأنت كل يومٍ مهاجر إلى الله، كلما تركت ذنباً وأحدثت طاعة فقد خرجت من الذنب إلى الطاعة، إذاً فهذه هي الهجرة، (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وأنا أطلب من إخواننا الجلوس أن كل واحد منهم أو ما يفعله حين يدخل البيت أن يخرج (التلفزيون) من البيت، هذه وصية غالية ونفيسة، يخرج هذا الملعون من البيت. هل يرضى أحدنا أن يترك رجلاً أجنبياً مع امرأته في غرفة النوم؟! هل يقبل أحد بهذه العملية؟! والله العظيم إن (التلفزيون) ألعن من رجل الخنا والفجور، ولا سيما بعد انتشار القنوات الفضائية، وبعد أن أصبح الإرسال الجنسي يغزو (التلفزيونات) عندنا، والأولاد -بعد الساعة الثانية والنصف من الليل- يعودون ليبحثوا في القنوات كلها من أجل أن يأتوا بالقنوات التي تبث عن طريق البحرين أو من إسرائيل أو غيرها من القنوات الكفرية، هل تظن أن امرأتك مريم بنت عمران؟ لا تفكر أبداً! تنظر رجلاً مع امرأة في (الفيلم) فيخطر ببالها مثل ما يخطر ببالك، فأنت حين تترك رجلاً أجنبياً مع المرأة في البيت فإن هذه جريمة كبيرة، فكذلك التلفزيون. شهر رمضان من أكثر الشهور التي يلهو الناس فيها، وهناك بدعة صريحة عندنا في القاهرة والمدن الكبرى، خيمة رمضان، ومن المفروض أن تقام ليلاً، لكنها بدلاً من أن تكون خيمة صارت خيمة خيبة، يقول لك: خيمة رمضان، وفيها أحدث المطربين وفيها (النرجيلة) وفيها (المخدرات) و (الحشيش) وكمل ما تشتهيه نفسك. فيأخذ أحدهم امرأته ويذهب إلى تلك الخيمة، فيعصون الله عز وجل في رمضان الذي هو شهر العبادة والتقرب إلى الله. فتراهم في (التلفزيون) يعملون أحد عشر شهراً من أجل الاستعداد لبرامج رمضان من مسلسلات وأفلام، فهذا الجهاز ملعون، فأنت لو أخرجت هذا الجهاز من بيتك فقد حققت هذه الهجرة، (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فهذا الكلام ينطبق على الأواب، والأواب: أي الرجاع، الذي يحدث توبةً دائمة، فما من توبة يحدثها إلا وهو مهاجر وهو أواب.

فوائد أخرى من سورة (ق)

فوائد أخرى من سورة (ق) إذا رجعنا إلى سورة (ق) سنجد فيها إثباتاً للأسماء والصفات، كقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] أي: أنا إذا وعدت الثواب على الطاعة فإنه وعد لا تفريط فيه. لكن إذا هدد بشيءٍ قد يتجاوز فيه تبارك وتعالى، وهذا من تمام كرمه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد -أي: هدد - فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) ومعناه: قد يسقط عنه العقوبة، لكنه إذا وعد وعداً أنجزه، وفي السورة أيضاً إثبات للنبوات، وإثبات لخلق السماوات والأرض، وإثبات لسنته تبارك وتعالى الكونية في إهلاك الأمم الباغية الظالمة، وإثبات للخيانة وضعف الأرواح والأبدان، إلى آخر هذه المعاني، فهذه السورة حين تتدبرها تجد أنها جمعت الدين كله، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأها في كل جمعة. فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا فهم كتابه، وأن يجعل حبه أحب إلينا من الماء البارد على العطش. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شروط العمل الصالح

شروط العمل الصالح إن المستقرئ لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة قد استفاضت بذكر أركان وشروط العمل الصالح، وأن رفعه إلى الله وقبوله مرهون بتحقيق هذه الشروط والأركان، وبقدر الإخلال في تحقيقها يكون حساب العبد ومنزلته، فإن حقق هذه الشروط والأركان سعد ونجا، وإن أخل بها هلك وحبط عمله.

شروط وأركان العمل الصالح

شروط وأركان العمل الصالح إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فمفهوم هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى لا يرفع إليه إلا العمل الصالح؛ فما هو العمل الصالح الذي يرفع ولا يرفع سواه؟ إن حاجتنا ماسة لمعرفة شروط العمل الصالح وأركانه، فكل عمل في هذه الدنيا مرهون بتحقيق ركني العمل الصالح وشرطيه، فهو أولى من البحث عن لقمة الخبز، وأولى من البحث عن طبيب يزيل العلة. إن العبد العاصي إذا وقف على شفير النار يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] فهذه هي الحياة حقاً: أن ينجو من النار، وأن يدخل الجنة. فدخول الجنة والنجاة من النار مرهونة بتحقيق ركني العمل الصالح وشرطيه، وبقدر الخلل في تحقيق الركنين والشرطين يكون حساب العبد وتكون منزلته. والمستقرئ لأدلة الكتاب والسنة يجد أن النصوص قد استفاضت بذكر ركنين للعمل الصالح وشرطين، فأما الركنان: فالأول منهما: هو توحيد الله تبارك وتعالى، وعدم الإشراك به شيئاً. الركن الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك العمل. أما الشرطان: فالشرط الأول: هو تمام الذل. والشرط الثاني: هو كمال الحب. فإذا حقق العبد الركنين والشرطين فهو السعيد حقاً. وإن الناظر إلى حياة الصحابة رضوان الله عليهم يجد أنهم حققوا الشرطين والركنين أتم تحقيق، وامتد هذا الأثر الحميد إلى حياة التابعين، وهناك قصة صحيحة عن عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله ورضي عن أبيه أن الآكلة دبت في رجله -الآكلة: داء الغرغرينا عافانا الله وإياكم، إذا دب في القدم تبتر- فقال الطبيب: تقطع. فقال له: وكيف نقطعها؟ قال: تعاطى الخمر، فإذا سكرت قطعناها. قال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني أصلي، فإذا دخلت في الصلاة فاقطعوها. فلما دخل في الصلاة نشروا اللحم، فلما وصلوا إلى العظم أغمي عليه، فما شعر بشيء) فبقدر خشوعك في الصلاة والإخبات فيها يكون تحقيق الركن والشرط. فنحن الآن نضع رءوس أقلام على كل عنصر من هذه العناصر، إذ الكلام فيها متسع جداً، لكن نضع نتفاً، والسعيد من وعظ بغيره، ومن لا يشفيه القليل لا يفيده الكثير.

أركان العمل الصالح

أركان العمل الصالح

الركن الثاني: المتابعة

الركن الثاني: المتابعة مفهوم المتابعة: ألا تفعل شيئاً إلا إذا أُذن لك فيه من قبل الله عز وجل أو من قبل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمركم، والله تبارك وتعالى جعل المتابعة ثمرة المحبة، قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقد جمع الله عز وجل ركني العمل الصالح في نصف آية من القرآن: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] (عملاً صالحاً) أي: موافقاً للسنة، (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً): هذا هو التوحيد الخالص.

الركن الأول: توحيد الله عز وجل

الركن الأول: توحيد الله عز وجل إن توحيد الله عز وجل الذي جاءت به الرسل هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية فطر الله الخلق عليه. توحيد الألوهية: أنه لا يجوز صرف شيء لله لغير الله عز وجل من العبادة والنسك وغير ذلك، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] هذا هو توحيد الألوهية. وتوحيد الربوبية فطر الله الناس عليه، ولذلك المشركون لما جوبهوا بهذه الأسئلة أجابوا الإجابة الصحيحة التي تتناسب مع اعتقادهم أن الله عز وجل هو الرب الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يرزق الناس، وهو الذي يخلق الناس، وهو الذي يميت ويحيي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فلماذا كفرهم؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] لماذا كفرهم؟ {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85] إلى آخر الآيات، لماذا كفرهم إذاً؟ لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية، أي: بإفراد الله عز وجل في العبادة، فقال بعضهم لبعض: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وما هو العجاب؟ لقد تفرد بالخلق، وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أفلا يتفرد بالعبادة؟ أليس هذا مناسباً أن يتفرد بالعبادة وقد تفرد بكل شيء؟! ولذلك فإن القرآن الكريم يثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية، فيذكر آلاء الله ونعمه على الخلق، ثم يقول لهم: إذا كان الخلق، والإحياء، والإماتة، والرزق بيد الله عز وجل؛ أفلا يستحق فعلاً أن يكون هو المعبود دون سواه؟! وبعض الناس يلتبس عليهم الأمر ولا يفرقون بين النوعين، فمثلاً: أفتى بعضهم يوماً أن الطواف بقبور الصالحين والأولياء كـ الحسين رضي الله عنه، وكالسيدة زينب رضي الله عنها، وسائر عباد الله الأخيار الذين بنوا على قبورهم قباباً، يقول: إن الطواف بقبور هؤلاء ليس شركاً ثم يبسط قوله فيقول: لأنك لو سألت رجلاً ممن يطوف: هل هناك رازق غير الله؟ يقول: لا، هل هناك محي غير الله؟ فيقول: لا. هل هناك مميت غير الله؟ فيقول: لا. إذاً: هذا الرجل موحد -حسب زعمه-. فنقول: لا. هذا الرجل لم يعرف من التوحيد إلا ما عرفه المشركون الأوائل، وهو توحيد الربوبية، لكن هذا الرجل شد رحله من بلده لطلب حاجة، أو دفع ضر، أو جلب نفع والتوحيد حقاً، أن نعتقد أنه لا يقدر على دفع الضر إلا الله، ولا يقدر على جلب النفع للعبد إلا الله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف). فعندما تشد الرحل من أقصى البلاد لتقول: يا حسين! ادفع عني الضر؟! فما صنعة الله في الكون؟! {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. فالمقصود من توحيد الألوهية: أن لا تصرف شيئاً من العبادة إلا لله، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] (الحنيف): يعني: المائل عن العقائد الزائغة، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]. ولتعلم أن العمل الصالح قاعدته: التوحيد، وإلا فقد جاء أقوام إلى الله عز وجل بأعمال كثيرة؛ فقال عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] لأن القاعدة متهالكة، وفي الحديث الآتي بيان لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما، وهو نِذارة خطيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أول ما يدخل الجنة شهيد وقارئ وعالم -وفي رواية للنسائي: (ورجل جواد) أي: غني- فيؤتى بالشهيد، فيعرفه الله نعمه عليه، ثم يقول له: ماذا فعلت؟ يقول: يا رب قاتلت فيك حتى قتلت. فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، ثم يسحب به إلى النار. فيؤتى بقارئ القرآن: ماذا فعلت بالقرآن؟ يقول: يا رب! قرأته فيك آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل قرأت ليقال: قارئ، وقد قيل؛ فيسحب به. ثم يؤتى بالعالم: ماذا فعلت بالعلم؟ يقول: يا رب! علمت الناس آناء الليل وأطراف النهار. فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل علمتهم ليقال: عالم، وقد قيل، وكذلك الأمر في الرجل الجواد: ماذا فعلت بالمال؟ يقول: يا رب! أنفقته فيك. فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، بل أنفقت ليقال: جواد -يعني: سخي- وقد قيل). هذه الأعمال الأربعة من أجل القربات إلى الله: فالشهادة فضلها معلوم، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشهيد يرى مقعده من الجنة مع أول دفقة من دمه) فكيف يحشر إلى النار، ويكون أول الداخلين؟ وكذا قارئ القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) وفي الحديث الآخر: (لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، قارئ القرآن يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) فتكتب مائة وتسعين حسنة، والذي يقرأ القرآن الكريم كل شهر تكون لديه جبال من الحسنات، فكيف يدخل النار ويكون أول الداخلين مع هذه القربة؟! وكذلك العالم: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) فالكل يدعي العلم لشرف العلم، قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا) [آل عمران:18]، فمنزلة العلماء رفيعة معروفة، فكيف يسحب هذا إلى النار ويكون أول الداخلين؟ لماذا هذا الجزاء؟! لأنهم أشركوا في أصل العمل، فأرداهم، ولا ينفع مع الشرك طاعة، فبرغم فضل عمل هؤلاء إلا أنهم لما أشركوا بالله عز وجل بطل عملهم وصار وبالاً عليهم. وهناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخل النار. وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد شبر -أو قال: قيد ذراع- عمل بعمل أهل الجنة؛ فدخل الجنة) فالمشكل هنا: كيف أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة زماناً طويلاً ثم يحشر إلى النار، والرجل يعمل بعمل أهل النار زماناً طويلاً، ثم يحشر إلى الجنة؟! نقول: يزيل هذا الأشكال وجود زيادة في نفس الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس) وبهذا انتهى الإشكال، أي: يعمل الزمن الطويل مرائياً، لذلك ناسب أن تكون خاتمته على غير ما كان يعمل، إذ لو كان يعمل لله؛ فإن الله لا يضيع أجره، والعبد يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، لكنه لما أقبل على الله كان صادق الطلب، وليس عن أذهانكم ببعيد حديث: (الرجل الذي قتل مائة نفس، فسأل راهباً عابداً: ألي توبة؟ قال: لا. فقتله فأتم به المائة، ثم سأل رجلاً راهباً عالماً قال: قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعمل معهم. فخرج الرجل وقد ناء بصدره -أي: قدم صدره، كناية عن المبادرة والإسراع- إلى الأرض التي أمره العالم بالتوجه إليها، فما خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله عز وجل إليهم حكماً أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها، وأمر الله الأرض -لأن الرجل ما كاد يخرج حتى مات، يعني: هو يقيناً أقرب إلى أرض العذاب، لكنه لما كان صادق الطلب أمر الله الأرض أن تطوى من تحته- فقال لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد؛ فغفر له فدخل الجنة). إن الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولذلك قال الله تعالى: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]؛ لأنك مهما فعلت من الذنوب لا يمكن أن تأتي على رحمة الله كلها، بل هي تشملك وتشمل كل عاص، فهي أوسع مما تتصور، وهذا يناسب كمال صفاته تبارك وتعالى. إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار) فيما يظهر للناس. فلذلك كل عمل راقب العبدُ فيه العبدَ فهو على شفى هلكة، والعلماء لهم هنا بحث فرعي، يقولون مثلاً: لو جاء رجل إلى المسجد ليصلي الصلاة، فبينما هو يصلي إذ رمق شخصاً يلتمس عنده الوجاهة؛ فأطال الصلاة، فأطال الركوع والسجود فما حال صلاته؟ قال العلماء: ما زاده مردود، أما أصل عمله فمقبول؛ لأنه لما خرج إلى المسجد ما خرج رئاء الناس، وإنما خرج ليصلي. ولو أنه خرج من داره ل

صور من اتباع الصحابة رضوان الله عليهم

صور من اتباع الصحابة رضوان الله عليهم كان الصحابة رضوان الله عليهم من أشد الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الله ورسوله، ونحن في حاجة ماسة إلى الاطلاع على حياة الصحابة، كيف كانوا يتبعون القول بالعمل، ويفسرون الأقوال بالأعمال والمبادرة إلى تنفيذ الأمر. وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة باتباعهم وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في صلح الحديبية، قال: (فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض إلا كادوا يقتتلون على وضوئه عليه الصلاة والسلام، وما تنخم نخامة إلا استبقوا عليها، فما تقع في يد رجل إلا دلك بها وجه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ويبتدرون أمره) لذلك ثبتت لهم البشارة فقال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8]. وليست الأولى بأفضل من الثانية، بل الشرف لهم أن يرضوا عن الله، ليس الشرف أن يرضى الله عنهم فحسب، إذ لو سخط الخلق جميعاً على الله لا يضره ذلك، لكن الشرف لهم أن يقول الله لهم: (أنتم رضيتم عني) فهذا هو الشرف، وما نالوا هذا الشرف ولا حازوا هذا السبق إلا بالمبادرة إلى تنفيذ أمره ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفتدونه بكل غال ونفيس، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر يوماً على أجمة -مكان فيه أشجار كثيرة- وكان يقبع في هذه الأشجار عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، فلما مر النبي عليه الصلاة والسلام قال عبد الله بن أبي بن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو كبشة: جد الرسول عليه الصلاة والسلام لأمه، جد غامض غير معروف، وقد كانت العرب إذا أرادت أن تنتقص رجلاً نسبته إلى جد غامض، حيث أن الجد المشهور يكون الانتساب إليه شرف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فالنسبة لـ عبد المطلب تعتبر شرفاً؛ لأنه رجل معروف ومشهور وله مكانة في الناس، لكن أبا كبشة لا يعرف في الناس. فهو يريد أن يحتقر الرسول عليه الصلاة والسلام ويشتمه، فسمع هذه الكلمة من عبد الله بن أبي بن سلول ابنه عبد الله، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي أكرمك، والذي أنزل عليك الكتاب لأن أمرتني لآتينك بعنقه -الولاء للرسول عليه الصلاة والسلام قبل الولاء للآباء والأبناء- فقال له: لا. ولكن بر أباك وأحسن صحبته). وعندما قامت معركة بدر بين المسلمين والكافرين، كان هناك ابن لـ أبي بكر لم يكن أسلم آنذاك، وكان في صفوف الكافرين، وكان يرى أباه أبا بكر رضي الله عنه فينخلس بعيداً عنه، فلما أسلم الولد قال لأبيه: لقد كنت أراك يوم بدر، فكنت أخشى أن يسبق سيفي إليك، فقال أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك. وهذا هو الفارق الجوهري ما بيننا وبين الجيل الأول. فالمتابعة: ألا تحرك ساكناً، ولا تسكن متحركاً إلا بإذن، ولله در سفيان الثوري لما قال: إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل. نحن مبتلون بأننا نفعل الفعل، فإذا وقعنا في ورطة طلبنا الحكم الشرع وسألنا عنه، والأصل أن يسأل قبل أن يفعل: أهو جائز أم لا، مشروع أم لا. لقد كان اتباع الجيل الأول: لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام في غاية الروعة. من ذلك ما جاء في حديث جرير بن عبد الله أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم)، فطبق جرير هذا الحديث على تصرفه الشخصي -لا تحفظ النص ثم لا تعمل به فيكون حجة عليك، فالجهل به خير من معرفته ومخالفته، وليست هذه دعوة إلى الجهل، لكن الرجل الذي يعلم ويخالف شر من الذي لا يعلم، فالذي لا يعلم قد يكون له عذر مقبول، أما الذي يعلم ثم يخالف ليس له عذر- (فأرسل جرير رضي الله عنه غلامه ليشتري له فرساً، فوجد الغلام الفرس بثلاثمائة درهم، وجاء الغلام بصاحب الفرس ومعه الفرس إلى جرير ليقبضه الثمن، فلما رأى جرير الفرس وجده يستحق أكثر من ثلاثمائة، فقال: يا فلان! فرسك يستحق أربعمائة. قال: قبلت. قال: خمسمائة. قال: قبلت. قال: ستمائة. قال: قبلت حتى وصل به إلى ثمانمائة فقال الرجل: قبلت. فأعطاه الثمانمائة فتعجب الغلام، إذ التجارة شطارة، وكلما أخذت البضاعة بسعر أقل اعتبر الناس من المكسب العاجل، والحلال المباح؛ وقال لـ جرير: ما هذا الذي فعلت؟ قال له: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. أي: لا أستطيع الغش، وهذه هي كمال المتابعة. أن تتابع بالفعل. (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلبس خاتم ذهب، فلما رآه أخذه منه ونزعه نزعاً شديداً، ورماه في الأرض وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده! فلما قام الرجل ينصرف وقد ترك الخاتم على الأرض، قيل له: خذه فبعه وانتفع بثمنه. قال: كيف آخذه وقد طرحه رسول الله؟!) وترك الخاتم. وذهب بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! عظنا وأوصنا. قال: لا تسألوا الناس شيئاً) فكان الواحد منهم يكون راكباً على فرسه فيسقط سوطه، فلا يقول: يا فلان! ناولني السوط. فامتثلوا؛ ولذلك عز وسادوا. ولكن إذا نظرت إلى الأجيال الخالفة كما في وقتنا تجد بينهم وبين المتابعة بوناً شاسعاً، بل لا يتورعون عن فعل المحرمات. وقد جمعني مجلس برجل يدخن، فقلت له: يا فلان! إن التدخين حرام. فأخذ نفساً عميقاً، ثم قال لي: يعني: ليس مكروهاً؟! فهب أنه مكروه، ألا يكفي فيه أن الله ورسوله يكرهان هذا الشيء؟! فكيف طابت نفسك بعدما سمعت حكم الحرمة أن تأخذ هذا النفس العميق؟ هلا استثنيت؟ هلا كففت حتى إذا تناقشنا ولم تقتنع بالحرمة شربت؟ فكيف تسمع لفظ الحرمة فتستمر على هذا الفعل؟ وهذا تحد، واستكبار على أمر الله. وإذا سلمنا أنها مكروهة -وهي قطعاً حرام- فالبوابة إلى المحرمات المكروهات، وإذا كان الشيء مكروهاً فتعودت على فعله دخلت إلى الحرمات وسهل عليك فعلها. لماذا حرم الله النظر إلى النساء؟ أليس لكف الرجل عن الزنا؟ فأين النظر وأين الزنا؟ لكن هذا من باب سد الذريعة، فإذا كان هذا الباب يوصلك إلى الحرام فأغلقه، فهذا أنجى لك. والعلماء يقولون: الإكثار من المباح يوقع في المحرمات. وذكروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الشبع، مع أن الشبع جائز، لكن العلماء قالوا: (الإكثار من الأكل حتى الشبع يرخي النفس، ويقعد الأعضاء عن العبادة)؛ لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) لأن الصوم يكسر من حدة الشهوة في الدم والنفس. وأكثر الناس وأشدهم شهوة الذين يملئون بطونهم، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قيل له: ألا نأتيك بجوارش -الجوارش. يعني: دواء يذيب الأكل في المعدة، علاج هضم-؟ فقال: وما جوارش؟! قالوا: للمعدة. قال: أنا لم أشبع منذ أربعة أشهر، لا أحتاج لجوارش. والمعدة الخالية يكون صاحبها أقوى قلباً، وإذا نظرنا إلى الخيل في مضمار السباق؛ فإن الفرس الذي له كرش لا يستطيع أن يعدو، وإنما الذي يسبق الفرس المضمر الذي لا بطن له، وأصابته المخمصة. ومن أكبر الأدلة على مسارعة الصحابة إلى تنفيذ أمر الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاعتراض عليه ما ورد في حديث الأنصار بعد قسمة غنائم غزوة حنين، عندما جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال: لا يكن مع الأنصار أحد في هذه الخيمة، إذاً: الأنصار شعروا أن هناك خصوصية لهم، هذا أول ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم! (قالوا: يا رسول الله! قد قالها حدثاء الأسنان منا -أي: أما حكماؤنا فما قالوها- قال: يا معشر الأنصار! ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟ والأنصار يقولون: الله ورسوله أمْنّ، ثم قال لهم: لو شئتم لقلتم: كنت طريداً فآويناك، وكنت، وهم يقولون: الله ورسوله أمَنَّ، قال: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار -الشعار: هو الثوب الملاصق للبدن مباشرة، وتحرص في هذا الثوب أن يكون ناعم الملمس، فيريد أن يقول: أنتم قريبون مني مثل الشعار من الرجل والناس دثار -أي: الملابس التي لا تلامس الجسد- ألا ترضون أن يرجع الناس إلى بيوتهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ فبكوا وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ونصيباً). فانظر إلى هذه النماذج المضيئة من الصحابة الكرام وتمام متابعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، يقولون: (أما حكماؤنا فما قالوها) الناس العقلاء. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأدع الرجل وهو أحب إليَّ)، وكان يعطي العطاء من يتألفه على الإسلام. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام عطاءً كبيراً، فجاء رجل آخر فأعطاه عطاءً أقل منه، فقال: يا رسول الله! أجزلت لفلان ولم تعط فلاناً، وإني لأراه مؤمناً. قال: أو مسلماً. فأعاد عليه سعد بن أبي وقاص هذه المقالة: إني لأراه مؤمناً. ورسول الله يقول: أو مسلماً، ثم قال: إني لأدع الرجل وأعطي العطاء من هو أقل منه؛ أكلهم لإيمانهم) لأن المؤمن إذا لم يعط لا يتضجر، بخلاف الرجل الذي

الفرق بين الشرط والركن

الفرق بين الشرط والركن هناك فرق بين الشرط والركن، فالركن: جزء من الشيء. ولنمثل مثلاً بالصلاة: فالركوع جزء من الصلاة، والسجود جزء من الصلاة، والقيام جزء من الصلاة، فهذه الأجزاء سميتها أركان: الركوع ركن، والسجود ركن، والقيام ركن، وتكبيرة الإحرام ركن؛ لأنها جزء من الشيء الذي هو: الصلاة. أما الشرط: فهو جزء مستقل عن الشيء، لكن لا يقبل العمل إلا به، مثل: الوضوء للصلاة، فنقول: الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا نقول: الوضوء ركن؛ لأن الوضوء شيء والصلاة شيء آخر، ولكن لا تقبل الصلاة إلا بهذا الوضوء الذي هو شرط. إذاً: الركن والشرط كلاهما ضروري في قبول العمل، لكن الركن جزء من العمل، والشرط ليس جزءاً من العمل، لكن لا يقبل العمل إلا بهما. ويشترط في العمل الصالح شرطان هما: 1 - تمام الذل لله سبحانه وتعالى. 2 - كمال الحب. وأما المتابعة فهي ركن من أركان العمل الصالح.

نماذج واقعية من الطعن في نصوص الكتاب والسنة

نماذج واقعية من الطعن في نصوص الكتاب والسنة وترجع أهمية الحديث عن المتابعة إلى ما نلاحظه في زماننا هذا من محاولة التخلص من النصوص والتهكم بها، واختراع شيء جديد سموه: (روح النص)، (روح النص) له تعبير آخر في الأصول، وهو الدلالات الخفية، كدلالة الإيماء وغيره، لكنهم قصدوا بروح النص شيئاً آخر غير الذي يقصده علماء الأصول.

وضع قواعد وأصول فاسدة لرد النصوص وتجهيل العاملين بها

وضع قواعد وأصول فاسدة لرد النصوص وتجهيل العاملين بها نحن أمام مدرسة لتجهيل النص، وتجهيل العاملين به، ومحاولة الخلاص من النص، حتى النص الصريح يبتكرون له قواعد ينسفونه بها، وهي قواعد أهل البدع قديماً، فأهل البدع لما وجدوا ضربات أهل السنة قوية أرادوا أن يتترسوا فماذا فعلوا؟ جعلوا قواعد، والقواعد هذا مثل متاريس الحرب، فأول ما يأتي أهل السنة يردون عليهم يختبئون فيها، والقواعد هذه ألفوها من عند أنفسهم، كلما تقول له حديثاً يقول لك: هذا الحديث آحاد ماذا يعني (آحاد)؟ لماذا ترده؟ يقول لك: أصله آحاد، والآحاد معناه: ما رواه الواحد والاثنين والثلاثة، والواحد من الممكن أن يغلط. مثلاً: أبو بكر الصديق معصوم؟ -لا. ليس بمعصوم. يمكن أن يخطئ؟ نعم. يمكن أن يخطئ. إذاً: ما الذي يدلك على أنه لم يخطئ في هذا الحديث؟ فيخاف الإنسان قليل العلم، ويحس أن المسألة عويصة، لكن رد عليه بنفس أسلوبه فقل له: حسناً: ما الدليل على أنه أخطأ؟ لو أننا مشينا بهذه الصورة التي هم يمشون بها سنغلق أبواب الشهادات، الرجل الذي يأتي يشهد أمام القاضي: قل (والله العظيم أقول الحق)، فيقول: والله العظيم أقول الحق. لمن هذا المال؟ يقول: لفلان. إذاً: خذه يا فلان. فأعطى المال بحلف الرجل لفلان. ولو أن الرجل الآخر أتى بشاهد مثله فسوف يقول له نفس الكلام، وبهذا تضيع الحقوق! إذاً: هناك فرق ما بين الشيء هل وقع حقاً أم هل يجوز أن يقع عقلاً؟ هناك فرق بين المسألتين، مثلاً: هل: الله عز وجل قادر على أن يخلق رجل بمائة ألف رأس أو غير قادر؟ قادر، ويخلق في كل رأس مائة ألف فم؟ قادر، ويخلق في كل فم مائة ألف لسان؟ قادر، ويخلق لكل لسان مائة ألف لغة؟ قادر، لكن هل وقع؟ لا. إذاً: هناك فرق بين الجواز العقلي والوقوع الفعلي، ولا نخلط بينهما، فالعقل من الممكن أن يذهب إلى أبعد ما تتخيله مما ليس له ظل على الواقع. فنحن نقول: الأصل أن هذا الرجل -طالما أن العالم ثَبْتٌ وجليل- فإنه لا يخطئ، إلا إذا أقمت الدليل على أنه أخطأ، والأصل أن الرجل -الذي وقف أمام القاضي ليشهد على قضية- أنه عدل إلى أن يأتي رجل يجرحه، ويقول: هذا الرجل مجروح؛ لأنه يشرب الخمر، أو لأنه ساقط المروءة، أو أنه عاق لوالديه أو نحو ذلك. فإذا لم يأتنا جارح فالأصل فيه العدالة، وهذا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب القضاء الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري فقال: (والمسلمون بعضهم عدول على بعض إلا مجلود في حد، أو مجرب عليه شهادة زور). إذاً: الأصل في المسلمين العدالة بالنسبة للشهادة. إذاً: أنت تمضي شهادته، مع احتمال أن يخطئ. كيف وهذا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء رجلان يختصمان على حق، كل يدعي أن الحق له، فقال: (إنما أنا بشر، وأقضي بينكم على نحو ما أسمع) يعني: قد يكون أحدكم له لسان قوي يقنعني أنه صاحب الحق، وصاحب الحق سفيه أو ضعيف، أو لا يستطيع أن يفصح، فحقه يذهب، ومع ذلك أنا عندما أعطي الحق لغير صاحبه؛ فأنا لم أخطئ، قال: (إنما أنا بشر -وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم- أقضي بينكم على نحو ما أسمع، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار. فبكى الرجلان، وقال كلاهما: حقي لأخي يا رسول الله). فأنت لما ترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام من الممكن أن يقضي للمبطل لأنه ألحن بحجته؛ إذاً: نحن أولى وأولى، ولم يقل له الرسول عليه الصلاة والسلام: إن لسانك فصيح فمن المحتمل أن تكذب، ولذلك أنا لا أعطيك الحق؛ لأنه سيقول نفس الكلمة للرجل الآخر. وضاعت الحقوق. إذاً: هناك فرق ما بين الجواز العقلي وبين الوقوع الفعلي، ونحن الآن نناقش الوقوع الفعلي. وأنت تقول: إن الصحابي يمكن أن يغلط، ف Q هل عندك دليل أنه أخطأ، إذا لم يكن عندك دليل أنه أخطأ فلابد من إمضاء قوله؛ لأن هذا الكلام يسري على واضع هذه القاعدة نفسه، كلما يقول شيئاً؛ أقول له: أليس من الجائز أنك أخطأت في وضع القاعدة؟ إذاً: أنت معصوم؟ فيقول: لا. فأقول: أليس من الجائز أنك أخطأت في وضع القاعدة؟ فيقول: من الجائز أن أخطئ. أقول: وما الذي يؤمنني أنك لم تخطئ في وضع هذه القاعدة؟ إذاً: نحن استخدمنا هذه القاعدة ولم يبق قول لقائل في الدنيا. فأهل البدع يقومون يوضع قواعد من عند أنفسهم يتقون بها ضربات وهجوم أهل السنة. فيأتي -مثلاً- يقول لك: أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة. لماذا؟! يقول لك: لأن العقيدة لابد من اليقين فيها. الله عز وجل لا يعبد بشك أو باحتمال. إذاً: لابد أن نقبل إما نص قرآني وإما حديث متواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام. حسناً نحن جئناكم بالقرآن الذي هو قطعي الثبوت ولم يسلم من تأويلكم، وقد نقله الكافة عن الكافة، دعونا من السنة الآن وننظر في القرآن المنزل، ماذا فعلتم بالقرآن؟ أولتم القرآن، ما يؤمنني أنني إذا جئتك بحديث متواتر فعلت فيه مثل ما فعلت في القرآن، وأولت اللفظ بذاك التأويل الباطل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يقول لك: لا. ربنا سبحانه وتعالى ليس له يد؛ إذ لو كان له يد إذن: يشبه المخلوقين، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وما خطر ببالك فالله على خلاف ذلك. حسناً قول الله تعالى:: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] يقول لك: لا. الله ليس له عين؛ إذ لو كان له عين إذن شبهناه بخلقه. كذلك حديث النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: (يضع الجبار قدمه في النار) أو (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) يقول لك: لا. ليس له إصبع وليس له قدم لماذا؟ يقول لك: لأننا لو أثبتنا له القدم لشبهناه بالخلق. نقول: لماذا تقيسون الشاهد على الغائب؟ قياس الشاهد على الغائب من أبطل الباطل؛ لأنه يشترط في القياس التماثل، ولابد أن يكون هناك نظير ينطبق على نظير، لكن الضد على الضد لا يكون قياساً، كقياس الليل على النهار قياس باطل، وقياس النار على الماء قياس باطل، كذلك أنتم تقيسون الشاهد على الغائب لماذا؟! حسناً: خذوا هذه الرمية: الله عز وجل حيِّ؟ يقولون لك: نعم. وأنا حيِّ؟ يقولون لك: نعم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، هذه حياة الله عز وجل، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] هذه حياتنا نحن كلنا. إذاً: أنت حيِّ والله حيِّ فكيف؟! يقولون لك: لا. حياته غير حياتنا؛ لأنه لا يقدر أن يقول: إن الله ليس بحيِّ. أليست هذه مثل تلك؟ له يد كما يليق بجلاله كما أن له حياة تليق بجلاله، حياة كاملة، ونحن حياتنا تليق بقدرنا، كذلك أيدينا تليق بقدرنا، كذلك سمعه سبحانه يليق بقدره، كذلك سمعنا يليق بقدرنا وهكذا خذ جميع الصفات، فإذا قرأت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، هذا نفي، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات، فنفى المثلية وأثبت لنفسه السمع والبصر. إذاً: نفهم من الآية: أن كل الصفات الثابتة لله عز وجل تحت قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، فله يد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وله إصبع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهكذا. فأصحاب البدع إذا أرادوا أن يبتدعوا بدعة؛ وضعوا لها قواعد وأصولاً ليتقون بها أدلة أهل السنة.

شاعر يتهم الله بالنوم

شاعر يتهم الله بالنوم نشر أحد الشعراء ديوان شعر ما رأيناه، لكن عرفناه عن طريق أحد الحمقى، فقد اختار بعض نماذج شعرية من هذا الديون لينشرها بين المسلمين، ويبشرهم برجل صاحب خيال شعري جديد، فكان مما ذكره في المختارات المنتقاة؛ هذه العبارة البتراء الشوهاء، التي قال فيها ذلك المارق: (الله في مدينتي ينام على الرصيف). فأنكر عليه! فقال: لا. الله هنا كناية عن الفضيلة، أنا أقصد أن العدالة والنزاهة والفضائل نائمة على الرصيف، بينما الرذائل تسكن الفنادق خمسة نجوم. فنقول حسناً: لفظ الجلالة. لو فتحنا أي قاموس لغوي فهل من مفرداته ما ذكره الرجل؟ الألفاظ قوالب المعاني، فإذا جاز لك أن تخترم اللفظ ذهب المعنى، وإن اخترمت المعنى لم يدل عليه اللفظ، إذاً: هذا لعب، وهذا اللعب يمكن أن يمتد إلى الدنيا كلها، كرجل -مثلاً- يسب رجلاً، ويأتي أمام القاضي: فيقول: لا. بالعكس أنا مدحته، أنا قلت له: يا ابن السوداء، والسواد نصف الجمال، فأنا ما قصدت أن أذمه بل أمدحه. فبهذا تضيع الدنيا، ولا يعرف الفرق بين المدح والذم ولا بين السب، وغير السب إذا جاز اللعب بالمعاني والألفاظ بهذه الطريقة. ولفظ الجلالة لا يجوز استخدامه بهذه الصيغة إطلاقاً، لأنه علم على الذات الإلهية: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فلفظ الجلالة له خاصية، وهي: أنه الكلمة الوحيدة التي إن رفعت منها حرفاً لم يتغير معناها: (الله) ارفع الألف تكون (لله)، ارفع اللام تكون (له)، ترفع اللام تكون (هو)! وبالإضافة إلى ذلك هو اسم علم غير مشتق، وهذا هو أوجه الأقوال، وقول كثير من العلماء أنه مشتق من (أله) فهو (إله)، لكن هو اسم جامد على الذات الإلهية، والعلماء الذين ذهبوا هذا المذهب يقولون: (إن الذين قالوا بالاشتقاق قالوا: إن لفظ الجلالة الأصل (له أو لاه)، ثم أضيفت الألف واللام للتعظيم فصارت (الله). فرد عليهم العلماء الآخرون وقالوا: لا. الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، ولم تدخل للتعظيم. ونحن إذا أردنا أن نفرق ما بين الألف واللام وهل هي أصلية أو غير أصلية ندخل عليها ياء النداء؛ فمثلاً: (الرحمن) هل تريد أن تعرف الألف واللام في الرحمن أصلية أو غير أصلية؟ تدخل عليها ياء النداء، إذاً: تكون (يا رحمن) ولابد أن تحذف الألف واللام، وهذا يدلنا على أن الألف واللام غير أصلية في الكلمة، وإنما دخلت للتعظيم. وكذلك (الرحيم): يا رحيم، (الرجل): يا رجل وهكذا، فكل اسم محلى بالألف واللام وتريد أن تعرف الألف واللام أصلية في أصل الكلمة أو دخيلة للتعظيم أو للعلمية أو نحو ذلك، أدخل عليها ياء النداء، فإذا أدخلت ياء النداء على لفظ الجلالة تصير (يا الله)، لم تحذف الألف واللام، وهذا يدل على أن الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، وهذا يرجح قول من يقولون: إنه اسم جامد علم على الذات الإلهية وليس مشتقاً. فلما يأتي رجل ويقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) ثم يأتي يقول لك: أن قصدي الكناية والاستعارة إلخ. وهذا وهذا تجهيل للنص ورفع لدلالته، وفيه خرق متسع جداً في مسألة الاتباع، ونحن ينبغي أن نحول بين هؤلاء وبين ما يريدون.

المطالبة بتولية المرأة الخلافة وإبطال نصوص المنع

المطالبة بتولية المرأة الخلافة وإبطال نصوص المنع أحدهم كتب مقالاً يتكلم عن الخلافة العظمى ورئاسة الجمهورية، وأن المرأة يجوز لها أن تتولى رئاسة الجمهورية، وهو يعلم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة) فيأتي ويضع هذا الحديث جانباً أو يزعم أنه مكذوب. ووالله إن الإنسان ليتعجب عندما يسمع عن امرأة لبنانية، عنست وهي عازبة، تكتب في "جريدة الحياة" حصل نقاش في المجلة في باب (أنت تسأل والمفتي يجيب)، وكان المفتي أحد الباحثين المهتمين بالعلم، فوصلت إليه رسالة من قارئة تقول: هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النساء أكثر أهل النار؟ فقال: نعم. هذا صح في البخاري ومسلم، وجاء الرجل بالأحاديث. وفي الأسبوع التالي أرسلت المرأة مقالاً تستنكر فيه هذا الكلام. فتقول: كيف يكنَّ النساء أكثر أهل النار؟ من الذي صنع القنبلة الذرية غير الرجال؟ ومن الذي صنع الصواريخ والدبابات غير الرجال؟ من هم الذين أضاعوا الكون غير الرجال؟ والحروب التي قامت بين العراق وإيران، من سببها إلا الرجال إلخ ما ذكرت. وتقول: والنساء ماذا فعلن؟! المفروض أن الرجال هم أكثر أهل النار؛ لأنهم هم الذي ضيعوا الدنيا، والنساء ما فعلن شيئاً، وأضف إلى ذلك أن هذا الكلام ليس مقنعاً لماذا؟ لأن الشيخ ذكر الحديث فقال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم في العيد وعظ النساء، وقال للنساء: تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فجعلت المرأة تلقي القرط من أذنها والمرأة تلقي بالخاتم، فقالت امرأة: لم يا رسول الله -لماذا النساء أكثر أهل النار؟ - قال: لأنهن يكثرن اللعن، ويكفرن العشير، إذا أحسن إليها الدهر، ثم رأت سوءاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط). فتقول المرأة اللبنانية: فهل يعقل أن الرسول -أبو الذوق كله- في يوم العيد، بدل أن يقول لهن: كل سنة وأنتن طيبات، يقول لهن: أنتن من أهل جهنم وبئس المصير هل يدخل العقل أن الرسول أحسن الناس خلقاً يوم العيد يضجر عليهن ويقول لهن: رأيتكن أكثر أهل النار، بدل أن يقول لهن: كل سنة وأنتن طيبات، ومن العائدين إن شاء الله. فتقول: هذا الكلام ليس مقبولاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رجل ذوق، وظلت تدندن في هذه المسألة. فانظر كيف تعترض لتنتصر لأبناء جنسها؛ لأنها امرأة؛ فعظم عليها أن يكون أكثر أهل النار من النساء، وكأن هذه حقوق مثل الحقوق التي يريدون أن يأخذوها في الدنيا: أن المرأة لها مثل حقوق الرجل. فاليوم نحن أمام حملة للتجهيل، فهذا الرجل جاء ليزيل العقبات أمام تولي المرأة للحكم، فأي نص يراه يحيل بين تولي المرأة لرئاسة الجمهورية والخلافة العظمى لابد أن يرد عليه، إما أن ينسفه، وإما ينفي دلالته، وإما أن يقول: موضوع، ولابد أن ينفيه. فقال هذا الرجل: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فإنه لم يحدث بهذا الحديث إلا أبو بكرة الثقفي، وحدث به بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بنيف وثلاثين سنة. حسناً: إلى ماذا يريد أن يصل بهذا الكلام؟ يريد أن يقول: إن أبا بكرة الثقفي افتراه وألفه؟ أو أنه يريد أن يقول: من شرط قبول الحديث أن الرجل عند موت الرسول يحدث بكل ما سمعه. فنقول له: إن الكلام يخرج لمقتضى، ولابد من حادثة حتى يخرج الحديث عليها، ويناسبها. وأبو بكرة الثقفي رضي الله عنه قال هذا الحديث بسبب: ما حصل من الخلاف بين الصحابة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فعندما التقى الجمعان وأوشكت الحرب أن تبدأ؛ خطر لـ طلحة والزبير بن العوام -رضي الله عنهما وهما من العشرة المبشرين بالجنة- أن يأخذا عائشة رضي الله عنها، وتقوم أمام الناس؛ لأنهم يبجلونها ويوقرونها فهي أمهم؛ هكذا ظنوا، فذهبوا إلى عائشة، وقالوا: أنت لو خرجتي سيكون هناك خير كثير، وستحقن دماء المسلمين، فرفضت عائشة كل ذلك، وهي تقرأ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لكنهم في الأخير غلبوها على أمرها. وأي رجل فينا لا يسعه أن يفعل إلا ما فعلت عائشة، تصور أنك جالس في المسجد، وجاء إليك شخص يقول: هناك اثنان يتقاتلان بالسكاكين، وهما عند يرونك سوف يكفان عن القتال. فهل ستخرج أم تقعد؟ تخرج مباشرةً، فهذا هو الذي حصل لـ عائشة رضي الله عنها، ظنت بإقناع طلحة والزبير أنها عندما تخرج ويراها المسلمون ستضع الحرب أوزارها، فخرجت معهم واستمروا بالسفر، فمروا على ماء، فإذا بكلاب تنبح، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: هذا ماء الحوأب -بئر اسمها الحوأب-. فقالت عائشة: ما أظنني إلا راجعة لماذا؟ قالت: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبح عليها كلاب الحوأب) والجمل الأدبب هو جمل عائشة، والذي بسببه سميت موقعة الجمل، والأدبب أي: كثير الشعر. فقالت: (ما أظنني إلا راجعة). فلا زال طلحة والزبير يرغبانها في حقن دماء المسلمين، فغلباها على أمرها ومضت عائشة، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ومضت عائشة رضي الله عنها وذهبت إلى هناك وقامت الحرب. فعندما رأى بعض الصحابة والتابعين عائشة في صف معاوية انحازوا لصف عائشة، وكما توقع طلحة والزبير أن كثيراً من المسلمين يبجلونها ويوقرونها فسينحازون إليها، فقام عمار بن ياسر يخطب، وقد كان يقاتل في صف علي بن أبي طالب -رضي الله عن الجميع- فخطب خطبة وقال: (والله إني لأعلم أنها زوجة رسوله في الجنة، ولكن الله أراد أن يبتليكم أتطيعونه أم تطيعونها؟) وهنا أبو بكرة روى الحديث وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة). مع أن عائشة رضي الله عنها عقلها يزن بلداً، ولو حكمت دولة الآن لصارت هذه الدولة في السماء بالنسبة للموجودين، فعقلها عقل كبير، وعائشة رضي الله عنها المعلمة، لما تقرأ كلامها في الأدب أو الشعر أو في الطب تقلب كفيك عجباً! منذ أن كانت في التاسعة إلى الثامنة عشر، -تسع سنوات- في بيت النبوة تنهل من العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها ويقربها، فحظيت منه بعلم ما لم تحظ زوجاته الأخرى، وتوفي الرسول عليه الصلاة والسلام وعمرها ثماني عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة تبث العلم، ومع ذلك قام أبو بكرة الثقفي وقال هذا الحديث لأن مناسبته أتت. مثلاً أخرج مروان بن الحكم المنبر إلى المصلى في صلاة العيد، والمفروض أن الخطيب يخطب في مصلى العيد وهو واقف بدون منبر، وكذلك قدم الخطبة قبل الصلاة، والسنة أنه يصلي ثم يخطب، فـ مراون عكس الأمر -وهذا الحديث في صحيح مسلم- فقام رجل يقول: ما هذا الذي تفعله يا مروان؟ خالفت الرسول عليه الصلاة والسلام وخالفت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال له: (ذهب ما هنالك). فلما سمع أبو سعيد الخدري قول الرجل؛ قال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان). هل يمكن أن نقول: أن أبا سعيد الخدري ظل يكتم الحديث هذا في قلبه إلى أن أتى هذا الموضوع؟ لا. لكن ليس له مقتضى، كل كلام يخرج له مقتضى، والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان ينبه إذا وجد مقتضى التنبيه. فمثلاً: نحن ما كنا نعلم أن خاتم الذهب لبسه حرام للرجال، وأنه جمرة من نار إلا لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس ذهباً. فهل يمكن أن يأتي رجل لا يلبس ذهباً ويقول له: (يعمد أحدكم إلى الذهب فيضعه في يده) فيقول له: أين هو يا رسول الله؟! فلابد أن يكون هناك موقف، والرسول عليه الصلاة والسلام ما قال هذا الحديث إلا لما ظهر لهذا الكلام مقتضى حتى يقع الكلام موقعه. وإذا لم يكن للكلام مقتضى فيوجد له مقتضى حتى يقوله. كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي هو وبعض الصحابة فوجد جدياً ميتاً أسك، -أي: مقطوع الأذنين- ملقى على قارعة الطريق، فقال لهم: (أيكم يشتري هذا بدرهم -والرسول عليه الصلاة والسلام يسأل وهو يعلم أنه لا يستحق حتى فلساً- قالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه -لماذا؟ لأنه أسك مقطوع الأذنين- قال: أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ -يعني: لو كانت غالية عليهم ما رموها على قارعة الطريق- قالوا: نعم يا رسول الله. قال: والله للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها) فأوجد رسول الله للكلام مقتضى. فخلاصة البحث: أن كل كلام لابد أن يكون له مقتضى. أفيعاب أبا بكرة الثقفي أن قال هذا الحديث في هذه المناسبة؟ لا. لو لم تأتِ هذه المناسبة أو مثلها ما قال أبو بكرة هذا الحديث -والله أعلم- إلا أن يسأله سائل مثلاً، والسؤال مقتضى.

ثبوت اختلاف الصحابة في الفرعيات

ثبوت اختلاف الصحابة في الفرعيات الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً ما اختلفوا في الفقهيات، مثلاً حديث: (الوضوء مما مسته النار)، كان في أول الإسلام الذي يأكل أو يشرب شيئاً مسته النار لابد أن يتوضأ، ويعتبر من نواقض الوضوء، وبعد ذلك نسخ هذا الحكم. كان ابن عباس ليس عنده دليلاً، ولم يسمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تتوضئوا مما مست النار)، لكن ابن عباس عنده جدل عقلي، فجرت هذه المناقشة بينه وبين أبي هريرة كما في سنن الترمذي: قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار). -فقال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً. هل سآكل اللحمة نية؟ لابد أن نطبخها، وأيضاً هذا حلال. -يا أبا هريرة: أفلا نتوضأ من الحميم؟ افترضوا أننا الآن في برد قارس، ونريد أن نتوضأ بماء دافئ؛ لأننا لا نحتمل البرد، ونقوم بعد الماء الدافئ نتوضأ بماء بارد؟! إذاً: ما الذي فعلناه؟! قال ابن عباس: -أفلا نتوضأ من الحميم؟ وجعل يورد على أبي هريرة هذه الإيرادات، فقبض أبو هريرة ملء كفه حصى، وقال: أشهد بعدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال. انظر إلى الاتباع: (لا تضرب له الأمثال). كذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، لكن لم يذكر البخاري العدد، كلمة (ثلاثاً) (فليغسلها ثلاثاً) هذه خلت منها رواية البخاري وثبتت في رواية مسلم، فيسن للرجل القائم من النوم إلا يحط يده في وعاء ماء مباشرة، ولكن يأخذ ماء ويغسلها -خارجاً- ثلاث مرات ثم يضعها في الماء. (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) فلو قال إنسان: أين باتت يدي؟! باتت بجانبي. فنقول له: إياك أن تقول هذا؛ لأنه ثبت -كما ذكر النووي في بستان العارفين بسند صحيح- أن رجلاً تلي عليه هذا الحديث فقال ضاحكاً: أين باتت يدي؟! باتت إلى جانبي، فأصبح ويده محشورة في دبره! وهناك سند صحيح آخر ذكره النووي في بستان العارفين: (أن هناك رجل سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فلبس نعلاً خشبياً -مثل القبقاب- وجعله له مسامير من تحت، فقالوا له: ما هذا يا فلان؟ قال: أخرق أجنحة الملائكة. قال: فيبس -شل-). وهذه القصة إسنادها صحيح كالشمس، وهذه عاقبة الذي يضرب لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال لماذا؟ لأنه قد يكون الحكم تعبدياً لا علة له، يعني: أنت لما تأتي تقول لي مثلاً: (فإنه لا يدري أين باتت يده) طيب ما هي العلة؟ أقول لك: يا أخي! إذا لم تجد له علة؛ فهذا تعبد تعبدك الله به ليبتليك، فأنت عبد تسمع وتطيع، وليس كل شيء لابد أن نفهمه، فهناك أشياء يبتليك الله بها ولا تفهم لها معنى لينظر التسليم، كما في الحجر الأسود، فقد جاء عن عمر بن الخطاب الملهم المعلم أنه قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) فـ عمر بن الخطاب لم يفهم أي علة لتقبيل الحجر إلا المتابعة. كذلك السعي بين الصفا والمروة، لماذا نسعى بين الصفا والمروة؟ أم إسماعيل عليها السلام سعت؛ لأنها كانت تبحث عن ماء، فلماذا نحن نسعى وإذا كانت هي تسعى في وسط جبل فالمسعى الآن صار من رخام، وأصبح هناك تكييف مركزي فلماذا نسعى؟ ما العلة في السعي؟ نقول: أنت مأمور بهذا، وهذا شيء تعبدي لابد أن تفعله وإن لم تفهم له معنى. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (فلا يغمسها في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده). فأحدهم يقول لـ أبي هريرة: يا أبا هريرة! ماذا نفعل بالمهراق. أي: هذا في الوعاء والإداوة، فلو كان هناك بئر كبير. أي: أنه لا يضع يده في مثل هذا الماء القليل لأنه يتنجس، فقال له: افرض أن الماء كثير كأن يكون هناك بئر عظيمة. فماذا نفعل بالمهراق يا أبا هريرة؟ فحصده أبو هريرة وقال: أعوذ بالله من شرك. هل أبو هريرة لم يفهم الكلام؟ لا. لكنه كان يؤدب: (يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال). أبو هريرة رد على ابن عباس المقالة لأنه ليس معه دليل، كان معه جدل عقلي، وهذا لا ينفع، فالنص لابد أن تأتي بنص في مقابله، فروى ابن عباس بعد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعرق عرقاً -كان يأكل لحمة- فجاءه رجل، فآذنه بالصلاة، فصلى ولم يتوضأ) وطبعاً هذه اللحمة مطبوخة قد مستها النار، فنفهم من هذا: أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار كما في حديث جابر وغيره. واختلافهم في القضايا الفقهية كثير جداً، لكن لن نجد لهم اختلافاً في العقيدة، فمثلاً: أبو سعيد الخدري روى حديث (يوم يكشف الجبار عن ساقه) كما في صحيح البخاري ومسلم، ولا نعلم أن أحداً قال: ما معنى ساقه يا أبا سعيد؟ الله لا يشبه بخلقه. ولا رد عليه الحديث في العقيدة إطلاقاً، ردوا على بعض في الأحكام الشرعية، ولم يرد بعضهم على بعض في العقائد إذاً: هذا أدل دليل على قبول خبر الواحد الذي لم يعلم عنه إنه غلط في النقل. فأهل البدع وضعوا كل هذه الأصول؛ ليحولوا بين الناس وبين اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا أول قدح في الاتباع، فنحن ينبغي علينا أن ننتبه، فلا تأخذ دينك من الجرائد ولا المجلات، ولا تأخذ الفتاوى من الجرائد والمجلات والإذاعات، ولا تأخذها إلا من عالم ثقة، تثق في دينه وعلمه؛ لكثرة الخبث والجهل. والحمد لله! فنحن نرى رجوعاً حميداً إلى دين الله عز وجل، فكل يوم ينظم ركبان جدد إلى ركب الإيمان والمؤمنين، فهذه الصحوة المباركة ينبغي أن يصاحبها نهضة علمية وأخلاقية؛ حتى لا يحصل خلل في وسط هذه الجماهير. فاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فرض؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لبس النقاب

حكم لبس النقاب Q هل النقاب فرض أم سنة مؤكدة، وإذا كان فرضاً فنرجو أن تذكر بعض الأدلة؟ ولماذا اختلف العلماء فيه مع أن الفرض لا يختلف فيه؟ وإذا كان سنة مؤكدة فهل علي إثم إذا ارتديته ثم خلعته؟ A بالنسبة للنقاب للعلماء فيه قولان: القول الأول: باستحباب النقاب، وهذا القول معناه: جواز كشف الوجه. والقول الآخر: بوجوب ستر الوجه، وهذا معناه: وجوب النقاب. وأنا لا أريد أن أقف طويلاً على هذين القولين، لكن أقف على ما هو أهم، وهو ما ورد في سؤال السائل: إذا كان فرضاً لماذا اختلفوا فيه؟ فنقول: إن الأدلة إما أن تأتي بالأمر المباشر المجرد، ولا يكون هناك صارف، فهذا لا خلاف بين جماهير العلماء على أنه يفيد الوجوب. والخطاب من فوق إلى تحت: فيه الأمر الذي يفيد الحتم والإلزام. والخطاب: من تحت إلى فوق: طبيعته التوسل. والخطاب من الند إلى الند: مطلق الطلب. مثلاً: إذا قال الرئيس لأحد مرءوسيه: لا تخرج من هذا الباب واخرج من ذاك، أو قال له: اخرج من هنا. فهذا فعل أمر، فإذا خالف المرءوس وقال: أنا فهمت من كلامك أن أخرج من أي باب أحب. إذاً: ضيع الأمر. ولو قلت لابنك: ذاكر! فقال لك: (ذاكر) هذه أنا أفهمها ذاكر أو العب أنت حر إذاً: ضيع الأمر. فطبيعة الأمر من فوق إلى تحت أنه يفيد الحتم والإلزام؛ لأنه فوق، وهناك هيمنة وسلطة. وطبيعة الأمر من تحت إلى فوق تفيد التوسل، فأنت مثلاً إذا دعوت الله عز وجل فقلت: (رب اغفر لي). (اغفر) فعل أمر، هل أنت تأمره أن يغفر لك أم تتوسل إليه؟! هذا توسل، فلما تقول: (رب اغفر لي، رب ارزقني، رب اجبرني، رب عافني) كل هذه أفعال أمر لكنها تفيد التوسل. وإذا كان لك نظير وند فطلبت منه شيئاً؛ فيكون هذا على سبيل الطلب، كما قال علي بن أبي طالب في الأقسام الثلاثة هذه: (أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره). إذاً أحسن إلى من شئت، ويد المحسن هي العليا. إذاً: طبيعة الأوامر من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي الإلزام، وأنه لا خيار لك في ترك الفعل، هذا النوع الأول من الأوامر. والعلماء متفقون على أن هذا النوع يفيد الوجوب ولا خيار لك، لكن إذا جاءك أمر من فوق ألا تفعل، وجاءك أمر من فوق افعل، فثبت الأمران من فوق، يقول العلماء: إن هذا يدل على جواز الفعل أو الترك، فالرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً قال لـ عمر: (يا عمر! لا تبل قائماً) إذاً: هذا يدل على النهي عن البول قائماً، ورغم ذلك رآه حذيفة بن اليمان يبول قائماً، فكيف ينهى عن الشيء ويفعل عكسه؟! العلماء قالوا: الفعل هذا يدل على أن النهي لا يفيد التحريم، إنما -ينزل تحت- يفيد الكراهة، إذاً: الجواز لا ينافي الكراهة، إذاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز إذا أمن العبد الرذاذ -رذاذ البول- واستدبر الريح واحتاط لنفسه، ولا تبُل قائماً إذا كان المكان صلباً أو الريح تأتي عليه فيخشى أن يأتي عليه الرذاذ إذاً: كل حديث له ظروف وملابسات. فنحن نقول في مسألة النقاب: وآية الأحزاب ظاهرة في مسألة النقاب: أن المرأة يجب عليها أن تغطي وجهها، لكن وردت أحاديث أخرى فيها ما يدل على أن المرأة كانت كاشفة لوجهها. فالعلماء الذين قالوا باستحباب تغطية الوجه -يعني: بجواز كشف الوجه واستحباب النقاب- ما قالوها تشهياً من عندهم، إنما صرفوا الوجوب عندهم بدليل، مثل حديث جابر بن عبد الله لما قال: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم العيد وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقامت امرأة سفعاء الخدين وقالت: لم يا رسول الله؟) إلى آخر الحديث، فقوله: (سفعاء الخدين) يدل على أن خدها كان مكشوفاً، وإلا ما عرف جابر أهي شوهاء أم حسناء. وكذلك حديث أن الفضل بن العباس كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت امرأة عند المنحر تسأله، وكان المرأة وضيئة وكان الفضل كذلك، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فيلوي النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل، فيرجع فينظر، فيلوي عنقه، فيرجع فينظر، فيلوي عنقه، فقال العباس: يا رسول الله! لويت عنق ابن عمك. قال: (رأيت شاباً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما) إلى آخر هذه الأحاديث. فالخلاف في هذه المسألة خلاف معتبر، لكن طائفة من العلماء الذين قالوا باستحباب النقاب قالوا: إذا كان الزمان زمن فتنة فيجب عليهما أن تستر وجهها. إذاً: نحن -نسأل الله عز وجل العافية- في زمان كله فتن، ونتجاوز مثل هذا الأمر ونقول للمرأة: إذا كان هذا يدنيك من الله عز وجل شبراً واحداً فلا ينبغي للمرأة العاقلة أن تقصر فيه، رب حسنة واحدة يحتاج إليها العبد، ويقرع سنه ندماً أنه ما تبسم في وجه أخيه لكان حصل على الحسنة هذه، أو كان أفضى من دلوه في دلو أخيه كان حصل على هذه الحسنة، فنحن في سباق إلى الله تبارك وتعالى، والعاقل هو الذي لا يركن إلى قولهم: مستحب؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتدرون الأمر. والله أعلم.

حكم وضح الخطوط في المساجد لتسوية الصفوف

حكم وضح الخطوط في المساجد لتسوية الصفوف س Q ذكرتم في شريط بعنوان (الأخذ بالأسباب) أن وجود الخط في المساجد لتسوية الصفوف من البدع؟ A نعم. أنا قلت هذا، وما أدري هل الأخ السائل سمع الشريط بإتقان، أنا بسطت الحجة في هذا الشريط، والحجة باختصار: أن هناك قاعدة عند العلماء تقول: (إذا كان للشيء مقتضى على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فلا يجوز لنا فعله، أما إذا كان الشيء ليس له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نهي خاص به، وفيه مصلحة للمسلمين؛ فيجوز لنا فعله). القاعدة مبهمة -طبعاً- ومغلقة بهذا السرد، لكن أنا أوضحها بمثالين: وضع الخيط لماذا وضعناه؟ لتسوية الصف. حسناً تسوية الصف هذه مهمة من؟ مهمة الإمام، ما شددنا الخط على الأرض إلا بعد أن أهمل الإمام مهمته، تجده يقول: استووا. وقفاه للمصليين، والسنة: أنه لا يقيم الصلاة إلا إذا مر على الصفوف، ويرسل أحداً يكمل، حتى إذا قال له: استوت الصفوف؛ يصلي. وهذا الحكم ورد في صحيح البخاري في حديث عمرو بن ميمون الأودي وهو يروي قصة مقتل عمر بن الخطاب، وهذا الحديث تجدونه في الجزء السابع من فتح الباري في مناقب عمر بن الخطاب، قال: (وحتى قال عمر: (استووا، وأرسل من يسوي الصف، حتى إذا قالوا له: استوى الصف، كبر، فما هو إلا إن قرأ حتى قال: طعنني الكلب، أو قال كلمة نحوها) فهذا تلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام. فالإمام هو الذي ينبغي أن يساوي الصف، فلما أهمل الإمام مهمته، ولم يقم بما أوجبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسوية الصف وغير ذلك؛ بدأنا نفكر في ضبط الصف بأن نشد خطاً على الأرض. حسناً: أليس كان بمقدرة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشد حبلاً أو يخط خطاً على الأرض؟ كان بمقدرته أن يفعل ذلك. حسناً: هل كان مقتضى الخط موجوداً؟ نعم. وهو تسوية الصف؛ لأن شد الخط للتسوية، فالتسوية هي مقتضى شد الخط أو شد الخيط، إذاً: كان له مقتضى، وكان مقدوراً له أن يفعله ومع ذلك لم يفعله، فدل ذلك على أنه لا يجوز لنا أن نفعله، إذ لو كان جائزاً لفعله من قبلنا. أما إذا كان لم يكن للشيء مقتضى على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نهي خاص عنه، ولنا فيه مصلحة، فهذا جائز لنا فعله، مثل: إشارة المرور، فإشارة المرور هذه كان لها مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا؛ لأنه لم يكن هناك سيارات، ولم يكن هناك طرق معبدة ولا مرصوفة، إذاً: فإشارة المرور لم يكن لها مقتضى، فهل ورد تحريم أو نهي عنها؟ لا. لم يرد نهي عنها. فهل تسبب لنا مصلحة؟ نعم. إذاً: يجوز فعلها، وهذا هو الفرق بين البدع وبين المصالح المرسلة والله أعلم.

حكم مرتكب المعصية المصر عليها

حكم مرتكب المعصية المصر عليها Q بعض أهل العلم يقولون بكفر فاعل المعصية المصر عليها، وأن التوبة شرط لكي يعود مسلماً من جديد؟ A أما الرجل المصر على المعصية، وهو يعلم أنها معصية فهذا مستحل، وهذا كفره ظاهر، كأن يقول: الربا أنا أعلم أنه حرام لكنني سآكله، والزنا حرام لكنني سأفعله هذا واضح الاستحلال فيه، فلا شك في كفر مثل هذا الرجل. أما مسألة المعصية غير المصر عليها فلا يكفر بها بطبيعة الحال، وهو مسلم حتى وإن عصى، فكلمة يرجع للإسلام من جديد إذا كان قيد الكلام بالاستحلال فهذا لا شك فيه، رجل استحل المعصية وهو يعلم أنها معصية وفعلها واستحلها هذا يكفر ويخرج من الملة؛ حتى يرجع إلى الإسلام ولابد أن يتوب ويغتسل وينطق بالشهادتين، ويرجع إلى الإسلام من جديد والله أعلم.

إذا ضيعت الأمانة

إذا ضيعت الأمانة الأمة الإسلامية اليوم تعيش في بعد عن دينها، وتخلف بسبب الجهل المخيم على كثير من أبنائها، وما تلاه من نشوء فكر العلمانية في عقول كثير من بني جلدتنا، مما زاد الأمة بلاءً فوق بلاء الجهل والابتداع، لذلك نحن بحاجة إلى شباب وجيل مؤمن يحطم وثن العلمانية بكل ما أوتي من قوة، ويمحو ظلام الجهل بنور العلم والبصيرة.

نظام البورصة في تدمير الاقتصاد

نظام البورصة في تدمير الاقتصاد إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فإنه ينبغي أن أكون أنا على قناعةٍ بصحة ما أفتي به العامي، فالعامي يعطيك المسألة وأنت تبحث وتسأل، وتعطيها له وتتحمل تبعاتها، من الذي يشعر بعظم المسألة؟! أناسٌ كثيرون جداً، جاء علي شهر كامل أجد الهاتف كله منشغلاً، كل الناس يسألون عن البورصة، وأنا لم يكن لدي فكرة أن هناك في الدنيا شيء اسمه (البورصة)، وعندما سألت وجدت البلاء المستطير {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44]. البلاء المستطير الموجود هو بسبب البورصة، وأنت عندما تسأل أي إنسان هذه الأيام، يقول لك: هناك حالة ركود في البلد، سلع كثيرة جداً نزلت السوق، السيارات والأجهزة المعمرة والمواد الغذائية كله موجود لكنها خسارات فادحة؛ لأن البورصة نظام يهودي، شركة جديدة في مصر عرضت السهم بستة وخمسين جنيهاً، وبعد ستة أشهر فقط ارتفع ثمن السهم إلى خمسمائة وستة وخمسين جنيهاً، أي: لو أن رجلاً وضع مائة ألف جنيه في البورصة لأصبح معه خمسمائة ألف جنيه في ستة أشهر، فلا أحد سيبني بيتاً أو يعمل شيئاً؛ بسبب إغراء هذا الربح. فلماذا لا أضع مائة ألف جنيه ثم بعد ستة أشهر آخذ أرباحها خمسمائة ألف، المائة ألف التي كنت سأتصرف بها آخذها من رأس المال وأجعل أرباح المال تمشي وهكذا. الناس يعتقدون أن الدولة مشرفة على البورصة فلن تفلس لا، الذي يقبض المال هم اليهود، وهذا بنك الاعتماد والتجارة! ما كان يخطر على البال أن هذا البنك سيفلس يوماً ما، هذا بنك شيوخ الخليج! الذي لو الدنيا افتقرت كلها لاعتمدوا عليه، وعجزوا حتى الآن أن يرفعوا البنك أو يعيدوا البنك مرة أخرى. اليهود أكلوا ونهبوا وانتهى الأمر، هم أباطرة المال في الدنيا! وكل مخزون الناس من المال يبتدئ يظهر في البورصة، وفي الأخير أنت لا تعلم كيف تمشي الأمور! هذه الأموال انتهت كلها، وبالتالي اقتصاد البلد كله يدمر؛ لأن كل الأموال الموجودة مع الخلق خرجت تشتغل. قضية البورصة -مثلاً- بحاجة إلى كثير من العلماء لكي يجيبوا على أسئلة الخلق، لا بد أن يفهموا أولاً عمل البورصة، ويصير عندهم فقه في أعمال البورصة، لكي تكون الفتوى صحيحة، فلو أتاك رجل من الناس وماله بيده، وإذا به واقف على الباب: يا شيخ! أرجوك أن تفتني. لا بد أن يسأله: هذه البورصة كيف تشغل هذا المال؟ كيفية العقد في الأرباح؟ أنا لا أريد عالماً جاهلاً، هناك عالم جاهل ببعض المسائل، لكنه يقول: هذه المسائل ليست موجودة عندي اسأل غيري فالمسألة تحتاج إلى كثير من العلماء في كل بلد. إن اليهود يريدون أن يشغلوا الناس حتى يأتي الرجل إلى المسجد فلا يجد من يقول له: من أنت؟ ومن أين جئت؟ هو عنده حرارة، وإخبات، وعنده فكرة عظيمة رائعة لكل الناس الذين يرتادون المساجد. حتى أن شخصاً منهم يقول لي: الناس الملتحين هؤلاء كالملائكة، يدخل المسجد ويأتي بهذه العاطفة، يظل سنة أو سنتين أو شهراً أو شهرين ثم يهرب، ولم يكلف بشيء، ولم يقل له أ؛ د: اعمل كذا أو اترك كذا وبعدما يهرب يبدأ يرى بعض المشاكل الموجودة بين المسلمين، والأصولات البذيئة الموجودة بين المسلمين، يبدأ يهرب ويسوء ظنه، فيصعب جداً إصلاحه بعد ذلك. فالمقبلون على الله عز وجل بهذا المال الحرام كثير أين الدعاة إلى الله عز وجل؟ هم الذين يصلحون أمثال هؤلاء، ويقيمونهم على طريق الله عز وجل، فهي محنةٌ من أعظم المحن. فهذه مدينة حلوان، كم مليون فيها؟ مليوني نسمة، كم فيها من الدعاة؟ انظر المحنة! لا جواب، هل ينفع هذا الكلام؟ أربعة أو خمسة لمليوني شخص؟! حلوان كم فيها أطباء؟ مئات، أليس كذلك؟ ومع ذلك المئات لا تكفي لعد سكانهم.

أهمية تربية الشباب على الدعوة والشعور بالمسئولية

أهمية تربية الشباب على الدعوة والشعور بالمسئولية وكيف لو شعرت الجماهير بحقيقة المحنة ولم يسأل رجلٌ نفسه هذا Q حتى يقول لابنه: يا بني! أنت وقفٌ لله، أوقفتك كما أوقف مصحفاً أو أوقف سبيل ماء، أوقف هذا الولد الذي أنفقته لله هو الوحيد الذي في رصيدك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ثم ذكر: وولدٌ صالح يدعو له). قال العلماء: قيد ذكر الولد بالصلاح للدلالة على أن غير الصالح لا يلحق بأبيه، فالولد غير الصالح ليس من نسلك: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فكل ولدٍ فاسد لا ينسب إليك ولا تستفيد منه، فالله عز وجل إنما ذكر ميلاد موسى وكيف ربى موسى لفرعون لنتعلم هذا، والله عز وجل كان قادراً على أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر لكنه يعلمنا كيفية الصبر، يربيه ويتدرج موسى عليه السلام ثم يخرج إلى مدين ثم يرجع إلى فرعون نبياً.

شبهات العلمانيين لا يدفعها إلا الدعاة

شبهات العلمانيين لا يدفعها إلا الدعاة من الذي يرد على الشبهات الموجودة الآن في الساحة؟ شخص الآن يتكلم على حد الرجم، ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كأنما كان ببصيرته يخترق حجب الغيب، قال -كما في صحيح البخاري- (لقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر، ورجمتُ، فأخشى أن يطول بالناس زمان، فيقول أحدهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله). وذكر أنهم كانوا يقرءون فيما كانوا يقرءون من القرآن آية الرجم، وأنها رفعت، فعندما يتكلم إنسان على حد الرجم في الصحف ويقول: إن حد الرجم هذا غير صحيح، وأنه جاء في أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا يعمل بها؛ والعجيب أن المعتزلة لا يقبلونها في العقيدة دون الفقه، هذا شيء في آخر الظلم. يقول: هذه أخبار آحاد، وكيف نريق الدماء بهذه الصورة البشعة، والإسلام لا يدعو أبداً إلى ذلك، المعروف أنه إنما يرجم الزاني المحصن والرجل المتزوج إذا زنى يرجم بأن تحفر له حفرة في الأرض، ثم يرجم، ويبقى وسطه في الأعلى بحيث يكون ظاهراً على الأرض، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، هذا هو حكم الله عز وجل في الزاني المحصن. فيقول هذا: الإسلام يدعو إلى الرأفة والرحمة حتى بالحيوان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتل أحدكم فليحسن القتلة، وإذا ذبح فليحسن الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)؟ يقول لك: انظر إلى رأفة الإسلام! إن الحيوان الأعجم الأبكم لا تحد هذه السكينة أمامه؛ لأن هذا خلاف الرحمة، حد الشفرة واذبح مباشرةً؛ لأن تعذيب الحيوان ليس من الإحسان، قال: هذا وهو حيوان، وهذا مسلم موحد، فكيف تأتي بحجر وتضربه وربما يظل يموت ساعة! والله أعلم الذي يضربه هل يضرب بضربة تؤلمه أم لا؟ يظل يرمي خمسين مرة ويأتي بحجرة أخرى ويرمي، والآخر يتعذب ما هذا؟ وهل هذا شرع؟! وهذا لا يعقل، فهل الحيوان يرحم ويقول: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ويجعل المسلم الموحد يقتل رمياً بالحجارة؟! لا يمكن الفعل هذا! الشبهة هذه جميلة! وعندما يكون الإنسان لا علم عنده ينطلي عليه مثل هذا الكلام، لكن عندما يوجد كوادر من أهل العلم تردع مثل هذا؛ الجماهير تكون في مأمن وعندها أمان، لأنه أول ما تظهر شبهة كلهم يتكلمون، ويغطون هذه الشبهة، وهي شبهة من أسقم الشبه وأتفهها؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشرع الشيء إلا لحكمة، وكل أوامره حكمة. الحيوان الأبكم الأعجم ما المصلحة في تعذيبه؟! لا مصلحة على الإطلاق، لذلك قال:: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). لكن هذا المجرم الآثم الذي اعتدى على عرض أخيه هو لم يقدر المصيبة التي وقعت في المجني عليها، يعني: المسألة كلها ليست عليه، هو في استمرار في منهج الانحراف، والمجني عليه والمعتدى عليها هذه.

طريق الدعوة والتربية طويل

طريق الدعوة والتربية طويل نحن نفهم من هذا أن طريق الدعوة طويل ويحتاج إلى صبر، وكل المصائب التي وقعنا فيها منذ القديم سببها العجلة، فالمسألة تحتاج إلى صبر خمسين سنة، الجيل المفرط الخائن يموت أو يحال إلى التقاعد، والجيل الواعد يملك، المسالة مسألة إحلال وإزالة، يكفي أن هذه الصحوة ليست من نتاجهم، فما أخذت الالتزام لا من البيت ولا من المدرسة ولا من الشارع، نحن أمة وجودنا على الأرض أحياء آية من آيات الله إذ ليس عندنا جهاز مناعة، ومعروف أن جسم الإنسان إذا أصيب الجهاز المناعي عنده يموت بأقل مرض، وهو مرض الإيدز، هذه الأمة جهازها المناعي ضعيف جداً جداً، ومع ذلك انظر الأمراض والضربات في كل لحظة ومع ذلك لا زالت حية. إذاً: هذه الصحوة ليست من نتاجهم، إنما أرادها الله عز وجل للتمكين، وهو المتفضل على هذه الأمة بهذا الجيل، وإن كان هذا الجيل ليس أهلاً أن يمكن؛ لأنه تربية الجيل الذي فرط، فيه خبث! ما زال نقلوا وورثوا الضعف إليه مثل ما ورثوا الماء، لكن ولدك سيكون خيراً منك إن شاء الله؛ لأنك أبوه. إذاً: المسألة مسألة وقت، فأنت مثلاً عندما تكون بجانب جرعة ماء، وهذه الجرعة ليس فيها قطرة ماء، ما الذي يحصل؟ ترى القش والريش والحطب ينزل، وإذا بالجيف تمر عليك، ما الذي يحصل؟ جيف تصير بجانبك من الأرق، صحيح أنت عطشان الآن لكن اصبر؛ لأن معنى أن الجيف تمشي أي: أن الماء وصل، وهو الذي دفعها، فاصبر قليلاً، حتى تمر الجيف كلها فيأتي الماء الصحيح، فهي مسألة وقت فقط لا غير، والوقت يحتاج إلى صبر، لأن العجلة خسرتنا كثيراً، الذي ينظر إلى الصعيد يبكي، الرحلة في الصعيد تبكي، النقاب في الصعيد لا يوجد، الصعيد الرجال، الذين كنا لما نقول: النقاب يعني المفروض أن الالتزام بالنقاب، الالتزام واللحى خاص بالصعيد. اذهب مصر تنظر إلى المحنة وحجم المحنة، كل هذا سببه العجلة. فمعنى أن المسألة تحتاج إلى وقت أي تحتاج إلى صبر، وإعداد الكوادر العلمية لسد هذا النقص يحتاج إلى صبر، لكن لابد أن يكون هناك جدية في العمل، وطريق إعداد الكوادر العلمية طريق طويل، لكن ينبغي أن تتنبه الجماهير إلى هذا النقص والعجز الموجود في الكوادر العلمية. هناك عالم اسمه بدر الدين الزركشي، رأت فيه أسرةٌ تتمذهب بالمذهب الشافعي مخايل النجابة والذكاء، فعرضت عليه أن تزوجه وتبني له داراً، وتعطيه راتباً بشرط أن يتفرغ لنصرة مذهب الإمام الشافعي وتصنيفه، وقد كان رحمه الله! أفلا نكون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسرة الناصرة للمذهب الشافعي؟ أنت إذا كان لك مال، اذهب إلى عالم أو رجل موثوق فيه ببلدك أو بحيك، وقل له: رشح لي طالباً أو اثنين أو ثلاثة من طلاب العلم أنفق عليهم، ويجلسون في البيت، وأوفر له المراجع الأساسية، فما من رجل يهتدي على يديه إلا وأنت قسيمه في الأجر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله) هذه وظيفتك! أنت رجل تاجر صحيح، لكن وظفت مالك لدين الله عز وجل، لأن تنفق على الفقير أحياناً، وأنت لا تراقبه، فقد يستعين بمالك على معصية الله عز وجل، فأنت عندما تعطيه المال ولا تراقبه، ولا ترى مخالفات، لا تستثمر مالك في الناحية الدعوية المفروضة، أنا رجل أعطي أي رجل مالاً فيجب علي أن أتعاهده، إذا وجدته لا يصلي أقل له: يا أخي صل. أولادي لا يصلون آمرهم بالصلاة، إذا كان هذا الرجل محتاجاً سيستجيب لك، وبهذا تكون أنت استفدت مرتين. وفي شرح أصول السنة لللالكائي أن بعض العلماء -ولعله ربيعة الرأي - دخل عليه وهو يبكي: قالوا: ما يبكيك؟ قال: استفتي من لا علم عنده، وهذا أول الخلاص كما ذكرت؛ فأصبح الآن إيجاد طلاب العلم ضرورة.

الأسئلة

الأسئلة

نقد كتاب: العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

نقد كتاب: العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي Q ما رأيكم في كتاب "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي"؟ A هذا الكتاب يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة. والحقيقة يؤسفني كثيراً أن الكاتب لم يكن أميناً في النقل، أحياناً يأتي بعبارة يقتصها من سياق الكلام، ولا تؤدي المعنى الذي لو وضعه في السياق لتغير المعنى. وهو ليس من الكتب الموثقة التي يرفع المرء لها رأياً والله أعلم. والمسألة فيها اجتهاد، وتحتاج إلى يقرأ الإنسان الكتاب ويتمهل.

حكم تقديم الهداية بمناسبة مرور سنة من العمر

حكم تقديم الهداية بمناسبة مرور سنة من العمر Q هل يجوز تقديم الهدايا بمناسبة مرور سنة من العمر بدون أي احتفالات؟ A طيب، أنا سأقول لكاتب هذا السؤال: رجل دنا من أجله سنة يبكي أم يفرح؟! إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يومٍ يدنينا من الأجل كلٌ يوم يمر أنت تقترب من أجلك، فينبغي أن تحزن وتحذر، سأل الفضيل بن عياض رجلاً، قال: كم مضى من عمرك؟ قال: مضى ستون عاماً. قال له: أنت منذُ ستين سنة وأنت سائرٌ إلى الله. فانتعش الرجل وقال: إنا لله! وما العمل؟! لأنه ما عنده خبر أنه راحل إلى الله عز وجل، قال: وما العمل؟ قال: أحسن فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى، لأن الأعمال بالخواتيم. فالرجل عندما تمر عليه سنة ينبغي أن يحاسب نفسه: ماذا فعلتُ لله تبارك وتعالى؟ هل أنا فعلاً أعددت لهذا الموت؟ سيجد النتيجة -بكل أسف! - أنه غافل، فهذا ينبغي له أن يبكي، لا أن يحتفل، وبأي شيء يحتفل؟! المفروض أن يبكي ندماً على ما فرط من عمره. وأنا أقول لك: اعمل لله ومت حيث شئت، كن عاملاً لله عز وجل وانتظر الموت. نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا وإياكم أجمعين.

الأصل في المسلم الإسلام ما لم يأت بناقض

الأصل في المسلم الإسلام ما لم يأت بناقض Q رجل يرى أن يتوقف في الحكم على رجل يصلي بالكفر أو بالإسلام مع أنه يصلي تنفلاً نرجو أن توضحوا هذه المسألة؟ A الأصل في الناس الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولودٌ يولد على الفطرة) ولقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين). فالأصل في الناس الإسلام، فلا يجوز أن ينقل رجل عن هذا الأصل إلا بناقل، والناقل: أي كفر ناقض للتوحيد ينقل، وهذا الناقل عن التوحيد قد يكون صريحاً جداً وقد يحتاج إلى تأويل، فإذا وجدت رجلاً لا أعرفه، جاء فدخل المسجد فصلى، فهذا لا يجوز ألبتة أن تتوقف في الحكم له بالإسلام، إذا كان الأصل هو الإسلام، ثم أتى بما يدل على أنه مسلم، فكيف تتوقف في الحكم له بالإسلام؟! بل لو رأيته يفعل أفعال الكفر فلا تكفره حتى تعلم لماذا فعل، كأن تكون رأيت رجلاً يسجد لصنم، الفعل كفر بلا شك، والسجود لغير الله كفر، لكن ليس بلازم أن يكفر الفاعل؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً بالقضية، ولاسيما إذا كنا في زمان ليس فيه علماء السنة، الجهل رايته ترفرف خفاقة في كل مكان، فمظنة وجود العلم صحيح فحينئذٍ نسأل، هناك بعض الناس يقول: هل هذه القضية تحتاج إلى بيان؟ أقول لك: نعم، لأن هناك ما هو أطم من ذلك. رجل عمره ستون سنة، وهو يصلي منذ خمسين سنة، لكنه يعتقد أن الاستنجاء لا يكون إلا من الغائط أما إذا تبول فليس ضرورياً أن يستنجي! فكان يبول ولا يستنجي، ويدخل يتوضأ ويصلي، أظن أن هذه المسألة من الذي يتردى فيها؟ إنك لتتألم أن ترى المفارقات العجيبة في بيئة الجهل وفي زمان الجهل. قد يسجد رجل لرجل، ويرى أن هذا من باب الإكرام، جاهل! بعض علماء السوء من أصحاب الطرق الصوفية، قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، أن يقبل الأرض، ولذلك يقولون: (قف أدبا قف أدبا وقبل الأرض إن الشكر قد وجباً)! هم يقولون هكذا، إذا زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، من الذي يقول هذا الكلام؟! من الذي سن للمسلم أن يذهب فيقبل الأرض عند الرسول عليه الصلاة والسلام؟! هذا شخص قد نظمها شعراً، ونظر أن هذا من الأدب، وهم يقولون: هذا من المريدين الجهلة، الذين لا يعرفون أبجديات التوحيد، فشخص من هؤلاء يعتقد أن هذا هو دين الله عز وجل، وأن العلماء الربانيين هم العلماء له، فهو ما فعل ذلك لا كفراً ولا رضاً بالكفر، لكن يظنه بنظرة الجاهل أن هذا هو الحق. فنحن عندما نرى رجلاً يفعل هذا، نقول له: أنت ما حملك على أن فعلت ذلك؟ يقول: أنا فعلته أدباً واحتراماً. قل له: يا أخي! لا تفعل، لأن السجود لا يكون إلا لله. لكن إذا قال لي: أنا أعبدك، أجعلك إلهاً. نقول: هذا كفر، وأنت كافر فاخرج من هذا!. الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء معاذ بن جبل من الشام، ووجد الناس يسجدون لأساقفتهم، قال: ماذا تعملون في الرجال؟ قالوا: نوقرهم ونحترمهم، قال: هؤلاء أهل النار تحترمونهم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا نحترمه، فهو أولى أن نحترمه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأول ما رآه خر ساجداً! قال: (ما هذا يا معاذ؟! قال: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن أسجد لك، قال: يا معاذ! إن السجود لا يكون إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). فانظر الرسول عليه الصلاة والسلام عندما يرى مثل هذا الفعل -وهو فعل كفري بلا شك- فيستفسر منه لماذا فعلت؟ إذاً: الرجل إذا لم يأت بناقض للإسلام، بل أتى بما يعضد إسلامه -والأصل أنه مسلم- فلا بد أنك تتوقف في الحكم عليه، هذه هي بوابة التكفير، وخالف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.

حكم لبس القميص والبنطلون

حكم لبس القميص والبنطلون Q هل لبس القميص والبنطال حرام؟ إن كان حراماً فأت لي بالدليل؟ A بالنسبة للبس البنطلون الشيخ الألباني رحمه الله يقول: إن لبسه حرام؛ لأنه ليس من أزياء المسلمين، إنما جاءنا من الكافرين، أضف إلى ذلك أن البنطال يجسم العورة، ولذلك أفتوا -حتى الذين يقولون بعدم حرمة البنطال- بكراهة الصلاة في هذا البنطلون لهذه العلة: أنه يجسم العورة. الشيخ ابن باز بلغني عنه أنه قال: إن هذا جائز لماذا؟ لأن هذا مما عمت به البلوى في ديار المسلمين، فهذا جائز لكن تكره الصلاة به للعلة السابقة. فأنت إذا اضطررت إلى لبس البنطال لتذهب الجامعة أو إلى العمل -ولا يسمحون لك إلا بذلك- فلا جناح عليك أن تذهب به، لكن إذا رجعت إلى بيتك فاخلعه والبس قميصاً، فالعلماء الذين يقولون: (الضرورة تبيح المحظورات)، يضيفون قاعدة فقهية أيضاً إلى جنب هذه، فيقولون: (الضرورة تقدر بقدرها). يعني: الضرورة تبيح المحظورات ليست على إطلاقها، رجل عطشان سيموت من العطش وبينه وبين الماء كيلو متر مثلاً، فأمامه خمر، فالعلماء يقولون: لا يجوز له أن يشرب الخمر كله ويملأ بطنه ولكن يشرب من الخمر بقدر ما يوصله إلى الماء، وكذلك إذا أكل الحرام يأكل بقدر ما يوصله إلى الطعام الحلال؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات ليس على إطلاقها، إنما تقدر هذه القاعدة بقدر الضرورة وحجمها وزمانها والله أعلم.

معنى قوله سبحانه: (ذق إنك أنت العزيز الكريم)

معنى قوله سبحانه: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) Q ما معنى قول الله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]؟ A إذا قرأ سياق الآيات يعرف مباشرة أن هذه إهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] أي: يا من كنت تدعي العزة والكرامة -وكانت لك في الدنيا- ذق، فهل لك من عزة أو كرامة الآن؟! والعلماء يقولون: إن هذا أحد أدلة التعريض والغمز، نحن نعلم أن الترخيم يدل على اللطف، عندما أقول لك مثلاً: أسامة، فأناديك: يا أسيم، وعائشة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديها: يا عائش. الترخيم: هو حذف جزء من الكلمة، والمقصود به التلطف، لكن لو وجد في السياق إهانة فنحن نقول: إنه ليس على سبيل الكرامة بدليل السياق، يعني: قول الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسأل رجل يوم القيامة، فيقول الله عز وجل له: أي فل! ألم أذرك ترأس وتربع، وأزوجك النساء وأكسبك الخيل؟ فأين شكرك؟ قال: أي رب! نسيت، فقال: فاليوم أنساك). فقول الله عز وجل: (أي فل) اختصار لـ (فلان) وهو ترخيم، فالسياق هو الذي يوضح المعنى، إذا كان المقصود به إكرام أو المقصود به إهانة. وهذا مثل نضربه في هذا البحث: كان هناك شخص ذكي جداً بعث لأهله علبة كبريت أيام اختراع الكبريت، وقال لهم: هذا اختراع حديث وجميل، بدلاً من أن تضربوا حجرين ببعض لتخرج شرارة لأجل أن تشعلوا بها فلا تستدركونها، هذا عود كبريت وبأقل احتكاك ينتج حرارة لا بأس بها، فالناس التفوا حول علبة الكبريت وظلوا يشعلون أعواد الكبريت عوداً عوداً، فلم يشتعل شيء، فأبلغوه أنه لم يشتعل أياً من هذه الأعواد، فاستغرب وقال: كيف يحدث هذا، أنا جربتها عوداً عوداً!! (إذاً: هذا ذكي جداً) فهل أنا قصدت ذكي جداً أو قصدت غبي جداً؟ فالذي عرفني أنه غبي جداً القصة التي أوردتها، فإذاً: هذا اسمه: (باب التعريض والغمز). أنت عندما تسمع كلمة ظاهرها الكرامة وتنظر إلى سياقها، تعرف إذا كان السياق يخدم ظاهر الألفاظ أو كان العكس، والله أعلم.

حكم تنظيم النسل

حكم تنظيم النسل Q ما حكم اتخاذ وسيلة لتنظيم النسل بعد السنتين؟ A هذا جائز؛ لأن هذا قائم مقام العزل، والعزل جائز بلا شك.

حكم إزالة الشعر من وجه المرأة

حكم إزالة الشعر من وجه المرأة Q إزالة الشعر من لحية المرأة وشاربها هل يدخل في النمص المنهي عنه؟ A المسألة فيها ثلاثة مذاهب، وأرجح أقوال العلماء هو: أنه يجوز للمرأة أن تأخذ شعر وجهها إذا كان لها لحية أو كان لها ما يشبه ذلك، وخص أكثر العلماء النهي بما في الحاجبين وما بينهما، أما إزالة الشعر سائر جسمها ووجهها فهذا على رأي أكثر العلماء جائز، والله أعلم.

حكم مس الجنب والحائض والنفساء للمصحف

حكم مس الجنب والحائض والنفساء للمصحف Q ما حكم مس المصحف من الجنب أو الحائض والنفساء؟ A الذي عليه جماهير العلماء منع مس هؤلاء للمصحف، لكن يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يقرءوا القرآن وأن يجري على ألسنتهم، هذا لا شيء فيه لكن بدون مس.

نصيحة للنساء اللاتي منعن من النقاب في المدارس والجامعات

نصيحة للنساء اللاتي منعن من النقاب في المدارس والجامعات Q ورد أكثر من سؤال عن النقاب وأن المنتقبات منعن دخول المدارس والجامعات، وما هي النصيحة التي ننصحها للمنتقبات في مثل هذا؟ A نحن نقول للأخوات المنتقبات: أنتن على ثغرٍ من ثغور الإسلام، والحرب دائرة على كل الجبهات، حتى النساء دخلت أيضاً في المعارك، فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تخذل إخوانها من المسلمين لاسيما إذا كان الأمر منوطاً بها. نحن نقول للفتاة المسلمة: لا تتردد على الإطلاق في ترك الجامعة إذا خيرت بين نقابها وترك الجامعة، لا تتردد على الإطلاق في ترك الوظيفة إذا خيرت بين الوظيفة والنقاب، وكذلك المدارس، ولا تتردد البنت على الإطلاق لماذا؟ لأن النقاب ليس مجرد ستر الوجه، النقاب أصبح علامة، فنحن نناشد الأخوات بالله تبارك وتعالى أن لا يشمتن بنا الأعداء، وليقبلن هذا التحدي. وآخر الأسئلة التي عرضت علي هذا الأسبوع أن رجلاً وامرأته ضربوا ابنتهم المنتقبة حتى سببوا لها آلاماً شديدة ولياً في الذراع، وقالوا لها تهديداً: لن تذهبي إلى الجامعة. فقالت: أنا أرضى ألا أذهب إلى الجامعة. فلما قالت هذا الكلام انهالوا عليها ضرباً أيضاً لماذا؟ لأنها أصبحت في السنة الثالثة في الجامعة أو السنة الثانية، وهي مصرة على ألا تخلع نقابها! نحن نقول للآباء: لماذا تفعلون ذلك؟! لهم حجة واهية، وهي: أنه لا تلبس النقاب حتى تتزوج لماذا؟ لأنها إذا انتقبت فلن يتقدم لها خطاب. والحقيقة أن النقاب أسرع وسيلة للزواج الآن، الذي يريد أن يزوج ابنته مثلاً وما أتى إليه أحد ينقبها؛ لأن الخمار لم يعد علامة الالتزام الآن، تجد المرأة المختمرة يتقدم لها الإنسان المدخن، والإنسان الذي لا يصلي؛ لأن الخمار لم يعد علامة الالتزام، إنما الذي يذهب إلى المنتقبة صنفٌ واحد فقط. أنا لا أتصور في عقلي ولا أتصوره أيضاً في عقولكم أن يذهب رجل لا يصلي ويتزوج منتقبة، إذاً: المرأة المنتقبة تحفظ نفسها وتختار زوجها من خلال النقاب، لأن الذي سيتقدم لها إنسان يتقي الله تبارك وتعالى، إنسان وجهته معروفة، وهي بذلك تحصن نفسها، لأن النقاب وسيلة لتحصين النفس، وهذه نصيحة للمرأة. أما هؤلاء الآباء الذين يجبرون بناتهم على خلع النقاب لأجل هذه العلة فنقول لهم: إن الزمان استدار، وأضرب لكم مثلاً: شخص ترك الوظيفة وذهب ليعمل في عمل استثماري، قال: إن مرتبه وصل إلى ألف وسبعمائة جنيه، في حين أن الوظيفة كان راتبه فيها ستة وسبعين جنيهاً، فترك الوظيفة بلا تردد -وهذه الواقعة أعلمها- فبكت أمه وقالت: يا ابني! هل يوجد أحد يترك مرتب الحكومة؟! يعني: أنت لو أنك الآن وأحببت أن تسافر، فهؤلاء الناس لن ينفعوك، لأن هذه القصة وهذا الكلام كان في الستينيات، يجد أن العاملات تتغير، صح النوم! والدنيا تغيرت، المعاش والكلام هذا الذي فات لم يصبح له قيمة على الإطلاق أبداً، يعني: هو سيأخذ من راتب شهرين أو ثلاثة أشهر رواتب سنتين في الحكومة، تجد بعض الناس يفكر بهذه العقلية، ولا زالوا أيضاً يفكرون بالنسبة للبنات بالعقلية القديمة، أنه على الدرجة الخامسة أو السادسة أو السابعة، ومعروف أن كل هذه الدركات لا قيمة لها، كانت في الماضي درجات أما الآن فهي دركات. فلذلك نحن نقول: إذا كنتم تطمعون في الدنيا فهاهي، الدنيا لهم وللمنتقبات أيضاً، إذاً: لا داعٍ لهذا الضغط، المرأة العفيفة التي استترت وحجبت نفسها رغبة إلى الله ورسوله لا ينبغي للأب أن يكون حجر عثرة. فأنا أقول للآباء: لو أنك في الآخرة من الصالحين، وأنت ستدخل الجنة مباشرةً، ربما تدخل النار بسبب ابنتك، لأنها أمانة في عنقك، أليست الزوجة أمانة في عنقك، أليس الأولاد في عنقك؟ فمن عجب رجل أن يصر رجل على دخول النار، وأن يعرض نفسه للمساءلة، فالاعتناء بالبنت يرفع عنك المساءلة، ويخفف عنك الحساب، فهي ابنة بارة بك ينبغي أن تقدرها. لا زلنا نقول: حربنا مع العلمانيين حرب ضروس، والحمد لله رب العالمين كسبنا كل الجوانب، ما خسرنا ولا جولة حتى الآن، وهذا الكم الهائل الذي نراه في المحاضرات ليس جهد الدعاة، جهد الدعاة لا يمكن أن يسفر عن هذا العدد أبداً، إنما هو الله عز وجل، هو الذي يرد الناس إلى دينهم رداً جميلاً، وإلا فالدعاة جهدهم أضعف مائة مرة من أن يكونوا هم السبب في رجوع كل هذه الجماهير. فالحمد لله! الانتصارات على كل الجبهات وعلى كل المحاور، لكن من طبيعة العلماني أنه يهضم انتصارك، ويبين أنك لم تعمل شيئاً، وأنك دائماً في تقهقر، ويصطنع انتصارات موهومة على جبهات أخرى، مثل عام (67م)، يقول لك: وأسقطنا للعدو مائة طائرة، وهم قد أخذوا العلقة المحترمة على الأرض! فلا يحتاجون أن يطيروا ولا يعملوا شيئاً لماذا؟ يقول لك: هذا لابد منه لرفع الروح المعنوية. بيانات الحرب كلها كاذبة، المصائب والكوارث والزلازل والبراكين والسيول إلخ، كل الإحصائيات كاذبة وليس صحيحاً؛ لأنه لا يمكن أن يتطوع بذكر الرقم الحقيقي للمصائب، يقول لك: (النجاح له ألف أب، والفشل يتيم) الفشل يتيم لماذا؟ لأنه لا أحد يتبناه ويقول: هذا لي، أبداً، لكن النجاح له ألف أب، كل إنسان يقول: أنا الذي صنعته، فكذلك المصائب، كلها لا والد لها، يتيمة. فهم يصطنعون الانتصارات على جبهات موهومة، فيقوم أهل الحرب الذين ليسوا متحققين من المسألة أول ما تقع هذه الانتصارات الموهومة التي يذيعونها، وهم يملكون الإعلام مقروءاً ومسموعاً ومكتوباً، وعندهم القدرة على نشر كل الانتصارات على كل المحاور، قد يظنون أن هذا يفت في عضد أهل الحق، ويظنون أنهم خسروا جولات كثيرة. نقول لهم: لا، لو تقاتل بقوتك أنا أقول لك: أنت ستهزم، نحن متأكدون من النصر؛ لأننا نحارب إلى جنب الله عز وجل، هذا يجعلنا متأكدين (100%) أننا منصورون، قد لا نرى النصر بأعيننا، وهذا ليس مطلوباً منا أن نرى النصر في حياتنا، إنما المطلوب أن تسلم الراية خفاقة لا تسقط، هذا هو المطلوب منك فقط، طريق الدعوة طويل جداً، وهلكت فيه أمم في طريق الدعوة إلى الله، ولا زال في الطريق بقية إلى الله عز وجل، والكل مات. فالمطلوب أن تسلم الراية بأمان كما عظمتها من أول وهلة، لا تكن خائناً وتنفر، لكن اعط الراية إلى الذي يأتي بعدك. فنحن نقول للأخوات المنتقبات: هي فتنة، ومن نصر الله عز وجل ورسوله في زمان الغربة ليس كمن نصره إذا جاء نصر الله والفتح.

حكم من علق اليمين بالحرام على زوجته إن دخلت منزله

حكم من علق اليمين بالحرام على زوجته إن دخلت منزله Q ما حكم من أقسم على زوجته أثناء مشكلة في منزل العائلة، أنها لو دخلت المنزل تكون محرمةً عليه، ولكنه مع الضغط عليه من أقاربه وأقاربها دخلت المنزل مرة ثانية، وكان يريد أن ينفصل هو وهي عن الزواج فما حكم هذا؟ A صاحب القصة لا بد أن يسأل عن هذا السؤال؛ لأنه عندما أقول: أنت محرمة عليّ، فهذا كلامٌ يفتقر إلى نية، فنحن لا ندري أقصد الظهار أم قصد الطلاق، فالظهار حكمه معروف، والطلاق حكمه معروف. وهذه من الألفاظ التي تحتاج إلى الاستفصال من المتكلم فيها ماذا قصد؟ وماذا عنى؟ إذا كان قصد الظهار فحكم الظهار معروف، أما إذا كان قصد الطلاق فيقع الطلاق بمجرد دخول المرأة إلى البيت.

حكم تعري الزوجين عند المباشرة

حكم تعري الزوجين عند المباشرة Q ما رأيكم في تعري الزوجين عند المباشرة؟ A هذا جائز، وقد ورد في النهي عن ذلك أحاديث موضوعة: (لا يتجرد أحدكم مع زوجته تجرد العير -أو تجرد العيرين- فإن الله يمقت على ذلك) وهذا حديث مكذوب. وأقول هذا جائز لما جاء في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها وهو في الصحيحين أن عائشة قالت: (كنت أغتسل مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن جنبان تختلف أيدينا في الإناء أقول له: دع لي، دع لي) والمعروف أن الرجل والمرأة لا يغتسلان بالملابس ونحو ذلك، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) فهذا جائز لا شك فيه.

المسافة الموجبة للقصر

المسافة الموجبة للقصر Q ما هي المسافة التي توجب القصر؟ A القول المشهور عند العلماء هو ما زاد عن (80 كم)، ومسافة القصر تحتاج إلى دليل، لأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله أدخل مسألة القصر في العرف، وقال: ما كان في العرف سفراً فإنه يقصر، فلابد من ضبط العرف، ما هو العرف الذي تخصص به الأدلة الشرعية.

لا تبحث الأحكام والحدود إلا ببينة

لا تبحث الأحكام والحدود إلا ببينة Q ما هي شروط اتهام أي شخص بالسرقة أو خلافه؟ هل لا بد من وجود البينة أم لا؟ وهل هذه البينة تكون بورق أم بشهادة أشخاص؟ وما رأيكم في من يتهم الناس بغير بينة، وإنا لله وإنا إليه راجعون؟ A لا يجوز لأحد أن يتهم أحداً إلا ببينة: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وهذه قاعدةٌ فقهية متفق عليها بين العلماء، فكل التهم لا تكون إلا ببينة، والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء إذاً: الدعوة إذا لم تقم عليها البينة يكون صاحبها دعياً لا يقبل قوله، لا عند القاضي ولا عند أي واحد ممن دونه أو ممن كان في منزلة القاضي أو كان في مكانه، وهذا شيء متفق عليه بين المسلمين، ولا نعلم أن قاضٍ من القضاة أنزل حكماً برجل إلا بعد أن يقيم الرجل المدعي البينة عليه.

التحلية من أصول التربية

التحلية من أصول التربية إن الغلو مفتاح كل شر، وأساس الشرك بالله سبحانه وتعالى، وسبب في الابتعاد عن الطريق المستقيم وهدي سيد المرسلين؛ لذلك فقد حذر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الغلو، فلم يترك سبيلاً إليه إلا سده وحذر منه، وإن من أخطر الغلو: الغلو في الأفاضل والمشايخ؛ لأنه ذريعة إلى الإشراك بالله سبحانه وتعالى كما حصل من قوم نوح عليه السلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الغلو فيه حتى في العبارات والألفاظ.

أصول التربية

أصول التربية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. فالتحلية من أصول التربية، قصدت بها أن أجمع ما تفرق في كتب العلماء عن أصول التربية، وللعلماء كلمة مشهورة يذكرونها في باب الأدب، يقولون: (علم بلا أدب كنار بلا حطب) (ونار بلا حطب. أي: لا نار؛ لأن النار لا تكون إلا بوقود. فقولهم: (بلا حطب): يعني: لا نار، وهذا يعني أن المرء إذا كان خلواً من الأدب فلا ينتفع في نفسه بعلمه، ولا ينفع غيره. وقد حرصت على نظم هذه الأصول في عبارات لطيفة خفيفة يسهل حفظها، فأذكر عشرة أصول، ولا أقول: إنني استوعبت أصول التربية بذلك، لكن هي من أصول التربية كما يبدو من العنوان، بل هي أصول من أصول التربية. الأصل الأول: من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل. الأصل الثاني: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره. الأصل الثالث: ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرة المراء يورث الصدود. الأصل الرابع: من لم يصبر على جفاء أستاذه؛ تجرع الخسران بتصدع ملاذه. الأصل الخامس: تنكب في الخصومة حظ نفسك، واقهر هواك بإنصاف خصمك. الأصل السادس: من لم يخلع عنه رداء الكبر؛ ضل جاهلاً من مهده إلى القبر. الأصل السابع: وطالب العلم بلا وقار كمبتغ في الماء جذوة نار. الأصل الثامن: حسن العهد من الإيمان، والوفاء والود له ركنان. الأصل التاسع: من لزم التواضع والانكسار؛ فتح له بذاك وطار كل مطار. الأصل العاشر: ليس حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك. فهذه أصول من أصول التربية، أحوج الناس إليها هم الذين يتصدرون في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل

من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل فاعلم أيها المسترشد، طالب النجاة: أن الغلو هو مفتاح كل شر، ورأس كل ضر، وهو أحد أركان الكفر، وحسبك أن تعلم أن أول كفر وضع في الدنيا كان بسبب الغلو، كما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث ابن عباس في ذكر الكفر الذي وقع في قوم نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فهذه خمسة أسماء لرجال صالحين من قوم نوح، فجاء الشيطان قوم نوح، فأمرهم أن يصوروا صور هؤلاء حتى لا ينسوهم، فلما مات الآباء وكانوا يعلمون حقيقة الأمر، وجاءت خلوف بعدهم -وهم الأبناء- لا يعرفون لماذا صور الآباء هؤلاء الناس، فقالوا: ما صور آباؤنا هؤلاء إلا ليعبدوهم، ومن هنا بدأ الغلو، فغلوا في هؤلاء الرجال حتى عبدوهم من دون الله تبارك وتعالى، فهي أول أصنام وضعت على الأرض. ونحن نقرأ في سورة الفاتحة كل يوم مرات كثيرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فطلبت من ربك صراطاً مستقيماً، واستعذت به من صراطين. وما من أمر يأمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا وللشيطان فيه نزغتان: النزغة الأولى: إفراط، والنزغة الثانية: تفريط. فالنصارى: هم الضالون، واليهود: هم المغضوب عليهم، النصارى أكثر الناس غلواً في الرجال، ولذلك عبدوا المسيح؛ بسبب الغلو، ولم يذكر لفظة غلا أو النهي عن الغلو في القرآن غير مرتين، والخطاب موجه في المرتين إلى النصارى: في المرة الأولى: في سورة النساء، قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، هذا هو الموضع الأول. الموضع الثاني: في سورة المائدة، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، قبل هذه الآية بآية؛ لتعلم أن الخطاب إنما وجه إلى النصارى، قال الله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]، فالخطاب موجه إلى النصارى لماذا؟ لأنهم هم أكثر الناس غلواً؛ لذلك عبدوا المسيح عليه السلام.

نماذج من حياة علماء السلف في ترك الغلو في المشايخ

نماذج من حياة علماء السلف في ترك الغلو في المشايخ هناك نماذج كثيرة جداً من العلماء والفقهاء، منها مثلاً أحد العلماء اسمه: موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، أحد المحدثين الكبار، وهو من مشايخ أحمد وابن معين، وأدركه الإمام البخاري، وهو من كبار شيوخ البخاري. موسى بن إسماعيل التبوذكي وقد كان إمام الجرح والتعديل أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله يجله غاية الإجلال، ويقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي. وابن معين لم يكن يخاف من أحد، ومع ذلك يقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي - موسى بن إسماعيل التبوذكي -. فقال له يحيى بن معين: يا أبا سلمة! حديثك عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أبا بكر -وساق حديثاً في قصة الغار- هل سمعته من حماد؟ احلف لي على ذلك؟ - قال له: احلف لي على أنك سمعته من حماد -تقريباً القصة هكذا- فإن أصحاب حماد يخالفونك. - فقال له التبوذكي: كم سمعت مني؟ - قال له: سمعت منك ثلاثين ألف حديث. - فقال له أبو سلمة: صدقتني في ثلاثين ألف حديث وتكذبني في حديث، أشهد لسمعته من حماد، ولله علي لا كلمتك بعد ذلك أبداً. وأبى أن يكلمه، ولكنه حلف له أنه سمع. وكذلك أبو النعمان عارم محمد بن الفضل، عارم أخطأ في حديثين فرد عليه يحيى بن معين، فقال له عارم: لا. بل هو كما قلت أنا. فقال ابن معين: لا والله، بل كما قلت أنا. فقال له يحيى: قم هات الأصل. فدخل أبو النعمان وجاء بالكتاب فوجده كما يقول يحيى، وكان عارم محمد بن الفضل في حفظه زيف، فخرج من بيته ومعه الكتاب وهو يقول: من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! -أي: يعتذر عن هذه الملاحاة- من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! فلما يحصل نوع من الاعتراض على الشيخ -لاسيما إذا كان الشيخ مخطئاً ويرجع- يكسر حدة الغلو فيه، وإذا كان ناقصاً ويخطئ، ومن هو أدنى منه يسدده ويبين له أخطاءه؛ فهذا يكسر حدة الغلو فيه لأن الغلو مدعاة الكمال، وما غلا إنسان في إنسان إلا وهو يعتقد أنه فوق مستوى الناس، وهذا معنى شائك للغاية؛ لأن لدينا نماذج في علماء المسلمين شبيهة بهذا التعظيم، تجد مثلاً قول أحدهم: (والله ما جرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي؛ هيبة له) وما ثبت عن بعض التابعين أنه كان يأخذ النعل ويعطيه لشيخه، يضعه تحت قدم شيخه فهذا أيضاً مدعاة للغلو، وأيضاً نماذج أخرى مثلما يحكيه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد أن الإمام أحمد كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وكان عبد الرزاق شيخ أحمد يقول له: اجلس بجانبي، فكان يقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فهذا أيضاً مدعاة للغلو، فنحن وسط لا إفراط ولا تفريط ما بين الغلو المبتدع والتشريف والتبجيل إلا أن نقول: الغلو ممنوع؛ لأنه ليس في الغلو خير. إن الصوفية حازوا قصب السبق في الغلو في الشيوخ، ويتلوهم أيضاً الذين غلوا في الأئمة الكبار وقلدوهم حتى في الغلط، وما نشأت العصبية المذهبية في المسلمين إلا بالغلو في الشيوخ، وأعظم وأخطر سلاح يستخدمه الغالي أن يرمي المعتدل ببغض هذا الشيخ. فإذا قلنا: يا أخي! الإمام الشافعي ليس بمعصوم. يقول: أنت بهذا تطعن على الشافعي، أنت تكره الشافعي!! وإذا قلنا: الدسوقي رجل فاضل في ذاته، لكن ما يُفعل حول قبره لا يجوز، وهذا شرك بالله. يقولون: أنت بهذا لا يعجبك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! وإذا قلنا: إن هذا شرك لا يجوز، يقولون لك: (أنت تطعن في الأولياء)! إذاً: الغالي ليس معه إلا هذا السلاح: أن يرميك ببغض هذا الشيخ. وهناك كتاب اسمه (توشيح الديباج) في الفقه المالكي -جزء صغير- لـ بدر الدين القرافي، وبدر الدين القرافي غير شهاب الدين القرافي، فـ الشهاب القرافي هو صاحب كتاب الفروق وهو متقدم، وأما بدر الدين القرافي فمتأخر. من تشابه الأسماء: الزركشي، فهناك عالمان أحدهما حنبلي والآخر شافعي، فـ بدر الدين الزركشي شافعي، وشمس الدين الزركشي حنبلي، وهو شارح مختصر الخرقي في الفقه الحنبلي الذي شرحه ابن قدامة في المغني، وشرح شمس الدين الزركشي على مختصر الخرقي في سبعة مجلدات، وبدر الدين الزركشي شافعي، وهو صاحب كتاب: البرهان في علوم القرآن، وصاحب كتاب: البحر المحيط في أصول الفقه، وصاحب كتاب: المعتبر في تخريج أحاديث المختصر، الذي خرج فيه أحاديث مختصر ابن الحاجب. وبدر الدين القرافي -وليس شهاب الدين - يقول في كتاب: توشيح الديباج: نحن خليليون وأشهر مختصر للفقه المالكي هو لـ خليل بن إسحاق، ثم مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، والمختصر هذا في المذهب المالكي مثل مختصر الخرقي في المذهب الحنبلي. فـ بدر الدين القرافي يقول في توشيح الديباج: (نحن خليليون، ولو ضل خليل لضللنا). أي لو أن خليل بن إسحاق ضل فإنا لن ندعه أبداً. إذ لو علم أنه ضل لا أظن أنه يضل، فهو هذا الظن بالعلماء، حتى لو صدرت منهم عبارة نابية أو نشاز فلا تقبل، لكن ينبغي أن يحمل كلامهم على ما يناسب علمهم، إذ لو علم أنه ضل بيقين ما أظنه أبداً يتبعه وهناك من العلماء من يرى أن الحق في مذهبه مثل الجويني في (مغيث الخلق ببيان القول الحق) ألف هذا الكتاب لنصرة المذهب الشافعي، فرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب، وكذلك الخطيب البغدادي لما أورد في ترجمة أبي حنيفة ما يعاب به أبو حنيفة، مع أن الخطيب لم يقصد عيب أبي حنيفة، لكنه كمؤرخ يذكر كل ما قيل في صاحب الترجمة من حق أو باطل، هذه هي طريقة المؤرخ، وهي أن يورد كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة، سواء كان بحق أو بباطل. فيرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب سماه (السهم المصيب لكذب الخطيب) ويرد عليه رداً شديداً جداً ومقذعاً للغاية مع أن الخطيب له أوسع الكتب في المسألة، والخطيب أورد في تراجم العلماء في تاريخ بغداد مثالب للعلماء، لا نقول: إن الخطيب كان يعتقد هذه المثالب، لكن هو كمؤرخ يورد بالسند الذي عنده كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة.

الغلو في المشايخ سبب تفرق الأمة وتمزيقها

الغلو في المشايخ سبب تفرق الأمة وتمزيقها وكذلك وجد في الأمة من عبد غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس في كماله وشمائله وفضله، فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن الغلو فيه حتى لا يعبدوه، فامتثل الصحابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، ومضت خلوف وتوالت القرون، حتى رأينا الغلو في الرجال حائلاً دون وصول الحق إلى الناس، فغلت الصوفية أشد الغلو في مشايخهم، والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل يكون إلهاً عند بعضهم! وقد قال لي رجل برهاني، ولم يأتِ ببرهان على ما يقول: أنا شيخي في السودان، وهو يراني الآن ويرى ماذا أفعل. ويتكلم بعقيدة، وقد حدث بيني وبينه مشادة، وإنما حدثت المشادة لما أظهرت له عوار شيوخهم، وهذه الطريقة سديدة: فإذا رأيت الرجل يكابر فافعل معه مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه) و (الهن): هو الذكر، (أعضوه بهن أبيه) والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي علم الناس الأخلاق، وعلمهم مكارم وشمائل الصفات والنعوت، هو الذي يقول لنا ذلك. وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق -في حديث المسور بن مخرمة يقول لـ عروة بن مسعود الثقفي لما قال: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك- فقال له أبو بكر: أنحن نفر وندعه؟! أمصص ببظر اللات. ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه. وهذا يدل على أنه يجوز استعمال الغلظة لكن في موضعها. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى يعني: المكان الذي يستحق أن تضع فيه الكلمة الشديدة ضعها فإنها حكمة ورحمة، والرسول عليه الصلاة والسلام مرة قال لـ معاذ (ثكلتك أمك)، وهذا دعاء عليه، (ثكلتك أمك يا معاذ). فيجوز أن نستخدم الشدة مع المكابر الذي علمت -بعد إقامة الحجة عليه، والرفق به- أنه لا يرجع، فإذا غلب على ظنك بهذه الضوابط أنه لا يرجع، اكشف له المغطى. وأنا عندما تناقشت مع هذا الرجل كشفت له بعض الفضائح والمخازي التي ذكرها رجل من أعيان الصوفية، ولم أحك هذا عن أئمة السلف من العلماء، حتى لا يقال: كيف تروي مذمتي من عدوي؟ وإنما رويتها عن رجل من أشد المتعصبين للصوفية، وقد صنف هذا الكتاب -طبقات الشعراني- لإظهار كرامات الصوفية، فيذكر -مثلاً- في ترجمة واحد منهم يقول: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً) والذي يغيظني قوله: (رضي الله عنه). كإنسان كان يقرأ في كتاب ويتعقب صاحب الكتاب، فقرأ عبارة فقال: أخطأ رحمه الله، وقرأ عبارة أخرى فقال: أخطأ رحمه الله، وجاء على عبارة لا تحتمل فقال: كفر رحمه الله فما لازم (رحمه الله)؟! وقد حكم عليه بالكفر؟! فيذكر صاحب الطبقات مصيبة من المصائب ويقول لك: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً، وكان رضي الله عنه يأتي البهائم) كل كبدة ومخ ضاني واقرأ الفاتحة للشعراني ولا يجوز عندهم مخالفة الشيخ ألبتة، وأعظم أبواب الحرمان -عندهم- أن تخالف الشيخ. الاعتراض عند الصوفية هو الداء العضال الذي يلي الكفر بالله مباشرة، مع أن مخالفة الشيخ ليست من السبع الموبقات التي ذكرها لنا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الداء العضال عند الصوفية الذي لا تقال منه العثرة، ولا تقبل منه التوبة. فمن أصولهم: أنك إذا رأيت الشيخ يفعل الشيء الحرام عندك -على ظاهر النصوص- فلا تعترض؟ لأن لديه مخارج. فباب سد الذريعة عند الصوفية ليس له أي اعتبار على الإطلاق. فوصل غلو هؤلاء في المشايخ إلى درجة أنهم جعلوا من أصول التربية عندهم: ترك الاعتراض على الشيخ حتى لو كان يفعل الحرام لاحتمال أن يكون له تأويل وأنت لا تدريه، حتى قرأت في كتبهم، قال: فلو رأيته يزاني بحليلة جاره فقل: لعله عقد عليها فهل يصح هذا الكلام؟! وعندهم لا يجوز اتهام الشيخ. وذكروا قصة عجيبة: أن بعض المريدين تردد في صدره قذف للشيخ، فقال: فنظر الشيخ إليه، وقال له: قم فاغتسل واذكر الله. اغتسل غسل ماذا؟ أي: أنه كفر، فيغتسل غسل الإسلام ويدخل في الإسلام. قال: فاغتسل ورجع فقبل يديه، وقال: تبت ولا أعود. فتصور المريد أن الشيخ يعلم الغيب وهذا يذكرني بأيام ما دخلنا الجيش، فكنا في معسكر المشاة، والمعسكر هذا لما ذهبنا إليه كانوا يقولون: المعسكر هذا وإسرائيل واحد؛ من شدته وشدة الضباط الذين يعلمون فيه، وكان هناك ضابط له كلمة معروفة، وبينما نقف في الطابور يقول: أنت الذي تحرك أصابعك في البيادة! ونحن خمسمائة واحد وقد يحرك أحدنا أصابعه داخل البيادة؟! فتصور الذي يحرك أصبعه في البيادة أن الضابط يعرف كل شيء. وهذا ما يفعله الشيخ الصوفي مع المريد ومن أصول أهل السنة والجماعة: ألا نحكم على معين بجنة ولا نار؛ لأننا لا ندري بالخواتيم، وإذا قال رجل لرجل: لست مخلصاً؛ فقد أخطأ وارتكب جرماً لأن أعمال القلوب لا يعرفها إلا الله، والإخلاص محله القلب، فلا يحل لأحد أن يحكم على ما في القلب، وهي جريمة تقدح في التوحيد! والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل إله عند بعضهم، وهو إنسان لكن ما الذي رفعه إلى هذه المرتبة؟ إنه الغلو. وسأترك مجالاً لذكر العجائب عند شيوخ الصوفية في الأصل الذي يقول: (ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرة المراء يورث الصدود) لأن الاعتراض يجب أحياناً، ويستحب أحياناً، ويباح أحياناً، ويكره ويحرم أحياناً، أي: أن الاعتراض تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والحرمة، والكراهة.

غلو الصوفية في مشايخهم ومنع الاعتراض عليهم

غلو الصوفية في مشايخهم ومنع الاعتراض عليهم الصوفية ينكرون الاعتراض على الشيخ، ومن هنا سهل عليهم تأليهه، لكن لو رُد عليه وقيل له: أنت أخطأت. فقال: نعم أخطأت، فيعلم المستمع أنه ليس بمعصوم، وأن الله نشر الفضل في الناس، فالفضل لم يودع لإنسان واحد ولا لاثنين ولا لأربعة، بل جعل الله الفضل مشتركاً مقسوماً بين عباده، فهذا فاضل في كذا وناقص في كذا، وذاك فاضل في كذا وناقص في كذا وهكذا. لكن لأنهم منعوا الاعتراض سهل عليهم تأليه الشيوخ، وكيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعترض عليه أصحابه، لا اعتراض جحود ولا إنكار للعمل، بل اعتراض استفهام وتعجب وليس اعتراض مكابرة حاشا لله! ما كان فيهم أحد أبداً يفعل ذلك ولا يجرؤ على فعل ذلك، لكن كان اعتراض تعجب، مثل اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي ابن سلول، ويقف بينه وبين الجنازة، ويقول: كيف تصلي عليه؟ ألم يفعل كذا وكذا وجعل يذكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (تنح عني يا عمر) وعمر لا يتنحى: كيف تفعل كذا وكذا؟ ألم يقل كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وقال يا عمر: (إني خيرت فاخترت)، حتى نزل القرآن موافقاً لكلام عمر. وكذلك كان عمر يعترض على أن تخرج زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بغير حجاب أو يجالسهن الرجال بغير حجاب، فكان يكثر أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! احجب نساءك. حتى نزل القرآن موافقاً لـ عمر. وأيضاً اعتراض سعد بن عبادة سيد الخزرج لما جاء هلال بن أمية الواقفي وقد رأى رجلاً مع امرأته، فجاء يرميها بالزنا، ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، إنما نزل حد الرجم بالزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة شهداء أو حد في ظهرك فقام سعد بن عبادة وقال: أدع لكاعاً يتفقدها ثم ألتمس له أربعة شهداء!! والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح) غير مصفح: أي: لأضربنه بحد السيف، لأن السيف له حد وصفح، الحد: هو الشفرة، والصفح: هو الجانبان، فهو يقول: (لا أضربه بصفح السيف هكذا، بل أضربه هكذا بحده) يريد: أنه سيقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!) مع أنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل، ويعارض حكماً ثابتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!). وهذا فيه دلالة على أن التكفير باللفظ المحتمل لا يكون إلا بعد ثبوت القرينة؛ لأنه لو جاء رجل فاعترض على الحكم اعتراضاً، وقال: أنا لا أؤمن بهذا الحكم؛ كفر، مع أن سعد بن عبادة رد الحكم، هذا رد وهذا رد، لكن هذا ما رد كفراً ولا جحوداً، وإنما رد تعجباً، مثلما حدث في الصحيح أن الربيع بنت النضر ضربت امرأة من قبيلة أخرى فكسرت ثنيتها -الثنية: هي مقدم الأسنان- فذهب الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القصاص -والقصاص: أن يكسروا أسنانها- وكان أنس بن النضر -أخوها- يحبها غاية الحب، فقال: تكسر ثنية الربيع! لا والله أبداً، لا يكون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس! حكم الله القصاص. قال: لا والله، لا والذي بعثك بالحق، لا يكون. والناس يأبون أن يأخذوا الدية، والنبي صلى الله عليه وسلم كلما يقول له: حكم الله القصاص. يقول له: لا والذي بعثك بالحق لا يكون. حتى قبل الناس الدية، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أي: أن أنس حلف بالله لا يكون، فأبر الله قسمه، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعترض؟ قد كفرت، قم واغتسل لا، لأن هناك قرائن، ولذلك لما ترى رجلاً قال كلمة كفر فلا تسارع إلى تكفيره، فقد يقول الرجل كلمة الكفر لا يكفر بها. وشيخ الإسلام ابن تيمية ناظر رجلاً من المعتزلة حتى الصباح، فقيل له: أكفر؟ قال: لقد قال كلام الكفر. قال شيخ الإسلام: (وقلت لهم مرة: أنا لو تابعتكم على ما تقولون لكفرت، ولكنني لا أكفركم؛ لأنكم جهال) لماذا لأنه لو تابعهم على ما يقولون لتابعهم بعد معرفة الحجة، قال: (لكنني لا أكفركم لأنكم جهال). فـ سعد بن عبادة يعترض، ويقول: (والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظروا ما يقول سيدكم فقالوا: يا رسول الله! اعذره؛ فوالله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة فجرؤ أحدنا أن يتزوجها بعده) أي: المرأة التي يطلقها سعد بن عبادة نقضي عليها بالإعدام، فلا تتزوج بعد سعد أبداً من شدة غيرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، إنني أغير من سعد والله أغير مني)، ولذلك فإن من غيرة الله عز وجل على أن تنتهك حرماته حرم الفواحش. فأنت تنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتنظر إلى مسلك أصحابه، كانوا يعترضون اعتراض تعجب، ولا أزال أقول: اعتراض تعجب، يستغرب من هذا الحكم، فقد يسأل ويستغرب من هذا الحكم ويرد المسألة والنبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه ويبين له حتى يستيقن ويُسلِّم. فإذا نظرت إلى الناس وهم يسددون الشيخ ويقولون له: أخطأت، أو هذا غلط، وهو يرجع إلى مقالهم؛ علمت أن هذا الرجل ليس فاضلاً من كل جانب.

نهيه صلى الله عليه وسلم عن إطرائه والغلو فيه

نهيه صلى الله عليه وسلم عن إطرائه والغلو فيه في مسند الإمام أحمد، وفي مسند عبد بن حميد بسند على شرط مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أن رجلاً قال: يا محمد! يا خيرنا وابن خيرنا، يا سيدنا وابن سيدنا، فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله ولا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله عز وجل، قولوا: عبد الله ورسوله). وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام، وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام، لكن هذا وإن كان حقاً لكنه مدعاة إلى الغلو.

غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم

غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم لقد وجدنا من بعض المسلمين المبتدعة من صنف كتاباً سماه (تشنيف الآذان باستحباب ذكر الزيادة عليه الصلاة والسلام في التشهد والإقامة والأذان). يعني: أن تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، أو تقول: اللهم صل على سيدنا محمد. وجمعني مجلس ببعض من ينتحل هذه البدعة، فقلت له: إن هذا لا يجوز، والأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة. فواحد من الجلوس قال: يا أخي! الرسول يقول: (لا تسيدوني في الصلاة) يعني: يعاضدني وينصرني عليه، فقال له: هو قال هذا تواضعاً ونحن سنسيده، هل أنت تريده أن يقول: سيدوني وهو سيد المتواضعين؟ لا. فانظر سوء الأدب! مع أن الحديث لا يصح ولا أصل له (لا تسيدوني) واللفظ السليم: (لا تسودوني) من السؤدد، والحديث لا يصح، لكن انظر إلى سوء أدب هذا المبتدع، حتى لو صح الحديث لا تسودوني في الصلاة، فكيف يقول: لا، سنسودك؟! وبصراحة هو يحتاج إلى تسويد، لأنه هو المتكلم بها، محتاج إلى سلطان شرعي يسودها عليه، كيف خالف النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه، يقول: لا تفعلوا، يقولون: بل سنفعل وهذا من سوء الأدب! وهو بداية الغلو، أليسوا هم الذين يقولون: يا نور عرش الله! يا بحر جاري في علوم الله! وهم الذين يقولون: حضرة النبي، وبنوا هذا الكلام على قصة تافهة لا قيمة لها، فقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس الصوفية، ولذلك سموا الجلسة (حضرة) لأنه صلى الله عليه وسلم يحضر، وهي إشارة إلى أنه يحضر بجسده صلى الله عليه وسلم. فهناك طوائف ينتمون إلى المسلمين كفروا بالله ورسوله بسبب الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام، أليست بردة البوصيري التي كادوا أن يجعلوها قرآناً يقول فيها: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم من علومك!! و (من) هذه تفيد التبعيض، يعني: جزء مما عندك من العلم علم اللوح والقلم! حسناً: الذي هو جزء من علومه علم اللوح والقلم لا يعرف متى تقوم الساعة!! لا يعرف متى ينزل الغيث ولا ما في الأرحام! وهذه مسائل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها حتى أوحي إليه فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم. ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب حديث صفوان بن أمية لما قال لـ عمر بن الخطاب: أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، في خيمة، فجاءه رجل متضمخ بالطيب، فسأل عن ذلك؟ فسكت، وأخذه ما يأخذه عند نزول الوحي -العرق الشديد واحمرار الوجه والغطيط، فنادى عمر بن الخطاب صفوان بن أمية وقال له: انظر- وبعد أن سري عنه قال: انزع جبتك واغتسل. فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم وهو في هذه المسألة سكت حتى نزل عليه الوحي؟ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب؛ فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق؛ فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا. قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه؛ فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن). فهناك مسائل لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلمها، ولا يجيب عنها حتى ينزل الوحي، وكثيراً ما سئل، ولم يجب حتى ينزل الوحي: مثلاً {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، نزل الوحي، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، نزل الوحي وهكذا، كان يُسأل السؤال وينزل الوحي يسألونه عن الساعة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:187]، فكان ينزل الوحي، ولم يكن عنده جواب ذلك حتى يعلمه الله تبارك وتعالى. فلما يأتي رجل يريد أن يمدح النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (ومن علومك علم اللوح والقلم) هذا غلو مرفوض، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه عن أقل من ذلك، فنهاهم أن يقوموا له؛ لأن القيام مظنة التعظيم، وقد صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وما على الأرض شخص أحب إلينا منه فما نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك) لأن القيام تعظيم، ولذلك من سوء التربية في المدارس؛ أنهم يأمرون الطلبة بالقيام للأستاذ، وهذا ليس من التربية، إذ لو كان خيراً ما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فالطالب إذا لم يقم للأستاذ يغضب عليه ويعاقبه وقد يفصله من المدرسة؛ لأن هذا -عندهم- من الأدب والتعظيم والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القيام له، كل هذا مع أنه معظم عندهم، وهو سيدنا في الدنيا والآخرة، بل وسمح لهم أن يفعلوا في بعض المواقف ما هو أعظم ألف مرة من القيام، مثلما حدث في حديث المسور بن مخرمة (لما صدت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عليه الصلاة والسلام وهو حاضر يرى ويسمع، فقال: فما نزلت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة، إلا تلقفوها جميعاً، فما تقع في يد رجل حتى يدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده) وهذا أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، وهذا من أعظم الغلو، ولكنه تركهم؛ لأن الموقف كان يستدعي ذلك. جاء عروة بن مسعود مرسلاً من قريش يهدد النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا قامت بينه وبين قريش حرب أنه لا يثبت؛ لأنه ليس عنده رجال يثبتون لحرب قريش، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول له: هؤلاء الرجال الذين وصفهم عروة بن مسعود بالأوباش، وفي رواية البخاري (أوشاب)، قال: (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك) وفي الرواية الأخرى: (ما أرى حولك إلا أوشاباً خليقاً أن يفروا ويدعوك). أي: إذا قامت حرب لا يصمدون أمام قريش، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: إن هؤلاء لا يخلون بيني وبين قريش أبداً، وتركهم يفعلون ذلك، فلذلك أول ما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا المنظر رجع إلى قريش وقدم هذا التقرير: قال لهم: (يا قوم! لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، ووالله ما توضأ فسقطت قطرة ماء على الأرض، ولا تنخم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) اقبلوها؛ لأنه لا قبل لكم بهؤلاء، فالمنظر الذي رأيته أنا لا قبل لكم بهؤلاء، لأن العرب كانوا لا يملكون مع فارس ولا الروم لا يداً ولا لساناً، فهم ينهزمون دائماً أمام فارس والروم، فهو يمهد لهم بهذه المقالة. قال: (ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، لقد وفدت على الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي) الذين يغلبونكم دئماً، ومع ذلك ما رأيت ناساً يعظمون ملكهم أو سيدهم كتعظيم هؤلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم! ولذلك قبلت قريش الخطة مباشرة. فكان هذا الترك مناسباً جداً؛ حتى يبلغ هذه الرسالة لقريش. إذاً: فهمنا أن هذا له علة، فإذا خلت المسألة من العلة رجعنا إلى الأصل، وعملنا بسد الذريعة. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحول بينهم وبين تعظيمه الذي يؤدي إلى تأليهه يوماً ما، وقد ظهر في المسلمين من أله غير النبي عليه الصلاة والسلام، لقد ألهوا علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري (أن جماعة قالوا: علي هو الله. فطلبهم علي بن أبي طالب وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت مكانه ما حرقتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار). لكن ما سيفعل ابن عباس بهم؟ قال: (لقتلتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه) فبلغت مقالة ابن عباس علي بن أبي طالب فقال: (يا ويح أمه!). وإنما توجع علي بن أبي طالب لأحد أمرين: إما أنه توجع لأنه لم يكن عنده علم بالنهي وخالف النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يدري؛ فتوجع أن كان قضاؤه وحكمه على خلاف السنة. أو أنه توجع أن ابن عباس حمل الأمر على التحريم وهو يراه على الكراهة فقط.

النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)

النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت) وكما قلت: الغلو أحد أركان الكفر، وهو رأس كل شر؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحول بين الصحابة وبين الغلو فيه، ولم يترك سبيلاً إلا سده، حتى في العبارة، وإن لم يكن المتكلم يقصد غلواً. روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: (أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم مر برهط من النصارى؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: هل أخبرت بها أحداً. قال: عفان. قال: نعم. فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها. قال: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد). فانظر جعل اليهود والنصارى الكلمة عدلاً لقولهم: عزير ابن الله. المسيح ابن الله. يعني: لو قال ما شاء الله وشاء محمد كأنما قال محمد ابن الله، وهكذا قاسوها، وجعلوها من الشرك، وكأنهم قالوا له: لا تعيرنا، نحن وأنتم سواء، نحن قلنا: المسيح ابن الله، وأنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد. فكأنهم نزلوا العبارتين على معنى واحد. فالرسول عليه الصلاة والسلام خطب الناس ونهى أن يقول المسلم: ما شاء الله ومحمد؛ لأنه إذا قال ما شاء الله ومحمد، فهذا تشريك في المشيئة. وفي الحديث الصحيح -الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت)، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: لو قال ما شاء الله ومحمد كأنما جعل محمداً إلهاً -صلى الله عليه وسلم- لذلك قال: (أجعلتني لله نداً) نداً: عدلاً، وفي اللفظ الآخر (عدلاً)، برغم أن المتكلم لا يقصد حقيقة المعنى. ووصل الأمر في سد الذرائع إلى هذا الحد: أن العبارة لو كانت موهمة عدلها، حتى وإن لم تقصدها، فأنت لا تدري السامع كيف يؤولها وكيف يفهمها، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء التي فيها إيهام بمعنى قبيح، نهانا عن التسمية بها، فقال (لا تسمين غلامك يساراً، ولا رباحاً، ولا نجاحاً، ولا فلاحاً -وفي رواية نجيحاً- حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قال: لا) مع أن المتكلم ما قصد ولا سبق إلى ذهنه هذا المعنى، لا في حال الكلام ولا في حال الاستماع، (إذا قيل: أثمَّ هو. قال: لا): يعني: مثلاً أن تقول: نجاح موجود؟ فيقولون: لا نجاح. يسار موجود؟ لا يسار، كأنما نفى النجاح واليسار عن البيت، برغم أن المتكلم لا يقصد نفي اليسار ولا النجاح ولا الفلاح، ولكن المسألة ليست في المتكلم فحسب، بل ينبغي أن يراعي المستمع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان قال -كما في الحديث الذي رواه مسلم -: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) يعني: في التورية قد تتكلم بكلام لا يسبق إلى ذهن المستمع، وأنت تتخلص من الكذب بهذه التورية. مثلاً: رجل دعاك إلى طعام، وأنت تعرف أن طعامه حرام أو فيه شبهة، كرجل -مثلاً- يعمل في بنك ربوي وليس له أي وظيفة إلا العمل في البنك الربوي، وأنت لا تريد أن تأكل عنده؛ لأن ماله حرام؛ لحرمة العمل في البنك. فقال لك: تقدم فكل. فقلت له: إني صائم، ومعنى صائم الذي يخطر على بال المستمع: أي: أنك صائم الصيام الشرعي الذي فيه امتناع عن الطعام، لكنك لست صائماً، وإنما قصدت أنك صائم عن طعامه، أي: أنا صائم عن الحرام، أو أنا صائم عن الكلام الفاحش، وهذه المعاني أنت قصدتها لكنها لم تخطر على بال المستمع. وفي باب الأيمان -في الحلف- الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فلو حلفت على التورية صارت كذباً، يعني: قلت: أنا صائم، لست بكذاب، إذا قلت أنا صائم وقصدت الصيام الخاص عن طعام هذا الإنسان، لكن إذا قال لك: احلف أنك صائم، فلو حلفت وقعت في الكذب؛ لأن اليمين على ما سبق إلى ذهن صاحبك وليس على ما قصدته أنت، إذاً: أنت في حل ما لم تحلف، فإذا حلفت على المعاريض انقلبت كذباً، ففي بعض المواقف يراعى فيها حال المستمع. فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يسمي المرء غلامه نجاحاً أو فلاحاً أو يساراً؛ لأن هناك طرفاً آخر -المستمع- ربما سبقت الكلمة إلى ذهنه وفهمها على غير ما قصدتها. والمستمع قد يسبق إلى ذهنه بدلالة العبارة معنى لم يخطر على بال المتكلم، فينبغي أن يراعى المستمع، ومن هذه الأسماء إسلام مثلاً، مع أنه اسم ذكر، إلا أن فيه نفس العلة التي من أجلها نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسمي بيسار ونجاح ورباح. يقال: إسلام موجود؟ لا يوجد إسلام. لا يوجد إسلام. يعني: نفي الإسلام عن البيت، وما قصد المتكلم ذلك لكن كانت كلمة مستبشعة عند المستمع. فهو لما يقول: ما شاء الله وشئت، ما خطر على بال المتكلم، لكن وقعت في ذهن المستمع، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أجعلتني لله نداً -أو عدلاً-؟! قل: ما شاء الله ثم شئت) و (ثم) تفيد التراخي، وجود مسافة بين المشيئتين، فلا تسوي بين مشيئة الله عز وجل وبين مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم. هناك قصة مشهورة يذكرها العلماء حدثت بين الكسائي وبين أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله، فكان الكسائي يقول: - من علم اللغة صار فقيهاً. - فأنكر عليه أبو يوسف هذه المقالة، وقال: إن الفقه له قوانين وضوابط وأصول. - فقال: فناظرني في مسألة. - فقال له أبو يوسف: هات - فقال الكسائي: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق وطالق وطالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق ثم طالق ثم طالق أيّ هذه تكون طلقة بائنة؟ فقال أبو يوسف: كلها. ومذهب الأئمة الأربعة وجماهير أصحابهم: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد تقع ثلاث طلقات، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ تصير طالقاً ألبتة، لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وخالفهم في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وقليل من العلماء ممن سبقه وأتى بعده، وهم الذين قالوا: لا يقع الطلاق إلا في مجالس منفصلة، وصارت عليه الفتوى من بعد شيخ الإسلام إلى الآن في المحاكم الشرعية. - فقال أبو يوسف: كلها. مع أن الأظهر على أصول الأئمة أن يقع تكرار الطلاق، يعني: لو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، فالأصل أنها تحسب واحدة، لكن متى يقع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد؟ إذا كرر لأن العدد لا يفهم إلا مع التكرار، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات، وهو في مجلس واحد في جلسة واحدة، فعند الأئمة يقع ثلاثاً، لكن لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، بمفهوم العدد لا يقع إلا واحدة، لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً. فلو قال مثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين -وفي رواية وكبر أربعاً وثلاثين بدل ثلاث وثلاثين- فتلك مائة؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فلو قال رجل: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثة وثلاثين فهذه كم مرة؟ هل قالها مائة أو قالها ثلاث مرات فقط؟ ثلاث مرات؛ لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً، أن أقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله أظل أعد ثلاثاً وثلاثين مرة، لكن لو قلت: الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، لا تقع إلا مرة واحدة. فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بالثلاث فلا تقع إلا واحدة، إنما لو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد ومتكررة وراء بعضها، فعند الأئمة وعند جماهير الأصحاب تقع ثلاث مرات. لذلك قال أبو يوسف رحمه الله: كلها تقع لماذا؟ لأن المرة الأولى قال لها: طالق طالق طالق، فكانت ثلاث طلقات، والثانية قال: طالق، وطالق، وطالق، والثالثة: طالق ثم طالق ثم طالق. فاعترض الإمام علي بن حمزة الكسائي -صاحب القراءة المتواترة المشهورة، وهو أحد القراء السبعة- فقال: بل لا تقع ثلاثاً إلا الثالثة، التي هي: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، إنما: قوله: أنت طالق طالق طالق، خرج مخرج التأكيد اللفظي، كما لو قال رجل لرجل: أنت الكريم الكريم الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يوسف عليه السلام: (هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم)، كل هذا تأكيد للفظ الكريم، فلما تؤكد صفة تأكيداً لفظياً وتكرره فهي نفس الصفة ولم تتغير. وفي المثال الثاني قال: أنت طالق وطالق وطالق، والواو لمطلق الجمع، وتفيد العطف أيضاً، والمعطوف الثاني هو عين المعطوف الأول، والمعطوف الثالث هو عين المعطوف الثاني وهو عين المعطوف الأول، فلم يبق في هذه الصيغ ما يقال: أنه منفصل -كل طلقة منفصلة عن أختها- إلا (ثم) التي تفيد التراخي، أي: كأنه قال: أنت طالق ثم فصل المجلس، ثم جاء فقال: أنت طالق ثم فصل المجلس، يعني: هناك تراخٍ بين الطلقة الأولى والطلقة الثانية، وبين الطلقة الثانية والطلقة الثالثة. فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقال: (إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها) فيمكن أن يستشكل إنسان هنا، ويقول: وهل يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالحياء في مسائل التوحيد؟

وجوب التعصب للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقا بلا قيد ولا شرط

وجوب التعصب للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً بلا قيد ولا شرط كل هذا كان داعيته الغلو، لذلك تنبه العلماء رضي الله عنهم إلى مثل هذا الغلو، فكفوا أتباعهم عنه، وبينوا أن الوحيد الذي يجب له التعصب مطلقاً بلا قيد ولا شرط هو النبي صلى الله عليه وسلم، فتواترت هذه الكلمة على ألسنتهم جميعاً: (إذا صح الحديث فهو مذهبي). وتراشق المقلدون من أصحاب المذاهب في البلاد بسهام الملام، وبدأت العصبية المذهبية تعمل عملها، فبدءوا يجعلون مدارس في كل بلد خاصة بتدريس كل مذهب، فالمدرسة النظامية التي بناها نظام الملك -مثلاً- في بغداد كانت لتدريس المذهب الشافعي فروعاً، والأشعري عقيدة، وصارت هناك المدارس التي تدرس المذهب الحنبلي والمذهب الشافعي والمذهب الحنفي والمذهب المالكي. وأيضاً صارت العصبية في الوظائف، مثلاً: إذا استطاع عالم من العلماء أن يقنع رأس الدولة أن يكون حنفياً؛ فقضاة الدولة يكونون من الأحناف، وفقهاء الدولة من الأحناف، وأصحاب الوظائف من الأحناف، ويبدأ هذا الرجل الإمام الكبير الذي هو الرأس يبني المدارس لنشر المذهب الذي يعتقده صواباً، فإذا كانت الوظائف لا تقبل إلا من حنفي، فأنا أحتاج أن أدخل المدرسة الحنفية حتى أصير قاضياً؛ فصارت دراسة المذهب سلماً للوظيفة، وصار الرجل الكبير حتى وإن بلغ درجة الاجتهاد في المذهب لا يستطيع أن يخالف أقوال المذهب وإلا عزلوه، مع أنه بلغ مرتبة الاجتهاد، مثل تقي الدين السبكي وتقي الدين السبكي قرين ابن تيمية وصاحب الحرب الضروس عليه، وحامل لوائها وكذا ابن الزملكاني وابن تقي الدين السبكي تاج الدين عبد الوهاب -صاحب طبقات الشافعية- كان أشد من أبيه ألف مرة في التعصب، كان متعصباً للمذهب الأشعري بطريقة شديدة حتى أن الأشعري نفسه قد لا يتعصب لمذهبه مثل تعصب عبد الوهاب السبكي له، وقد ذبح شيخه الذهبي بسكين باردة، والإمام الذهبي صاحب كتاب: ميزان الإعتدال، وسير أعلام النبلاء، وابن السبكي عالة على شيخه الذهبي في التراجم؛ لأن الذهبي إمام التراجم كلها، فكل كتبه في التراجم، وقد تميز بذلك فقد كان يأخذ الترجمة بنصها، ومع ذلك كان شديد العقوق لشيخه الذهبي، ولم يتق الله فيه، ولم يرع أستاذيته، وكل هذا بسبب التعصب البغيض للمذهب الأشعري، ولأن الذهبي كان شافعياً في الفروع حنبلياً في العقيدة، ونحن نعرف أن أئمة العقيدة السلفية على مدار العصور هم الحنابلة، فهم الطائفة الوحيدة التي نجت من الابتداع، وقلما تجد فيها مبتدعاً في العقيدة، بخلاف الطوائف الأخرى. فتجد ابن الجوزي -مثلاً- مبتدع في بعض مسائل العقيدة، وكذا ابن عقيل ليس على العقيدة السلفية، ولكن علماء الحنابلة كلهم هم حاملو لواء العقيدة السلفية. أي: المذاهب الثلاثة أكثر علمائها يدورون ما بين الأشعرية، والماتريدية، والاعتزال، فحصل بينهم حروب شديدة بسبب التعصب للمذهب. وتقي الدين السبكي كان رأس الشافعية في زمانه، وبلغ مرتبة الاجتهاد بحيث يسوغ له أن يخالف قول الشافعي بالدليل، فجرت محاورة بين ولي الدين العراقي ابن الحافظ زين الدين العراقي المحدث المشهور صاحب الألفية، وبين سراج الدين البلقيني، فقال ولي الدين للبلقيني: لم تمذهب تقي الدين بـ الشافعي وقد بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني. فقال ولي الدين: أظن ذلك للأعطيات. وقد كان هو قاضي القضاة، وإذا عُزل كان سيحرم عطاءه، قال: فتبسم البلقيني وكأنما أقره على ذلك. فالعصبية من أجل المذاهب الفقهية في الفروع أدت إلى انشطار الأمة إلى طوائف وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون، ووصل الأمر أن هناك بعض الكتب الفقهية يبطلون صلاة الشافعي خلف الحنفي؛ لأن الحنفي -مثلاً- لا يوجب الوضوء من مس الذكر، ويفرضون الصورة الآتية: (حنفي مس ذكره، وتقدم للإمامة هل يصح لشافعي أن يصلي خلفه؟ الجواب لا لماذا؟ قال: لأن عند الشافعي مس الذكر ينقض الوضوء، فهذا الإمام بعدما مس ذكره في حكم غير المتوضئ، إذاً: صلى بغير وضوء، وعليه لا يجوز لشافعي أن يصلي خلف حنفي). وأيضاً: لا يجوز لحنفي أن يصلي خلف شافعي؛ لأن الشافعية يجيزون الاستثناء في الإيمان، والإيمان عند الحنفية هو التصديق، والتصديق لا يتصور فيه النقص، يعني: -مثلاً- أنه لا يكون مصدقاً (100%)، فيقول: إما مصدق وإما مكذب، والإيمان تصديق، فإما كامل الإيمان وإما مسلوب الإيمان، والشافعية يجيزون أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، يقول: (إن شاء الله) استثناء في الإيمان فيكون شك، والشاك في إيمانه كافر، وعليه فلو أن رجلاً شافعياً كان إماماً ويشك في إيمانه فلا يجوز لحنفي أن يصلي خلفه. وتفرع على ذلك Q هل يجوز لحنفي أن يتزوج شافعية؟ فأفتى مفتيهم بأنه لا يجوز! حتى أكرم الله عز وجل الأمة بمفتي الثقلين -كان اسمه هكذا لأنه كان يفتي حتى الجن- فقال: أنزلوها بمنزلة أهل الكتاب. أي: كأنها يهودية أو نصرانية، ودعوا الحنفي يتزوجها. فانظر لو أنهم جميعاً قضوا من معين واحد ولم يعظموا الرجال؛ ما اتسع الخرق إلى هذا الحد، فلماذا تتعصب لـ أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد؟ يتعصب لأنه يظن أن شيخه هو أفضل الشيوخ جميعاً وعلم ما جهلوه جميعاً أليس هذا غلو؟ هذا غلو إذا اعتقدت أن شيخك أفضل الشيوخ، لكن هناك من هو أفضل منه في بعض الجزئيات، أو أن الجزئيات التي لا تتناهى ويمكن أن يُتَعقب شيخك فيها؛ كان مدعاة لعدم الغلو، إذا قلت: أخطأ شيخك في هذا قبلت، لكن هم يعتقدون أن الشيخ هو مجمع الفضائل ولا يخطئ، فكان في ذلك إعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن الحنيفية السمحة. لدرجة أنه سئل رجل عالم سؤالاً: إذا أفتى أحد العلماء المعتبرين بفتوى، وكان حديث النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف الفتوى من نتبع؟ قال: اتبع فتوى العالم!! أهذا يقوله مسلم قرأ قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]؟! هل هناك رجل يقول مثل هذا الكلام؟! طبعاً يعتقد في نفسه أن العالم يجمع الأحاديث الواردة في الباب، فيمكن أن العالم هذا يكون وقف على حديث خصص الحديث الذي تحتج أنت به أو قيده، أو يمكن أن الحديث الذي تحتج أنت به في مقابل الفتوى منسوخ مثلاً، فالعالم قبل أن يقول يجوز أو لا يجوز يسمع الأدلة كلها ويجمع الأدلة بعضها على بعض، ويبين الخاص من العام، والمقيد من المطلق، ويفهم الناسخ من المنسوخ، ويفهم المجمل على ضوء المبيّن مثلاً، العالم هذا عمله فيمكن أن العالم قد جمع بين الأحاديث وعلم ناسخها ومنسوخها، ثم قال لك: لا يجوز، فأنت إذا أخذت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ربما أخذت بحديث منسوخ أو بعام خُصص، أو بمطلقٍ قُيد، أو بمجملٍ بُيِّن، فيقول لك: الأحوط والأسدّ أن تتبع قول العالم. ونحن نرد على هذا الكلام ونقول: ألا يجوز على العالم أن يخطئ؟ أم يجب أن يكون مصيباً؟ قد يخطئ، فإذا كان العالم بعد هذا الجهد يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يجوز عليه الخطأ، فلو لم يكن عندي إلا قول النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مقابله فتوى عالم يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع المعصوم الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يخطئ. ثم إن فيه تعظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو عودنا الناس على رد حديث النبي عليه الصلاة والسلام بقول كل عالم لضاعت السنة كلها؛ بل لضاع الدين كله، فأين الآيات التي فيها تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لا يجوز لأحد أن يقدم قول أحد على قوله كائناً من كان؟! أين هذه الأدلة القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: في حالة عدم وجود من يرجح ويبين سبب مخالفة الفتوى للنص بسبب النسخ أو حمل المطلق على المقيد وغير ذلك؛ يجب وجوباً أن نتبع الحديث ولا نتبع قول العالم لأن هذا هو الأسدّ، وهذا هو الواجب عليك تبعاً للنصوص القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الموسيقى

حكم الموسيقى Q ما حكم الموسيقى؟ A الموسيقى حرام كلها حتى الدُّف، إلا في ما يتعلق بالضرب عليه للجواري في الأفراح؛ لأن الدفَّ من المعازف، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في الحديث الذي رواه البخاري معلقاً، ورواه البيهقي وغيره موصولاً: (ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ -الذي هو الفرج، بمعنى الزنا-، والحرير، والخمر، والمعازف). فالمعازف معطوفة على بقية المحرمات، وكلمة (يستحلُّون): إشارة إلى أنها كانت حراماً، فاستحلوها، وجعلوها حلالاً. ولهذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة اتفق العلماء على تحريم الغناء. وشيخُنا أبو عبد الرحمن الألباني حفظه الله له كتاب لطيف نُشِر هذا العام اسمه: تحريم آلات الطرب. هذا الكتاب كتبه قبل قرابة أربعين سنة، وكان رداً على مقال نُشر في جريدة بعض الأحزاب الإسلامية آنذاك، وكتب فيه نفس المقال، وأنا لما قرأت المقال تعجبتُ؛ لأنني كنتُ كتبتُ كتاباً ضليعاً للكتاب، في الرد على الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، اسمه شمس اللآلي في الرد على الشيخ محمد الغزالي، وأنا أتكلم على مسألة الغناء، فقلت: إنه ثمة بعض أناس يقولون: نريد المسلم في كل مناحي الحياة، حتى إذا قامت دولة الإسلام تجد المسلمين في كل مجال! يا أخي! حتى تأتي دولة الإسلام نكون غير موجودين أصلاً؛ لأننا سنكون قد انتهينا. فلو دخل أحدنا في السياحة والفنادق على أمل أن يأتي الإسلام ويحكم، فهل سيعيش إلى ذلك الوقت؟ فإذاً: يا إخوة! هو كان يريد من هذا الكلام -حسب زعمه- تخصصاً ملتزماً. فهم عندهم هكذا، يقولون: نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والمزارع المسلم، والفلاح المسلم، والنجار المسلم. ونحن نقول: من قال: إننا لا نريد هؤلاء؟ نحن أيضاً نقول: نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، ونريد المسلم المتخصص في كل شيء، ولكن بالضوابط الشرعية. فأنا قلت: ولربما قال: والموسيقي المسلم، والطبَّال المسلم، والزمَّار المسلم. فبعض الناس لامني، وقال: إن كلمة الموسيقي المسلم، والطبال المسلم، فيها استفزاز وتجاوز. فلما وقفتُ على كتاب شيخنا الألباني حفظه الله ووجدتُ المقال الذي ألّف الشيخ ناصر لأجله هذا الكتاب، عرفت أنني من أصحاب الجرح مع أنني لستُ بدكتور، لكني أفتي من غير أن تكون معي شهادة. هذا المقال ماذا يقول؟ يقول نص المقال في هذه المجلة: إننا نحتاج المسلم في كل شيء، الغرب لديهم معزوفة هادئة تسمى السيمفونية، ونحن ليس عندنا، مع أن الأمة مليئة بالعباقرة، لِمَ لَمْ يعمل لنا شخصٌ موسيقى إسلامية هادئة؟ فأنا -في الحقيقة- استغربت وضحكت! أنا أريد أن أعرف كيف تكون موسيقى إسلامية؟! أيكون الوتر مقلوباً إلى اليمين مثلاً؟! أو مثلاً يعزف بلسانه مثلاً أو يعزف برءوس أنامله؟! في الموسيقى الغربية يكون المغني يتنطط -كما في موسيقى الجاز وغيرها- مثل الجربان، ونحن نغني بوقار فنركِّب لحيةً، ونلبس الطاقية، ونعدل الطربوش، ونعزف؟! أنا أريد أن أعرف هذا الكلام؟ ما معنى موسيقى إسلامية؟! وأيضاً صاحب المقال في المجلة زعلان! لأن المسلمين ليس فيهم حتى الآن عبقري واحد يقف أمام بيتهوفن، ويعمل شيئاً يشرفنا ويطيل رقابنا عند الغرب! انظر المسألة كيف وصلت إلى هذا الحد! هذه الأمة لن تنتصر أبداً، إذا كانت همها الموسيقى والأغاني، والمشكلة أن الشباب يحتجون بعلمائها، فعندما يسمع عالماً كبيراً يُشار إليه بالبنان يظل نحواً من خمسين عاماً يحل الأغاني -ونحن لا ننكر أن الله فتح قلوباً به وفتح آذاناً صماً بكلامه- ولكن لِمَ يقول هذا الكلام؟! فكل الذين يسمعون الأغاني يسمعون لفتاوى هؤلاء. الحقيقة: أنا لا أعلم أحداً من العلماء الذين تدور عليهم الفتوى قال: إن الغناء حلال، أو إن الموسيقى حلال، بل إن الموسيقى كلها حرام، ومنها الدُّف إلا في المناسبات للنساء. أما الذين ينشدون في الأعراس ويقولون: إنهم فرقة إسلامية ويضربون الدف، وتجدهم كلهم قد لبسوا ملابس موحدة. ذهبت مرة لأصلي في المسجد التابع للمعهد الديني الأزهري، وللمرة الأولى أرى دفوفاً وفرقة على الباب، فاستغربت جداً، وقلت: ما هذا؟ فقيل: هذه فرقة، جاءت للإنشاد. قلت: ما هذا الكلام؟ قيل: هذه فرقة إسلامية. ماذا تعني (إسلامية)؟ قيل: لأننا نعمل بديلاً للفرق صاحبة (الكابريهات) وما شابهها. فهذه أيضاً هي نفس فكرة الموسيقى الإسلامية الهادئة الهادفة. ألا فليعلم هؤلاء جميعاً أن هذا لا يجوز ولا يحل، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والذي يُستغل كلامُه على حلق اللحية، ويقال: شيخ الإسلام أفتى بجواز حلق اللحى لضرورة التخفي في دار الحرب. أقول: لهم: خذوا كلام شيخ الإسلام كله، ولا تأخذوا كلام شيخ الإسلام في موضع، وتتركوه في موضع آخر، بل خذوه كله. سئل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، عن حكم ضرب الدف للرجال، فقال هذه العبارة: لا يفعله إلا الفساق. وقد نقل عن مالك والشافعي التشديد على هؤلاء، وأنه لا يحل للرجل أن يضرب بالدُّف. إذاً: فضرب الدُّف لا يجوز للرجال، إنما يجوز للنساء في المناسبات. فلعل بعض الناس يقول: كلمة (المناسبات) واسعة، فماذا تعني بها؟ أعني بها: الأفراح مثلاً، وما جرى مجرى الفرح، لما ثبت أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إنني نذرتُ إن أرجعكَ الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدُّفِّ، فقال لها: أوفي بنذركِ). فلا شك أن رجوعه سالماً صلى الله عليه وآله وسلم أجل من العيد، بالإضافة إلى جواز ضرب الدف للنساء فقط، فهو شيءٌ مباحٌ في حقها، وقد نَذَرته، وفي يوم عيد وهو رجوعه -عليه الصلاة والسلام- سالماً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (أوفي بنذركِ). والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. والحمد لله رب العالمين.

الأصول العشرة في التربية

الأصول العشرة في التربية Q نرجو من الشيخ إعادة ذكر الأصول العشرة في التربية. A بعضُ الإخوة يريد أن أتلو مرةً أخرى الأصول العشرة حتى يتمكن من كتابتها! الأصل الأول: (مِن أوسع أودية الباطل الغلوُّ في الأفاضل). الأصل الثاني: (دَعْ ما يسبق إلى القلوب إنكارُه، وإن كان عندك اعتذارُه). الأصل الثالث: (ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرةُ المِراء يورث الصدود). الأصل الرابع: (مَن لم يصبر على جفاء أستاذِه؛ تجرَّع الخسران بتصدُّع ملاذِه) الأصل الخامس: (تنكَّب في الخصومة حظَّ نفسِك، واقهرْ هواكَ بإنصاف خصمِك). الأصل السادس: (مَن لم يخلع عنه رداء الكبر؛ ظلَّ جاهلاً من مهده إلى القبر). الأصل السابع: (وطالب العلم بلا وقار كمبتغ في الماء جذوةَ نار). الأصل الثامن: (حسنُ العهد من الإيمان، والوفاءُ والودُّ له ركنان). الأصل التاسع: (مَن لَزِم التواضعَ والانكسار؛ فُتِح له بذاك وطار كلَّ مطار). الأصل العاشر: (ليس حمل أثقل من البِر، مَن بَرَّك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك).

حكم الترضي والترحم على العلماء

حكم الترضي والترحم على العلماء Q هل يجوز أن نقول عن العلماء إذا ذكرناهم: رضي الله عنهم، أو نقول: رحمهم الله؟ A أما قول: رضي الله عنهم فجائز؛ لكن هناك اصطلاح معمول به عند العلماء حيث جعلوا الصلاة على الأنبياء، والترضِّي على الصحابة، والترحُّم على سائر العلماء، بدءاً من التابعين إلى عصرنا. وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يُصَلَّى -أو قال: لا يُسَلَّم- إلا على نبي). لماذا؟ لأن من شعار بعض أهل البدع الصلاة أو التسليم على غير الأنبياء، مثل: الشيعة. فالشيعة إذا ذكروا علياً وسائر أهل البيت يقولون: علي عليه السلام، ولا يسلمون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والآية التي في الأحزاب نزلت فيهن، ومع ذلك لا يسلمون عليهن، بل يفسرون قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فيقولون: إنها عائشة. وبُغضُهم هو لسائر نساء النبي عليه الصلاة والسلام فيما عدا مَن روت أحاديث في فضائل آل البيت مثل أم سلمة، ويقولون: إن جميع الصحابة ماتُوا على النفاق ما عدا البعض. فشعار أهل البدع كالشيعة أنهم يخصون السلام على أهل البيت: علي بن أبي طالب وفاطمة وأولادها: الحسن والحسين، فلذلك صح عن ابن عباس أنه قال: (لا يُصَلَّى إلا على نبي، أو لا يُسَلَّم إلا على نبي). إذاً: المسألة مسألة اصطلاحية، فيجوز أن تقول: محمدٌ عزَّ وجلَّ من باب أنه عزيزٌ وجليل، ومع هذا فسائر العلماء لا يذكرون هذه الصيغة إلا مع الله تبارك وتعالى. كذلك إذا قلت: أبو بكر صلى الله عليه، فهذا سائغٌ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على بعض أصحابه، كما في الحديث الصحيح: (أنه دخل يزور جابر بن عبد الله الأنصاري، فجلس عنده -وكان جابر قد أمر زوجته أن لا تطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً- فقبل أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام تبعته امرأة جابر وقالت: يا رسول الله! صلِّ عليَّ وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليكِ وعلى زوجك). فالصلاة هنا بمعنى: الدعاء والرحمة. وكذلك في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِ على آل أبي أوفى). ومع أن هذا سائغ فالعلماء يخصون الصلاة بالأنبياء دفعاً للإيهام، كذلك إذا قلتَ: (عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه فالجماهير قد تتصور أنه صحابي. فلا مُشاحَّة في الاصطلاح إذا قيل في العالِم: رضي الله عنه، جاز ذلك. والله أعلم.

حكم الأغاني

حكم الأغاني Q لماذا الأغاني حرام؟ A الأغنية مركَّبة من: مغنٍّ -أعني: صوتاً-. وكلمات. وألحان. فإذا كان المغني امرأة؛ فقد اتفق العلماء جميعاً على حرمته، لا سيما إذا كانت تواجه الجماهير، فالمسألة هنا تكون أعظم، وإذا أضيفت إليها المزامير فالمسألة أطم. إنما الرجل إذا أنشد شيئاً من الشِّعْر بصوتٍ جميل، جاز له ذلك بشرط ألاَّ يكون في الشعر كلام منافٍ للعقائد أو للآداب أو للنصوص أو لغيرها؛ لأن الشعر حَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحُه قبيح. يقول حسان بن ثابت: هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ هجوتَ محمداً براً تقياً رسولَ الله شيمتُه الوفاء أتهجوهُ ولستَ له بكُفءٍ فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ فإن أبي ووالدَه وعرضي لِعرضِ محمدٍ منكم وقاءُ هذه أبيات جميلة، فإن قام شخص -مثلاً- وذَكَرها، وحسَّن صوتَه بها فهذا جائز. إذاً: المسألة لها ثلاثة أركان: - المرأة لا يحل لها ذلك، لا بموسيقى، ولا بغير موسيقى. - يبقى الكلام حَسَنُه حسنٌ، وقبيحُه قبيح. - فإذا انضافت الموسيقى إلى المغنِّي؛ رجلاً كان أو امرأةً، فإنه يحرم باتفاق علماء المسلمين جميعاً، ولم يشذ عن علماء المسلمين المعتبَرين أحدٌ أذكرُه إلا ابن حزم، وإذا كان معه ابن طاهر -مثلاً-، وهذا الشذوذ قد رد عليه العلماء كلهم. وتجد في هذا الباب شيئاً غريباً، وهو أن الذين يتكلمون عن الغناء اليوم، يزعمون كذباً أن هذا هو مذهب الكافة من العلماء! والعلماء الأربعة وجماهير أصحابهم على تحريم الغناء قاطبة، ولم يشذ إلا ابن حزم، والواحد يتعجب من ابن حزم في هذه القضية مع شدته على المخالف في الفروع، إلا أنه متسامح جداً في هذا الباب. ولعل نشأة ابن حزم كانت قد أثرت عليه في ذلك، فـ ابن حزم نشأ في الأندلس، واللواتي ربَّين ابن حزم نساء كلهن، وأنا أستغرب كيف أن هذا الغضنفر خرج من بين هذه الأيادي الناعمة، فأنا أتصور أن الذي تربيه النساء يخرج متساهلاً، يقال: هذا تربية امرأة، ليس بتربية رجل. فكيف خرج هذا الأسد والغضنفر والقسورة من بين أيدي النساء؟! إن كتابه ما ألف مثله أحد، وألفاظه قوية جداً، حتى قيل: سيف الحجاج ولسان ابن حزم صديقان؛ لأن سيف الحجاج ما كان يفرق بين رقاب الناس، وكذلك هو لا يفرق بين دماء المسلمين ودماء العلماء، إذا وجد عالماً خالف فمباشرة يرد. فشذَّ ابن حزم في هذا، وولع المتأخرون بفتوى ابن حزم تحت ضغط الجماهير، وضغط الواقع المخالف، حتى تجد العالم منهم يفتي بفتوى عجيبة الشكل، مثلاً أكبر رأس دينية عندنا سئل في ميلاد المغني الشهير العندليب، سئل سؤالاً: أهذا الرجل في الجنة أم في النار؟ فقال لهم: وهل أنا مَن لديه المفتاح؟ بالله عليكم أهذه إجابة؟! وآخر قيل له: أهو في الجنة أم في النار؟ فقال: طبعاً في النار. لماذا؟ قال: لأنه مات مسيحياً. فهذا رجل صريح، ويفتي على أصول، ولا خافَ وحدةً وطنية ولا غيرها. أما هذا الجواب الذي أجاب به الأول: (وهل أنا مَن لديه المفتاح) فنعم. صحيحٌ، نحن نعرف أن المفتاح ليس معك ولا مع غيرك؛ لكن كان ينبغي أن تأتي بفتوى واضحة، فصحيحٌ أنه لا يُفتى لمعين بجنة ولا نار؛ لكن نقول: إن هذا الذي فعله فسق، ونحن لا نحكم على الفاسقين أنهم في النار، ولا على العصاة أنهم في النار، لعل لهم حسنات ماحيات، أو لعل لهم أشياء لا نعرفها، أو يتغمدهم الله برحمته ابتداءً مثلاً، أو لعل الله عز وجل رزقه توبة بين يدي موته، فنحن لا نحكم لمعين بجنةٍ ولا نار، إلا إذا كان عندنا نصٌ من المعصوم، مثل: فلان في النار. وهذا معنى قول العلماء: مَن لم يكفِّر الكافر فهو كافر، أي مَن لم يكفِّر مَن كفره الله ورسوله، بدليلٍ قطعيٍ لا يتطرق إليه الشك من جهة الثبوت فهو كافر؛ لأنه يردُّ على الله ورسوله، إنما أي واحد ليس عندنا دليل قطعي في تكفيره، لا يحل لنا أن نُقْدِم على تكفيره لوجود الاحتمال. فصحيح أن المفتاح ليس معه؛ لكن يندد بما كان يفعل. فيقول مثلاً: كان يغني بالحرام، ففي بعض كلماته: القَدَر الأحمقُ الخُطى سَحَقَتْ هامتي خُطاه أو أنه كان يحلف بعيني محبوبته أو بمخها، أو بعقلها، أو بأي شيء، وهذا كله شرك ولا يجوز، فضلاً عن الموسيقى والتأوهات والكلام الفارغ الذي كان يقوله، فهذا كله حرام؛ لأن هذا كله فتح لباب الفسق على مصراعيه. فما كان ينبغي أن تمر هذه الفتوى بدون هذه الإدانة؛ لكنه خائف من (الدستور) و (روز اليوسف)؛ فهذه بعض كلاب مسعورة تنهش أي شخص، فإذا قال بكلام مثل هذا قالوا: هذا هو الإرهاب الذي يريد أن يلغي المتعة؛ لأن أعصاب الناس متعَبة، والاقتصاد منهار، والغلاء فاحش، فهم يريدون أن يسمعوا كلمتين غنائيتين لينسوا واقعهم المر. فيهجمون عليه. إن عندنا طابوراً خامساً عمله أن يأكل في الخارج، ويتغوط عندنا. وعندما أصدر شخص كتاباً عن الفنانات التائبات، وأراد أن يعمل إعلاناً مدفوع الأجر عن الكتاب في التلفاز، فقال: أنا أدفع المال، وأريد أن أعمل إعلاناً عن فنانات تائبات، فالعباقرة رفضوا نشر الإعلان؛ قالوا: لأن معنى تائبات أن اللاتي لم يتبن يكن عاصيات، أي: أننا نحارب قطاع الفن ونهدم شغلنا بأيدينا، ولكن غير العنوان وسننشر لك الإعلان. ينبغي للعالِم ألا يهاب أحداً، فإذا تعلق قلب العالِم بنصر العوام إياه، هُزم في أول جولةٍ من أضعف عدو، لكن العالِم يتعلق قلبه بالله فقط. 0 لا يوجد عالِم من المتأخرين أخذ شهرة الإمام أحمد حتى قيل: إذا رأيت الرجل يبغضُ أحمد، فعادِه على الإسلام، جعلوا أحمد رمز الإسلام، وما نال أحمد رحمه الله هذا إلا بعد الفتنة التي رفعت مناره. فالإمام أحمد العدل الثقة الثبت الرضا، لما أُبتلي بمحنة خلق القرآن، وكان يحضر مجلسه مائة ألف محبرة، دخل أحمد وجلد، ماذا فعلت المحابر؟ هل نصروه؟ هل فعلوا له شيئاً؟ ما فعلوا شيئاً، في حين أن كتب التاريخ تذكر أن المأمون سمع همهمةً ودمدمةً خارج قصره: أيها العرب! ماذا تريدون؟ قالوا: نريد لحماً. فأرسل إلى بلاد أخرى وأتى لهم باللحم. إذاً: العوام يهمهمون، ولا يخافون من الأمن المركزي، ولا شيئاً من هذا، لقد ذهبوا إلى أمام قصر الخليفة، وقالوا بصوت عالٍ: نريد أن نأكل لحماً. فقال: أعطوهم لحماً. فالعوام لا يتحركون إلا لهذا الهدف فقط. فالعالِم إذا مضى في طريقه وهو ينتظر من العامة أن ينتصروا له، أو يثأروا له، أو أن يخرجوا مظاهرات من أجله أو شيئاً من هذا؛ فهذا مغلوب قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] هذا هو مذهب العالِم. فأنا لما أرد على هذه الفتوى أقول: أنا لا أحكم بجنةٍ ولا نارٍ؛ لأن مذهب أهل السنة كذا وكذا وكذا؛ لكن ما فعله هذا الرجل، كان فسقاً وفجوراً، وكان كذا وكذا، وهو ميت، لا أترك الفتوى مبتورة، هذا هو واجب العالِم؛ لأن العالِم ناصح، وتَرْكُ إسناد الفتوى بهذه الصورة خيانة لأمانة العلم والرسالة. فالغناء اتفق العلماء على حرمته، ومن العَجيب أن هناك ممن يُشار إليه بالبنان يكتب وهو يتكلم عن حل الغناء فيقول: لا أرى في الغناء بأساً، وأنا أحب أن أسمع أغنية: أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا وكذلك: وُلِد الهدى فالكائنات ضياءُ وفمُ الزمان تبسمٌ وثناءُ كلامٌ جميل. وفيروز كذلك لها أغانٍ جميلة أيضاً في آخر الليل، تُحَب. لاحظ الكلام! آخر الليل؟! عند قيام الركَّع السجود، وتجلي الله تبارك وتعالى للخلق، ونزولِه للسماء الدنيا: (هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سئل عن أفضل الصلاة بعد الفريضة: (في ثلث الليل الآخر) في هذا الوقت أقعد أنا أسمع لـ فيروز؟! والذي يقولها رجلٌ يشار إليه بالبنان؟! رحمه الله، وسامحه، وتجاوز عنه. ويحتجون به علينا، ويَصْدُرُ هذا الكلام في كتاب، وينشر ويُطبع في ثلاث عشرة صفحة. ورجلٌ آخر ممن يشار إليه بالبنان يقول: لا زال العلماء الكبار يقولون بذلك، وقد قال حسن العطار شيخ الجامع الأزهر: مَن لم يصغِ إلى حنين الأوتار فطبعه أجلف من طبع الحمار. هذا هو الدليل الذي جاء به. فأنزلوا كلام حسن العطار منزلة كلام المعصوم. لا يعرفون ما معنى الدليل، لو تسأل أحدهم وتقول له: ما هي الأدلة في أصول الفقه؟ تجده لا يعرف شيئاً، وهذا يذكرني بالرجل الآخر الذي قيل له: يا مولانا قيل: إن الصلاة في المساجد التي فيها قبور حرام. فقال: يكفي أنني أصلي في المسجد، فجعل فعله دليلاً، أي: بما أنه يصلي في الجامع الذي فيه القبور فكيف يكون حراماً وهو يصلي فيه؟! فهؤلاء لا يعرفون معنى الأدلة، ولا يعرفون إقامة الفتوى بدليلها. من أراد أن يتبع العلماء، ويستمع إلى الفتوى الصحيحة التي ما قال بها أحد إلا احتج به؛ فليتبع فتاوى الأئمة الأربعة الذين صرحوا بتحريم الغناء، بل إن بعض العلماء -وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عندهم- مثل الإمام أبو بسطام شعبة بن الحجاج رحمه الله، الذي كان شامة في جبين المحدثين، رفع اسم البصرة إلى السماء، ترك الرواية عن أحد شيوخه الثقات واسمه: المنهال بن عمرو وكان من رجال البخاري؛ لأنه وهو مار بجانب الدار سمع صوت مزمارٍ أو عود ينبعث من دار المنهال، فترك الرواية عنه وأسقط بذلك روايته؛ لأنه بهذه الصورة صار فاسقاً. وقال الشافعي رحمه الله: إذا اشترى رجلٌ جارية فوجدها تغني؛ ردَّها بالعيب. الإمام أحمد بن حنبل رد كلام شعبة، وقال: لعله كان يعزف على العود وهو لا يدري، أ

الحاجة إلى العلماء الربانيين

الحاجة إلى العلماء الربانيين حاجة الناس إلى العلماء كبيرة جداً؛ فهم بمثابة المنارات التي تضيء للناس الطريق خلال سيرهم إلى الله عز وجل، ولولا هذه المنارات لانحرف الناس عن الطريق الصحيح، وصار كل أحد يجتهد ويأخذ برأيه، مما يؤدي إلى تفرق المسلمين واختلافهم فيما بينهم.

مساواة الإسلام بين الشريف والوضيع

مساواة الإسلام بين الشريف والوضيع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من السالف المعروف أن العرب في الجاهلية الأولى كانوا شذر مذر، لا تربطهم عاطفة، ولا يجمعهم جامع، وليس بينهم قاسم مشترك، إنما هي العصبية للدم والعرض، فالقبيلة القوية هي التي تسود، والضعيفة تحت الأقدام هذا هو موقف الجاهلية الأولى. لذلك لما أراد بعض الناس أن ينقل هذا المنطق إلى الإسلام رفضه النبي صلى الله عليه وسلم رفضاً قاطعاً، فإنه لما سرقت المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فثبت أنها جحدت -سرقت- فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فخرج حكمه بقطع يدها، فاستشاط بنو مخزوم، فقالوا: يا للعار! امرأة من بني مخزوم التي حازت الشرف، ولها موقع عالٍ في وسط العرب تعير بأن امرأة منهم سرقت! وقطعت يدها! لا، فذهب الرجال بعضهم خلف بعض يشفعون، وقالوا: ندفع أي فدية، نفعل أي شيء. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يقطع يدها، فأرسلوا إليه الحب بن الحب أسامة بن زيد بن حارثة، ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يداهن في حدود الله بحبه لرجل، فلما ذهب إليه أسامة، وهو الحب بن الحب، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشفع يا أسامة في حدٍ من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها). تنفيذ الحد حق الله تبارك وتعالى، ليس حق بشر، فإذا رفعت الحدود فلا شفاعة فيها، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم الحق في إسقاط الحد بعد أن يرفع إليه، وفي السنن أن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ فاستل بردتي من تحت رأسي، فأمسكته، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البردة تساوي ثلاثين درهماً، فأمر بقطع يده. فقلت: يا رسول الله! تقطع يده في ثلاثين درهماً! وهبتها له، لا أريدها، فقال عليه الصلاة والسلام: هلا قبل ذلك -هلا عفوت عنه قبل أن ترفع الحد إليّ- ثم أمر بقطع يده). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقب على هذا الخُلق: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) فهل دم الضعيف أرخص من دم الشريف؟ لماذا تقيسون الرجال بالشرف والمال؟ وحين جاء النبي صلى الله عليه قلب المفاهيم التي كانت في الجاهلية، وأقامها على الجادة، وأصبح الرجال يوزنون عند الله بقلوبهم لا بأجسامهم، حتى أنك ترى الرجل العظيم لا يساوي عند الله جناح بعوضة، جاء في الصحيح: (أن رجلاً مر، له شارةٌ حسنة، وعليه سمت حسن. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا تزوج أن ينكح، فسكت فمر رجلٌ فقير، عضه الفقر بنابه، قال لهم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إن تكلم ألا يسمع له، وإن تزوج ألا ينكح؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) ولك أن تتخيل سعة الأرض. فالله تبارك وتعالى يزن الناس بالقلوب؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] فألغى مظاهر التفريق، وأرجع المسلمين كلهم إلى رجلٍ واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما المؤمنون كرجلٍ واحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) هذا لفظ مسلم، وفي الصحيحين: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد). ظل الأوس والخزرج يقتتلون أربعين عاماً، فلما جاء الإسلام أعطى بعضهم ماله -بل وزوجته- لأخيه الذي هاجر، وهذا النوع من الأخلاق لم يكن من أخلاق العرب، فقد كان العرب عندهم غيرة شديدة على النساء، ومن ذلك ما حكي عن سعد بن عبادة أنه لم يكن يسمح لرجلٍ أن يتزوج امرأته إذا طلقها؛ لأن سعداً يغار، فكان الرجل منهم بعد أن مس الإسلام قلبه يتنازل عن امرأته لأخيه، حتى أنهم صاروا جسداً واحداً فعلاً. لما اختصم رجل من المهاجرين مع رجلٍ من الأنصار قال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً؛ كأنما فقئ حب الرمان في وجهه من حمرته، يقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة، دعوها فإنها منتنة).

حرص الإسلام على تقوية روابط الأخوة بين المسلمين

حرص الإسلام على تقوية روابط الأخوة بين المسلمين حرص الإسلام على أن يجعل شعائر جماعية للمسلمين حتى تذكرهم بهذه الآصرة القوية برحم الإسلام، فجعل شعيرة يومية: وهي الصلوات الخمس، وأسبوعية: وهي صلاة الجمعة، وسنوية وهي الحج؛ لأن الإنسان ينسى، وقد قال ابن عباس: (إنما سمي الإنسان إنساناً لكثرة نسيانه)، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فهل استفاد المسلمون من هذه الشعائر في تقوية روابط الأخوة فيما بينهم؟ أم أنهم ينسون بعد كل اجتماع فيحتاجون إلى تذكير آخر؟ فلذلك جعل الله شعائر الاجتماع على فترات، فبعد الصلوات الخمس تأتي شعيرة الجمعة، وبعد الجمعة تأتي شعيرة الحج. لماذا تفرق المسلمون اليوم؟ ولماذا صار المسلمون وحدهم هم الذين يطعنون ويضربون؟ لماذا أصبح دمهم أرخص دمٍ في العالم؟ أدمهم أرخص من دم عباد البقر ومن دم أولاد القردة والخنازير؟ أدمهم أرخص من دم عابد الحجر؟ لماذا رخص دمهم؟! لأنهم ليس لهم كيان، وليست لهم دولة على وجه الأرض هذه هي الحقيقة وإن كانت مرة. أذل شيء على الإنسان -إذا كان حراً- أن يكون ضعيفاً، هذا هو الذي يذل الحر ويكسر نفسه. في البوسنة والهرسك قتل منهم ثلاثة عشر ألف رجل مسلم بيد النصارى، ومجلس الأمن يفكر في عقد اجتماع، بينما أحداث الخليج لم تستغرق أكثر من أسبوع حتى حسمت القضية. هل يجهلون هؤلاء الألوف الذين يقتلون؟ وبعض الناس يغضب من ظاهرة عدم وجود المسلمين، فأقول له: حنانيك بعض الشر أهون من بعضه، أليس من عدة أشهر سب رسول الإسلام على صفحات الصحف العربية ووصف بأنه أحمق! ولم يتحرك أحد؟! ليست هناك دولة تتبنى هذا الرسول؟! يسب، ويكتب صاحب المقال اسمه، ومقر الصحيفة معروف، ومع ذلك ما فعل أحدٌ شيئاً، والرجل آمن في داره، والصحيفة ما زالت تصدر حتى الآن بم يفسر هذا؟! إن بعض الناس الآن إذا أراد أن يتكلم على رئيس دولةٍ عظمى لا يكتب اسمه؛ لأنه لا يأمن غوائله، هذا يدل على ضعف شديد جداً، المسلمون لا ينطقون على ساحة العالم، ماذا استفادوا من الاجتماعات الأسبوعية واليومية والسنوية؟ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] (حتى يغيروا ما) وليس (حتى يغيروا أنفسهم) لأن الله تبارك وتعالى يوم خلق الناس خلقهم على الفطرة، فالفطرة هي الإسلام، لكن إذا طال به العهد اجتالته الشياطين عن هذه الفطرة، فهذا هو الذي عناه ربنا تبارك وتعالى بقوله: (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، أي: حتى يغيروا الذي علق بأنفسهم. المؤمنون كرجلٍ واحد فهل شعرت بعضو من بجسدك ينضح عليك بالألم، وأنت تسمع أن ثلاثة عشر ألف مسلم يقتلون في عدة أشهر؟ هل المؤمنون الآن كرجلٍ واحد؟ لا. إن عمورية فتحت لأن رجلاً يهودياً فعل شيئاً لا يساوي ذرة على الشمال مما فعله اليهود بالمسلمين الآن، فالذي حدث في عمورية هو أن امرأة مسلمة كانت في السوق تشتري، فعصب أحد اليهود طرف إزارها من خلف حتى إذا قامت انكشفت سوءتها، فصاحت المرأة وهي في السوق: وامعتصماه! فكيف علم المعتصم بأمرها؟ سمعها مسلم عنده عزة الإسلام، فقال: والله لأبلغنها المعتصم! ورحل الرجل يركب الأيام والليالي حتى وصل إلى المعتصم، وقال له الذي سمع، فتحركت النخوة في دم المعتصم، لفتح عمورية، وساق إليها الجيوش الجرارة لامرأة ظهرت سوءتها. ولقد أظهر اليهود اليوم عورات نساء المسلمين؛ لأنهم ملوك الموضة، وهل الذي نراه في شوارع المسلمين إلا من غرس أيديهم؟! فإنك عندما تنزل بلاد المسلمين، ثم تنزل بلاد الكافرين لا ترى فرقاً بينها، أين عزة الإسلام؟ إن المسلمين لم يستثمروا هذه الاجتماعات؛ فإنك تجد المسلم يصلي بجانب أخيه خمس سنوات وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا داره، ولا يزوره، وهو يراه في كل صلاة، فلماذا شُرعت إذاً الصلوات الخمس في جماعة؟ ألمجرد أن نقف بجانب بعض فقط؟ لا. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وقد استفادوا هذا الخلق من النبي عليه الصلاة والسلام- يعرف بعضهم بعضاً، بحيث لو وطئت قدم رجلٍ غريب المدينة، فإنهم يعلمون به وهذا ظاهر في أحاديث كثيرة؛ من أشهرها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي انفرد به مسلم، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد). كانوا يحفظون المدينة كلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، ففي إحدى المرات نظر في وجوه أصحابه فلم ير ثابت بن قيس، فأرسل إليه أنس بن مالك، فوجده معتكفاً في داره يبكي، فقال له: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنك ما حجبك؟ فقال: أنا من أهل النار، حبط عملي، لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان ثابت جهوري الصوت. فذهب أنس بن مالك رضي الله عنه يحمل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بل أخبره أنه من أهل الجنة. قال أنس: فكان يمشي بيننا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة).

فوائد الشعائر التي فيها اجتماع المسلمين

فوائد الشعائر التي فيها اجتماع المسلمين من أعظم ثمرات الصلوات الخمس: أن يعرف المسلمون بعضهم بعضاً، ويؤاسي بعضهم بعضاً، ويشتركون في المسرات والمضرات، فإن العبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه إذا كان متألماً، أو زادت سعادته إذا كان سعيداً، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (فظللت يومي وليلتي أبكي، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت عليّ امرأةٌ من الأنصار فجلست تبكي معي) لما ترى غيرها يشاركها في البكاء يخف عليها الألم، حتى أشارت الخنساء إلى ذلك في بعض قولها في أخيها كليب لما قتل، فقالت: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فالعبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه الألم وتزداد سعادته. لماذا فقدنا حلاوة الصلوات الخمس؟ لأننا لا نستقيم كما أمرنا الله، كما في حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) فعدم تسوية الصف ينتج عنه أن الله تبارك وتعالى يفرق بين الوجوه. وفي رواية أبي داود لهذا الحديث: (أو ليفرقن الله بين قلوبكم)، ويمكن الجمع بين اللفظين: بأن استواء الباطن معناه استواء الظاهر، فإذا اختلفت الفروض تغيرت الوجوه. إذاً: قلبك لا يكون مع قلب أخيك؛ لأنك لا تسوي الصف، فالذين يستهينون بتسوية الصفوف، ويقولون: إن هذه مسألة جزئية، فكيف تهتمون بتسوية الصفوف وتقيمون الدنيا عليها، بينما المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذبحون ويقتلون، وهذا قول خطأ؛ لأننا نكون بذلك قد تركنا سنة من السنن ولم نجد حلاً لمشاكل المسلمين. وعندما تذهب إلى موسم الحج الأكبر ترى المسلمين متنافرين في عبادتهم، فيتعجب الإنسان قائلاً: هل هؤلاء يجمعهم دين واحد؟! وفي الطواف يأتون بأذكار غير مشروعة، مثل: أذكار الشوط الأول، أذكار الشوط الثاني، وأذكار الشوط الرابع، من أين لهم هذا؟ هل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لهم ذلك؟ فيأتون بأشياء لم يأذن بها الله ورسوله، فأنى يستجاب لهم؟ وفي صفوف الحجاج لا تجد بينهم الرحمة، فإذا سقط أحدهم فقد حكم عليه بالموت، فإذا لم تكن فتياً فلا تستطيع أن تطوف؛ لجهل المسلمين، هل المسلمون يعجزون أن ينظموا في الحج؟ لو أرادوا أن يفعلوا لفعلوا، لكن الدولة هناك لا تتبنى تنظيم الحج، إنما تتبنى تنظيم السفر إلى الحج، وتوفير الأكل والشرب. ولا نقول: إنهم لا يولون الحج اهتماماً كلياً، وإنما اهتمام ضعيف، فالبدع العلنية تفعل عند الكعبة، ومكة والمدينة مليئتان بالروافض، وهم الذين يسكنونها، حتى أن الدولة لما أرادت أن تُصلح أجهزة التكييف على الغرفة النبوية هاج الروافض في المدينة، وقالوا: يريدون أن ينبشوا القبر؛ فتوقفت الدولة خوفاً من الروافض، وخافت أن يثور الروافض في العالم. وقد كان أحد هؤلاء الروافض يجلس في المسجد الحرام، وكان الناس يأتونه ويقبلون يده ورجله، فلما اشتدت النكارة عليه ذهب إلى المدينة. التنظيم قد يكون صعباً لكن ليس مستحيلاً، فالذين يأتون من ديارهم قد يكون بينهم من لا يفقه شيئاً عن الحج، يعرف كل شيء إلا الحج، يعرف قيمة تذاكر الباخرات، والحافلات، والطائرات، ويظل سنة كاملة يحسب لها، وما فكر أن يسأل عالماً ماذا يفعل في الحج! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) ما معنى المبرور؟ أي: الحج على السنة، فمعظم الذين يذهبون إلى الحج لا يعلمون شيئاً عنه، فإنك عندما تذهب إلى الجمرات ترى العجب، فترى البعض منهم يرجمون الشيطان بالنعال، ورأيت رجلاً أتى بدف يريد أن يرجم به الشيطان! حنانيك أيها الراجم للشيطان! إن شيطاناً يعشش في داخلك ويجري منك مجرى الدم في العروق، فهل رجمته يوماً؟ ماذا استفاد المسلمون من مناسك الحج وليس عندهم الرحمة ولا الود؟ هل إذا رأوا رجلاً ضعيفاً أخذوا بيده؟ لو وقع رجلٌ ولم يستطع النهوض يموت. وكم مات أناس تحت أقدام الحجاج، ولو كان المسلمون كالبدن الواحد لوجد هذا الذي سقط من يأخذ بيده. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل الصلوات الخمس، كمثل نهرٍ جارٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه -أي: وسخه- شيء. قال: ذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا). وعلى مستوى الجمعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر). وعلى مستوى الحج: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، و (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). فإذا كان العبد تشمله عناية الله يومياً وأسبوعياً وسنوياً، فمن أين يدركه الشقاء؟ لماذا شقي إذاً ولم تدركه العناية؟ لأنه لم يقم بالفرض كما أمر. إذاً: نرجع أدراجنا فننظر في صلاتنا: الصلوات الخمس، والجمعة، وننظر في الحج، فإذا استطاع المسلم أن يجبر الكسر الذي أحدثه في هذه الشعائر الجماعية حينئذ تدركه عناية الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

دواؤنا في وجود العالم الرباني

دواؤنا في وجود العالم الرباني الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل داءً إلا وجعل له دواءً). فدواؤنا في وجود العالم الرباني، إذ لا يمكن أن يستقيم حال المسلمين بغير وجود العلماء، نريد العالم الرباني الذي نتعلم من سمته كما نتعلم من علمه، نريد العالم الرباني الذي يصدع بالحق ويستقيم عليه، نريد العالم الرباني الذي إذا رأيناه ذكرنا الله أين هؤلاء العلماء؟ ولا يستقيم حال الدنيا إلا بوجودهم، فكيف أغفل المسلمون البحث عنهم؟ في بلدنا كم طيباً يكفيهم؟ وكم مهندساً يكفيهم؟ وكم موظفاً في الجهة الفلانية يكفيهم؟ لا شك أنها ألوف مؤلفة، وإلا تعطلت مصالح الناس، كم عالماً يكفيهم؟ ألف ألفان ثلاثة آلاف عشرة آلاف؟ قليل، كم موجود منهم الآن؟ تستطيع أن تعدهم بأصابع اليدين، بل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة عند العالمين وغير العالمين. لو تصورنا أن الناس أضربوا عن دخول كليات الطب، فسوف نرى على صفحات الصحف والمجلات الكل يتكلم، ويقولون: المسلمون آثمون؛ لأنهم قصروا في فرض الكفاية، ومعلوم أن فرض الكفاية: أن يقوم جماعةٌ بشيء فيسقط عن الآخرين، فإذا قصروا جميعاً عن القيام بالفرض الكفائي صار فرضاً عينياً عليهم جميعاً حتى يقوم فيهم من يفعله، فيسقط حينئذٍ عن الباقين، فلو تمالأ أهل قرية على ترك الأذان، ونحن نعلم أن رفع الأذان فرض كفاية، إذا قام به فرد سقط الفرض عن باقي المسلمين. ولو تمالئوا جميعاً على ترك شعيرة الأذان أثم جميع الموجودين حتى يقوم رجل فيرفع الأذان؛ فيسقط الإثم عن الباقين، هذا هو الفرض الكفائي. لماذا لا نرى أيضاً الذين يقولون: يأثم المسلمون جميعاً بعدم وجود العلماء الربانيين؟ لأن المسلم لا يستطيع أن يبلغ يسير في طريقه إلى الله تبارك وتعالى بسلام إلا إذا وجد هذا العالم. من الذي يعرفهم السنة من البدعة؟ من الذي يعرفهم الحق من الضلال إلا العالم الرباني، لاسيما إذا غابت أنوار النبوة اشتدت الحاجة إلى هذا العالم أشد من الطعام والشراب.

تعرض العلماء للأذى من قبل أعدائهم

تعرض العلماء للأذى من قبل أعدائهم إن حاجة الناس إلى العالم الرباني أهم من حاجتهم إلى الأكل والشرب، بدلاً من أولئك الذين يضللون الناس قصداً أو جهلاً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقفون في وجه العلماء الربانيين يحاربونهم وينبذونهم بأقذع الألفاظ والنعوت. وقديماً دافع الشافعي عن آل البيت وأظهر حبهم؛ فنبذوه، وقالوا: رافضي. الروافض هم شر أناس في الشيعة، مثل روافض شيعة إيران الآن؛ فإن إيران أغلبهم روافض. ما هو الفرق بين الشيعي والرافضي؟ الشيعي: هو الذي يفضل علياً على عثمان، لكنه يقر للشيخين أبي بكر وعمر بالتقدم، وأنه لا يوجد أحد يتقدم عليهما. أما الرافضي: فهو الذي يقدم علياً على الكل، ويزري بـ أبي بكر وعمر. وعلى رأس الروافض الموجودين: الخميني، فالذين يقرءون كتب الخميني الموجودة الآن يقطعون بكفره، ولذلك كفره جماهير علماء أهل السنة، وله دعاء يلعن فيه أبا بكر وعمر يقول: (اللهم العن الطاغوتين: أبي بكر وعمر، اللذين حكما في دين الله بأهوائهما، والعن ابنتيهما) والذي لا يصدق أن هذا الكلام صدر منه فليقرأ كتابه (تحرير الوسيلة). ويقول إمامهم صاحب كتاب الكافي الذي يساوي صحيح البخاري عندنا، يصرح ويقول: (إذا صافحت رجلاً من أهل السنة فاغسل يديك سبع مرات). فوصف أولئك الشافعي بأنه رافضي، فأنشد أبياتاً يدافع عن نفسه، وكان منها: إن كان رفضاً حب آل محمدٍ فليشهد الثقلان إني رافضي إذا كان حب آل محمد رفضاً فأنا أول الرافضين، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وقديماً قالها أيضاً شاعر السنة -أو عالم السنة- لما نبذوه بأنه وهابي، لما رأوه على السنة، فقال: إن كان ناصر دين محمدٍ متوهباً فأنا المقر بأنني وهابي إذاً: هؤلاء العلماء هم منارات على الطرق، لا يبصر العباد طريق الله إلا بوجود هذه المنارات. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بأيدي المسلمين أخذاً جميلاً، ويردهم إلى دينهم رداً حميداً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

بيان أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم

بيان أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم روى الإمام الترمذي في سننه بسندٍ صحيح عن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم. قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، فقال: قد حز في صدري شيء من المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل سمعت منه فيه شيئاً؟ فقال: نعم، رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. فقلت له: هل سمعت منه في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، كنا معه في سفرٍ، فطفق أعرابي ينادي بصوت له جهوري: يا محمد! فأجابه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن من صوته هاءٌ -وفي رواية أخرى قال له: يا لبيك- فقلت للرجل: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن هذا؟ فقال الأعرابي: والله لا أغضض من صوتي. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب). هذا الحديث فيه جمل من العلم. أول هذه الجمل: على المسلم إذا حز في صدره شيء أن يطلبه بدليله، فإن زر بن حبيش لما حز في صدره شيء ليس من المسح، إنما في جزئية في المسح سأل. الخف هو: حذاء من جلد لكن لا نعل له، كالجورب -الشراب- بحيث أنك تستطيع أن تمشي به. فروى أكثر من أربعين صحابي عن النبي صلى عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين، ويُشترط في المسح على الخفين: أن تلبسهما على طهارة؛ تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تلبس الخف على طهارة. لما قال صفوان لـ زر بن حبيش -وهو أحد الصحابة-: ما جاء بك يا زر؟ قال ابتغاء العلم. فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع). هذا الكلام وإن كان من قول صفوان، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في غير ما حديث، وحتى لو لم نجد هذا الكلام معزواً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالقاعدة عند العلماء تقول: إذا قال الصحابي شيئاً من الغيب الذي لا يعرف فيحمل على أنه سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام. فإذا قرأت -مثلاً- قولاً لصحابي: (إن في الجنة شجرة من ذهب) هل الصحابي دخل الجنة ورآها ثم أتى فوصفها؟ لا؛ لأن الجنة غيب، فهو إذاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسميه العلماء: (مرفوعٌ حكماً) أي: أنه ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فقول صفوان: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، إنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ذكر الإمام النووي في كتابه المعروف (بستان العارفين)، والسند كل رواته أئمة: أن بعض أهل الحديث رأى رجلاً ماجناً يلبس قبقاباً -الخشب المعروف- ولكنه وضع فيه بعض المسامير، فقالوا له: لم هذه المسامير؟ قال: حتى أخرق أجنحة الملائكة. فيبس. -أي: شُل- لأنه يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا جزاء من لا يوقر الحديث، ولا يوقر كلام النبي عليه الصلاة والسلام. وقد حدثت حادثة شبيهة بهذه الحادثة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال له: (كل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت؛ فشلت يده، قال عليه الصلاة والسلام: ما منعه إلا الكبر) لذلك شلت يده؛ لأنه لا يتصور أن رجلاً يستطيع أن يستخدم يمينه فيأكل بشماله؛ لأن هذا داخل تحت النهي (لا يأكل الرجل بشماله)، لكن إذا كانت بيمينه علة، ولا يستطيع أن يستخدم يمينه في الطعام، هل يقال له: لا بد أن تستخدم يمينك على رغم أنفك؟ لا، معروف أن الشرع جاء لرفع الحرج، فالنبي عليه الصلاة والسلام علل لماذا شلت يد هذا بقوله: (ما منعه إلا الكبر) يرفض أن ينصاع لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فهذه عقوبة الذي يتكبر أو يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، قالها صفوان بن عسال المرادي حتى يهون على زر ما وجده من تعبٍ في رحلته لأجل هذا السؤال، ولا يزال العبد يطمع في المزيد إن علم أنه يؤجر، وهذه طبيعة العبد، فالله تبارك وتعالى جعل عمله الصالح بمقابله الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). يقول بعض الناس: لا تعبد الله رجاء الجنة؛ ويقولون: نحن نعبد الله لذاته! وينسبون مقالة إلى رابعة العدوية، ولا نعرف هذه المقالة عن رابعة حتى نعتبرها صحيحة، حتى وإن قالتها رابعة فإنه يرد عليها قولها. يقولون: إنها كانت تقول: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فأحرقني بها، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك لذاتك؛ فلا تحرمني من لقاء وجهك) ما هذا الكلام؟ أين نذهب بعشرات الأحاديث التي جاءت عن الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ فيها من النار؟! وأين نذهب بقوله تبارك وتعالى: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وقوله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات:61] لمثل دخول الجنة وتجنب النار (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. كيف يقال هذا الكلام؟ وهل هناك أحد يعبد ربنا لذاته هكذا؟! الذين يقولون بهذا القول هم من يقولون بمسألة الفناء، وهذا القول لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد من أصحابه أو التابعين ولا الأئمة المتبوعين، ولا أحد ممن تبعهم بإحسان. ويقولون بوحدة الوجود وهو: أن كل ما تراه بعينك فهو الله؛ لأنه حل في كل شيء، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً.

أهمية وجود الحافز في عمل الإنسان

أهمية وجود الحافز في عمل الإنسان معروف أن الإنسان لا يعمل العمل إلا إذا كان فيه حافز، وهذا شيء مفطور عليه الإنسان، ومهما أراد أن يكسره فإنه لا يفلح أبداً، لذلك فنظام الحوافز في الدنيا مشتق من النصوص، فعندما تجد الرجل يعمل ليل نهار؛ فإنما يعمل ذلك للحافز، فإذا علم العبد أنه لا يؤجر على فعله قل عمله وجهده. ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) لأن العبد متعود أن يجني الثمرة من الفعل، فالعبد إذا أراد أن يغرس الفسيلة -التي هي النخلة، والنخلة تمكث عدة سنوات حتى تعطي الثمار- وعلم أن الساعة ستقوم يقول: من الذي يستفيد منها؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: اغرسها، وإن كنت لا تستفيد منها لأنه يعلم العبد أن لا يفعل الشيء إلا إذا كان هناك مقابل. وهناك حكاية لرجل طيب مشهور، لكنه لم يرزق بالولد، وكان متزوجاً بابنة خاله، وكان يحبها ويرجو الولد منها، فطاف على الأرض شرقاً وغرباً، وأنفق ألوفاً من الأموال ابتغاء ولدٍ واحد، ولكنه رجع بخفي حنين. وكان هذا الرجل في أول شبابه عنده طموح؛ لأنه كان يظن أنه إذا لم يرزق بولد هذا العام فسيرزق العام القادم يحدوه أمل، لاسيما وهو طبيب، والنتائج كلها تقول: لا توجد فيه علة. بعض الدكاترة المشهورين ذهب إليه أحد هؤلاء وله أكثر من عشرة أعوام لا ينجب، وبعدما كشف عليه الطبيب لم يجد به علة، وقال له: إن لم أجعلك تنجب لأعتزلن الطب، عباد لا يعرفون قدر أنفسهم، فالله إذا لم يأذن فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً. فذلك الرجل لم تكن به علة ولا امرأته، لذلك كان يحدوه أمل، فكان يذهب إلى أي مكان يأمره الطبيب، مرة يقول له: انتظرني في إيرلندا، ومرة يقول له: انتظرني في هولندا، وبعد فترة قال له: انتظرني في أستراليا، والرجل دائخ وراءه ابتغاء ولد! وكان قد اشترى عمارة ومصنعاً، وفتح عيادة وعنده أموال كثيرة، فلما بلغ الخمسين من عمره يئس تماماً، فبدأ يبيع ويصفي كل ممتلكاته، فسئل عن السبب فقال: لمن أتركها؟ إذاً: هذا الرجل كان يعمل لكي يترك لأولاده ثروة، هذا هو السبب الذي جعله يعمل ليل نهار، وهو الذي جعله يقلص أوقات راحته حتى يستطيع أن يدخر هذه الأشياء لأولاده، فلما يئس وعلم أنه لا سبيل للانتفاع بكل ما جمع، بدأ يبدد هذا الذي جمعه. إذا لم يكن هناك حافز للإنسان على العمل فإن همته تضعف، وكأنه لذلك لما جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله، ومعها صبي صغير، قالت: (يا رسول الله! ألهذا حجٌ؟ قال: نعم. ولك أجر) مع أن المرأة لم تسأل: هل أنا أؤجر على المسألة هذه أم لا؟ لكنه قال لها: (ولكِ أجر) حتى يحفز المسلمين أن يصحبوا أولادهم من الصبيان إلى شهود مناسك الحج. ولذلك أنت عندما تعلم أنك ستؤجر، فهذا حافز لك أن تصطحب ابنك.

الحث على سؤال أهل العلم عند الجهل بمسألة ما

الحث على سؤال أهل العلم عند الجهل بمسألة ما قال زر بن حبيش لـ صفوان يشرح له سبب مجيئه: (إنه حز في صدري شيء) وهذا دليل على أن المسلم إذا حز في صدره شيء في الحكم الشرعي أن يسأل عنه. قال: (حز في صدري شيء في المسح على الخفين بعد الغائط والبول -وانظر إلى السؤال! وكما قيل: حسن السؤال نصف العلم- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً -لم يقل له: ما رأيك في الموضوع؟ بل نسب الكلام لصاحب الشرع، نريد أن نسمع حكم صاحب الشرع- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: نعم، أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة؛ لكن من بول أو غائط أو نوم) أي: لا ننزع خفافنا إلا من الجنابة، لكن في الغائط والنوم والبول لا ننزع خفافنا. إذاً: أنت إذا أصابتك جنابة تخلع الخف؛ لأنك ستغتسل، فإذا اغتسلت ابتل الخف، فإذا ابتل الخف فما الحكمة في مسحه إذاً؟ أنت تمسح حتى لا يصل الماء إلى قدميك، وقد وصل، ولا بد من غسل القدمين في حال الغسل؛ إذاً: يلزمك نزع الخف. لكن إذا تغوط المرء أو تبول أو نام -وكل هذا ينقض الوضوء- فلا يلزمه أن ينزع الخف. وطالب العلم عندما يجلس إلى من هو أعلم منه فإنه لا يكتفي بسؤال، قال زر:، فقلت له: (هل سمعت في الهوى شيئاً؟) أي من الرسول عليه الصلاة والسلام، (الهوى) أي: الميل، يسأل عن الهوى حتى يجعل ميله وهواه على وفق ما يريد الله ورسوله، لكن انظر إلى الذي يقول لك: الهوى هواي! أرأيت عبداً أضل من هذا؟! كالذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، أي: جعل هواه إلهه الذي يعبده. وهناك من الناس من يسأل عن الهوى حتى يجعله نيله وهواه على وفق ما يريد الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، لا يستقيم كما أمر إلا إذا جعل هواه تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ميل القلب، وهذه من أعلى درجات الإيمان: أن تجعل ميل قلبك لما يحبه الله ورسوله، وإن كانت مصلحة في غير ذلك، وأوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً، فقال له: (إذا أشكل عليك أمران -لا تعرف الصواب من الخطأ- فانظر أقربهما إلى نفسك فخالفه، فإن النفس تحب الهوى) انظر إلى ما تحبه من الأمرين واتركه لماذا؟ لأن النفس تحب الهوى، هذا نوع من أنواع التربية، والإنسان يذل هذه النفس؛ حتى يقيمها على أمر الله تبارك وتعالى. وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل حتى تعجز قدماه عن حمل جسمه، فإذا شعر بالإعياء أخذ العصا وضرب بها قدميه، ويقول: (والله أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً، والله لأزاحمنهم على الحوض) وما يستطيع المرء على أمر الله إلا إذا ملك نفسه. ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه) لأنه إذا ملك نفسه ملك غيره، فإن عجز عن ملك نفسه فهو أعجز عن غيره من باب أولى (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس- ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب). فهذا التابعي الجليل يسأل عن الهوى: هل سمعت في الهوى شيئاً-؟ قال: نعم. كنا في سفر فصاح أعرابي -وأنتم تعرفون أن الأعراب فيهم غلظة وجفاء، والأعرابي صوته عالٍ، خليقة؛ لأن الإنسان يتكيف بالبيئة، تجد مثلاً الذي يسكن في البراري -المسافات الواسعة جداً- فيحتاج أن ينادي بصوت عالٍ فيكون صوته جهورياً، أما أهل الحضر فبين الجار وجاره نصف طوبة، فتجدهم يتهامسون همساً. لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد عليهم في ذلك، مع أن رفع الصوت على الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عنه، وجعل غض الصوت عنه من علامات الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3]، وذم أقواماً آخرين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فقد كانوا يصرخون من وراء الحجرات: يا محمد! اخرج لنا. فذم أقواماً برفع الصوت، ومدح أقواماً بخفض الصوت، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد على مثل هذه الأمور التي قد تبدو جبلية، كما في حديث صفوان بن المعطل السلمي لما شكته امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس. وكان صفوان جالساً، فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي، أما قولها: (فيضربني إذا صليت) فإنها تصلي بعد الفاتحة بسورتين، وقد نهيتها. فقال: أطيعي زوجك، وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فأنا رجل شاب، وهي تتعمد الصوم -أي بدون إذني، فكان يقع عليها فيفسد عليها صومها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوم امرأةٌ تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، غير رمضان. وأما قولها: (ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس) -وهذا محل الشاهد- قال: إنا أهل بيتٍ عرف عنا ذلك، أي: أن نومه ثقيل، وهذا معروف عن أسلافه، وهو شيء جبلي، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج، فماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إذا استيقظت فصل) طالما أنه عمل بالأسباب الشرعية حتى يستيقظ في الفجر، فلا يسهر أحد حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية أمام مسلسل وبعد ذلك قبل الفجر بساعة ينام، فكيف سيستيقظ؟ وأدهى من هذا أنه يصحو الساعة السابعة أو الساعة الثامنة ولا يريد أن يستيقظ! فالصحابي اتخذ الأسباب الشرعية، ونام مبكراً من بعد العشاء، ومع ذلك نام حتى ذهب وقت الفجر، قال: (إذا استيقظت فصل) هذه المسائل الجبلية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يشدد فيها؛ ابتغاء رفع الحرج.

وجوب خفض الصوت والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجوب خفض الصوت والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم استنكر بعض الصحابة منهم صفوان بن عسال على الأعرابي الذي رفع صوته ونادى: يا محمد. وقد ارتكب هذا الأعرابي خطأين: الخطأ الأول: أنه رفع صوته. الخطأ الثاني: أن لم يتأدب في النداء قال: يا محمد! والله تبارك وتعالى أدب أقواماً فقال لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]؛ لأن الله تبارك وتعالى ما دعاه باسمه في حال المناداة أبداً، وإنما قال: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، وذكر جميع الأنبياء بأسمائهم، {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما ناداه ناداه بالرسالة والنبوة تشريفاً له، وما ذكره باسمه إلا بمعرض الذكر المجرد، كقوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كقوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، وهذا ليس فيه نداء، أعرابي أخطأ مرتين: مرة في رفع الصوت، والمرة الأخرى بأنه نادى النبي عليه الصلاة والسلام باسمه. كان في عصر الصحابة رجل من المسلمين يكنى بأبي القاسم، فناداه أحدهم قال: (يا أبا القاسم! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا لبيك -انظر الأدب! - قال له: لم أعنك -أي: لم أقصدك- فقال عليه الصلاة والسلام -تعقيباً على هذا الموضع-: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) فمنعهم أن يكنوا بأبي القاسم تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بنحو صوته -أي: رفع صوته- وقال له: هاؤم. -أي: أقبل، أو ماذا تريد؟ وفي الرواية الأخرى قال له: يا لبيك -قال صفوان: فقلت له: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن ذلك -أي: عن رفع الصوت-؟! فقال له: والله لا أغضض من صوتي). فالرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه الأعرابي لم يؤاخذه؛ لأنه أعرابي، وكان يتسامح معهم، وكانوا أحياناً يقومون بأشياء قد يكفر قائلها لولا أنه قد عذرهم، مثل الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وغيره بإسنادٍ قوي، عن قتيبة بن زيد الأنصاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فابتاع جملاً من أعرابي، -أي: اشترى- وكنا في سفر، فقال: نأخذ إذا رجعنا -أي: إلى المدينة- فجاء أقوام يشترون الجمل، وهم لا يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام اشتراه، فقال لهم الأعرابي: بكم؟ -لم يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، كان له أن يقول: لا، هذا الجمل بيع- فأعطوه أكثر من الثمن الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام قرضه، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: أولم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً؟ قال: كلا، بل بعتني الجمل. فقال: كلا، ما بعتك شيئاً. هذا تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي: هلم شهيداً -أي: ائتني بشهيد يشهد معك أنني بعتك الجمل، فأحجم الصحابة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يبدو من ظاهر الرواية أنه اشترى الجمل من الأعرابي دون أن يُشهد أحداً والصحابة لم يحضر أحد منهم البيعة، فلم يشهد أحد، لكن خزيمة بن ثابت الأنصاري انبرى، وقال: أنا أشهد أنك بعته -مع أنه لم يحضر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك. فجعل شهادته بشهادة رجلين). وفي الصحيح: (أن رجلاً من الأعراب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الرحمة مائة جزء، أنزل الله إلى الأرض جزءاً واحداً، تتراحم به الخلائق) من والإنس والجن، من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، حتى أن الدابة لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تدوسه. أحياناً من كثرة الشفقة على إنسان يمكن قلبك أن ينفطر، فتكاد أن تموت من الرحمة على هذا الشخص، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، (لعلك باخع) أي: قاتل نفسك أسفاً عليهم أنهم لا يؤمنون. فيأتي الأعرابي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت ما وسعه الله- فلم يلبث أن بال في المسجد، فهم الصحابة به أن يأذوه -فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه- لا تزعجوه، لا تفزعوه- إنما بعثتم ميسرين، ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) وإذا كانت المسألة لها حل فلماذا تشدد؟ فإذا ارتكب إنسان خطأً وهو جاهل به فارفق به، ولا تعامله كأنه معاند وتشدد عليه في الكلام. عند الخرائطي في مكارم الأخلاق، وقد روى هذا الحديث، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على أن بلت في مسجدنا، أو لست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق! ما ظننته إلا كمثل هذه الصعدات) أنا ظننت أن هنا مثل الخارج، وماذا يعني لو وضعتم عليه جدران؟ هل أصبح أحسن من الخارج؟ ظننت أن هنا كهناك، كلها أرض الله، وكما أتبول في أي مكان تبولت في المسجد. هذا جاهل أم لا؟ جاهل ما عنده علم، فلذلك تلطف الرسول عليه الصلاة والسلام معه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.

الصبر

الصبر اعلم أن الشيطان لا يريد من الإنسان إلا قلبه، الذي هو محل إخلاصه، وذلك ليفسده عليه، وثمة أمور كثيرة تفسد القلوب، ولقد ذكر العلماء من هذه المفسدات خمساً، تعد جماع فساد القلب وهلاكه، وهي: تعلق القلب بغير الله، وكثرة الاختلاط بالناس، والأماني، وكثرة الأكل، وكثرة النوم، فمن أراد السلامة لقلبه فليجتنبها، وليكن على حذر منها.

أهمية الصبر

أهمية الصبر إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الله تبارك وتعالى امتن على بني إسرائيل، وبين كثيراً من النعم التي خصهم بها وكانت سبب التمكين لهم، وذكر أنه اصطفى منهم أنبياءه وهداة أتقياء وأئمة هدى، وبيّن سبحانه سبب نيلهم ذلك، فقال عز من قائل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فبين أن الصبر هو أول ما نال به أئمة الهدى تلك الدرجة العالية الرفيعة، ولذا فإن الصبر لازم للعبد -وليس للمؤمن فقط، بل لا يستغني عنه الكافر، ولا الحيوان البهيم- فهو مطية المؤمن لا يضل راكبها أبداً ولا يشقى. والصبر مر كاسمه. وما أحوجنا إلى الصبر، ونحن في مفترق الطرق، وأمام قوانين وضعية تُشرِّع لنا من القوانين مالم يأذن به الله، بدلاً عن الشريعة الإسلامية، ويسمع الحر ذلك فيتمزق قلبه لما يراه ويسمعه، ويتعجب من سكوت العلماء، فكيف لا يهبون ويدافعون عما يعتقدون؟! يسمع الحر هذا فيتفتت كبده من هذا السكوت! ولكنها مسألة تحتاج إلى صبر في هذه الآونة أكثر من أية آونة مضت. ولكن ما هي الأسباب المعينة على الصبر؟! وعليك أن تصبر بغير ذل؛ لأن هناك فرقاً بين الذل والمسكنة وبين الصبر: فالصبر: أن تسكت وتعمل، أما الذل والاستكانة: فهي أن تسكت ولا تعمل، فالصابر يصبر ويعمل بمقتضى ما أمر به، وإذا نظر الله عز وجل إلى قلوب عباده فرآهم عادوا إلى دينهم وراجعوا معنى العبودية؛ مكن لهم كما مكن لبني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، يقين مضاف إلى الصبر. ويعرف الصبر بأنه: (ثبات باعث الدين إذا اعترته بواعث الشهوات). مثل: رجل مصاب بعلة يصف له الطبيب شيئين: دواء يخفف العلة، والدواء الآخر يقويه. فإذا كان الصبر هو ثبات باعث الدين؛ فما هو المعين على هذا الثبات في مقابل باعث الشهوات؟! وما هو المضعف لهذا الباعث الآخر؟ اعلم أن الشيطان لا يريد إلا قلبك: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] ومحل الإخلاص: القلب، فلا يريد الشيطان إلا قلبك.

مفسدات القلوب

مفسدات القلوب ومفسدات القلب خمسة: تعلق القلب بغير الله، ثم كثرة الاختلاط بالناس، ثم الأماني، ثم كثرة الأكل، ثم كثرة النوم. وهذه خمسة أشياء تفسد القلب:

المفسد الأول: تعلق القلب بغير الله

المفسد الأول: تعلق القلب بغير الله أعظمها وأهولها: تعلق القلب بغير الله، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، إن الذي يعبد شيئاً إنما يعبده ليحميه، وليأخذ العز منه، فعبدوا من دون الله آلهة لتكون لهم عزاً، فتعلق القلب بغير الله أصل الشرك.

المفسد الثاني: كثرة الاختلاط بالناس

المفسد الثاني: كثرة الاختلاط بالناس المفسد الآخر: كثرة الاختلاط بالناس، فكثرة الاختلاط بالناس تورثك الهم والغم، وتشتت عزم قلبك، فقد ترى رجلاً غنياً فتسأله عن غناه، يقول لك: أنا أعمل كذا وكذا، وعندي خطط، ودراسات جدوى، وأعمل عشرين ساعة، أنا لست كسولاً، والحياة صراع فـ (كن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب) فيدخل على قلبك الغم، فتفكر في سبيل الغنى اقتداء به، وتريد أن تكون كهذا الرجل، ورجل آخر يخوفك من الدعوة إلى الله، قائلاً: لا تسلك هذا الطريق، لا تصدع بكلمة الحق، لا تنكر منكراً، كن آمناً، كن في حالك، لا تتكلم! وأنت تريد أن تتقرب إلى الله؛ فيدخل على قلبك الغم والخوف الذي بثه وهكذا. الاختلاط بالناس لابد أن يكون بقدر حاجتك، واختلط معهم فيما يفيد: في الجمعة والجماعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتزلهم في فضول المباحات فضلاً عن المعاصي والمحرمات.

المفسد الثالث: الأماني

المفسد الثالث: الأماني الأماني، وهذا بحر لا ساحل له ولا شاطئ، يركبه مفاليس العالم، فالأماني رءوس أموال المفاليس، وما ضيع أكثر العباد إلا الأماني، فاليهود والنصارى ضيعتهم الأماني، والمفرطون من هذه الأمة ضيعتهم الأماني، وهذا شرَك عظيم وخطير، فأمانيك تستغرق عمرك وعمر أولادك وأحفادك، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا كما في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام: رسم لأصحابه على الأرض مربعاً -أربعة أضلاع- ثم قال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به لا يفر ولا يخرج منه، ثم رسم خطاً مستقيماً بدءاً من الضلع الأخير من المربع وخرج خارج المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً حول هذا الخط المستقيم داخل المربع، فقال: (هذا الإنسان وهذا أجله، والخط الطويل أمله) -أمله خرج من أجله، تلك الآمال تستغرق عمره وعمر أولاده وأحفاده- وهذه الخطوط القصار التي هي داخل المربع حول الخط الطويل قال فيها: (هذه الأعراض والابتلاءات والأمراض، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) -أي: لابد أن يبتلى، لا ينجوا أبداً-. ونفهم من هذا: إن الأمل الطويل والرغبة في الحياة هي التي تمكن الشيطان من قلب العبد، فيقول: أنا سأفعل غداً وبعد غد، والعام القادم سأفعل وأفعل، وهو ميت هذه الليلة. أعرف رجلاً رحمه الله سلمت عليه في محله بعد صلاة الظهر، ووجدت بجانبه بطانية فقالت: ما هذا؟ قال: بطانية أسبانية، وفرشها طولاً، وقال: على الإنسان أن يتغطى، فالجو بارد وأنا سأتغطى بها الليلة، ولكنه بات في قبره، مات بعدما تركته بساعة، ودفنوه بعد العصر، وما استمتع بها. ولذلك قال من قال من السلف: (ما ذُكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيقٍ إلا وسعه). وأنت جالس مع أولادك وكلهم بعافية، وأنت رجل موسر تأكل وتشرب وتضحك، لو ذكرت الموت تتعكر عليك هذه اللذة، ولو ذُهِلْتَ عنهم خمس دقائق فقط وفكرت أنك ستنزع من بين هؤلاء الأولاد، وتسأل نفسك: هؤلاء الصغار كيف يكون حالهم من بعدي لو مت؟ أترى أنهم يسلمون تقلب الزمان ونوائب الدهر؟ سيصير، أترى هناك من يحنو عليهم بعدي؟! فتضيع عليك اللذة الحاضرة ولا تستمتع بها. فكنت في سعة فضيقها عليك. وكذلك أنك رجل مبتلى بالمصائب من كل جانب، وتذكرت الموت والبلاء، وأن ظالمك لن يخلد بعدك، وأن هناك قصاصاً، وأنك ستقتص من ظالمك، فأول ما تفكر في هذه المعاني يتسع عليك الأمر وتصبر. وهذا مصداق قولهم: (فما ذكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيق إلا وسعه)، والأماني أخطر شيء يعكر صفو القلب بعد تعلق القلب بغير الله.

المفسد الرابع: كثرة الطعام

المفسد الرابع: كثرة الطعام قال لقمان لابنه: (يا بني! إن المعدة إذا امتلأت نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة)، إن كبير البطن لا يحرز شيئاً في السبق -لو تسابق الناس لا يحرز شيئاً- واعتبر بحال الجياد، إن الجواد الذي تركبه لتفوز بالسبق فيه لابد أن يكون مضمر البطن لا عظيمها).

المفسد الخامس: كثرة النوم

المفسد الخامس: كثرة النوم واعلم أن كثرة الطعام مجلبة للنوم، وكثرة النوم مظنة الفساد، وفوات المصالح وقد سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جده في نهاره وقيامه في ليله، وأن في هذا إرهاقاً وأي إرهاق، يقول: (إنني لو نمت في نهاري ضيعت رعيتي، ولو نمت في ليلي ضيعت نفسي، فكيف الخلاص منهما؟!). وكان أبو حصين رضي الله عنه كثير قيام الليل، وكان يضع عصاه بجانب مصلاه، فإذا أحس أن رجليه لا تقويان على رفعه ولا على حمل بدنه، كان يضرب رجليه بالعصا، ويقول لهما: (أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟ والله لأزاحمنهم على الحوض ويقوم)، وهذه لا يفعلها رجل ممتلئ البطن، وهذا ما يدل عليه قول لقمان الحكيم فيما يروى عنه: (إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة. وكذلك إذا امتلأت المعدة ازداد الشبق، وعظمت الشهوة، وبدأ الشيطان يلعب بصاحبها ويفكر؛ كيف يصرف هذه الشهوة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) -يعني: وقاية يتترس بها من عدوه-. فإذا كان الصيام -الجوع- وقاية من حدة الشهوة؛ فإن كثرة الطعام مجلبة لهذه الشهوة؛ ولذلك أكثر الناس عصياناً أصحاب الترف، الذين يأكلون ما شاءوا ويشربون مالذ لهم ويملئون بطونهم، وعندهم من المال ما يستطيعون به تنفيذ أهوائهم.

أمور تساعد على تقوية باعث الدين

أمور تساعد على تقوية باعث الدين فهذه مفسدات القلب، والشيطان لا يريد إلا قلبك، فإذا عجزت عن قتله بالكلية فَقَوِّ باعث الدين؛ فإنه يقتل البقية الباقية في بواعث الشهوات، واستعن على تقوية باعث الدين بأمور منها:

أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل

أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. من جملة شهود غضبه وانتقامه تبارك وتعالى، وأجارنا الله وإياكم من غضبه ومن ناره أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل، فإذا علمت ذلك وخشيت أن الله تبارك وتعالى إذا غضب عليك لا يرحمك أحد؛ كان ذلك باعثاً على زيادة دينك وهادماً لشهواتك. واعتبر بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فقال لنا مرة: أتاني آتيان بعد صلاة الغداة -أو قال: ذات غداة- فانطلاقا بي، فإذا رجل مضطجع ورجل آخر قائم بصخرة عظيمة يهوي بها على رأسه، فيثلغ بها رأسه، فيتدهده الحجر، فيذهب ليأتي به، فيرجع بهذه الصخرة ويضربه مرة أخرى. قلت: سبحان الله! ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق. قال: فجئت فإذا رجل مضطجع على قفاه، وآخر معه كلوب من حديد -الكلوب: خطاف- فيشرشر شدقه إلى قفاه -ينزعه من شدقه إلى قفاه- ومن منخره إلى قفاه، ومن عينه إلى قفاه، ثم يذهب إلى الشق الآخر فيشرشره إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فما أن يشرشر هذه الناحية حتى تعود الأخرى صحيحة فيرجع عليها وهكذا. قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق انطلق. قال: فجئت رجلاً يسبح في بحر من دم، وعلى شاطئ البحر رجل عنده صخر كثير، يسبح ويجيء، فيلقمه الواقف على الشاطئ حجراً فيلتقمه ويدور ثم يجيء، فيرميه بحجر يلتقمه وهكذا. قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق انطلق. قال: وجئت فرأيت تنوراً -فرن من الأفران العظيمة- وفيه رجال ونساء عراة، ولهب يأتيهم من أسلف، فإذا وصل إليهم اللهب ضوضوا -صرخوا- فقلت: ما هؤلاء؟! قالا لي: انطلق انطلق)، وساق بقية الحديث. ما أريده هو هذا الجزء من الحديث: الرجل الأول فسره الملكان للرسول عليه الصلاة والسلام (رجل مضطجع، وآخر معه صخرة عظيمة يضربه بها، فيثلغ رأسه، ويتدهده الحجر) هل تعرف ما معنى يتدهده؟ يعني يصير رملاً، هذا الصخر العظيم من هول الضربة يصير رملاً، فقالا له: هذا هو الذي ينام عن الصلوات المكتوبات، والجزاء من جنس العمل، ثقل رأسه فلم يجب المنادي، لم يجب داعي الله، فكان هذا هو الجزاء، ولقد أخذ بعض الجزاء في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل ينام ليله كله إلا بال الشيطان في أذنه) وإذا نام الإنسان يعقد الشيطان على قفاه ويقول: (نم، عليك ليل طويل). فأما الرجل الثاني المضطجع على قفاه، وآخر قائم بالكلوب يشرشر شدقه، فقالا له: هذا الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق. أما الرجل الثالث -الذي يسبح في بحر من الدم، والآخر يلقمه حجراً- فذلك آكل الربا، الذي مص دماء الناس وأموالهم، وهو يسبح فيها الآن في البرزخ، هذا الذي يسبح فيه دماء الخلق التي مصها، ثم هو لم يخرج بشيء من دنياه إلا الحجر: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] صفوان عليه تراب يغرك منظره، تراب كنت تظنه أرضاً صالحة، يأتيه الوابل -الذي هو المطر الغزير- فيدعه صلداً، وتكتشف أن هذا مجرد حجر لا يصلح للزراعة، والحجر لا ينفع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) يعني: الولد لا ينسب إلا إلى فراش الزوجية الذي أتى بعقد صحيح، مثلاً رجل تزوج امرأة بعقد صحيح. فأولدها، فهذا الولد الذي جاء على فراش الزوجية بالعقد الصحيح ينسب إلى أبيه، ولو أن رجلاً زانياً فجر بالمرأة على فراش زوجها وأولدها ولداً، فإن الولد لا ينسب إلى الزاني، باتفاق العلماء، وينسب إلى أمه وليس إلى أبيه، فهذا ينزل بمنزلة الأنعام. حسناً: (الولد للفراش) والعاهر الذي فجر بالمرأة ما هو جزاؤه؟ أو ما هي الفائدة التي حصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم (وللعاهر الحجر) أي: الذي لا قيمة له، يعني أخذ الخيبة والخسران. فهذا هو حال آكل الربا وهذا هو مآله -والعياذ بالله- فاحذروا البنوك وفوائد البنوك، فإنها ربا، ولا تسمعوا للمفتي، ولا لشيخ الأزهر ففوائد البنوك ربا! حرام! ومن وضع ماله في بنك فليخرجه، وليتقِ الله عز وجل لا يأكل حراماً، هكذا أفتى كل العلماء الذين تعقد عليهم الخناصر، وهذه هي الفتوى الرسمية للأزهر، وأيضاً هي الفتوى الرسمية لمجمع الفقه في مكة، وفي دبي، وفي المغرب، وقد اتفقوا على ذلك. وأما التنور الذي فيه رجال عراة ونساء عرايا، قال صلى الله عليه وسلم: (هم الزناة والزواني) عادت نار الشهوة -التي كان يشعر بها في قلبه- تنوراً يحرقه، آه لو صبر وفعل ما أمر به -كالصيام مثلاً- لكسر حدة شهوته وفاز ونجا من ذلك الهول العظيم. فليستحضر العبد العاقل مثل هذه المشاهد، فإن ذلك فيه تقوية على باعث الدين، وفيه هدم -أيضاً- لباعث الشهوات. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

استحضار مشهد غضبه وانتقامه

استحضار مشهد غضبه وانتقامه إذا لم تؤثر فيك محبته ولا إحسانه وإنعامه؛ استحضر مشهد غضبه وانتقامه، والله عز وجل إذا غضب على أحد لا يقوم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف. واعتبر بحال الجبل الذي تجلى الله له، ما غضب عليه، وإنما تجلى فقط فجعله دكاً، فلا يقوم شيء لغضبه أبداً فضلاً عن هذا العبد الضعيف. واعلم أن العقوبة من جنس الفعل، فإذا علمت ذلك خفت من الله عز وجل، فإن قوماً لا يؤثر فيهم القرآن يؤثر فيهم السلطان؛ كما قال عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) مات أناس أصحاء أقوياء ما مرضوا قط، وصاروا تراباً وأكلتهم الأرض، وإذا شعرت بهذه القسوة فلابد أن تتدارك الخطر الداهم على هذا القلب، كيف لا تذهب إلى رجل وتقول له: قلبي قسا، ما علاجه؟ إن ميمون بن مهران -رحمه الله، وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه- قال لابنه عمرو: (يا بني! خذ بيدي -وكان قد كف بصره- واذهب بي إلى الحسن البصري. قال: فانطلقت به أقوده، فاعترضنا جدول ماء - (جدول ماء) يعني: قناة ماء، والرجل لا يستطيع أن يمر- قال: ففرشت نفسي على القناة فعبر عليَّ الشيخ، وانطلقت أقوده حتى ذهبنا واستأذنا على الحسن، فخرجت جارية الحسن فقالت: من؟ فقال لها: عمرو بن ميمون. قالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قال: نعم. قالت: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟! فبكى عمرو وعلا نحيبه؛ فخرج الحسن على بكائه فاعتنقا، فقال عمرو: يا أبا سعيد! شعرت بغلظة في قلبي فجئتك، هل أصوم لها -يستشيره هذه الغلظة التي وجدتها في قلبي علاجها أن أصوم لها-؟ يا أبا سعيد، قل لي شيئاً، فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] فخر ميمون بن مهران مغشياً عليه، فجعل الحسن يفحص رجله كما تفحص رجل الشاة المذبوحة، وأفاق بعد مدة، فخرج ميمون مع ابنه عمرو، فقال ابنه له: يا أبتي! أهذا الحسن -يعني: هذا الرجل الضخم الذي أنت تصفه لي-؟ قال: نعم يا بني. قال: ظننته أكبر من ذلك. قال عمرو: فوكزني أبي في صدري، وقال: يا بني! لقد تلا آية لو تدبرتها لألفيت لها كلوماً في قلبك -لألفيت لها جراحاً في قلبك-). وتأمل! ميمون الثقة الثبت، الإمام الكبير العلم، يذهب إلى الحسن يقول له: (آنست في قلبي غلظة)، قلبك لا يموت فجأة، فكيف قصرت في الدفاع عن هذا القلب الذي حياتك الأبدية متعلقة بسلامته من سهام الشيطان التي لا تكف عنك طرفة عين، تركته غرضاً للسهام ثم تبغي النجاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى والحياء منه

استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى والحياء منه الأول: أن تستحضر جلال الله عز وجل، وأنه يراك حين تعصيه، فإن القلب إذا قام في هذا المقام لا يقوى على معصية الله أبداً: والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (عظني. قال: استحي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك)، أي: فإنك لا تجرؤ على أن تعصي الله وتأتي بالقبائح أمام الصالحين، فليكن جلال الله في قلبك أفضل وأقوى من إجلالك لهذا الرجل الذي تستتر وراء الجدار وتغلق الباب حتى لا يراك؛ حياءً منه، فالذي لا يغفل عنك طرفة عين ولا ما دونها أولى بالحياء. وروى عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد بسند صحيح عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: (سمعت أبا بكر يخطب على المنبر فيقول: يا أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله إنني لأتقنع -يعني: يتلثم بعمامته- إذا خرجت إلى الخلاء؛ حياءً من الله عز وجل) وهو يقضي حاجته حياءً من الله تبارك وتعالى فهكذا فليكن الحياء.

محبته سبحانه وتعالى

محبته سبحانه وتعالى ثانياً: استحضر مشهد محبته تبارك وتعالى، وأن المحب لا يعصي من يحبه، وأن الطاعة أسهل ما تكون على المحبين، وأن خدمة المحب متعة، يصلي ويستمتع، يخرج من حر ماله ويستمتع، يناله ما يناله من الأذى وهو مستمتع! (دخل بعض السلف على أخيه وهو مريض فسمعه يئن، فقال له: ليس بمحب من لم يصبر على ضرب حبيبه. فقال له الرجل: صدقت، بل ليس بمحب من لم يلتذ بضرب حبيبه!)، فنقلها إلى نقلة أعلى وأفضل، وليكن لسان حالك: (لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) إذا كنت محباً استعن بهذا الحب على تقوية باعث الدين ودحر باعث الشهوات.

استحضار إحسانه سبحانه وتعالى

استحضار إحسانه سبحانه وتعالى ثالثاً: استحضر إحسان الله إليك، وأنه المبتدئ عليك بنعمه قبل أن تستحقها، وليس من شيمة الكريم أن يرد الإحسان وأن يعقبه بالإساءة، فاستحضر إحسانه عليك: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] لا تستطيع أن تعدها في بدنك فضلاً عن السماوات والأرض، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، استحضر أسماءه وصفاته وآثارها في الكون، لا تعصه طرفة عين، هو لا يستحق منك ذلك، وهو المتفضل عليك. واعتبر بحياة الناس: إذا لم تعلم صفات الرجل ما الذي يغضبه، وما الذي يحبه؛ فلا تستطيع أن تمد جسور الود بينك وبينه، كما أنك لا تستطيع أن تستلب قلوب الناس إلا إذا علمت ما يحبون فتفعله، وما يكرهون فلا تفعله، وقد ذكر العلماء في ترجمة شريح القاضي رحمه الله أنه جالس الشعبي عامر بن شراحيل، وكلاهما من التابعين الكبار، فقال له الشعبي: (يا شريح! كيف حالك مع أهلك -مع زوجتك-؟ قال: والله -يا شعبي - تزوجتها منذ عشرين عاماً فما رأيت منها سوءاً قط. قال له: وكيف ذلك؟ قال: في الليلة التي دخلت بها رأيت جمالاً نادراً وحسناً فتاناً أخاذاً، فقلت: لأتطهرن وأصلين لله تبارك وتعالى شكراً، فقمت فتطهرت وصليت، فلما سلمت وجدتها صلت بصلاتي وسلمت بسلامي، فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية -ويستحب للزوجة إذا نادت زوجها أن تناديه بكنيته، كما قالت امرأة إبراهيم عليه السلام: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72] (بعلي): والبعل هو السيد، وكانت امرأة أبي الدرداء إذا نادته تقول له: يا سيدي- قالت: على رسلك يا أبا أمية، فإنني امرأة غريبة، وابتدأت الخطبة، فقالت: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله. أما بعد: فأنت رجل غريب عني وأنا غريبة عنك، ولا علم لي بأخلاقك، فقل لي ما تكرهه فأجتنبه، وما تحبه فأفعله، وقد ملكت فافعل كما أمرك الله عز وجل: {إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، واعلم أنه في قومك من كانت كفئاً لك وتستحقك، وكان في قومي من كان كفئاً لي ويستحقني، ولكن إذا أراد الله شيئاً فعل أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. قال شريح: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة -أي: أنها خطبَتْ خطبة عصماء! فهو سيخطب في مقابلها خطبة أخرى- فقال: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله. أما بعد: فقد قلتِ قولاً لو ثبتِ عليه نفعكِ، وإن كنتِ تدعينه كان حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا. فقالت له: وكيف صلتك بأهلي -أي: الزيارات لأهلها-؟ قال: لا أحب أن يملني أصهاري -يعني: نجعل الزيارات متباعدة-. قالت: وجيرانك؟ قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، قال: وبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها عشرين عاماً ما اختصمت معها إلا في مرة واحدة، وكنت ظالماً لها). لماذا عِشرة عشرين سنة بلا مشاكل؟ لأنها تعرفت على صفاته، يكره كذا ويحب كذا، كذلك الله -وله المثل الأعلى- يكره كذا ويحب كذا، فلا يراك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وهذا في الناس مثل ضربته، ولله المثل الأعلى، قال لك: افعل كذا وكذا، فكيف لا تفعل؟ ونهاك أن تفعل كذا وكذا، فكيف تجرأت على الفعل؟

لا يستوي الطائع والعاصي عند الله

لا يستوي الطائع والعاصي عند الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. سابعاً: إن شهود أسماء الله عز وجل وصفاته في الكون من أعظم البواعث على تقوية باعث الدين، وعلمك أن الله عز وجل لا يسوي بين الطائع والعاصي، وأن الله تبارك وتعالى منتقم وشكور، ولا يظلم مثقال ذرة، لما تجمع هؤلاء الثلاثة؛ هذا يكون حافزاً لك على الإحسان، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هكذا قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم، وقرأ بقية السبعة كـ نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء - (سواءٌ محياهم ومماتهم) وهناك فرق عظيم بين القراءتين: أما (سَوَاءً): فهي داخلة مسبوكة في معنى الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اجترحوا: يعني اكتسبوا، ومنها الجوارح، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ): فيقول: هم يتصورون ممات الكافرين كممات المؤمنين، وحياة الكافرين كحياة المؤمنين! إذاً المعنى جاء مسبوكاً في بقية الآية أولها، وآخرها (ساء ما يحكمون) طبعاً لا يمكن. وعلى قراءة: (سواءٌ) بالرفع، تقرأ هكذا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] وتقف {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21] فـ (سواء) خبر مقدم، أي: أن حياة الكافرين ومماتهم واحد، هو ميت قبل أن يموت، هذا الجسم الذي تراه عبارة عن قبر متحرك لقلب ميت، {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:80 - 81] قرأ حمزة وغيره ((وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم)) إذاً هؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. فإذا كنت على معرفة جازمة أن الله عز وجل لا يسوي أبداً بين الطائع والعاصي، ثم كما هو تبارك وتعالى من لطفه أن نصب لك الأدلة ونصب لك الثواب والعقاب؛ حتى لا تقول: يا رب! أخذت على حين غرة. قال تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] (أملي لهم): يمد لهم حبال الأماني، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] هذا استدراج، يزين له المعصية ويقيم الدلائل عليها، لو كان ربنا يكرهنا لحرمنا من الأولاد والمال، ولكنه أعطانا الأولاد حتى نتقوى، والأموال لنفعل ما لذ وطاب، إذاً أكيد هو يحبنا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] كلمة (يحسبون) أي: يقيمون الشبهة دليلاً ويتكئون عليها. وكما قالت اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فرد الله سبحانه وتعالى عليهم الرد الدامغ الذي لا يخطئه أبداً ذو عقل: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] أي: أن الحبيب يتجاوز عن الذنب -هذا معنى الآية- فإن كنتم أبناء الله وأحباؤه فعلاً يعذبكم بذنوبكم؟ فالأصل أن يتجاوز، ولا يؤاخذ ولا يعاقب كما ذكر الله عن يوسف وإخوته: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:91 - 92] (الحبيب لا يرى ذنباً، والبغيض لا يرى حسناً). وهذا ترجمة المثل العامي: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) الزلط -الحصى- الذي لا يُبلع -أصلاً- صديقك يبلعه؛ لأنه حبيب. فالله تبارك وتعالى نصب الأدلة، وبين لك منذ البدء أنه بينك وبين هذا الشيطان عداوة قديمة، وأن الله تبارك وتعالى مكنك من الشيطان بكلمة واحدة فقط: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فأنت أقدر على شيطان الجن منك على شيطان الإنس، شيطان الجن بمجرد أن تستعيذ بالله منه يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو جلست وقرأت عليه القرآن كله؛ يقول لك: الآية هذه معناها كذا وهذه معناها كذا، والعلماء قالوا كذا، والعالم الفلاني قال كذا يشوش عليك، وإذا قلت له: أعوذ بالله من شرك؛ يقول لك: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وبرغم أن شيطان الجن أقوى، ولديه إمكانات وصلاحيات أن يصير كالجبل العظيم أو كالذر يجري في الدم! ومع ذلك أول ما تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يولي الأدبار، ويضعف كيده وبأسه. إذاً: الله تبارك وتعالى مكنك منه، ثم أبان لك عداوته، والرسول عليه الصلاة والسلام ترجم هذه العداوة في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وينخسه الشيطان؛ لذلك يستهل صارخاً) يصرخ؛ لأن الشيطان ينخسه، وما زال أبيض الصفحة، لم يفعل شيئاً، كأن الشيطان بهذه النخسة يقول له: أنا إنما نصبت لك، ولن تفلت مني. يذكره به، يقول له: هذه نخسة لكي أذكرك. فما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً بسبب نخسة الشيطان، إلا مريم وابنها، واقرءوا إن شئتم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]. هذه العداوة بينها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن -على أنها عداوة ظاهرة- ولا تخفى أبداً إلا على أعمى القلب. ثم يقول الله تبارك وتعالى بعد ما بين العداوة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50] بئس البدل: أنك تتولى الشيطان، ولا تتولى الله عز وجل. إذاً: شهود انتقامه وشهود إنعامه، وأنه شكور، وأنك إذا فعلت الفعل اليسير أجزل لك المثوبة، وإذا فعلت الذنب العظيم كتبه ذنباً، وقد يمحوه، هذا كله مشجع وحافز لك لكي تحسن، إذا زلت بك القدم، فأنت عند رب محسن {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] لأنك تعلم أن ربنا سبحانه وتعالى قد يتجاوز لك، لكن لا تكن كالمرجئة، يفعل الشيء ثم يقول: إن الله غفور رحيم لا، اعمل صالحاً وحاول ألا تغلط، فإن أخطأت وزللت فتب إلى الله عز وجل، واعلم أن الصبر على أمره، والانتهاء عن نهيه عاقبته التمكين والعز، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4].

الأسوة الحسنة في زمن الفتن والمتغيرات

الأسوة الحسنة في زمن الفتن والمتغيرات أيها الرجل: إن كنت رجلاً حقاً فلك أسوة في إبراهيم، رجل يساوي أمة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] فلك أسوة بهذه الأمة كما تأسى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]. فإن فترت همتك ولم تكن رجلاً، فتأس بالصبيان بإسماعيل عليه السلام مع أبيه إبراهيم عليهما السلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] انظر هذا الاستثناء الجميل! (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ) كأنما لم يثق بقوة عزمه فقد يتراجع حال الذبح؛ فوكل ذلك إلى الله، وهضم حق نفسه وأشار إلى ضعفه وخوفه أن يخور عزمه وهو يشعر بحد السكين على عنقه، فما أعقله من صبي (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، ولو تأسيت به لكنت كبيراً، مع أنه يوم قالها كان صبياً. ثم إن نزلت همتك عن همة الصبيان فتأسَ بالنساء، لا أقول لك: تأسَ بامرأة حرة بل أمة -وتعد ربع رجل؛ إذ أن المرأة الحرة تعدل نصف رجل، والأمَة تعدل نصف حرة- بـ هاجر عليها السلام، لما دخل إبراهيم عليه السلام وسارة إلى مصر، وكان يحكمها جبار عنيد، لا يسمع بامرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه، وقد كانت سارة عليها السلام آية في الجمال، فالجواسيس أول ما رأوا جمال سارة، قالوا له: هناك امرأة جميلة شكلها كذا وكذا، فإبراهيم عليه السلام قال لها: إذا سألك فقولي له: إنني أخته، فأنا لا أعلم أحداً يعبد الله غيري وغيرك وهذا تعريض، وهي من الكذبات الثلاث التي كذبها إبراهيم عليه السلام، ولكنه كذبها في الله. فلما رآها جميلة جداً أراد أنه يصل إليها، فشلت يده، فقال: ادعي الله لي أن يخلصني ولن أمسك بسوء. فدعت الله عز وجل، فأراد أن يمد يده مرة أخرى، فشلت، فقال: ادعي لي، فدعت الله، فارتدت يده، فمد يده مرة ثالثة وهذا يشبه حال الكافرين في الآخرة بعد اعترافهم ومعايشتهم العذاب قال تعالى عنهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. ولذلك أمثال هؤلاء ممن لم يعاينوا التكليف في هذه الحياة الدنيا، كالأصم يأتي يوم القيامة، فيقول: يا رب! أنا أصم، لا أسمع، ولو جاءني الرسول لآمنت، وكذلك الولد الذي مات صغيراً قبل أن يبلغ الحلم يقول: أنا كنت صغيراً ولم أسمع، وكذلك المجنون يقول: أنا لم يكن لي عقل، ولو كان لي عقل وأتاني الرسول لآمنت. فيقول لهم الله عز وجل: لئن أرسلت إليكم رسولاً لتؤمنن به؟ فأعطوه الموثق على ذلك: نعم، سنؤمن به، فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها قذف إليها، وهذا لو كان في الدنيا وجاءه الرسول كان سيكذب. إذاً: ما هي العلاقة ما بين النار في الآخرة وما بين التكليف في الدنيا؟ أنت ربما تعذب في الدنيا وتدخل النار بسبب ثباتك على دينك، مثل أصحاب الأخدود، فهؤلاء رموا في الأخدود؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل، وكذلك كان في الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار -وهو حي- حتى يفصل ما بين اللحم والعظم ما يرده ذلك عن دينه) فهذه هي النار، فشابهت النار في الآخرة نفس ثمار التكاليف في الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. فهذا خبيث! مرة ثالثة -أيضاً- يمد يده فشلت، فطلب منها أن تدعو الله أن يرسل يده فدعت الله عز وجل فأرسل يده، وأحضر الجاسوس وشتمه، وحتى يتقي شرها أعطاها هاجر أمةً لها، فتزوجها إبراهيم عليه السلام، وحملت وولدت، فغارت سارة منها. عن ابن عباس قال: إن أول من اتخذ المنطق -الحزام الذي تربطه النساء على الوسط- هاجر عليها السلام، وكان المنطف عبارة عن قطعة قماش تجره وراءها على الأرض لتمحو آثار أقدامها عن سارة، بسبب ماذا؟ بسبب الغيرة. أخذها إبراهيم عليه السلام من الشام ورحل بها وجاء بها مكة كما قال الله عز وجل: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] لا إنسان ولا حيوان، واد خال تماماً، هي وابنها الرضيع، وتركها وابنها في مكة ولم يكلمها، وانطلق راجعاً إلى الشام، فنادته: (يا إبراهيم! يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد، فانطلقت وراءه حتى وصلت إلى مشارف مكة تقول: يا إبراهيم! حملتني إلى هذا الوادي ولا يوجد إنسان! لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يرد عليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه أن نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا، ورجعت). هي هذه ربع الرجل! لو كنت متأسياً فتأسَ بمثل هذا الربع: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال الرواية الأخرى في البخاري لهذه القصة قال ابن عباس: (فانطلقت وراءه ونادته، وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟! فسكت ولم يرد. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، أمرني. قالت: رضيت بالله). في الرواية الأولى: قالت: لن يضيعنا، والرواية الثانية قالت: رضيت بالله، وكفى بالله وكيلاً. أرجو يا إخواننا! أن تتصوروا حال هاجر وهي في مكان مقفر مظلم، إذا جاء الليل تسمع دوي الريح! وليس معها إلا وليدها وقد وجف ضرعها، وكاد الولد يموت عطشاً وجوعاً، فلما رأته يموت قالت: أذهب فأعلل نفسي حتى يموت. لا تريد أن تراه وهو يموت، تنصرف وتأتيه بعد ساعة أو ساعتين ويكون قد مات فتدفنه، وينتهي الأمر. فذهبت تبحث عن ماء، فرجعت فإذا جبريل عليه السلام قد ضرب بعقبه الأرض -وقيل: بجناحه- فانفجرت عين زمزم وجعلت تفور، وهذا فرج عظيم بعد شدة مدلهمة، وهكذا رزق الله تعالى أوليائه من حيث لم يحتسبوا. ولا تقل هذا خاص بالأنبياء، فهذا لأولياء الله عز وجل في كل وقت، إذا حسُن توكلك عليه، كما حصل لـ خبيب بن عدي في موقعة بئر معونة، لما جاء رجل من بني الحارث وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو أرسلت من يعلم الناس القرآن. قال: إني أخاف عليهم قومك؟ قال: لا، أرسلهم، وأنا جار لهم) أي: هم في حمايتي، فأرسل الرسول سبعين قارئاً للقرآن من خيار الصحابة آنذاك، كان منهم عاصم بن ثابت قريب لـ عمر بن الخطاب، وكان منهم خبيب بن عدي، لكنهم بعد أن ساروا قليلاً سمعوا وقع أقدام الخيل وراءهم، فقال عاصم بن ثابت: هذا أول الغدر. أول ما جاء الفرسان قالوا: سلموا. قالوا: لا نسلم. فقتلوا عاصم بن ثابت الأنصاري وجماعة من الصحابة. فبقي خبيب بن عدي ورجلان على خيولهم، فأعطوهم العهد والميثاق ولهم الأمان. فنزلوا على العهد والميثاق فعندما نزلوا كتفوهم، فأحد هؤلاء الثلاثة قاتل وظل يقاوم حتى قتلوه، فبقي اثنان: خبيب بن عدي والآخر. أما خبيب بن عدي فقد كان من خبره أن هؤلاء الناس باعوه لبني الحارث، وكان خبيب قد قتل رجلاً من بني الحارث عظيماً في الجاهلية، فأردوا أن يقتلوه قصاصاً. فلما سلموه لبني الحارث كانت الأشهر الحرم قد دخلت، وكان العرب يوقرون الأشهر الحرم، فأجلوا قتل خبيب بن عدي إلى انتهاء الأشهر الحرم، ووكلوا به امرأةً كسجان عليه- فهذه المرأة في يوم من الأيام طلب منها خبيب بن عدي موسىً يستحد بها -لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقت لشعر العانة ألا يبقى أكثر من أربعين يوماً- فهذه المرأة نامت وغفلت عن ابنها، وقد كان على حجرها، فنزل ودخل إلى خبيب بن عدي، فوضعه خبيب على حجره، فأفاقت المرأة فنظرت، فإذا الولد على رجل خبيب بن عدي فشهقت، وخافت أن يقتله خبيب بالموسى. فقال لها: أتظنين أني قاتله؟ والله! ما كنت لأفعل ذلك. فقالت المرأة: والله! ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، لقد رأيته يوماً يأكل عنباً وليس في مكة ثمرة، والرواية الأخرى: ما على الأرض حبة عنب؛ لأن مكة البلد الوحيد الذي تجد فيه فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال تبارك وتعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] ليس عندهم أزمة في أي شيء، يؤكل فيها العنب والبطيخ، والفاكهة كلها في غير أوانه {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] إذا كان لا يوجد في مكة حبة عنب، إذاً لا يوجد على الأرض حبة عنب. المهم أن هاجر عليها السلام كما تقدم ذهبت تبحث عن الماء وبدأت السعي بين الصفا والمروة. ويا لضخامة الأمر على هذه المرأة الوحيدة! يا ليت معها زوجاً يهون عليها، لكنها امرأة وحيدة لا تجد من يعينها ويسقي وليدها. عليك أن تستحضر كل تلك المعاني وأنت تسعى بين الصفا والمروة، في ظل التكييف الممتاز، والرخام الجميل، فتفرغ العبادة من مضمونها، تطوف وتتمنى أن تنتهي من السعي لشدة الإعياء، وتقول للذي بجانبك: عد معي، نحن وصلنا أي شوط؟! الشيخ الألباني رحمه الله حججت معه سنة (1410هـ)، وكان في هذا الحج زحام شديد، ما رأيت مثل هذا الزحام قط، أنا شاب والشيخ الألباني رحمه الله كان سنه في ذلك الوقت حوالي (81) سنة. طبعاً لما أتيت لأسعى صعدت إلى الدور الثاني؛ لأنه من المستحيل أن تجد في الأسفل موضعاً لقدمك، بعدما رجعنا إلى منى، ودخلت لأسلم على الشيخ في خيمته وجدت على

تعلم الإيمان قبل القرآن

تعلم الإيمان قبل القرآن إن الإيمان هو مصنع الرجال أصحاب التضحيات والأخلاق الفاضلة حيث أن وجوده في ضمير الإنسان يولّد رقابة وبذلاً لا ينقطعان. ولذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك، حتى قال قائلهم: (تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن). فلما تعلموا الإيمان تعلموا القرآن وأدوا حقه أحسن أداء.

الإيمان أولا لو كانوا يعلمون

الإيمان أولاً لو كانوا يعلمون إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فقد ثبت عن حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، أنهم قالوا: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوامٌ يتعلمون القرآن، ثم يتعلمون الإيمان) هذا فرق جوهري بين جيل الصحابة وبين كثير من الأجيال التي جاءت من بعدهم، تعلموا الإيمان فلما جاء القرآن يأمر وينهى، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشياء لا مجال للعقل فيها، قالوا: سمعنا وأطعنا؛ لما كان عندهم من الإيمان السابق للكتاب. قالوا: (إنه يأتي أقوامٌ يتعلمون القرآن، ثم يتعلمون الإيمان)، كأمثال كثير من الأجيال التي جاءت بعد ذلك، يتعلم القرآن لكنه ما تعلم الإيمان قبل القرآن، فتعرض عليه قضايا في القرآن فلا يسلم بها؛ لأنه لم يتعلم الإيمان أولاً، فصار المسلمون يكذبون بآيات قرآنية، وبعض المسلمين يكذب بأحاديث للرسول عليه الصلاة والسلام. ومن الفروق بيننا وبين الجيل الأول أنهم قاتلوا على آيات الكتاب، أما نحن فورثنا الكتاب، وهناك فرقٌ واضح بين الذي يقاتل على آيات الكتاب، وبين الذي ورث الكتاب، كما قال تبارك وتعالى وهو يذكر صنيع اليهود، وأنهم حرّفوا وبدلوا، فقال عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169]، فهم ورثوا الكتاب، فهناك فرق بين الذي قاتل كالصحابة، وبين الذي ورثه.

الإيمان يصنع الرجال

الإيمان يصنع الرجال

الإيمان والتجارة الرابحة

الإيمان والتجارة الرابحة ومثال ثالث على الإيمان وأثره في الاستقامة على شرع الله وإيثار الآخرة على الدنيا: أبو الدحداح رضي الله عنه له قصة رويت بأكثر من لفظ، وسأذكر لفظاً هو صحيحاً: روى البزار وغيره: (أن أبا الدحداح رضي الله عنه كان عند النبي عليه الصلاة والسلام يوماً، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فقال أبو الدحداح: يا رسول الله! الله يريد منا القرض؟ قال: نعم، قال: عندي حائط في المدينة -وكان في هذا الحائط ستمائة نخلة، ونعلم أن البضاعة الرائجة في زمانهم كانت هي التمر- مالي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ قال: لك الجنة، قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي، وخرج من المجلس وذهب إلى البستان، وكان في داخل البستان زوجته وأولاده، فوقف على الباب، وقال: يا أم الدحداح، اخرجي بأولادك فإني أقرضت حائطي هذا ربي، فقالت المرأة: ربح البيع يا أبا الدحداح). انظر إلى استعلاء المرأة بالإيمان، ما قالت له مثلاً: أنت ضيَّعتنا، لو كنت تبرعت بثلاثمائة نخلة فقط، وأبقيت لنا ثلاثمائة ما أبقيت لأولادك؟ وما إلى ذلك. لماذا؟ لأنها استعلت بإيمانها، وأبو الدحداح لم يدخل البستان؛ لأنه لم يعد يملكه لأنه أقرضه لله تبارك وتعالى، لذلك وقف على باب البستان، وقال: (اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي)، وقد صح عن أبي طلحة الأنصاري نحو هذا، وأنه لما نزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] قال: يا رسول الله، عندي بستان كذا وكذا، فهو في سبيل الله، فقال: قسمه ما بين أقربائك وذوي رحمك، فنزلت الآية. بخلاف اليهود حيث قالوا عندما نزلت الآية: افتقر رب محمد، إنه يطلب القرض، أما الصحابة فقد استجابوا لذلك وقدموا لأنفسهم، فالقرآن كما ذكر الله تعالى يكون هدى وشفاء لأقوام، ويكون عمى على آخرين. وهذا كله كان فرعاً عن محبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، حيث كانوا يفدونه بالآباء والأمهات والأنفس. كما صح في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: أنت الآن أحب إليَّ من نفسي، قال: الآن يا عمر)، فانظر لماذا استثنى عمر رضي الله عنه نفسه أولاً؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر النفس في الحديث، وإلا فهل تتصور إذا كان الحديث هكذا (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين). أكان ممكناً أن يقول عمر: أنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي؟ هذا غير ممكن، فلذلك لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فأنت الآن أحب إلي من نفسي). وهذا يعني أن هذا الحب كان جاهزاً في نفس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فلذلك الصحابة عندما كانوا يسمعون النصوص كانوا يلتزمون بها، بخلاف كثير من الأجيال المتأخرة قد يسمع النص ويخالفه، فإذا قلت لأحد مثلاً: اتق الله، يقول: اللهم اجعلني من المتقين، وهو واقع في المخالفة، فهو ما يخشى من ذلك، مع أنه يقول: اللهم اجعلني من المتقين. أما الصحابة فلم يكونوا كذلك. ففي الحقيقة نحن نحتاج لأن نعيد النظر في محبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام، هل نحن نحبه حقاً أم لا؟ ولينظر كل إنسان، فكل امرئ حجيج نفسه، وسيقف بين يدي ربه غداً وحيداً فريداً، فينظر كم من المخالفات التي في بيته؟ فهو رب البيت، ولا سلطان لأحد عليه، كم من المخالفات في بيته وهو مقصر في رفعها، وفي القيام بأمر الله تبارك وتعالى في أهله وفي أولاده؟ ينظر الإنسان في نفسه: هل يحب النبي عليه الصلاة والسلام ذاك الحب الذي يجب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين)، و (حتى أكون أحب إليك من نفسك)؟ يقول تقي الدين السبكي في رسالة له لطيفة اسمها: بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي -الإمام المطلبي: هو الإمام الشافعي رحمه الله- يقول وقد سُئل: إذا ورد حديث وفتوى عالم، والحديث يضاد فتوى المذهب، وورد حديث نصّه يخالف فتوى المذهب، فبأي الفتويين نأخذ؟ قال: خذوا بالحديث، وليفرض أحدكم نفسه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره بهذا الأمر أكان يسعه أن يتخلف؟ لا يسعه أن يتخلف، حينئذٍ نسأل: فما هو الفرق بين أمر النبي عليه الصلاة والسلام المباشر، وبين أن يصلك أمره، وقد اتفق العلماء على أن رد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد مماته إلى سنته، فلا فرق بين أن يقول لك النبي عليه الصلاة والسلام أمراً مباشراً، وبين أن يصلك أمره بعد ذلك على لسان ثقة ممن يؤتمن في نقله. يجب علينا يا إخواننا أن ننظر في أنفسنا، وفي من نعول، ونتقي الله تبارك وتعالى فيهم، فإن الرجل لو تيسر حسابه يوم القيامة، يمكن أن يوقفه أهله على شفير النار لو هو قصر، ولم يقم بأمر الله تبارك وتعالى، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، إذاً: الحمل عليك ثقيل، ليس هيناً، فليس أنت فقط، بل أولادك مسئول عنهم، وكذلك امرأتك، وكذلك من يكون لك عليهم الولاية الواجبة. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم حبه تبارك وتعالى، وحب من يحبه، وحب كل أمر يقربنا إلى حبه إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مثال الإيمان والتضحية

مثال الإيمان والتضحية أضرب لذلك مثلاً: قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، ففي الصحيح في قصة إسلامه وقبل أن يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ودخلت المسجد الحرام، فتضعفت رجلاً منهم) أي: نظر إلى رجل نحيف، وكانت قريش آنذاك تؤذي أي شخص يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الإيذاء، سواء كان على دينه، أو ينوي الدخول فيه، فهو نظر إلى شخص نحيف ضعيف -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً- فقال له: (أين ذلك الذي يقولون: إنه صابئ)، فصاح ذلك الضعيف بين الناس، قائلاً: عليكم بهذا فإنه صابئ، قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم، فما زالوا يضربونني حتى كأني نُصُبٌ أحمر، من كثرة الدماء التي سالت عليه، فاحتبس ثلاثة أيام في زمزم حتى وفق للقاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأسلم. ورغم هذا الضرب الشديد الذي لقيه أبو ذر من هؤلاء المشركين، إلا أنه لما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثك بالحق لألقين بها بين أكتافهم) وذهب إلى المسجد الحرام مرة أخرى، وقال على الملأ: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال: (فمازالوا يضربونني حتى كأني نصبٌ أحمر، فما خلصني منهم إلا العباس، قال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار، وأن تجارتكم تمر بها)، فتركوه لهذا، فانظر هل مثل أبي ذر الذي جهر بهذه الكلمة -وهو يعلم مسبقاً العناء والبلاء الذي سيقع عليه- يمكن أن يحرف في آيات الكتاب، أو يمكن أن يهون عليه أن يرى رجلاً يحرف في آيات الكتاب، ثم يسكت عنه؟ الجواب لا، هؤلاء قاتلوا على هذا الكتاب، لذلك فما كانوا ليتنازلوا عنه أو يرضوا بتحريفه، وعندما تنظر إلى الأجيال التي جاءت بعد ذلك، وإلى المارقين الذين تناولوا القرآن الكريم بالتحريف، كأمثال محيي الدين بن عربي فإن له تحريفات -بدعوى تفسير القرآن- يشيب لها الولدان. فمثلاً قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] المعقول من أي إنسان عربي يسمع هذا الكلام، يعرف أن معنى هذه الآية: من الذي يمكن أن يشفع عند الله إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، أما ابن عربي فقال: هو الفهم السطحي والتوقف على ظاهر النص، لكن لابد أن تغوص في المعنى!!. ثم يقول: الآية معناها: من ذلَّ ذي يَشْفَ عِ، فعجن الكلام وأتى بكلام جديد، (من ذلَّ): من الذل، (ذي) اسم إشارة بمعنى النفس، أي: من ذل نفسه وهضم الكبرياء والأنفة والشموخ، (يشف) أي: يشفى من الأمراض والكبر والبطر وهذه الأشياء، (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام. فهل في الآية ما يشير من قريب أو بعيد إلى مثل هذا. كان أبو بكر رضي الله عنه مرة يخطب في أصحابه، فقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، فقال: الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم سكت، ثم قال: إن هذا لهو التكلف يا أبا بكر، فهل مثل أبي بكر لم يكن يعرف معنى كلمة أَب في اللغة، والقرآن نزل بلغتهم، وليس فيه حرف واحد إلا وهم يعرفون معناه، ثم هم يعرفون معنى كلمة الأب الذي هو العشب؟! لكن كأن مقصود أبي بكر رضي الله عنه حقيقة الأب وما وراء معنى اللفظ، فيقول: إن هذا لهو التكلف؛ لأننا ما أُمرنا بذلك، والقرآن ما أنزل كتاب علوم أو جغرافيا، إنما أنزل كتاب هداية، فالذي ينظر في القرآن على أنه كتاب علوم أو جغرافيا، لا يصل إلى حقيقة الهداية التي نالها الصحابة من هذا الكتاب العظيم.

الإيمان بالغيب دون شك أو زيغ

الإيمان بالغيب دون شك أو زيغ مثال آخر لإيمان الصحابة بكتاب الله دون نقاش: ما روى الإمام الدارمي في سننه من أنه كان هناك رجل عراقي اسمه صبيغ -وبلاد العراق بلاد فتن وضلالات- كان يسأل المسلمين عن معنى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، والمعروف أن المقصود بها الريح، لكن صبيغاً أراد أبعد من ذلك، فلما علم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بذلك -وكان هو قائد الجيش آنذاك- كتب لـ عمر بن الخطاب يقول: معنا رجل يسأل المسلمين عن معنى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] ففهم عمر مقصده، فقال: أحضره إلي، فجاءوا به إليه، فقال له عمر بن الخطاب: تسأل عن محدثة، وجعل يضربه على ظهره حتى أدماه، فتركه حتى برئ، ثم دعا به فضربه حتى أدماه، وتركه حتى برئ، ثم دعا به، فلما هم أن يضربه قال له: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأرسله، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: لا أحد يكلم صبيغاً أبداً، فكان صبيغ العراقي يمشي ولا يجد أحداً يكلمه؛ فشق ذلك عليه، فشكى إلى أبي موسى الأشعري، فكتب إلى عمر: إن الرجل حسنت توبته وأفاق، وذهب الداء الذي كان به، فأذن عمر بن الخطاب في أن المسلمين يكلمونه ويجالسونه. انظر! لو أن أحداً مثل ابن عربي هذا موجود في زمن عمر، وقال مقولته تلك في آية الكرسي؛ لضرب عنقه. هان عليه القرآن؛ لأنه ورثه. مثل ذلك مثل من عانى من الفقر، ثم مكنه الله من جمع الملايين، فتجده لا ينفق ديناراً إلا في مصرفه المناسب، حتى قد يصل به الأمر إلى البخل، أما من ورث المبالغ الطائلة بدون جهد أو تعب، تجده يصرف المال يمنة ويسرة دون حساب أو عقاب. فلذلك تجد من يقول بتفسير الإشارة، ويحرف القرآن الكريم. وقد فسر ابن عربي أيضاً قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7] بقوله: هذه الآية إنما نزلت في أهل الورع!! -وماذا نعمل بقوله: (الذين كفروا)؟ - قال: أي: الذين كفروا إيمانهم، أي: غطوه؛ لأن أصل الكفر هو التغطية، وسمي الزارع كافراً كما في قول الله تبارك وتعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20]؛ لأنهم يوارون البذر في باطن الأرض، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي النهار، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان، فيأتي هو ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: غطوا إيمانهم خشية أن يحبط بالرياء والسمعة، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، أي: لا يصدقون بتكذيب الناس ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) فلا يدخلها غيره، ((وَعَلَى سَمْعِهِمْ)) فلا يسمعون إلا منه، ((وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) فلا يرون غيره انظر إلى التحريف. هان عليه القرآن الكريم حتى حرفه بدعوى التفسير. وصدق من قال: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فمجرد المقارنة بين السيف والعصا تعتبر امتهان لمكان السيف. فجيل الصحابة لا يقارن بمن بعده. فهم جيل فريد قاتل وجاهد في سبيل نشر هذا الدين، وخضعوا كل الخضوع لكتاب الله، وطبقوه حق التطبيق.

حسن الوفاء وقبح الغدر

حسن الوفاء وقبح الغدر الوفاء بالعهد من مكارم الأخلاق التي حثنا عليها ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. والناظر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام يجد أن الوفاء بالعهد من شيمهم ومزاياهم، ولذلك خضع الناس لهم واتبعوا دعوتهم، فقد كانوا أسوة حسنة لمن هو دونهم في مكارم الأخلاق، والله سبحانه وتعالى توعد أهل الغدر بالعقاب، ولكنه سبحانه وتعالى خص منهم ثلاثة أصناف لعظم جنايتهم، وذكر أنه خصمهم، ومن كان الله خصمه فقد خصم.

الوفاء بالوعد خلق الأنبياء

الوفاء بالوعد خلق الأنبياء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:26 - 28]. روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (جاءني رجل يهودي فسألني: أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقلت له: لا -أي: لا أجيبك- حتى آتي حبر العرب - ابن عباس رضي الله عنه- قال: فجئت ابن عباس فسألته عن أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: أفضلهما وأطيبهما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل) (رسول الله) أي: موسى عليه السلام، أو هو اسم علم لكل الرسل، أي: أن أي رسول لله تبارك وتعالى إذا قال فعل، وهذا لأنه في محل الأسوة والقدوة، وقبيح جداً أن يكون الرأس كذاباً، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لأنه يقول ويفعل، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة:4]؛ ولذلك فإن القلوب والأفئدة تهوي إلى كلام الله ورسوله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته العامرة بالوفاء والأمانة ضرب المثل الأعلى للناس. ولذلك نقول للذين يسنون القوانين: اطمئنوا ليس لقوانينكم قداسة في النفوس؛ لأننا نعلم أنكم أول من يخالفها، وهذا داء قديم لا حديث. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، وواحدة في سارة). وذلك أن إبراهيم عليه السلام دخل بلداً فيها جبار، وكان هذا الجبار له عيون يرسلها في أنحاء البلد، إذا وجدوا امرأة جميلة يأتون بها إليه، وكان هذا الجبار الذي وضع القانون يستثني الأخوات، فيأخذ امرأة الرجل وأمه، وخالته وعمته، لكنه لا يأخذ أخته، وكان إبراهيم عليه السلام على علم بهذا القانون، فقال إبراهيم عليه السلام لـ سارة: إذا جاءك هذا الجبار فقولي: أنت أختي في الإسلام، فوالله ما أعلم أحداً على الإسلام غيري وغيرك. وكانت سارة جميلة جداً، فلما رآها هذا الجاسوس ذهب إلى الملك، وقال له: إن امرأة بأرضك لا تصلح أن تكون إلا لك، فجيء بها، وبالرغم أنها قالت: إنها أخت إبراهيم، إلا أنه خالف مذهبه وأراد أن يقربها، فدعت عليه فشل، كما في الحديث المعروف. فهؤلاء يصنعون القوانين ثم يخالفونها لأهوائهم، لذلك لا تجد قانوناً محترماً إذا سنه البشر؛ لأنهم يسنون القانون لعلة ثم يلغونه لعلة أيضاً، وما العلة إلا الهوى؛ لكن رسول الله إذا قال فعل؛ لذلك تمت الأسوة بهم، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] (وفى) من الوفاء، وهو أنه كمل العبادة لله. لما ألقي في النار جاءه جبريل عليه السلام، وما أدراك ما جبريل؟!! خلق عظيم، له ستمائة جناح، قلب قرى قوم لوط بريشة من جناحه! قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل على رقرقٍ -أي: على كرسي- يملأ ما بين السماء والأرض). عندما أتى جبريل إلى إبراهيم عليه السلام قال له: (هل لك إليَّ حاجة؟ قال: أما إليك فلا) لأنه عبد يفتقر إلى شيء معين وهو رب العالمين، فإذا كان رب العالمين يمكنك أن تصل إليه بلا حاجز، فلماذا تتخذ حاجزاً وتطيل المسافة على نفسك؟! قال: (أما إليك فلا) وهو في النار، وقد كاد له العالمون جميعاً، لكنه وفى العبودية حقها، ولم يلجأ إلا إلى رب العالمين تبارك وتعالى وهنا محل الوفاء. فقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] أي: أنكحك إحدى ابنتي على أن تخدمني ثماني سنين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} [القصص:27] إن أكملتها عشراً {فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] فهو تطوع {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] لن أجبرك على أن تخدم العشرة {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] أي: إذا عاشرتني، وعلمت كريم أخلاقي ستتم العشرة {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] هذا هو عقل الوفاء {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] إن أخذت بالحد الأدنى الذي شرطته عليَّ وقضيت إلى سبيلي {فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28]، أي: لا تشق عليَّ بأن تلزمني بالخدمة {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28].

شرح الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم)

شرح الحديث القدسي: (ثلاثة أنا خصمهم) روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم -وعند ابن حبان وابن خزيمة: ومن كنت خصمه خصمته-: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) مع أن الله عز وجل خصم للظالمين جميعاً إلا أنه نبه على هؤلاء الثلاثة.

معنى قوله: ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره

معنى قوله: ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه -أي: العمل المطلوب- ولم يعطه أجره) يأتي به لقضاء عمل معين على أجرة معلومة، وما أكثر الذين يرتكبون هذا، كأن يذهب الشخص بعقد عمل إلى أي بلد من البلدان وبأجرة معلومة فعندما يصل يقول له صاحب العمل: أعطيك تسعمائة ريال فقط، فيجد هذا الرجل نفسه مضطراً إلى أن يعمل بهذا المبلغ؛ لأنه اقترض ثمن التذكرة وثمن عقد العمل -الفيزة- ولا يستطيع أن يرجع، فالله خصم لهذا الرجل.

معنى قوله: من أعطي بي ثم غدر

معنى قوله: من أعطي بي ثم غدر قوله: (من أعطي بي ثم غدر) كأن تقول لرجل: أعطني هذه الأمانة، والله على ما أقول وكيل، أو الله شهيد على ما نقول، أو أعطني هذه بالله، فيغتر الرجل بكلامك ويعطيك، يظنك معظماً لله عز وجل، فإذا أكل الآكل هذه العطية فإن الله عز وجل خصمه، ومن كان الله عز وجل خصماً له فقد خصمه -أي: غلبه- قال تعالى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] فإذا دخلت في حمى الملك لا يستطيع أحد أن يصل إليك، وإذا أرادك هو فلا يحميك أحد منه قط، وهذا هو معنى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] عز جاره، فلا يغلب ولا يؤذى من كان الله عز وجل جاراً له. فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء. من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً. قال: ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً. قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة -: أن الرجل صاحب المال جعل يسأل عن صاحبه الذي اقترض منه المال، فقالوا له: إنه في مكان كذا وكذا. قال: رب! إني أعطيت المال بك فاخلف عليَّ. -كأنه ظن أن الرجل غدر به وأكل المال؛ لأنه موجود، سأل عنه فقيل: في المكان الفلاني طيب لماذا لم يأت؟ - قال: رب إني أعطيت بك فاخلف عليَّ. والرجل ينتظر مركباً ولا يجد، فلما يئس نظر إلى السماء، وقال: رب! أنت وكيلي -يعني: ماذا أفعل وقد أخذت المال بك؟ وماذا يقول الرجل عني؟ يظن أني غدرت، حنثت، كذبت، جعلتك جنة حتى أخذت المال بك. هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء! الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب. قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب. قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك). وفي صحيح ابن حبان: قال أبو هريرة: (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه). فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله. فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.

معنى قوله: ورجل باع حرا فأكل ثمنه

معنى قوله: ورجل باع حراً فأكل ثمنه فهؤلاء الثلاثة الذين يخصمهم رب العالمين أولهم: (من أعطي بي فغدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه) كأن يكون عنده عبد فيعتقه، ويقول له: أنت حر لوجه الله، ويكتم نبأ العتق، ثم يقع في ضائقة فيأخذ هذا العبد ويبيعه في الأسواق على أنه عبد، مع أن الله عز وجل أنجاه من ربقة العبودية بالحرية، فهذا الرجل خصمه رب العالمين. وإن أكبر مشكلة ومصيبة يتعرض لها المرء في حياته أن يكون عبداً مسترقاً، لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى لو أراد أن يتزوج لا يستطيع إلا إذا أذن له سيده، حتى وإن بلغت به العزوبية غاية المشقة فلا يجرؤ ولا يستطيع الزواج. قال صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد تزوج بغير أذن مواليه فهو عاهر) أي: فاجر. يحتاج أن يتزوج، ولكن سيده تعنت، قال له: لا زواج؛ فلا يستطيع الزواج. وكذا إذا شق عليه سيده بالخدمة فلا يستطيع أن يفر بجلده أبداً، ولابد أن يضل مكانه؛ لأن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق من سيده لا تقبل له صلاة ولا زكاة ولا صيام حتى يرجع). ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤدي ولد حق والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه) هذه هي التي يستطيع الولد أن يقول لأبيه: أنا معك رأس برأس إنما غير ذلك، فلا يستطيع أن يؤدي حق والده أبداً. فهذا الرجل عندما يعطي هذا المملوك حريته، ويكتمها ويبيعه بعد أن صار حراً يكون الله خصيمه يوم القيامة. فهذا الرجل الذي باع الحر وأكل ثمنه الله عز وجل خصمه.

من هديه صلى الله عليه وسلم في الوفاء وترك الغدر

من هديه صلى الله عليه وسلم في الوفاء وترك الغدر الوفاء من شيمة الأنبياء، كما روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس، في الحديث الطويل لما حدثت مناظرة بين هرقل وأبي سفيان في أمر النبي عليه الصلاة والسلام، (فقال هرقل لـ أبي سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال له: لا. قال: فهل يغدر؟ قال له: لا. قال: فبم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة). سبحان الله! أفمثل هذا يقاتل، إنهم -أي: العرب- فعلوا مثل ما قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56] لماذا؟ ما ذنبهم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] (فقال لـ أبي سفيان: ما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله -ولما جاء على الغدر- قال: وكذلك الأنبياء والرسل لا يغدرون). وفي كتاب الشهادات طرف من هذا الحديث عند البخاري أيضاً: قال هرقل لما قال له أبو سفيان: (إنه يأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي) أي: أنه لا يفعل مثل هذا إلا نبي.

قصة المغيرة بن شعبة والنفر الذين قتلهم وسلب أموالهم

قصة المغيرة بن شعبة والنفر الذين قتلهم وسلب أموالهم جاء في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية، قال في هذا الحديث: (وجاء عروة بن مسعود الثقفي فأتى المغيرة بن شعبة -وفي رواية: أنه تلثم-) وضع لثاماً على وجهه لما وجد أن عمه قادم -وهو عروة - وجاء بالسيف يظن أن عروة يريد شيئاً أو يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بالسيف، ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عروة يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، فيمد يده فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة بظهر السيف، فينظر عروة فلا يعرفه -أي: لا يستطيع أن يميزه لأنه ملثم- ثم يعود عروة فيمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام فيضربه المغيرة، حتى إذا تكرر ذلك أكثر من مرة قال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم: (من هذا الذي أزعجني وضرب يدي؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا ابن أخيك، هذا المغيرة بن شعبة، فقال عروة للمغيرة: أي: غدر! -أي: يا أيها الغادر- لا زلت تسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس). وكان من خبر المغيرة -وهذا هو الشاهد- أنه صحب ثلاثة عشر نفراً من قريش قبل أن يسلم، فشربوا الخمر جميعاً، فقام عليهم المغيرة فقتلهم وسلب أموالهم، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقص عليه ذلك. فقال له عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) ورد المال عليه ولم يأخذه، حتى يترفع عن الدنايا، وأنت تعلم أن الأنبياء أكمل الناس مروءة، فلا يفعلون شيئاً يشينهم عند العوام حتى لو كان مباحاً. موسى عليه السلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنو إسرائيل يغتسلون عرايا، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يغتسل في مكان بعيد، فقالوا: ما الذي يجعله أن يغتسل بعيداً عنا. إنه آدر) آدر: يعني: لديه عيب في الخصية؛ ولذلك هو لا يريد أن ينكشف أمامنا، فكونهم يغتسلون عرايا ولا ينكر عليهم موسى عليه السلام دل على أن هذا كان مباحاً عندهم، ولكنه ليس من المكارم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حييٌ ستير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)، ولما قال له بعض الصحابة: (إنني أكون وحدي فأكشف عن فخذي، قال: إن الله أحق أن تستحيي منه) فهذا وإن كان مباحاً لكنه ليس من مكارم الأخلاق، لذلك عافه موسى عليه السلام ولم يفعله، وكان يغتسل وحده بعيداً حتى اتهموه بهذه الفرية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضع موسى عليه السلام ثوبه يوماً على حجر ونزل يغتسل كالعادة، فأخذ الحجر ثوبه وفر، فلما رأى موسى عليه السلام أن الحجر أخذ ملابسه، انطلق يجري خلف الحجر وهو ينادي عليه يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر -أي: هات ثوبي أيها الحجر- فمر موسى عارياً يجري خلف الحجر، فمر على بني إسرائيل وهم يغتسلون عرايا فرأوه، فقالوا: ما بالرجل من بأس -أي: هذا الذي رميناه به ليس فيه-) وقد ذكر الله ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قصة حذيفة بن اليمان وأبيه مع كفار مكة

قصة حذيفة بن اليمان وأبيه مع كفار مكة لقد ضرب نبينا صلى الله عليه وسلم المثل الأروع في الوفاء وترك الغدر، حتى مع أعدائه، ولذلك احترموه؛ وكانوا يهابونه ويوقرونه، وكثير من الذين دخلوا الإسلام كان بسبب ما رأوا من شمائله، وقبل أن يعرفوا شيئاً من أحكام الإسلام، وكذلك الرأس، فكثير من الناس لا يفرق بين الدعوة والداعية، فإذا رأوا داعية كذاباً ممارياً ممارئاً مماطلاً ظنوا أن الدعوة كذلك؛ لأنهم لا يفرقون، وإذا رأوه وفياً كريماً سخياً اعتقدوا صحة هذه الدعوة. وأناس كثيرون دخلوا الدعوة لما نظروا إلى شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (خرجت أنا وأبي فلقينا كفار قريش، قالوا: إلى أين؟ قلنا: إلى المدينة. فقالوا: لا. إنكم تريدون محمداً. قلنا: لا نريد إلا المدينة. قال: فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له ذلك، فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم). وهؤلاء أعداء لكنهم أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يضع أمر الله تبارك وتعالى، فيقول: هؤلاء أعداء، قال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) لذلك قال حذيفة: (فشهدنا بدراً ولم نقاتل) كانوا حاضرين في القتال، وهذا من تعظيم الوفاء بالعهد.

من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس واللطف بهم

من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة الناس واللطف بهم الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فترك الغدر فضيلة، وأفضل منه الوفاء بالعهد؛ لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، ويأمر أصحابه أن يتركوا الغدر كما في حديث بريدة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً -يعني في غزة من الغزوات- يوصيه في خاصة نفسه بتقوى الله، ويقول: اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تقتلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا) كان كلما أمر أميراً يوصيه بترك الغدر؛ لأن ترك الغدر يخضع له القلب، وأنت رجل رأس في محل الأسوة، فقبيح جداً بالرأس أن يكون غداراً كذاباً. وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه اشترى بعيراً من أعرابي بأوسق من تمر الذخيرة -أي: عجوة- وقال: يا أيها الأعرابي! إني مشترٍ منك هذا الجمل، ثم دخل البيت يبحث عن تمر فلم يجد، فخرج الأعرابي، وقال: يا أعرابي! إنني ظننت أن في البيت تمراً من تمر الذخيرة لكني لم أجد، فقال الأعرابي: وا غدراه! - (وا غدراه)! يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر- فزجره الصحابة: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليغدر -الرجل أيضاً لا زال يتكلم: وا غدراه! - والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: إني ظننت أن عندي تمراً -يعني: إنما قال ذلك ظناً منه- قالت عائشة: فلما وجد -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- الأعرابي لا يفقه ما يقول أرسل إلى خويلة بنت حكيم بن أمية إذا كان عندها تمر من تمر الذخيرة، فوجد عندها تمراً فأعطى الرجل، وأخذ منه البعير، فقال الأعرابي: جزاك الله خيراً، لقد وفي). وفي هذا درس لكل رأس، وعلى وجه الخصوص الذين يوقعون في الأرض عن الله ورسوله: العلماء والدعاة هم أحوج الناس إلى هذه الوصية، تقول عائشة: (فلما رأى أن الرجل لا يفقه ما يقول سأل خويلة بنت حكيم) لابد من رحمة الناس، رجل لا يفقه لا تقل له: اضرب رأسك في الحائط، أنت حر، افعل ما بدا لك لا تقل هذا الكلام؛ لأن هذا يعود على دعوتك، فنحن نفتدي الدعوة بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا وأعراضنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام رحم هذا الرجل؛ ووفى له؛ حتى لا يضل يقول: وا غدراه! وكل مجلس يقول: غدر بي. إذاً لما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أراد أن يرحم الرجل من نفسه؛ لأنه لا يفقه. والنبي عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عن الغدر، وهذه كانت سيرته، بل كان سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام، فورث منه ذلك أصحابه، فلله در أبي بكر صديق الأمة كما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر قال: (لما جاء أبا بكر مال من العلاء بن الحضرمي قال: من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني) نتمنى أن تكون علاقة المسلمين ببعضهم بعضاً، كعلاقة النبي بـ أبي بكر وعلاقة أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم (من كان له دين على النبي صلى الله عليه وسلم فليأتني، ومن كان له وعد - مجرد وعد من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ديناً- فليأتني. قال جابر: فقلت له: إنه وعدني وحثا ثلاث حثيات في يدي. فلم يسأله أبو بكر بينة -لأنه لو سأله بينة في هذا الموقف الراقي العالي لعكر الموضوع- فأعطاه أبو بكر خمسمائة وخمسمائة وخمسمائة). لا ترم الناس بقلة الوفاء أيها الرامي، فلربما كنت تتقلب في ثياب الغدر، ولربما كنت أغدر الناس: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] والأيام دول. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم) الذي يقول: كل الناس غدارين، كل الناس كفار، كل الناس فسقة هو أفسق الناس، وهو أضل الناس؛ لأنه لا يعلم أقدار الخلق، من الذي جعله حاكماً بهذا في الشمول والعموم على خلق الله؟!! أتخذ عند الله عهداً، أم أطلعه الله على الغيب؟!! هذا نوع من الافتراء وعدم معرفة قدر النفس، لهذا عوقب بأنه أهلك الناس: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم). وقد ثبت في الصحيحين (أن موسى عليه السلام وقف في بني إسرائيل مذكراً فوعظ موعظة ذرفت منها العيون، ورقت لها القلوب، فلما قضى موعظته انطلق فانطلق خلفه رجل، فقال: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال له: لا) مع أنه أحال الحكم إلى موسى، يقول له: هل تعلم أنت في حدود علمك أن هناك من هو أعلم منك؟ قال: لا. ولو سئل المرء عن معرفته فقال: لا. فقد وقف عند ما علم، وقد أفلح من وقف عند ما علم، لكنها من نبي الله كبيرة؛ إذ أنه موصول بالسماء، ولا يتكلم إلا بأمر ربه، فعاتبه الله عز وجل لأنه لم يرد العلم إليه؛ فقال: (بلى. إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال: أي رب! كيف لي به؟) ثم قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا قصة موسى والخضر. فالرجل الذي يقول: هلك الناس، أو فسق الناس، أو كفر الناس، أو الناس كلهم مبتدعة، فقد جاء حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم). الوفاء بعقد النكاح من شيم النبلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في آخر وصاياه: (استوصوا بالنساء خيراً -وفي اللفظ الآخر: اتقوا الله في النساء- فإنكم أخذتموهن بكلمة الله). انظر إلى موسى عليه السلام: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] رجل يعرض ابنته، وبعض ضعاف العقول والقلوب يتصور أن الرجل لو عرض ابنته أنه يرميها، أو أن البنت رخيصة، فلذلك نقول لهذا العارض: انتقي من تعرض عليه، إن اللئام في الدنيا كثير، فأول ما يعرض ابنته يتصور هذا الزوج أن الوالد رماها، أو لعله يعيره بهذا العرض مع أنه لا يعير به، لكن صالح مدين انتقى واختار رجل يفر من فرعون، وعليه علامات الصلاح والتقوى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]. إذاً: أنت عندما تذهب لتخطب امرأة من أبيها إنما أخذتها بكلمة الله، أي: أن الرجل عندما يخطب البنت ويقول له: يا عم، وأنا تحت أمرك! ولما يتزوجها لا يقول هذا لماذا؟ هل أنت عندما أخذت المرأة من أبيها كان من ضمن ما ظهر منك أنك تسب وتجزع أو أنك تعاشرها بالمعروف؟! هذا لون من ألوان الغدر والخيانة. ولون من ألوان الغدر أيضاً: أن يأمل فيك الناس فلا يرونك حيث أملوا فيك، كأن يتمنى مثلاً والد العروس يتمنى أن هذا الولد يكون مثل ابنه مثلاً، فإذا بزوج البنت يخذله، وكلما وقع الرجل في ورطة لا يجد زوج البنت بجانبه، مع أنه لما تقدم للبنت أظهر أنه صاحب مروءة، هذا لون من ألوان الغدر، ينبغي على الإنسان العاقل اللبيب أن يترفع عنه. وقد كان من السلف إذا أمل الناس فيه أملاً فلم يجدوه عندهم يبكون، كـ سفيان بن عيينة رحمه الله: جاءه سائل يسأل فلم يجد عنده، فلما انطلق السائل بكى سفيان، فقيل له: ما يبكيك وأنت ما قصرت؟ قال: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل فلا يجد أمله! يرى أن هذه مصيبة. هنا درس في الوفاء لنتعلمه من بيت إبراهيم عليه السلام: إبراهيم عليه السلام مدحه الله تعالى في آيات كثيرة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] كل هذه أوصاف إبراهيم عليه السلام، ولا أعلم أن الله تبارك وتعالى جعل الأسوة مفعولة إلا فيه وفي نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لشمول فعله، أي: إبراهيم عليه السلام نحن نعلم شيئاً عن أسرته وحياته، ونبينا عليه الصلاة والسلام نعلم كل شيء عنه، فلا تتم الأسوة إلا إذا كانت جوانب حياة المتأسى به مضيئة، بحيث يتأسى به الناس على اختلاف مشاربهم، فلا يتأسى به في العقيدة مثلاً أو في الجهاد أو في الصبر فقط؛ بل في شتى مجالات الحياة. ونحن لا نعلم هذا إلا لنبينا عليه الصلاة والسلام، ففي أي جانب من جوانب الحياة، مثلاً في المزاح: فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا سنناً، بل قد علمنا كيف نقضي حاجتنا.

من هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل

من هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الأكل، قال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك). أنت تمد يدك أمام صاحبك وتأكل أكله أو تأكل من أمامه، فهذا من قلة المروءة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القران في التمر، أي: أن تأخذ تمرتين بتمرتين. وفي ذات مرة قال سليمان بن عبد الملك لبوابه: التمس لي أحداً يتغدى معي ونتفكه معه قليلاً. والأعراب رغم أنهم جفاة إلا أن لهم لفتات جميلة، فيمكن أن ينادمك بأبيات من الشعر، وبحكايات وغيرها. فجاء بأعرابي ووضعوا خروفاً محشواً بالفستق واللوز، فوضعه أمام الأعرابي وجعل يأكل، وكانت هناك شعرة على الخروف، فأخذها الأعرابي، فقال له سليمان: استل الشعرة من اللقمة، فوضع الأعرابي اللقمة على المائدة، وقال له: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعر -أي: أن تركيزك علي لدرجة أنك ترى الشعرة! وهو لم يكن يقصد أن يراقبه أبداً، ولكن غرضه أن يزيل الشعرة من الطعام- فقال الأعرابي: والله لا آكلتك بعد اليوم أبداً، فقام وذهب. فهذه مسألة تتعلق بالمروءات، والنبي عليه الصلاة والسلام لما علمنا آداب المزاح، وآداب الأكل والشرب وغيرها من الآداب لماذا؟ حتى تتم مروءة الرجل، ويكون شديد الاحتشام.

من هديه صلى الله عليه وسلم في المزاح

من هديه صلى الله عليه وسلم في المزاح كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح، ولا يقول إلا حقاً، وهذا هو الفرق بينه وبين سائر الناس، إذاً: سن لنا هدياً حتى في المزاح صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم عليه السلام سيد الحنفاء، قال صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله) فسبحان الله! كذبة في الله، فما بالك بصدقه؟!! والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمزح، ولا يقول إلا حقاً، فقد قال مرة لرجل: (إنا حاملوك على ولد ناقة، فقال: يا رسول الله! وما أفعل بولد ناقة -كيف أركب عليه-؟ فقال له: وهل تلد الإبل إلا النوق) وهذا الكلام صحيح، الجمل عمره مائة سنة، هو في الأصل ابن ناقة. إذاً: يمزح ولا يقول إلا حقاً. وما يروون عنه صلى الله عليه وسلم أنه لقي امرأة، فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً) -البياض في العين يعني العمى، قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] (ابيضت) أي: صارت كلها بيضاء، وأنت تعلم أن الحدقة التي يرى الإنسان بها تجدها ملونة وليست بيضاء، فأول ما تبيضّ فهذا دليل العمى. فقال لها: (الحقي بزوجك فإن في عينيه بياضاً فحزنت لذلك فلما جاءت زوجها قال لها: مالك؟ فقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني ألفيته يرى -ليس أعمى وما به شيء- قال: أوليس في عينيه بياض؟) نعم! في عينيه بياض، والمرأة فهمت أنه عمي، وهو صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً. وقال لامرأة عجوز: (لا تدخل الجنة عجوز؟ فجعلت المرأة تبكي، فقال: إن الله تبارك وتعالى خلقهم يوم عُرباً أتراباً) وأهل الجنة أبناء ثلاثين سنة -كما ورد في الحديث- لا يهرمون ولا يشيخون. فهذا مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر مثلاً -الذي هو آخر ضرب من مشكاة النبوة- كان يقول لجارة له: (خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام؛ فكانت تبكي، فقال لها: خالق الكرام واللئام واحد) فهي ظنت أن خالق اللئام خلقها إذاً: هي لئيمة. فالنبي عليه الصلاة والسلام سن لنا ذلك؛ رعاية لمقصد شرعي، وهو عدم الوقوع في الكذب، ورعاية لمقصد آخر، وهو: استتمام المروءة؛ لأن المرء الذي يكذب، ويتحرى الكذب، ويضحك الناس بالكذب؛ ساقط المروءة لا حشمة له، والذين يقولون: ساعة لربك وساعة لقلبك لا حشمة لهم، وكذلك كل الممثلين والذين يضحكون الناس بالحركات الساقطة لا حشمة لهم أيضاً. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من أكثر من ذكر شيء عرف به) فنبينا عليه الصلاة والسلام محل الأسوة، فكل جانب من جوانب حياته مكشوف لنا. والحمد لله رب العالمين.

حق الزوج

حق الزوج للزوج على الزوجة حقوق مختلفة ينبغي للزوجة القيام بها، فلا يجوز لها أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه، ولا تُدْخل أحداً بيته إلا بإذنه، كما يجب عليها أن تهيئ له البيت ليكون سكناً له، يأوي إليه بعد يوم حافل بالأعمال والسعي في فجاج الأرض طلباً للرزق، كما أن على الزوج إعانة زوجته في أعمال المنزل، وخير أسوة لنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك عن عائشة رضي الله عنها.

اختلاف العلماء في حكم خدمة المرأة لزوجها

اختلاف العلماء في حكم خدمة المرأة لزوجها إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سألته بعض النساء عن الجهاد وفضله، وأن الرجال يحوزون الأجر العظيم بذلك، فما للنساء في هذا الباب؟ فقال: (خدمتكن لأزواجكن تعدل ذلك) أي: تعدل الجهاد في سبيل الله، وهذا الباب فيه أحاديث مجتمعة يمكن أن يؤخذ منها حكم شرعي، وهذه الأحاديث تشير إلى حقيقة واضحة جلية، وهي: وجوب خدمة المرأة لزوجها. والمطالع لبعض الكتب الفقهية يرى بعض الآراء التي تقول: إن خدمة المرأة لزوجها ليست بواجبة، والوجوب الشرعي هو ما يلزم المكلف أن يفعله وإلا وقع في الإثم. وقال علماء الأصول في تعريف الواجب الشرعي: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه. ولأن الألفاظ عندنا لها دلالات فيجب أن نبين معنى اللفظ، عندما نقول: (وجوب خدمة المرأة لزوجها) أي: أن المرأة إن لم تخدم زوجها فهي آثمة، مستحقة للعقاب، فهذا البحث يختلف فيه بعض العلماء، فمنهم من يقول: إن الخدمة واجبة، ومنهم من يقول: إن الخدمة مستحبة فقط، بمعنى: أن المرأة إن خدمت زوجها فبها ونعمت، وإن لم تفعل فلا إثم عليها هذا هو رد القائلين باستحباب الخدمة فقط، مع أن القول بوجوب الخدمة هو الراجح، بل هو الصواب؛ لأن الله تبارك وتعالى قد قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] لهن وعليهن، فما لهن عند الرجال؟ أن يعاشروهن بالمعروف، وكما في الحديث: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت). كما أن الإنفاق عليها وعلى أولادها واجب وحتم لازم على الرجل، بحيث أنه يأثم إذا لم ينفق على امرأته؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وهذا يدلك على عظم الإثم.

حق الرجل على المرأة

حق الرجل على المرأة إذا كان للمرأة على الرجل مثل هذه الحقوق، فما هو الحق المقابل للرجل على المرأة؟

عدم خروج الزوجة من البيت إلا بإذن زوجها

عدم خروج الزوجة من البيت إلا بإذن زوجها من حق الرجل على المرأة: ألا تخرج من بيته بغير إذنه، سواء كانت في بيته بعد العقد عليها أو كانت في بيت أبيها قبل البناء بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه) وهذا واضح أن المقصود به بعد أن يبني الرجل بها. ولكن هناك حديث مطلق يمنع خروج المرأة من البيت بغير إذن الزوج، فسواء كانت المرأة في بيت أبيها أو كانت في بيت زوجها، طالما أنها زوجة لأحد الرجال، سواء بنى بها أو لم يبن، فلا يجوز لها أن تخرج من البيت إلا بإذنه. وهذا أدب عالٍ؛ لأن المرأة أسيرة عند الرجل، كما ورد في الحديث الصحيح: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم) والعاني هو: الأسير، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: لا شك أن النكاح ضرب من الرق. والدليل على ذلك: أن المرأة لا تستطيع أن تتزوج وهي متزوجة؛ لأنها مسترقة، ولا تستطيع أن تطلق نفسها وهي تحت الرجل، فهذا يدل على أنها أسيرة، فهذه المرأة المأسورة لا يحل لها أن تخرج من الأسر إلا بإذن زوجها. ليس معنى هذا أنه امتهان للنساء أنهن عبيد، لكن معنى الرق: أي أنها ليست ملك نفسها، أي: لا تستطيع أن تتصرف في نفسها، لا بد أن ترجع إلى المالك، والزوج هو المالك.

ألا تدخل الزوجة في بيت زوجها من يكره

ألا تدخل الزوجة في بيت زوجها من يكره لا يجوز للمرأة أن تأذن للدخول في بيته إلا بإذنه، فلا يجوز لها أن تدخل أباها أو أمها أو أخاها بيته إن كان يأبى ذلك إلا بإذنه، ولا تثخن بصدره، أي: لا تأتي من الأفعال ما يثخن صدره ويؤلم قلبه. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت يزيد، فقال لها: (أي هذه! أذات بعل أنت -أي: ذات زوج-؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في خدمته- قال لها: فانظري أين أنت منه، فإنه جنتك أو نارك) هل هناك امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسمع مثل هذه الأحاديث ثم تعق زوجها؟ (انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك أو نارك) أي: إن أطعته دخلت الجنة، ولكن بفعل الطاعات الأخرى؛ لأن بعض النساء يتصورن أنهن إن أطعن أزواجهن وتركن كل شيء دون ذلك أنهن في الجنة وهذا محال! كل هذا بشرط أن تؤدي الواجبات المفروضة عليها كمسلمة، ثم تطيع زوجها، أما أن تظن أن طاعة الزوج ممكن أن تنجيها إن تركت الصلاة أو صوم رمضان أو نحو ذلك هيهات! (إنما هو جنتك أو نارك) فدل على أن طاعة الزوج من أسباب دخول المرأة الجنة. وفي الحديث الصحيح: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة الثمانية شئت) فهذا الحديث يدل على أن طاعة الزوج من الأشياء التي إذا فعلته المرأة دخلت الجنة. جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا لعنتها الحور العين؛ تقول لها: قاتلك الله لا تؤذيه، إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا). وقد أخذ بعض العلماء من هذه الجملة الأخيرة (يوشك أن يفارقك إلينا) أن الرجل إذا أحب زوجته في الدنيا وجمع الإيمان بينهما كانت زوجته في الآخرة، وأنه إن كرهها في الدنيا وملها أبدله الله تعالى من الحور العين.

ألا تخرج الزوجة شيئا من بيت زوجها إلا بإذنه

ألا تخرج الزوجة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه لا يجوز للمرأة أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، كما لا يجوز لها أن تتصدق إلا بإذنه، ولا تعطي أهلها شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، وفي سنن أبي داود والترمذي وحسنه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع: (لا تخرج امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه. قالوا: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا) ومعنى الحديث: أنه إن لم يجز للمرأة أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه فكيف تخرج الطعام الذي هو أفضل أموالنا؟! لا يجوز لها. لكن إذا نظر المرء إلى بعض الأحاديث الأخر رأى قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً-: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فله مثل أجرها) فهذا بظاهره يؤذن أن تنفق المرأة من بيت زوجها بغير إذنه. وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها بغير أمره كان لها نصف الأجر) فهذا يدل على أنها ليست آثمة، بدليل أن لها نصف أجر زوجها الذي اكتسب. وهذه الأحاديث لا يضاد بعضها بعضاً؛ لأن الأمر في الحديث الأول إنما يفرض على العرف، بمعنى أن يأذن الرجل إذناً دائماً للمرأة أن تنفق، أو أن تعلم المرأة من حال زوجها أنه إذا علم بإنفاقها للصدقات لم يتضايق ولم يمنعها -من خلال قرائن الأحوال- فإذا علمت المرأة ذلك من أمر زوجها، وأنه إن علم بتصدقها من البيت لم يغضب؛ جاز لها أن تنفق ولها نصف الأجر. أما إن كانت تعلم أن الرجل لا يأذن ويتضايق، فلا يجوز لها أن تتصدق، قال الإمام البغوي: أجمع العلماء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، فإن فعلت فهي مأجورة غير مأزورة، وهذا الإجماع إنما خرج من معاني بعض الأحاديث الصحيحة كحديث أبي أمامة الباهلي. إذاً: لا تضارب بين الأحاديث، لكن ينبغي أن نعلم شيئاً، وهو: أن المرأة إن كان لها مال خاص؛ كأن يكون مهرها، لأن بعض النساء يأخذن المهر كله، فهذا المهر حقها، فلها مطلق الحرية أن تتصرف فيه بغير إذن زوجها. وهناك صورة أخرى ذكرها العلماء، قالوا: إن أعطاها الرجل مالاً خاصاً بها فلا ترجع إلى زوجها في الإذن، فلو كان يعطيها مصروفاً شخصياً فلها أن تتصرف به بحد معرفتها؛ لأنه صار ملكاً لها، لكن ينبغي للنساء أن يستأذن -ولا أقصد بـ (ينبغي) أنه واجب شرعاً- أزواجهن حفاظاً على قلوبهن من التغير، فهذا من حق الرجل على المرأة: أن تصون ماله، لا تبعثره ولا تنثره، إنما القيد في مثل هذه المعاملات بالمعروف. كما جاءت هند بنت عتبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: لا تأخذ بقصد تبديد مال الزوج؛ فإن هذا حرام ولا يجوز.

القيام بخدمة الزوج

القيام بخدمة الزوج قال هؤلاء: الاستمتاع؛ لأن العقد إنما نص فيه على الاستمتاع وليس على الاستخدام. فيقال: إن المرأة أيضاً تستمتع بالرجل، فهذا حق مشترك، كلاهما يستمتع بصاحبه، فما هي التبعة على المرأة مقابل هذه الخدمات الهائلة بالنسبة للرجل؟ هل الرجل يعجن ويخبز ويغسل الملابس وينظف البيت؟ فما عمل المرأة إذاً؟! وأين قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]؟ ما الذي عليهن إذاً؟ إذا كان الرجل يفعل كل ذلك، ويضرب في الأرض حتى يكسب قوته وقوت أولاده من عشرات الأفواه والأيدي كل يوم، ثم يأتي في خاتمة اليوم أو خاتمة الأسبوع أو الشهر فيعطيها ما تريد كيف يقال: إن المرأة ليس عليها أن تخدم الرجل؟! بل وصل الشطط ببعض هؤلاء العلماء إلى أن قال: يلزم الرجل إن كانت زوجته تدخن أن يأتي لها بالسجائر! ويزعم أن هذا معروف، كيف والتدخين حرام؟ يعني كيف لو أرادت المرأة -مثلاً- أن تخرج متبرجة أو تشرب خمراً، يكون عقوقاً من الرجل أن يمنعها من ذلك؟! هذا شطط. والذين يقولون باستحباب الخدمة فقط، لا أتصور أحداً منهم لو جاء بأضياف إلى البيت فقال لامرأته: أعدي طعاماً. فقالت له: إن الخدمة مستحبة، أي: لا جناح علي ولا إثم إن لم أخدمك أنت وأضيافك، التمس من يفعل لك ذلك. لا أتصور أن يقف الرجل عند القول باستحباب الخدمة، بل لعله يطلقها. المعروف في العقود غير الموقوف عليها أن العرف هو الذي يتحكم فيها، فإن كان على الرجل حق فعلى المرأة حق أيضاً، وإلا لم يكن هذا من العشرة بالمعروف. قالوا أيضاً: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً، وهذا من أعجب ما يكون، هل خدمة فاطمة كانت إحساناً؟ في الحديث الذي رواه الشيخان: أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب خادماً، وقد جاءه رقيق. وفي بعض الروايات: أن علياً لما رآها تخدم وقد تورمت يداها من الخدمة قال لها: قد جاء أباك رقيق، فاستخدميه -استخدمي أحد هؤلاء الرقيق- فذهبت إلى البيت فلم تجده، فتركت الخبر عند عائشة رضي الله عنها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقصت عليه عائشة مطلب فاطمة رضي الله عنها ذهب إلى البيت، فوجدهما قد أخذا فراشهما، قال: مكانكما، فصعد على الفراش، قالت فاطمة: حتى وجدت برد قدميه عند صدري. فقال لها: (أفلا أدلك على خير لكما من خادم؟ -وفي بعض الروايات-: قال لهما: أفلا أدلكما على خير من خادم؟ تسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، وتكبراه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم) سئل علي: أما تركت هذا؟ قال: قط. قيل: ولا ليلة صفين -المعركة المشهورة- قال: ولا ليلة صفين). لو كانت خدمة المرأة مستحبة فقط لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: إن الخدمة ليست بواجبة عليها، أما وقد قال ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحداً؛ فدل ذلك على أن الخدمة واجبة على المرأة، وهو قول ابن حبيب، وقول أبي ثور، وهو وجه في مذهب الحنابلة. وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن أسماء رضي الله عنها، قالت: (كنت أقوم على خدمة الزبير فكنت أحتز لفرسه، وأعلفه، وأسوسه، وأقوم عليه) ومعلوم أن هذا كله كان يقوم على عين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يرى ذلك. وفي صحيح البخاري أن أسماء رضي الله عنها كانت تقول: (وكنت لا أحسن أخبز، وكن لي جارات صدق من الأنصار كن يخبزن لي) فخدمة المرأة لزوجها كانت مشتهرة، ولا شك أن بعض النساء كن يكرهن ذلك على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يؤثر قط أنه قال لرجل من الرجال: إن خدمة المرأة مستحبة فقط، ويلزمك أن تأتي للمرأة بخادم؛ فدل ذلك على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة. ومسألة أن العقد إنما هو للاستمتاع فقط مسألة في غاية التهافت؛ لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة دلت على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة، لكن الخدمة إنما تكون بالمعروف، لا تكلفها فوق طاقتها، فإنه ليس على المرأة حتم لازم أن تخدم أم الرجل، أو تخدم أباه، هذا ليس حتم لازم على المرأة، ولكن تندب إليه، فلا تكلفها غصباً بالأعمال الجسيمة؛ لأن كل شيء مقيد بالمعروف، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وليست كخدمة الحضرية، كل فعل إنما يكون بالمعروف. ثم لا تنس أن الخدمة وإن كانت على المرأة واجبة إلا أنه يستحب للرجل أن يشارك أهل بيته في بعض العمل، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون في خدمة أهله) وفي الشمائل للترمذي: (يفلي ثوبه، ويقوم على إصلاح نعله، فإذا أذن للصلاة خرج إلى الصلاة) هذا هو مقتضى المعروف: أن تشارك زوجك في بعض العمل لاسيما إن وجدتها أثقلت بكاهل الولد أو أثقل كاهلها بالعمل.

التشديد على الأمر بطاعة الزوج

التشديد على الأمر بطاعة الزوج هناك حقوق أخرى للرجل على امرأته لعظم حقه عليها، فحق الرجل أعظم وآكد، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) وقد ظن بعض الناس أن السجود ليس هو المشهور المعروف أن تسجد على الأرض، وإنما السجود أن تحني ظهرها. شبيه بتحية الأعاجم وهذا خطأ، وإخراج للفظ عن مدلوله بغير دليل. يقول علماء البيان: إن الألفاظ قوالب المعاني، فمثلاً: إذا سمعت كلمة (يد) فإن المعنى المتبادر إلى ذهنك أنها اليد التي تتكون من خمسة أصابع، هل يخطر على بالك إذا سمعت كلمة (اليد) أنها بمعنى النعمة؟ لأن المعنى الذي وضع هذا اللفظ له يقتضي هذا المعنى المتبادر إلى أذهان الجميع. كقوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] الذين لجئوا للتأويل قالوا: إن (اليد) هنا بمعنى النعمة، وهذا إخراج للفظ عن الغالب المعروف، ولكن لا نشبه ربنا بخلقه، تعالى الله عن ذلك، كل شيء يخطر ببالك فالله خلاف ذلك، له يد تبارك وتعالى كما أثبت لنفسه، لكن ليست كيد المخلوقين، لا نستطيع أن نتصورها. إنما إن قلت: إن فلاناً له عليّ يداً، فالمقصود باليد هنا النعمة، والجملة تؤدي إلى هذا المعنى، وهذا ما يسميه العلماء بالقرينة الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي المجرد، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (بينما رجل في الطريق يزور أخاً له، إذ بعث الله له ملكاً في صورة رجل، قال له الملك: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إلى قرية كذا أزور أخاً لي. قال له: هل ترى أن له عليك يداً؟ -أي: نعمة، فأنت تزوره بمقتضى هذا الجميل؟ - قال: لا، غير أني أزوره في الله تبارك وتعالى، قال: فإني رسول رسول الله إليك، يخبرك أنه يحبك كما أحببته فيه). فاللفظ: (هل ترى له عليك يداً؟) لا يقال: (عليه يد) هي اليد الحقيقية؛ لأن الجملة لا تعين على ذلك، فإذا ورد لفظ السجود في الحديث لا يتبادر منه إلا السجود المعروف (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. مما يدل على أن المقصود بالسجود هو السجود على الأرض: ما ورد في سياق هذا الحديث وغيره (أن معاذاً رضي الله عنه لما كان بالشام رأى النصارى يسجدون لأساقفتهم، فأول ما رجع ورأى النبي عليه الصلاة والسلام خر على الأرض ساجداً، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله! رأيتهم يسجدون لأساقفتهم فأنت أحق أن أسجد لك، فقال: إن السجود لا يكون إلا لله) فالسياق واضح جداً، وهو أن السجود كان على الأرض. ومن هذا الحديث استدل العلماء على العذر بالجهل؛ لأن الرجل إن سجد لصنم أو لبشر وهو يعلم أن السجود لا يكون إلا لله كفر. وأخذ العلماء من هذا الحديث أن الرجل إن سجد وهو لا يدري أن مثل هذا السجود يكفر العبد بفعله؛ عذر بجهله، وإلا لو كان لا يعذر بجهله لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: قد كفرت بهذا الفعل، اذهب فاغتسل، وقل الشهادتين وادخل في الإسلام، أما أنه لم يقل له شيئاً من هذا، وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فدل على أن الجاهل إذا فعل فعلاً من أفعال الكفر لا يعلم به أنه يعذر. فهذا يدل على أن السجود المقصود به: السجود الحقيقي المعروف، أفرأيت إلى هذا الحديث، يقول: (إن كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ثم تأتي امرأة تقصر في حق زوجها! لا ينبغي لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تفعل ذلك.

التحذير من الوقوع في الخلافات العائلية

التحذير من الوقوع في الخلافات العائلية إن الحياة الدنيا قصيرة لا تتسع للنزاعات، لأنك إن اشتغلت بالنزاع مع غيرك أو مع زوجك ضاعت حياتك، وضاع الوقت الذي ابتلاك الله عز وجل فيه بالعمل، أن تلقى الله وقد خاصمت الكل، وملأت صدرك بالحقد؛ لأجل مسائل توافه ليس لها ثمرة. هذه الدنيا قصيرة جداً، كما ورد في بعض الأحاديث -ولكنها غير صحيحة، لكن ورد هذا على بعض ألسنة السلف-: أن الدنيا خطوة رجل مؤمن فيروى في بعض الأحاديث أو بعض الإسرائيليات أن نوحاً عليه السلام -وهو أطول الأنبياء عمراً- سئل عن الدنيا؟ فقال: باب دخلت منه وباب خرجت منه، ولا يحس المرء بهذه الحقيقة المرة إلا وهو يعايش ملائكة الله تبارك تعالى وهي تنزع الروح، الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة سلهم: هل الدنيا قصيرة أم لا؟ تجدها قصيرة، فهي لا تستحق النزاعات. لقد وصف الله عز وجل الزواج أنه سكن، بل وصف الرجل مع المرأة في عشرتهما بأبلغ من ذلك: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فانظر إلى قوة هذا التعبير كلاهما لبس الآخر ملابسة! لم الخصومة والنزاع؟ وتتصور المرأة أن الرجل متسلط عليها؟ هب ذلك، إن الظلم لا يدفع بظلم مثله، والمثل الجائر الفاسد الذي يجري على ألسنة الناس (الكبر على أهل الكبر صدقة) متى كان الكبر صدقة؟ متى كانت المعاصي تدخل في جملة الصدقات التي يتقرب إلى الله بها؟ لا يجوز أن يُدفع الباطل بباطل، إنما يدفع بحق أو يصبر، لا تقل: كما ظلمني أظلمه إذا ظلمك أحد فادفع ظلمه بحق أو اصبر عليه، لكن الله تبارك وتعالى الذي حرم الظلم على هذا الإنسان حرمه عليك أيضاً، فالمرأة لا تتصور أن الزوج خصم لها، فتصبر عليه، فإن صبرها عليه لها به أجر. أين نحن من مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الترمذي وغيره-: (رحم الله عبداً استيقظ من الليل، فأيقظ امرأته -أي: لتصلي معه- فإن أبت نضح الماء على وجهها، ورحم الله امرأة استيقظت من الليل فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت الماء على وجهه فأيقضته). صورة مختلفة تماماً للبيت المؤمن الصالح، ولكن ينبغي الالتزام أو فهم معنى النضح، النضح ماء خفيف جداً، يكون باليد أو بالفم، فلا تأت بوعاء ماء وترشه! لا، ماء خفيف جداً. ثم يجب على الرجل أو المرأة أن يترفق كلاهما بالآخر في هذا الباب، هب أن الرجل متعب أو المرأة متعبة كأن تكون طيلة اليوم في عمل البيت، ليس واجباً أن توقظها، إنما هذا ندب تندب إلى هذا الفعل إن علمت راحة المرأة. عرضت علي حالة في غاية العجب: رجل تزوج امرأة، وأرادا أن يطبقا هذا الحديث، ولكن المرأة تستيقظ في الفجر والرجل لا يستيقظ؛ من شدة تعبه وعمله في اليوم، وكان يعمل عملاً شاقاً، ويأتي في الليل متأخراً، فكانت توقظه فيأبى، فأغلظت المرأة عليه في الإيقاظ، وقالت: كيف تصلي الفجر متأخراً؟ طلقني. ولم يكن مضى على زواجهم أكثر من ثلاثة أسابيع، قال لها: اذهبي فأنت طالق. ثم جاءت المرأة تستفتي في هذا الأمر، فقالت: هل يجوز أن أقول هذا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام عرضت عليه قصة كما في سنن أبي داود أن امرأة صفوان بن المعطل السلمي شكت زوجها للنبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس، فقالت: يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس. فقال صفوان: يا رسول الله! لا تعجل علي. فأما قولها: (يضربني إذا صليت) فإنها تصلي بسورتين -أي: بعد الفاتحة- وقد نهيتها عن ذلك، وأمرتها أن تصلي بسورة واحدة، فقال لها: أطيعي زوجك -لأن الصلاة تنعقد بالفاتحة فقط بدون قراءة سورة، فكيف إذا كانت المرأة تؤمر بسورة واحدة، وهذا مستحب، وطاعة الزوج فرض-. وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فإني رجل شاب، وهي تستأنس الصوم، ولا تستأذنني، فكنت آتيها فأفسد عليها صومها. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) وهذا في غير رمضان. أما قولها: (لا أصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس) فإنا آل بيت عرف عنا ذلك، فواضح من سياق الحديث أن هذه جبلة، فإنه إذا نام ينام نوماً عميقاً لا يستيقظ، ولا يملك أن يستيقظ وإن أيقظه أحد، والشريعة سمحة- فقال عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظت فصلِ؛ لأنه جاء في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) فكيف تقول له: طلقني؟ لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا

دراسة جدوى حياة مسلم

دراسة جدوى حياة مسلم إن الإنسان الكيس والتاجر الحصيف إذا أراد أن يدخل في مشروع من المشاريع فإنه يقارن بين ما سينفقه في هذا المشروع وما سيعود عليه من مكاسب منه، ولا يقبل بالمكسب القليل فضلاً عن الخسارة. والإنسان المسلم في هذه الحياة إنما مثله كمثل التاجر، فينبغي عليه أن يكون تاجراً حاذقاً؛ فلا يقبل بأقل من ربح حياته الأخروية التي لا انقطاع لمداها ولا إحاطة بمنتهاها، ولا يحتاج منه لأجل ذلك إلا العمل لها في حياته الدنيا ذات السنين المحدودة، والأنفاس المعدودة.

قياس الأعمار بالأعمال

قياس الأعمار بالأعمال إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار. قال الله عز وجل: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:21 - 24]. فما هي هذه الحياة التي ندم الكافر على تضييعها حين وقف على شفير النار، ورآها يحطم بعضها بعضاً؟ هذه الحياة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، و (الحيوان): مصدر حياة، أي: هي الحياة الحقيقية، وهي الحياة الدائمة التي لا تنقطع. هذه الحياة هي التي ندم الكافر على تضييعها، ولا يحسب من عمر المرء حقاً إلا ما كان ذاكراً فيه لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة يضيعها ابن آدم لا يذكر الله عز وجل فيها إلا ندم عليها يوم القيامة). فإذا كانت الحياة الحقيقية هي طاعة الله عز وجل، فتعالوا لنتأمل في دراسة جدوى حياة إنسان يعيش ستين سنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك) فنسبة الوفيات الكبرى من أعمار هذه الأمة تكون ما بين الستين إلى السبعين عاماً، وقليل هو الذي يصل إلى الثمانين، وأقل من ذلك من يصل إلى المائة، وأقل القليل من يتجاوز المائة.

حين تكون تجارتك مع الله

حين تكون تجارتك مع الله دراسة جدوى حياة الإنسان إذا أراد أي تاجر أن يفتتح محلاً تجارياً، فقبل أن يقدم على هذه الخطوة فإنه يصنع ما يسمى بدراسة الجدوى، فينظر إلى المكان، وينظر إلى القوى الشرائية في هذا المكان أهي عالية أم لا، ثم ينظر إلى حاجة المشتري حتى يعين نوعية البضاعة التي يبيعها، فإذا هو لم يحسب هذه الحسابات كلها كان تاجراً خاسراً. فدراسة الجدوى شيء أصيل عند بني آدم لمحبتهم للبيع والشراء، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] اشترى: أي أن القضية عبارة عن صفقة وعقد بيع، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175]، وقال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] (يشرون) أي: يبيعون. فهذه المعاني أوصلها الله عز وجل لنا في صورة عقد بيع وشراء؛ لأن العباد بطبيعتهم جبلوا على حب البيع والشراء، فتعالوا لنغرس أعظم رأس مال للإنسان، وهو حياته وأوقاته، لنرى هل يخرج من هذا السوق مغبوناً أم خاسراً، فالذي ضيع وفرط في حياته الماضية ينبغي عليه أن يفيق؛ فإن العمر يمر. أنت الآن اقتربت من الموت خطوة عن الأمس، وبالأمس كنت أبعد عن الموت يوماً، وأنت الآن أيضاً أبعد عن الموت منك في غدٍ -إذا حفظ الله حياتك إلى غد- وهكذا. إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم يقربنا من القبر حياة الإنسان ستون سنة: أولاً: هو ينام عشرين سنة، لأن ثماني ساعات في اليوم في ستين سنة محصلتها عشرون سنة، فهو بهذا لا يحاسب على عشرين سنة من حياته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: النائم حتى يستيقظ)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون). ثم هو لا يؤاخذ حتى يصل إلى سن البلوغ، وسن البلوغ ينحصر بين عشر سنين وخمس عشرة سنة، فبإضافة خمس عشرة سنة مع عشرين سنة يكون مجموعها خمساً وثلاثين سنة، وهو لا يؤاخذ من يوم أن يولد حتى يبلغ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الغلام حتى يحتلم). كم بقي من الستين عاماً؟ خمسة وعشرون سنة، وقد يطول نومك فتزيد سنوات النوم، وقد تمرض وتلزم الفراش عشر سنوات أو خمس سنوات أو سنة أو شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل، لكننا إذا افترضنا أن المرء كان صحيح البنية، لم تعترضه الآفات فالعمر الحقيقي الذي يؤاخذ به أمام الله خمسة وعشرون عاماً فقط، وهذه هل تستحق أن يضيع المرء من أجلها حياته الأبدية؟! أين القصور من عهد عاد؟!

كم من حسرات في بطون المقابر

كم من حسرات في بطون المقابر من المعروف أن القبر هو أول منازل الآخرة، وهذه الخمسة وعشرون سنة! تعد (تأهيلة) فبعض الناس يقضي خمسة وعشرين عاماً في السجن على ظهر الحياة، ثم يخرج ليستأنف حياته من جديد. أين الذين ماتوا من عهد عاد؟ عشرات القرون ومئات القرون مرت على أناس يعذبون، وهم في أول منازل الآخرة، وتلك الأعوام لا تقاس بخمسة وعشرين عاماً فقط من الحياة على الأرض؟! فما أشد غربة المفقود إذا لم يكن له زاد يتزود به. وآية ذلك تصور أنك في غرفة بمفردك ولا أقول: تحاسب أو تعذب أو تؤاخذ، فلا أحد يطرق عليك الباب، ولا أحد يتصل بك، ولا أحد يكلمك، وظللت على هذا مائة عام، أضف إلى ذلك أن الإنسان جبل على حب الخلطة، فإذا لم يكن له أنيس من نفسه وصبّر نفسه ووطّنها على ذلك فإنه يصاب بالملل والضجر، وإنما سمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس، وتأمل قول الله عز وجل: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] إذا انقطع عنك حبل أهلك، وحبل ولدك؛ شعرت بحجم الغربة، فهذا الميت يا له من غريب! كم من حسرات في بطون المقابر!! لو أذن لكل ميت أن يتكلم لقال: أهلكتني (سوف) و (السين) سأتوب سوف أتوب سأتصدق سوف أتصدق، سأصلي سوف أصلي وهكذا. مات كثير من الناس ولم يحققوا أمنياتهم، فمات وفي نفسه غصة، لكنه بكى سنين عدداً يؤاخذ على خمسة وعشرين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا ما يستقبلنا إذا مات الإنسان. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليسمع وقع نعالهم إذا انصرفوا عنه) وتأمل! رجل صار فريداً يسمع وقع نعال ذويه وهم يغادرونه ويتركونه، ويسأل السؤال المعتاد الذي أعلمنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أسئلة هي محصلة خمسة وعشرين سنة: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ لقد ظل حياته كلها لا يفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، والعجيب أنه في ساحة العرض، وإذا بعث العباد جميعاً، وخافوا جميعاً، يقول بعضهم لبعض: ألا منقذ ينقذنا مما نحن فيه؟ فقال بعضهم لبعضٍ: هلم إلى الأنبياء سبحان الله! ألم تر إلى هذا اللؤم؟ تذهب للنبي الآن تريد شفاعته، وقد ظللت طيلة حياتك لا تعرج على سنته، وتكتب ضد الذين يلتزمون بسنته، وتحيك المؤامرات ضد هؤلاء الذين يقتدون بسنته! تريد شفاعته الآن؟! هذه هي طبيعة اللئيم. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] أيها المرتشي الذي ارتشيت: لماذا قبلت الرشوة؟ يقول: أطعم أولادي؟ لماذا تاجرت بالمحرمات؟ يقول: لأولادي. فلماذا تضحي بولدك الآن؟ أنت لا تعرضه لشيء يسير، أنت تعرضه لنار جهنم، التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (يؤتى بأنعم أهل الأرض -الذي ما ذاق بؤساً قط، ولا مرضاً قط، وكان سيداً مطاعاً، تعقد عليه الخناصر، يؤتى بهذا الرجل- فيغمس في النار غمسةً واحدة فقط ثم يخرج، فيقال له: هل مر بك نعيم قط -أرأيت في حياتك كلها يوم راحة-؟ يقول: لا، وعزتك ما مر بي نعيم قط) فكيف إذا كان من الكافرين؟! وهذه ما هي إلا غمسةٌ واحدة فقط، فما بالك الآن أيها المجرم تعرض ولدك لدخول النار، {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]، قال: رب! إذا لم يكف ولدي {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] خذوا امرأتي وخذوا أخي، وإذا لم يكف ولدي ولا امرأتي ولا أخي {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13] خذوا الأسرة بكاملها، وإذا لم تكف الأسرة بكاملها، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:14] اطرحهم جميعاً في جهنم، المهم أن أنجو أنا. فانظر إلى الأنانية! هل الأنانية لم تكن موجودةً عنده؟ بلى كانت موجودةً في الدنيا لكن لم يظهر مقتضاها، بدليل أن هذا الإنسان لو وقف رجلٌ أمامه لداسه، وكل إنسان عنده نموذج من الغبن وقلة الوفاء، لكن لم يظهر مقتضى لهذا المجرم حتى يضحي هذه التضحية، لكن لها ثمرة في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول عن هذا اليوم العظيم {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:103 - 104].

كيف تعد للسؤال جوابا؟

كيف تعد للسؤال جواباً؟ إن حياتك الحقيقية إنما هي في طاعتك لله عز وجل، كل دقيقة تمضي بغير ذكر فإنها خسارةٌ على العبد، ألزم نفسك في هذه اللحظات بما يقربك إلى الله عز وجل، من ذكرٍ أو تأملٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكر، أو سدّ حاجة إنسان، أو تعليم جاهل، لا تضيع لحظاتك؛ فإن اللحظات هي العمر، وقد علمنا أن خمسة وعشرين عاماً فقط يسأل العبد فيها: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ بعض الناس يتصور أنه يستطيع أن يقولها، لأنها كلمة مذللة وسهلة، ولكن هذه الكلمة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، هذه التربة شربت من دماء الأبرار بسبب هذه الكلمة، الذين ماتوا وضحوا وجاهدوا وتعرضوا للرهق بسبب هذه الكلمة، فهي ثقيلةٌ جداً، ولو كانت خفيفة ما أعرض عنها أكثر العباد؛ لأن لها تبعات، إنها تجعل المرء غريباً في أهله، تفقده الأنيس وهو حي في أهله، ولذلك سماها الله عز وجل أمانة، وهذا يعني أن الذي لم يأت بها خائن لميثاق العبودية الذي أخذه الله عز وجل على العبد يوم خلقه، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] فقال لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، فإنما أخذ الله شهادة المرء على نفسه حتى لا تكون له حجة، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149]. ولذلك سيأتي المجرم الأحمق يوم القيامة، الذي أغلق على نفسه الباب وهو يفعل المعصية، وظن أن الله لا يعلم كثيراً مما يفعل، فجاء يوم القيامة وقد ظن أنه بعدما استتر أن لا حجة عليه، فلما وقف أمام الله عز وجل ليحاسبه قال العبد الأحمق مبادراً ربه: رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى. قال: فإني لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي. لأنه لما فعل المعصية كان وحده، وهو يظن أن الله عز وجل لا يستطيع أن يقيم عليه الحجة، لذلك بادر الله بهذا القول. فقال الله عز وجل: لك ذلك، وختم على فمه، فنطقت يده، ونطقت رجلاه، ونطق فخذه بما كان يعمل، فقال: تباً لكُن، فعنكن كنت أجادل وأدافع {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. فكلمة التوحيد بتكاليفها أمانة، فلم تفرط وأنت على ربك قادم؟؟ الله عز وجل هو الملجأ لعباده، فلا يكون الفرار منه إلا إليه. إنك إذا خفت ظالماً فررت إلى من يمنعك منه، لكن الله عز وجل لا يُفرُ منه إلا إليه، فهو الذي قد أحاط بك، وأحكم قبضته عليك، وأنت تعلم أنك إليه راجع، فلماذا التمادي في العصيان وأنت ترجع إلى ربٍ غفورٍ ودود؟! وتأمل -أيها المسلم- هذا الحديث الرائع الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، لتعلم قدر رحمة ربك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (آخر رجلٍ يخرج من النار ويدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة، ويحبو مرة -أي: ينكفئ على وجهه مرة- وتلفحه النار مرة، فهو ينادي ربه عز وجل ويستغيث به، قائلاً: رب قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فأخرجني منها. فيقول الله عز وجل له: لئن أخرجتك من النار تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها، فيخرجه من النار، فما إن خرج حتى التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة) الحديث. أنت في اليوم الشديد الحر تأوي إلى الظل، وتشعر بقيمة هذا الظل في الحر، فما بالك بمجرم خارج من النار أعاذنا الله وإياكم منها، فإن أعظم يوم حر على وجه الأرض قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه (هو نفس من جهنم) لأن جهنم اشتكت إلى ربها، قالت: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، مثل القدر الذي يغلي، فأنت تجعل فيه ثقباً حتى لا ينفجر القدر من البخار، فالنار يأكل بعضها بعضاً، فاشتكت إلى الله، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، قال عليه الصلاة والسلام: (فنفس الصيف هو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس الشتاء هو أشد ما تجدونه من البرد) فالرجل خرج من النار ووجد شجرة، فلما رآها ما أطاق ولا تحمل، فنسي العهد الذي أعطاه ربه منذُ قليل، (وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها، وأشرب من مائها. فقال الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيقول له: لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة)، فيشعر بالبرد، ويشرب من الماء البارد الذي حرم أهل النار منه؛ لأن الماء الساخن لا يروي، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) ولا يطلب أن يكون حب الله أحب إليه من شيء إلا لأنه أعظم شيء، الماء الساخن لا يروي أبداً، فكيف إذا كان ماءً مغلياً؟ {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، فكان هذا الرجل محروماً من نعمة الماء البارد، فأول ما رأى؛ عين ماءٍ تجري، ورأى ظلاً وارفاً لم يحتمل، ونقض العهد والميثاق، فأدناه الله من الشجرة (فاستظل بظلها وشرب من مائها، ولكن سرعان ما رفع إليه شجرة هي أعظم من الأولى، فنسي الرجل -أيضاً- العهد والميثاق، وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها. فقال الله عز وجل له: ما أغدرك يا بن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيئاً بعد ذلك، وربه يعذره)، وتأمل هذه الكلمة! بعد كل نقض يقول: (وربه يعذره!) كذلك لو نقض العبد العهد والميثاق في الدنيا ومضى في غيه وضلاله سنين عدداً، واعتذر إلى الله عز وجل ورجع لعذره الله؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، لذلك أرسل الرسل حتى يعذر الناس. فقال: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال الله عز وجل له: عبدي! لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ يقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة، ثم يفتح له باب إلى الجنة، وإذا المؤمنون يتضاحكون ويسامر بعضهم بعضاً، والرجل وحيد، فيريد أن يدخل الجنة، لكنه تذكر أنه نقض العهد مرتين فسكت، لكن غلبه ما يجد ولم يتحمل، فنقض العهد، وقال: (رب! أدخلني الجنة، فإنه لا يضرك. فقال الله عز وجل: ادخل الجنة، ولك مثل الدنيا). فالرجل أول ما سمع كلمة (مثل الدنيا) لم يصدق، فكأنه يقول بلسان الحال: وأنا ظللت طيلة حياتي أكافح لتوفير راتب هزيل آكل به أنا وعيالي، ومضيت من الدنيا ولم أتمتع بأسهل متعها!! لم يصدق الرجل، كيف امتدت عينه إلى نعمٍ أنعم الله بها على أناس، لعل الله عز وجل نهاه {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131] وسماها زهرة؛ لأن عمر الزهور قليل، لا روح للزهور، لو تركتها ساعتين لذبلت، {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] فكيف أمَّل؟ وكم أرسل قلبه إلى نعم، ومضى من الدنيا ولم يتمتع بأكثرها! وإذا به الآن يسمع أن له مثل الدنيا!! لذلك لم يصدق، فلما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ضحك، فقال لأصحابه: (ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضحك رب العزة، لما قال له الرجل: أتستهزئُ بي وأنت رب العالمين؟! -أي: أنت تعدني بكل هذا وأنت لا تعطيه، فإذا وعد الرجل أخاه ولم يعطه كأنما استهزأ به، يقول: أتستهزئُ بي وأنت ربُ العالمين؟ - فيضحك الله عز وجل من قول العبدِ (أتستهزئُ بي؟!) فيقول له: أما إني لا أستهزئُ بك، ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) إذا كان (مثل الدنيا) فقط كاد أن يطير رأسك من عدم التصديق، فأنا أتحفك بعشرة أمثالها، فلو جاز أن نقول: إن في الجنة فقيراً لكان أفقر رجل في الجنة له مثل الدنيا عشرة أمثالها. فأنت أيها الإنسان تعيش خمساً وعشرين سنة، ولن تكون أغنى الناس، ولن تكون أقوى الناس، ولن تكون أترف الناس، ولو سلمنا أنك ملك الناس في الدنيا، وأغنى وأترف الناس، فما هي إلا خمسة وعشرون سنة فقط، ولذلك قال الله عز وجل لأمثال هؤلاء: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر:8] (قليلاً)؛ لأنه عندما يعيش لا يحاسب عن ستين سنة، إنما يحاسب عن خمس وعشرين سنة فقط {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذنا وإياكم منها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ثبات العبد عند السؤال في القبر على قدر تمسكه بالحق في الدنيا

ثبات العبد عند السؤال في القبر على قدر تمسكه بالحق في الدنيا الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أول عقبة كئود تعترض الرجل بعد موته وبعد دفنه هو السؤال، إذا أحب الله عز وجل عبداً ألهمه الإجابة: - من ربك؟ - ربي الله. - ما دينك؟ - ديني الإسلام. - ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ - هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. بعض الناس قد يجيبُ صواباً ولكنه لا يعتقده، يعني تأتي معه المسألة هكذا، أحياناً يأتي للمرء سؤال فيجيب إجابةً سديدةً بغير أن يعرف أن هذه هي الإجابة السديدة، فالناس مؤمنٌ كامل الإيمان هذا يجيب، وكافرٌ لا يجيب، وبين بين، والإشكال في هذا الصنف الأخير، إذا سئل هذه الأسئلة الثلاثة وأجاب إجابةً صحيحة فهل تظنون أنه سلم له؟ ليت الأمر كان كذلك، لكن الأمر ليس كذلك، إن الملكان يشككانه في الجواب، وينتهرانه أشد الانتهار، وقد ورد في بعض الأحاديث: (أن ملكي الموت أصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف) وهذا عبد ضعيف أمام هذه القوة الهائلة، فينتهرانه ويصرخان فيه، ويعيدان الأسئلة مرةً أخرى، فاليقين الذي لم يتحقق بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا لن يكون موجوداً في تلك اللحظة، فيقول العبد في نفسه: إذا كانت الإجابة صحيحة لم ينتهرني الملكان؟! أكيد أنني أجبت خطأً، فيبدل الجواب وهذه هي الفتنة العظيمة التي بكى الصحابة لها، حتى إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما روت هذا الحديث قالت: فلم أسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحيب الصحابة، لما قال لهم: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) لم تستطع أسماء أن تسمع بقية الكلام قالت: فقلت لرجلٍ بجانبي: ماذا قال؟ فقال: إنه يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) أتعرف فتنة الدجال؟ إنها باختصار كما قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بين آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة كفتنة الدجال). رجل معه جنةٌ ونار، فجنته نارٌ، وناره جنة، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتتبعه كيعاسيب النحل، ويأتي على الرجل فيقطعه إرباً إرباً، ثم يقول له: قم؛ فيتهلل ضاحكاً! أضف إلى ذلك أنه كلما اقتربنا من الساعة كلما غابت علوم النبوة، يظهر الجهل ويقل العلم، فتصور أناساً جهلة وأتتهم هذه الفتنة! أنا أعرف أناساً افتتنوا برجلٍ كان يستعين بالجن، فظنوا أن هذا الرجل على كل شيءٍ قدير، وسلموا له كل شيء، وهذا مذكور، وما جند له الجن إلا بعدما فتن وخرج من دينه، فتصور ظهور الدجال ومعه كل هذه الإمكانات، ثم لا يكون عند الناس من العلم والإيمان ما يعصمهم من هذه الفتنة، فيتبعه أكثر الناس ويظنونه إلهاً، لما يملك من هذه السنن الخارقة، فما يتعرض العبد له في قبره كمثل فتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال، فالصحابة خافوا على أنفسهم حين سمعوا هذا الوصف لفتنة القبر، فحينئذٍ أنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] (في الآخرة): أي في القبر، إذا انتهره الملكان وشددا عليه لا يغير جوابه، بل يعيد الجواب السديد مرةً أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] عنها، لا يقولونها أبداً؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضاها في الدنيا {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. ثم يخرج العبد في قبره يوم العرض وقد غضب الله عز وجل غضباً شديداً حتى خاف الأنبياء على أنفسهم، ورفضوا الشفاعة لأقوامهم، كل نبي يسأل الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب اليوم غضباً ما غضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، فجاءه كل إنسانٍ بعذره ووزره جاءه الذين قال بعضهم: أنا ربكم الأعلى كفرعون، وكل نفسٍ فيها داعية الربوبية، لو أمكن للإنسان أن يقول: أنا ربكم الأعلى؛ لقالها، لكن فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر، لو أمكن الإنسان أن يستعلي لاستعلى، لا يحجبه إلا الإيمان، وإلا فكل نفس فيها داعية الألوهية وداعية الربوبية كفرعون تماماً، فجاءه كل هؤلاء بعدما صبر الله عز وجل عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله) لو أن بعضنا تعرض لسماع جزءٍ يسيرٍ مما يسمعه الله القادر لما تحمل. إنهم ليدعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى، وأنه لا يرزقهم ويعافيهم، فالله عز وجل يكون غاضباً في ذلك اليوم حتى يقنط الرسل ويخافون من مواجهته، ولا يصبر على ذلك إلا من مكنه الله عز وجل وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، ويقف العبد خمسين ألف سنة على قدمه، ينظر إلى العباد يساق ببعضهم إلى النار ويساق ببعضهم إلى الجنة، والهمُّ يقتله: ترى من أي طريق يساق؟ فهو ينتظر دوره على مدى خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك يسحب إلى الجحيم. كل هذا مقابل خمسة وعشرين سنة فقط يعيشها الإنسان في الدنيا؟! أهذه هي دراسة الجدوى أيها التجار؟! إن التاجر لو دخل السوق فخسر درهماً واحداً لكان عليه حزيناً! أهذه هي دراسة الجدوى؟! أهوال قادمة بخمسة وعشرين عاماً فقط يعيشها المرء، تمر كأنها أضغاث أحلام، فقد آن لنا أن نرجع إلى الله عز وجل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]؟! نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يتوب علينا وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

صدق محبة الرسول

صدق محبة الرسول أسباب انهيار الكيان الإسلامي كثيرة، وأهمها سببان: فالسبب الأول: هو عدم صدق محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب كثير من المسلمين. والسبب الثاني: هو أننا ورثنا الكتاب ولم نقاتل عليه ونتعب لأجله. والمراد من إيراد هذين السببين يتضح بالنظر في أخبار الصحابة وصدقهم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عن كتاب الله.

انهيار الكيان الإسلامي

انهيار الكيان الإسلامي إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. فإن دخول الذي يمكر في كيان الأمة المسلمة يجب أن يلقى منها تشخيصاً دقيقاً وأميناً، والذي يخفف من المصائب التي تنزل على العالم الإسلامي لا يكون أميناً ولا صادقاً عندما يبين أن الأمة كلها بخير، وفي اعتقادي أن الأسباب التي أدت إلى الانهيار في بعض جوانب الكيان الإسلامي هي كثيرة، لكنني أتناول شيئين هما لب هذه الأسباب كلها: السبب الأول: عدم صدق المحبة عند جماهير المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن تبجح بها كثيرون؛ فإن أكثر أهل الأرض أدعياء، وهذا هو الذي يُفرِق بين جماهير المسلمين في القرون المتأخرة، وبين جماهيرهم في القرون الفاضلة الأولى. السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب، ولا شك أن الذي يرث الشيء لا يكون حريصاً عليه كالذي قاتل دونه، كما قال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] وليته إذ أخذ عرض هذا الأدنى أحس بأنه مجرم، لكن يقول: سيغفر لنا، فيفعل هذا الفعل الجسيم، ويقول: سيغفر لنا، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] مثل هؤلاء لا يرجعون؛ لأن مثل هذا يعتقد أنه يحسن، فإن أردت أن ترجعه فأنت سترجعه عن الإحسان في نظره فيستحيل أن يرجع، لذلك كان هذا النمط من الأخسرين، أي: لا خسران بعد هذا الخسران المبين.

دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم

دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم السبب الأول: هو عدم صدق المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب الأمثلة كافٍ لتوضيح المراد، إننا إذا تجاوزنا هذه السنين الطويلة، وذهبنا إلى خير القرون، وهو القرن الأول وجدنا أن الذي جعل هؤلاء الصحابة يستميتون في الذود عن حياض هذا الدين، هو هذه المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت في قلوبهم.

حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم

حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم لما روى الحسن البصري حديث حنين الجذع، لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع النخلة، فلما قالوا له: نصنع لك منبراً، قال: إن شئتم، فخطب على المنبر، قال جابر: (فسمعنا حنيناً للجذع كحنين الصبي). فقال الحسن: (يا معشر المسلمين! أيكون الجذع أشد حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم؟) خشبة تكون أكثر حنيناً للنبي صلى الله عليه وسلم منكم، وذاك الذي أراد أن يرسل إلى من يحب شيئاً، فلم يجد، فبكى وأنشد قائلاً: أرسلت دمعي للحبيب هديةً ونصيب قلبي من هواه ضلوعه قال اجتهد فيما يلوح بقتلنا قلت ابتهج جهد المقل دموعه ما أستطيع أكثر من هذا.

سب النبي أو الرب أو الدين كفر

سب النبي أو الرب أو الدين كفر إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم المحبة الصادقة يفتقدها المسلمون اليوم، لقد ذكر العلماء أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ردةً لا حداً؛ لأن تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك أفتى من أفتى من العلماء بأن الذي يسب دين الله كافر مرتد، مهما قال: أنا لا أقصد، أنا أهزل أنا غضبان، فلا يتصور أن محباً لدينه يسب ربه إذا غضب، فهذا غير معقول. وقد حكم الله تبارك وتعالى بالكفر على أمثال هؤلاء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فالمسألة هذه لا تحتاج إلى علم وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب موالاته واتباعه لا يحتاج إلى علم، وتعظيم الرب تبارك وتعالى لا يحتاج إلى علم، لذلك حكموا أن الذي يسبه كافرٌ مرتد، إذ لا خير فيه. هذا هو الداء العضال الأول الذي تسبب في هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن، بعدهم وصدهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم بضروب من التأويل البغيض الواهي، ما تقول له قولاً إلا وقال لك: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويضيع دلالة الحديث باحتمالاته، وقد يكون المعنى واضحاً غاية الوضوح، وهذه شقاشق تلقفها من لا يحسن عن هؤلاء العلماء، فأخذوا أسباب الضياع، فتركوا الاتباع فضلاً عن هذه المحبة العظيمة التي يجب أن تكون في صدر كل مسلم للنبي عليه الصلاة والسلام.

تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية

تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي ذهب لقريشٍ، وقال لهم: (هل تخونوني؟ قالوا: لا. قال: أنتم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد، دعوني آتيه صلى الله عليه وسلم، فقد عرض عليكم خطة رشد)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما تجيء لي قريش بخطة رشدٍ إلا قبلتها) فيقول عروة: دعوني آتيه فأسمع منه، فجاء عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الصحابة حوله، فقال: (يا محمد! لئن ظهرت على قومك -أي: انتصرت عليهم- فهل سمعت بأحدٍ اجتاح قومه قبلك؟) يعرض عليه الأمرين: حال انتصاره، وحال هزيمته، فيقول له: فرضنا أنه قام بينك وبين قريش حرب، وظهرت عليهم، وانتصرت، هل سمعت بأحد اجتاح قومه قبلك؟ (وإن كانت الأخرى -إن كان لابد من نشوب قتال- فلا أرى حولك إلا أوباشاً خليق أن يفروا ويدعوك -أي: إذا قامت الحرب- فسمع صوتاً من الخلف يقول له: أنحن نفر وندعه، امصص بظر اللات، فالتفت إلى هذا القائل، وقال: من هذا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر، فالتفت إليه عروة وقال له -وتمعنوا لهذه الكلمة-: لولا أن لك عليَّ يداً في الجاهلية لأجبتك). الجاهليون يحفظون اليد، وكان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، وكانت هذه عادة عند العرب أن الرجل إذا حدَّث جليسه يكثر من أن يمسك بلحيته، وهذه وإن كانت عند العرب عادة لكنها تضاد التوقير، فكان يقف شابٌ بسيفه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما مد عروة يده ضربه ذلك الشاب بذباب السيف، ويقول: (نحِ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلا يلبث عروة أن تغلبه العادة فيمس يد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا الواقف يعاجله بضربةٍ على يده، حتى قال له: (لئن مددت يدك لأقطعنها). وما عرفه لأنه يلبس اللثام، وكان هو المغيرة بن شعبة، وعروة بن مسعود عم المغيرة، ولمّا علم المغيرة أن عمه قادم ذهب فتلثم ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أكثر من الضرب على يد عروة بن مسعود -وعروة يرى رجلاً ملثماً لا يعرف من هو- قال: (تنح عني، ما أظنك إلا رجل سوء -لكثرة ما يضرب يده بذباب السيف- من هذا الذي آذاني؟) فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ({هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، فالتفت إليه عروة، وقال له: (أي غُدر! ما زلت أسعى في غدرتك، وهل قد غسلت سوأتك إلا بالأمس؟). وكان المغيرة صاحب اثنا عشر رجلاً في الجاهلية، فلما شربوا الخمر قتلهم وأخذ أموالهم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقدم له المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء، إنه أخذ غدراً) حتى لو كان من كافر، وأبى أن يأخذ المال، فلما وصل إلى القبائل أن المغيرة قتل رجالها كادت أن تقوم حربٌ بين القبائل، فقام عروة بن مسعود عم المغيرة وقال: أنا أدفع دية هؤلاء، فكفت الحرب، فيقول: (أي غدر! ما زلت أسعى في غدرتك -أي: أنا حتى الآن أدفع دية الذين قتلتهم وأخذت أموالهم- وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس -أي: عندما أسلمت-). فانظر حب المغيرة، يضرب عمه؛ لأنه يمس لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهي عادة، لكنها تضاد التوقير. وأخذ عروة يراقب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فوالله ما كان يتوضأ بماءٍ فيسقط على الأرض إلا يتقاتلون على ماء الوضوء، وما رأيت أحداً منهم يحد النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر امتثلوا أمره، وما يبصق بصاقاً فيقع في يد أحدهم إلا دلك به جلده، وما استطاع من بدنه) رأى هذه الصورة وكان قد حكم عليهم أنهم أوباش لا يستطيعون أن يثبتوا في الذود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رأى بأم عينيه، وظل يراقب وذهب إلى قريش، فقال لهم: (والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، ووالله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً، والله ما بصق بصاقاً فوقع في يد أحدهم إلا دلك به وجهه وجلده، وما توضأ بوضوءٍ إلا اقتتلوا عليه، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وإذا أمر يمتثلون أمره، وما أرى لكم قبلاً بهم). صورة عظيمة جداً لهؤلاء الصحابة دعاهم لها حب هذا النبي الكريم. المسئول عن هذا الضياع الذي يعيشه المسلمون الآن بكل صدق هو أن هذه المحبة غائبة مهما زعم الزاعمون أنهم يحبونه. لقد رأينا في سير المحبين عجباً! رأينا الرجل إذا أحب امرأةً تفانى في حبها، ولعلكم تذكرون قول القائل مجنون ليلى الذي أطلقوا عليه هذا اللقب، يقول: أمر على الديار ديار ليلى أُقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

موقف جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق

موقف جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق في صحيح البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (كنا نحفر الخندق فوقفت أمامنا صخرةٌ عظيمة، ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً -أي: لم يأكلوا شيئاً، وكانوا يستعينون بربط الحجر على البطن لتقليل حدة الجوع- قال: فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! صخرةٌ عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام معي وأرى الجوع في وجهه، فأومأ بالمعول، وقال: باسم الله، وضربها ضربةً فكانت كثيباً أهيم -أي: صارت رملاً- قال: فاستأذنته أن أذهب إلى البيت، فذهب إلى امرأته، فقال لها: ماذا عندك من الطعام، فلقد رأيت شيئاً لا صبر لي عليه؛ رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم) أرجو أن تتذكر أن جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقاً، إذاً: هو جائعٌ أيضاً، لكن حبه للنبي عليه الصلاة والسلام جعله يقدم حاجة النبي عليه الصلاة والسلام على حاجته. قال: (لقد رأيت شيئاً ما لي به صبر؛ رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا عندكِ من الطعام؟ قالت: ما عندي شيء، عندي عناق -جدي صغير-، وعندي صاعٌ من شعير، قال: فأخذ العناق فذبحه، وقال: اعجني هذا الصاع، قالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، لكن ائتِ به وبنفر من أصحابه، فذهب جابر ونادى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: كذا وكذا، عندنا عناق وصاع فقط من شعير، فإن شئت أن تأتي، ويأتي بعض أصحابك، قال جابر: وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصرخ في أهل الخندق، يا أهل الخندق! هلموا قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، ماذا أقول؟ فلما رجع إلى البيت ورأت امرأته هذا المنظر، قالت له: بك وبك، قال لها: قد قلت الذي أمرتني به، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صاح في أهل الخندق، قالت له: وهل أعلمته بما عندنا من الطعام؟ قال: نعم، قالت: فلا عليك، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ جابر -من فقهه-: فلا تضع اللحم على النار، ولا تدع امرأتك تخلط العجين حتى أجيء، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أين برمتكم؟ -فيها اللحم- فجيء بها، فبصق فيها وبارك، ثم قال: أين عجينكم؟ فجيء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا وتركوا وكانوا ألف رجل، وبقيت فضلة أهدينا منها لجيراننا، ووالله لقد انصرفوا والبرمة كما هي، والعجين كما هو). فانظر إلى جابر وإلى شفقته، يرى النبي صلى الله عليه وسلم جائعاً فيحز في نفسه، فهل تتصورون أنه إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخالف؟ أبداً. لقد رأينا عند علماء الأصول أن الفعل المجرد لا يقتضي الوجوب، بخلاف القول المجرد؛ فإن الأقوال المجردة تقتضي الوجوب، ما لم يكن هناك صارف، بخلاف الأفعال، فلا تقتضي الوجوب إلا بدليل خارجي. ومع ذلك رأينا الصحابة يتقَّفون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تفيد الوجوب بمجردها فضلاً عن الأقوال، وهذا من شدة الحب، فهذا هو الاتباع الحقيقي، والاتباع فرع عن هذه المحبة، إذا أحببت النبي عليه الصلاة والسلام بصدق وبكل قلبك يستحيل أن تدع اختياره لاختيارك أنت.

إجلال عمرو بن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم

إجلال عمرو بن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله، قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فحول وجهه إلى الجدار وجعل يبكي طويلاً، فجعل ابنه يقول: يا أبتِ، ألم يبشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكذا وكذا؟ يهدئ من روعه وبكائه، قال: فالتفت إلينا وقال: إن أفضل ما نعد لهذا اليوم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لقد رأيتني على أطباق ثلاث -أي: على ثلاث مراحل من حياتي- لقد رأيتني وما أحدٌ أشد بغضاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مني، ولا أحب إليّ من أن أكون استمكنت منه فقتلته، وإذا مت وأنا على هذه الحال لكنت من أهل النار، فلما أسلمتُ جئت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط يده، قال: فقبضت يدي، فقال لي: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: يا عمرو، أو ما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الحج يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، قال عمرو: فما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله ما كنت أستطيع أن أُحِد النظر إليه إجلالاً له، ولئن سألتموني أن أصفه لكم لما استطعت؛ لأنني ما كنت أطيق أن أُحِد النظر إليه تعظيماً له، فإن مت على هذه الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم حدثت أمور وولينا أشياء يغفر الله لنا) فساق وصيته عند الموت. فتنظر إليه وهو يقول: (ما كنت أستطيع أن أحد النظر إليه إجلالاً له) من هيبته، ومن تعظيم عمرو بن العاص له صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يستطيع أن يملأ عينيه منه، فهل يتصور من مثل هذا إذا سمع قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يفعل فعلاً أن يخالفه؟ أبداً.

موقف ابن عمر من ابنه حين اعترض على السنة

موقف ابن عمر من ابنه حين اعترض على السنة ابن عمر رضي الله عنهما وأين في الناس ابن عمر؟ لما حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما في صحيح مسلم، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا استأذنت امرأة أحدكم أن تذهب إلى المسجد فلا يمنعها)، فقال أحد أبنائه: (لنمنعهن، يتخذنه زغلاً) والزغل هو: المكان المرتفع من الدار، يريد أن يقول: لنمنعهن؛ لأن المرأة إذا أرادت أن تقضي حاجتها احتجت بأنها تريد الذهاب إلى المسجد، فاستعظم ابن عمر أن يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام ولو بتأويل، فرماه بحصيات وطرده في آخر الليل، ولم يدخل عليه حتى مات؛ لأنه فقط عارض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن يعارض كلامه بمثل هذه المعارضة. هذه هي البركة التي رفعت هؤلاء الناس ومن ذكرت من قبل.

ضياع محبة النبي صلى الله عليه وسلم على المستوى الإعلامي

ضياع محبة النبي صلى الله عليه وسلم على المستوى الإعلامي إن النكوص عن المحبة في صدور كثير من المسلمين هو المسئول عن هذا الضياع الذي يعانيه المسلمون الآن، منذ عدة أشهر قرأت في صحيفة الأخبار عموداً في غاية العجب، وهو أن بعض الناس ألف كتاباً أسماه: (فنانات تائبات)، وسرد قصص بعض الفنانات اللواتي اعتزلن الفن ولماذا اعتزلن؟ وأراد أن ينشر إعلاناً لهذا الكتاب في التلفاز وفي بعض الصحف الرسمية، فأبوا عليه إلا أن يغير العنوان؛ لأن معنى هذا العنوان أن الفنانات الموجودات عاصيات، وهذا جرحٌ لشعورهن، فقالوا: إذا أردت أن يُنشر الكتاب غيِّر العنوان، بينما نشر أحد الرسامين المتهتكين الذين أهلكهم الله عز وجل صوراً -وأنا أقولها بمرارة كبيرة- لديك وتسع دجاجات، أظنكم فهمتم من المقصود، أغبى الناس الذي ليس له إدراك يعلم من المقصود بالصورة، فكيف إذا كان التعليق أسفل الصورة، (محمد جمعة وزوجاته التسع) كيف مرر رئيس التحرير هذه الصورة الجارحة لمشاعر ملايين المسلمين، وهنا رفضوا نشر الكتاب الذي يجرح مشاعر من لا قيمة لهن، ملئت البلاد بالفساد العريض، فعبارة (محمد جمعة وزوجاته التسع) هذه عبارة لا تحتاج إلى تأويل، ولا إلى دلالة مفهوم؛ لأنها واضحة، فكيف مرت عليهم؟ وفي عنوان الكتاب تعدوا دلالة المنطوق إلى دلالة المفهوم وأن قوله: (فنانات تائبات) معناه: أن اللاتي لا زلن في الفن عاصيات، كيف فهموا هذا؟ ولم يسمحوا أن يمرروه، وهناك عشرات الرسوم التي تطعن في دين الإسلام، ففي مجلة صلاح الدين رسام يرسم ناراً وكتب فوقها: (جهنم الحمراء) ورسم جماعة من الناس في الزاوية يصرخون ويرفعون أيديهم، وفي الزاوية الأخرى شخص عنده مروحة ويبتسم ابتسامة لذيذة تنم عن سعادة ورضا -هذا في جهنم الحمراء! - وكتب تحتها (مرسي)، أليس هذا طعنٌ في الله تبارك وتعالى؟! إذا أراد الله أن يرحم أحداً لا يُسأل عما يفعل، لكن أن يضعهم في النار ويضع المروحة!! هل هذا الكلام معقول، معقول أن تمرر هذه الرسوم التي تجرح ملايين المسلمين ولا تنم عن أية صلة بهذا الدين. إن الله تبارك وتعالى يعاقب الأمة كلها إذا لم تضرب على أيدي سفهائها، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] على أحد معاني الآية: لا تصيبن الذين ظلموا فقط، إنما تصيب أيضاً الذين سكتوا على الذين ظلموا ولم يأخذوا على أيديهم. فأين محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المستوى الإعلامي، وأين توجد؟

قصة أبي أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم

قصة أبي أيوب مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً؛ فإنه نزل في دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهذه القصة في صحيح مسلم، وكان لدار أبي أيوب طابقان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي أيوب بعدما عرض عليه أن يسكن في أعلى البيت: (يا أبا أيوب السُفل أرفق بنا يغشاني أصحابي)، السُفل: أي المكان الأسفل أرفق بنا، بحيث أن أي رجل يريد النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل على بيت أبي أيوب، ثم يصعد إلى فوق. قال أبو أيوب: (وكنا نرسل إليه الطعام، فعندما نأكل نسأل من أين أكل؟ فنتحرى موضع أصابعه فنأكل منه، وكذلك إذا شرب نتحرى موضع الشرب فنشرب منه، قال: فأرسلتُ له يوماً طعاماً فيه غفنٌ أو ثوم فرده ولم تظهر يده فيه، قال: ففزعت، ونزلت، فقلت: يا رسول الله، أحرام هو؟ -يعني: البصل والثوم؛ لأنه لم يأكل منه- قال: لا لكني أنُاجى والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، قال أبو أيوب: لا جرم أن أكره الذي تكره). مع أن البصل والثوم حلال، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه. قال أبو أيوب: (وانتبهت ليلةً، فقلت: أأنا أمشي على سقيفتي وتحتها رسول الله!) يعني: يمشي أبو أيوب هو فوق الخشب ورسول الله تحتها، وفي بعض الروايات كما في الصحيح قال: (وانكسر لنا إناء، قال: فجففت الماء بلحافي ولحاف امرأتي، وما لنا غيره خشية أن تنزل نطفة من الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لامرأته: انزوي) وانزووا جميعاً في ركن البيت حتى لا يمشيان على سقيفة تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح الصباح نشده أن يصعد، وقال: (لا أعلو سقيفةً أنت تحتها) فهل يتصور في مثل أبي أيوب الأنصاري، إذا سمع قولاً أو رأى فعلاً من النبي عليه الصلاة والسلام أن يخالفه؟ قال الإمام تقي الدين السبكي في رسالته: (بيان قول الإمام المطلبي -وهو الإمام الشافعي رحمه الله-: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: (وليتخيل أحدكم نفسه إذا سمع الحديث أنه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره أو ينهاه هل يكون بوسعه أن يخالف؟) إذا قلت لك الآن حديثاً تخيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقول لك هذا الكلام، أيكون بوسعك أن تتخلف؟ لا يكون بوسعك بطبيعة الحال، لكن بُعد المسافة عن مصدر الضوء سبيلٌ إلى الإيغال في الظلام، كلما اقتربت من مصدر الضوء كلما أصبت شيئاً من ضوئه، وكلما ابتعدت عن هذا المصدر كلما أوغلت في الظلام، وهذا المصطلح هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

لهفة المرأة الصحابية على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد

لهفة المرأة الصحابية على النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد في غزوة أحد لما حدثت المقتلة للمسلمين، وهم قافلون إلى المدينة، قيل لامرأة كانت تنتظر: (مات زوجك، مات أبوكِ، مات ولدك، مات أخوكِ، ماذا بقي لها؟ فقالت لهم: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أريد أن أراه). لا تريد خبراً عن زوجها ولا أبيها ولا أخيها ولا عن أي شيء، بل سألت عن المحبوب الأعظم عليه الصلاة والسلام (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير، قالت: أروني إياه، فلما رأته قالت له: كل مصاب بعدك جلل) أي: صغير لا قيمة له، هذه المحبة هي الوقود الحقيقي الذي يدفع المسلم.

وراثة الكتاب وعدم العمل به

وراثة الكتاب وعدم العمل به السبب الثاني: أننا ورثنا الكتاب بخلاف الأوائل الذين قاتلوا على هذا القرآن وأهريقت دماؤهم بسبب تبليغ آيات الكتاب الحكيم، فالذي يضحي برقبته في سبيل الآية، لا يستوي مع الذي ورث قرآناً كاملاً لا يحسن أن يقرأه أحياناً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] لذلك تهون عليهم آيات الكتاب فيتأولونها بتأويلٍ باطل.

الجمع بين الأحاديث المتعارضة عمل الجهابذة

الجمع بين الأحاديث المتعارضة عمل الجهابذة لا بأس إن كان هناك حديثان ظاهرهما التعارض أن نوفق بين الحديثين بنوعٍ من أنواع التأويل المقبول، فمثلاً: حديث أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) قالت: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، غفر الله لـ أبي عبد الرحمن، إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية ماتت فقال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) بيني وبينكم كتاب الله، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فهذا الحديث كأنه يعارض الآية، وقد ذكر علماء الأصول أنه يستحيل أن يكون هناك تعارض بين آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، وبين حديثٍ صحيح للنبي عليه الصلاة والسلام، إنما يكون التعارض في ذهن المجتهد، وليس في حقيقة اللفظ، فنحن إذا نظرنا رأينا أنه لا تعارض، وأن عمر وابنه لم يخطئا في الرواية، فقد روى هذا الحديث ستة أو سبعة من الصحابة، وإن جاز أن يهم ابن عمر فلا يمكن أن يهم هؤلاء الذين رووا هذا الحديث، إنما عائشة رضي الله عنها التجأت إلى ظاهر الآية، وإلى هذه الرواية التي روتها: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) أي: أن المسألة منفصلة، هم يبكون وهي تعذب، ليس بسبب البكاء، وبكاؤهم لا يخفف عنها، أو وهم لا يشعرون بها أو نحو ذلك. جمع العلماء بين الآية وبين الحديث، كالإمام البخاري مثلاً في الصحيح قال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته). أي: أنه إذا أوصى أن ابكوا عليَّ، وانصبوا الأعلام وشقوا الجيوب وادعوا بدعوى الجاهلية، إن أوصى بهذا يُعذب، فحمل الحديث على إذا كان ذلك من سنته، أي: من سنة الذي مات، أنه أوصى بذلك، ولا شك أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصي بما لا يرضى الله تبارك وتعالى عنه. ومثل هذا باب واسع جداً عند أهل العلم، صنفوا فيه كتباً، ولا يستطيع أن يخوض فيه إلا الجهبذ الذي قلمت أظفاره بالعلم، فالرجل الذي لم يقرأ في الأصول قراءةً جيدة لا يستطيع أن يخوض في باب التعارض والترجيح؛ لأنه باب تزل فيه أقدام الفحول، وعندما ترى العلماء المتقدمين الذين ينظرون في الأحاديث وفي تأويلها تستشعر أن هؤلاء على علم، بخلاف كثير من المتأخرين، الذين وإن درسوا الأصول لكن عندهم شقاشق وكلامٌ كثير يحتاج إلى نظر، حتى أن بعضهم حرر بعض الأصول تحريراً فيه نظر، لا يعرف إلا عن بعض المتأخرين ولم تكن أحد من المتقدمين يقوله، فالحاصل أن التأويل كما يقول بعض العلماء عدو الأديان، وما زل من زل إلا بسبب التأويل والتوسع في التأويل، وبدعوى أن هذا تأويل حرفوا كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام. نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم القدوم عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

إهدار العمل بالأحاديث بالتأويل الفاسد

إهدار العمل بالأحاديث بالتأويل الفاسد أسباب الانهيار والسوس الذي ينخر في كيان الأمة الإسلامية الآن كثيرةٌ جداً ومتنوعة، وقفت على اثنين منها، ومن أهمها: عدم صدق المحبة الحقيقية، فترى الرجل يقترف الكذب بحجة أنه مكروه فقط، وما الذي يجبرك أن تفعل المكروه؟ وهناك أناس ينامون على بطونهم، ويقول: أنا لم أطمئن إلا إذا نمت على بطني، فإذا قلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نام على بطنه، فقال: (هذه ضجعةٌ يكرهها الله)، قال: هذا مكروه ويكاد الرجل أن ينتهي، لكن في البداية يريد أن يستريح وينام؛ لأنه متعب، وحتى يمتثل يعمل المخالفة هذه مرات عديدة، حتى يستريح، بينما كان الصحابة يمتثلون مباشرة، ولا يتوانون، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) فأفتى العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أن كشف العاتق أو أغلبه يبطل الصلاة، يعني: لو صلى وعليه فانيلة لها محمل، فالصلاة باطلة؛ لأن للصلاة عورة تختلف عن العورة خارج الصلاة، وهذا العاتق من عورة الصلاة، واحتجوا بهذا الحديث: (لا يصلين أحدكم في ثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء)، وهذا شيء، ويدخل في مثل هذه التأويلات، ويصد عن الحديث فيضيع الحكم، وكل هذا باسم القواعد الأصولية، ونحن عهدنا من العلماء المثقفين الذين أحكموا علوم الآلات أنهم لا يتكلمون بمثل هذا، والحكم واضح.

عدم انتفاع المتأخرين بالكتب المطبوعة

عدم انتفاع المتأخرين بالكتب المطبوعة العز بن عبد السلام لم يكن يمتلك المحلى لـ ابن حزم، ولا كان عنده المغني لـ ابن قدامة، إنما كان يرسل لـ محيي الدين بن عربي الرجل الصوفي يستعير منه المحلى والمغني إذا أراد أن يفتي، وكان يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي المغني والمحلى، أما الآن فتجد المغني والمحلى شيئاً طبيعياً جداً من كتب الفقه العامة عند كثيرٍ من المسلمين. الشيخ: أحمد شاكر رحمه الله كتب تعليقاً على المحلى عندما رأى أثراً عن عبد الرزاق في المصنف كان الشيخ أحمد شاكر يتكلم على مصنف عبد الرزاق كما لو كان الغول أو العنقاء، يعني: كأنه غير موجود على الإطلاق، ويقول: إن هذه الكتب كانت موجودة عند هؤلاء العلماء كالمصحف في أيدي الصبيان في الكتاتيب، والآن لا نعلم أنه يحفظها عالم، قال: الآن مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف سعيد بن منصور، وهذه الكتب التي تعنى بالآثار، هي الآن موجودة مطبوعة عند كثير من طلاب العلم، لكن هل استفاد المسلم من هذه الكتب ومن هذا الفقه الموجود في الكتب؟ قد يموت وهناك بعض الكتب التي كان ينام فيحلم بها، واقتناها، يموت ولا يمس منها ورقة، إرث عظيم جداً، تصوروا جميع الكتب الإسلامية الآن التي هي عن السلف القدامى، أي دولة قد تئن من ثمن هذه الكتب، يعني: لو أن هناك دولة أرادت أن تشتري الكتب القديمة لوجدت أن المخطوطات التي لم تطبع تساوي أكثر من نصف الذي طبع، وحتى الآن مئات الألوف من المخطوطات لم تر النور. كل هذا لتفسير الكتاب الكريم وتفسير الحديث النبوي، تستطيع أن تستفيد الكثير منها، المطبوع منها أو المخطوط، لكن لا تستطيع أن تنتفع بها مثل ما كان الأوائل.

موقف عمر ممن يسأل عن المتشابه

موقف عمر ممن يسأل عن المتشابه نحن لا ننسى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد صبيغ بسبب أنه سأل سؤالاً في أجناد المسلمين، كان أبو موسى الأشعري قائد المسلمين، فإذا برجل اسمه صبيغ العراقي يسأل المسلمين عن الآيات المتشابهات، فوصل ذلك إلى أبي موسى الأشعري، فأرسل إلى عمر، فقال عمر: أرسله إليَّ، فلما جاء به الرسول ودخل على عمر، قال: جئت بـ صبيغ، فدخل عليه صبيغ، فقال له: أنت الذي تسأل في أجناد المسلمين عن محدثة؟ ودعا بجريد رطب، والجريد الرطب أشد في الإيلام من الجريد اليابس، فما زال يضربه حتى انبجس منه الدم، فتركه عمر حتى برأ، فجاء به، فما يزال يضربه حتى انبجس منه الدم، وتركه حتى برأ، وجاء به في المرة الثالثة، وهمّ أن يضربه، فقال صبيغ: (يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تقتلني فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برأت -تبت- فأرجعه عمر إلى أبي موسى الأشعري، وقال: هذا لا يحدثه أحد)، وامتثل المجتمع كله؛ لأن هؤلاء رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، لا يستعظمون عين الخلق، ويستحقرون عين الله تبارك وتعالى. ففي قصة كعب بن مالك في غزوة تبوك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين ألا يكلموه واشتدت عليه الوحدة، ذهب إلى أبي قتادة الأنصاري قال كعب بن مالك: (وهو ابن عم لي وأحب الناس إليَّ)، ولكن جفوة المسلمين وعدم تكليمهم إياه جعلته يكاد يبكي، كما قال الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] فتسلق الجدار وأبو قتادة وحده ولا أحد معه، قال له: (السلام عليك يا أبا قتادة، قال كعب بن مالك: فوالله ما رد عليَّ السلام)؛ لأنه مأمور ألا يسلم، وهناك أناس يقولون: لا، المقصود الكلام العادي، ورد السلام واجب وليس من الكلام العادي فيصدر حكماً، بل هو مأمور بعدم السلام، وعدم السلام يدخل فيه كل كلام، قال: (فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم) وهذا ليس تكليماً من أبي قتادة لـ كعب بن مالك، بل يمكن أن يكلم نفسه، لكن ليس هناك كفاح ولا مواجهة. فنفذ أمر عمر بن الخطاب هذا المجتمع الذي هو كما قال رجل لـ علي بن أبي طالب: (يا أمير المؤمنين! لماذا انشقوا عليك ولم ينشقوا على عمر؟ فأجابه إجابة مفحمة، قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا والٍ على مثلك)، هناك فرق، يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يكلمه أحد، فلا يكلمه أحد، حتى شق جداً عليه، فذهب يشتكي إلى أبي موسى، فأرسل أبو موسى لـ عمر أن حسنت توبته، فأمر المسلمين بتكليمه. وبمثل هذا صان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى عن دخول الأقوال الباطلة باسم التفسير، حيث كان الرجل يخشى أن يفسر تفسيراً مستقيماً فيجلد عليه، فكيف لو أنه قال تفسيراً باطلاً. فصان المسلمون كتاب الله تبارك وتعالى؛ لأنهم قاتلوا عليه، فأحد أسباب الوهن الأخرى أننا ورثنا كتباً كثيرة جداً، لكن لم ننتفع بها، فتدخل على الرجل منا فتجد عنده مكتبةً لم تكن عند مشايخ الإسلام.

قصة إسلام أبي ذر وصبره على الأذى

قصة إسلام أبي ذر وصبره على الأذى انظر مثلاً في قصة إسلام أبي ذر وهي في الصحيح، لما أرسل أخاه إلى مكة يتلمس الأخبار عن هذا الذي يزعم أنه نبي، ويأتي بمقاله، فذهب أخوه ثم رجع إليه يقول: (يدعو إلى مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، فقال: لم تكفني)، فجهز زاداً وانطلق إلى المسجد الحرام، وظل ثلاثة أيام؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: دلوني على الذي يزعم أنه نبي، وإلا فتكوا به، فظل ثلاثة أيام يمر عليه علي بن أبي طالب ينظر إليه، وينظر إليه أبو ذر، فيقول: أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله، فقال أبو ذر: (فاستضعفت رجلاً منهم -نظر في الكفرة، فرأى رجلاً نحيلاً ضعيفاً هزيلاً- فقلت: أسألك -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً أو دائماً، فقال له: أين هذا الذي يزعمون أنه صابئ؟ فأشار هذا الضعيف إلى الجلوس، وقال لهم: الصابئ الصابئ)، وهذه كالشفرة معناها: اقبضوا عليه؛ لأنه يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر: (فاستداروا عليّ بكل مدرة وعظم حتى كأنني نصب أحمر) من كثرة الدماء التي سالت عليه، فهرب منهم، وما أنقذه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: (ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم يمر على غفار؟ فتركوه، خوفاً من غفار أن تنتقم وتأخذ التجارة منهم، وهربوا، فلقيه علي بن أبي طالب قال: (أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله؟ قال: إن كتمتني قلت لك، قال: وما ذاك؟ قال: أين هذا الذي يذكرون أنه صابئ، قال: اتبعني، فإذا خفت عليك -لأن هناك جماعة يرقبونه- سأعمل كأني أريق الماء -أي: يتبول- وما زال وراءه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما أن رأيته حتى علمت أن هذا ليس بوجه كذاب، فسمع منه وآمن، فقال له: (لا تجهر بها حتى نظهر) -أ: ي حتى نهاجر إلى المدينة- فقال له: والذي بعثك بالحق لأقذفن بها بين أظهرهم، وذهب إلى المسجد وصاح بالشهادة، قال: فانهالوا عليه بكل مدرةٍ وعظم، فما أنقذه إلا العباس، ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم يمر على غفار، فهرب منهم ثلاثين يوماً، ما له طعامٌ ولا شرابٌ إلا ماء زمزم، قال: حتى تكسرت عُكن بطني ولم أشعر في كبدي بجوع)، تكسرت عكن بطني، يعني: حتى أصبح لحم بطنه طبقات، لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم). تصور رجلٌ مثل أبي ذر يعلم العواقب الوخيمة التي ستنهال عليه من جراء الصدع بالشهادة، فمبجرد أن سأل: أين الصابئ؟ حولوه كتلة دم، فكيف لو ذهب وجهر بالدعوة ماذا سيفعلون به؟ ومع ذلك استعذب أن يصدع بها وهو يعلم العواقب، فهل رجلٌ مثل أبي ذر إذا تلا آيةً من كتاب الله أو سمع حديثاً من النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن يخالفه؟

تنصيص عمر على آية الرجم

تنصيص عمر على آية الرجم هذا هو الفرق بين الذين ورثوا الكتاب وبين الذين قاتلوا على الكتاب، لذلك كان الكتاب عزيزاً عليهم، وكانوا ينفون عنه أي تأويلٍ فضلاً عن تحريف، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صيانته للقرآن الكريم قال: (سيأتي أقوامٌ يكذبون بالرجم، ولقد كان فيمن نقرأ من قبل في كتاب الله تبارك وتعالى: (إذا زنى الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة، بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم). ثم إن الله رفع هذه الآية -وهو المعروف عند العلماء بنسخ النص مع بقاء الحكم- ولقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر ورجمت، ولولا أن يقول أناسٌ: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها على حاشية المصحف) الذي هو الرجم.

حرص عمر على عدم خلط القرآن بالحديث

حرص عمر على عدم خلط القرآن بالحديث روى الدارمي في سننه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بعث جمعاً من الصحابة يعلمون الناس الإسلام قال لهم وقد خرج في بعض الطريق يمشي معهم، قال: (أتدرون لماذا مشيت معكم؟ قالوا: نحن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولنا عليك حق، قال: لا لهذا خرجت، إنكم تأتون أقواماً لهم دوي للقرآن، فإذا رأوكم قالوا: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تصدوا الناس عن القرآن بالحديث، أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا حليفكم) حفاظاً على المرء، حتى لا يكثر التأويل الذي يحير القارئ، بينما الآن افتح بعض التفاسير المطولة، تجد أقوالاً تشرق وأخرى تغرب، والواحد تائه بين هذه الأقوال، لا يستطيع أن يرجح ما هو المقصود، حتى إن بعض الناس فسروا آيات القرآن الكريم على العلم الحديث، فيستدل على أن الأرض كروية، وغيره يقول: الأرض بيضاوية، ويستدل بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، أي: جعلها مدحية بيضوية، والله أعلم إذا قالوا: إنها مربعة مستطيلة، يمكن أن يقول لك: القرآن يقول ذلك، وليس القرآن كتاباً جغرافياً أو كتاب تاريخ، إنما القرآن كتاب هدى، ينزل على القلب، يسمعه القارئ فيعرف مراد الله تبارك وتعالى، لذلك هذه الاستنباطات التي تزيد على مجرد اللفظ، وإن كانت تفيد الباحث والعالم، لكنها تصد العوام كثيراً.

التأويل والتحريف لنصوص الكتاب والسنة

التأويل والتحريف لنصوص الكتاب والسنة لقد دخلت مرةً مسجداً، وفيه بعض أولئك الذين يفسرون القرآن الكريم تفسيراً يعود على النص بالإغفال، لا أسميه تأويلاً بالباطل، لكنهم يحرفون الكتاب، فيفسرون قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهي آية واضحة جداً عند أي رجل يفقه شيئاً من لسان العرب، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي: من الذي يشفع عند الله إلا بإذن الله، هذا معنى الآية، فيقول: لا. هذا المعنى الظاهر، لكن هناك معنى أعمق، وهو (من ذل ذي (يشف) عِ) أي من (ذل) من الذل، (ذي) اسم إشارة؛ إشارة إلى النفس أي: من ذل نفسه (يشف) من الشفاء، (عِ) فعل أمرٍ من (وعى) أي: عِ هذه الحقيقة، فأدى تأويله هذا إلى إيجاد كلماتٍ مختلفة عن كتاب الله، فنفى معنى الآيات، وأتى بمعنى جديد، وهناك فرقٌ بين الذين يؤولون تأويلاً باطلاً، وبين الذين يحرفون النص، قد يقول قائل: وما الفرق؟ إذا كان التأويل باطلاً، قد أبطل النص أيضاً، وهو باطل في ظاهره، فيقال: لا؟ لأن التحريف الباطل لا يوجد من يرده، بخلاف ما إذا ظل النص سليماً كما هو فيأتي الراشدون من العلماء يبينون حقيقته، أما إذا حُرف النص فماذا يبقى بيد العلماء؟ وهذا اللون من التحريف لا يستطيع أحدٌ أن يثبته في المصحف، لكنه يمكن في غير كتاب الله تبارك وتعالى، فيكون إيجاد كلماتٍ جديدة في كتابٍ خارج عن المصحف؛ وقد وجدنا أن هناك أناساً يستحلون مثل هذه الأشياء، وقد يطول على الناس زمان، يثبتون مثل هذا في المصحف، فقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الأصنام ستعبد في جزيرة العرب. ولكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها خلق فالجرأة على تفسير القرآن الكريم على غير ما كان السلف الصالح يفسرونه به، هذا من أسبابه أن هؤلاء ورثوا الكتاب، كما لو ورثت مالاً عن والدك، قد تنفق هذا المال كله في لحظةٍ من اللحظات، ولا تذرف عليه دمعة إذا ضاع كله، بخلاف الذي جمع المال بنفسه، لذلك كان التعبير القرآني دقيقاً جداً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169]؛ لأن الذي ورث ليس كالذي قاتل على آيات الكتاب.

قصة البقرة

قصة البقرة سورة البقرة سورة ذات شأن، وهي أطول سور القرآن ومن أكثرها أحكاماً، وفي تسميتها بهذا الاسم إشارةً إلى ضرورة النظر في القصة الواردة فيها، ومن خلال هذه القصة يتبين لنا استهزاء يهود بني إسرائيل بنبيهم، وإساءة أدبهم مع الله سبحانه وتعالى، وتعنتهم وتكلفهم في الأوامر التي أمروا بها، وهذه القصة من جملة القصص التي قصها الله تعالى للعظة والاعتبار

أهمية سورة البقرة وسبب تسميتها بذلك

أهمية سورة البقرة وسبب تسميتها بذلك إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقصة البقرة قصة ذات شأن، وسورة البقرة هي أطول سور القرآن وأكثرها أحكاماً، ومع ذلك جعل عنوانها البقرة، إشارة إلى القصة المذكورة فيها، والعناوين أنساب المضامين، كما أن العناوين أنساب الكتب، وكما أن النسب معتبر عند بني آدم، فكذلك العنوان معتبر في المضمون، أن عنونة هذه السورة الطويلة بالبقرة إشارة إلى ضرورة النظر في القصة، وهي كما ذكرت قصة ذات شأن وكلنا يعلمها، لكن أريد أن نقف على بعض جوانبها، لنفهم حقيقة الصراع الدائر بين المسلمين والكافرين.

قصة بني إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها

قصة بني إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها قصة البقرة هي قصة تتعلق ببني إسرائيل -باليهود على وجه الخصوص- قتل قتيل منهم فاحتاروا من الذي قتله فذهبوا إلى نبي الله موسى عليه السلام ليسألوه عن قاتل هذا القتيل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، وواضح أنه لا علاقة بين السؤال والجواب في الظاهر، فاعترض بنو إسرائيل لهذا الجهل، وهذا الفارق بين السؤال والجواب، وكان المفترض وهم يخاطبون نبياً ينقل عن الله صراحة لا ينقل عن رأيه أن يسلموا حتى وإن لم يعلموا الحكمة من الخطاب، فإذا صح نسبة خطاب إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحد قط أن يعترض على كلام ينسب إلى الله ورسوله، بدعوى الجهل به، وأنه لا علاقة بين السؤال والجواب، هذا غلو وتنطع يعاقب الله عز وجل عليه، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي لما سألوه (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) تواضع فنسب الأمر إلى الله، ما قال: أنا آمركم أن تذبحوا بقرة، وحتى لو قال هذه العبارة لوجب أن يمتثلوا طالما أنه نبي مرسل من عند الله، كما أن في نسبة الكلام والأمر إلى الله قداسة. فـ كعب بن مالك لما تخلف في غزوة تبوك، وتاب الله عليه وأنزل توبته، جاء كعب بن مالك فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك، قال: يا رسول الله! أهذا من الله أم منك؟ فقال: من الله، فقال كعب بن مالك: إذاً لا معقب لحكمه)، بمعنى أنه أكثر تثبيتاً للفؤاد وليس تشتيتاً، وليس هناك فرق بين ما يأتي من عند الله وما يأتي من عند النبي عليه الصلاة والسلام، إنما إذا جاء من عند الله مباشرة يسكن القلب مباشرة. وكذلك عائشة رضي الله عنها، لما ابتليت في حديث الإفك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشري يا عائشة! قالت أم رومان: قومي إليه فاحمديه، قالت: والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله، وفي بعض طرق الحديث أنها قالت: أمنك أم من الله؟) فإذا قال موسى عليه السلام: إن الله يأمركم وجب عليهم التنفيذ، ومن المعلوم أن الأمر المجرد من الله عز وجل يفيد الوجوب، والوجوب هو طلب الفعل من المكلف على سبيل الإلزام ليس له فيه اختيار، فإذا قيل: افعل يجب أن يفعل، ليس هناك حل آخر، وهذا معنى الأمر، إذا جاء الفعل بصيغة الأمر أفاد الوجوب ابتداءً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، إذاً واضح أنه مبلغ عن الله، وواضح أنه جاء بأمر ليس لهم فيه اختيار: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة:67] مع أن الكلام واضح أن الأمر من عند الله، قالوا: أتهزأ بنا وتسخر منا، وهذا سوء أدب؛ أن يعلم أن الأمر من الله ثم يرد هذا الأمر، ومعلوم أن الذي يستهزئ بالله عز وجل كافر. نقل إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم أن من سب الله كفر، ومن سب دينه كفر، ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر كفراً مجرداً عن الإيمان، لا يوجد كفر دون كفر في هذه المسائل الثلاثة، يكفر بمجرد ما يسب يخرج من الملة فوراً وتترتب عليه كل أحكام المرتد، فيفرق بينه وبين امرأته، ولا يدفع عنه الحكم أن يقول: أنا كنت غضبان، ولا مغلوباً على عقلي، لأنه المعروف أن السب يعني تنقيص، ولا يسب ربه رجل فيه خير، وتوقير الله عز وجل لا يحتاج إلى علم، حتى يقال: أنا كنت جاهل، جاهل بقدر ربك، هذا كفر مجرد. فكأنهم ينسبون موسى إلى الكفر، وينسبونه إلى الاستهزاء بالله عز وجل، وهو يصرح ويقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، فيقولون: أتتخذنا هزواً، كأنما قالوا: أنت تهزأ بنا، ونقلك عن الله غير صحيح، هذا معنى أتتخذنا هزواً، فرد عليهم رداً رفيقاً، رغم بشاعة ما قالوا في حقه من نسبته إلى الاستهزاء بأحكام الله، قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] رد رفيق ورقيق، وهكذا ينبغي عليك إذا رأيت جاهلاً أن لا تساويه في جهله فتكون جاهلاً مثله، رجل يسب لا تقل له اتق الله، لأنك إذا ذكرته بالله في غمرة الغضب سب الله، إنما سكنه ولا تقل له اتق الله، فإذا كان هائجاً والرجل يسب ويُرَجِّع في الكلام، ما هو المانع في غمرة الغضب أن يفعل ذلك، لا تعرض ربك للسب. إن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن من يلعن والديه، قالوا: يا رسول الله! أو يلعن أحدنا والديه؟ قال: نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه) رجل يسب رجلاً فالرجل يسب أباه وأمه كأنما هو الذي سبه لأنه هو الذي جره إلى ذلك، وقد قال الله عز وجل لنا مؤدباً وناهياً {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وأنت عندما تسب حجراً أو شجراً أو خشباً، ما هو قيمة الخشب؟ سيرد عليك عابد الحجر بسب ربك، فلا تسب الأصنام، لماذا؟ لأنهم عندما يسبون رب العالمين يرتكبون جرماً عظيماً، بخلاف ما إذا أنت سببت حجراً أو شجراً أو مدراً أو أي معبود من دون الله عز وجل. بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، فقد عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجلد رجلاً قال والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية جلده حد القاذف، وقال: نفيك عنهم الزنا وكونك تقول ذلك فيه إشعار إلى أنه زانٍ أو ممكن أن يزني، فوصل الأمر بصيانة الأعراض والتحذير من تهمة الزنا إلى هذا الحد، أن يجلد من ينفي الزنا عن والديه لأن فيه إشعاراً بأن هذا وقع منهما. فموسى عليه السلام يرد على هؤلاء الجهلة الذين ينسبونه إلى الاستهزاء بأحكام الله عز وجل رداً رفيقاً، والرد الرفيق أبلغ، وهو يوصل الكلام إلى القلب، قد يكابر الرجل عندما يسمع الحجة، وهو بداخله مقتنع، لكن حمله الكبر على عدم الاعتراف، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] أي بلسانهم {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] يعني هو في دخيلة نفسه يعلم الصدق، فأنت اجعل لقلبه طريقاً. فإن الله تبارك وتعالى قال لموسى لما أرسله هو وأخاه هارون إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فرد موسى عليه السلام على بني إسرائيل: أعوذ بالله: أي ألجأ إليه وأحتمي به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أعوذ بك منك) لأنه لا يحميك منه إلا هو، أعوذ برضاك من سخطك، هو هذا معنى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة:68] وهذا فيه جفاء أنهم لا ينسبون أنفسهم إلى الله، (اَدْعُ لَنَا رَبَّكَ) وهذا مثل قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] وأيضاً: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة:112] كأنه رب موسى عليه السلام وحده، والأخيار ينسبون أنفسهم إلى الله لأن هذا شرف كما قال يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]. وهكذا (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) إذاً هم يسألون عن ماهية الشيء، ماهية الشيء حقيقته وأصله. (اذبحوا بقرة) هذه لا تحتاج إلى وصف ماهية، لذا لو قال رجل لآخر: اشتر لي حماراً، فاشترى حماراً لأجزأه ذلك. {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] ثم جدد ذكر الأمر مرة أخرى، افتتح الكلام إن الله يأمركم، وبعد ذلك ختم فقال: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، تجديد الأمر ولفظ الأمر. لا فارض: أي ليست مسنة كبيرة، كما قال الشاعر: يا رب ذي ظغن علي فارض له قرء كقرء الحائض يقول: إن هناك رجلاً كرهه لي فارض كبير، له قروء: يعني له حالات تهيج فيها عداوته علي كما تهيج الحائض في أوقات حيضها، فرب ذي ظغن علي فارض أي: كبير. ففارض لا هي كبيرة جداً ولا هي بكر لم تحمل. (عوان بين ذلك): متوسطة شابة، وهذا كلام واضح جداً. (فافعلوا ما تؤمرون) لأنه يعلم أنهم لا يمتثلون لما يؤمرون به فأكد عليهم لذلك. أنا والله -يا إخواننا- أقلب كفي عجباً بعد هذا الكلام المبين، نحن نثق بوعود هؤلاء اليهود وهم كاذبون -ولعن الله السياسة التي لا دين لها- رب العالمين يقول هؤلاء لا وعود لهم ولا عهد لهم ولا ذمة لهم، ومع ذلك نقول: لهم ذمة ولهم عهد، وهذه مخالفة صريحة للقرآن، نصف القرآن فيه ذم بني إسرائيل، وبيان لغدرهم وقتلهم للأنبياء وخلفهم للوعود. ها هي الدولة الفلسطينية قالوا لهم: (18%)، بعد ذلك قالوا: (18%) كثير، إذاً (3%) محمية طبيعية، (10%) يأخذوها، ثم اعترضوا على (10%)، وبقي (7%)، وهكذا يتدرجون لصالحهم لأنهم لا مبادئ لهم ولا عهد ولا ذمة، ومطلوب الآن إخراج كل الآيات القرآنية التي تذم بني إسرائيل من مناهج التربية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص ممنوع تدريس سورة البقرة، لأنها فيها عداء للسلام، وفيها تهييج للعداوات، وقد استجابت مدارسنا لذلك، تطبيعاً لسياسة السلام، فحذفت الآيات المتعلقة ببني إسرائيل من كتب الدين، وقد رأيت هذا بنفسي وقارنت بين المناهج السنة الماضية والسنة هذه وجدت أنه حُذف كلام رب العالمين آيات، وهذا مطبق الآن، وطالما المسألة خرج منها الدين والتقوى فسينتصر من هو أقوى عدة. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول للجيش إذا أرسله يغزو: (اتقوا الله واجتنبوا معاصيه؛ فإنكم إذا عصيتم ربكم استويتم مع عدوكم في المعصية؛ ففا

الغلو في الدين وأنواعه

الغلو في الدين وأنواعه هذا التعنت وهذا الجحود وهذا الغلو في رد أمر الله تبارك وتعالى امتحنت به هذه الأمة، امتحنت بالغلو العقدي، وامتحنت بالغلو الجزئي في العمل، مع الفرق بين النوع الأول والثاني، الغلو الاعتقادي أشر؛ لأن صاحب البدعة لا يدع بدعته على الإطلاق مهما عُير، ثم هو يظن أن بدعته دين، فهو يريد أن يمضيه على الناس، كالخوارج مثلاً. النبي عليه الصلاة والسلام وصف الخوارج بأنهم أعبد الناس، وأكثر الناس صلاة وصياماً، وأقرأ الناس للقرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، هؤلاء الناس ماذا يفعلون؟ قال عليه الصلاة والسلام: (يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الأوثان)، يقتلون أهل الإسلام، فجماعة الهجرة والتكفير تعتقد أن دمي ودمك حلال، بينما النصارى واليهود أمنوا على دمائهم من هؤلاء. ففي مرة من المرات أحد المبتدعة مر على فرقة من فرق الخوارج، ومن المعلوم أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين، فأول ما عرف أنه وقع -ومن معه- في قبضة الخوارج، قال: أنا سأحتال لكم حيلة، حتى ننجو بجلودنا، فقال لأصحابه: أنا سأتكلم عنكم وأنتم لا تتكلموا، فلما دخلوا على هؤلاء الخوارج، سألوهم من أنتم؟ قال: نحن قوم مشركون، جئنا نسمع كلام الله، فنجا ومن معه من الهلاك المحقق؛ لأنه قال: أنا مشرك، لو قال لهم: أنا مسلم لقتلوه. وذلك من فهمهم لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فأخذوهم وأسمعوهم كلام الله، وأمّنوهم فقالوا: اتركونا نفكر في كلام الله الذي سمعناه، ونجوا بذلك، فالخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. رجل اغتاب أحد المسلمين عند الحسن البصري فقال له الحسن: سلم منك اليهود والنصارى والمجوس ولم يسلم منك أخوك المسلم، يعني أنه يغتاب أخاه في هذه المدة، وقد سلم من لسانه اليهودي والنصراني والمجوسي؛ فهؤلاء يتحركون بهذه العقيدة؛ لأن هذا الانحراف والغلو العقدي أخطر بكثير من الغلو العملي الذي غاية ما فيه أنه يتعلق بالشخص ذاته. كما في حديث أنس في الصحيحين أن رهطاً جاءوا أبيات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عمله، فلما سمعوا أنه يتزوج النساء، وأنه يقوم وينام ويصوم ويفطر، قال بعضهم لبعض. هذا رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي: هذا رسول الله عمل أو لم يعمل فهو مغفور له، أما نحن فلابد أن نجدّ ونجتهد، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، والثاني قال: أقوم ولا أنام، والثالث قال: أنا لا أتزوج النساء، فقصت عائشة رضي الله عنها هذا الكلام على النبي عليه الصلاة والسلام، فأزعجه الأمر، ونادى في الناس، فاجتمعوا فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، ألا إني أتقاكم لله وأشدكم لله خشية)؛ وذلك لأنهم تقالُّوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام فهؤلاء في نهاية الأمر وقعوا في الغلو الجزئي العملي الذي يعود على الشخص نفسه، بخلاف الغلو الاعتقادي، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، إذ أن أصحاب الثنتين والسبعين فرقة غلوا في الاعتقاد وخرجوا عن الحنيفية السمحة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (كلها في النار) بسبب انحرافهم عن الجادة: (إلا واحدة). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الغلو في الطاعات ممنوع

الغلو في الطاعات ممنوع الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، الطغيان: هو الغلو، وترك الاستقامة، ولذلك الغلو يحتاج إلى توبة حتى وإن كان في الشيء، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لـ ابن عباس في الحج: (التقط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو، فإنه أهلك من كان قبلكم) حصى الخذف الحصيات التي ترجم بها الجمرات في منى وتجمع من مزدلفة ينبغي أن تكون صغيرة مثل حبة الفول، هذا معنى مثل حصى الخذف، مثل الحجر الذي يوضع في المقلاع، فإذا أراد شخص أن يرمي بالمقلاع فإنه لا يأتي بحجر كبير إنما يأتي بحجر صغير، أي بمثل الحجر الذي تخذف به إذا رميت بالمقلاع. و (إياكم والغلو): أي إياك والغلو في اختيار حجم الحجر، فالشخص إذا زاد عن مثل حبة الفول في اختيار الحجر فقد غلا، حتى في هذه الجزئية البسيطة، (إياكم والغلو)، إن رمي الجمرات مسألة رمزية، أنت عندما ترمي الجمرات هذه مسألة رمزية، حتى يذكرك بالعداوة التي بينك وبين الشيطان، والتي نسيتها من جملة ما نسيت العداوات في الدين، من منا يكره اليهودي كرماً دائماً، أو النصراني كره دائم، ألم يبق في قلوبنا غيرة وحمية لرب العالمين؟! ألم يُشتم ربك؟! ألم يُسب ربك؟! قال الله تبارك وتعالى: (شتمني ابن آدم، وما كان له أن يشتمني، وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله أن لي ولداً، وأنا الله الأحد، الفرد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد) هذه جريمة؛ لأن نسبة الولد إلى الله تنقيص له تبارك وتعالى، فاليهود والنصارى يشتمون رب العالمين بذلك، من يكرههم في داخله أول ما يراهم ويحمل الغل عليهم، هل هذا موجود؟ لا. ما هو السبب؟ ضياع عقيدة الولاء والبراء، لو أن رجلاً سب أباك لربما دخلت معه في معركة وضحيت بحياتك؛ لأنه سب أباك، وهذا يسب رب العالمين، فأين ولاؤك له. جيء برجل نصراني مرة إلى شريك بن عبد الله النخعي -أحد قضاة المسلمين- وكان هذا الرجل وثيق الصلة بامرأة أمير المؤمنين، يخدمها، وكان يظن أن صلته بزوجة أمير المؤمنين قد ترعب القاضي، لكن القضاة في ذلك الزمن كانوا متدثرين بالدين، وعزهم كان بعز هذا الإسلام، وكان الخلفاء يوقرونهم فقضى عليه شريك بالجلد، فجلد الرجل وبعد ذلك ركب بغلته مذلولاً ومتضايقاً يضرب البغلة، فقال له شريك: ويحك لا تضربها فإن البغلة التي تركبها هذه أعبد لله منك. (وكذبني ابن آدم، وما كان له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقوله أنني لا أحيي الموتى، وليس آخر الخلق بأشق علي من أولهم) إنشاء الإنسان من عدم يختلف عن إنشائه بعدما كان له أصل، الأول أقوى، فهؤلاء كذبوا الله وشتموه. ظهر في هذه الأزمنة مصطلح الأخوة الإنسانية والوحدة الوطنية، وهذا ليس تحريضاً مني على النصارى ولا على اليهود، لكن هذه مسألة عقيدة، نحن لا نظلم أحداً، ولا نجور على أحد، ولا نستحل مال أحد، ولا نستحل دم أحد، إلا بشرع الله. لا تقولوا أنني أتعنت في ذلك، نحن لا نستحل مال ولا دم أحد ونعاشر بالمعروف ولا نظلم، لكن يبقى لي عقيدتي التي لا أفرط فيها، لا أظلمه لكن أكرهه، ولا أحبه ولا أواليه ولا أقول يوماً ما: إنه أخي أبداً ولا تخرج من فمي ولا تجري على لساني؛ لأن هذا حرام، هذه كبيرة من الكبائر، لا يحل للمسلم أن يقول: إخواننا اليهود أو النصارى، ولا أتولاهم ولا أحبهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب). الغلو في الدين حتى في مقدار الحجر الذي ترمى به الجمرات ممنوع، الغلو في الدين حتى في الطاعات ممنوع، في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين، قال: لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب إذا تعبت من كثرة القيام لله، طرحت جسدها على هذا الحبل لتريح رجليها، فقال عليه الصلاة والسلام: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد، إن الله لا يمل حتى تملوا). والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلعله يسب نفسه وهو لا يدري). حتى في هذه الطاعات الغلو ممنوع؛ لأن القلب له إقبال وإدبار: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فالغلو حتى في العبادة ممقوت، ونهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا دعوة إلى الكسل والنوم والخلود للراحة، بدعوى عدم الغلو، لا. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ليصل أحدكم نشاطه) آخر طاقتك افعلها، فإذا أحسست بالفتور اجلس حتى لا تكره العبادة، وحتى تكون مقبلاً على ربك تبارك وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

مؤامرة تحرير المرأة

مؤامرة تحرير المرأة إن الحديث عن واقع الأسرة المسلمة مؤلم جداً، فدعاة تحرير المرأة من دينها يحيكون المؤامرة تلو المؤامرة منذ عشرات السنين من أجل زعزعة البنية الاجتماعية للأسرة المسلمة، بدءاً من دعوة الطهطاوي وقاسم أمين وهدى شعراوي، وسعد زغلول وانتهاءً بالقرارات الوزارية التي تهدف إلى إفسادها وإخراجها من بيتها، فيجب علينا جيل الصحوة أن نهتم بالمرأة؛ لأنها الأساس في صلاح المجتمع.

قصة موسى مع ابنتي صاحب مدين وغيرته عليهما

قصة موسى مع ابنتي صاحب مدين وغيرته عليهما إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقد كان من خبر موسى عليه السلام أنه لما انكشف أمره، أنه هو الذي قتل القبطي، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] * {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، الفاء في قوله تعالى: (فَخَرَجَ) فيها دلالة على المبادرة بالخروج. بمعنى أنه خرج بلا زاد، بلا أهبة استعداد، خرج بلا دليل يدله، وما بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، خرج على الفور، خرج جائعاً، طريداً، خائفاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، هو عار من قوى الأرض كلها، {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]؛ لم تكن له عدة على الإطلاق، إنما خرج فاراً ناجياً بنفسه، وفي قوله تعالى: (تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) فيه دلالة على أنه لم يكن يعرف أين يتوجه؟! إنما خرج هارباً، ما قصد بلداً بعينه، وهذا واضح من كلمة تلقاء. تلقاء: أي في تلقائية، ليس هناك ترتيب، إنما خرج هارباً، وهذا أدعى للحيرة، وهو المناسب للخروج بلا عدة ولا ترتيب. فتصور رجلاً خرج بلا أي زاد، ولا يدري إلى أين يذهب، يحمله ليل ويحطه نهار، مثل هذا الذي صنعه الله عز وجل على عينه لا يكون معتمداً بقلبه إلا على الله، إنني أقول ذلك لتعيش هذا الدور، ولتعلم أن الذي يتوجه إلى الله عز وجل بقلبه فإنه لا يخيبه، إنك لو قصدت رجلاً شريفاً نبيلاً، وقلت له: احمني فإنه لا يسلمك إلى عدوك؛ لأن هذا هو المناسب لكرمه وحلمه ونبله وشرفه. لما خرج سفيان الثوري رحمه الله هارباً من الخليفة، لقيه أحد عمال الخليفة، وكان رجلاً جواداً كريماً اسمه معن بن زائدة، فلما لقيه معنٌ وكان لا يعرفه، قال له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: نشدتك الله لما انتسبت إلي؛ لأنه بإمكان أي واحد في الدنيا أن يقول: أنا عبد الله بن عبد الرحمن، فناشده الله أن ينسب نفسه، فقال: أنا سفيان، ومعلوم أن سفيان الثوري آنذاك كل الناس تبحث عنه، قال: أنا سفيان، قال: سفيان بن سعيد، قال: نعم. وكان من المفروض أن يقبض عليه، ومعن بن زائدة أحد عمال الخليفة، يعني بمثابة المحافظ الآن. فقال له: خذ أي طريق شئت، فوالله لو كنت تحت قدمي ما رفعتها يعني: أنا لا أسلمك. وهكذا جرت سنة الرجال النبلاء، فكيف برب العالمين!! قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، حسن الظن بالله عز وجل يقوي القلب على العمل. لأنك تعلم أنه يقوي ضعفك وأنه محيط بعبيده، وأنه ذو القوة المتين. فالذي خرج بتلقائية بلا إعداد ولا ترتيب: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، دخل مدين بعد ثمانية أيام، لم يكن له طعام في هذا السفر الطويل إلا ورق الشجر، قلنا: خرج بلا زاد، إذاً: دخل مدين وهو مكدود، متعب، مجهود، يتمنى الراحة، خرج خائفاً يطلب الأمن وهو لا يدري ما تخبئ له المقادير، خرج هذا الإنسان فاراً من الخوف فوقع في خطب أعظم مما فر منه؛ لأنه لا يدري ما يخبئ له القدر. فلما دخل مدين وجد أمة من الناس، أي: خلق كثيرون: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، تذود: أي: تكف الغنم عن البئر. هذا يوم الورد، أي ورد الماشية على السقيا، وكل رجل من هؤلاء الرجال معه غنم ومعه بهائم، والكل حريص على أن يسقي ويرجع، والكل يتزاحم، لكنه وجد امرأتين تذودان الأغنام حتى لا تختلط بأغنام القوم: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، لاحظ كلامه: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]. وهنا تظهر العضلات!! والشجاعة ما خطبكما؟ والمرأة الحرة لا تخالط الرجال. المرأة الحرة درة مكنونة وجوهرة مصونة، إنما يخالط الرجال الإماء اللواتي يُشترين من الأسواق، وإنما الحرة مخبأة، لا يراها أحد؛ لأنها حرة، والقائم عليها حر، فهو يستنكر أن تخرج امرأته ليراها الخلق، ولذلك قال موسى -حين رأى امرأتين حرتين تختلطان بالرجال- قال: ما خطبكما؟ الخطب الذي هو المصيبة، يعني: أيُّ مصيبة أوقعتكما حتى اختلطتما بالرجال، المرأتان كانتا مرهفتا الحس لما سمعتا: ما خطبكما؟ قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].

التحرز من مواطن الريب

التحرز من مواطن الريب (وأبونا شيخ كبير) أي: لا تسيء الظن بنا، فنحن ما خرجنا لنختلط بالرجال، وإنما الذي أخرجنا أن أبانا شيخ كبير، فدعتنا الضرورة للخروج، هذا الذي جعلنا نخرج، وهكذا الحر، إذا شعر أنه وقع فيما يسيء إليه وإلى مروءته ونبله، سارع وأعطى الدليل أنه ليس كذلك. أخي الكريم! لست ملكاً كريماً ولست نبياً مرسلاً، ولم ينزل وحي بتأييدك، فلن تنجو من سوء الظن بك مهما كان قدرك، فلا تتلبس بالشبهات، ولا تستعلي وتقول: لا، أنا فلان الفلاني، أنا الذي يعرف الناس نبلي وقدري وديني وتقواي، لا. فرب العالمين سبحانه لم يؤمن به إلا القليل من عباده والأغلب كفروا به سبحانه وتعالى ويسبونه ليل نهار، قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، ويشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني، فأما تكذبيه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، أوليس إعادة الخلق بأهون علي من ابتدائه وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الله الأحد الصمد، لم أَلد ولم أُولد، ولم يكن لي كفواً أحد) {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] يسبونه ليل نهار، ويشتمونه، حتى بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام عندما تقع لأحدهم مصيبة، يقول: لماذا يا رب؟! أنا ماذا فعلت؟! لماذا اخترتني من دون الناس؟ تراه يعترض على أقدار الله وحكمته، يقول الباري عز وجل كما في الحديث القدسي: (خيري إلى العباد نازل وشرهم إليَّ صاعد). ومع ذلك لم يسلم من ألسنة الخلق، وهو ربهم، ولا قوام لهم إلا برعايته إياهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كفر به أكثر أهل الأرض، فلا تقل: أنا رجل محترم، أو أنا رجل لي مكانة، فتتلبس بالشبهات، وتظن أن الناس تحميك أو تدافع عنك، لا. فقد جاء في الحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً فجاءته صفية، فتحدثت معه فلما أرادت أن ترجع خرج معها ليقلبها -أي: ليوصلها إلى البيت- فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف أسرعا الخطا، فناداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -يعني: أونظن فيك الشر أو السوء؟ أو أن تكون قد وقفت مع امرأة لا تحل لك؟ هذا في الظاهر- قال: إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً فتهلكا) أي: لو أنهما أساءا الظن بالنبي صلى الله عليه وسلم هلكا، فإن من أساء الظن بنبيه كفر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نادى وقال: (على رسلكما إنها صفية). فالمرأتان حرتان، ومن بيت كريم. ليستا ابنتي النبي شعيب كما ذهب إليه أكثر المفسرين. ليس هذا الرجل هو شعيباً النبي. لا. إنما هو رجل صالح، والدليل على ذلك أن شعيباً عليه السلام قال لقومه وهو يعظهم {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، وجاءت قصة شعيب بعد قصة لوط، ولما يقول لهم: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، أي: أن هلاك قوم لوط كان قريب العهد بهم. حتى يتسنى لهم النظر والاعتبار، ولوط عليه السلام كان في زمان إبراهيم عليه السلام، قال تعالى بعدما ذكر قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ولما جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام وتوجهوا إلى القرية المؤتفكة ليقلبوها على من فيها، قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت:32]، وما بين إبراهيم عليه السلام وصاحب مدين أكثر من أربعمائة عام، فالصواب أنه عبد صالح وليس شعيباً النبي، ويدل على ذلك أيضاً أنه لو كانت المرأتان ابنتي شعيب النبي لعرف أهل مدين قدرهما، وما تركوهما، إنما كانوا أعانوهما على السقيا؛ لأنهما ابنتا النبي الكريم، نبي مدين. إنما هو رجل صالح ممن آمن بشعيب عليه السلام وحمل رسالته. إذاً: المرأتان من بيت كريم سواءٌ كانتا ابنتي النبي شعيب، أو كانتا ابنتي رجل صالح، فهما من بيت كريم، بيت ملتزم، بيت يحمل لواء الدين في قرية أغلبها كفرة، فالمناسب أن لا تخرج هاتان المرأتان الحرتان إلا لضرورة. انظروا إلى واقعنا الآن، فإنه يبعث على البكاء.

قاسم أمين ودوره الخبيث في قضية تحرير المرأة

قاسم أمين ودوره الخبيث في قضية تحرير المرأة إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين. قضية لها شأن، وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت. لما قرأت مذكرات قاسم أمين، ومذكرات سعد زغلول؛ لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين، وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه، ذهب إلى فرنسا، وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج، يعني: مثلاً: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول، جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها، لماذا؟ قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق، فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد الوزن وبذلك يزداد ويرتفع، وهذا كلام ساذج. لا، هم يريدون أن يطعمونا الميتة التي حرمها الله، والمسألة ليست مسألة مال كما تظن أنت، وإنما لتأكل ما حرم الله عليك: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، هذا هو الواقع، ومن عرف عدوه، يجب عليه أن يحذره، لكن نحن ابتلينا بقوم غافلين، تجد الواحد يقول لك: يا أخي! أنت لماذا تسيء الظن بهم؟ وما أدراك؟ نعم. أنا أدري لأن الله عز وجل هو الذي وصف لنا هؤلاء. وأعداؤنا لا يتصرفون هكذا بعشوائية تلقائية. فحرب الخليج -مثلاً- هم يخططون لها من عشرين سنة، وهذا الكلام لا أخرجه من كيسي، إنما هذا في مذكرات القادة العسكريين، والساسة الغربيين، إنهم يخططون لحرب الخليج من عشرين سنة، فلو أن رجلاً قال: يا جماعة! إنهم يخططون لحربكم من مدة، لضحكوا عليه وقالوا: أنت رجل سيء الظن. مع أن كتاب: بروتوكولات حكماء صهيون، كل كلمة فيه نُفِّذت. وهذا الكتاب ترجم إلى العربية، وكأن العرب قوم لا يقرءون، وإذا قرءوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون. والصهاينة هؤلاء، قالوا: سنفعل بالمسلمين كذا وكذا وكذا. وكل كلمة سطروها في هذا الكتاب فعلوها، فهم قوم لا يلعبون.

دعوة قاسم أمين إلى السفور في كتابه: المرأة الجديدة

دعوة قاسم أمين إلى السفور في كتابه: المرأة الجديدة لـ قاسم أمين كتاب آخر كتبه وأسفر فيه عن وجهه، كتاب اسمه: المرأة الجديدة، كتبه بعد كتاب: تحرير المرأة فثار الناس عليه فانكمش وانزوى ولزم بيته، لكنها لم تكن بالحدة التي كانت على رفاعة الطهطاوي؛ رفاعة الطهطاوي الذي مجده دعاة تحرير المرأة، وكل شخص يمجده هؤلاء ففتش في سيرته تجد أن له سوءات، لا يمجدون رجلاً عفيفاً أبداً أبداً، فكل شخص يمجدونه ويرفعونه تعرف أنه خائن لهذه الأمة، رفاعة الطهطاوي هذا أتى قبل قاسم أمين وبدأ يدعو إلى تحرير المرأة، لكن العلماء والناس وقفوا له بالمرصاد فلم ينجح وماتت دعوة رفاعة الطهطاوي في مكانها، أما قاسم أمين فقد كان البناء الاجتماعي بدأ يتغير، وبدأ التفسخ والانحلال ينتشر، فلما وجد قاسم أمين ذلك أراد أن يبث سمومه، ولكنهم ثاروا عليه فانكمش وانزوى ولزم بيته، فذهب سعد زغلول إليه في بيته وقال له: قل ما تريد، واكتب ما تشاء وأنا أحميك، فلما قال له ذلك كتب كتاباً تحت عنوان: المرأة الجديدة الذي يدعو فيه إلى سفور المرأة وإلى نزع الحجاب، ويقول: نريد امرأة جديدة في هذه الأمة، كالمرأة التي في باريس، والمرأة التي في انجلترا، وبدأ بالدعوة إلى تحرير المرأة. ونقل معارك الغرب إلى الشرق. ما هي قضية المرأة في الغرب؟ إنها مسألة: المساواة في الأجور، المرأة في الغرب تعمل كالرجل جنباً إلى جنب، وتنتج نفس الإنتاج، وتشتغل نفس عدد الساعات؛ فلماذا يكون أجرها أقل من أجر كالرجل؟ هذه هي القضية التي كانت في الغرب، لكن ما هي القضية التي أثارها قاسم أمين في بلاد المسلمين بالنسبة للمرأة؟ ما هي القضية التي أراد أن ينقلها من هناك إلى بلادنا؟ هل تعرف ماذا كانت القضية؟ إنها قضية نزع الحجاب. وما علاقة الحجاب بمسألة المساواة في الأجور؟ لقد كانت الدعوى كلها قائمة على السفور، ونزع الحجاب من المرأة المسلمة، وما قرار وزير التعليم من سنتين منكم ببعيد، لما أصدر قراراً بمنع ارتداء الحجاب في المدارس، وقامت الدنيا ولم تقعد، وتراجع الوزير عن قراره، لكنه قال هذا الكلام قبل دخول المدارس بشهرين!! ماذا يعني هذا؟ يعني: لا تظن أن القرار خرج هكذا!! لا. فقبل دخول المدارس بشهرين، وفي الوقت الذي يفصل فيه أولياء الأمور الزي المدرسي للبنات، نزلت قرارات بلبس الزي، لكن الآباء فقراء، وليسوا على استعداد أن يفصلوا لبناتهم الزي المطلوب، ثم بعد ذلك يفصل لها الحجاب، وكان قد حصل الامتناع في بداية الأمر، لكن ما الذي حصل؟ حصل أنه لا بد أن يلبس البنات الزي المطلوب، ويمنعن البنات من أن يلبسن إلا خماراً واحداً، كان قبل ذلك لها أن تلبس خماراً واثنين، وكان النقاب زيادة على ذلك، فلما أصر الوزير على قراره لبسن البنات كلهن النقاب، ولبسن القميص على حسب التعليمات. وبعد ذلك يقوم الوزير ويصدر القرار بأنه ممنوع على البنت في الابتدائي أن تضع خماراً على شعرها، لماذا تمنعونها؟ قال: لأن الخمار يؤثر على عقلها: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، استخفاف بالعقول كأننا لا نفهم!! امرأة تضع الحجاب على شعرها يؤثر على عقلها!! انظروا، كل شيء خالٍ من المنطق، وخالٍ من التفكير السديد.

فتاة فرنسية تلعب بقاسم أمين

فتاة فرنسية تلعب بقاسم أمين ولما ذهب قاسم أمين إلى فرنسا وصل غريباً، وقابلته فتاة لعبت بعقله وقلبه. تخيل أن رجلاً غريباً في بلدة بعيدة ووجد من يؤنس وحدته، ومن يكرمه، ومن يدعوه على الغداء والإفطار والعشاء والمبيت، ويقول له: أنا ند لك. هكذا قابلته هذه المرأة، ولم يكن تعرفها على قاسم أمين هكذا، وإنما وضعت عمداً في طريقه، لقد لعبت به هذه المرأة، وهو يقول: إن علاقتي بهذه المرأة علاقة بريئة، صداقة بريئة. والبراءة التي يقصدها أنه لم تقع بينهم فاحشة الزنا؛ لأنه لو وقع بينهما فاحشة لسقطت المرأة في حسه وقلبه. هذه المرأة أخذته إلى النوادي والمنتديات وانبهر لما رآه، خرج من بلد فيه (حريم)، كان يطلق على النساء (الحريم)، وكان اسماً جميلاً، الحريم من الحرمة، ولأن النساء كان يحرم عليهن أن يراهن الرجال والعكس، وقديماً كانوا يسمون الطبيب (حكيماً)، وهذا أفضل ألف مرة شرعاً وعرفاً من وصف الطبيب؛ لأن الحكيم: هو الذي يضع الدواء في موضعه، هذا هو معنى الحكمة. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمى الرجل طبيباً، كما في الحديث الصحيح: (أنه جاءه رجل ليطبّه فقال له: إني طبيب، قال: لا. أنت حكيم والله الطبيب)؛ لأن حقيقة الطبيب هو الذي يرفع العلة، ولا يرفعها إلا الله. ولهذا لما قيل لـ أبي بكر في مرض موته: أنأتيك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. أي الذي يرفع العلة تبارك وتعالى هو الذي قدر عليه الداء فخرج قاسم أمين من بلد الحريم، حيث لا يرى النساء، ولا يختلط بالنساء إلى بلد يعج بالسفور، وأول مرة يجد نساء سافرات لطيفات، خفيفات، ظريفات، يتكلمن معه، فهاب في أول الأمر، لماذا؟ لأنه ما اعتاد على ذلك، لكن سرعان ما وجد الجرأة والراحة النفسية، وأقبل على النساء بدون خوف.

رجوع قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاب تحرير المرأة

رجوع قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاب تحرير المرأة لما رجع قاسم أمين إلى بلده، رجع بوجه آخر غير الوجه الذي سافر به، وكتب كتاب: تحرير المرأة. تحرير المرأة لـ قاسم أمين لم يصرح فيه بما يريد؛ لأنه خائف من التقاليد، ولأنه لو قال للرجال: أخرجوا نساءكم، واسمحوا لهن بالكلام مع الرجال لما سمحوا له بذلك، لماذا؟! لأن التقاليد كانت أقوى، ولما سكت عليه رجال الإسلام، قام وذكر في كتابه: تحرير المرأة. فقال مثلاً: لقد أهملنا المرأة فأهملنا تعليمها وتثقيفها، فأخرجت لنا أجيالاً ممسوخة، وقد كان على حق في هذا. فالأمة قررت فعلاً حرمان المرأة من التعليم والتثقيف، حتى كان قائلهم يقول في ذلك الزمان: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات، المرة الأولى: من رحم أمها إلى الدنيا، والمرة الثانية: من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والمرة الثالثة: من بيت زوجها إلى القبر. أي شرع يقول هذا الكلام، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن معه في السفر، وكن نساء المسلمين يخرجن أيضاً للغزوات يسقين المسلمين، ويضمِّدن الجرحى، ويشاركن بالغزوات؟ من الذي قال: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات؟ كانت المرأة قديماً تخرج لحاجتها؛ لأن العرب لم تكن تتخذ الكنف في البيوت، وذلك: (لما خرجت سودة رضي الله عنها -زوج النبي عليه الصلاة والسلام- وكانت امرأة بدينة، فخرجت بعدما ضُرب الحجاب، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: انظري يا سودة كيف تخرجين! فوالله ما زلت معروفة، فغضبت سودة، ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في بيت عائشة يأكل، فدخلت عليه فشكت له عمر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ولم تخرج من عنده حتى أوحي إليه، فقال لها: إنه قد أُذِن لكن أن تخرجن لحاجتكن). فالمرأة ليست كما قال هذا القائل، والحق أن الأمة فرطت في تربية النساء فعلاً، فـ قاسم أمين استغل هذا التقريط وقال: إن النساء يتكلمن في كل مكان، ولهن حق التعليم، وأنا لا أريد أن تخرج المرأة عن دينها، كما في كتابه: تحرير المرأة.

مسرحية نزع النساء المصريات للحجاب أمام الإنجليز

مسرحية نزع النساء المصريات للحجاب أمام الإنجليز عندما خرجت النساء إلى ميدان الإسماعيلية، الميدان الذي يسمونه الآن ميدان التحرير -أي: الدعوة إلى تحرير المرأة!! - وخرجت امرأة سعد زغلول مع النساء، فسئل إلى أين يذهبن؟ قال: ذهبن ليحاربن الإنجليز! بماذا يحاربن؟ قال لك يرمين الإنجليز بالورد!! أهذا هو مشروع النساء؟!! ومن كثرة الغيظ على الإنجليز خلعت امرأة سعد زغلول نقابها -هذه مسرحية- وتمضي المسرحية، وحرق الحجاب ضاع في زحمة الأحداث؛ لأن الذين كتبوا في الصحافة آنذاك لم يتعرضوا لحرق الحجاب، إنما تعرضوا لضرب الإنجليز للنساء، وبطولة النساء، وأن النساء المصريات شجاعات، وأنهن وقفن للإنجليز، وضاع الحجاب في الزحمة، هكذا أرادوا! لو أنهم وقفوا عند مسألة حرق الحجاب، وناقشوها بعقل، وقالوا لأنفسهم: ما علاقة الإنجليز بالحجاب؟ هل الإنجليز هم الذين فرضوا الحجاب على المرأة، ولأجل ذلك نكاية بالإنجليز تقوم النساء فتحرق الحجاب؟ ومضت المسألة، دون وقفة وكان مراداً، مضت المسرحية وخفت صوت أهل العلم أمام الطوفان الجديد.

مطالبة البنت بحق التعليم أول خطوة اتخذها الأعداء

مطالبة البنت بحق التعليم أول خطوة اتخذها الأعداء بدأت البنت تطالب بحق التعليم؛ والبنت لها الحق في التعليم، هناك مدارس للبنات، ليس فيها إلا امرأة ما عدا رجلين، المدرس الأول مدرس اللغة العربية؛ لأنهم لم يجدوا نساءً أَكْفاء يدرسن اللغة العربية، فيأتون برجل في سن ستين سنة، فيكون بمنزلة الوالد للبنات، ويكون عادة رجلاً وقوراً وعفيفاً حتى لا ينفسخ الأمر، والرجل المسئول الذي هو الأخصائي الاجتماعي، دوره وعمله في المدرسة ليقابل أولياء الأمور؛ لأنه لا يوجد في الفصل إلا نساء، وترى البنت تخرج وهي لابسة القبعة وقد دلَّت ضفيرتين على ظهرها، يقول: لا مانع يا أخي! إنها بنت صغيرة لم تبلغ الحلُم، لما تُخرج الضفيرة لا إشكال وليس هناك مانع من ذلك. وتكون الناظرة للمدرسة امرأة إنجليزية، كانت متشددة إلى أقصى درجات التشدد، بحيث لو خرجت البنت لمدة خمس دقائق تقوم بتحويلها للتحقيق، وتأتي بولي الأمر، وتقول له: البنت تلعب، البنت هذه أين كانت في الخمس دقائق؟ ما بعده التزام؟! فلماذا الرجل لا يسمح لابنته أن تذهب للمدرسة وهي تذهب في عربة إلى أن تصل، وتدخل المدرسة، وتقابلها ناظرة إنجليزية حازمة في التربية!! وبعد الانتهاء من الدرس تعود في عربة إلى البيت، إذاً: البنت لا تغيب عنهم طرفة عين، وفي نفس الوقت تتحصل على الآداب والعلوم، وتقرأ وتكتب وتستفيد، فما هو المانع. هكذا بدأ الأمر واستمر ثم خفت قليلاً قليلاً، وتصبح بعد ذلك الناظرة على المدرسة امرأة مصرية، وكان الآباء من كثرة اطمئنانهم على بناتهم لا يذهبون معهن إلى المدرسة، فصرنا نرى البنات زرافات ووحداناً يمشين وحدهن في الشوارع، واستمر الأمر هكذا حتى صار عرفاً عاماً، وإن الرجل الذي لم يدخل ابنته المدرسة كان ذلك عارٌ عليه، ولكن بعد أن تقضي البنت كل هذه السنوات من سن ست سنين إلى سن اثنين وعشرين سنة، وهي تدرس، وجئت بعد ذلك وقلت لها: اجلسي في البيت، تقول لك: إذاً: لماذا كنت أتعلم؟ إذا كان العلم إلا لمجرد أن أقرأ وأكتب فلا، تعلمت لأجل أن أعمل. يقولون: يجب أن تعلم المرأة حتى يكون معها سلاح. فيا ترى هل ستدخل في حرب؟! فصارت المسألة طبيعية تتعلم لتعمل، وهكذا أريد بأمتنا، حتى صار النساء إماءً في زي الحرائر، فأين نساءنا من هاتين البنتين كما في قوله تعالى: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]. فلا تسئ الظن بنا وتقول: لماذا خرجتن من بيوتكن؟ إن الذي أخرجنا هو الضرورة القصوى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] فأين الضرورة في خروج المرأة في عصرنا هذا؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

وجوب إعادة النظر فيما يتعلق بالمرأة

وجوب إعادة النظر فيما يتعلق بالمرأة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام! إن صلاح البنيان الاجتماعي لا يكون إلا بإعادة النظر في أمر المرأة، ولابد لكل دعوة إصلاحية من شهداء، أفلا تكون شهيداً، أفلا تكون طليعة من طلائع الفتح، إننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء، إعادة النساء إلى البيوت مرة أخرى، نعلمهن كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى بهما، فالبنت لا تحتاج أن تتعلم الإنجليزي ولا الفرنسي، ولا جغرافيا، ولا تاريخ، ولا تربية قومية، ولا حساب مثلثات، ولا كيمياء، البنت لا تحتاج إلى هذا كله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، نحن نحتاج إلى زوجات صالحات، الأمهات يعلِّمن البنات كل شيء؛ لأنهن سيكن زوجات بعد ذلك، كثير من البنات يتعثرن في بداية حياتهن الزوجية، لماذا؟ لأن الأم لم تعلمها كيف تطبخ، ولا كيف ترعى الزوج، لم تعلمها الكياسة، ولا الفطنة، ولا الذكاء، تدخل على زوجها ومعها سلاح، ولو أن المرأة معها شهادة عليا (ماجستير) أو (ليسانس)، وتقدم رجل معه دبلوم، وهو رجل صالح، ورجل فاضل، يقولون: لا. لماذا؟ لأن هناك تفاوت في الكفاءة، أي كفاءة هذه؟ لكن انظر إلى المرأة العاقلة التي تربت في البيت الملتزم فعلاً ماذا قالت؟! {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. هذه هي مواصفات الزوج الصالح، إذا ظفرت برجل قوي أمين فعلى بركة الله زوجه ولا تتوقف، أما قولهم: إنما هي داخلة ومعها سلاح ماضٍ، وهو سلاحه أقل منها، هل هم داخلون في معركة، هذا التغير الدماغي كان سببه النساء. فلا بد حينئذ من نساءٍ يعملن لله، يقلن: نحن سنرجع الأمر إلى قوامه فعلاً كما كان، فلا يسمحن لبناتهن ولا يسمحن لنسائهن، ولا لأخواتهن أن يختلطن بالرجال، فلا بد من طائفة نسائية تقوم بهذا وتفعله هذه المرأة عن رضا، وأنها نذرت نفسها لله عز وجل، وسيؤتي هذا الغرس ثماره ولو بعد حين.

استمرار دعاة الانحلال في دعوتهم إلى آخر لحظة وعجزنا نحن

استمرار دعاة الانحلال في دعوتهم إلى آخر لحظة وعجزنا نحن فهذا قاسم أمين وقد وقف خطيباً في طائفة من نساء رومانيا في اليوم الذي مات في ليلته، وهن فتيات جئن من رومانيا إلى مصر، في رحلة سياحية ترفيهية، فوقف فيهن خطيباً وقال: إنني أتمنى أن أرى بنات مصر يختلطن بالشبيبة، ولا يكون بينهما أي تحرج كما أرى هؤلاء الفتيات العذارى اللاتي خرجن من بلدهن لطلب المعرفة والاستزادة من العلوم. الدعوى الخاصة به بدأت برحلته إلى فرنسا، ثم رجع، ودعا إلى تحرير المرأة، وإلى تعليمها، لكن العلماء هجموا عليه، فانزوى في بيته، ثم عاد إلى دعوته، أخذه السلطان، ثم خلصه سعد زغلول من يده، وقال له: أنا سأحميك، فانطلق من يومها داعياً إلى السفور والتبرج والاختلاط إلى آخر يوم من حياته كما مر معنا.

هدى شعراوي ودعوتها إلى السفور

هدى شعراوي ودعوتها إلى السفور وهذه هدى شعراوي خرجت إلى باريس محجبة، وكان أبوها رجلاً أفندياً؛ وهدى هانم شعراوي هي ابنة هذا الأفندي، هذا لقب كانت النساء من البيوت الشريفة تتلقب به، مثل أفندي وباشا، هي خرجت محجبة، ولما رجعت من باريس خرج أبوها مع طائفة من الناس الكبار ليستقبلوها عندما تنزل من المركب؛ نزلت من المركب وقد نثرت شعرها على ظهرها، فاستحيا أبوها عندما رأى منظرها، فلما رجعت قامت وفتحت صالوناً واجتمع الرجال عندها، وجاء الصحفيون، فأول ما تدخل عليهم كانت تعطي للصحفي قرشين ليكتب مقالة في الصحيفة عن رقة (الهانم)، وعن عذوبة ابتسامتها، وبدأت القصة هكذا، قصة لها جذور عميقة، ألا ينبغي أن تمر هذه القضية بدون تأمل؟! إنها تحتاج إلى تأمل ووقفات، كما قلت: كل دعوة إصلاحية لا بد لها من شهداء، أفلا تتشرف وتكون شهيداً، قد يرمونك بالجمود والتخلف والتطرف، وأنك ضيعت بناتك، لكنك تدري ما تريد، تعرف قصدك وغايتك. فنحن نستفيد من موقف هاتين المرأتين حيث قلن: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]: أنه لا ينبغي لأحد أن يلقي نفسه في مواطن التهم، ويعتمد على سيرته، وعلى مكانته بين الناس، فلستَ مرضياً عند كل الطوائف، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه). وقال قبلها: (اتقوا الشبهات) لماذا؟ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، مهما كان قوياً ومهما كان أصيلاً ونبيلاً كاد أن يقع فيه، ألا وإن حمى الله محارمه.

دور سعد زغلول في الدعوة إلى السفور والانحلال

دور سعد زغلول في الدعوة إلى السفور والانحلال أيها الإخوة الكرام: ينبغي على الذين يتصدون للإصلاح، أصحاب الدعوات الإصلاحية، أن لا يغفلوا قراءة، مذكرات الساسة، ومذكرات من كان لهم حق إصدار القرار والتشريع، ليعلم أين الداء فيضع الدواء في موضعه. لما قرأت مذكرات سعد زغلول، وسعد زغلول تعرفون أنه زعيم وطني حسب زعمهم، وقاموا بتلميعه، وأنه قائد ثورة تسعة عشر، أراد هذا الرجل أن يخرج لنا ديناً ممسوخاً، إنه لا يعرف شيئاً عن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا أيام البطولات، عندما تقرأ في الكتب المدرسية تجد أنهم يعرضون تاريخنا بصورة مختصرة شوهاء، ليس فيها تمجيد، إنما فيها حكايات تلقى. مثلاً: كتب التاريخ عندما يتكلمون عن الجاهلية والإسلامُ، العبارة هذه حفظناها في الكتب، يقول لك: جاء الإسلامُ والجاهليةُ تَعُمُّ جزيرة العرب، فقد كانوا يشربون الخمر ويئدون البنات، ويلعبون بالميسر، هذا فقط!! يعني: الإسلام لما جاء كانت هذه هي أخلاق الجاهلية. فالجماهير عندما لا تجد وأد البنات، ولا تجد أن هناك أصناماً منصوبة تعبد. ولا تجد شرب خمر علني ولا ميسر علني، يتصورون أن الإسلام متربع في طول البلاد وعرضها، ولا يدرون أبداً أن الإسلام جاء ليحكم، فهذا غير معروف لديهم، حتى صارت مواصفات الجاهلية عند الجماهير هي: وأد البنات، وشرب الخمر، وعبادة الأصنام. وطالما أن الأصنام غير منصوبة ولا موجودة لنعبدها، فنحن على الإسلام، وتغافلوا عن إنما مسألة توحيد الألوهية، وأن الإسلام جاء ليهيمن، ويكون الحكم لله وحده، فالمسألة هذه لا يناقشونها، وحين يعرضون القضية يعرضونها بطريقة شوهاء مختصرة، ليس فيها تمجيد وليس فيها بطولات تسترعي الانتباه، فهذا العرض الذي هو لتاريخنا عندما يعرضه جاهل، ويأتي الزعماء الجدد، ويلمعون من كان خائناً لدينه وأمته، وكيف أن سعد زغلول لما نفاه الإنجليز صبر على النفي وعاد بطلاً، فحين نتتبع هذا الإنسان ونرى صفاته نرى أنه - سعد زغلول - يشرب الخمر، وكل الذين أرّخوا له اتفقوا على هذه الحقيقة. لكن اعتذر له عباس محمود العقاد وذلك بأنه كان عنده ألم في المعدة، وأن الأطباء نصحوه بشرب الخمر، هذا أحسن اعتذار عنده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم جاءه رجل يسأله أن يتداوى بالخمر قال: (إنها داء وليست بدواء)، و: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم). وهناك أدلة كثيرة تدل على حرمة التداوي بالخمر، فإذا حرم الله عز وجل شيئاً على الناس، فإنه لا يجعل فيه دواءً وذلك سداً للذريعة؛ لأنه قد يأتي شخص يريد أن يشرب الخمر ويقول: أنا مريض وقد نصحني الأطباء بشرب الخمرة، وإغلاقاً لباب الذريعة والتحايل لم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها. فلما نقرأ سيرة هؤلاء، نعلم أنهم لا يصلحون أن يكونوا قدوة، فأبناء أجيالنا متأثرون الشائعات الكاذبة والتضخيم والتلميع الذي يحصل لهذه الشخصيات، فإذا ذكر أمامك أحد هؤلاء في محل القدوة فلا تسكت ووضح للناس زيفه ومكره. فلا بد أن نقرأ مذكرات الساسة الغربيين الذين يلعبون بنا لعب الكرة، والكلام هذا إنما يهتم به القائمون على الدعوات الإصلاحية، لا يعني ذلك أن كل الناس يذهبون ويشترون المذكرات، ويظلون يقرءون، لا. الأصل أننا نتفقه في ديننا، هذا هو الأصل، لكن الذين يدعون إلى الإصلاح لا بد أن يكونوا عالمين بأعدائهم، وبطرقهم التي يحاولون إفساد جيل المسلمين بها.

حقيقة زاوج المسيار والمفاسد المترتبة عليه

حقيقة زاوج المسيار والمفاسد المترتبة عليه إن قضية تحرير المرأة تحتاج إلى إعادة نظر، فالمرأة ما حُرِّرت إلا من دينها فقط، هذا المختصر المفيد لقضية تحرير المرأة، وكل يوم يعملون عملية إحلال وإبدال في التشريع والدستور، فهم يريدون أن يعطوها حرية أكثر، يريدون أن ينزعوا سلطان الرجل عليها، وآخر هذه الدعوات وإن كان ظاهرها مشروعاً، لكنها ستؤثر حتماً في البنية الاجتماعية تأثيراً خطيراً بالغ الخطورة ومن يعش سيرى: (فستذكرون ما أقول لكم) زواج المسيار الذي بدأ ينتشر في القاهرة والإسكندرية والدقهلية، وبدأ ينتشر في الجامعات على وجه الخصوص، وكذلك الزواج العرفي في الجامعات كثير جداً، تأتي البنت وتقول للشاب: أنا وهبت لك نفسي، وتذهب كل يوم إلى المحاضرات مع هذا العشيق العشنّق! وحبوب منع الحمل كافية والحقنة التي يأخذونها كافية، وتركيب الواقي البلاستيكي كافٍ، ولا يدري الوالد أن البنت متزوجة، وتذهب إلى بيت العشيق، ولا تذهب إلى الجامعة، وهذا الكلام ما عرفناه إلا من الصحافة، وقد تكلم أناس كثيرون عن هذه الظاهرة الغريبة، التي هي ظاهرة الزواج العرفي في الجامعات. وزواج المسيار، هو أن يحضر الولي وشاهدان، وفيه إسقاط المرأة لمهرها ونفقتها، والرجل هذا ليس عليه أي مسئولية نهائياً، فالمرأة تقول: أنا أريد رجلاً فقط، أي: لا تريد أن تأكل ولا أن تشرب، تريد رجلاً يحميها، رجلاً يكون بجانبها، وعادة ما يكون هذا الرجل متزوجاً لكي لا تعلم المرأة الأولى بزواجه، وهذا الذي يحصل في الخليج والبلاد المجاورة. وهذا هو خلاصة زواج المسيار، فليس على الرجل أي مسئولية، فالمرأة تُسقط النفقة والمهر، وإذا أعطاها بعض المصروف فخير وبركة، وإن كان ليس معه مال فتقول له: أنا سأصرف على نفسي، بل هناك بعض النساء تنفق على الرجل. والرجل يقول: أنا لا أريد أولاداً منك، فتوافق على ذلك ولو أن هذه المرأة أنجبت من جراء هذا الزواج الشرعي، الذي فيه ولي وشهود، فالمرأة ستضحي؛ لأن الرجل أخلى مسئوليته ابتداءً من الأولاد، وبالتالي لا يهتم بهم، وهذا سيؤثر تأثيراً بالغ الخطورة في المجتمع فيما بعد، سيأتي أولاد ليس لهم أب يربيهم. إذاً: زواج المسيار قائم على المتعة فقط، فإذا كان هناك زواج شرعي بولي وشهود، فسيكون مقابله مائة زواج غير شرعي، وذلك بحضور شاهدين اثنين، يقول لك: هذا على مذهب أبي حنيفة، كما هو الحاصل الآن! إذاً: زواج المسيار حضور البنت مع الوالد مع الشهود، ويذهب الجميع إلى المحامي ويعملون عقداً، وكثير من الناس يتزوجون بهذه الطريقة، فكيف إذا كانت المرأة هي التي تعرض نفسها وتسقط حقها، فهذا مهانة كبيرة للمرأة حقيقة، فلو كانت هذه المرأة زوجة رابعة لكان أشرف لها؛ لأنها زوجة، والرجل متكفل بنفقتها وأولادها، ويقسم لها مع سائر زوجاته، ويقوم برعاية أولادها ورعايتها. لكن هؤلاء المنحرفون كل يوم يستحدثون للنساء أشياء جديدة لم تكن معروفة من قبل ذلك، بقصد تقويض بنيات هذه الأمة. الذي يميز هذه الأمة المسلمة أن النساء حتى الآن عندهن حياء. وتأمل موقف المرأة مع موسى عليه السلام، فهي لم تضحك ولم تمزح معه، لكنها جاءت على استحياء: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، إن أبي يدعوك، المرأة لم تقل: تعال لكي نجزيك، وأنت رجل أمين، وجزيت خيراً، ووجهك عليه نور، ولم تقل له: أخبرني ما حكايتك؟ لا. إنها بنت متربية ملتزمة. من بيت ملتزم والالتزام ليس في اللحية، ولا في لبس الثوب القصير، وليس معنى ذلك أن لا تعفي لحيتك، وأن تلبس الثوب المسبل، لا. الالتزام أن لا تتهجم على حكم الله، هذا هو لب الالتزام. إذا قيل لك: افعل كذا، فافعل ما أمرت به، هذا هو حق العبودية، هذا حق الله على العبيد. قال في الحديث: (أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: حقه أن يعبدوه لا يشركوا به)، لا في العبادة، ولا في القرارات، ولا في الأحكام، لا يشركوا به شيئاً، لا يتلقى الأوامر إلا من الله، فيُعرف قدر الإنسان وقدر التزامه بوقوفه عند الأوامر والنواهي. فالذي يميزنا نحن الأمة المسلمة هو حياء نسائنا. وبعض الصحفيات الأمريكان اللاتي جئن إلى مصر وعشن فيها طويلة كتبن يقلن: إنهن يتمنين أن يرين في أمريكا ما رأينه في مصر، من احتجاب النساء، وعدم مخالطة النساء للرجال، وقالت إحداهن: إني رأيت في المرأة أموراً عجيبة هناك، بينما هي في الغرب مجرد سلعة، إن عملت أكلت، وإن لم تعمل لا تأكل، فيه تعمل أي عمل حتى البغي.

لا سلطان للأب على ابنته في الغرب

لا سلطان للأب على ابنته في الغرب المرأة التي سافرت إلى أمريكا مع أبيها وهو رجل من الصعيد صار له خمسة وثلاثون سنة في أمريكا، دخلت عليه بنته ومعها ولدها من الزنا، فقابلها على الباب وقال لها: لا. خذيه واذهبي به في أي مكان آخر، يعني: هو يعرف أن هناك زناً وقع من البنت، لكنه منعها من أن تدخل بولدها إلى بيته، فتأخذه وتذهب به إلى مكان آخر، لو كان هذا الصعيدي هنا ما كان ليسمح لنفسه بعشر معشار الكلام الذي يقوله الآن. لكن هؤلاء الأولاد من حيث البنية الاجتماعية متحللون بسبب التربية المنحرفة، وهؤلاء الآباء لا يربون أولادهم إلا على الحرية المطلقة، وعلى استتمام الشهوات مائة بالمائة، هناك في أمريكا ممنوع على الأب ضرب ولده؛ إذا ضرب ولده فإنهم يضعونه في السجن. هؤلاء الأولاد كلهم يحفظون هذا النظام، فلذلك تجدهم يفعلون ما يشاءون دون أي خوف، ولو أن الأب ضرب ابنه أو ابنته، واشتكى هذا الابن أو البنت إلى الشرطة، فإنهم يأتون ويقبضون على هذا الأب ويضعونه في السجن، ولا يخرجونه إلا بعد أن يأخذوا عليه تعهداً بأن لا يضرب ولده أو ابنته، فكيف يكون هذا الولد مستقبلاً؟! وهذا الرئيس الأمريكي والفضيحة الكبيرة، لو عنده أدنى ذرة من الدم لقتل نفسه، والشعب الأمريكي كله يعتقد بأنه هو ولد زنا، والفضيحة التي عملها هي أمر عادي عندهم، وإنما أخذوا عليه كذبه عليهم فقط، ومع هذا فقد زادت شعبيته. وهؤلاء عالم لهم مقاييس عجيبة. والشعب الأمريكي لم يؤاخذوا رئيسهم على جريمة الزنا، وإنما لماذا يكذب عليهم؟ فيأتي شخص ويكتب مقالة يمجد فيها الأمريكان، يقول لك: انظر إلى الأمريكان. الكذب عندهم جريمة نكراء، نقول: والكذب الذي يفعلونه في العالم كله، إنهم يكذبون على الحكومات وعلى الشعوب ويأكلونهم، أليس هذا كذب؟! أكل هذا صدق عندهم؟! قوم يا أخي! بلا تقاليد ولا أخلاق، حضارتهم قائمة على التهويش والبهائمية، ليس عندهم بنيان اجتماعي متماسك أبداً، هم مهتمون بسمعتهم المادية فقط، مثل الشخص الفتوة قديماً، الذي يعيش بسمعته. عندما يذهب الرجل المسلم إلى أمريكا ليطلب الدنيا، يا لخسة ما طلب، ذهب الرجل الصعيدي إلى أمريكا يعيش هناك، فالبنت عندما جاءت بولد من الزنا، وقال لها: اخرجي من البيت ماذا صنعتِ؟ لقد قامت البنت ودفعت أباها للداخل وأرادت أن تدخل، فكل الذي فعله الرجل صاحب النخوة الصعيدي أنه دفعها إلى الخارج، قامت البنت واتصلت بالشرطة، جاءت الشرطة في لمح البصر، أخذوه، وقاموا بتعذيبه لمدة واحد وعشرين يوماً. فلما خرج الرجل طاف على كل صديقات ابنته من أجل أن يتوسطن له عند ابنته بأن تسمح له في المبيت في البيت، وتفعل الذي تريده. قاعدة البنيان للأسر كلها قائمة على النساء، والنساء يقمن بأعظم دور، إذ الرجل لا يصلح إلا بامرأة على مذهبه، فدور النساء دور عظيم.

كثرة القرارات الخاصة بالنساء والغاية منها

كثرة القرارات الخاصة بالنساء والغاية منها كل يوم تجد أعداء الله يقومون بتعديل في البنية الاجتماعية، وذلك بإصدار القرارات الخاصة بالنساء، -مثلاً- من عشر سنين، كم هي القرارات التي صدرت وهي خاصة بالنساء؟! كثيرة جداً، بدءاً من قانون الأسرة الخاص بالأحوال الشخصية، في أن المرأة لها الشقة إذا طلقها زوجها، إذاً: الرجل من أين يأتي بشقة إن هو طلق؟ فالنتيجة لابد أن يصبر الرجل على المُر. بدأت النساء يتفَرْعَنّ، تشتم الرجل وتهينه، وتقول له: إذا كنت راجلاً طلقني، وهو لا يستطيع، وهي تقولها وهي واثقة مائة بالمائة أنه لا يستطيع، فتخيل عندما يصير الرجل هكذا، والمسائل تنقلب، وتنتكس هذا الانتكاس، كيف يكون الجيل الذي يخرج؟ عندما يرى الولد أمه ويسمعها تقول لأبيه: إذا كنت رجلاً طلّقني. كيف يكون تصور الولد تجاه أبيه؟ الذي هو القدوة، الذي ينظر ويعتقد أن أباه في القمة؛ لأن أباه قدوة، ويفترض أن يكون سيداً للمرأة ولابنها، وهذا معنى كلمة البعل: أي الرجل المالك، السيد المالك. انظروا إلى مدى التغيير الخطير في البنية الاجتماعية، حسن! أليس لدينا خط دفاع مثل كريات الدم البيضاء، فكريات الدم البيضاء حين تجد الميكروبات تقوم بمقاومتها، فكريات الدم البيضاء استشهدت في المعركة ضد الجراثيم الغازية، كريات الدم البيضاء التي هي الجهاز المناعي، الجهاز المناعي لمواجهة الجراثيم والميكروبات. فهي تقتل نفسها حماية لهذا البدن. فمن الذي يتطوع، ويكون في خط الدفاع الأول؟ إنه أنت واحذر أن تستقل جهدك، وتقول: ماذا سأعمل مع كل هذه المخالفات.

دعوة إلى مواجهة دعاة التحرير وعدم استعجال الثمار

دعوة إلى مواجهة دعاة التحرير وعدم استعجال الثمار قاسم أمين صاحب الدعوة الباطلة المنحرفة لما جاء بدعوى تحرير المرأة أخذ يدعو إلى باطله السنوات الطوال حتى حصل على مراده في تغيير البنية الاجتماعية بعد سنة ثمانية وعشرين وإلى الآن ما زلنا نتجرع غصص هذا التحرر، وهذا الكتاب والتوصيات فهذا صاحب دعوة باطلة فكيف بدعوة الحق، فكن طويل النفس، ولا تكن مستعجلاً. تنظر تحت قدمك، سيأتيك الفرج لو صدقت النية، والدليل على ذلك قصة المرأتين وحكاية موسى عليه السلام: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، انتبه للحالة هذه، صار له ثمانية أيام يمشي، ليل نهار، يأكل ورق الشجر، ثم أنه خائف، لو رأى شخصاً يحد النظر فيه لقال: هذا من حاشية فرعون، شخص خائف يتصور أن الشارع كله جواسيس، لو أن شخصاً قال له: من أين أنت؟ لقال: هذا يعرفني، عندما وصل موسى عليه السلام إلى مدين ورأى المرأتين، سألهن ما خطبكما؟ فأهل مدْيَن كلهم يتزاحمون على بئر، وكل واحد عنده عدد من الغنم، ويريدون أن يسقوا حتى يعودوا، ماذا تفعل امرأة أو امرأتان في وسط هؤلاء الرجال؟ {تَذُودَانِ} [القصص:23]، لا يردن للغنم أن يختلطن مع الأخرى؛ لأنه لو اختلطت أغنامهما فقد تضيع الغنم: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، وما أخرجنا إلا أن أبانا شيخٌ كبير، وهذا أيضاً من الأمارات أنه لم يكن شعيباً، لو كان شعيباً؛ لكان له مكانة عندهم، فعلى الأقل كان سيجد من الطائفة المؤمنة من يفعل ذلك فموسى لم يحتمل هذا المنظر؛ لأنه أبيّ النفس قام {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، مكدود متعب جائع، ومع ذلك لما رأى المنظر هذا لم يتحمل، وهكذا أصحاب النفوس الأبية الكريمة، لا تبيت على الضيم طرفة عين، وتأباه فطرة وطبعاً، {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، سقى لهما في وسط المجموعة هؤلاء، فما الذي فعله؟ قام موسى وأحضر البهائم وسقاهن، وهذا كان بقوة موسى عليه السلام، وكان أيضاً بالوقار والمهابة التي كانت عليه وفي نفس الوقت كان قوياً. يذكرون في الإسرائيليات: أن الجماعة بعدما سقوا أغنامهم قاموا كلهم ووضعوا صخرة عظيمة على فم البئر لكي لا يستطيع أن ينزعها، لكنه قام لوحده فنزع تلك الصخرة العظيمة، وسقى غنم المرأتين، فلذلك المرأة عرفت أنه قوي. فلما سقى لهما، مشى ولم يلتفت إليهما، ولم يقل: أي خدمات، أنا موجود إذا أردتموني، سلموا لي على الوالد!! لا. لذلك عرفت المرأة أنه أمين. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص:24]، هذا في حر شديد، وقت قيلولة، {فَقَالَ رَبِّ} [القصص:24]، لاحظ لمن توجه؟ لم يطلب أجرة، ولا قال: أعطني خروفاً مقابل ما سقيت لكما، لا. جرّد القصد لله، لذلك ماذا قالت الآية بعد ذلك: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، مباشرةً جاء الفرج، ليس بعد يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة، لا. عندما يكون الرجل خائفاً؛ فإن الله عز وجل يؤمنه -كما تدين تدان- {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24] {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} [القصص:25]، الجزاء من جنس العمل. فاحذر أن تستعجل! احذر أن تستعجل وتقول: هذا المجتمع كله مخالفات، وأنا لو التزمت وأجلست بناتي أو أجلست امرأتي في البيت وغير ذلك، فما الذي سأفعله أنا في هذا المجتمع كله؟! نقول: لا. لا تحتقر نفسك ولا تحتقر جهدك؛ لأن الذي يبارك في الجهد القليل هو الله، وربنا سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]. اعلم أن كل هذا الذي يفعلونه سيكون كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، كل الذي يفعلونه، ها هو النقاب مثلاً الحرب ضده قائمة على قدم وساق، ما من صباح ينشق فجره إلا وترى النساء قد التزمن بالنقاب، هناك نساء تركن العمل حرصاً على النقاب، ولو قلنا لهن: اجلسن قبل أن يعتقدن ضرورة الالتزام بالحجاب لما جلسن، إن الله عز وجل هو الذي يبارك في هذه الصحوة، فأنت لا تحقر نفسك، واجعل لك دوراً؛ حتى تذهب إلى الله عز وجل وأنت مرفوع الرأس. وهذا أحد الصحابة لما دخل على القتال قال: اللهم لقني عدواً شديداً حرده، -يعني: شديد الغيظ عليَّ- شديداً بأسه -شديد القوة عليَّ- فيقتلني ثم يبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني فيم يا عبد الله؟ فأقول فيك يا رب، هذا هو الجهاد، أنا لا أريده أن يقتلني فقط، أريده أن يمثل بجثتي. يفتح بطني، ويقطع منخري، ويقطع أُذُني، وتسألني لماذا يا عبد الله؟ فأقول: فيك يا رب. وفي الحديث الصحيح لما تجلى الله عز وجل على الشهداء قال لهم: (تمنوا -ما الذي تتمنوا؟ - يقولون: يا رب نرجع فنقاتل فنقتل فيك). ربك عزيز جداً، عزيز لو فعلت ما فعلت، ما أعطيته حقه ولا عُشر حقه، لماذا أنت واقف هكذا؟ يقول لك: ارجع ولا تريد أن ترجع!! لماذا هكذا؟ لا يكن الجماد خيراً منك!! إن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] ائتيا هكذا أو هكذا، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، لماذا لا تعود وحدك، وترجع إلى ربك مختاراً، بدلاً من أن ترجع مكرهاً ولا جميل لك؟. فتكون راجعاً مكرهاً، فارجع مختاراً. إذاً: الصحوة هذه لابد أن يكون لها قدوات، تقتدي الجماهير بها، وإذا كان أصحاب الالتزام لا يقومون بواجبهم حق القيام، فمن يقوم به؟ فهل يقوم به أهل الدنيا الذين لم يحققوا الالتزام حتى الآن؟ لكن اصبر على الحق المر ولو كنت وحدك، فإن الصبر من اسمه مُر. نحن نحتاج يا إخواننا! أن ننقل هذا إلى بيوتنا، ونعمل لله تبارك وتعالى، وربنا سبحانه وتعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى} [الأحزاب:34] أين؟. في المدرسة؟ في الجامعة؟. {فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34]. فالمرأة إنما تتعلم في بيتها، هذا هو الأصل. إذا كانت هناك مدارس خاصة للبنات، ولا يوجد فيها رجال، فأدخِل البنت فيها ولا بأس، تتعلم العلوم الشرعية تتعلم أحكام الله عز وجل، ما الذي يمنع منها الله عز وجل؟ وما الذي لا يحل لها فعله؟، فالبيت هو الأساس. إذاً: تتعلم القرآن، وتتعلم السنة، وتتعلم حق الزوج، أول ما تتزوج يرى زوجها المرأة التي إن أقسم عليها أبرته، وإن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته في عرضها، وفي نفسها، وفي ماله. إذاً المرأة هذه ستربي لنا شباباً صالحاً، ونرى أن البنية الاجتماعية ستتغير، لماذا؟ لوجود أم صالحة وأب صالح. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا عباداً له، هذا ما نرجوه من الله، أن نكون عباداً لله، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا يا رب العالمين!

التوكل

التوكل من القصص التي تؤخذ منها العبر والعظات قصة الرجل الذي اقترض ألف دينار، وكيف أنه جعل الله كفيلاً وشهيداً عليه عندما طلب منه صاحب المال أن يأتيه بكفيل وشهيد، وكيف أنه استشعر حقيقة التوكل على الله حين لم يستطع أن يرد الدين في الموعد المحدد، حيث قام بإرسال المال في قطعة من الخشب ورمى بها في البحر، وسأل الله أن يوصلها لصاحب الدين، فاستجاب الله له لعلمه بصدقه وصدق توكله عليه سبحانه وتعالى.

شرح حديث الرجل الذي اقترض ألف درهم

شرح حديث الرجل الذي اقترض ألف درهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل: ذهب إلى رجل، وقال له: أقرضني ألف دينار أتَّجر بها. قال له الرجل: ائتني بكفيل. قال له: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت، ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً. قال: صدقت، خذ الألف دينار. فأخذ الرجل الألف دينار وانطلق يتَّجر بها في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجلُ المدين مركباً، وكان بين الدائن والمدين بحراً فلم يجد؛ إذ كانت الأمواج والرياح شديدة، فوقفت حركة الملاحة، والرجل صاحب الدين على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس المدين أخذ خشبةً ونَقَرها ووضع فيها الألف دينار مع كتابٍ إلى صاحبه: من فلان ابن فلان ثم أحكم إغلاقها ووضعها في البحر، وقال: اللهم إنك تعلم أنني تسلفتُ من فلان ألف دينار، وأنه قد حال بيني وبينه الموج، وقد جعلتُك كفيلاً ووكيلاً، فأوصل هذا الدَّين إلى صاحبه، وقذف بالخشبة في البحر، وهو في كل ذلك جاهداً يلتمس مركباً حتى يذهب إلى صاحبه. وبينما كان الرجل -صاحب الدين- واقفاً على الشاطئ ينتظر أيَّ مركب، فلم يجد؛ لكنه وجد أمامه خشبةً تطفو فوق الماء، فقال: آخذها أستدفئ بها أنا وأولادي، فلما أخذها وذهب إلى بيته نقرها بقدوم فسقطت منها الصرة، ففتحَها فإذا بالألف دينار والرسالة: من فلان إلى فلان، إنه قد حال بيني وبينك الموج، وقد جعلت الله وكيلاً وكفيلاً، وهذا دينك. وكان الرجل المدين يلتمس في كل ذلك مركباً حتى وجد مركباً فركبه وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحب الدَّين، وقال: والله لقد جهدتُ أن أجد مركباً قبل هذا فما استطعتُ، خذ الألف دينار، فقال الرجل الآخر: هل أرسلتَ إلي شيئاً؟ فقال له: سبحان الله! أقول لك: هذا أول مركب وتقول لي: هل أرسلت شيئاً؟! فقال له صاحب الدَّين: قد أدى الله عنك، فخذ مالك وارجع راشداً. هذا الحديث من أجل الأحاديث في باب الورع والتوكل على الله عز وجل، قال أبو هريرة راوي الحديث: (فكنا نختلف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمَن -أي: أيهما أشد إيماناً من صاحبه- الذي رمى بالخشبة في البحر وهو موقن أن الله لن يضيعه، أم الذي أخذ المال وكان أميناً؟ لأنه كان يستطيع أن يجحد ويقول: ما وصلني شيء.

كمال التوكل على الله عز وجل

كمال التوكل على الله عز وجل الرجل عندما أخذ الألف دينار كان عازماً على قضاء هذا الدين في موعده، وقف الرجل برغم أنه يرى الرياح القوية والموج ولا يرى أي مركبٍ؛ لكنه أخذ بالأسباب، فقال: ربِّ قد جعلتك كفيلاً وشهيداً. فلم يجد هذا الرجل المؤمن إلا أن يضع المال في خشبة ويقذف بها في البحر. لو فعل هذا الفعل رجل منا الآن لاتهمه الناس بالجنون وبتضييع المال؛ لكن رؤية المؤمن تختلف عن غيره. إذا أردت أن تعيش عزيزاً كريماً توجه إلى السماء، واركن إلى رب العرش والسماء، فإنك إن ركنت إلى غيره أخطأك التوفيق. فتَعَلَّقْ بالله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] انظر إلى هذه الصفة بعد ذكر صفة الرزق: (ذو القوة المتين) بعد ذكر صفة (الرزاق). لماذا؟ حتى لا تظن أن هذا الرزاق يمكن أن يفتقر، أو أن طلبك أعظم مما في خزائنه، هو رزاق لكن قد يقدر على ذلك أن خزائنه تنفد وأن ما عنده يزول، فقال لك: لا؛ لأنه ذو القوة المتين {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]. فهذا الرجل أخذ خشبة ونقرها ووضع فيها كيساً وكتاباً منه إلى صاحبه: أنه قد حال بيني وبينك الموج، ثم أحكم إغلاقها وقال: (اللهم أنت تعلم أنني تسلفت من فلان ألف دينار، وأنه قد حال بيني وبينه الموج، وقد جعلتك كفيلاً وشهيداً فأوصل هذا الدين إلى صاحبه). رب شخص يقول: لِمَ يقول هذا؟ ألم يعلم اللهُ أنه تسلف ألف دينار؟ ألم يعلم اللهُ تبارك وتعالى أن الموج عاتٍ، وأن الرياح سريعة، وأن حركة الملاحة واقفة؟ لماذا يقول هذا؟ هذا موضع نظر وتأمل دقيق: (اللهم أنت تعلم أنني فعلت) إقرار بحاله، كما لو ذهبت إلى شخص وهو يعلم أنك صادق فتقول له: أنت تعلم أنني صادق، على سبيل تأكيد حالك، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23] مع أننا نعلم أنه حق؛ لكن يقسم على مقتضاه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة). ونحن لا نحتاج إلى قسمه صلى الله عليه وسلم لعلمنا التام بصدقه. فهذا تقرير بحاله فقط ليس إعلاماً لله عز وجل، فإن الله يعلم السر وأخفى. ثم قذف بالخشبة في البحر، والعجيب في الأمر أن هذه الخشبة مسخرة؛ لأن هذا الرجل أخلص دينه وقلبه لربه، ومعاذ الله أن يضيعه ربه، فشقت الخشبة طريقَها في الموج، وذهبت إلى الرجل فوقفت أمامه برغم حركة الموج السريعة العالية، فأخذها الرجل، وقال: (آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها أنا وأولادي، فأخذها وذهب إلى أهله، فنقرها فوقعت منها الصرة ووجد فيها الألف دينار وكتاباً من صاحبه). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وفاء المدين وصدق الدائن

وفاء المدين وصدق الدائن الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أخذ الرجل الخشبة وصاحبه الآخر يلتمس مركباً، لأنه لم يعتمد على الخشبة أن تصل؛ لأن قضاء الديون لا يجوز أن يعتمد المرء فيه على هذه الخوارق، فلا يجوز أن تذهب بدَينك فترميه على الطريق وتقول: إن شاء الله يصل، فإذا جاء صاحبه وقال: أين دَيني؟ فتقول: أنا وضعته لك في مكان كذا وكذا، ألم يصلك؟ لا يجوز أن يُعْتَمد على هذا في قضاء الدين، فإن الأصل في أموال الناس العصمة؛ لكن هذا الرجل لأنه يعتمد بقلبه اعتماداً كلياً على ربه فعل الذي فعل، ولما علم أن هذا ليس هو سبيل قضاء الدين الشرعي أخذ ألف دينار أخرى وذهب إليه، وهذا دليل على أن الرجل ربح وكسب، وإلا فهو اقترض ألف دينار ورمى بها في البحر ولكنه أخذ ألفاً أخرى. وعندما ذهب إلى صاحبه قال: (أنت تعلم أنه قد حال بيني وبينك الموج، خذ الألف دينار، جزاك الله خيراً، فقال الرجل: ألم ترسل إليَّ شيئاً؟ -فتجاهل الرجل تماماً أنه أرسل شيئاً في البحر- قال: سبحان الله! أقول لك هذا أول مركب أجده، وتقول لي: هل أرسلتَ شيئاً؟ لم يقل له: لم أرسل؛ لأن هذا من الكذب، إنما أجاب إجابة يُفهم منها أنه لم يرسل؛ لكن ليس فيها كذب، قال: (سبحان الله! أقول لك: هذا أول مركب أجده وتقول لي: ألم ترسل شيئاً؟ قال له الرجل: ارجع بمالك راشداً، قد أدى الله عنك). قال: أبو هريرة: (فكنا نتجادل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمن -أشد إيماناً من صاحبه- الذي قذف الخشبة في البحر، أم هذا الذي أبرز الأمانة؟) فلم يجحدها، ولم يأكل مال أخيه؛ لكن يظهر لي أن الذي رمى بالخشبة في البحر أشد الرجلين إيماناً. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم تقبل صيامنا وصلاتنا، وزكاتنا، وركوعنا وسجودنا. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هَزْلَنا وجِدَّنا، وخَطَأَنا وعَمْدَنا، وكلُّ ذلك عندنا.

ظهور الكذب والخداع في مسلمي هذا العصر

ظهور الكذب والخداع في مسلمي هذا العصر هذا الرجل لما قال له: (كفى بالله شهيداً، كفى بالله وكيلاً، قال: صدقت، وقال له في الثانية: سبحان الله! نعم. -أي: كفى بالله شهيداً- خذ الألف دينار). التزامك بآداب دينك يريحك ويريح الطرف الآخر. أخذ الرجل الألف دينار وانطلق يعمل بها في البحر، وربح فيها، وجاء موعد قضاء الدين، فأخذ الألف دينار وانتظر على الشاطئ لعله أن يجد مركباً فلم يجد، لقوة الرياح وعلو الموج، وتوقُّف حركة الملاحة، فماذا يفعل؟ وهو يتحرق شوقاً أن يرد هذا المال في موعده؟ بقدر ما يكون لك من الإخلاص يكون الله معك. يؤسفني أن أقول: إن كثيراً من المسلمين ضربوا المثل الأسوأ في المعاملات بكل أسف في التلاعب والضحك، ولا أدري على مَن يضحكون، ومَن يخدعون، ذهب أحدهم إلى رجل فأخبره أنه مقبل على عمل شركة تجارية، وأن أرباحها كبيرة، وأن السوق فارغ ويحتاج إلى هذه البضاعة، فإذا كان معك مال فهات المال نتاجر وأوهم المسكين، فذهب الآخر وباع ذهب المرأة واقترض، لأن هذا لم يكن عنده مال؛ لكن اقترض من آخرين أموالاً وذهب ووضع المال كله في يد هذا الرجل، فأخذ ذلك المال وأنفقه، وهو يعلم أن أخاه اقترض جزءاً كبيراً من هذا المال، والعجيب أن نفسه طابت بذلك! وأنه لم يشعر بإثم ولا وزر، ولم يشعر بوخز في ضميره وهو يأخذ هذا المال! ومضت أيام وشهور وسنون. فقال له: أين التجارة؟ فقال: غداً! غداً! وحدثت مشكلة كبيرة مع أهل المرأة، وقالوا لها: أين ذهبك؟ لماذا أعطيتيه الزوج؟ نحن كنا أحق بهذا المال، ألم نطلب منك الذهب يوم كذا وكذا فأبيتي؟ وصارت قطيعة بين المرأة وبين أهلها. فلما علم الرجل أنه لا تجارة. قال لصاحبه: أعطني المال. فقال له: لا أملك شيئاً. فقال له: ما هو الحل؟ قال: أقسط لك المبلغ. وهكذا ضاع المبلغ؛ لأنك عندما تأخذ عشرين جنيهاً، ثم ثلاثين، ثم خمسين، فإن المبلغ سيضيع، لكن إذا أخذته جملة واحدة فإنك ستقضي دينك، وتعيد الذهب لزوجتك. يكاد المرء يعتصر من الحزن وهو يرى هذه المعاملات الهشة الكاذبة الخادعة! وبعد ذلك يسألون: لِمَ يتخلف نصر الله؟ لماذا نحن نعيش على هامش الحياة، لا قيمة للمسلمين؟ ولماذا أرخص دم في العالم دمهم؟ يتساءلون كل هذه الأسئلة. فأقول: منكم أنتم جاء الخلل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فالله ليس بظلام للعبيد، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]. ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا لا تقل: إن الماء مر، لأن فمك هو المر. بقدر ما يكون لك من الإخلاص والثبات، والوفاء بالوعد، والحفاظ على أموال الناس ومشاعرهم بقدر ما يعينك الله على ذلك، وبقدر ما يحتوي قلبك من الغل والغش والخداع بقدر ما يبتعد عنك تأييد الله ونصره.

التوكل على الله تعالى ووجوب تعظيمه

التوكل على الله تعالى ووجوب تعظيمه فائدة القصة: أنك تجد فيها العبرة، والناس مطبوعون على محبة القصص، ولذلك قصَّ الله تبارك وتعالى قصص الأنبياء على المبتلين، وقصص السالفين عليهم. أراد أن يعلمهم كيف يتوكل المرء على الله، وأن الله لا يضيعه، برغم الظنون التي يظنها بعض بني آدم بربهم تبارك وتعالى، وهي ظنون كاذبة خاطئة. فلا تظنن بربك ظن سَوءٍ فإن الله أولى بالجميل فهذا رجل يريد أن يقترض ألف دينار يتَّجر بها، فذهب إلى رجل موسر يقرض الناس: فقال: أقرضني ألف دينار إلى أجل. فقال له الرجل: ائتني بكفيل ائتني بشهيد. وهذا حقه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] هذا حقٌّ وحفظٌ لأموال الناس. فطَلَبُه الكفيلَ والشهيدَ مشروعٌ لاشيء فيه. فقال له: كفى بالله كفيلاً كفى بالله شهيداً. لم يقل له الرجل الآخر: أنا أعلم أن الله كفيلٌ وشهيدٌ؛ لكن أريد أن أرسِّخ دَيني، لا. إن العلاقة بين المرء وأخيه لا سيما إذا بلغ كلٌّ منهما إلى درجة عالية من هذا الاعتقاد يُجِلُّون الله تبارك وتعالى أن يوضع اسمُه: كفى بالله كفيلاً. ولا يمنع هذا أن توثِّق دينَك وأنت تعتقد أن الله كفيل؛ لكن انظر إلى قوة هذا الإيمان. هناك من الناس من لا يُجِلُّون الله تبارك وتعالى، ويرضَون أن يُهانَ هذا الاسم العظيم الذي قامت به السماوات والأرض، فتُقْسِمُ له بالله أنك صادقٌ فلا يُصَدِّق، تُقْسِم بالأيمان المغلظة أنك ستعيدها، ومع ذلك يقول: لا. هناك رجل تاجر وله بنت وحيدة، وهو يجلها غاية الإجلال، وكان يكذب في تجارته: فقال له رجل: احلِفْ بالله أن البضاعة بكذا. فقال: والله إنها بكذا. فقال له الرجل: احلف بحياة ابنتك. فبَكى ورَقَّ حالُه، وأبى أن يقسم بحياة ابنته؛ لكن أن يقسمَ بالله تبارك وتعالى كذباً وزوراً فإن هذا لا يضره ولا يهتز. أليس الله تبارك وتعالى أولى بالجلالة وأحق؟! انظر إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى ابن مريم عليه السلام رجلاً يسرق -تأمل في هذا الحديث: رأى، وهذا نبي من أولي العزم، لا يُلَبَّس عليه في الرؤيا ولا يهم فضلاً عن أن يكذب- فقال له: أتسرق؟ قال: والله ما سرقت، -لم يقل له عيسى: أنت كاذب، لأني رأيتك تسرق، بل عَظَّم الاسم العظيم- قال: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري). وهناك واقعةٌ أخرى حَدَثت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر رحمه الله: رويناها بأسانيد صحيحة؛ أن عبد الله بن رواحة شاعرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحب الأبيات العذبة المشهورة: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلينا فأنزلَنْ سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقَينا إن الأُلَى قد بغَوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبَينا - هذا الشعر كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز به ويقوله، وكان شاعراً مُجِيداً عذْب النظم رضي الله عنه، وكانت له جارية فوطئها، فرأته امرأته، فجاءت وقالت: أوطئت الجارية؟ فقال لها: لا، قالت، إني رأيتك، فقال: لا، فقالت له: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن. لأنه جنب، والجنب لا يقرأ القرآن. فأنشد لها أبياتاً من الشعر. والمرأة لا تحفظ شيئاً من الكتاب؛ لكن الأبيات تلخيص لبعض الآيات في القرآن الكريم، لذلك انطلى الأمر على المرأة وصدقت، قال: شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌّ وأن النارَ مثوى الكافرينا وأن العرشَ فوقَ الماء طافٍِ وفوقَ العرش ربُّ العالَمينا وتحمله ملائكةٌ غلاظٌ ملائكةُ الإله مسوِّمينا وكان بيدها سكين، فرمت به، وقالت: آمنتُ بالله وكذَّبتُ بصري. وهي امرأة لا تحفظ القرآن الكريم حتى انطلى عليها الأمر، وظنت أن هذا الشعر قرآن. وقد شهدتُ رجلاً اتُّهم في سرقة، فجعلوا يقولون له: احلف أنك ما سرقت. فحلف، وآخر يقول: احلف بالثلاثة. فحلف، فانبرى رجلٌ وقال: قل: والمسيح الحي. فأبى الرجل أن يقسم. لماذا أبى أن يقسم بالمسيح الحي؟! ما معنى هذه الكلمة؟! وما معنى أن يأبى أن يقسم برغم أن هذا القسم شرك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قالها واضحة: (مَن حلف بغير الله فقد أشرك)، وفي الرواية الأخرى: (من حلف بغير الله فقد كفر). والذين يقولون: وحياة أبي، والنبي، وحياة العمدة، وحياة الشيخ، كل هذا شرك واضح وصريح،: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت)، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب يحلف بأبيه، فقال له: (يا ابن الخطاب! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) الحلف معناه: إجلال المحلوف به وتعظيمه، أليس ربك أولى بهذا التعظيم؟! لا تقسم إلا بالله، فإن القسم بغيره كفرٌ أو شرك؛ ولكنه كفرٌ دون كفر، لا يقال: إن الذي يحلف بغير الله لا سيما إن كان يجهل ذلك أنه كافر خارج من الملة، لا؛ لأنه لو كان كافراً خارجاً من الملة لقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما أقسم بأبيه: إنك كفرت، فاغتسل، وانطق بالشهادتين، وادخل الإسلام من جديد. فلما لم يكن شيء من ذلك دل على أن الذي يقسم بغير الله وهو يجهل أن هذا القسم شركٌ أو كفرٌ، أو نسي وأقسم بغير الله أنه لا يخرج من الملة وإن كان قَصَدَ شيئاً من أفعال الكفر.

حكم لقطة البحر

حكم لقطة البحر يؤخذ من هذا الحديث ما بوب به الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه على هذا الحديث في موضع من المواضع؛ لأن الإمام البخاري روى هذا الحديث في أكثر من موضع من الصحيح، فرواه في كتاب (الكفالة)، وهل يجوز أن يكفل فلان فلاناً؟ وهو المعروف بالكفيل. A واضح طبعاً من سياق الحديث أنه يجوز. ووضعه في كتاب (اللقطة) في صحيحه، وهذه هي الفائدة التي نذكرها الآن. كتاب (اللقطة): أي ما يلتقط من على الأرض، ما تجده على الأرض، سواء وجدت مالاً، أو وجدت غنمةً، أو وجدت أي شيء، فهل يجوز لك أن تأخذ هذا الشيء، فإن فعلت فما حكمه؟ وهل يجوز لك أن تتصرف فيه، أم لا بد أن تعرفه؟ وأحكام كثيرة في اللقطة ليست من موضوعنا هذا، ولكن نأخذ ما يتعلق بالحديث الآن. هذا الحديث في كتاب (اللقطة) بوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب لقطة البحر). أين موضع الشاهد؟ أن الرجل مد يده وأخذ الخشبة، أي: وجدها في البحر، فلو وجدت أنت لقطة في البحر هل يجوز أن تأخذها؟ هذا هو الشاهد. الجواب: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق هذه الحكاية مساق المدح، وهو صحيح أنه حصل في شرع مَن قبلنا في بني إسرائيل؛ لكن أي حكاية وأي خبر عن بني إسرائيل يسوقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح أو القصة بغير أن يعقب يكون شرعاً لنا، فما الدليل على أنه شرع لنا؟ الدليل: هذا الحديث؛ لأن القاعدة عند علماء أصول الفقه تقول: (شرع مَن قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه). فمثلاً: بناء المساجد على القبور كان في شرع من قبلنا؛ لأنه واضح من سورة الكهف في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] فلا يقولن قائل: إن الله تبارك وتعالى ساق قول هؤلاء ولم يعقب عليه تعقيباً يدل على منع بناء المساجد على القبور، فيقال: إن الله تبارك وتعالى ساق بعض أقوال الكافرين ولم يعقب عليها، لماذا؟ لأن بطلانها ظاهر جداً، صحيحٌ أنه يرد كثيراً لكن لا يرد أحياناً، ولو سلمنا جدلاً أن الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعد مقالات الكفار والملحدين رُدَّ عليها، فإننا نلتمس الرد إما من الكتاب أو السنة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة وهي كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الذين يتخذون المساجد على القبور)، وكان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك). فماذا فعلت الأمة؟ فعلت ما نهيت عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يؤكد الشيء يكرره ثلاث مرات، وكان إذا أراد أن يُفْهِمَه كرره ثلاث مرات، ومع ذلك تجد ألوف الجنيهات تُنفق على تشييد المقابر. في كفر الشيخ مسجد يزعمون أن فيه رجلاً صالحاً، ثم قاموا بعد فترة يبحثون عن هذا الرجل الصالح، فلم يجدوا له عظْماً ولا جمجمة ولا أي شيء، فما زالوا يحفرون طمعاً أن يجدوا شيئاً، ولكنهم لم يجدوا شيئاً، ومع ذلك تجدهم يشيدون الضريح! وألوف على مآذن لا تُستخدم الآن، وفي السُّنَّة أن يصعد المؤذن على المئذنة، وهذا شيء أردت أن أنبه عليه في هذا المسجد: السنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، السنة أن يؤذن على سطح المسجد، فرُب قائل يقول: وما الحكمة طالما أنه يوجد مكبرات صوت؟ فيقال: كثير من الأحكام الشرعية غير معللة، بمعنى أنك قد لا تستطيع أن تعرف الحكمة منها، وإنما تنفذها كما جاءت في السنة؛ كتقبيل الحجر الأسود مثلاً، فلماذا نقبل الحجر الأسود؟ لا توجد علة، ولا نعرف حتى الآن لماذا نقبِّل الحجر الأسود، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساءل هذا السؤال وأجاب، فقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) إذاً: لماذا تقبِّله يا عمر؟ - لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك. إذاً: هي مسألة اتباع محض، حتى وإن لم تفهم شيئاً من الحكمة، هذا هو الشيء الأول. أما الشيء الثاني: ربما كان هناك رجلٌ أصيب بصمم لا يسمع، فيرى المؤذن وهو يلتفت يمنةً ويسرةً، فيعلم أن الأذان قد حان. ولو فتشنا لوجدنا دلائل أخرى. فالسنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، إلا أن يؤذن على باب المسجد على صخرة تكون هناك، وإما أن يصعد فوق المسجد يؤذن، وإذا كان من الصعب الوصول إلى أعلى المسجد، وكان هناك صخرة أو شيء عالٍ أمام المسجد فإنه يؤذَّن عليه. المهم: ما لا يوجد في الكتاب يُلتمس في السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن البناية التي توضع على القبور، والمدهش أنك ترى أعظم المساجد بناءً وزخرفةً هي التي فيها قبور، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلا يقال: يستشهد بآية الكهف على جواز بناء المساجد على القبور؛ لأن شرع من قبلنا شرعٌ لنا بشرط أن لا يوجد في شرعنا ما يخالفه، فإن وُجِد في شرعنا ما يخالفه فالعبرة بشرعنا لا بشرع غيرنا. كذلك أجمع العلماء جميعاً أن التماثيل حرام، مثل تمثال رمسيس، ومنقرع، وخوفو، والسنة أن تنسف وأن تزال، وأن كل المتاحف الموجودة وثنية، لا يجوز لمسلم أن يذهب إلى متحف من المتاحف لكي يتفرج على الأحجار التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكسرها، كما في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مُشْرِفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته). لكن في سورة سبأ أخبر الله تبارك وتعالى عن سليمان عليه السلام مع الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13]، فهناك من يقول: هذا سليمان وهو نبي، ومع ذلك كان يصنع التماثيل، فنحن أولى أن نصنع التماثيل. لا يُحتج بفعل سليمان عليه السلام؛ لأنه ورد في شرعنا ما يردُّه، والعبرة بشرعنا لا بشرع مَن قبلَنا. كذلك لو أن سفينةً تمخُر عُباب البحر، وكان يركبها مائة رجل، وكادت السفينة أن تغرق، فقالوا: يا جماعة! إنكم لن تَنْجُوا إلا إذا رمينا -مثلاً- عشرة في البحر، حتى نخفف حمل السفينة، ولا شك أننا لو رمينا عشرة سنحفظ أرواح تسعين؛ لأن هذا أولى؛ لأن الشريعة جاءت بدفع أكبر الضررين، أعني أن الشريعة تقول: إذا كان هناك أمران وكلاهما ضار، ولا بد لك أن تأخذ أحدهما اختر أخفهما ضرراً؛ لأن الشريعة جاءت بدفع المضرة عن المسلم. فلا شك أننا عندما نرمي عشرة في البحر لنحافظ على حياة تسعين أن هذا من ضمن بحث الشريعة. ويحتجون بقصة يونس عليه السلام ذي النون عندما ركب السفينة، وحصل أن ربان السفينة قال: إن فيكم عبداً عاصياً فليخرج، فما خرج أحد، فعملوا قرعةً: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] (ساهم) أي: اقترع، ومنه ما تعلمون من الخطأ الشائع حيث يقال: فلان ساهم في بناء المسجد، وهذا خطأ، والصواب أن تقول: فلان أسهم، أي: شارك؛ {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: كلما اقترعوا وقعت عليه القرعة، فقالوا: نرمي نبياً في الماء؟! فأعادوا القرعة مرة أخرى، فتأتي عليه القرعة، فقذفوا به في الماء. فقالوا: هذا نبي وقذفوا به في الماء، فهذا حجتنا، وشرعُ مَن قبلَنا. فيقال: لا. لأن شريعتنا أتت بقول القائل: إن دم المسلم الأصل فيه العصمة؛ لأن دم الذي ستحفظه ليس أولى من دم الذي ستلقيه في الماء، لماذا ألقيت هذا لتحفظ دم ذاك، أدَمُ هذا أغلى من دَمِ ذاك؟ لا. كل الدماء معصومة، إما أن يغرقوا جميعاً وإما أن ينجوا جميعاً، لا تفاضل في الدماء، لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، فليس هناك فرق بين أمير ولا مأمور، ولا غني ولا فقير، ولا أي شيء من هذا، دمك مثل دمه تماماً، معصوم بالنص، لا يهدر لمجرد ترجيح من عندك، فهل أنت مستيقن (100 %) أنك لو رميت العشرة ستنجو السفينة؟ إذاً: هذا ظن، ودم المسلم معصوم بيقين، فلا يُهْدَر هذا اليقين لأجل ظن رَجَح عندك، فلا يُعمل بشرع مَن قبلَنا هنا. لماذا؟ لأن شرعنا ورد فيه ما يرده، إنما يُعمل بشرع ما قبلنا إذا كان شرعُنا يؤيده، كمثل القصة التي سقناها الآن، وكمثل القرعة التي دل عليها حديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه)، يعمل قرعة، فمن خرج سهمها خرجت معه. وكذلك كما قال أبو عبيد رحمه الله -أحد أئمة الحديث واللغة- يقول: اقترع ثلاثة من الأنبياء: اقترع زكريا عليه السلام لما اختلف في كفالة مريم مع بني إسرائيل: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، قال علماء التفسير: كانوا يأتون بالأقلام التي يكتبون بها التوراة، وجاءوا في ماء جارٍ وقالوا: نلقي أقلامنا، فمن وقف قلمه فهو الذي يكفل مريم -وهذا شبيه بالقرعة-: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:44] أي: في الماء، {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44] أي: أيُّهم الذي يكفل مريم، فوقف قلم زكريا عليه السلام. ويونس في قصة السفينة، ونبينا صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وغيره. إذاً: شرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا، بشرط أن لا يَرِد في شرعنا ما يردُّه. فلم ينكر أن الرجل أخذ الخشبة من البحر، لذلك يجوز لك أن تأخذ لقطة البحر؛ لكن هناك سؤال آخر دقيق وهو: أن الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث: (باب لقطة البحر)، فلو وجدت خشبةً بها ألف دينار، هل تأخذ الألف دينار؟ الجواب: لا بد أن تعرِّف ذلك؛ وإذا كان مبلغاً بسيطاً أو شيئاً يتسارع إليه الفساد، لا جناح عليك إن لم تعرِّفه، يعني مثلاً: إذا وجدتَ برتقالة وأنت تمشي، فأنت إذا أردت أن تعرِّف البرتقالة فإنها ستفسر فيجوز لك

حقيقة التوكل على الله عز وجل

حقيقة التوكل على الله عز وجل التوكل على الله عز وجل ليس معناه خلع الأسباب، وفي صحيح ابن حبان من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أترك ناقتي وأتوكل، فقال له: اعقلها وتوكل) أي: أترك ناقتي تسيح في الأرض ويكون هذا من التوكل؟ قال: لا. اربطها بحبل وتوكل. فهذا يدل على أن التوكل ليس معناه خلع الأسباب. والتوكل الحقيقي: هو اعتماد القلب كليةً على الله عز وجل مع البراءة من الاعتقاد بالسبب. إياك أن تتصور أن الحبل هو الذي يحفظ الناقة؛ لأن كثيراً من الناس ربطوا جِمالهم فضاعت! لكن لا بد مع أخذك بالسبب أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى هو الحفيظ. هذا هو معنى التوكل، لا أن تخلع الأسباب، أو يُظن أن الأخذ بالسبب ضد التوكل، لا. لا بد وأنت تعمل الشيء أن تعلم أن الله تبارك وتعالى هو المتصرف في هذا الكون. هذا معنى التوكل، وهذه حقيقة قلبية. نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعيننا على الأخذ بالأسباب والتوكل عليه سبحانه حقيقة التوكل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

معيشة أصحاب النبي

معيشة أصحاب النبي لقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حياة التقشف والزهد، وصبروا على ضيق ذات اليد وشظف العيش في سبيل الله عز وجل، فجعلهم الله خير أمة، واصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا نعم أصحاب وخير أتباع. فعلينا أن نقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزهد وحسن الخلق، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعته، لنفلح كما أفلحوا دنيا وأخرى.

شرح حديث (شرب أهل الصفة من قدح لبن)

شرح حديث (شرب أهل الصفة من قدح لبن) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. روى الإمام البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله غيره، لقد رأيتُني أعتمد على كبدي من الجوع، ولقد وقفتُ في طريقهم يوماً فمر بي أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني، -وفي رواية قال: إلا رجاء أن يشبعني- فأجابني وانصرف، فمر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني -وفي رواية: يشبعني- قال: فمر ولم يفعل، قال: حتى جاء أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم فنظر في وجهي فعرف ما بي، فتبسم وقال: أبا هر! الحق بنا، قال: فانطلقت معه حتى دخل الدار مع بعض أصحابه فوجد قدحاً فيه لبن، فقال: من أين هذا؟ فقالوا: أهداه لك فلان الأنصاري، فقال: يا أبا هر! الحق بأهل الصفة فادعهم يشركوننا في هذا اللبن، قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني رجوت أن أشرب شربة أقيم بها صلبي، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة، وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق أبو هريرة رضي الله عنه ودعا أهل الصفة، قال: وقد أحزنني أيضاً أنني دعوتهم فسأكون آخرهم شرباً، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق فدعاهم فجاءوا فجلسوا، فوضع يده على الإناء وسمى الله تبارك وتعالى، ثم قال: أبا هر! اسقهم، قال: فأعطيت الأول فشرب حتى رده، فأخذته فأعطيته الثاني، فشرب ورده، فأخذته فأعطيته الثالث وهكذا، حتى شربوا جميعاً واللبن كما هو، قال: فلما وصلت إليه صلى الله عليه وسلم نظر إلي وتبسم، وقال: أبا هر! لم يبق إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: أبا هر! اقعد قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، فقال: أرني فسمى الله تبارك وتعالى، وشرب الفضلة). لقد بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (باب معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

قوة الإيمان خير من قوة الأبدان

قوة الإيمان خير من قوة الأبدان في الحقيقة أن هذا الجيل فريد، ولا أظن أن يتكرر هذا الجيل أبداً إلا أن يشاء الله رب العالمين. وهذه عاقبة الإخلاص، أي رجل يخلص لدعوته يرضى بالمر في سبيلها، الصحابة رضوان الله عليهم كانت السمة العامة لعيشهم هو الشظف، ومع ذلك بارك الله تبارك وتعالى لهم في أبدانهم وقوتهم. ربما أننا نأكل في المرة الواحدة من ألوان الطعام ما لم يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا أقول: ربما، بل أقول: نحن نأكل طعاماً ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، قالت عائشة رضي الله عنها: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير)، أما خبز البر الذي هو القمح الذي نأكله الآن فما رآه بعينيه، ولا أكله قط، ولا رأى منخلاً قط بعينيه، إنما كانوا يأتون بالشعير فيذرونه في الهواء، وما بقي كانوا يعجنونه على حاله ويأكلونه. هذا هو أكل النبي عليه الصلاة والسلام، وأكل أصحابه رضوان الله عليهم.

طعام الصحابة في بدر وطعام الكفار

طعام الصحابة في بدر وطعام الكفار في معركة بدر خرج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يريدون عير قريش، فجمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، كانوا يقتسمون التمرات، لأنهم ما خرجوا لقتال حتى يتأهبوا ويأخذوا معهم الزاد، إنما هي حفنة تمر، وانطلقوا لكي أن يقطعوا على قريش الطريق ويغنموا العير ويرجعوا، ظنوها ساعةً من نهار، وعلى الجانب الآخر خرجت قريش تريد القتال، حتى لما أرسل أبو سفيان إلى مكة بعدما نجا قال لهم: ارجعوا فقد نجت العير ولا حاجة للخروج، لكن تعس قوم رأسهم أبو جهل، قال: لا والله لا بد أن نسير، حتى نرد بدراً فنشرب الخمر وتغنينا النساء، فيسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. وانطلقوا إلى بدر، وكانوا يأكلون في اليوم الواحد عشرة من الجمال، في الوقت الذي كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقتسمون التمرة، ويعتقبون البعير، كل واحد يركب مرحلة، لأنهم لا يوجد عندهم ظهر، كل شخص يركب مثلاً نصف كيلو وينزل، وأخوه الثاني يركب نصف كيلو وهكذا، وغلب الذين كانوا يقسمون التمرات على الذين كانوا يأكلون عشرة من الجمال. يخطئ من يظن أن جودة الطعام هي السبب الرئيس في صحة البدن. لا. وإلا لمات الفقير. بل أنا أقول انظر إلى عامل البنيان الذي يصعد بالخرسانة المسلحة على كتفه، وانظر إلى ساكن القصر الذي قبل أن يأكل لا بد أن يأخذ الحبوب، ويأخذ الدواء، وهذا الرجل فقير، يأكل خبزاً ويأكل جبناً، وبعد أن يأكل يبدأ يمارس العمل الشاق طيلة النهار، الطعام الجيد الفاخر ليس هو السبب الوحيد أبداً في حياة البدن، وإلا لما مرض غني ولما عاش فقير. فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كانت هذه هي السمة العامة لهم، هل كانوا فقراء؟ لم يكونوا جميعاً كذلك، بل كان فيهم أغنياء، وكانت حياتهم أيضاً هي حياة الزهد. عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح كان صائماً، فقُرِّب إليه طعام، قال (مات مصعب بن عمير وهو أفضل مني، فلم نجد له بردة نكفنه بها، ومات حمزة وهو أفضل مني، ومات فلان وهو أفضل مني، فلا زال يبكي حتى ترك الطعام)، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه غناه مشهور، حتى أنهم ذكروا أن الذهب الذي كان يملكه كان يقطع بالفئوس من غناه، وكان إذا قبض قبضة من التراب وتاجر فيها ربح؛ لكن الزهد كان سمة هؤلاء. والفرق بين هذا الجيل الفريد وبين كثير من الأجيال التي جاءت من بعده، أن الدنيا كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، لذلك كان الواحد منهم مستعداً أن يضحي بالدنيا كلها في ساعة فداءٍ لله تبارك وتعالى، ولا يندم عليها، لذلك ما هزموا أبداً، وظلوا سادة حتى ماتوا. خلودُنا إلى الأرض، هو الذي صنع فينا هذا الذل، وجعلنا في هذا الموقع الذي لا ينبغي لأمة الإسلام أن تكون فيه.

الفرق بين أصحاب يوشع بن نون وأعدائهم الجبارين

الفرق بين أصحاب يوشع بن نون وأعدائهم الجبارين في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام، وكان خرج ليقاتل الجبارين، وقد قرأتُ في بعض الروايات الإسرائيلية أن هؤلاء الجبابرة كان طول أحدهم أكثر من ستين ذراعاً، وهذه الرواية فيها نكارة، لأن آدم عليه السلام أول مخلوق كان طوله ستين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة). فنتصور أنه لا يوجد إنسان في الأرض أطول من آدم عليه السلام؛ لكن الرواية هكذا قالت أن طولهم كان طولاً شديداً، وقوم يوشع كان طولهم معتدلاً، لدرجة أن أحد قوم يوشع عليه السلام دخل بستاناً يتجسس على هؤلاء الجبارين، فأحد من هؤلاء الجبارين، يبدو أنه كان يجمع برتقالاً أو عنباً أو شيئاً من هذا، وجد هذا مختبئاً فوضعه في كمه ومضى به، فخُذ من هذه الرواية الفرق بين قوم يوشع وبين الجبارين، وحتى اسمهم (الجبابرة) يظهر منه مدى ضخامة أجسامهم وقوتهم. (فقال يوشع بن نون عليه السلام: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل رفع بيوتاً ولم يرم سُقُفها، ولا رجل له خلفات ينتظر نتاجها) لأن هؤلاء يُهْزَم المرء بهم، الرجل الذي عقد على المرأة ولما يدخل بها يتمنى أن يرجع حتى يبني بها، فلذلك إذا رأى بارقة السيوف هرب، لا ينتصر إلا الذي ودَّع الدنيا عندما يخرج، وأيقن أنه لن يعود، هذا هو الذي ينتصر، أما الذي يؤمل أن يعود فإنه كلما رأى بارقة السيوف هرب بجلده، لأنه يريد أن يعود حتى يتمم مراده الذي تركه. (ورجلٌ رفع بيوتاً)، أي: رفع الجدر ولا يزال السقف غير مكتمل فهو يتمنى أن يرجع ويكمل البيت لكي يسكن فيه، (ورجل له خلفات): التي هي الضأن أو المعز، (ينتظر نتاجها)، أي: عنده مثلاً مائة رأس ومنتظر أنها ستلد أيضاً مائة رأس، ويحلم أنه يكبر هذه التجارة. قال: لا يتبعني أحد من هؤلاء؛ لأن الذي يتمنى أن يعود أو يضع في حسبانه أن يعود لا ينتصر، وهنا كلمة نسبت مرة إلى أبي بكر الصديق ومرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يحصل نوع من المكاتبات بينه وبين عدوه كان يقول لهم: لقد جئتك برجال يحرصون على الموت حرصكم على الحياة، أنت ماذا تفعل به إذا أراد الموت، إن انتصر وغلبك كان سيداً في الأرض، وإن قتلته فاز بمراده، فما تفعل برجل ينتظر إحدى الحسنيين؛ لذلك كانوا يرهبونهم وهم في مكانهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، أي: يكون بيني وبين عدوي مسيرة شهر على الأقدام وهو مرعوب مني، وأنا لم أتحرك من مكاني. فالإخلاد إلى الدنيا هو سبب هذا الوهن الذي دب إلينا. فيوشع بن نون عليه السلام انطلق بالجيش ووصل القرية -كما في رواية الحاكم - يوم الجمعة، وبدأ القتال عصر يوم الجمعة، وأولئك جبارون، وهؤلاء بالنسبة للجبارين أقزام، لكن القوة هي قوة القلب، ليست قوة البدن، لو تجمع قلبك قوي ساعدك، ولو تفكك قلبك ذهبت قوتك، ولذلك أنت تجد إنساناً أول ما يخاف تنفلت أعصابه وتنهار قواه، طالما قلبه تفتت انتهت قوته، إنما الإنسان إذا تجمع قلبه قوي ساعده، والمؤمن قلبه بيد الله عز وجل، فلا يخاف الموت؛ لأنه يتمناه، لذلك ما كانوا يضعفون أبداً. هؤلاء -الذين يعتبرون أقزاماًَ بالنسبة للجبابرة- ظلوا يقاتلونهم قتالاً شديداً حتى غربت الشمس، وكادوا أن يدخلوا البلد، أي: أنهم هزموا الجبارين، ولكن ما زالوا يقاتلون فلول الجبارين الأخيرة، فلو أن الشمس غربت يكون قد ذهب جهادهم كله، ومن الممكن أن يبدءوا الجهاد من اليوم التالي، ومن الممكن ألا يضمنوا النتائج، (فالتفت يوشع عليه السلام إلى الشمس وقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم ردها علينا، فرجعت الشمس كما كانت، فلا زال يقاتل حتى فتح له). فنحن نفهم من هذا أن الدنيا إذا كانت في القلب فهو الخور، والضعف الحقيقي، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما كانوا كذلك، كانت الدنيا في أيديهم، وكانوا سادة الأرض، ما كان هناك في الدنيا أمة أعز من هذه الأمة؛ لكن لم تكن الدنيا في قلوبهم، كثير من الأجيال التي أتت بعد ذلك الدنيا ليست في أيديهم فقط، بل في قلوبهم، وهذه من المصائب، ليتها إذ حلت في قلوبهم كانت في أيديهم، لكن حلت في قلوبهم وليس في أيديهم منها شيء.

زهد الصحابة في الدنيا وحسن أخلاقهم

زهد الصحابة في الدنيا وحسن أخلاقهم كان زهد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا، أما القلب فهو خالٍِ تماماً منها، إلا ما شاء الله تبارك وتعالى من ما لا يكاد ينجو منه بشر. حقيقة الزهد أن يزهد المرء بعد الوجدان، كما قال القائل: ليس الزاهد هو الذي لا يجد شيئاً، إنما الزاهد من وجد فزهد؛ لأن الذي لا يجد شيئاً فهو زاهد رغماً عنه؛ لأنه لا يوجد في يده شيء حتى يزهد فيه، إنما الزهد الذي يجد ثم يترك. فصحابة النبي عليه الصلاة والسلام لم يكونوا جميعاً فقراء، إنما كانوا من الزاهدين العابدين. أبو هريرة رضي الله عنه يحكي موقفاً، وأبو هريرة له مواقف كثيرة، وكل صحابي له مواقف كثيرة، لكن هذا موقف وقع لـ أبي هريرة رضي الله عنه، فيصدِّره بالقسم لأن الصورة التي يحكيها صورة عجيبة يقول: (والله الذي لا إله غيره، لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، حتى كنت أُصْرَع بين المنبر والحجرة، فيجيء الجائي فيظن أن بي جنوناً وما بي جنون، ما بي إلا الجوع)، رجل جائع إلى درجة أنه يُصرع ويعتمد على الأرض بكبده، أي: لا يستطيع أن يمشي على قدميه، إنما يزحف زحفاً، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يربط الأحجار على بطنه ويشده بالحبل، لأن هذا يخفف ألم الجوع.

موقف أبي هريرة مع قدح اللبن وأهل الصفة

موقف أبي هريرة مع قدح اللبن وأهل الصفة فـ أبو هريرة رضي الله عنه أول ما دخل وجد كوب اللبن فاستبشر، قال: إذاً: سنشرب؛ لكن تبددت فرحته عندما قال له: (أبا هر! الحق بأهل الصفة يشركوننا في هذا اللبن) هو كوب! وأهل الصفة كانوا أربعمائة رجل تقريباً، يعني: لو أن كلَّ واحدٍ شَمَّهُ شَمَّةً لانتهى، وأبو هريرة جائع ويريد أن يشرب- قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني كنت أريد أن أشرب شربةً أتقوى بها، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة ثم شيء آخر أحزنه، وهو أنه طالما أنه دعاهم فهو الذي سيسقيهم، و (ساقي القوم آخرهم شرباً)، إذاً: لن يجد لبناً، لكنه قال: (ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد) أي: فلو مات من الجوع لا بد أن يسمع ويطيع، فذهب فدعاهم، فأقبلوا وجلسوا جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أبا هر! اسقهم) وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وضع يده عليه وسمى الله تبارك وتعالى، وأعطاه لـ أبي هريرة، وأبو هريرة أمسك الكوب ليعطيه لواحد يشرب حتى يروي ظمأه، واللبنُ كما هو لم ينقص، فيأخذه أبو هريرة ويعطيه للآخر فيشرب، فيأخذه منه ويعطيه للثالث وفي هذا دليل على أنه ليس من المروءة استخدام الضيف، فـ أبو هريرة لم يترك كلَّ أحد يناول أخاه، بل كان يأخذ ويعطي بنفسه، فليس من المروءة إذا جاءك ضيف أن تقول: يَدُك يا شيخ، خذ معي هذا الكرسي، وضعه هنا، أو تنتظر حتى يأتيك أضياف لتغير وضع البيت، فتنقل الدولاب هنا، والسرير هنا، وتستغل الأضياف، فهذا ليس من المروءة بل الضيف ضيف، يأتي عزيزاً ويأتي مكرماً، ويجلس ولا يفعل شيئاً. قال أبو هريرة: (فشربوا جميعاً حتى وَصَلْتُ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فنظر إلي وتبسم) الرسول عليه الصلاة والسلام كان عارفاً أن أبا هريرة حزين، وكان يعلم أنه يهجس في نفس أبي هريرة أنه لن يجد لبناً، لذلك بعدما انتهى أبو هريرة من إعطاء اللبن لأهل الصفة، نظر إليه وتبسم. (وقال: أبا هر! لم يبقَ إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: أبا هر! اقعد)، وفي هذا دليل على مشروعية الشرب قاعداً، والخلاف بين العلماء في المسألة معروف، والجماهير على جواز الشرب قائماً، لكنهم يفضلون القعود. وهنا لطيفة أذكرها: كان الإمام الكسائي إمام اللغة المشهور وأحد القراء السبعة من أصحاب القراءات المتواترة، واسمه: علي بن أحمد - مرة داخلاً على هارون الرشيد، وكان هارون متكئاً، فدخل عليه الكسائي فقال له هارون: اجلس، فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين! يعني الصواب أن تقول: اقعد، لا أن تقول: اجلس، فقال له: وما الفرق بينهما؟ قال: الجلوس يكون من اتكاء، والقعود يكون من قيام. وهذا أغلب استخدامات العرب، ولا مانع أن يوضع هذا مكان ذاك؛ ومن الممكن أن يوضع الجلوس مكان القعود؛ لكن أغلب استخدامات العرب إذا كان الشخص واقفاً أن يقولوا له: اقعد، وإذا كان الرجل متكئاً يقولون له: اجلس. وحديث أبي بكرة لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام متكئاً فجلس قال: (ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور)، كان متكئاً فجلس. وحديث ابن عباس في الصحيحين لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، فدخل عمر بن الخطاب، فقال: (لم أرَ في البيت شيئاً يردُّ البصر، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسَّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، قال: وكان متكئاً فجلس). فـ أبو هريرة واقف، قال: (أبا هر! اقعد. قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت. اشرب، اشرب، اشرب، ظل يقول له: اشرب حتى قال: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) وفي هذا دليل على جواز أن يأكل المرء حتى يشبع؛ لكن القدر المستحب أن يقسم معدته ثلاثة أثلاث، لا أن يملأ الثلاثة أثلاث أكلاً. بل يترك لنَفَسِه الثلث، وثلثاً لشرابه. فهنا حين يقول: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً) يدل على أنه ملأ بطنه إلى الأخير، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر عليه، وهذا هو الدليل؛ وهو إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرني، قال: فأعطيته الإناء، فسمى الله وشرب الفضلة). نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. والحمد لله رب العالمين.

كرم الصحابة وسخاء نفوسهم

كرم الصحابة وسخاء نفوسهم كان النبي عليه الصلاة والسلام من عادته أول ما يدخل البيت أن يتفقد بيته ويتفقد مواضع الخير في بيته، كما أمر عائشة رضي الله عنها أن توزع الأضحية. فـ عائشة رضي الله عنها من الخير الذي عندها وهي توزع نسيت أن تبقي لنفسها شيئاً من الأضحية، لتأكله مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذكَّرَتها الجارية، فبقي من الضأن أو الماعز الرجلان الأماميتان -اليدان- فقط، فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما دخل البيت قال: (ما فعلت في الأضحية؟) يسأل ويتفقد مواضع الخير في بيته، ولذلك أول ما يدخل الإنسان لا يسأل امرأته: أجهزتِ الغداء؟ بل يسأل: أصليتِ الظهر؟ أصيلتِ العصر؟ والأولاد: أصلوا؟ فأول ما دخل عليه الصلاة والسلام قال: (ما فعلت -أي: في الأضحية-، فقالت: يا رسول الله! ذهبت كلُّها إلا ذراعُها، فقال عليه الصلاة والسلام -قول الرجل الذي ينظر إلى الآخرة-: بل بقيت كلُّها إلا ذراعُها) أي: بقيت عند الله تبارك وتعالى؛ لأنها خرجت صدقة، فلما دخل عليه الصلاة والسلام وجد الإناء، فقال: (من أين؟ قالت: أهداه لك فلان الأنصاري). وكان عليه الصلاة والسلام من عادته أنه إذا جاءته صدقة أرسلها كلها إلى أهل الصفة ولم يرْزَأهم شيئاً، فإذا جاءته هدية أرسل إليهم يشركهم فيها، وكان هذا من رأفته عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فأهل الصفة تركوا ديارهم واغتربوا في سبيل الله، فكان يأكل معهم، إذا جاءت هدية أشركهم فيها، وإذا جاءت صدقة ذهب بها إليهم كلها، وما يرْزَأهم شيئاً؛ لأن الصدقة محرمة عليه -عليه الصلاة والسلام-. وأيضاً من الأمثلة على لطفه عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يحب أن يُشْرِك الأمة معه في ذلك، ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق، قال جابر رضي الله عنه: (مرت بنا ثلاثة أيام ونحن نحفر الخندق، ما ذقنا فيها ذواقاً، قال: فاعترضتنا كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول) أي: صخرة ضخمة، يكسرون فيها، ولم تنكسر، قال: (فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدته قد ربط الحجر على بطنه من الجوع) كان النبي قدوة، أنا عندما أرى الرسول عليه الصلاة والسلام أو أرى قائدي يربط الحجر على بطنه من الجوع فأنى أنسى الجوع؛ لكن إذا كنت أراه يأكل ويتغدى ويرمي اللحم خارجاً، وأنا رجل أعاني شظف العيش، وبعد ذلك يقوم خطيباً ويقول لي: التقشف وشد الحزام، هذا الرجل كاذب، قد أكون جباناً لا أستطيع أن أقول له: أنت كاذب؛ لكن أنا في قرارة قلبي أعلم أنه كاذب، فتقل القدوة به، ومهما يأمر ويتكلم فأنا لن أسمع، لأنه كاذب يعيش في نعيم وأنا أعاني الضنك؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أول جائع فيهم. فوجده جابر رابطاً على بطنه الحجر من الجوع، فقال: (يا رسول الله! كُدْية عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام وأعرفُ الجوع في وجهه، فأمسك المعول، وقال: باسم الله، وضربها، فصارت كثيباً أهيل -صارت رملاً- فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب البيت، فأذن له، فذهب إلى امرأته، وقال لها: لقد رأيتُ شيئاً آنفاً ما لي عليه صبر، رأيت الجوع بوجه النبي صلى الله عليه وسلم، فما عندك من الطعام؟) أرجو أن تستحضر أن جابراً أيضاً جائع، ظل ثلاثة أيام ما عنده طعام، فكان من المتصور أن ينسى جوع غيره لجوع نفسه، لكن المحب ينسى جوع نفسه لجوع من يحب، لذلك قال: رأيت شيئاً ما لي عليه صبر، ماذا عندك؟ (قالت: عناق -شاة أو ماعز صغيرة- وصاع من شعير، فقال: اذبحي العناق واعجني، فقالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) تعني: لا تذهب وتحضرهم كلهم؛ لأنه ليس ثَمَّ طعام عندي. فأخذ جابر الوصية وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهمس في أذنه: عندنا عناق، وصاع من شعير، أي: تعال وبعض أصحابك، قال جابر: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا أهل الخندق! قد صنع لكم جابر طعاماً، قال جابر: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله؛ رجل دعا أناساًَ إلى الطعام وليس عندهم طعام، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: اذهب فقل لهم: أن يضعوا اللحم على النار، ولا يخبزوا حتى أجيء، وجاء بأهل الخندق جميعاً وانطلق إلى البيت، فأول ما سمعت امرأة جابر وقع الأقدام ورأت هذا العدد الكبير، قالت له: بِكَ وبِكَ! تلومه وتعنفه، ماذا يأكلون؟! أنا قلت لك، ونبهت عليك، قال: قد قلتُ الذي قلتِ لي، قالت: أوَعَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتُه لك؟ قال: نعم، قالت: فرسول الله أعلم، قال: فَسَرَّتْ عني، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال: أين البُرْمة -التي فيها اللحم-؟ فجِيْء بها، فبصق فيها وبارك. أين العجين؟ فِجيْء به، فبصق فيه وبارك، قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه، وكانوا ألف رجل، وإن البرمة لتغط باللحم كما هو، وإن العجين ليُخْبَز كما هو. فانظر من رأفته عليه الصلاة والسلام ما استطاع أن يستأثر بالأكل وهو عارف أن الذين يحفرون الخندق جوعى، حتى صاح فيهم: (لقد صنع لكم جابر طعاماً) مهما كان الشيء قليلاً، لكن المواساة به جيدة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الصدقة جهد المقل)، إذا كنت محتاجاً لهذا الدينار الذي تتصدق به، فهذا أفضل الصدقة، لأنك وقيت شح نفسك، رأيت غيرك أولى منك، فهذا أفضل الصدقة، جهد المقل.

ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (قال: حتى مر أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فلما رآني عرف ما بي فتبسم)، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، الإنسان المدهوش يستحب لك أن تلاطفه وتبش في وجهه، إذا رأيت إنساناً مكروباً فاضحك في وجهه حتى يزول ما عنده من الوحشة، وبعد ذلك سله، فمثلاً: إنسان جاء فابدأ ضيفه ولاطفه، ثم قل له: خيراً! ماذا تريد؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما رآه عرفه، والإنسان الجائع يظهر عليه أثر الجوع مباشرة، فرجل يعتمد على كبده من الجوع ويزحف على الأرض، فهذا واضح أنه هزيل لا يستطيع أن يقوم. وقد كان أبو هريرة ليس له صنعة، كان يقول: كنت أمشي مع النبي عليه الصلاة والسلام على ملء بطني، لأنه فقير، وكان من أهل الصفة، فأول ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تبسم، قال: (فتبسم وعرف ما بي، فقال: أبا هر! الحق بنا)، ومن حسن خلقه عليه الصلاة والسلام أيضاً أن يرخم اسم أبي هريرة، وذلك أن الترخيم يكون فيه نوع من الملاطفة، فعندما ترخم اسم شخص، مثلاً شخص اسمه محمد فتقول له: (يا أبو حِمِيد) أو أشياء من هذا القبيل فهذه ملاطفة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يرخم بعض الأسماء، وهذا الترخيم يدل على الملاطفة، أي: أن بينه وبينه وُدّاً لدرجة أنه يرخم اسمه، ولا يوجد بينهما احتشام ولا حاجز ولا شيء من هذا، ووجدنا النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يرخم في باب اللطف، والترخيم هو حذف جزء من الاسم. ومثله حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم قالت: (كنت نائمة، فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، ففتح الباب رويداً رويداًَ -أي: بهدوء شديد-، ومشى على أطراف أصابعه رويداً رويداً، وحمل نعله في يده، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً) هي كانت تنظر هذا من تحت اللحاف، وهو يظنها نائمة، (فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام فأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فقمت فتقنعت إزاري وانطلقت وراءه) وذلك لتنظر أين يذهب، فهي امرأة عندها غيرة شديدة، فظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة أو أم حبيبة، فانطلقت وراءه، فاستمرت تمشي وراءه حتى ذهب إلى البقيع، فرفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ثم انحرف راجعاً إلى البيت قالت: فانحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أي مشي بطيئاً- فأحضرت وسبقته، أول ما وصلت الحجرة دخلت تحت اللحاف، فهذه امرأة تجري، فكان من تتابع النَّفَس وتلاحقه أن بطنها يرتفع وينخفض، فأول ما دخل وجد اللحاف يرتفع وينخفض، فقال: ما لك يا عائش هذا هو الترخيم، فحذف بعض الاسم: (ما لك يا عائش حشيا رابية) أي: هل عندك مرض صدري، لأنه تركها مستريحة، وهذا ليس منظر امرأة نائمة، قالت: (لا شيء، قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -وذكرت له ما حدث- قالت: فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني، وقال: أظننتِ أن يحيف عليك الله ورسوله -أي: بأن تكون الليلة لك وأذهب لغيرك- إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي، فقال: إن ربكَ يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) إلى آخر الحديث. فانظر اللطف، لما رأى بطنها يرتفع وينخفض قال: (مالك يا عائش!)، الترخيم يدل على اللطف، كذلك كان يقول لـ أسامة بن زيد: (يا أسيد) ترخيم، وأسامة بن زيد هو الحب ابن الحب، وكان محبوباً عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فالترخيم يعرف إذا كان للطف أو للتقريع من سياق الكلام، كما يقول العلماء: إن السياق من المقيِّدات. فمثلاً في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، قال: (يُجاء برجل فيقول الله تبارك وتعالى له: أيْ فُل!) (فُلْ) ترخيم: (يا فلان)، فهذا ترخيم، لكن هذا الترخيم استهزاء واحتقار، ونحن عرفنا أنه ترخيم استهزاء واحتقار، لأن دلالة الكلام تدل عليه قال: (أي فُلْ! ألم أذَرْك ترأس وتربع)، (تربع) كان أهل الجاهلية إذا أغاروا على قوم أخذوا ربع ما غنموا وأعطوه لكبير الحي يضيف به الضيفان، ويقوم به على النائبات، فالمعنى: كنت تأخذ المرباع وأنت جالس في بيتك، (ألم أذَرْك ترأس)، -أي: تكون رأساً قال: (وأزوجك من النساء، وأركبك من الخيل والإبل، فأين شكرك؟! قال: رب نسيت، قال: فاليوم أنساك). فواضح من السياق أن قوله: (أيْ فُلْ) ترخيم إهانة وتقريع، كما قال تبارك وتعالى لأحد الكافرين: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، ومعروف أن عبارة (العزيز الكريم) لا تكون عادةً بهذا اللفظ إلا للإكرام والعزة، فهذا السياق دل على أن عبارة (العزيز الكريم) ليس المقصود بها الإكرام، بل المقصود بها الإهانة، وهكذا. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد ما عند أبي هريرة من الجوع والشحوب على وجهه، أولاً: تبسم حتى يزيل ما عنده من الكآبة، ثم رخم اسمه لمزيد من اللطف، قال: (أبا هر! الحق بنا) فـ أبو هريرة بالنسبة له هذه هي الغنيمة الباردة، هذا الذي كان يريد، فانطلق خلف النبي عليه الصلاة والسلام، فلما دخل وجد إناءَ لبن، قال: (من أين هذا؟)، وفي هذا دليل على استحباب أن يتفقد الرجل بيته، فلا يدخل فيلقى جهازاً كبيراً يخرق العين، ثم يمر عليه كأن أحداً لم يأت بجهاز، فمن الممكن أن يكون ولده سرق، فلا بد أول ما يدخل أن يتفقد كل شيء في بيته، أي شيء هو لم يستجلبه يقول: من أين هذا؟ ويتفقد، فلعل ولده سرقه أو نحو ذلك.

عزة النفس عند الصحابة

عزة النفس عند الصحابة فـ أبو هريرة لم يستطيع أن يمشي على قدميه، بل كان يمشي زحفاً من الجوع، فلأنه كريم وعزيز النفس، كأنه استحيا أن يقول لواحد من الصحابة: خذني أتغدى معك، فاحتال حيلة، والكريم يفضل أن يموت ولا يريق ماء وجهه، كما قال الشافعي رحمه الله وهو يصور الإنسان الكريم قال: لَقَلْعُ ضرسِ وضَربُ حبسِ ونزعُ نفسِ وردُّ أمسِ ... وقَرُّ بردِ وقودُ فردِ ودبغُ جلدِ بغير شمسِ ... ونفخُ نارِ وحملُ عارِ وبيعُ دارِ بربع فلسِ ... كل هذا أهون من وقفة حرٍّ يرجو نوالاً بباب نحسِ الأشياء التي ذكرها الشافعي منها مستحيل، كرد أمس، وهو أن يُرجع يوم أمس مرة أخرى، ومنها أن يدبغ الجلد بغير شمس، وهذا لا يكون أبداً، ومنها أن يبيع داره بربع فلس، فهو يقول: إن الإنسان لو ارتكب كل هذه الأشياء، فإنه أهون من أن يقف على باب لئيم يطلب عطاءً؛ لأن عنده من حرارة النفس والعزة ما يمنعه أن يقف على باب لئيم. فـ أبو هريرة رضي الله عنه احتال حيلة يحصل بها مقصوده ويحفظ بها ماء وجهه، فصلى الصحابة الفرض، فخرج قبلهم جميعاً وسبقهم ووقف على الطريق، فمر أبو بكر الصديق قال: (فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي) يعني: أنا لا أجهلها، بل أحفظها وأعلم تأويلها؛ لكن سأله لعله يقول له: تعال معي نتغدى، والذي جعل أبا هريرة يفعل هذا أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن أبو هريرة يسأله قط، إلا يقول له: لا أجيبك حتى نتغدى، فقال: إذاً نسلك هذا السبيل، وأبو بكر الصديق خير الناس بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمَّل فيه أنه لو سأله السؤال سيقول له: تعال نتمشى، فإذا وصل معه إلى باب البيت فغير ممكن أن يقول له: مع السلامة، سيقول له: تفضل! فمجرد أن يقول: تفضل يكون الرجل داخلاً بكرامته، فقال: (فأجابني وانصرف). قال: (فجاء عمر، فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعِي، رجاء أن يستتبعني -وفي الرواية الأخرى:- رجاء أن يشبعني، قال: فأجابني وانصرف).

الالتفات إلى الأسباب

الالتفات إلى الأسباب جعل الله لكل شيء سبباً، وهذا من سننه الكونية، والأسباب لا تؤثر بنفسها، بدليل أن السبب قد يوجد ولا يوجد أثره وثمرته؛ وعليه فالاعتماد الكلي على السبب، والالتفات إليه شرك بالله تعالى في ربوبيته، وبالمقابل فإن إهمال الأسباب وتركها قدح في الشرع ومحال عقلاً والحق أن يعتمد العبد ويتوكل على ربه تعالى ويأخذ بالسبب طاعة لله تعالى وتأسياً بأنبيائه عليهم الصلاة والسلام لتتحق له بذلك مصالح الدنيا والآخرة.

اتخاذ الأسباب لا ينافي صدق العبودية لله

اتخاذ الأسباب لا ينافي صدق العبودية لله إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، هذه الكلمات الثلاث اشتملت على الدين كله، الالتفات -أي التفات القلب إلى الأسباب- قدح في التوحيد؛ لذلك فإن الله تبارك وتعالى ألغى السبب فيما يتعلق بدعائه والإخلاص له. نحن كما قال ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وأبو ذر في جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: كنا ضلالاً لا نعرف شيئاً حتى جاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو الواسطة بيننا وبين الله في العلم به، وبأحكامه، وبما يحب ويكره، نحن لا نعرف لنا سبباً إلى السماء غير الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لذلك كان هو الواسطة الطبيعية، كما يتضح ذلك جلياً في كثير من الآيات، ومنها: قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [البقرة:189] وقوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} [البقرة:219] وقوله جل ثناؤه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ} [البقرة:217] وقوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ} [البقرة:215] وقوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127] وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]. (قل) هذه التي هي دلالة على الواسطة، إثبات وجود الرسول عليه الصلاة والسلام في تبليغ الأحكام الشرعية، إلا في الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، لم يقل: فقل: إني قريب؛ وذلك حتى يلغي الواسطة؛ لأنه من الممكن أن تفرغ ما عندك من العبودية عند الواسطة، ولله المثل الأعلى. ولك أن تتصور أن يوجد أمير عادل حكيم لا يرد مظلمة إنسان، ولكن له نائب لئيم، كلما رفعت شكوى حجبها ذلك النائب ولم يرفعها للأمير، فحتى تصل شكايتك للأمير، ماذا تفعل؟ لابد أن تتزلف إلى هذا النائب اللئيم حتى يسمح بمرور شكايتك إلى الأمير، وكلما كان هذا الرجل أشد لؤماً كنت أنت أشد ذلاً، وهكذا استفرغت ما يجب أن يكون لله تبارك وتعالى -من العبادة والذل والخضوع- عند أقدام الواسطة، ولهذا ألغى الواسطة؛ حتى تكون عبوديتك كاملة لله تبارك وتعالى، إذا سألت مباشرة ليس هناك واسطة. لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجماعة الذين يصرخون في دعائهم، قال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).

نفي الأسباب محال عقلا

نفي الأسباب محال عقلا التفات هذا القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ونفي الأسباب نقص في العقل، فلو أن رجلاً قال: أريد ولداً بغير نكاح، فكل العباد يقولون عنه: مجنون، أو قال: أريد أن أشبع بغير أكل، لقالوا: مجنون، ولو قال آخر: أريد أن أذهب إلى أول الشارع بغير سعي مني ولا مشي، يقولون: أنى لك ذلك؟! فمعنى أن يلغي العبد السبب أن يقول: لا قيمة له أبداً في الفعل، هذا القول نقص في العقل. ولعله يأتي من يقول: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض يمكن أن ينفي أن يكون السبب مؤثراً، نقول: بلى! يوجد أناس يقال لهم: الفرماوية يرون أن الأخذ بالأسباب كفر، ويرون أن من مرض فذهب إلى الطبيب فهو كافر، ومن أراد الولد فنكح فهو كافر، مع أنهم ينكحون ويذهبون إلى الأطباء، لأنه يستحيل أن ينفي السبب بالكلية وإلا مات، ولقد رأينا بعضهم وقد انقسموا فريقين: جماعة يلبسون قمصاً بيضاء، وجماعة يلبسون قمصاً خضراء، فالذي يلبس قميصاً أبيض لا يأخذ بالأسباب لأنه وصل إلى درجة اليقين. كما أنه قيل لـ ابن الجوزي يوماً: إن فلاناً ترك الصلاة والزكاة وترك العبادة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقال: إنه قد أتاني اليقين وأنا وصلت درجة رفع التكليف، فقال ابن الجوزي: نعم، وصل، ولكن إلى سقر. فالذي وصل إلى هذه الدرجة من الفرماوية يلبس القميص الأبيض، أما الذي يلبس القميص الأخضر فهذا دءوب العمل لخدمة الصنف الأول دائماً، وهو الذي يأخذ بالأسباب، ومن عجيب أمرهم أنهم يعتقدون أن الذي يلبس الأخضر كافر كفراً مؤقتاً، حتى تدب الولاية -ولاية الشيطان- في قلبه فيلبس قميصاً أبيض. وهذا الكلام لو عرضوه على أجهل خلق الله تبارك وتعالى ما قبله، لأنه يصادم صريح العقل، فإنكار أن تكون الأسباب أسباباً من حيث هي أسباب نقص في العقل بلا شك، ونحمد الله تبارك وتعالى أنه لا يوجد من هذه الطائفة أحد الآن، لقد كانوا يحرقون صحيح البخاري فلما سئلوا:، لماذا؟ قالوا: أصل البخاري شيوعي، أليس من الاتحاد السوفييتي؟! هذا لما كانت بخارى ضمن الاتحاد السوفييتي، أما الآن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى أين سينسبوا البخاري؟ وكانوا يقولون: كل أحاديث عائشة باطلة فلما قيل لهم لماذا؟ قالوا: صوت المرأة عورة، كل حديث عن أي امرأة غير صحيح، لأن صوت المرأة عورة. وهكذا من يرد الأحاديث قائلاً: هذا مضاد لصريح العقل، وإذا وجدت حديثاً يضاد صريح العقل فاعلم أنه مكذوب!! وأنا أقول: صريح العقل ليس عقلك وحدك، إنما صريح عقل المسلمين، لأنه من الممكن أن يصادم عقلك أنت فقط، لكن لا يصادم عقل غيرك، هذا هو معنى القيد الذي وضعه علماء المسلمين عندما قالوا: إذا وجدت الحديث يخالف صريح المعقول فاعلم أنه مكذوب. وهم يقصدون بصريح المعقول أي صريح معقول عقول المسلمين، ليس عقل واحد، ولا عقل اثنين، إنما عقول المسلمين. ففعل الفرماوية هؤلاء وتأويلهم يضاد صريح عقول المسلمين، لذلك نجزم أنه من الباطل المحض الذي لا يتردد فيه إنسان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم

الحرص على التوحيد وحماية جنابه

الحرص على التوحيد وحماية جنابه إن التفات القلب إلى السبب قدح في التوحيد، ومعنى ذلك أنه إذا علمت -أو ظننت- أن السبب هو المؤثر كان ذلك قدحاً في التوحيد، ولذلك ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار؛ فقد أشرك)، لكن يجب أن يقول: لولا أن الله سخر الكلب، فلا يجعل الكلب هو الذي أنقذ الدار من السرقة. وتأمل جيداً قول إبراهيم الخليل عليه السلام لما عرّف إلهه الذي يعبده إلى قومه، فقد كان في غاية الدقة، وكان الرائد في هذا المضمار، ولذا فكلامه موزون، وكذلك الداعيه إلى الله عز وجل يجب أن يكون كلامه موزوناً، أليس الكفر بكلمة، والإيمان بكلمة، واستحلال أعراض الناس بكلمة؟! كل شيء في الدنيا أليس يتم بكلمة؟! لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً). والرجل ما أتم كلمة أشرك بها، إنما أشرك بحرف، قال: ما شاء الله وشئت، فعطف بحرف الواو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً). ونحن نعلم أن الرجل لم يقصد أن يجعل لله نداً في حقيقة أمره وقرارة قلبه وإلا فهو كافر، إنما قال كلمة درجت على لسانه، كما يقول العوام اليوم: توكلت على الله وعليك، فالقائل: لا يقصد أن يجعل هذا الرجل كالله تبارك وتعالى. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بقوله: (أجعلتني لله نداً) بل علمه، فقال: (قل ما شاء الله ثم شئت)، فإذا كان العبد يمكن أن يشرك بحرف، ألا يمكن أن يشرك بكلمة؟! أو بجملة، فطالما أن كل شيء مبني على الكلمة، يجب الحرص على أن تكون الكلمة في موضعها. ولذلك فإن الغلام الذي حكى النبي عليه الصلاة والسلام قصته مع الراهب والساحر، لما جاءه جليس الملك وكان قد عمي، قال: رد علي بصري! اشفني! فكان الغلام يتكلم بتؤدة وكلام يعلم عاقبته وخطره، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك، فخلع نفسه، قال: أنا ليس لي إلا أن أدعو فقط، وأنت ليس عليك إلا أن تؤمن، إنما الشفاء منه تبارك وتعالى.

التأكيد على أن الأسباب لا تؤثر إلا بمشيئة الله

التأكيد على أن الأسباب لا تؤثر إلا بمشيئة الله إبراهيم الخليل عليه السلام، أول ما بدأ يدعو قومه دعاهم بكلام في غاية الدقة، وقد حكى القرآن الكريم أنه قال عليه السلام عن الأصنام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77]، كأنهم سألوه وما رب العالمين؟ قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81]. تلاحظ في الآيات الثلاث الأول ضمير الرفع المنفصل (هو)، ويقول النحاة: إن هذا الضمير يأتي لتأكيد الكلام، بدليل أنك لو حذفته لا يؤثر في السياق، إنما يأتي لتأكيد الكلام، الذي خلقني فيهديني كلام مستقيم، إنما جاء (هو) لتأكيد هذا المعنى. والهداية لفظة مشتركة، فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً، وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى، قال {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فأثبتها له، وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، إذاً: الهداية الأولى هي هداية الدلالة والبيان، والهداية التي نفاها الله عنه توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً. فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده، فأكدها بهذا الضمير: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]. من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يقول: إن الأكل والشرب وإن كانا سبباً في دفع الجوع والظمأ؛ لكن ليسا دافعين حقيقيين للجوع والظمأ ألم تجرب -ولو مرة- أنك أكلت بنهم شديد أضعاف ما يكفيك، وتحس أنك في حاجة إلى طعام، أما مر عليك يوم شربت فيه ماءً حتى كادت بطنك أن تنفجر من الماء، ومع ذلك تحس أنك لا زلت في حاجة إلى مزيد من الماء، فالماء يدفع الظمأ، لكن ليس دائماً، كذلك إذا مرضت ألست تأخذ الدواء مرة فتبرأ بإذن الله، وتأخذه أخرى فلا تبرأ، والعلة هي العلة، والدواء هو الدواء، وإن كان سبباً في دفع المرض، لكن ليس دائماً. فكأن إبراهيم عليه السلام قال: والذي إذا أطعمني أوجد فيَّ الري والشبع وهي الفائدة المقصودة من ذلك السبب، وقد ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كافراً، فقال: اسقني يا محمد! فسقاه لبن شاة، ثم قال: اسقني فسقاه لبن شاة أخرى اسقني حتى حلب له سبع شياه، فأسلم الرجل -لعله لما وجد من حسن الخلق- فجاء في اليوم التالي، وقال: اسقني يا رسول الله! فحلب له لبن شاة واحدة، فشرب وأفضل شيئاً، وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) كما قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه يوماً: (كلوا والبركة من الله). إذاً: إيجاد الري وإيجاد الشبع من الله تبارك وتعالى، وإن كان الأكل سبباً في دفع ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يدفع، فأراد إبراهيم الخليل أن يؤكد أنه: ليس بمجرد أن يأكل يشبع، إنما الذي يطعمه ويسقيه ويوجد فيه الرِّيَّ، ويوجد فيه الشبع -وهما المقصودان من الأكل- هو الله تبارك وتعالى لا غيره. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، من الجائز أن يقول العبد: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني أنقذني، أنت ترى ضعفاء الإيمان إذا كان أحدهم مريضاً بمرض خطير، وأُدخِل غرفة العمليات، يقف مرافقوه عند باب الغرفة ينتظرون الطبيب، فإذا ما خرج الطبيب، نظروا إلى شفتيه قالوا جميعاً: خير يا دكتور! -وكأنه هو الذي سيقول الكلمة الأخيرة- لو قال: أبشروا فإنهم يكادون يموتون من الفرح، ولو قال: ليس هناك أمل، يرتمي بعضهم على الأرض من وقع كلامه الباعث على اليأس، كأن الطبيب يملك من الأمر شيئاً، هؤلاء يعاملون الطبيب كما لو كان له الكلمة الأخيرة، وليس لأحد كلمة أخيرة، إنما الكلمة الفاصلة لله تبارك وتعالى، والعباد في قرارة أنفسهم يتصرفون خلال ذلك. كما أنه من الممكن أن يكون لعبد ما ولد، وقال له جميع الأطباء: وفر فلوسك، لا أمل، فهو ميت لا محالة، ومع ذلك يخرج الرجل بابنه من عند هذا الطبيب ليذهب إلى طبيب آخر، لماذا مع أنهم قالوا له: لا أمل؟ هو يقول في قرارة نفسه: من الجائز أن الله تبارك وتعالى يجعل شفاءه عند رجل آخر، وإذا لم يكن عنده فلس واحد فإنه يستدين، وهو موقن أنه ميت، وهو يعلم أنه لا أمل في شفاء ابنه، لكن لماذا يقترض؟! لماذا يثقل كاهله بالديون؟! لأنه يعلم في قرارة نفسه أنه ليس لعبد كلمة أخيرة، فإن الله تبارك وتعالى يصرف المقادير حيث شاء. وعلى سبيل المثال -كي نعلم أن الأمر كله لله- امرأة مغربية، مرضت بالسرطان ذهب بها أولادها إلى كل أطباء العالم، وكلهم يقول: بقي من عمرها شهر أو أقل، فقالوا لها: أَلا تعتمرين!! فذهبت المرأة تعتمر، ثم طاب لها المقام في الحرم، فكان ليس لها طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، فمضى شهر وشهران وثلاثة أشهر وأربعة وستة وعشرة، والمرأة بصحة جيدة، ثم ذهبت إلى إحدى مدن المملكة، وعمدت إلى أشهر أطباء المملكة وكلهم يقول لها: ليس عندك شيء، قالت: هؤلاء لا يفهمون، حتى أولادها قالوا: الطب عند العرب متأخر، سنذهب إلى البلاد التي وصلت إلى القمة، عندما ذهبوا إلى الأطباء في تلك البلاد إذا بهم يشدهون، أين ذهب المرض؟! عند من تعالجت؟! قالوا: أبداً، الوضع كذا وكذا وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال في ماء زمزم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم)، فهذا فضل الله، ولو أن الأولاد تركوها لحكموا عليها بالإعدام. إذن الإنسان يتحرك من داخله بعقيدة أنه ليس لأحد شيء، وإن كانت تصرفاته -أحياناً- غير ذلك، لكنه مجبول ثابت في فطرته أن الكلمة الأخيرة الفاصلة لله تبارك وتعالى في كل شيء، فمن الجائز أن يقول العبد: فلان الطبيب شفاني، فأكد إبراهيم عليه السلام إن الذي يشفي ويرفع المرض هو الله تبارك وتعالى لا غيره. هذه القضايا الثلاث التي ذكرها إبراهيم مشتركة بين العبد وبين ربه، العبد له جزء من المعنى والله تبارك وتعالى له جزء ٌ آخر، أما القضية الأخيرة فلا خلاف بين جميع العباد عليها فلم يؤكدها، وهي: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) لم يقل: فهو يحيين لماذا؟ لأنه لا خلاف بين العباد كلهم أن الذي يحيي ويميت هو الله تبارك وتعالى، وهذا نفي من إبراهيم عليه السلام للسبب، وللواسطة. لذلك كان التفات القلب إلى هذه الأسباب قدحاً في توحيد العبد، ويجب أن لا يلتفت القلب إلى السبب، وليكن يقيننا أن الذي يجعل التأثير في الأشياء هو الله تبارك وتعالى وحده، كما قال عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، رمى: الأولى بمعنى أصاب، ورمى الثانية بمعنى سدد الرمية، ورمى الثالثة بمعنى أصاب، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، ليس لأنك سددت الرمية، بدليل أن العبد قد يصاب برصاصة في عنقه فيموت، ورجل آخر يضرب برصاصة في نفس الموضع فلا يموت، فإن كان لابد أن يموت إذا جاءت الرصاصة في هذا الموضع لمات كل من أصيب بها، لكن إنما يصيب الله تبارك وتعالى، ليس لأنك أحدثت الأثر، لا. إنما الله تبارك وتعالى هو الذي أحدث الأثر. ومن العجائب، هذا القلب الذي يُعد ملك البدن، إذا اجتمع القلب وجدت في أعضائك قوة، وإذا تفرق همك وجدت في أعضائك الخور كله، لذلك همة العبد إنما تكون باجتماع قلبه، فإذا اجتمع قلبك اجتمعت جوارحك تبعاً للقلب، أليس هو ملك البدن، هذا القلب الذي قوام حياتك به، لو توقف لمت، فتصور أن قلبك الذي تتحرك به أنت لا تملكه، أليس هذا من أعظم دلائل العجز؟ ومما يدل على أن العبد لا يملك قلبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء) وكان أكثر دعائه يقول: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان قسمه الذي يكثر أن يقسم به يقول: (لا. ومقلب القلوب). ومثالاً على ذلك -من الواقع-: ألم تحب إنساناً يوماً ما حتى غُلبت على حبه، وكدت تهلك في حبه، فقيل لك: انْسَ، قلت: لا أستطيع، تمضي في أقصى مكان في الأرض، والذكرى لا تفارق قلبك، لو كان قلب العبد بيده، لما كفر طرفة عين، لكن ليس قلبه بيده، وهذا من أعظم دلائل عجزه وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى، أليس هو صندوق الإخلاص في البدن، ومحل السر فيه، وفيه ما لا يمكن للإنسان معرفته حتى مع تطور علم التشريح، على سبيل المثال العلقة التي استخرجها الملك من قلب النبي عليه الصلاة والسلام علقة محسوسة ترى وتمس باليد، هل يستطيع إنسان على وجه الأرض إذا شَرَّحَ القلب أن يحدد موضعها، سر عظيم من أسرار الله تبارك وتعالى في بدن العبد. فإذا التفت هذا الملك -ملك البدن- إلى الأسباب هلك العبد، إذاً هو إنما بقلبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ألا وهي القلب).

وجوب الأخذ بالأسباب وعاقبة إهمالها

وجوب الأخذ بالأسباب وعاقبة إهمالها الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع؛ لأن كل شيء في الكون لا يتم إلا بسبب من العبد، ولا يوجد شيء في الكون إلا له سبب. ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لـ مريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، تصوروا نخلة مثمرة وجاء أربعون رجلاً من أشداء الرجال فهزوا النخلة هل تنزل تمرة؟ تهتز النخلة ولا تسقط شيئاً، فكيف بامرأة نفساء، والمرأة إذا وضعت تكون أضعف ما يكون، إذ تكون قد فقدت كل قواها، لذلك عظم حقها على أبنائها كما في الأدب المفرد بسند قوي أن رجلاً حمل أمه وطاف بها حول البيت وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لن أذعر يقول: أنا بعير لها أحملها وأطوف بها، ولا أذعر كما تذعر البعران، ثم ذهب إلى ابن عمر، قال: يـ ابن عمر! أتراني وفيتها؟! قال له: لا. ولا بزفرة والزفرة التي هي الآه التي تطلقها المرأة أثناء الولادة، أو الصراخ الذي تصرخه حال الولادة، أي: مهما فعلت لها لن توفيها حقها ولا بزفرة من زفراتها. فما بالكم بامرأة نفساء تهز النخلة، هل يمكن مع ضعفها أن تهتز النخلة؟ لا يمكن ذلك، وإنما كان هذا الأمر إشارة لطيفة إلى ضرورة الأخذ بالسبب، وقد أحسن الشاعر جد الإحسان لما نظم هذا المعنى، فقال: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن كل رزق له سبب فهذه امرأة نفساء وهي أعذر ما تكون إذا تركت الأخذ بالأسباب، وذلك من أعظم الدلالة على أنه لابد أن يأخذ العبد بالسبب. وإن العبد إذا قصر في الأخذ بالسبب عوقب بحرمان الثمرة، مثلاً: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فالسبب الذي إذا أراد المسلمون أن تأتلف قلوبهم يجب أن يأخذوا به هو أن يسووا صفوفهم، فإذا لم يسووا الصفوف نفرت القلوب، فتسوية الصف سبب من أسباب اجتماع القلوب، فلما قصر المسلمون في ذلك، نفرت قلوبهم، يصادف أن يصلي رجل بجوار رجل آخر بينهما شحناء، تصور أنهما يخرجان من الصلاة أشد كدراً من دخولها، يقول لك: أنا أول ما رأيته قلبي انقبض، ما نفعتك صلاتك إذاً، وقفت في الصلاة وقلبك في الشارع، هل صفّت الصلاة الشحناء التي في قلبك؟ وآخر صلى وهو هادئ الأعصاب، وخرج منها يتضور، أي صلاة هذه؟ أي صلاة هذه؟! ذهب رجل إلى أحد المفتين وقال له: أرأيت إن صليت إلى جانب رجل عن يساري وأنا أبغضه، تُرى ماذا أفعل؟ قال: يكفيك تسليمة واحدة، حتى لا ينظر إلى هذا الذي يبغضه عن يساره. لم يأخذ العباد السبب فمنعوا الثمرة. إن هذه الصلاة شرعت خمس مرات في اليوم حتى لا يصاب أحد بضغناء ولا شحناء على أحد، تُرى هل ينعقد قلبك على كره إنسان إذا كنت في كل يوم خمس مرات تلتصق قدمك بقدمه وكتفك بكتفه، لكن نحن عجزنا عن استثمار هذه الصلوات، فلما قصرنا في الأخذ بالسبب منعنا الثمرة التي من أجلها شرعت صلاة الجماعة، وهو أن يجتمع المسلمون على قلب رجل واحد. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا

وجوب تسوية الصفوف ومخالفة كثير من المسلمين

وجوب تسوية الصفوف ومخالفة كثير من المسلمين إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من الأشياء التي ينبه عليها بمناسبة الكلام على السبب وأنه يجب على كل إنسان أن يفعل ما أُمر به: أولاً: هذا الخط الموجود على الأرض في المساجد لتسوية الصف -زعموا. -. هذا أولاً هو بدعة ثانياً: لماذا وضع هذا الخط على الأرض؟ وضع بعدما قصر الإمام في أداء مهمته، فتراه يقول للناس: استووا وظهره باتجاههم، أو يقول: استووا، قبل أن يقوم الناس إلى الصفوف، ولا يقفون في الصف إلا وقد بدأ يقرأ في الفاتحة، وهذا لا ينبغي، إنما المفروض أن يفعل الإمام ما هو مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويته للصفوف وحث الناس على ذلك، وهذه هي مهمة الإمام، وللأسف تجد عند كثير من المسلمين أن الإمام لا يطبق سنة تسويته للصفوف، وإذا لم يكن حاضراً يتدافع الناس كل يدفع غيره للإمامة، ويمتنع عن التقدم ولو كان عنده علم، وقد يتقدم جويهل لا يعرف السنة. وبالمقابل أناس يحرصون على الإمامة على جهل بالسنة، وهذا شيء عظيم خطير؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاندفاع إلى الإمامة، بسبب خطرها وجسامة منصبها، وإننا قصرنا جداً في فهم ما يناط بنا، لدرجة أنك لو دخلت مسجداً من مساجد المسلمين، وصادف أن الإمام غائب أو أن المسجد ليس له إمام راتب، تنظر العجب، كل واحد يعزم على الثاني يقول له: تفضل، والآخر يقول: لا -والله- أنت تفضل، وقد يتقدم من ليس له علاقة أبداً بالإمامة، وقد يكون أول مرة يصلي بالناس، مع أن المفروض في الإمام أن يكون فقيهاً، يعرف أحكام الصلاة، ويعرف ما ينبغي في الصلاة، لكن هذا يدخل وليس عنده فكرة عن الصلاة. وفي ذات مرة تعازموا أيضاً على نفس المنوال، وكان هناك واحد رآهم يتدافعون فحسم الموقف ودخل هو، وبعد وذلك التفت إليهم وجعل يفرك في يديه، ما هو الذي يقوله الأئمة قبل الصلاة؟!! يسأل نفسه. وهي يقصد قولهم: استووا واستقيموا، لكنه لا يعلم ذلك لأنه لا يحضر الجماعة وإنما دائماً غائب، فقعد يفرك يده ويفكر في نفسه: ماذا يقول الأئمة قبل الصلاة؟ فقال لهم أخيراً: (جاهزين يا رجالة؟ نعم يا معلم!) تصور عندما يكون هذا هو الإمام، مع أن الإمامة شأنها عظيم كما ورد في سنن الدارقطني، قال: (تخيروا أئمتكم فإنهم وفدكم إلى ربكم). أي: أن الإمام كأنه هو رئيس الوفد معك إلى الله، فلابد أن يكون قدوة في فقهه وعلمه وأخلاقه، كما أننا لو عيَّنّا شخصاً أنوك (أحمق) نجعله لنا رأساً، ماذا يقول الناس عنا؟ وكذلك أي دولة عندما تختار سفيراً، فإنها تختاره حسب أعلى المستويات لأن هذا السفير لو كان سيئاً في تصرفه سيؤدي بسمعة الدولة في الحضيض، فلازم أن يكون السفير ذا ذوق، متكلم، مجامل إلخ هذه الصفات التي يتطلبها عمله. وعليه فوفدنا إلى الله في الصلاة إذا كان رأسه لا يدري شيئاً، فهذا إزراء بكل المصلين؛ لأن الرأس إذا لم يكن مستقيماً أزرى بكل مرءوسيه. ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة، جاءت بعض القبائل تهنيه، فقبيلة من القبائل أرسلت وفداً يرأسه شاب، فدخل الشاب يهنئ عمر بن عبد العزيز بالخلافة، فكأنه استصغره، ووجد أنه ليس أسن القوم، قال: يا بني! أما وجدوا من هو أكبر منك؟!! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان هناك من هو أولى منك بالخلافة، قال له: أفلحت. فالرأس مهم، إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام شدد ولفت النظر إلى الصف الأول وأكد على فضله وأهميته فقال: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى)، فما بالك بالإمام، يجب أن يكون أولى بهذه الصفات السامية من الصف الأول؛ لأنه (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن استووا فأعلمهم بالسنة، فإن استووا فأقدمهم هجرة، فإن استووا فأكبرهم سناً) يعني: إذاً المفترض أنه لا يوجد في الصف الأول أحد يساوي الإمام، طالما والمسألة مفاضلة، وبعد ذلك يليه في الفضل الصف الأول، وهذا هو المفروض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، فإذا كان إمامهم يقول لهم: (جاهزين يا رجالة!) تصور للصف الأول كلهم (معلمين) إذاً، يعني: ليس فيهم أهل أن يقف في الصف الأول فضلاً عن أن يكون إماماً، الصف الأول يجب أن يكون فيه أولوا الأحلام والنهى لماذا؟ لأنهم أدرى الناس بما يلابس الإمام في الصلاة حتى لا يختل نظام الصلاة، ولك أن تتصور -مثلاً- أن الإمام وهو في الركعة الأولى اكتشف أنه ليس متوضئاً، ماذا يفعل؟ المفترض أنه ينسل ليستخلف ممن وراءه ويذهب يتوضأ ويرجع ويصلي مأموماً مع الإمام الجديد. والإمام الجديد الذي استخلفه يبني على ما مضى من الصلاة يبني على ما مضى في الركعات وليس في القراءة، أي ليس بالضرورة إذا كان الإمام يقرأ في سورة معينة أن الإمام المستخلف يأتي فيواصل القراءة من نفس السورة، إنما يبني على ما مضى أي في عدد الركعات، فإذا كان الصف الأول ليس فيه من هو أهل للإمامة، فتصور كيف يكون نظام الصلاة. ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين في فصل الحمقى والمغفلين من الأئمة، أن شخصاً اكتشف في الركعة الثانية أو الثالثة أنه ليس متوضئاً فشد شخصاً ممن وراءه وذهب ليتوضأ، ثم إن هذا الإمام المستخلف، وقف لا ينطق لا يتكلم لا يتحرك، فلما يئسوا منه شدوه وقدموا رجلاً آخر، فأتم الصلاة، وبعد الصلاة سئل الثاني: لماذا لم تفعل شيئاً؟ كيف وقفت ساكتاً؟ قال ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء. فالمفروض أن يحرص على الصف الأول أفضل الموجودين، ثم إن التخلف عن الصف الأول ليس من الورع، فقد يقول لك قائل: صليت في الصف الأول كأني أزكي نفسي، هذا ورع كاذب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتأخر عن الصف الأول، فقال كما في الصحيح: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله). لا يوجد ورع في هذه المسألة، الصف الأول لا يوجد فيه شيء اسمه ورع، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو علم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) لو دخل رجلان فوجدا فرجة في الصف الأول حضهما على أن يستهما عليه -أي: يعملان قرعة- من الذي يصلي في الفرجة التي بقيت في الصف الأول؟ إذاً: كيف يتخلف الإنسان عن الصف الأول؟! فالواجب أن يكون أفضل من في المسجد هم الذين يحرصون على الصف الأول. فلما كان أئمتنا هكذا، لا يعلمون شيئاً عن واجباتهم في الصلاة، فهذا هو الذي جعل الناس يضطرون إلى الخط الذي يوجد على الأرض والسبب هو أن الإمام غائب عن مهمته. والمفروض على الإمام أنه لا يقيم الصلاة حتى يطمئن إلى تسوية الصف، ونحن حاولنا أن نفعل هذا فضج المصلون، لنا شهران أو ثلاثة ننبه حول هذا الموضوع، ولا توجد أية فائدة لم يستطيعوا أن يستسيغوا الموضوع، وغاية ما يريد أحدهم أن يصلي ويخرج مسرعاً كأنه مسجون. في صلاة الجمعة المفروض على الإمام ألا يصلي حتى يذهب إلى آخر صف ويجدهم استووا تماماً، أو يرسل شخصاً يسوي الصفوف، ثم تبدأ الصلاة، حاولنا عبثاً مع جماهير المصلين، وكل مرة ننبه، ونقول: نحن وإن تأخرنا خمس دقائق لكي نسوي الصفوف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كذا وكذا، ومن أثر تسوية الصفوف أن تلتئم القلوب، وتحاول اقناعهم، (وأول ما تخلص الصلاة يقوم فلان من الناس ويصيح قائلاً: حبستمونا ممن أعمالنا. فمتى تلتئم القلوب، وهو مع ذلك يقف على باب الجامع ربع ساعة ونصف ساعة يتكلم فيما لا يفيد، أما بين يدي الله، فهو عجل، يتعجل الفراق، أنى يفتح لمثل هذا؟ ونكرر أن هذا الخط الذي على الأرض هذا، إنما كان بسبب عدم أخذ الإمام بما يجب عليه، التفات القلوب بعضها عن بعض إنما كان بسبب أننا لم نأخذ بما وجب علينا من السبب، لذلك منعنا الأثر، نحن نقول للمسلمين: الأخذ بالسبب ضروري، لكن يجب أن نعلم أن السبب ليس مؤثراً دائماً وإنما بمشيئة الله كما ذكرنا ذلك، بل أنت قد تفعل كل ما في وسعك ولا تصيب الثمرة، لماذا؟ لعدم إخلاص القلب، فلو علم الله تبارك وتعالى منا أننا صرنا عبيداً له أعطانا الثمرة، ولو بأقل مجهود، ليس دائماً، لابد أن تحسن عملك مثلاً 100% لتصيب الثمرة 100%، لا. فيمكن أن تكون ضعيفاً، وجهدك لا يصل إلا إلى 20% فقط، ويتمم لك الله الثمرة 100% لماذا؟ لما علم من حسن توجهك، ولا يلومك على العجز، لأنه فوق طاقتك وإمكانك. إنما أنبه على ذلك حتى لا يلتبس المعنى إذا قرأ واحد منا حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على رجل، فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا علي الرجل، فردوه، قال: ماذا قلت؟ قال: قلت حسبي الله ونعم الوكيل، قال له: إن الله يلوم على العجز، ولكن إذا غلبك شيء فقل حسبي الله ونعم الوكيل). إن الله يلوم على العجز، العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، فإذا أساء العبد التصرف بحمقه، فلا يلومن إلا نفسه، إنما إذا سلك الأسباب كما أمر فغلب على ذلك فليقل حسبي الله ونعم الوكيل. (إن الله يلوم على العجز) العجز هنا هو الحمق وسوء التصرف، بخلاف الكلام الذي أنا أذكره، الذي قلت: إن الله تبارك وتعالى إذا عجز العبد لا يلومه، أي: إذا عجز العجز الذي هو ضد الإمكان؛ لأنه إذا لم يستطع أن يفعل فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها.

العبودية لله تعالى سبب للتمكين

العبودية لله تعالى سبب للتمكين كثر كلام المتكلمين في أسباب ضعفنا، وأننا لم نأخذ بالقوة المادية المجردة عن القيم والمبادئ، أصخوا أسماعنا بأن الغرب سبقونا بأقمار التجسس وسبقونا بحرب النجوم وسبقونا بهذه الأشياء، ونحن لابد أن نكون على منوالهم، وصاروا يدندنون على ذلك ونسوا أهم خطوة في الموضوع. منذ عدة أشهر علا موج المحيط، ودخل هذا الموج العاتي على ولاية فلوريدا الأمريكية، فكانت الخسائر المبدئية ثلاثين مليار دولار، بعدها بأسبوع، علا موج المحيط، فدخل على مدينة هاواي الأمريكية، مدينة الدعارة، فكانت الخسائر المبدئية خمسة مليارات دولار، فكان المجموع خمسة وثلاثين ألف مليون دولار، في كم؟! في نصف ساعة! عدوك إذا أراد الله أن يهلكه كم من الوقت يأخذ؟! لكن بعد أن تكون عبداً لله، كلٌّ منا يسأل نفسه: هل أنا عبد لله فعلاً؟ هل استطعت أن أعبّد نفسي وأهلي لله فعلاً؟ أيها الصارخ! حنانيك، يا أيها الذي تريد أن تحكم العالم غداً! رويدك إن شيطاناً بداخلك، إنك عاجز أن تأمر امرأتك بالحجاب، إنك عاجز أن تأمر بناتك بالحجاب، أنت عاجز أن تأمر ولدك أن يصلي، تريد أن تحكم العالم غداً، وأنت عاجز أن تحكم أسرة، لا تستطيع أن تقيمها، وتريد أن تحكم العالم، إذا صرنا عبيداً لله، حكمنا العالم. المسلمون في مكة، ماذا قال الله لهم؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] بالله عليكم أنحن أقمنا الصلاة؟ خمس دقائق نقولها للمسلمين صبروا أنفسكم حتى نسوي الصف، يزمجر كثير منهم، أهذه هي إقامة الصلاة، لابد أن نكون عبيداً لله أولاً، فإذا ما صرنا عبيداً لله، مكّن لنا، كيف يُمكَّن لنا في الأرض ونحن لم نطبق الشرط المطلوب منا للتمكين، وهو: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، تصور لو مكن لبعض المسلمين الآن، أو بعض الدول الإسلامية، أو التي تزعم أنها إسلامية، أيكون حالهم أحسن من حال الكفرة الممكنين حالياً في الأرض؟! A لا. إن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحداً من عباده، أبداً، ولو حابى أحداً لحابى أنبياءه في ذويهم، كما قال تعالى لنوح في ابنه {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه، مع أنه خرج دامع العينين لما نهي أن يستغفر لأمه، كيف لا؟! والله تبارك وتعالى كان يقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أسفاً هنا مؤخرة في السياق: أي لعلك قاتل نفسك أسفاً على آثارهم لأنهم لا يؤمنون بهذا الحديث، من شدة شفقته صلى الله عليه وسلم على الناس يكاد يموت من الحزن عليهم لأنهم لا يؤمنون، فكيف بأمه التي ولدته، لو أن الله يحابي أحداً لحابى أنبياءه في ذويهم، لكنه لا يحابي أحداً، ألم يقل تبارك وتعالى: (إني حرمت الظلم على نفسي)، ولو ظلم -وحاشاه- لما سأله أحد، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، فنحن ما قمنا بما يجب علينا من الأخذ بالسبب في العبودية، فلم يقم لنا القلب، لذلك صرنا أذلة في كل مكان. كثير من الذين يحاضرون، يتكلمون عن أسباب ضعف المسلمين، والتنبيه عليه واجب، لكن ألفت النظر إلى شيءٍ خطير يقعون فيه غالباً، وهو أنهم يأخذون جل المحاضرة في عرض السيئات، وفي عرض أسباب الخلل، ثم يذكر العلاج في خمس دقائق، فينصرف الجماهير، وعندهم أسى وشعور قاتل بالهزيمة، لا يوجد لديهم العلاج، لأن المحاضر تكلم ساعات في أسباب ضعفنا، وبعد ذلك رأى أنه بقي من الوقت خمس دقائق، وبدأ يذكر العلاج بإيجاز: تقوى الله وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله حسناً: الجماهير ليس عندهم تصور لتقوى الله، وإنما الذي لديهم فقط تصور لأسباب الخلل، تماماً مثل المسلسلات العربية، تتكون من أربعة عشر حلقة ونصف يعرض فيها كيف أن اللص يكسر الأقفال ويسرق البنوك، وبعد ذلك قبل ما الخمسة عشر حلقة تنتهي بربع ساعة ينتهي المسلسل بأن اللص قبض عليه، وبعد ذلك يقول لك حقاً: إن الباطل زاهق وبعد ذلك ينتهي المسلسل. فالنتيجة أن كل الجماهير التي تفرجت عرفت بعد هذا المسلسل كيف تفك الأقفال، لكن مسألة أنها تتوب وتعرف أن الحق غلاب وتتشبع بالرادع عن الجريمة، ما صار عندها أي تصور لذلك لأنه طرح في خمس دقائق فقط. تصور مثلاً جيلاً مهزوماً كجيلنا الآن وجيل آبائنا الذي تجرع جميع الهزائم، فعندما يقال: لدى أعدائنا ألفي إذاعة وأربعمائة مجلة وخمسمائة جريدة، وأربعين قمراً صناعياً تُصوِّر حتى (الفانلة) التي أرتديها. أنا رجل ليس عندي شيء إطلاقاً، فما المتوقع مني بعدما أسمع هذا؟ المتوقع مني هو أن أصاب باليأس، إذ أن هناك أربعين قمراً صناعياً فوق منطقة الشرق الأوسط يراقبون حتى ما ألبسه فماذا أفعل؟ أبدل أن أعمل سقف البيت بسمك عشرة سنتمترات أعمل سقف البيت بسمك متر؟ لأنني وأنا أمشي أحس أنني مكشوف، لو خطر ببالي يوماً ما أن أنتفض وأثأر لكرامتي سأعلم أنني مكشوف، فأقول في نفسي، وماذا أفعل وأنا مكشوف، فأستسلم للأمر الواقع، وأصاب بالإحباط. نحن نقول للذين يلقون محاضرات في مساوئ المسلمين الآن وأسباب الخلل: (إذا عرضت أسباب الخلل جملة وفصلت العلاج أصبت) فعندما تُعلم الناس كيف يكونون عبيداً لله هنا نقول: أصبت، لأنك عند أن تعرض أسباب الخلل وليس في يديك العلاج لا يكون لذلك العرض قيمة، لأن غاية قولك تعريف المستمع أنه ضعيف وإقناعه بذلك، وأنت تنازع أنك ضعيف، أنا وأنت نعرف أننا ضعفاء، لكن يا أخي! كيف سبيل العلاج، لا أريد أن أسمع أسباب الخلل، نحن نعرفها، أعظم أسباب الخلل أننا لسنا عبيداً لله.

خطوة في طريق التمكين

خطوة في طريق التمكين من أعظم أسباب النصر: أن نرجع عبيداً لله تبارك وتعالى، فلما تركنا هذا السبب، حرمنا ثمرة التمكين، مثالاً على ذلك بعض الجماعات في أنحاء العالم مر عليها خمسون سنة، وأخرى ستون سنة وأخرى مائة سنة تسعى حثيثاً أن تقيم دولة في أي مكان في الأرض، أو أن يكون لها كيان في أي مكان في الأرض، ومع ذلك عجزوا جميعاً. النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه صنعوا دولة بإذن الله في عشر سنوات، هي مدة مكث النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، لماذا استطاعوا فعل ذلك بهذه السرعة؟ لأنهم فعلوا ما يجب عليهم من تعبيد أنفسهم لله تبارك وتعالى، فلما نظر الله تبارك وتعالى إليهم ووجدهم أهلاً لذلك مكن لهم. فنحن إذا أردنا التمكين فلا نهتم بشيء إلا أن نكون عبيداً لله، افعل ما يمكنك فعله، أنت بإمكانك أن تعبِّد امرأتك تعبِّد أولادك تعبِّد نفسك لله، هذا بإمكانك، لكن ليس بإمكانك أن تخضعني لأنني قد أغلبك، لأنني صعب المرام، لكن امرأتك لك عليها ولاية أولادك لك عليهم ولاية، كيف تركتهم هملاً، ثم تريد أن تقيم الدين علي أنا، لو أن كل إنسان انشغل بتعبيد أولاده وأهله لله تعالى؛ ففي بضع سنوات يمكِّن الله تبارك وتعالى للمسلمين، مثلما مكن لأسلافهم. نسأل الله تبارك أن يعبدنا وأولادنا وذوينا له، تبارك وتعالى إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تمكين الله للصحابة لتحقيقهم العبودية لله تعالى

تمكين الله للصحابة لتحقيقهم العبودية لله تعالى الصحابة الأوائل يجسدون الصورة الحقيقية للإسلام قلباً وقالباً، هذا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر إلى قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته، ثم نظر في قلوب العالمين فاختار أصحابه له) فهؤلاء الأصحاب كانوا من اختيار الله له صلوات ربي وسلامه عليه، فأصلحهم الله تبارك وتعالى لصدق عزمهم ومسابقتهم إلى فعل الخيرات. ولو أننا فعلنا ما أمرنا به، لصدقت فينا بشارة ربنا وكنا لها أهلاً، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] لا شك أنه بيننا من يلبس خاتم الذهب أو دبلة الذهب، فإذا قلت لهذا اللابس: أيها الأخ المسلم! إذا سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: هذا حرام عليك أن تلبسه، ماذا أنت صانع الآن، هل تمد يدك فتنزعه -في خفة- وتضعه في جيبك، وتقسم أنك لا تلبسه بعد ذلك، كم من المسلمين الآن يمد يده ينزعه، بينما ترى بعض المسلمين لا يفعل، فإذا سئل: لماذا؟ يقول: زوجتي تغضب!! مهلاً أيهما أشد وقعاً في قلبك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام أم غضب الزوجة، ماذا تفعل؟ أنا لا أتصور إلا أن يجيب بـ () لكن، وبعد لكن يهدم ما قاله قبل ذلك. وتصور لو أن النبي عليه الصلاة والسلام موجود الآن، ورآك أيها المسلم تلبس الذهب، فقال: اخلع عنك هذا، ماذا تفعل، أنا أعلم أنك ستبادر -أيها المسلم- وتقول: أخلعه فوراً، فأقول: ما الفرق بين وجوده عليه الصلاة والسلام أمامك يأمرك وبين أن يصلك كلامه؟! ما هو الفرق؟! لا فرق. وهذه صورة مماثلة وأسوة مشرقة ساطعة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وعليه حلة حمراء، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام أعرض بوجهه عنه -الصحابة طبعاً يعلمون جيداً- إن الإعراض بالوجه لم يكن من خصاله عليه الصلاة والسلام، كان إذا رأى العبد هش وبش، حتى قال القائل: (من خالطه أحبه، ومن لم يخالطه هابه)، كنت إذا سلمت عليه تحس أنك صديقه الوحيد، تحس بألفة وتحس أنه احتواك قلبه لأنه يقبل عليك بتمام وجهه عليه الصلاة والسلام. فالصحابة لم يتعودوا أنه يعرض عن أحد منهم، فلم يسأله لماذا أعرضت عني؟ إنما نظر إلى نفسه وأدرك أن عيني النبي عليه الصلاة والسلام ثبتت قليلاً على قميصه الأحمر، فرجع إلى البيت، فوجد أهله يسجرون التنور-الفرن- وعلى الفور خلع قميصه الأحمر ورماها في الفرن، ثم لبس حلة أخرى ورجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأقبل عليه بوجهه وقال له: ماذا فعلت؟ -أي بثوبك- قال: سجرته التنور، قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل له: كيف تلبس الأحمر؟ لا. مجرد ما يحس الصحابي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب هذا، كان على الفور ينفيه، ولذلك سادوا. صورة أخرى: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة عليه -لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل على أبي أيوب - كان الرسول عليه الصلاة والسلام نزل في دار أبي أيوب في الدور الأرضي وأبو أيوب جهد أن يقول له: اطلع يعني اصعد في الأعلى، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) لكن أبا أيوب الأنصاري بينما هو يمشي بالليل إذ فزع، وقال لنفسه: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله)، ورأى أن هذا من سوء الأدب أنه يمشي على سقف الرسول تحته عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح أقسم عليه أن يصعد، وقال: (والله لا أعلو سقيفة أنت تحتها). وكان أبو أيوب الأنصاري، يرسل إليه الطعام، ولا يأكل هو وامرأته إلا بعدما ينزل الطعام، فيتحرون مواضع أصابعه وفمه فيأكلون منها، فأرسلوا إليه ذات يوم طعاماً به ثوم، فلم يأكل منه ورجع الطعام كما هو، قال أبو أيوب: (ففزعت وصعدت إليه، وقلت: يا رسول الله! لِمَ لم تأكل؟! أحرام هو؟ قال له: لا. ولكني أناجي من لا تناجي -أي جبريل عليه السلام- وإن الملائكة لتتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فقال أبو أيوب: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) أي: كيف أحب شيئاً أنت تكرهه برغم أن البصل حلال، وهكذا الصحابة كانوا على هذا المنوال. وهذا سعد بن معاذ (لما استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه في شأن غزوة فقام المهاجرون فتكلموا وأحسنوا، والرسول ساكت عليه الصلاة والسلام، ففطن إليها سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا، وكان صلوات ربي وسلامه عليه يريد أن يعرف رأي الأنصار أصحاب الدار والإيمان، قال: يا رسول الله! صل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت ودع ما شئت، ووالله! ما أخذت أحب إلينا مما تركت). أرأيتم الرجال؟ فقوم بهذه الصورة كيف يهزمون؟! كيف يتخلف عنهم نصر الله وهم هكذا؟!! في غزوة بدر التي خرج المسلمون إليها ضعافاً على غير أهبة قتال، قال الله تبارك وتعالى لهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، والملائكة -فقط- لو دخلت في حرب لدعم جيش ما فهو منتصر يقيناً، لا شك في ذلك ولا ريب، لاسيما إذا كان فيهم جبريل عليه السلام، الذي ورد في بعض الآثار أنه قلب قرى قوم لوط بطرف جناحه، ولما دعا النبي ربه تبارك وتعالى في بدر كان يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إنه إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ما إن دعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى علت ثغره ابتسامة -وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، كما يقول كعب بن مالك - وقال: يا أبا بكر! أبشر هذا جبريل نزل معتجراً بعمامته راكباً فرسه، وأول ما رأى جبريل على ثناياه النقع -أي: الغبار- قال له: أبشر) يعني أبشر بالنصر، فالملائكة إذا تحيزت إلى جيش انتصر، والسبب أنه يوجد مقتضى نزول النصر وهو ما تقدم من تحقيق العبودية قدر الإمكان. إذا صرنا مثل الصحابة نلنا ما نال الصحابة من النصر ومن العون. إن الغربة علينا في هذه الأيام أشد من غربة الصحابة الأوائل في مكة، إي والله أتدرون لماذا؟ لأن الصحابة يوم كان يقسوا عليهم كفار قريش، كانوا يعتصمون بإيمانهم، كانوا إذا آذوهم اعتصموا بالإيمان بالله فخف عليهم البلاء، أما نحن الآن ينزل علينا البلاء وليس عندنا من الإيمان ما نلجأ إليه عند نزول البلاء، فلذا غربتنا مضاعفة. ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ هذا من أجود ما قال المتنبي، ذكر بعض العلماء القدامى بسنده أنه قال: قلت للمتنبي: هل ادعيت النبوة؟ قال: ذاك شيءٌ كان في الحداثة، قال له: وما آية نبوتك؟ أي: هل معك آية تبين أنك نبي؟ فقال: نعم ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بُدُّ فكأن المتنبي يقول هذا أجود ما قلته، لدرجة أنه يعرضه كما لو كان وحياً. وفي الواقع يضطر الإنسان في زمان الغربة مع عدم وجود الإيمان الذي يعتصم به أن يداهن الذي يكره، يداهن عدوه، لأنه ليس عنده من القوة ما يستطيع أن يكون له الغلبة.

صفات أهل الجنة وأهل النار

صفات أهل الجنة وأهل النار إن الله سبحانه وتعالى ابتلى المؤمنين بمجاهدة الكافرين، وبين لهم أن الحرب سجال، ولكنه عز وجل وعد عباده أن الغلبة والنصرة لهم في الدنيا والآخرة. وقد بين الله عز وجل الصفات التي يتصف بها العباد ليكونوا من أصحاب الجنة، التي يتصف بها من يئول مصيره إلى النار.

شرح حديث (خلقت عبادي حنفاء)

شرح حديث (خلقت عبادي حنفاء) إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الإمام مسلم والنسائي وأحمد من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فكان مما قال في خطبته: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، قلت: رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، والذي لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب والفحاش والشنظير الفحاش). قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). إذاً: المسألة سجال، يبتلي به ويبتليه، ولكن الله عز وجل وعدنا؛ فقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] أي: في الدنيا والآخرة، فلابد أن يظهر هذا الحق مهما طال الزمان، فما هو السلاح الماضي الذي ميز الله عز وجل به نبيه وطائفته بحيث يغلبوا في النهاية في هذه الحرب.

وجوب مجاهدة الكفار والمشركين

وجوب مجاهدة الكفار والمشركين في هذا الحديث يقول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً. قلت: رب! إذاً: يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزة) أي: يفتحون دماغي، كما يفتح الرجل رغيف الخبز إذا أراد أن يأكل، أي: لا طاقة لي بهم، والعدة والعتاد الذي معي لا يقاوم قريشاً بجبروتها وإمكانياتها. حينئذ قال له: (استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغْزك -أي: نعينك على غزوهم- وأنفق فسننفق عليك) المسألة ليست مسألة خزائن ولا مال، فالذي ينفق عليه هو الملك سبحانه الذي له ميراث السموات والأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى سحاء ينفق كيف يشاء، انظر إليه كم أنفق منذ خلق السموات والأرض على عباده)، فإذا كان هذا الغني الذي لا منتهى لغناه، هو الذي يمده، إذاً: سيفلس عدوه وهو يقاتل؛ ولذلك قال: (وأنفق فسننفق عليك)، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، حسناً يا رب! هم الذين يعمرون الأسواق، وهم الذين يحضرون البضاعة، ونحن بالتالي نشتغل ونكسب، معنى (المشرك لا يقرب المسجد الحرام) فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] فهذا وعد من الله. ثم قال: (وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله)، أي: من الملائكة، وكما ورد في الأخبار أن الله عز وجل لما أمر جبريل عليه السلام أن يقلب قرى قوم لوط: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]، المؤتفكة: هي المنقلبة، قالوا: إنه قلبها بريشة من جناحه، فكيف إذا دخل جبريل المعركة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، أي: الملائكة ورب الملائكة، قال: (وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك).

أصناف أهل الجنة

أصناف أهل الجنة وقوله:: (وأهل الجنة ثلاثة)، هنا لا بد من وقفة أصولية مهمة، ونحن في أمس الحاجة لفهمها؛ لأن الجهلة الذين يعتدون على السنة يتكئون عليها، وما من مبطل يحتج بدليل صحيح إلا وكان في الدليل إهدار لاستدلاله لو كان يدري. قال: (ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)، فهل هؤلاء هم الذين يدخلون الجنة فقط أو سيدخلها الألوف والملايين بألوف وملايين الأعمال؟ فما معنى حصر الكلام على هؤلاء؟ نقول: هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وعدهم، فهل هؤلاء هم الذين ينعمون بالظل فقط؟ لا. فقد ثبت في أحاديث أخرى أن آخرين ينعمون بظل الله تبارك وتعالى. فما معنى قوله: (سبعة) وعدهم، والأرقام قطعية الدلالة لا تحتمل تأويلاً، ولا يختلف العاد منها. والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن منجماً، ولو شاء الله لأنزل القرآن جملة واحدة، وإنما أنزل الله تبارك وتعالى الآيات مفرقة على رسوله صلى الله عليه وسلم رعاية للحوادث؛ ويكون للكلام مقتضى، فمثلاً ينزل قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فيسمع الآية أبو الدحداح رضي الله عنه، فيقول: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض، فيقول: نعم) ولأنه رضي الله عنه معظم لربه عرف معنى القرض بمعناه الصحيح، وليس أن ربنا فقير ويريد أن يقرضه أي أحد مثلما قالت اليهود عندما سمعوا هذه الآية، قالوا: إن رب محمدٍ افتقر. وما ذاك إلا لأنهم كفار بالله لا يعظمونه، ومن يعبد العجل من دون الله خليق به أن ينسب كل نقيصة إلى ربه، لكن أبا الدحداح مسلم ومعظم لله، ففهمه على معناه الصحيح. (قال: الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم. قال: يا رسول الله! إن لي حائطاً فيه ستمائة نخلة، فما لي عند ربي إن أقرضته حائطي. قال: لك الجنة. قال: أشهدك أني أقرضته حائطي) فهذه آية نزلت بمفردها، وربما لو نزلت مع جملة السورة ما انتبه لها أبو الدحداح. وكذلك ما حصل عند موت النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما شرع يلوح بسيفه ويقول: (من قال: إن رسول الله مات لأعلونه بسيفي هذا. حتى جاء أبو بكر، فقال: على رسلك أيها الحارس، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، فسقط السيف من يده، وقال: والله لكأني ما سمعتها إلا الآن). فهذه آية كان يقرؤها عمر لكنه لم يكن لها مقتضى عنده، لذلك مر عليها ولم يستطع أن يستحضرها لهول المصاب وجسامة الخطب، ذهبت عن باله. وفائدة نزول القرآن منجماً: أنه يكون له مقتضى، وينفعل المسلمون له كما انفعل أبو الدحداح حين خرج وترك المجلس وذهب إلى امرأته، ووقف على باب البستان ولم يدخل، ونادى امرأته، وقال: يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي. فقالت المرأة: ربحت البيح يا أبا الدحداح. فخرجت المرأة بعيالها، ولم تراجعه ولم تقل له: يا رجل! لو كنت تركت نصف المال وأقرضت ربنا نصفه، كما يفعل كثير من الناس، إذا طولب أن يبذل شيئاً نظر إلى رأس ماله، ثم يقول: أعطيه الربع، أعطيه الثلث. إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بلالاً يقول كلمة فأعجبته ورددها خلف بلال، سمع بلالاً يقول: (أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) فأعجبته الكلمة! والقرآن نزل منجماً؛ حتى يكون له مقتضى، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن يستوفي كلامه كله على المسألة الواحدة في المجلس الواحد، وإنما كان يتكلم على مقتضى المجلس، فليس من شرط المتكلم إذا أراد أن يتكلم في مسألة أن يذكر كل ما يتعلق بالمسألة؛ فإن هذا أمر يطول، والإنسان ليس عنده من الوقت ما يكفيه لذلك، لكن حسبه أن ينبه على ما يقتضيه المقام. أي: كلمة مجملة، وهذه الكلمة قد فصلها في مجلس آخر، فليس بالضرورة كلما قال كلاماً مجملاً أن يفصل فيه مرة أخرى، ولكن على المستدل إذا أراد أن يجمع المتفرق من الكلام حتى يستقيم له المعنى. إذاً: مهمة الجمع -الأقوال كلها- إنما تكون على عاتق من يريد الاستدلال، وليست على عاتق المتكلم، إذ يصعب عادةً أن يتكلم المرء على المسألة في كل مرة بكل الكلام الذي يحيط بها. فهكذا كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينزل الكلام على المقتضى، وإلا لو أخذنا كل حديث لوحده سنضيع الدين، واسمع هذه الجملة من الأحاديث، وخذ كل حديث وحده. قال صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله قدميه على النار)، خذ هذا الحديث لمفرده، وخذ مثالاً: رجل لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم، ولا يعمل شيئاً، ولما جاء الغزو ذهب وعفر رجليه، هذا الرجل هل سيحرم الله قدميه على النار وهو لا يصلي ولا يزكي ولا يعمل شيئاً، لكن حقق الذي ورد في الحديث. قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فُواق ناقة وجبت له الجنة) (فواق ناقة): أي: بمقدار حلب الناقة، يعني: قاتل في سبيل الله ربع ساعة تقريباً فوجبت له الجنة. حسناً هناك آخر قاتل في غزوة كاملة، وقتل ثمانية؛ ودخل النار، كما في الحديث الصحيح: (أن رجلاً رأوه في القتلى في آخر رمق، وكانوا قد تركوه كافراً، فلما رأوه بين القتلى، قالوا: يا فلان! مالك؟ ما الذي جاء بك؟ أأسلمت؟ فقال: لا. إنما جئت حدباً على قومي). عصبية، أتى ليحارب مع أولاد عمه، وهناك مثل جاهلي (أنا وابن عمي على الغريب) أي: عصبية. وقد يقول قائل: هذا كافر والجنة محرمة على الكفار، فنقول: وهذا آخر مسلم، وكان شجاعاً وقاتل وقتل، فذكروه عند النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شجاع، وأنه قاتل قتال الأبطال، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو في النار. فقالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بعباءة غلها)، انظر الخذلان! عباءة سرقها من المغانم قبل أن توزع فدخل النار بها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد يقول قائل: إذاً: أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تناقض بعضها بعضاً؟ فمن قاتل فواق ناقة وجبت له الجنة، وهذا رجل قاتل عشر ساعات تقريباً ودخل النار لأجل عباءة غلها. فكان لابد من الجمع بين الأحاديث، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمين صبراً، أدخله الله النار وحرم عليه الجنة قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن قضيباً من أراك) أي: سواك. وما قيمة السواك؟! ولو أن شخصاً أخذه من شخص آخر، وقال: هذا السواك لي، كان جزاء الرجل ما ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله الله النار وحرم عليه الجنة). والخوارج يستدلون بهذا الحديث وما شابهه على تكفير المسلمين بالكبائر؛ لأنهم أخذوا هذا الحديث وحده. والمتأمل في الحديث يجد أن هذا ذنب، وهو كبيرة من الكبائر، وقد وعد الله عز وجل عباده؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وكل وعيد في القرآن لا يتحقق إلا إذا أصر عليه صاحبه، ولم يتب منه، لأن التوبة تسقط الوعيد. فإذاً: لا بد من جمع الأحاديث ومن ثم نحكم على المعنى كله، لا أن نأخذ حديثاً واحداً ونحكم به، فهذا عمل منكر عند جمهور العلماء، ويئول بصاحبه إلى الكفر، لأنه سيتهم رب العالمين بالتناقض والظلم تعالى الله عن ذلك. وكذلك القرآن فيه آيات ظاهرها التعارض، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، يعني: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، هذا معنى الآية: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فليس عليك شيء من وزر أبويك، ولا من وزر أحد، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] يعني: أثقالاً أخرى. أي: أنه سيحمل ما ارتكبه هو وما ارتكبه غيره فكيف نوفق بين الآيتين؟ نقول: كلام أهل العلم في هذا أوضح من أن يخفى على الجهلة، وهو أن المعني بهؤلاء الذين يحملون أثقالهم وأثقال غيرهم الذين أضلوا الناس. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه من التحريف والتبديل

حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه من التحريف والتبديل قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً). ومن المعلوم أن النجاسات إنما تزال بالماء خصوصاً المائعات، شرعاً وطبعاً، فإذا أصاب ثوب أحدنا نجاسة، وأراد أن يطهر النجاسة بالزيت أو بالسمن مثلاً، وهما من جملة المائعات، فإن النجاسة لا ترتفع عن هذا الثوب شرعاً وطبعاً، ولو أراد أن يغسله باللبن لم ترتفع النجاسة شرعاً وطبعاً، وإنما يرفع النجاسة الماء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح يقول: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وكلها ترجع إلى الماء، فلما كان أعظم نجاسة يبتلى بها الإنسان، ويتلطخ بها الروح هي الذنوب، سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغسل الذنب بالماء، مع أن الذنب عادةً لا يزال بالماء، وإنما ضرب لنا المثل تشبيهاً لتقريب الفكرة. والنجاسات المحسوسة تزول بالماء، وأعظم النجاسات الذنب، فلما كان مستقراً في أذهاننا أن الماء هو الذي يزيل النجاسة سأل الله تبارك وتعالى أن يزيل الذنب بالماء، فلما قال له تبارك وتعالى في هذا الحديث: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء) أي: لا يُمحى أبداً، ولا يستطيع أحدٌ أن يزيله ولا يزيل تأثيره. إن أعداءنا في محافلهم العامة، وفي مناقشاتهم الخاصة يجمعون أن زوال القرآن من أعظم أسباب انتصارهم وتمزيق هذه الأمة. ونحن نقول لهم: إن الله عز وجل وعدنا في القرآن وكما في السنة أنه سبحانه الحافظ لكتابه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، استحفظ الله اليهود التوراة فخانوا وبدلوا، واستحفظ النصارى الإنجيل فخانوا وبدلوا، فلم يستحفظ المسلمين القرآن؟ لأنه كتاب مهيمن وخاتم وفرقان، والكل يرجع إليه، فلا بد أن يكون محفوظاً لا يتطرق إليه شك، وهذا وعد الله. ولو أن رجلاً زاد في القرآن كلمة أو حرفاً لرد عليه آلاف من المسلمين في الأرض، ولا نعلم كلاماً قط في الأرض يحفظ كله ولا يغادر منه حرف إلا القرآن، وترى الطفل الصغير الذي لا يحسن المعاني، ولا يعرف حقيقة الكلام يحفظ كلام الله ولا ينساه. وكثير من الناس الذين حفظوا (المعوذتين) في مطلع صباهم لا يعلمون تفسير كثير من ألفاظها، فلو قلت لأحدهم ما معنى: الفلق في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]؟ ربما تندهش لأن هناك رجالاً وصلوا إلى درجة الدكتوراه، وأناساً يدرسون، وأناساً لهم مناصب قيادية، ويحفظون السورة منذ ابتداء الكلام، ولا يعرفون معنى: الفلق!! فضلاً عن أن يعرف معنى (الغاسق إذا وقب) ونحن نعرف بداهة أن الكلام الذي لا ينطوي على معنى يزول، ولا يحفظه الذهن، فكيف حفظ الطفل هذا الكلام وهو لا يعرف له معنى؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] يحفظه الكبير والصغير، فهذا وعد من الله أن القرآن محفوظ. وقوله في الحديث: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، إنما مثل القرآن بالماء لجملة المؤآمرات التي تحاك بهذا الكتاب لتمحوه كما يمحو الماء النجاسة، وشبكة الإنترنت كل يوم يظهر عليها قرآن مفترى، وقديماً افترى مسيلمة الكذاب قرآناً، وضحك العقلاء منه؛ لوشاشته وسماجته؛ ولأنه ليس له من المعنى والجلالة ما لكتاب الله عز وجل. فيؤلف الحاقدون كل يوم قرآناً جديداً، فسورة (الكافرون) سيضعون بدلها سورة (المسلمون)، ويطعنون على المسلمين وعلى دين المسلمين، ويأتي أطفالنا الذين لا يميزون بين الشمال واليمين ويقولون: هذا كذب، فكتاب الله (لا يغسله الماء) ولا يستطيع أحدٌ قط أن يبدل فيه شيئاً، ولو حرفاً واحداً، وهذا هو أقوى عدة المقاتل: القرآن، لأن فيه الوعد الحق أن الله ناصره.

فضل العلم وشرفه [1]

فضل العلم وشرفه [1] إن العلم هو أساس كل شيء، ولذلك فضل الله العلم وأهله، وامتن به على أنبيائه، ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزداد من شيء إلا من العلم، ولشرفه فإنه القاضي على كل شيء في الدنيا، وهو سلطان القلوب، ولذلك لم يدخل أهل النار النار إلا بسبب الجهل، إذاً فالعلم هو الذي يحملك على خشية الله، ومن زاد علمه زادت خشيته لله، ومن خشي الله لم يعصه.

فوائد قصص القرآن الكريم

فوائد قصص القرآن الكريم إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن أفضل سورةٍ في قصص القرآن هي سورة يوسف عليه السلام، فقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، واختتمها بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]. ولما قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الكهف قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] ولما قص علينا قصة موسى وفرعون قال: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [القصص:3]، وهذا معنى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]؛ لأنه حق. ويستدل بهذه الآية على تحريم التمثيليات، وإن كانت تهدف إلى الخير؛ لأنها كذب، وقد قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] لماذا كان أحسن القصص؟ لأنه حق: ((مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى))، يؤلفه المؤلف، ((وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: من القرآن، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [يوسف:111] إذاً: لا يقصص القصص لإملاء الفراغ ولا لتسلية الناس، ولكن القصص فيها ثلاث فوائد: أنها عبرة، وأنها هدى، وأنها رحمة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، ثم قال: {وَهُدًى وَرَحْمَةً} [يوسف:111] فهذه فوائد القصص. وهذا هو الدرس الأول من قصة سليمان عليه السلام، كما قصها الله تبارك وتعالى علينا في سورة النمل، وقد انفردت بتفصيل قصة سليمان عليه السلام أكثر من أي سورة في القرآن. وقد ورد في سورة (ص) بعض قصة سليمان عليه السلام، وفي سورة الأنبياء إشارةٌ أيضاً إلى قضاء قضاه سليمان عليه السلام في قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].

فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله افتتح الله عز وجل قصة داود وسليمان في سورة النمل بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:15 - 17]، فذكر الله عز وجل في افتتاح القصة أنه فضل سليمان عليه وسلم بشيئين: الشيء الأول: العلم. الشيء الثاني: الملك. لكنه قدم العلم على الملك؛ لأن العلم هو رأس كل خير، فلا بد أن ينضاف إلى الملك العلم، وإلا صار شهوةً وأداةً للظالمين والظلم والطغيان، فافتتح الله عز وجل منته على داود وسليمان بالعلم. فيكفي بشرف العلم: أن الله عز وجل أباح لك أن تأكل صيد الكلب المعلم، ونهاك أن تأكل صيد الكلب الجاهل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة:4]، فأنت لو كنت صياداً تصطاد الطيور، ومعك كلبٌ معلم، علمته أن يعرف الطير الذي اصطدته أنت بعلامة الرصاصة التي تكون في الصيد، فيذهب الكلب فيأتيك بهذا الصيد. ففي حديث عدي بن حاتم في الصحيحين قال: (يا رسول الله! لو أني أرسلت كلبي المعلم -أي: الذي علمته أنا- فأتى بالصيد آكل؟ قال: كل. قال: وإن قتلها؟ قال: وإن قتلها) أي: إن نزل الصيد وفيه رمق، ولم يمت من الرصاص، فأمسكه الكلب وقتله، فالذي قتلها إذاً هو الكلب وليست الرصاصة، فهو يسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن قتلها؟ -في حالة أن كلب الصيد قتلها- آكلها؟ قال: وإن قتلها). ولكنه عليه الصلاة والسلام اشترط شرطاً: وهو ألا يكون معه كلب غير معلم، فأباح لك أن تأكل ما أمسك عليك الكلب المعلم، ونهاك أن تأكل ما أمسك عليك غيره، فصار الكلب المعلم مفضلاً بالعلم.

أصل العلم خشية الله

أصل العلم خشية الله الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن من أفضل ما يميز به أهل العلم قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وهذه الآية من أفضل الآيات في تزكية أهل العلم، كفى بالاغترار بمعصية الله جهداً، وكفى بالوقوف عند حدوده علماً، إنما العلم الخشية، وليس العلم بكثرة المسائل، كما يقول مالك: أن يكون عندك العلم الكثير حتى تفتي وتتكلم في كل مسألة لا، ليس هذا هو العلم (إنما العلم الخشية). فإذا ورثك العلم الخشية فاعلم أن علمك ينفعك، وإلا فلا تزداد به إلا سفالاً؛ لأن الله يقيم الحجة به عليك: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما خشيت ربك كان أفضل لك، فإن الخوف من الله ممدوح، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، ما هو مقام الله؟ كقول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]. إذاً: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن:46] أي: ولمن خاف قيام الله عليه، ونظره إليه، ومراقبته له. فمقام الله: قيامه على العبد، وأن العبد لا يغيب عنه طرفة عين، فيا له من عبد! كيف هان نظر الله عليه، وتوارى عن عباد الله وهو يفعل المعصية، وهم لا يملكون له موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا يملكون له نفعاً ولا ضراً؟! كيف هان عليه نظر الله؟! إذاً: من أجل ما يورثه العلم لصاحبه: أنه يخشى الله، فإذا خشيه تمت له السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة.

أمر الله لنبيه بالازدياد من العلم

أمر الله لنبيه بالازدياد من العلم من فضائل العلم: أن الله عز وجل أمر نبيه بالازدياد منه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وما نعلم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يزداد من شيء إلا من العلم، فدل على أنه أفضل شيءٍ؛ لأن الله عز وجل لا يختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل؛ بينما المال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يدعو لنفسه إلا بالأكمل والأفضل، (قوتاً) أي: إذا وجد العشاء ربما لا يجد الإفطار، وإذا وجد الإفطار ربما لا يجد الغداء، فكأنه قال: اللهم اعطني غدائي فقط، فإذا جاء وقت العشاء دعوتك، أو إذا جاء وقت الإفطار دعوتك، يفعل هذا ليتعلق قلبه بالله، فأكثر الأغنياء غافلون عن ذكر الله؛ لأن لديهم رصيداً في البنك، ولديهم تجارة، فهم لا يخشون الفقر على الإطلاق، بل كلما أرادوا شهوةً فهم يعلمون أن عندهم ما يقضيها من المال، لذلك قل أن يسأل ربه؛ لأنه غير مفتقر، ولا محتاج. أليس من العقوق أن تجلس على مائدة فيها كل ألوان الطعام والشراب، ولا تذكر اسم الذي أنعم عليك كل هذه النعم؟ أليس هذا عقوقاً أنك لا تهتف باسمه، وتقول حتى: باسم الله الذي رزقني هذا، وما حرمني؟! أقل درجات الوفاء: أن تذكر اسم الذي أنعم عليك، لكنه لا يذكره، ولا يسمي؛ لأنه ركن إلى ما عنده من المال، بخلاف الفقير، الذي يهتف باسم ربه بكرةً وعشياً، فهو محتاج: يا رب! اغنني، يا رب! سد جوعتي، يا رب! ارفع عني، فهو دائم الحاجة إلى الله؛ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا فقال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) حتى لا يتعلق قلبه إلا به، فهو الذي يقضي الحوائج للناس، أما إذا قام مقامه شخص آخر، فلربما تعلق القلب به، وهذا بداية الشرك: أن يتعلق القلب بغير الله عز وجل. فلم يستكثر من الدنيا، بل لما مات صلى الله عليه وسلم لم يكن في بيته غير سبعة دنانير فقط، ولما أفاق من كرب الموت قال لـ عائشة: (أخرجي الدنانير، ثم أغشي عليه، فلما أفاق سأل عائشة: أأخرجت الدنانير؟ قالت: شغلني مرضك، فقال: ما ظن محمدٍ بربه إذا لقي الله وعنده هذه) كأنما أراد أن يطهر بيته من دنس الدنيا قبل أن يلقاه، ولو كانت الدنيا خيراً لحازها ولحرص عليها؛ لكنه كان يقول لنا: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء). ويرحم الله عز وجل الحسن لما قال: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه). وأي معصية أعظم من أن يتعلق قلب المرء بالدنيا، أمر الله عز وجل نبيه أن يدعوه: بأن يزداد من العلم وزوى الدنيا عنه؛ لخساستها، ولو رضيها لأوليائه ما مكن الكافرين منها، وعنده مقاليد كل شيء، أفيعطي المال لـ قارون ويحجبه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله ما أعطاه لـ قارون إلا لهوان قارون عليه، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، فأثبت الجهل لهم: (لا يعلمون) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. رجل عقيم يتمنى الولد، بذل كل ماله في طلب الولد، وأخيراً جاءه الولد، لكنه أذله الولد إلى الأبد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} فلم لا تسلم لربك وترضى بقضائه عليك؟ فإذا حرمك الولد، فقل: إنه يرعى مصلحتي؛ لأنه لو رزقني الولد ربما أتعبني، فحسن ظني بربي يقتضي أنه رءوف بي لم لا تقل هذا؟ لم لا تقل كما قال أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83]، لم يقل: فاشفني، احتمال أن الرجل المريض إذا صح عصى الله بصحته، فيكون مرضه خيراً من صحته، وما يدريك؟ وإنما قال: ((وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))، فحسن الظن بك يا رب يقتضي أنك جعلت لي الأمثل والأفضل والأصلح. فلماذا لا تعامل ربك هذه المعاملة؛ يشملك حسن الظن به: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، لكن هذه الآية: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] أي: من حيث يجهلون أن هذا يضرهم ولا ينفعهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا

العلم هو العاصم من الأهواء

العلم هو العاصم من الأهواء الهوى له مركبان: من ركب واحداً منهما هوى: الجهل والمال، فأي أحد يركب مركب من هذين ولا يستضيء بنور العلم هوى، فتخيل الرجل الجاهل الذي لا يعرف الله ومعه مال كثير فما الذي تتصوره أن يفعل هذا الرجل بالمال؟ سيركب كل شهوةٍ يشتهيها. إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (فسلطه على هلكته في الحق) كلمة (الحق) لا يعطيها له إلا العلم، أي: في حق المال، ما هو حق المال؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو كبشة الأنماري عند الترمذي وأحمد وابن ماجة: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فأي شخص في هذه الدنيا فهو من هؤلاء الأربعة، فأنت نفسك بأمانة: أي واحد من هؤلاء الأربعة أنت؟ ولا تخدع نفسك: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتق الله فيه، يصل به رحمهُ، ويضع لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل. ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله. فهو ونيته؛ فهما في الأجر سواء. ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمهُ؛ فهذا بأخبث المنازل. ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله. فهو ونيته؛ فهما في الوزر سواء) عالم غني، عالم فقير، غني جاهل، فقير جاهل، ومرد الثاني والرابع للأول والثالث. إذاً: الناس قسمان على الحقيقة: تابعٌ، ومتبوع، مجتهدٌ ومقلد. التابع: العالم الغني، والغني الجاهل. والمتبوع: العالم الفقير، والفقير الجاهل. فوظيفة المال يصل به رحمه، ويضع لله فيه حقه. وأيضاً من حق المال ووظيفته: قوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا -هذه وظيفة المال- ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت). هذه وظيفة المال: إما أنك تأكل، وإما أنك تلبس، أو أنك تتصدق، فإذا أكلت فإلى المجاري، وإذا لبست فإلى البلى، وإذا تصدقت بقيت لك، وهل يستطيع الرجل أن يتصدق إلا إذا كان عالماً موقناً بفضل الصدقة، وإلا فإن الإنسان أصله شحيح، فلو تصدق لتصدق على خلاف هواه، ولا يستطيع رجل أن يخالف الهوى إلا بعلم، فرجعت الفضيلة إلى العلم، وأنه لا يستطيع أن يغلب شيطانه، وهو يقول له: تنفق المال وتذر ورثتك فقراء؟! فيحمله ذلك على الشح، كما ورد في بعض الأحاديث الذي يقويها بعض أهل العلم: (الولد مبخلةٌ مجبنة) أي: ولدك يحملك على البخل، تتمنى أن تتصدق، تتمنى -مثلاً- أن تنفق على الناس؛ فيحملك ولدك على البخل، تقول: بدل ما أنفق على الناس ولدي أولى؛ فلا تتصدق لأجل الولد. فإذا دعيت إلى قتال فيهرب المرء لماذا؟ لأنه سيقتل وييتم أولاده، فيحمله ذلك على الجبن. إذاً: رجعت الفضيلة في الأخير إلى العلم، وأن العلم هو العاصم من الهوى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

العلم ينجيك من النار

العلم ينجيك من النار وحسبك أيضاً شرفاً للعلم: أن الذين دخلوا النار دخلوها بسبب الجهل، قال تعالى على لسان هؤلاء: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11]. وأصل العلم: السمع والعقل، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. إذاً: أصل العلم: السمع، والعقل، والفهم. والسمع في القرآن يطلب على ثلاثة معانٍ: 1 - سمع إدراك. 2 - وسمع فهم. 3 - وسمع استجابة. فسمع الإدراك: كقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح: (سبحان من وسع سمعه الأصوات). وسمع الفهم: كقول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] وإلا فإن المشركين يسمعون الصوت ولكن لا يفقهون {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، فاستوى الكافر مع سائر الأنعام في الدنيا؛ فإن الراعي إذا نادى الغنم سمعته، وإذا نادى البهيمة سمعته؛ ولكنها لا تعقل ما يقول الراعي. فالله عز وجل يحكي حال الذين كفروا في حال استماعهم للقرآن، وعدم فهمهم لحجج الله عز وجل، كمثل راعي غنم ينادي على الغنم، فالغنم تسمع الصوت ولا تفهم ما يقول الراعي، وهؤلاء الكفار يسمعون الصوت ولا يفهمون حجج القرآن؛ فهم كالأنعام. فالله عز وجل يقول: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] مع أن حجة الله قامت على المشركين بسماع القرآن. إذاً: سمعوا سماع الآلة -أي: سماع الأذن- ولكنهم لم يفهموا فهم القلب، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] أي: لأفهمهم، وفهموا عن الله عز وجل ما أراده منهم. أما سمع الاستجابة، فمثل قول الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: مستجيبون، وقال الله حاكياً عن اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41]، أي: يستمعون الكذب فيستجيبون له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) لأنه ليس كل ما سمع يكون كله صدقاً، بل يكون كذب، فإذا نقل كل ما سمع تعرض لنقل الكذب، وإن لم يكن معتقداً له، لكنه ترك بنقل الكذب، بل إن العبد إذا كان جاهلاً فكثير من الحيوانات أفضل منه؛ فإن في الحيوانات من هو أكثر أكلاً منه، وأشد بطشاً، وأسرع عدواً، وأكثر جِماعاً وأولاداً، إنما فُضّل الإنسان على الحيوان بالعلم، فإذا فقد العلم فاقته كثير من الحيوانات واستوى مع الحيوانات في مثل هذه الصفات البهيمية، وليس هذا كلامي، وإنما هو كلام الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] أي: لأفهمهم.

العلم قاض على كل شيء

العلم قاضٍ على كل شيء ومن شرف العلم: أن العلم قاضٍ على كل شيء في الدنيا: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس:68]، وكل سلطان ورد في القرآن إنما هو سلطان الحجة: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس:68] هل عندكم حجة بهذا؛ بأن لله ولد؟ والحجة هي: حجة العلم. وقال تعالى في مجادلة يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:40] أي: ليس عندكم حجة تستطيعون أن تقيموا بها قولكم أن مع الله آلهة أخرى؛ فالسلطان في القرآن هو الحجة، إلا في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] فلأهل العلم فيها قولان: القول الأول: الناس والحكم والجاه. القول الثاني: العلم. فقوله: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] أي: انقطعت حجتي أمام الله، أو زال مالي وجاهي. فالعلم قاضٍ على كل شيء، وقد تنازع العلماء أيهما أفضل: مداد العلماء، أم دم الشهداء؟ وفي هذه المفاضلة دلالة على تفضيل العلم أيضاً؛ فإن قلت: من أي وجه؟ نقول: لأنه سيقضي على أحد الخصمين العلم: فإذا قلت: دم الشهداء؛ فلا بد أن يكون عندك علم. وإذا قلت: مداد العلماء؛ فلا بد أن يكون عندك علم، فالعلم هو القاضي والخصم. فإن قلت: فكيف يكون العلم خصماً، والأصل أن الخصم لا يكون حكماً؟ فنقول: هذا شرف أيضاً لمرتبة العلم؛ لأنه لماذا لم يُجعل الخصم حكماً؟ لأنه سيميل إلى انتصار نفسه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان)، لماذا؟ لأنه إذا قضى وهو غضبان قلت مواهبه، وسيميل مع حض نفسه أو مع هواه، ولكن إذا أمن القاضي على نفسه أنه لن يحيف أو يجور وهو غضبان حل له أن يقضي وهو غضبان، وليس هذا إلا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يكتب ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فأمسك عبد الله عن الكتابة فقال له: (لم لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! أنت غضبان. قال: اكتب، فوالذي بعثني بالحق -أو والذي نفسي بيده- ما أقول إلا حقاً) فاستوى غضبه ورضاه في الحكم؛ لأنه لا يحيف إذا غضب، إنما يحيف أمثالنا. لذلك يُنهى جميع الناس بدءاً من أبي بكر الصديق إلى أقل الناس أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن غضبه يستوي مع رضاه؛ لأن مظنة الحيف في الحكم منتفية عنه، فإذا كان العلم هو الخصم والقاضي كان ذلك أرفع لرتبة العلم؛ فالعلم قاضٍ على الممالك، وقاضٍ على الناس جميعاً، والناس مقبورون تحت سلطان العلم أكثر من سلطان الأمراء، فإن العلم ينقاد له القلب، أما سلطان اليد فينقاد له البدن. فهل كل قرارٍ أصدره أمير أو حاكم رضيت عنه الرعية؟ كثير من الناس ينفذون الأوامر وهم كارهون، ويدعون على الذي سن هذا القانون، ويلعنونه في الصلوات وفي الجهر والسر، فهم ينقادون له عنوة، بخلاف العالم؛ فإنه إذا بسط حجته انقاد القلب له، والقلب ملك البدن، فإذا انقاد القلب انقادت الجوارح تبعاً لانقياد القلب، مع الفرق الهائل بين هذا الانقياد والانقياد لسلطان الأمير.

فضل العلم على المال

فضل العلم على المال العلم ممدوح بكل لسان، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله القرآن -وفي رواية: العلم، وفي رواية: الحكمة، وهذه الروايات كلها يفسر بعضها بعضاً- فهو يعلمه للناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، فقدم العلم على المال، كما قدم الله العلم على الملك، لما ذكر ما وهبه لسليمان عليه السلام، إذ لا يتم الملك إلا بعلم. وقوله: (لا حسد) أي: لو جاز لأحدٍ أن يحسد أحداً لكان ينبغي له أن يحسد أحد رجلين: إما رجلٌ آتاه الله العلم، ويرحم الله الإمام أحمد حين كان يقول وهو يشير إلى تفضيل العلماء: (بيننا وبينكم شهود الجنائز). انظروا إلى جنازة أكبر عالم، وإلى جنازة أكبر غني؛ فسترون الفرق هائلاً! فكل الناس يقولون عن الغني: ماذا عمل؟ مسكين! انظروا إلى الفلل التي تركها، والأموال، والضياع هل أخذ معه شيئاً؟ لا يدوم إلا الله، ويتكلمون على الزهد في الدنيا، وأن الرجل مضى ولم يأخذ شيئاً، لكن هل قال واحدٌ منهم: يرحمه الله، أو رضي الله عنه؟ لا، لماذا؟ لأنه كان يحرم الناس من رفده، وعطائه، جمع ماله للورثة. لكن انظر إلى الناس في جنازة العالم! يبكون عليه ويحزنون، وليس بينه وبينهم أي نسب ولا أعمال، وما كان بينهم إلا ما تعدى العالم إليه وهو العلم، وإذا ذكروه ترضوا عنه وعن والديه. فإن جاز لك أن تغبط رجلاً فلا تكن سافل الهمة، فتقول: ليت أن معي كفلان محلات وو لا، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، فقد صيرك المال خادماً، وصيرك العلم سيداً. العلم يحرسك من الشبهات التي يلقيها أعداء الله، ومن الكفر الذي يزينه أعداء الله، فكلما وردت عليك شبهة كفر، أو شبهة وسواس صد العلم عنك وعن قلبك، لكن المال أنت تحرسه، لا تنام عينك خشية اللصوص، ولأنك تريد الازدياد منه، كل لحظة يقوم من الليل يعد الفلوس ويرتبها ويفعل ذلك مرات، إذاً: هناك متعة عنده في مسألة عد الفلوس. وهكذا يضيع عمره في مثل هذا؛ فصار خادماً، والمال عبد جيد لكنه سيد رديء: (عبد جيد) كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) أنت السيد، ومعك المال، تنفق المال يمنةً ويسره، إذاً: أنت السيد وهو العبد لأنك عندما تنفقه لا يعترض عليك، ولا يقول لك: لم وضعتني في هذا الموضع؟ إذاً: إذا صار المال عبداً صار عبداً جيداً؛ لأنك ستصل به الرحم، وتفرج به الكروب، وتبني به المدارس والمستشفيات، وترصف الطرق إلى آخره من أعمال البر والخير المباحة. لكنه إذا استحوذ على صاحبه كان سيداً سيئاً رديئاً. فأولى الناس بالغبطة بالحسد هذان: (رجلٌ آتاه الله العلم، فهو يقضي به، أو يعلمه آناء الليل وأطراف النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق). وقوله عليه الصلاة والسلام: (في الحق) قيد ضروري لا يأتي إلا بالعلم، فالله سبحانه وتعالى لما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] سماه أحسن القصص؛ لأنه وصفه بالحق: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، فهذا القيد ضروري في إنفاق المال. هذا القيد: (ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته) ولم يقل: (في الحق).

فضل العلم وشرفه [2]

فضل العلم وشرفه [2] العلم من أجل نعم الله على الإنسان، فهو قوام حياته، إذ يحتاج إليه في كل مناحي حياته، وفي كل شأن سواء كان صغيراً أم كبيراً، والعلم شرف لحامله، فكلما ازداد الإنسان منه ازداد رفعة، فما علينا إلا أن نجد سعينا في طلب العلم، ونشكر الله على ما من به علينا فله الفضل أولاً وآخراً.

مكانة العلماء والأمراء

مكانة العلماء والأمراء الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وبعد: أيها الأحبة: إن الملك لا يستقيم إلا بالعلم، فيعرف فضل الحاكم إذا قرب أهل العلم، إذا قضى عن وفق كلامهم وفتواهم ومشورتهم. وتعرف خبثه وبعده عن الحق والعدل والخير؛ إذا أبعد أهل العلم عن مجلسه، لذلك كان جماعة الملوك قديماً كبني أمية وبني العباس كانوا يهذبون أولادهم عند العلماء تمهيداً لإقامة سياسة الملك، فكان أكبر العلماء هم الذين يؤدبون أولاد الخلفاء، حتى إذا تولى استقام له الأدب واستقامت له الحكمة؛ لذلك كانوا إذا وعظ الواحد منهم، وذكر بالله يذكر، فـ هارون الرشيد مثلاً لما طلب الإمام مالكاً ليقرأ عليه الموطأ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تكن أول من أذل العلم فيذهب الله ملكك، العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه. فلا تكن أول من أهان العلماء، فحملهم على أن يحملوا علمهم ويذهبوا إلى بيوت الخلفاء؛ فيذهب الله ملكك! فلم يتكبر هارون الرشيد لأنه كان من خيار الخلفاء ومن أفاضلهم، وكان رجلاً عابداً، وكان محترماً للعلماء، وكان مجاهداً، ولكن نصارى الروم وأشباه الرجال عندنا ممن تأدبوا بأدب الغرب هم الذين شوهوا سيرة هؤلاء الخلفاء. فلم يتكبر هارون الرشيد، ولم تأخذه العزة بالإثم، ولم يعاقب الإمام مالكاً، وإنما جاء إلى مالك فركن ظهره إلى الحائط، فلما ركن ظهره إلى الحائط أشار إليه مالك أن هذا ليس من أدب طالب العلم؛ فأنت الآن لست خليفة، أنت طالب علم، فإذا جئت مجلس العلم وقد استحضرت غناك أو جاهك؛ فلن تفلح أبداً، فإذا كنت ابن العمدة، أو ابن رئيس الديوان -أو أي شخص- ودخلت وأنت تعتقد أن كل الناس ينظرون إليك؛ فهذا من اغترار النفس ولن ينفعك العلم. إن العلم لا ينال إلا ببذل النفس وبذل ماء الوجه، فإذا جاء إلى مجلس العلم وفي نفسه كل معاني الملك فلن يفلح أبداً. فبمجرد أن يركن ظهره ينبهه الإمام مالك أن هذا ليس من أدب الطلب؛ فيعتدل مباشرة، ويطلب العلم ويشكر مالكاً؛ لذلك استقامت لهم الدنيا سنين عدداً. فيعرف فضل الحاكم إذا قرب منه أهل العلم، وكان أول رجل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل فمن أين يأتيه العدل إذا كان جاهلاً؟ فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي على ما كان فيه من طغيان -قلامة ظفره أفضل بكثير ممن جاء بعده- فقد كان أحياناً يخضع للحق، فإذا ذكّره إنسان بالله يذكر. فذات مرة طلب أن يُقبض على رجل، فلم يجدوا الرجل فقبضوا على أخيه، فقال المقبوض عليه: أنا مظلوم. فقالوا: والله بحثنا عن أخيك فلم نجده، فأخذناك. قال: حسناً دعوني أكلم الخليفة. فقال: أصلح الله الخليفة، إن هؤلاء أرادوا أخي فلم يجدوه فأخذوني، وقبضوا على ابني، وهدموا داري، ومنعوا عطائي. فقال له الحجاج: هيهات! ألم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب الأول هو الجمل السليم عندما يقعد في مبرك أجرب فيأخذ الجرب معه، فأيضاً أنت من أجل أنه أخوك ذق، واليوم كثير من الناس يعادون الملتزمين لماذا؟ يقول له: أنت بسببك كنت سأتوظف ومنعوني، قالوا: أليس من أقاربك فلان؟ نعم، قريب فلان؛ إذاً: ليس لك عندنا وظيفة، ولا كيل لكم عندي ولا تقربون، وستظل مشرداً في الأرض، من أجل أنك قريب فلان. حسناً لماذا تعاقبونني بفلان؟ فهذا يقول له: ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال الرجل -وكان ذكياً-: أصلح الله الخليفة، فإني سمعت الله يقول غير ذلك. قال: وماذا يقول الله عز وجل؟ قال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:78 - 79]. فحينئذٍ أطرق الحجاج ساعة، وقال: علي بفلان -صاحب الشرطة- فقال له: فك لهذا ابنه، وابنِ له داره، ومر له بعطاء، ومر منادياً ينادي: أن صدق الله وكذب الشاعر. فهذا عنده شيء من الدين، وإن كان ظالماً وسفاكاً للدماء، ولكنه كان إذا ذكر بالله ذكر، ولا يستقيم الملك إلا لعالم أو لرجلٍ قرب أهل العلم.

منزلة الإمام العادل

منزلة الإمام العادل الإمام العادل أول من يستظل بهذا الظل في يوم الحرور، وهذا ليس كما في الشهر الثامن الناس نائمون على الأسطح، ولا تستطيع أن تنام من الحر، وهذا ليس أشد الحر، بل إذا أردت أن ترى الحر الشديد فاذهب إلى الكويت، أو الإمارات، أو السعودية، درجة الحرارة (65م)، يغلي منها الدماغ، وهذا في الظل، وهناك أحر من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (استأذنت جنهم ربها عز وجل في نفسين) تتنفس مرتين لماذا؟ لأنها مؤصدة، إذا جعلت نفسك على النار ولا يوجد أي نفس فيها، ربما تنفجر من البخار، وأنت تعلم عندما يكون هناك غرفة وأنت مقفل شبابيكها في الحر الشديد كيف يكون الحر! فجهنم مؤصدة -أي: مقفلة- فلا أبواب ولا شبابيك ولا يوجد بها شيء يمكن أن يسرب الحرارة نسأل الله العافية منها! فاستأذنت ربها نفسين: (نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فنفس الصيف هو أشد ما تجدون من الحر، وفي الشتاء هو أشد ما تجدون من الزمهرير). فلا نقول: إن الحر شديد لا، بل إن الشمس تنزل إلى السماء الدنيا، وهي الآن في السماء الرابعة، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومع ذلك أنت لا تطيقها الآن، فتعرف معنى الظل في يوم القيامة عندما تستحضر هذا، وليس ظل شجرة ولا ظل حائط ولا شيء من هذا، هذا ظل الله! فهذا يبين لك عظمة هذا الظل. فأول شخص يستمتع بهذا الظل هو الإمام العادل، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي كان آخر كلمة قالها قبل أن يموت، وقبل أن يكبر للصلاة -كما في صحيح البخاري- وكان واقفاً بين عمرو بن ميمون وابن عباس، ويتكلم معهما، ثم سوى الصف ودخل في الصلاة، وطعنه المجوسي، قال: (لئن عشت إلى قابل -إلى السنة القادمة- لا أدعن أرملةً في العراق تحتاج إلى أحدٍ بعدي). فانظر إلى نبل عمر! فآخر شيء كان يشغله الرعية، كيف يمهد للرعية ويريح هؤلاء الناس، فلا يكون المرء عادلاً إلا إذا كان عالماً، فرجع الأمر إلى العلم، فكل شيءٍ لا يستقيم لك إلا بالعلم، حتى في الدنيا لا يستقيم لك إلا بالعلم.

حال الأمراء إذا تركوا العلماء

حال الأمراء إذا تركوا العلماء من علامات الشؤم: أن يُعظم أهل الدنيا ولا يلتفت إلى أهل الآخرة، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وهناك كتاب اسمه بروتوكولات حكماء صهيون، وهذا الكتاب فيه ذكر ما يحدث في بلاد المسلمين؛ ومن العجيب أن أعداءنا كتبوا خططهم، وأظهروها للناس. حسناً! لماذا لا تخبئوها؟ قالوا: أصلاً هم أغبياء. ماذا يعني عندما تكتب خطتك أمام شخص غبي؟ كأنك لم تكشفها. هذا يذكرني بالعتابي، كان في بادية الشام يقص على الناس الحكايات، هل سمعتم بالموالد التي يقعدون فيها يخترعون الحكايات، مثل: ميمونة والجمل وغيرها، فالعتابي كان أحد هؤلاء. المهم أن العتابي كان قاعداً على الطريق يأكل، فقال له أحد الأشخاص: يا أخي! الأكل عورة. مع أنه ليس بعورة أبداً، لأن هذا ليس له أصل في السنة. فقال له: يا أخي! الناس يمشون وينظرون إليك وأنت تأكل! قال: أرأيت إن كان في بيتك بقر، وكنت تأكل أمامها أكنت تستحي أن تأكل أمامها؟ قال له: لا. قال: فاصبر حتى أريك أنهم بقر. يقول له: الناس الذين تراهم الآن حولي أعطني مهلة واحلم عليّ لكي أثبت لك أنهم بهائم. وبعد أن انتهى من الأكل قام في الجامع يقص حكايات بين قيس وليلى إلخ، والناس مندهشون، وبعد ذلك قام يرمي رميته في نص الكلام والمستمعون مشدوهون، قال: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مس لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة!! فما بقي منهم رجل إلا أخرج لسانه يريد أن يمس أرنبة أنفه. فأحدهم قال له: من أين أتيت بهذا الحديث؟ هل كان لسانه مثبت من الأمام أم مثبت من الخلف؟ فقال: أو لم أعلمك أنهم بقر! فالعلم -وهو القاضي على كل هذه المهالك- به تنال الرفعة، وكل شيء مرده إليه فالعلم هو الحكم، ومن شرفه أن يكون الخصم هو الحكم، هذه أول مرة نرى الخصم حكماً؛ لأن كل شيء في الدنيا فيه نزاع لا بد أن يقضي فيه العلم، فرجع إلى العلم في النهاية؛ فهو أشرف خصم وأشرف حكم. إذاً: بدءاً من الإمامة الكبرى، التي فيها صلاح الناس، والعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالإمام العادل؛ لأن خيره متعدٍ وشره متعدٍ، فلو كان ظالماً فسيتضرر بظلمه الملايين، ولو كان عادلاً سيستفيد بعدله الملايين، ولا غرو أن قال الإمام أحمد: (لو كانت لي دعوةٌ مستجابة لادخرتها للحاكم؛ لأن به صلاح الدنيا). فبدءاً من الخلافة الكبرى العظيمة التي هي أعلى شيء في الدنيا وهي الإمامة، إلى أدنى شيء في الدنيا يحتاج إلى العلم، وجماعة بروتوكولات حكماء صهيون قالوا: نحن الذين سنختار القادة، ونحن الذين سنختار أصحاب المواقع الحساسة. فكيف سيختارونه؟ يأتون بواحد من بلاد المسلمين ليدرس عندهم، وينظرون في مواهبه هل هو: إنسان عميل، دنيء الهمة، يمكن أن يتجسس على قومه ويبيع البلاد كلها في مقابل حفنة دراهم. ولا مانع من أن يعطوه الدكتوراه الفخرية، وهبة النيل، وهبة الكونجرس، وهبة كل شيء، ويحتفل به في المجتمع الأمريكي على أساس أنه نجم المجتمع، ويقابله الرئيس الأمريكي، ورئيس الكونجرس، ورئيس الوزراء، ويعملون له مأدبة احتفال في أستراليا، ولندن، وباريس. فأنت تقول: هذا ابن بلدي ويعملون له كل هذا! تعال! نحن محتاجون إليك. وبالتالي يقولون له: هذا الرجل ينفع أن يكون في المكان الفلاني، هذا ينفع -مثلاً- أن يكون وزير التربية والتعليم، نحن لا نعلم كيف يكون هذا الرجل العبقري لديكم وأنتم لا تعيروه أي اهتمام! ولو كان عندنا لجعلناه وزيراً للتربية والتعليم فيستدرجونه كما استدرجوا صدام حسين في حرب الخليج، قبل أن يدخل الكويت، قالت له أمريكا: نحن ليس لدينا أية خطة دفاع مشتركة مع الكويت ما معنى هذا الكلام؟ ولماذا قالت له هذا الكلام؟ يعني: ادخل الكويت ونحن لن نكون ضدك؛ لأنه ليس بيننا وبينهم خطة دفاع مشترك. فدخل الكويت، وظهر الرئيس الأمريكي بوش وقال: أنا أناشد الرئيس العراقي ألا يفضحنا؛ لأنه يعلم أن جيشه خطير! فله ثماني سنوات وهو يحارب إيران، وهو جيش عملي، والجنود لا يزال عظمهم ناشف، فليس من الضروري أن نبيد الكرة الأرضية، لأن جيشه عتيق وعريق وإلخ، وأنا بصراحة لن أقول لكم ولا أخفيكم: أنا جعلت ثمانية عشر ألف كفن مبدئي، والحانوتي سيأتي بالباقي من أجل الذين سيموتون من الأمريكان وقوات التحالف في حرب الخليج، فأنا أقول للرئيس العراقي: اعمل معروفاً، ولا تحارب؛ لأننا لسنا نداً لك. فكبرت في دماغه، وقال: إذا كانت أمريكا تقول لي: اعمل معروفاً، فما الذي يجعلني أعمل معروفاً إذاً؟ فلماذا لا أستغل ضعفهم وأقوم وأدخل فجأة -مثلما دخل إيران- وهي مجرد طلقة هنا وطلقة هناك إلخ. فهم يحاولون أن يهدئوه فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً، فدخل إلى أم الهزائم، وأخذ (علقة ساخنة -مثلما يقولون- حمار في مطلع). فهؤلاء يريدون أن يعينوا أي شخص عميل في بلاد المسلمين بأن يأخذوه ويلمعوه ويكبروه، ويعلموا فيه تقارير، وبصراحة نحن لنا الفخر أن الرجل هذا جاء إلينا، وهكذا! فتكبر في دماغنا ونقول: هذا الرجل هو الذي ينفع، وهو الذي سيصلح المسألة ويعدل الميل، تعال إذاً اجلس وإذا به يزيل الآيات من القرآن التي تسب اليهود، ويزيل الآيات التي تكفر النصارى؛ ويقول: إن هذا ضد الوحدة الوطنية، وعيب عليك أن تقرأ: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، بل اجعلها في قلبك، لأن هذا لا ينفع إلخ. ويبدأ القرآن يتقلص، وبعد هذا نبدأ نقول: الحجاب إرهاب! واللحية إرهاب إلخ! وأن الدين سماحة ويسر وأخلاق، وبعد ذلك نقول: إن منع الاختلاط عبارة عن إرهاب وكبت، وإلا فالمفروض أن يبقى الرجال مع النساء، ويأتي لك بكتب الدين: (علي عيان، قام إبراهيم وأخذ أباه وأمه وراحوا يزورون علي، فقام أبو إبراهيم يقابل أم علي على الباب إلخ). الله وهل هذا كتاب الدين؟! فكيف بكتاب الفنون؟ وكتاب التربية الموسيقية والرسم؟ فإذا كان في كتاب الدين (أبو إبراهيم يقابل أم علي! ويجلسون كلهم على طاولة واحدة: وألف سلامٍ على إبراهيم، وإلخ). دع كتاب الدين هذا والكلام الذي فيه، فهذا يجعل الأجيال تُمسخ، وينتج لنا جيلاً ممسوخاً ليس له هوية، مثل الجيل الذي نعاني منه الآن، جيل ليس له أي مواهب، وهذا الكلام في الجملة، وإلا هناك مواهب، لكنها ليست كثيرة. فهذا من علامة عدم التوجيه: وأهل الآخرة يظل أكثرهم لا يرفع لهم رأساً، مع أن صلاح الدنيا بصلاح ورفعة العلماء الربانيين، وصلاح الدنيا لا يكون إلا بالدين، أن تكون على وفاق ما يريد الله عز وجل، فالعلم تحتاجه في أعلى شيء وفي أدنى شيء، فلا تستغني عنه على الإطلاق، وتفتقر إليه في كل خطوة تخطوها في حياتك، هذا هو العلم الذي بدأ الله عز وجل بذكره في قصة داود وسليمان، وفضائل العلم أكثر من أن يحصرها مجلساً أو اثنان أو ثلاثة، إنما السعيد من انتفع بالقليل، والمكابر لا ينتفع لا بقليل ولا بكثير. نحن نرجو أن يكون فيما ذكرته دافعاً ورفعاً للهمم، لترجع وتطلب العلم مرة أخرى، فمهما ازددت منه فإنه لن يضرك، وكل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده إلا العلم، فكلما ازددت منه زادك رفعةً.

فضل العلم وعواقب الجهل

فضل العلم وعواقب الجهل انظر إلى علمائنا كـ ابن جرير الطبري (دخل عليه أحد أصحابه وهو يجود بنفسه -أي: يحتضر- فسأله - ابن جرير عن مسألة في المواريث- فقال: أفي هذا الحال -يعني: وأنت تحتضر- قال: أخرج من الدنيا وأنا عالم بها خيرٌ لي من أفارقها وأنا جاهلٌ بها). فإنك لأن تلقى الله عز وجل بمعرفة هذا خيرٌ لك من أن تلقاه جاهلاً بها. فربنا سبحانه وتعالى ذكر العلم، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، العلماء يقولون: النكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وفي سياق النفي تفيد العموم. قوله: (ولقد): تحقيق، واللام للتأكيد، و (قد) دخلت على الفعل الماضي، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، فيها أي أداة نفي؟ هذه الجملة مثبتة، والنكرة في الآية؟ (علماً) الاسم عموماً، الاسم الخالي من الألف واللام. إذا دخلت الألف واللام على الاسم يبقى معرفة، تقول مثلاً: (علم) نكرة، (العلم): صار معرفة، أي: معرفاً بالألف واللام. فهذه النكرة -التي هي (علماً) - جاءت في سياق الإثبات فأفادت الإطلاق، أي: علم يشمل جزئيات كثيرة؛ لأن الرجل ملك الجن والإنس والطير، {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16] إذاً: (كل شيء) لا بد أن يكون عالماً بكل ما أوتي، فهذا يكون معنى كلمة (علم)، هذه النكرة التي جاءت في سياق الإثبات: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [النمل:15]، وهذا يدل على أن هذا من فضل الله، هو الذي آتى داود وسليمان: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:15]، فدوام النعمة إنما يكون بدوام الشكر عليها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. وانظر إلى الأعرابي الجاهل: ذات مرة لدغته حية -والإنسان لابد أن يحمد ربه على كل شيء، حتى على المكروه، فإذا لدغته حية عليه أن يقول: الحمد لله- فقال: الحمد لله. فقام أحدهم وقال له: ((لئن شكرتم لأزيدنكم)) قال: لا شكراً، لا شكراً. فهو إذا شكر ستلدغه مرة أخرى، فهو فهم معنى: (لأزيدنكم) أي: من لدغ الحيات، وقال: لا أريد أكثر من هذا فهذا جاهل، والذي قرأ له الآية جاهل كذلك، وأنت تعلم أن الكلام الحق إذا وضع في غير موضعه صار قبيحاً، فما بالك في القبح إذا كان في موضعه. كإنسان -مثلاً- كان مقرئاً للقرآن، وكان يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع أربعمائة جنيه -وهذا الكلام كان في سنة ستة وسبعين تقريباً- فكانت الأربعمائة جنيه تساوي مثلاً الآن أربعة آلاف، وإذا قلت: أربعة آلاف فليست مبالغةً، لأن السعر كل يوم يتغير، وليس كل شهر أو كل سنة. فكان يأخذ أربعمائة جنيه في المرة الواحدة، فأحدهم اعترض على ذلك فقال له: الله يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41]، أي: خذ ما تقدر من فلوس؛ لأنك كلما أخذت كثيراً فأنت توقر كلام الله. فهو عندما يضع الآية في مثل هذا الموضع تنظر إلى قبح هذا الاستدلال، وهو لو بذل الدنيا كلها لشطر آية لكان قد اشترى بكلام الله ثمناً قليلاً فما هي الدنيا أمام كلمة من كلام الله؟ تساوي ماذا؟! كذلك لو قال لك شخص: أنت ذاهب إلى أين؟ تقول: أنا ذاهب للجامع. يقول: قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، المعنى هكذا. مع أنه كلام الله. أو {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] مثلما قال أبو نواس: ما قال ربك ويل للأولى سكروا وإنما قال ويل للمصلينا وهو فعلاً قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] لكنه نزع الكلام من السياق وحرفة. فالقصد: أن الكلام قد يكون في نفسه جميلاً، لكنه إذا وضع في موضعه، فمن تمام حق الله عليك أن تذكره في النعم، وهذا ما فعله داود وسليمان: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا} [النمل:15].

شكر الله على نعمة العلم ورد الفضل إليه

شكر الله على نعمة العلم ورد الفضل إليه هل ذكر ربنا سبحانه شيئاً غير العلم؟ ذكر العلم، فلما قالا: (الحمد لله الذي فضلنا) دل على تفضيلهم بالعلم، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15] انظر إلى حكمة التواضع وهضم حق النفس! ولا تظن مهما أوتيت من العلم والفضل أنك وحيد عصرك وفريد دهرك، أو أنك إنسان عقمت أرحام النساء أن تلد مثلك لا. كم في الزوايا خبايا وكم في الناس بقايا والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أشعث أغبر، مدفوع بالأبواب، ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره)، فسبحان من يعلم أقدار خلقه إلا هو! رجلٌ يمشي على الأرض بقدميه مثلنا، يوم يموت يهتز له عرش الرحمن! ما هي قيمة هذا الرجل وما قدره لكي يهتز له عرش الرحمن؟! فلا تحتقر أحداً، ولا تظن أنك أفضل الناس، بل كلما هضمت حظ نفسك ارتقيت، فإن من خالف الهوى حصل له ضد الهوي، كما يقول العلماء، أنت تعلم أن (هوى): أي: نزل، فإذا خالفت الهوى ارتفعت، فالإنسان إذا خالف هواه ارتفع، وربنا تبارك وتعالى قد عاتب نبياً من أولي العزم أن صدر على لسانه كلمة مثل هذه. ففي الصحيحين من حديث أبي بن كعب: (أن موسى عليه السلام وعظ بني إسرائيل وذكرهم حتى رقت القلوب وذرفت العيون، فانطلق فتبعه رجلٌ، فقال: يا كليم الله! تعلم أحداً في الأرض هو أعلم منك؟ قال له: لا -فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، لماذا تقول: أنا لا أعلم أحداً أعلم مني؟ قل: الله أعلم. فعاتبه الله أنه لم يرد العلم إليه- قال الله له: إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك). موسى عليه السلام الذي يريد أن يتعلم، والله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وكل ما نبل قدر الإنسان جمع أنفس الأشياء، وهو العلم، فموسى عليه السلام عندما سمع هذا الكلام، (قال: رب! كيف لي به؟) أنا أريد أن أطلب العلم على يديه، مع أنه كليم الله، وأحد أولي العزم، واتفق العلماء أن موسى أفضل من الخضر وأعلم، ولكن موسى عليه السلام لما عاتبه ربه حين لم يُرجع العلم إليه، قال: كيف لي به؟ (قال: خذ معك مكتل وحوت) الحوت: سمكة كبيرة تشويها وتتغدى بها أنت وغلامك، يوشع بن نون، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، وهنا لفتة لطيفة فيها فضل العلم! ولم يكن يوشع عبداً لموسى، إنما قيل له: فتى؛ لأنه كان متعلماً وتلميذاً، فأخذ من هذا بعض العلماء حين قالوا: من علمني حرفاً صرت له عبداً، كما أن يوشع صار فتى لموسى، مع أنه لم يكن خادماً له ولا مملوكاً، وإنما لما تبعه على شرف العلم صار فتىً له، أي: صار بمنزلة العبد إذا أمره ائتمر. والمكتل: -مثل الإناء-، ثم انطلق والسمكة المشوية حين ترجع لها الحياة ستقفز إلى الماء فعندها يعرف أنه في هذا المكان. فالسمكة المشوية في مكان معين في مجمع البحرين قفزت من المكتل ونزلت البحر، وكان موسى عليه السلام نائماً، فقام فتاه يوقظه، وبعد أن استيقظ من النوم واصلا الرحلة، وفي أثناء الطريق قال له: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] فقال له: أنا نسيت أن أقول لك: إن في المكان الفلاني خرج الحوت من المكتل ونزل الماء، قال: هو هناك إذاً {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، فرجعوا يقطعون الطريق مرة أخرى، لأنهم قد مروا وتركوا مجمع البحرين، وأمسك الله الحوت عن الجريان في الماء -جعله ساكناً في الماء- حتى إذا رجع موسى يراه، فبينما هو ينظر في الماء رأى الحوت محبوساً في وسط دائرة معينة، فقال: إذاً هو هنا، فلقي رجلاً متدثراً بعباءة خضراء -ملاءة خضراء- قال له: السلام عليكم. قال: وهل بأرضي سلام؟ قال: من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال له: بلى. قال: يا موسى! اعلم ورأى عصفوراً مر من فوق الماء وأخذ قطرة ماء صغيرة، فقال له: هل ترى هذا العصفور؟ قال: نعم. قال: علمي وعلمك إلى علم الله كهذه القطرة التي أخذها العصفور بالنسبة للبحر!!. هل تعلم ماذا تعني هذه الكلمة؟ كأنه يقول له: ليس معنى أن ربنا سبحانه وتعالى أرسلك ليعلمك أن عندي شيئاً، فهو يعلمه التواضع الذي عاتب الله موسى عليه. فأول درس أخذه موسى عليه السلام قبل أن يركبا في السفينة هو التواضع: علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله -وهذا مجرد تمثيل، وإلا فالمسألة أقل من هذا بكثير، كهذه القطرة التي أخذها العصفور من هذا البحر العظيم. فانظر إلى موسى عليه السلام كيف عاتبه الله مع رفعة مكانته، وأنت تعرف أن الإنسان كلما عظمت مكانته كلما تظهر عيوبه. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، قال لهن: (لستن كأحد من النساء) أي: لستن مثل النساء. حسناً ما الذي يترتب على هذا إذا صرن نساء فاضلات؟ قال: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، لماذا؟ لأنها ليست مثل النساء، وفي نفس الوقت قال لهن: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31] لأنهن أيضاً لسن كالنساء، إذاً: يضاعف لهن العقوبة ويضاعف لهن الثواب. فداود وسليمان عليهما السلام احترزا وقالا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15]، إذاً: هناك أفضل منهما لكننا أفضل من كثير من الناس، فدل هذا على أنهما يعترفا أن من خلق الله عز وجل من هو أفضل منهما، وهذا يزيد المرء رفعة: (من تواضع لله رفعه)، (ولا يزال المتكبر في سفال حتى يخرج من غروره). {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] هذا القيد مهم؛ لأنك عندما تقول: أنا أفضل من نتنياهو؛ إذاً: أنت بهذا شتمت نفسك، فلا يصح أن تقول: أنا أفضل من الكافر؛ لأن الكافر ليس له فضل أصلاً، إنما إذا أردت أن يظهر فضلك فقارن نفسك بأهل الفضل. ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟ عندما تأتي وتقول لي: هذا السيف أحسن من العصا، فأنت بهذا انتقصت السيف. إذاً: قول سليمان وداود عليهما السلام فيه دلالة على أن المرء لا يحرز النبل والفضل إلا إذا قورن بأهل الفضل، ليس مثل أي أحد في الدنيا لا، {فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15]، وهذا يدلك أيضاً على تفاضل أهل الإيمان، وهذا ثابت في ديننا في القرآن والسنة، أن أهل الإيمان يتفاضلون بالإيمان عند الله تبارك وتعالى يوم موتهم، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل، أي: أنك عندما تعترف بفضل أخيك المؤمن عليك إياك أن تتصور أنك أنت تحط من نفسك لا، بل كلما اعترفت بفضل الناس زاد فضلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما دعا رجل لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله له به ملكاً يقول له: ولك مثله) أيهما أفضل؟ الذي يدعو له الملك يدعو له، أي: إذا أنا دعوت لأبي فقلت: اللهم ارحمه. دعائي قد لا يستجاب، فيقول الملك: ولك بمثل، فدعاء الملك مستجاب، إذاً: الداعي هو الأفضل؛ لأن الملك هو الذي يدعو له، لكن أنت تدعو لصاحبك، فانظر أنت بهذا صرت أفضل، فأنت عندما تأتي تقول: فلان أعلم مني وأفضل مني إياك أن تتخيل أنك تحط من درجتك لا. جلس سفيان بن عيينة رحمه الله في مجلس يخطب الناس، فسأل: هل هناك أحد من أهل الكوفة؟ قال فلان: أنا. قال: ما فعل - الوليد بن مسلم مثلاً أو أي عالم من العلماء؟ قال له: مات. قال: فهل فيكم أحد من أهل البصرة؟ قالوا: نعم. قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات. قال: هل فيكم أحد من بلاد ما وراء النهر؟ قالوا: نعم. قال: ما فعل فلان؟ قالوا: مات. قال: هل فيكم أحد من مصر؟ قالوا: نعم. قال: ما فعل فلان؟ قال: مات. فحينئذٍ بكى سفيان وأنشد قائلاً: خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ أي: أنا ما وصلت إلى هذا السؤدد إلا أن الديار خلت ولم يبق إلا مثلي. وكذلك أبو سفيان رضي الله عنه: ما ترأس المشركين في أحد إلا بعد ذهاب أكابرهم. فـ سفيان بن عيينة كأنه يقول: إني سدت الديار لما خلت من هؤلاء الأكابر، مع أني لا أستحق هذه السيادة هل وضع هذا من قدر سفيان؟ خَلَتِ الديارُ فسُدْتُ غير مُسَوَّدِ -أي: وأنا لا أستحق التسويد- ومن الشَّقاء تَفَرُّدِي بالسُّؤدَدِ يشعر لهذا كل إنسان جرد القصد لله -عز وجل- من أهل العلم، يحس بالمحنة عندما يكون وحده في الساحة، إياك أن تتخيل أن العالم الذي قصد الله عز وجل أن يكون منبسطاً أن كل الخلق حوله لا، إنما يشعر بالمحنة أنه وحده؛ لأن القصد مصلحة الناس، مهما كان العالم جليلاً لا يستطيع الناس جميعاً أن يجتمعوا في مكان واحدٍ فيسمعوا كلام الله ورسوله. ولكن تخيل أن البلاد هذه فيها -مثلاً- ألف عالم، إذاً: نحن ضمنا أن الحق والهدى سيصل إلى أغلب الناس أم لا؟ وليس أن الواحد لوحده مشهور ومحبوب، وكل الناس حوله، فيصير هذا يدعوه إلى الفرح لا بل هذه محنة، مثل كلام سفيان: أن الإنسان إذا كان فريداً لا يجري معه أحداً من أهل الفضل في مضماره أن هذه محنة، وليست منحة ولا شيئاً. إذاً: فضلك يظهر بمقارنتك بأهل الفضل وليس بكل الناس؛ ولذلك خصص داود وسليمان عليهما السلام المؤمنين، إذ لا يظهر لهم فضل إلا في وسط أهل النبل -أهل الإيمان: {

احذروا خطوات الشيطان [1]

احذروا خطوات الشيطان [1] لابد للمسلم من تحقيق معنى الشهادتين، وذلك بالعلم والعمل، ولا يتم ذلك إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه، فيجب علينا ترسم خطاه صلى الله عليه وسلم، وتربية أبنائنا على حبه، وتقديم أوامره على غيره، ونسلك في ذلك الوسائل المختلفة.

تحقيق الشهادتين

تحقيق الشهادتين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر، ح. وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وخبيب بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلاً المسجد؛ فاستلمته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام). قوله: (يا محمد) ناداه باسمه حتى يظن الصحابة أنه من جفاة الأعراب، وهم يمتازون بالغلظة والشدة قال الله عن بعضهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور:63] لا تقولوا: يا محمد، حتى الكنية نفسها -وكنيته عليه الصلاة والسلام أبو القاسم- ثبت عنه من طرق كالجبل الأشم أنه قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لكن أهل العلم على خلاف في هذه المسألة، فمنهم من رأى تحريم التكني بكنيته، ومنهم من رأى جواز ذلك، وإنما اختلفوا في العلة: فمن نصب علة فقال -كما ورد في الحديث- إن سبب قول هذا الحديث أن رجلاً نادى آخر، فقال: يا أبا القاسم! ينادي صاحبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك! فقال: لم أعنك، أي: أنا أقصد رجلاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لأن نداءه هو السبب وقد زال السبب بموته صلى الله عليه وسلم. فحينئذ الحكم يدور مع العلة وجودا ًوعدماً، فحيث وجدت العلة وجد الحكم، وحيث انتفت العلة انتفى الحكم، وقد انتفت العلة، هذا كلامهم، لذلك قالوا: لا نرى بأساً أن يدعى الرجل بأبي القاسم، وعليه فقد تكنى بها جماعة من العلماء والمحدثين من أشهرهم أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وابن عساكر صاحب التاريخ الكبير الذي هو تاريخ دمشق طبع منه خمس وستين مجلداً حتى الآن. من كرامة الرجل أن تناديه بكنيته، أو تناديه بلقبه، لا تناديه بالاسم، فالأعراب كانوا ينادون: يا محمد! فقال الله عز وجل لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: إذا أردت أن تنادي فلا تقل: يا محمد! بل يجب أن تعظمه، فإما أن تناديه بكنيته فتقول: يا أبا القاسم، أو تناديه بلقبه فتقول: يا رسول الله! فقال: (يا محمد!) زيادة في تعمية أمره، وكأنه أعرابي من الجهال، قال: (أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا). وسنقف مع كل ركن من هذه الأركان، أولاً: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ما معنى أن تشهد؟ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة:6]، إذاً: الغيب ضد الشهادة، فالغيب هو ما غاب عنك، والشهادة ما ترى بعينك، فالشهادة هنا: هي الرؤيا، أو كأنها الرؤيا، وهذا يرسلنا مباشرةً إلى آخر الحديث عندما قال له أخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه). ولما جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك)، فهل يستطيع رجلٌ منا أن يقوم قلبه على مشهدٍ من مشاهد العصيان ويراه أحد؟ لا يستطيع ولا يقوى قلب إنسان أن يقوم بالمعصية وأحد يراه، ولذلك يحرز نفسه إذا أراد أن يعصي، فتراه يغلق الباب والنافذة ويأمن نفسه، ويتعرف على مواعيد خروج ودخول الآخرين، ثم يقوم بعمل هذه المعصية. (أن تعبد الله كأنك تراه): يعني: إذا اعتقدت أن الله يراك، وقام قلبك لهذا المشهد، فلا يمكن أن يقوى قلبك على العصيان ألبتة، فليس معنى أن تشهد أن لا إله إلا الله أن الأمر انتهى، ليس هذا معنى الشهادة، فالكلمة أنت قلتها، ولكن الشهادة يشترط فيها العلم والصدق، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، إذاً: لابد أن تشهد بحقٍ وبعلم. إذاً: تحقيق معنى الشهادة: أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى يراك. يعني مثلاً: هناك بعض الإخوة يمكن أن يصلي الفجر وأخذ شكل الالتزام الظاهر، لكن عنده بلايا قديمة لم يستطع أن يتخلص منها حتى الآن، فهو قد قلل من الذنب، كان يفعله جهاراً فأصبح يفعله سراً، والتدخين مثلاً، بعض الناس مبتلون بالتدخين، فتنظر إليه تجده متسنناً، وتراه لا يترك صلاة في المسجد، وتراه رجلاً منافحاً عن السنة، ونحن لا نقول: إنه بهذه المعصية لا يحب الله ورسوله؛ فإن محبة الله ورسوله قد تجتمع مع العصيان، فقد جاء في البخاري وغيره: (أن رجلاً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر، فقال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال له رجلٌ: لعنك الله! فقال: لا تعن الشيطان على أخيك). وفي رواية خارج الصحيحين قال: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)، وحديث آخر في الصحيح أيضاً: أنه لما لمزه شخص وقال إنه من المنافقين قال: (إنه يحب الله ورسوله)، فالإنسان قد يحب الله ورسوله وتجتمع فيه شعبة من شعب المعاصي، أي: أنه يفعل معصية وهو يحب الله ورسوله، لكنه حبٌ غير تام، إذ لو أحب الله عز وجل لاستحيا أن يبارز الله بالعصيان، ثم قارف العصيان من خلف الجدار حياء من الناس. فكلمة (أشهد أن لا إله إلا الله) ينبغي أن يقوم قلبك بمعنى الشهادة فيها، كأن الله يراك، فإذا وصلت إلى هذا المعنى فقد حققت معنى (أشهد أن لا إله إلا الله). (وأشهد أن محمداً رسول الله) يعني أن تشهد أيضاً أن محمداً رسول الله، ونفس المعنى أن تشهد كل حديث يأتيك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتعتبر أنه هو الذي يأمرك وأنت واقف أمامه تشهده وتنظر إليه. مثلاً أنا رجل ثقة ولم تجربوا علي كذباً، وقلت لكم -وأنا أعلم الصحيح من الضعيف- صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت حديثاً لم أصححه أنا فحسب، وإنما أجمعت الأمة على صحته، فما أنا إلا مبلغ، فقلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، لماذا لا تبادر إلى فعله؟ نحن لن نحقق معنى الشهادة إلا بالاتباع. ما هو الفرق بين أن يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: افعل! وبين أن يقول لك أحد أصحابه أو أتباعه: افعل؟! وهل تواجده عليه الصلاة والسلام شرطٌ في البلاغ، فلقد كان يرسل أصحابه إلى الآفاق بدعوة الإسلام، وكان يقاتل الذين لا يستجيبون لدعوة الإسلام على لسان فردٍ من أصحابه، وكان يصدق صاحبه فيما قال، فإذا قال: إن هؤلاء ردوا الإسلام، أرسل لهم بدفع الجزية، فإذا رجع صاحبه وقال: أبوا أن يدفعوا الجزية جهز الجيش وذهب ليغزوهم بخبر واحد، ولا نعلم أن واحداً من الذين أرسل إليهم في الآفاق قال لأحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: يشترط أن يأتينا بنفسه، ما قال أحد هذا الكلام، إنما تقوم الحجة بالمبلغ، وقد نقل ابن القيم رحمه الله: إجماع الأمة على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته إلى سنته، ولا يعلم سنته إلا العلماء، فإذا قال العالم: افعل كذا، فما الذي يصدك عن الاتباع؟

أثر المحبة في الاتباع

أثر المحبة في الاتباع فالذي لم يحقق معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قضية الدبلة مثلاً يأتي لك شخص فيقول: أنا سأعمل مشكلة، وأنا إنما ألبسها لأنهم يعاكسونني وكذا ولو علموا أن ألبس دبلة فضة سيقولون: كذا وكذا، وهناك بعض الناس يقول مثل هذا الكلام المتهافت، يريد أن يقول: أنا مضطر. فنقول له: لا تلبس الدبلة الفضة أيضاً؛ لأن المشكلة ليست هي أن تلبس فضة أو ذهباً، ولكن المشكلة أن الدبلة نفسها ليست من شرعنا، فهي اصطلاح نصراني محض، وهكذا اصطلحوا عليه، إذا وضعها في اليمين فهو خاطب، وبعدما يتزوج ينقلها إلى الشمال، فهذا تقليد نصراني ليس من ديننا، فنحن منهيون عن لبس الدبلة أصلاً، رجالاً ونساءً، لا فضة ولا غير فضة. لكن البس خاتماً، والخاتم زينة الإصبع، فالخاتم نوع من التزيين للإصبع، وسواء لبست فضة أو ألمازاً أو أي معدن من المعادن النفيسة، لكن الذهب لا، والذهب بكل درجاته وكل ألوانه لا، ذهب أبيض أو أصفر، وكل مسمّى الذهب الحقيقي، لأن بعض الناس قد يسمي الشيء بغير اسمه، مثل ما يأتي لك بقماش في السوق ويقول لك: حرير، وهو ليس بحرير، أو ليس بالحرير المنهي عنه، ولكن نحن سميناه زوراً حريراً، ولو أتى بعض الناس فقال: هل ألبس المازاً، وهو أغلى من الذهب؟ نقول له: ليس هناك مانع؛ لأن لديك الصوف وهو أغلى من الحرير، ورغم ذلك تلبس الصوف الغالي وتترك الحرير وإن كان أقل سعراً. إذاً: الاتباع باعثه الحب، فإذا قلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعظم، فإذا فاتك هذا التعظيم ولم يعلمك إياه أبوك، فعلمه ولدك، فتكون قد قمت بجزء مما عليك، فالولد امتداد لك، وكلما كان الولد صالحاً طال عمرك، لأن الولد الصالح يقال له: الله يرحمك ويرحم والديك! والولد الملعون يلعنونه ويلعنون أباه، فيموت الأب والولد يستجلب اللعنات له، بينما الولد الصالح يستجلب لك الرحمات، فالولد الصالح هو الامتداد لك، بينما الولد الفاسد قُطع أثرك به يوم أن مت وكأنك لم تخلف أصلاً: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] يعني: ليس بابنك، وإنما ابنك هو امتداد لك، فالولد الصالح فقط هو ابنك.

تربية الأولاد على الاتباع

تربية الأولاد على الاتباع عليك أن تبدأ بتدريب ولدك على تحقيق معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنت بذلك تعظم ربك سبحانه وتعالى، فإذا ذكر الله رفعت صوتك في السماء بذلك؛ لأن الولد مثل المسجلة، فإذا ذكرت الله في البيت وسمعك ابنك ولم يتكلم قلت له: لم أنت ساكت هكذا؟ لماذا لم تكبر وتعظم الله؟ وقل هذا الكلام بحماس، فأول ما يسمع الولد لفظ الجلالة يكون متعوداً على التعظيم، فالذكر بالصوت العالي يكون فيه حفاوة، يعني مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). يعني أن صاحب أبيك الذي كان دائماً يأتيه، من أبر البر أن تذهب إليه بعد أن يموت أبوك، وتأخذ معك هدايا وما شابه. فإذا كنت في حياة أبيك تعرف رجلاً معيناً أو اثنين أو ثلاثة، إذا وصلوا البيت أن أباك يقوم بالترحاب ويقابلهم بالعناق وما شابه، ويقول الكلمة المعتادة: نحن زارنا النبي! وزارنا النبي المقصود بها أنه ليس هناك أغلى منه، يريد أن يقول: ليس هناك أغلى منك، وطبعاً هناك تحفظ على هذا التعبير، لأن هناك أناساً قد تدخلنا في المتنبئين الكذبة، ولا يجوز قول هذا الكلام، وهو من المستبشع في اللفظ ولا يحل ذكره. فإذا رأيت أباك يعظم أحد أصحابه، يظل تعظيم هذا الصاحب عندك طوال عمرك، وهذا الصاحب يأخذ قدره بقدر ما كان يأخذه في حياة أبيك، وكذلك عليك تعظيم ربك عز وجل وإذا ذكر فحذار من أن تخنس أو تثني عليه بصوت منخفص، ولكن ارفع صوتك، وهلل وكبر، وأمر أولادك أن يرفعوا أصواتهم ويهللوا ويكبروا، وإن كان صغيراً سمع كلامك فيتأثر به. وإذا ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فقل: أشهد أن محمداً رسول الله، عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه وسلم وأحياناً يا أخي قد تدركك العبرة، فأحياناً إن كنت صادقاً تدركك العبرة، فيراك ابنك ويرمق هذه الدمعة منك، فيربط بين الدمعة وبين ذكرك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بين ذكرك لربك وبين هذه الدمعة؛ فتؤثر فيه. قال الإمام مالك رحمه الله: كنا نأتي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه، وهكذا المحب، كلما ذكرته بحبيبه بكي، وهو دائم البكاء؛ في اللقاء يخشى الفراق، وفي الفراق للاشتياق، فطالما حبيبه بعيد يبكي يريد أن يقابله، فإذا قابله بكي، فهو دائم البكاء جيئة وذهاباً. فهؤلاء الجماعة كانوا معظمين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحققين معنى كلمة (أشهد)، يعني عندما يسمع الكلام يتخيل النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً أمامه وهو كأنه أحد الصحابة ويتلقى الأمر، ويريد أن يشرف نفسه، هل سينفذ الأمر مباشرة أم سيتوانى ويكسل؟ فلو كان الإنسان مستحضراً أن الرسول عليه الصلاة والسلام موجود أمامه، فمن الممكن أن يبكي إذا مس الحديث أوتار قلبه. إذاً: ممكن أن يربط ابنك بين الدمعة والشهادة فتعظم المسألة عنده، وبعض الناس أراد أن يعلم ابنه حب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بني! من أغلى الناس؟ فقال له: أنت يا أبي! فقال له: لا. أغلى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمر أمراً ينبغي أن يطاع، وأي أحد في الدنيا يخالفه ويقول شيء غير الذي قاله من ستسمع فيهم؟ فقال له: أسمع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وظل يكرر عليه الكلام. وابنك -كما قلنا قبل ذلك- لا يستوعب معنى اللفظ كاملاً، لا تظن أنك عندما تقول له هذا الكلام أنه اهتضم مائة بالمائة، وأن الرسول بالفعل أصبح أغلى شخص عنده، وأن كلامه لا يجب أن يخالف، لا. بل هوأخذ منك كلامك على قدر فهمه هو، فإذا خالفك بعد ثانية واحدة فلا تقل له: لم تعاندني؟ هو لم يقصد أن يعاندك ولكن لم يفهم، فلعل عقله لم يستوعب من الكلمة إلا عشرها أو أقل من عشرها، فأنت محتاج إلى أن تكرر الكلمة الواحدة مرة ومرتين وعشر مرات إلى مائة، فكل يوم تقول له: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى واحد هل تخالفه؟ فيقول: لا، ولو خالفه شخص من ستطيع؟ فيقول: الرسول. وكل يوم على هذا المنوال. وظل الرجل مدة طويلة وهو يقول له هذا الكلام كل يوم حتى حفظها الولد، فأراد أن يختبر الولد يوماً، وهذا بعدما علمه أن الكذب حرام وأن الذي يكذب يغضب منه الرسول فجاء شخص ودق الباب فقال له: قل له لست هنا! فالولد مباشرة خرج وقال له: أبي ليس هنا!! لماذا؟ لأن أباه حاضر أمامه، وهذا هو معنى الشهادة. فالولد يخشى أن يوقع أبوه العقوبة به، فلما أمن الولد جانب العقوبة قال مباشرة: أبي ليس هنا، فمباشرة خرج الرجل ونادى صاحبه وأفهمه الموقف، وبأن هذا الولد أنا أقوم بتدريبه على كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، ثم جئت أختبره. ثم جاء الولد، فقال له: لماذا قلت للرجل أني لست هنا؟ فقال الولد: أنت قلت لي هكذا، فقال له: ألم أقل لك قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب الكذب؟! وأن الرسول عندما يقول لا تكذب، وأنا أكذب، فعليك أن تسمع كلام الرسول!! فلم يضربه، لأنه لو ضربه لكره التعليم، فلا تعاقب ولدك بالصراعات في مقتبل العمر. ذات مرة أراد أحد المدرسين أن يكون ابنه الأول على المدرسة؛ لأنه مدرس ويحب الطالب المتفوق في الصف، وكل مدرس عنده هذه القضية مستقرة في نفسه، ومهما كلمته عن ملكات الأطفال، وأن مستوى الذكاء متفاوت، يقل لك: لا، لازم يطلع الأول، وتأتي لآخر يريد أن يلبس ابنته الحجاب والبنت لا تريد أن تلبس الحجاب أبداً، فيقول لها: أقسم بعزة الله إن لم تكوني الأولى على المدرسة لألبسنك الحجاب!! أي نكد هذا، يعني لو لم تكن الأولى على المدرسة سنعاقبها ونلبسها الحجاب؟!! أي تربية هذه، فيحصل انطباع عند البنت بأن الحجاب هذا عقوبة، فتكرهه من قلبها، فلا تجعل العقوبة هي الطاعات وأنت تعلّم الولد، إنما عندما يصير للولد أهلية للثواب والعقاب عاقبه إذا أخطأ، لماذا؟ لأن المعاني ستكون مستقرة عنده، فتقول له: لا تعمل هذه، وهو كبير عمره خمس عشرة أو عشرين سنة، فيفهم الموقف، لكن إذا كان الولد صغيراً وقلت له: لا تعمل هذه، هو فهم منها عشرة بالمائة، والتسعين بالمائة في اللعب الذي هو يريد أن يلعبه، فعندما يكون له أهلية عاقبه على قدر استعيابه، لكن طالما كان صغيراً لا تعاقبه، أقلل من العقوبة طالما كان الولد صغيراً، وحفزه دائماً. وأنا أعرف مسجداً افتتح بحارتنا سنوا فيه سنة كبيرة جداً، وهي أنهم وضعوا كيساً من الشوكولاته والحلوى فأمس فقط وجدت أولاد أناس من جيراني لا يدخلون المسجد، ودخلوا المسجد مرة فأخذوا حلوى، وإذا بهم كل يوم في المسجد، فأخذت أتكلم مع الإمام بعد أن خرج الناس وما زال الأطفال جالسين، فاستغربت ماذا يريد هؤلاء الأطفال؟ وأنا لا أعرف السبب، فذكر لي أنهم كل يوم يأتون ليأخذوا حلوى، ألا تنزل هؤلاء الأولاد منزلة المؤلفة قلوبهم، تألف قلوبهم، فربنا عز وجل فرض سهماً في الزكاة للمؤلفة قلوبهم. يعني لو أنّ لديك رجلاً غير ملتزم وتريد منه أن يلتزم لا تكلمه، إنما استخدم رجلاً آخر كسفير بينك وبينه يعطيه هدية منك، وتستطيع بذلك أن تكسر الحاجز النفسي الذي بينك وبينه عن طريق الهدية، والهدية عطية. والصحابة الذين كانوا يأخذون سهم المؤلفة قلوبهم لم يأخذوها بعد ذلك، فقال قائلهم: والله لا آخذ على الإسلام أجراً، لأنه أسلم في البداية من أجل أن يأخذ مالاً، لكن بعد ذلك ما رضي أن يأخذ أجراً، وحسن إسلامه. فكيس الحلوى الذي بثلاث جنيهات تجعل الأولاد الطامحين كلهم يصلون، فالولد الصغير تنطبع عنده كل هذه الأشياء، وأنت من تعظيمك لله ورسوله ولهجك بالثناء عليهما، هذا كله يلاحظه الولد فيرثه، فإذا عظم يبدأ بتدوير معنى آخر بداخله لا تعلم أنت ما هو. هذا ما عجزت أنت عن تحقيقة إذ فرط أبوك في تربيتك، فلا تفرط أنت مع أولادك، أقم الصلاة وآت الزكاة وصم رمضان وحج البيت، كل هذا مبني على معنى (أشهد). هناك جماعة يذهبون للحج؛ لكن لم يحققوا معنى كلمة (أشهد)، وقد رأيت أناساً بعيني على جبل الرحمة في يوم عرفات يدخنون السجائر، وأناساً في الخيمة يشربون المعسل، وانظر إلى شخص جالس في يوم عرفة -الذي يباهي فيه الله عز وجل بالجمع: (أتوني شعثاً غبراً ضاحين) - يشرب السجائر، وآخر يشرب المعسل في الخيمة. هؤلاء لم يحققوا معنى كلمة (أشهد). لما حجيت أول مرة مع الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن خارجون من باب الفندق لقينا رجل مصري وهو يشرب بالشمال، فقال له الشيخ: يا فلان أو يا شيخ -ولا أذكر لفظ الشيخ بالضبط- لا تشرب بالشمال! فرد عليه قائلاً: هذا دواء!! وهل الدواء يشرب بالشمال؟! وأنا توقعت الإجابة، فعندما يقول له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يشربن أحدكم بشماله، ولا يأكلن بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) فيأتي يقول هو: هذا دواء، ليس بأكل ولا بشرب، وهكذا يكون خرج من الحديث فينظره السقيم. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [النساء:10]، فيقول لك: أنا لا آكله -ظاهرية جامدة على اللفظ- لو أحرقته لا أقع تحت الآية، لكن لو أكله يقع تحتها، وما الفرق بين الإحراق والأكل وكله إتلاف، والقصد أنك لا تتلف مال اليتيم، وليس معنى هذا أن تحرقه ولا تأكله فيكون عليك حراماً. فلما قال له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا وكذا قال له: هذا دواء، ولا يوجد أحد من الصحابة إطلاقاً خالف في هذه المسألة، فكل مخالفة في الفعل يأتي بها المكلف سببها أنه لم يحقق معنى كلمة (أشهد) التي تفيد الشهادة والحضور والنظر، سواء كان في شطر الشهادة الأول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو في الشطر الثاني: أشهد أن محمداً رسول الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة نجيب عن بعض الأسئلة

موقف الشيخ ابن باز من حكم الألباني على الأحاديث

موقف الشيخ ابن باز من حكم الألباني على الأحاديث Q سمعنا من بعض طلبة العلم يقولون على لسان الشيخ عبد العزيز بن باز: إن الشيخ الألباني يقول: نتساهل مع بعض الرواة وكذلك التحسين والتصحيح والتضعيف في تحسين الحديث الضعيف، ويقولون: الشيخ ابن باز له تعقب على تحسينات الشيخ الألباني للحديث، فما رأيكم في هذا؟ A فنقول: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ونقول أيضاً: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وأقول ثالثا: إن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، من أشد الناس تعظيماً وتوقيراً للشيخ الألباني، وحدثني بعض أكابر أصحاب الشيخ ابن باز أنه كان في مكة في مجلس يضم الشيخ ابن باز والشيخ الألباني، فأبى الشيخ عبد العزيز بن باز أن يدخل قبل دخول الشيخ الألباني وقدّمه، وقال إنما ينبغي أن يقدم أهل الفضل. ودخل الشيخ ابن باز مرة في بيت بعض الشاميين الذين لا يحبونه وينتقصونه في دروسه العلمية، فالشيخ ابن باز رحمه الله دخل على هذا الرجل، وأنا أعرفه، فالشيخ ابن باز كان يعلم أن صاحب هذا الدار يتكلم على الشيخ الألباني، فدارت مناقشات علمية في بعض الأحاديث، فالشيخ ابن باز قال: هل عندك كتاب إرواء الغليل، وهو كتاب للشيخ الألباني رحمه الله يقع في ثمانية مجلدات، خرج فيه أحاديث منار السبيل، وهو كتاب من مجلدين فقط في الفقه الحنبلي، فالشيخ الألباني خرج أحاديث وآثار هذا الكتاب وحكم عليها بالصحة والضعف أو ما يناسبها في ثمانية مجلدات، فالشيخ ابن باز قال لصاحب الدار: هل عندك إرواء الغليل؟ قال: نعم، قال: ائت به، ماذا قال الشيخ الألباني في هذا الحديث؟ والحديث كان صححه الألباني. فالشيخ ابن باز حفظه الله فقيه، ومن أعف الناس لساناً، وأنا لا أعلم أحداً من العلماء الكبار في السعودية يعظم الألباني كتعظيم الشيخ ابن باز. وأنا قدمت هذه المقدمة حتى أرد على من يقول: الشيخ ابن باز رد على الشيخ الألباني، ويبين أنهم يتناحرون فيما بينهم، والشيخ الألباني ليس معصوماً، وسئل الشيخ ابن باز -ولم أسمع هذا منه مباشرة إنما حدثت عنه- عن الشيخ الألباني فقال: لا أعلم أحداً تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الألباني، وهذه شهادة حق، فأعلم الناس بالحديث في هذا الزمن هو الشيخ الألباني، على رغم أنف الحسود. وليس معنى أنه أعلم الناس ألا يكون له زلة، أو لا يطالب بحكم من الأحكام، بل الشيخ الألباني لما طبعت كتبه الجديدة مثل السلسلة الصحيحة مثلاً رجع عن بعض أحكامه التي حققها منذ ثلاثين عاماً، مثل حديث صحيح رأى أنه ضعيف، وضعيف رأى أنه حسن، وضعيف رأى أنه موضوع إلى آخره، فتغيرت المراتب، وهو نفسه يقول: وحتى لا يظن أحد أن هذا خطأ مطبعي إذا وجدت شيئاً تغير حكمه، فلي أستاذ في السلف من العلماء الذين كانت تتغير أحكامهم، لا سيما الإمام أحمد بن حنبل، والشافعي له مذهبان: مذهب قديم ومذهب جديد، يُقال: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد، وأحمد رحمه الله له أقوال في المسألة قد تصل إلى خمسة، ولم يقل واحد من المنتسبين لـ أحمد ولا غير المنتسبين: إن هذا تناقض من أحمد، بل يحملون قول أحمد على دلالة وقوله الآخر على دلالة أخرى، ويقولون: ربما هذا المتقدم وهذا المتأخر، ويلتمسون الأعذار للعلماء، فلم لا يلتمسون الأعذار لعلماء الحديث، والقول واحد والصورة واحدة. والشيخ الألباني رحمه الله ليس معصوماً، نعم. غلط في الأحاديث وكان الحق مع مخالفيه، فبعض الناس خالفوه في أحاديث حسنها وكانت ضعيفة وكان الحق مع مخالفيه، وكذلك صحح أحاديث والحق مع مخالفيه في أنها مثلاً حسنة أو ضعيفة، ولكن حسنات الشيخ أكبر بكثير من سيئاته. فانتقاد الشيخ ابن باز رحمه الله لبعض ما يكون من الشيخ الألباني ليس هجوماً من الشيخ ابن باز على الألباني، وثانياً النظراء يختلفون. وفي سير أعلام النبلاء قال يونس بن عبد الأعلى رحمه الله وهو واحد من أصحاب الشافعي، قال: اختلفت مع الشافعي في مسألة فجاءني وطرق بابي، ثم أخذ بيدي وقال لي: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة، قال الذهبي رحمه الله معلقاً على قول الشافعي: ما أثمن عقل هذا الإمام! فما زال النظراء يختلفون. والشافعي رحمه الله تكلم على مالك، فلما جاء من العراق إلى مصر ومصر كانت مالكية، فبدأ الشافعي يتكلم وينتقد مالكاً في بعض ما ذهب إليه من أحكام، فهاج عليه المالكية، ومنهم محمد بن عبد الله بن الحسن، وكان قرين الشافعي في الأخذ، وعظم على الشافعي أن يخالف مالكاً، فلزم الشافعي بيته ولم يخرج، لأنهم عظموا عليه أن يخالف مالكاً، فذكر أبياتاً بين فيها أن ما عليه من جناح إن خالف مالكاً، لأن هذا لا يضر، وكذلك خالف الشافعي محمد بن الحسن الشيباني وقد تتلمذ له، ولا زال النظراء يختلفون، ولا زال التلاميذ يخالفون شيوخهم، فما بالك بأعلم رجلين في هذا العصر إذا خالف أحدهما الآخر في مسألة أو في تصحيح حديث، فالمسألة محتملة، لا سيما إذا دخلت في باب الاجتهاد، قد يكون الحكم على حديث داخلاً في باب الاجتهاد، فكلما رسخ السبب والمنطق العلمي كلما أصاب الرمية بتحقيق. نسأل الله عز وجل ألا يجعل في قلوبنا غلاً لعلمائنا ولا للذين آمنوا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

تعليق الإيمان بمشيئة الله

تعليق الإيمان بمشيئة الله Q ما حكم أن يقول الرجل: أنا مؤمنٌ إن شاء الله؟ A يجوز على أرجح أقوال العلماء أن يقول الرجل: أنا مؤمنٌ إن شاء الله، وليس الاستثناء شكاً في الإيمان، خلافاً للمرجئة، وقد قال الله عز وجل عن الأمر المحقق: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، ولم يكن الاستثناء هنا شكاً في دخول المسجد الحرام، بل كان أمراً متحققاً، والله أعلم.

عدة الرجل

عدة الرجل Q يقول السائل: هل الرجل له عدة مثل المرأة؟ A نعم، الرجل له عدة؛ لكن عدة اعتبارية، ليس للرجل عدة كعدة المرأة، ولكن له عدةٌ اعتبارية، بمعنى أنه يمنع من زواج بعض النساء إلى أن ينتهي الأجل، كأن يكون مثلاً متزوجاً بأربع نساء، وطلق امرأةً في هذا اليوم، فإنه لا يحل أن يتزوج امرأةً غيرها حتى تنقضي عدة المرأة الرابعة؛ لأن المرأة التي طلقت لا زالت على عصمته، فالرجل هنا يمنع من الزواج، فلو قلنا إنها عدة فإنها تكون عدة اعتبارية، وكذلك إذا تزوج الرجل بامرأة واحدة وطلقها، فلا يجوز له أن يتزوج أخت امرأته ولا خالتها ولا عمتها في العدة، إذاً: من قال في كتب بعض أهل العلم: إن الرجل له عدة: فهي عدة اعتبارية، بمعنى: أنه يمنع من أن يتزوج صنفاً من النساء لوجود علة، فإذا زالت هذه العلة فله أن يتزوج.

حكم الدروس الخصوصية

حكم الدروس الخصوصية Q سائل يقول: ما حكم الشرع في الدروس الخصوصية؟ A الدروس الخصوصية كثر عنها القيل والقال، والذي وضع القوانين ليس الفقهاء، والقانونيون هم الذين أفتوا بحرمة الدروس الخصوصية، إنما الحكم الشرعي أن الدروس الخصوصية جائزة ومالها حلال، ولا عصيان فيها، بشرط أن المدرس يتقي الله عز وجل، ويقوم بشرح الدرس في حصته كما ينبغي له أن يشرح، وإذا طلب منه التلميذ معلومة فلا يدخرها عنه، ولا يحتكرها، ولا يحجبها، وإذا طلب منه التلميذ أنه يعيد الدرس ثانية أو معلومة ثانية، فإذا وافق ذلك وقتاً في الحصة فينبغي عليه أن يفعل، فإذا فعل المدرس ذلك وجاءه الطالب بعد ذلك يقول: أريد أن تعطيني درساً، فالمسألة تدخل في باب التجارة. فلو أتاني شخص ليستأجر وقتي الذي صار ملكي، أستريح فيه، وأعطيه لأولادي، وانتهى وقت العمل الرسمي، فجاء رجل يستأجر وقتي وجهدي مع أولادي؛ كيف لا أؤجره؟ فإن أنا أجرته وأخذت في مقابله مالاً جاز بالاتفاق، ولم تكن إجارة مكروهة، فضلاً عن أن تكون محرمة، بل هي إجارة صحيحة لا إشكال فيها ولكن بالضابط الذي قلناه، والله أعلم.

حديث: (الوعاء يستخدم) موضوع

حديث: (الوعاء يستخدم) موضوع Q يسأل سائل عن صحة حديث: (الوعاء يستخدم) الحديث A روى هذا الحديث ابن مجدوح لا رضي الله عنه، وهذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.

نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم

نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم Q يقول السائل: أشيع أن كتاب الروح مدسوس على شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، فهل هذا صحيح؟ A لا، لكن بعض العلماء المتأخرين قالوا: إن ابن القيم صنف هذا الكتاب قبل أن يلقى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فبعدما لقي شيخ الإسلام ابن تيمية تنقحت كثير من أفكاره وآرائه، وعليك دائماً بالمتأخر من كتب العلماء، حيث تعمل بمذهبه الأخير، والله أعلم.

عليكم هديا قاصدا

عليكم هديا قاصدا الإسلام دين يسر لا دين عسر، فهو سهل في تشريعاته وأحكامه قال تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) كما أن الله عز وجل قد رفع عنا الحرج في الدين فقال: ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)). وقد جاء في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تدعو إلى التبشير والتيسير، وتنهي عن التشديد والتنفير، ولكن الناس هم الذين يشددون على أنفسهم ظناً منهم أنهم بذلك إنما ينالون مزيداً من الأجر والثواب.

بيان أن الإسلام دين يسر

بيان أن الإسلام دين يسر إن الحمد لله نحمده تعالى، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والسياق للمسند من حديث حصين بن عبد الرحمن ومغيرة بن مقسم الضبي عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش ذات حسب، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما أجد بي من القوة في العبادة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته فسألها، كيف حال عبد الله معك؟ فقالت: عبد الله نعم العبد لربه من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشا، قال: فأقبل علي أبي فعزمني وعضني بلسانه، وقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، ثم شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أتصوم النهار؟ قلت: نعم. قال: أتقوم الليل؟ قلت: نعم. قال: ولكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). قال حصين في حديثه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك). ثم قال له: (كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأه كل يوم، قال: فاقرأ القرآن في شهر، قال: إني أجد بي من القوة أكثر من ذلك، قال: فاقرأ القرآن في عشرة أيام، قال: إني أجد بي قوة، قال: فاقرأ القرآن في ثلاث، ثم قال له: كيف تصوم، قال: أصوم كل يوم، قال: فصم ثلاثة أيام في الشهر، قال: إني أقدر، قال فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً، هذا خير الصيام صيام أخي داود). قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو لما كبر يصوم الأيام متتالية، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، وكان يقرأ القرآن لا يوفي -يعني في اليوم الواحد- لكنه كان يقرأ ويدع غير أنه كان يوفي في كل سبعة أيام، كان يقرأ القرآن مرة، ويقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه كره أن يدع شيئاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفعله. وجاء في صحيح البخاري قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (لعله أن تطول بك حياة) فندم عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شدد على نفسه في أيام إقباله على العبادة. أيها الإخوة الكرام! إن أفضل ما يميز ديننا أنه دين سهل يسير، وقد نفى الله عز وجل الحرج في الدين، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. يقول علماء الأصول: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهكذا في هذه الآية، فلفظة (حرج) نكرة، وجاءت في سياق منفي: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فمعنى هذا أنه لا يوجد أدنى حرج يذكر في دين الله تبارك وتعالى، قوله (من) هي التبعيضية، كما لو قلت: أكلت من الرغيف، يعني: أكلت بعض الرغيف، أو شربت من الماء، يعني: شربت بعض الماء، فـ (من) هنا تبعيضية، فهذا الحرج المنفي نفياً كاملاً، مبعّض أيضاً، وهذا كله يؤكد أنه لا حرج ألبتة في دين الله تبارك وتعالى. ومما يبين أن ديننا يسر: أن الله عز وجل شرع الرخص، والرخصة لا تكون إلا لمزيد من التيسير، والرخصة معناها إسقاط جزء من العزيمة، وهذا كله يبين أن دين الله تبارك وتعالى يسر لكن الرخص لا تناط إلا بالطاعات، يعني لا يجوز أن يستمتع عاص بالرخصة، فإن الرخصة لا يستمتع بها إلا طائع، وإلا فالأصل أن الرجل المنحرف يشدد عليه، لا يرخص له، فلو افترضنا جدلاً أن رجلاً سافر سفر معصية، فلا يحل لهذا الرجل في سفر المعصية أن يقصر الصلاة، ولا يحل له أن يفطر في رمضان. وبهذا الأصل احتج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الذاهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد شد الرحل إليه، لا يجوز له أن يقصر الصلاة، قال: لأن شد الرحل إلى القبر معصية، إنما المسنون هو أن يشد الرحل إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). كذلك المرأة التي تحمل من سفاح، لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنها عاصية، والعاصي لا يستمتع بالرخصة. لكن إذا حملت المرأة من زوجها، وقيل: إن صحتها لا تتحمل، وأن هناك خطورة حقيقية على حياة المرأة، فيكتب الطبيب هذا التقرير ولا يفتي، لأنه لا يجوز للطبيب أن يفتي المرأة بالإجهاض، فالمفتي بناءً على ما يقرأ يقول: نعم، يحل شرعاً للمرأة أن تجهض، فالمرأة التي تحمل من زوجها وعرض لها مثل هذا العارض يجوز لها أن تجهض الحمل، هذه رخصة لها. فإذا أضفت إلى ذلك أن فضيحة المرأة إذا حملت من سفاح أمر أراده الله ورسوله، تأكد أنه لا يجوز لها أن تجهض الحمل، نحن نعلم أن الأصل الستر على المسلم العاصي، فإذا زنى رجل بامرأة وكانا غير محصنين، فحكمهما كما يقول تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فهذا ضد الستر، لماذا؟ حتى تتم العظة وتتم العبرة، فإذا رأى الرجل فضيحة نظيره الذي ارتكس في هذه الفاحشة، وأن الناس يشهدون عذابه، فإنه يحذر أن يقع في مثل هذه المعصية. أما إذا كان الزاني محصناً فالحد الذي أجمع أهل العلم عليه: الرجم، وقد كان الرجم ثابتاً في كتاب الله عز وجل، ثم نسخت الآية ورفع لفظها، وهذا اللفظ رواه الحاكم في مستدركه، وكان لفظ الآية: (إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ثم رفع لفظ هذه الآية وثبت الحكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل إذا زنى وهو محصن -يعني: متزوج- أو المرأة إذا زنت وهي محصنة -أي: متزوجة- فالحكم هو الرجم، فيحفر لكل واحد حفرة في الأرض ويدفن نصفه الأسفل، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]. فهذه الفضيحة جزء أرادها الله عز وجل، وليس فيها ستر على الإطلاق إذا تحقق أمر الزنا، ويتحقق إما بالاعتراف، وإما بظهور الحمل، وإما بأربعة شهداء، فهذه المرأة لا يحل لها أن تجهض حملها؛ لأنه لو جاز لها أن تجهضه فإنها ستمارس الفاحشة أكثر من مرة، لكن إذا علمت أنه لا سبيل إلى الإجهاض على الإطلاق، وأن المسألة فيها فضيحة وفيها قتل إلى آخره، فإنها ستمتنع من مقارفة هذا الجرم، فالرخص في دين الله تبارك وتعالى إنما شرعت للطائع ولم تشرع للعاصي، فوجود الرخص في ديننا أمر يدل على التيسير.

النهي عن وتكلف المشقة في دين الله تبارك وتعالى

النهي عن وتكلف المشقة في دين الله تبارك وتعالى نفى الله تبارك وتعالى الغلو والمشقة في دينه تبارك وتعالى، وهذا كله يدل على الرخصة. قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس وهو بجمع مزدلفة، قال: (القط لي مثل حصى الخذف وإياكم والغلو) حصى الخذف يعني حصيات صغيرة. قال: (إياكم والغلو) يعني: لا تكبر حجم الحصاة مرة رأيت رجلاً جاء مندفعاً كالسهم يحمل حجراً كبيرة، ويقول: يا ابن كذا، وشتم شتمتين يؤاخذ عليها الشرع، فرجم بالحجر فوقعت في العمود فإذا بالحجر ترجع له ثانياً، فهذا الرجم غير محسوب له، طالما أنه ضرب الحجر في العمود ورجعت ثانياً، فعليه أن يعيد الرجم مرة أخرى، لأنه لابد أن تقع الحصى في الحوض. وترى هناك أناساً يضربون العمود بالنعل، فيظن أنه بذلك يضرب الشيطان، فسبحان الله! هذا الرجل الذي عنده غل على هذا الشيطان، نقول له: إن بداخلك شيطاناً يحتاج إلى الرجم كل يوم، الشيطان القابع داخلك والذي يدعوك للفواحش ويجعلك تؤخر الصلاة ولا تقوم بما يجب عليك من دين الله، هو هذا الشيطان الذي يستحق أن يرجم كل يوم. المشقة غير مقصودة على الإطلاق في دين الله عز وجل، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، فليس معنى هذا الحديث أنه كلما قصدت المشقة أجرت، لا. فمثلاً: أردت أن تحج وعندك إمكانية مادية أن تركب الطائرة، فقلت: سأركب سيارة قديمة كي تتعبني، ولكي أكون متعباً طوال الطريق، فيظل يسافر يومين أو ثلاثة أيام، وهو إنما فعل ذلك لظنه أن الأجر على قدر المشقة، فنقول له: لا. الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر على الذين يشقون على أنفسهم تقرباً إلى الله عز وجل. أبو إسرائيل لما نذر أن يقف في الشمس وهو صائم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليقف في الظل). ونذرت امرأة أن تحج ماشية، مع أن بإمكانها أن تركب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله غني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب). إذاً: كون الشخص يقصد المشقة ليؤجر، فهذا ضيق عقل وقلة فهم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) فمعناه: أن المشقة إذا كانت ملازمة للعمل لا تنفك عنه ولا حيلة لك فيه، فهذه هي المشقة التي تؤجر عليها، فإذا لم تكن لك القدرة على السفر للحج فوق الطائرة، وإنما أقصى قدرتك أن تركب بعيراً، فركبت البعير لمدة شهر أو عشرين يوماً، فذهبت إلى هناك وجسمك في غاية التعب، فهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك) لأن المشقة لا تنفك عن العمل، ولا حيلة لك في دفع هذه المشقة، أما أن يقصد شخص المشقة قصداً فهذا ليس من دين الله تبارك وتعالى، وقد ضمن الله عز وجل لنا أن هذا الدين ليس فيه أدنى حرج قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

الأمر بالشيء نهي عن ضده

الأمر بالشيء نهي عن ضده يقول الأصوليون: (الأمر بالشيء نهي عن ضده)، فإذا قلت لك مثلاً: أكرم ضيفك، فأنا نهيتك عن ضده، يعني: لا تهن ضيفك، فالأمر بالشيء نهي -لازم- عن ضده لأن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام اسمه: المنطوق، وباطن الكلام اسمه: المفهوم. ونحن نقصد مفهوم المخالفة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فإن منطوق الكلام -أي: المعنى الذي من أجله وضع الكلام- إذا جاءك الفاسق بنبأ فلا تصدقه حتى تتأكد منه، وباطن الكلام: إذا جاءك العدل الصادق بنبأ فلا تتبين هذا المنطوق والمفهوم من الآية. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، فغير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الحكم إنما علق بالقيد الظاهر وهو الإحرام. فهذا ما يطلق عليه العلماء: مفهوم المخالفة، الذي هو معنى الكلام لا في محل النطق. لكن العمل بمفهوم المخالفة يشترط له: أن لا يكون الكلام خرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب كان المفهوم ملغى، وبسبب الغفلة عن هذا المعنى، ألف أحدهم كتاباً سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب. فلما رد عليه الناس وسفهوه وقالوا: إنه جاهل، وعندما نشر الكتاب مرة أخرى توجع وقال: إنهم ما قرءوا الكتاب، ولو قرءوه لوجدوا أنني على حق. فهذا عجيب! لأن العنوان يدل على الحكم، فلو كان العنوان موهماً أو غير واضح، فله أن ينكر على الذين أنكروا عليه لكن الكتاب الذي ألفه لا يحتاج إلى قراءة؛ لأنه وضع الحكم في العنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فلو ألف أحد كتاباً -مثلاً- وسماه: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، فهل نحتاج إلى قراءة الكتاب حتى نحكم على مؤلفه. وتوجد عناوين موهمة قد تعطيك عكس ما في الكتاب، وبعض الناس يعتبر هذا فناً، لكن هذا خطأ، فمثلاً: الشيخ أبو بكر الجزائري له كتاب اسمه: إلى التصوف يا عباد الله، فأي أحد يقرأ العنوان يقول: هذا يدعو إلى التصوف، لكن الكتاب هجوم على التصوف، فلماذا وضع هذا العنوان؟ قال: لأنني أريد أن يقرأ الكتاب المتصوفة أنفسهم، فالمتصوف عندما يرى عنوان الكتاب: (إلى التصوف يا عباد الله) يقول: هو هذا الذي أريده، فيأخذ الكتاب ويقرأه، فإذا به يفاجأ أن الكتاب يرد عليهم، فلربما تعجبه كلمة أو كلمتان فيرجع عن مذهبه المنحرف، فالكلام هذا فيه نظر؛ لأن العناوين أنساب الكتب، ولابد أن يكون العنوان مطابقاً لما في الكتاب. والسيوطي له رسالة اسمها: إسبال الكساء على النساء، فعند قراءتك لعنوان الكتاب تظن أنه يتكلم عن الحجاب واللباس والنقاب، مع أنه يتكلم عن المرأة هل ترى ربها في الآخرة أم لا؟ فما علاقة إسبال الكساء على النساء؟ قال: لأن الذين يقولون إن المرأة لا ترى الله عز وجل يكون عليها إسبال فلا ترى الله. تشتري الكتاب على أساس أنه كتاب في اللباس والزينة، وإذا بك تفاجأ أن الموضوع مختلف تماماً. قال صاحب كتاب: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، بعد أن انتقده الناس على هذا العنوان قال: إن مفهوم المخالفة لا يعمل به؛ لأننا لو عملنا بمفهوم المخالفة فسنقع في عدد كثير من الإشكالات. قال: الإشكال الأول: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فلو أخذنا بمفهوم المخالفة، فإنه يجوز أن نأكل ضعفاً واحداً. الإشكال الثاني وهو: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فمفهوم المخالفة: أنه يجوز الرفث والجدال والفسوق في غير الحج وبدأ يأخذ آيات وأحاديث على مثل هذه الوثيقة، كل هذا لأجل أن يرد على العلماء الذين احتجوا على النقاب بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس قفازين) إذاً: ما هو الرد؟ نقول: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فالعرب عندما كانوا يضعفون الربا نزل الكلام تنبيهاً على غالب ما يفعلون، وإلا فربنا سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، (ما) من صيغ العموم تفيد القليل والكثير، لكن نزل هذا الكلام تنبيهاً على ما كان العرب يفعلونه. فمثلاً: الربيبة هل يجوز للرجل إذا دخل بأمها أن يتزوجها؟ مثلاً: امرأة زوجها مات وعندها بنت صغيرة، فأنت تقدمت وتزوجت هذه المرأة، فابنتها تكون ربيبة بالنسبة لك، يقول سبحانه وتعالى في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، فإذا خطبت الأم ولم تدخل بها فإنه يجوز لك أن تطلقها وتتزوج ابنتها، لكن لو عقدت على البنت تحرم عليك الأم إلى يوم القيامة، والبنت لا تحرم عليك إلا إذا دخلت بالأم. قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، في حجوركم: الحجر يعني أنت الذي تربيها، فأنت عندما تزوجت الأم أتت بابنتها معها، فصارت البنت في حجرك. فإذا افترضنا أن هذه المرأة التي لها بنت قرر زوجها الأول أن يأخذ البنت ويربيها فإنها بهذا لن تكون في حجرك فالسؤال هو: هل يجوز أن تتزوجها؟ لأن الآية تقول: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، فمفهومه هدر. قولنا: (خرج مخرج الغالب) فإنه لما كانت العادة أن الأم تكون حاضنة لمثل هذه البنت، فتأخذها إلى بيت زوجها الجديد، بخلاف العكس، فكان هذا هو غالب فعل الناس، فنزل هذا القيد على الغالب من فعلهم، فهذا لا مفهوم له، لأن الكلام خرج مخرج الغالب. قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، لا يأتي أحد ويقول: افرض أنهن لم يردن تحصناً فهل يجوز أن نكرههن على البغاء؟ نقول: لا؛ لأنه كان من غالب أمرهم أنهم كانوا يكرهون الفتيات على البغاء، فنزل الكلام منزل الغالب. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) غير رمضان، قوله: (وزوجها شاهد) فلو سافر زوجها وقال لها: لا يحل لك أن تصومي أي صيام تطوع وأنا غائب، فهل تطيعه أم لا؟ نعم، تطيعه، لكن مفهوم المخالفة أنه يجوز لها أن تصوم وهو غائب؛ لأن كلمة (شاهد) خرجت مخرج الغالب؛ لأن الرجل إنما يحتاج إلى امرأته وهو شاهد، فلعل المرأة تستأنف الصوم -صيام التطوع- وهو يريدها فتكدر عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام راعى المسألة هذه، لأن شهود الرجل فيه حاجة له، لكن غيابه ما فيه أية حاجة له من أمرأته، فيكون هذا القيد خرج مخرج الغالب، وإلا فلو نهاها وهو غائب لا يحل لها أن تصوم. والعلماء لا يختلفون أن دلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم؛ لأن المنطوق هو الذي وضع لأجله الكلام ابتداءً، فلو تعارض منطوق ومفهوم، فإنه يقدم المنطوق؛ لأنه أقوى في الدلالة، فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] هذا منطوق فلو أنه لم يكمل الآية فإننا سنفهم أنه لا يريد بنا العسر بدلالة المفهوم، لكنه أتى بنفي العسر أيضاً بدلالة المنطوق، ليكون أقوى، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] تأكيد، فهذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى لما شرع لنا هذا الدين أراد بنا اليسر.

الكلام على مسألة الأخذ بالأحوط

الكلام على مسألة الأخذ بالأحوط هناك مسألة خطيرة، وهي مسألة: الأحوط الأحوط هذا يلتحق باليسر أو بالعسر؟ يلتحق بالعسر مثلاً: أتاك رجل وقال لك: أنا كهربائي وقد طلب مني صاحب مقهى أن أصلح له الكهرباء، وهذا المقهى تشرب فيه الشيشة ويلعبون فيه طاولة وكلها معاصٍ في معاصٍ؛ فهل يجوز لي أن أصلح لهم الكهرباء أم لا؟ هو لماذا سأل؛ لأن عمل الكهرباء حلال، واللعب هذا حرام، فحصل له شبهة، فجاء يسأل، فتقول له: الأحوط أنك لا تصلح لهم الكهرباء. فتكون بهذا قد ضيعت عليه صفقة عمل بسبب الأحوط. فالأحوط معناه: الأشد فالأشد. مثال آخر: ما يحكون عن أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه رجل فأخبره أن شاه سرقت منه فذهب أبو حنيفة لرجل قصاب أو إلى -راعي غنم- يعرف أسنان الماشية فسأله: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: أقصى مدة عشر سنين، فحرم أكل لحوم الشياة على نفسه عشر سنين، لماذا؟ قال: لأن السارق قد يكون باعها لجزار فلعلي أشتري من ذلك الجزار فأكون قد أكلت حراماً، لكن الأحوط لي أن أمتنع عن أكل لحم الشاة عشر سنين فلا شك أنه أخذ بالأحوط، فالأحوط هنا معناه الأشد المفتي عندما يستخدم كلمة الأحوط فإنه يضيق على الناس، ويضيع اليسر في دين الله، الذي تكفل الله لنا أن يكون يسيراً، فإذا كان المفتي ممن يأخذون بالأحوط، فإنما هو من الجهلة أصحاب البضاعة القليلة. يقول سفيان الثوري رحمه لله: إنما الدين الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد. يعني مثلاً: إنسان ليس عنده علم ولا ترجيح، فعندما تسأله يقول لك: يا أخي! الأحوط أنك تترك وتستريح؛ لأنه عاجز عن تحقيق المناط. في قرن من القرون كانت الحرب على أشدها بين الشافعية والحنفية، فقد كانا أكثر المذاهب تناحراً؛ لأن أكثر سواد المسلمين إما أحناف وإما شافعية، والأحناف أكثر؛ لأن أكثر بلاد العجم أحناف، ثم الشافعية، ثم المالكية، ثم الحنابلة، فكانت الحنفية والشافعية في شجار دائم، فيحكى أن رجلاً شافعياً تصدر للإفتاء -وأنتم تعلمون أن المذهب الشافعي فيه مذهب قديم ومذهب جديد- فكان عندما يسأله أحد يقول: للشافعي فيه قولان -الذي يحكي هذه الحكاية شخص حنفي، وأنا لا أستبعد أن تكون مكذوبة أو موضوعة- فقال أحد الأذكياء له -وهذا الذكي لابد أن يكون حنفياً- فقال له: أفي الله شك؟ فقال ذلك الرجل: للشافعي فيه قولان المفتي عليه أن يفتي بالراجح، وله أن يتورع في نفسه إلى أقصى حد، فإذا أراد أن يمتنع عن أكل اللحم فهو حر في نفسه، لكن لا يجوز له أن يحرم على غيره لاحتمال أن يكون اللحم مسروقاً ويبتدئ ينظر له هذا التنظير، وعليه فورع المتقين لا يثبت حكماً. يبقى الأصل بالنسبة للإفتاء: أن يتحقق الرجل من الدليل، فإذا لم يستطع أن يرجح فعندنا الأدلة القاضية باليسر ورفع الحرج وهي أدلة محكمة غير منسوخة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، هذا أصل عندنا، فإذا لم تستطع تحقيق المناط وعرض عليك أمران، وليس فيهما إثم -هذا شرط- ليس فيهما إثم فعليك بالأيسر، لأن هذا هو المناسب للأدلة العامة بنفي الحرج عن دين الله تبارك وتعالى.

نفي الحرج عن دين الله عز وجل

نفي الحرج عن دين الله عز وجل حرّج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه على نفسه كثيراً، والرسول عليه الصلاة والسلام من دينه ومن سنته أنه كان ييسر دائماً، كان عبد الله بن عمرو بن العاص من العباد، ففي صحيح ابن حبان يقول: جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة، هذا شيء عجيب مدهش، قال أحدهم: كان القرآن ما زال ينزل، قلت له: فليكن الذي نزل عشرون جزءاً، يعني أنه كان يقرأ كل ليلة عشرين جزءاً في قيام الليل. فهذه المعاهدة للنفس من ثمرتها: الأنس بالفعل، كما قال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة، واستمتعت به عشرين سنة، أول سنة هي سنة التعب والمجاهدة، فيظل في صراع دائم مع الشيطان إلى أن يتعود وتصير له ملكة، فيبدأ يشعر بلذة القيام، ويشعر بالراحة والرضا والأنس، فهذا هو الذي حصل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد كان يشعر بالأنس والرضا والراحة عندما يصلي، فصار قيام الليل سجية بالنسبة له، لاسيما وقيام الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام مرة: (يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه) فذمه على ترك قيام الليل، والإمام البخاري رحمه الله بوب في صحيحه باب: أن قيام الليل ينجي من النار، وروى تحته قصة لطيفة جداً أو حديثاً ظريفاً لـ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يقول عبد الله بن عمر: كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤى فيقصونها على النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت فيها بشارات، فقد جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: بينما أنا نائم رأيت حبلاً معلقاً في السماء وفي آخره حلقة، فأمسكت بتلك الحلقة ثم استيقظت من النوم وأنا ممسك بها، فقال: (عبد الله مستمسك بالعروة الوثقى) فجاءت البشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مستمسك بالعروة الوثقى. وجاء آخر فقال: رأيت في المنام أني في روضة خضراء وفيها خيمة، وأنا قاعد فيها، فقال له: (أنت تموت على الإسلام) فكان عبد الله بن عمر بن الخطاب يتمنى أن يرى رؤيا، وقد تحققت أمنيته ولكنها كانت رؤيا مفزعة قال: رأيت ملكين يجراني إلى النار، فقال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار، حتى أوقفوني على شفيرها، فإذا هي مطوية كالبئر -البئر يطلق على الحفرة المبني حولها، أما إذا لم يُبنَ حولها شيء فتسمى: قليباً- وإذا فيها أناس معلقون من أرجلهم عرفتهم -أو قال: عرفت بعضهم- قال: وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، قال: فأخذني منهم ملك، وقال لي: لم ترع، أي لا تخف فاستحيا أن يقص هذه الرؤيا على النبي عليه الصلاة والسلام فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت البشرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) وفي اللفظ الآخر قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، قال راوي الحديث: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. وفي سنن النسائي حديث جميل يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليضحك إلى عبد كان يسير مع أصحابه في رفقة فعرسوا -ضربوا خيامهم واستعدوا للنوم- وكان النوم أحب شيءٍ إليهم، فناموا فقام هو فتوضأ يتملق ربه بركعتين) يضحك الله لهذا الرجل، لأنه آثر القيام لله عز وجل على النوم الذي هو أحب شيء فقام وتوضأ وصلى ركعتين، وصف قدميه بين يديه يتملق، أي: يتزلف ويتقرب من الله عز وجل. فكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويقرأ ما جمعه من القرآن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فصار عنده ملكة.

بيان تواضع النبي ووجوب الاقتداء به

بيان تواضع النبي ووجوب الاقتداء به وكان أبوه يريد أن يزوجه ولكن عبد الله لم تكن له رغبة في الزواج، ومع ذلك زوجه امرأة ذات حسب من قريش، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فلما أدخلوها علي. العادة أن الرجل هو الذي يدخل على المرأة لا العكس. أنا اخترت رواية الإمام أحمد وإن كانت رواية البخاري قريبة منها، لأن رواية أحمد فيها فوائد. يقول: فلما أدخلوها علي جعلت لا أنحاش لها -لا يريد أن يقترب منها ولا يراها- مما أجد بي من القوة في العبادة، لما أدخلوها عليه تركها وقام يصلي، فبدأ يصلي وترك زوجته دون أن يقربها أو يمسها. علم عمرو بن العاص رضي الله عنه أن ابنه سيفعل هذا الشيء وأنه لن يلمسها، فذهب في الصباح الباكر وسأل كنته -الكنة: زوجة الابن- ما حال عبد الله معك؟ قالت: والله كخير الرجال، نعم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، انظر إلى المرأة وحيائها، فإنها لم تفضحه وإنما قالت: كخير البعولة؛ لأن العبد إذا كان مقبلاً على الله تبارك وتعالى وبمثل هذا الجد في العبادة فهو خير الناس، قالت: نعم العبد لربه، غيره أنه لم يعرف لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فأقبل علي أبي فعزمني العزم -هو أشد اللوم- وعضني بلسانه، هل سمعت بلسان يعض؟ المقصود هنا هو: الشتم، وقال له: أنكحتك -يعني هو الذي زوجه غصباً عنه، لأنه ما كان يريد أن يتزوج- أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، أي: شققت عليها، ولم تقم بما يجب عليك نحو أهلك، فلما يئس منه قال: لا يوجد أحد سيحل لي المشكلة هذه غير الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وشكاه، قال: فذهب أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكاني، فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القني به)، يعني: رتب لي معه موعداً، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الروايات الأخرى في الصحيح، قال: فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، وهذه الرواية أبلغ في إظهار الأدب، ورحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأصحابه، فالإنسان لا ينبل إلا إذا فعل ذلك، واليوم عندما نقول لأحد الدعاة المتصدرين للدعوة في سبيل الله عز وجل: لا يضرك أن تذهب إلى الناس وتدعوهم، لا تنتظر حتى يأتيك الناس فإن الزمان تغير، فقال: أنا لا أذل العلم، ويقول: قال مالك: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه نعم يا أخي! هذا كان أيام مالك، لكن نحن في زمان ضاع فيه العلم، فالمفروض أننا لا ننقل الكلام في زمان مالك إلى زماننا إذا تغير المقتضى. إن الذين تكلموا على أهل البدع، وقالوا: لا يجوز أن تتكلم مع مبتدع ولا أن تذهب وتتلطف معه، بل اضربه بنعلك، وابصق في وجهه، لماذا؟ قال: لأن الأئمة كانوا يقولون هذا، منهم: أحمد بن حنبل، وأيوب السختياني، وعمرو بن دينار، نعم يا أخي! عندما قال أحمد بن حنبل: إذا قابلت المبتدع فابصق عليه، لأنه كان هناك ألف رجل مثل أحمد بن حنبل، والسنة ظاهرة، والدين ظاهر، والمبتدع غريب، وكانوا يستعدون السلطان على المبتدع شعبة بن الحجاج رأى رجلاً يحدث بأحاديث كاذبة، قال: لو رجعت إلى التحديث بها لاستعديت عليك السلطان، فكان يذهب إلى السلطان ويقول له: هناك رجل يحدث أحاديث منكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه السلطان ويسجنه مباشرة. فهؤلاء كانوا الدولة وكانت لهم وكانوا متظاهرين وكثرة كاثرة. هذه الأيام الدولة لأهل البدع في كثير من الأماكن، فلو أننا تركنا نصيحتهم وتركناهم وما دعوناهم، فمن الذي سيبلغ لهم الكلمة؟ فلا ننقل الكلام الذي قاله مالك في أيام العز وأيام الجاه وأيام القوة ونستخدمه في أيام الضعف والهوان، لا. المقتضى تغير وكلام السلف على عيوننا ورءوسنا. سأل أحدهم شيخ الإسلام ابن تيمية: هل آية السيف نسخت آية الدعوة واللطف؟ فقال: لا. من كان ذا ضعف فليعمل بآية العفو، ومن كان ذا قوة فليعمل بآية السيف إنما الدعوة بالحسنى، فإذا كنت مستضعفاً وفي مكان ضعيف لا تستطيع أن تستخدم السيف استخدم {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، وإذا كنت ذا قوة استخدم آية السيف، والخوارج آفتهم كما قال ابن عمر: أتوا بآيات أنزلها الله في الكافرين فجعلوها في المسلمين، وهذا حاصل في هذه الأيام مثلاً: رجل قرأ حديثاً في أحد الكتب فأعجبه فقرر أن ينسخ منه ألف نسخة ويعلقه في المساجد، والحديث ضعيف، وهو ليس له علم بذلك ولا يعلم شيئاً اسمه ضعيف أو موضوع، فعندما قرأ أحدهم هذا الحديث قال: من الذي علق الحديث هذا؟ قالوا: هذا شخص أعجبه هذا الحديث، فطبعه وعلقه في المساجد فقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] فالرجل ليس عنده فكرة عن الموضوع أصلاً، فيقوم يأتي بهذه الآية التي نزلت في الكافرين، وإلا كان المفروض أن يذهب إلى هذا الرجل الذي علق الحديث وينصحه ويخبره أن الحديث موضوع ولا يجوز نشره بين المسلمين. مسألة رعاية المقتضى مسألة مهمة في نقل الكلام. سفيان الثوري الرجل العابد الزاهد الذي خشي في آخر حياته أن يختم له بالسوء، لما بكى وهو يحتضر سأله يحيى القطان: أتبكي خشية ذنوبك؟ فتناول قشة على الأرض، وقال: (والله لذنوبي أهون علي من هذه إنما أخشى سوء الخاتمة) فهؤلاء الأئمة الكبار العباد الزهاد، كانت لهم أقوال، فنحن إذا أردنا أن ننقل أقوالهم فيجب أن نراعي المقتضى الذي قيل فيه، فصاحبنا عندما يقول: العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه فإنه بهذا سيضيع العلم؛ لأنه لن يأتيك أحد، فينبغي لك أن تذهب إلى هؤلاء وتعلمهم. ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن عمرو وطرق عليه الباب، لكي ينظر في المسألة؛ لأنه وقع ظلم على امرأة مسلمة. وفي كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله، في ترجمة الشافعي، قال يونس بن عبد الأعلى -تلميذ الإمام الشافعي -: تناظرت مع الشافعي في مسألة واختلفنا، قال: فجاءني الشافعي إلى بيتي فطرق بابي، وقال لي: (ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: ما دام أن الخلاف في المسائل الفرعية وليس في الأصول. يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذا: ما أكمل عقل هذا الإمام رحم الله الشيخ عبد الحميد كشك، فقد كانت له عادة جعلت كثيراً من الناس يتعلقون به، فقد كان يوم الخميس عنده يوم الفقراء، فكان يذهب إليهم ويجلس معهم في بيوتهم البسيطة، وكان لهذه الزيارات مفعول السحر، فقد كان يصلي وراءه أكثر من خمسين ألف مسلم، ومسجده الذي كان يصلي فيه كانت تغلق أبوابه يوم الجمعة الساعة التاسعة صباحاً لا موضع لقدم، حتى أن أحدهم يقف على الباب يمنع أي داخل والمسجد كان حوالى خمسة أدوار، والشوارع على بعد اثنين من الكيلو مترات كانت مليئة، وكان يخطب بتسعة وخمسين مكبر صوت، فتعلق الناس به لأنه كان متواضعاً، فكان يذهب للفقراء كل يوم خميس، وكان يمر على الفقراء ويقعد مع كل واحد ربع ساعة، فهذا شرف كبير لهذا الفقير، فإنه يشعر بالعز عندما يدخل عليه أحد الواعظين المشاهير ويشعر بأن له قيمة. كان الأعمش رحمه الله يقرب الفقراء من مجلسه، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت الأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع فقره وحاجته كان فقيراً ومحتاجاً، ومع ذلك كان الغني أذل في مجلسه، والفقير كان أقرب، يقوم الفقير وهو يشعر بالعز، ويشعر أن له قيمة في الدنيا فأنت عندما تذهب إلى الناس بنفسك فهذا خلق راقٍ جداً من أخلاق الدعاة إلى الله عز وجل، ونصر لدعوتك في نفس الوقت.

إرشاد النبي لعبد الله بن عمرو

إرشاد النبي لعبد الله بن عمرو قال: فجاءني الرسول عليه الصلاة والسلام في منزلي وقال: (يا عبد الله! بلغني أنك تصوم النهار؟ قال: نعم، وتقوم الليل؟ قال: نعم) فإذا كان كذلك فمتى ينام، ومتى يذهب للعمل، ومتى يأكل؟ الله عز وجل هو الذي يزيل التعب عن البدن وليس كثرة النوم، فبعض الناس ينام الساعات الطويلة ثم يستيقظ من النوم وهو مرهق جداً، وقد كان بعض السلف يدعو فيقول: اللهم اكفنا من النوم باليسير. وكان بعضهم ينام قليلاً لكنه يستيقظ وهو نشيط، فما هو الدواء الذي يجعلك إذا نمت أن تقوم نشيطاً؟ الدواء هذا رواه الشيخان وهو: أن فاطمة رضي الله عنها كانت تدق النوى حتى تورمت يداها فجاء أعبد من البحرين، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب، فقال لـ فاطمة: اذهبي إلى أبيك فاستخدميه، فجاءت إلى أبيها تطلب خادماً، والبنت الوحيدة تكون عزيزة كثيراً على الأب، وإذا كان هناك أب يحب ابنته أقصى الحب فإنه لن يبلغ حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة، ورضا فاطمة من رضا الله عز وجل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها)، ومعروف أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء لله عز وجل، وكان شديد الحب لها، فجاءته تستخدمه، وأرته يديها، فقال لها: (بنيتي! أفلا أدلك على خير من خادم؟) فما هو هذا الشيء الذي هو خير من خادم؟ قال: (إذا أويت إلى فراشك، فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمديه ثلاثاً وثلاثين، وكبريه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم). كيف ذلك؟ لأنها عندما تقول هذه الأذكار فإن الله عز وجل يزيل عنها التعب، فتقوم نشيطة، فيكفيها هذا عن الخادم، قوله: (خير من خادم) قيل: لأن الحاجة إلى الناس ذل حتى ولو كان عبدك، كونك تقول له: اعمل كذا. هذا ذل، فالعز في الاستغناء عن الناس. عبد الله بن عمرو رجل ذاكر وهو في معية الله تبارك وتعالى، فإذا نام وأغفى فإنه كإغفاءة الطائر، فالله عز وجل يذهب التعب عن بدنه ويستأنف العمل. فالرسول عليه الصلاة والسلام أول ما رآه بهذا الجد، قال له عبارة مهددة، وهذا من الفقه الذي نتعلمه من الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو جاءك شخص وهو خائف من النار ومن عذاب الله فلا تقرأ عليه آيات النار بل آيات الترغيب، لكن إذا جاءك وهو مستهين وليس مهتماً فاتل عليه آيات النار. مرة جاءني رجل كان في الأردن، غاب في الأردن عشر سنوات، فقال لي: أنا ما تركت ذنباً إلا ارتكبته واستكثرت، فقد شربت الخمر، وزنيت، وقتلت، وكذلك مارس هذه المعصية المرذولة بعد عودته لمدة سبع أو ثماني سنوات فقال لي: لي توبة؟ فسكت قليلاً، فأول ما سكت، قام فاقترب مني، وقال لي: ماذا يعني سكوتك؟ ليس لي توبة؟ فرأيت وجهه قد احمر وعيناه اغرورقتا بالدمع، فلو أني قرأت عليه آية من النار فإنه سيموت، فسكت ولم أتكلم، فرأيته قد توتر وبدأ جسمه يرتعد، لأنه ارتكب ذنوباً كثيرة وأراد أن يتوب، فرأيت علامات التوبة عليه، فعلمت أن هذا الرجل لو قرأت عليه آية من آيات النار سيموت، فقرأت الآية التي في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فبدأ الرجل يستريح شيئاً فشيئاً، وأنا أتكلم أريد كذلك أن أبين له خطورة الأمر الذي عمله لكي لا يستهين، فهذا الرجل لو قلت له: لا توبة لك، وتقول: لأنك سرقت وظلمت يا ظالم يا فاسق، فإنه ربما يموت فيها. الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل، الذي ترك المرأة في ليلة الزفاف ما ينفع معه إلا التهديد، فقال له: (لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، كلام قوي جداً، فمراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو تدل على أنه لا يريد أن يسمع الكلام فقط، وإنما يريد أن يظل على هذا الجد، فقال له: (من رغب عن سنتي فليس مني) فهذا تهديد. الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى امرأة عثمان بن مظعون عند عائشة، فرآها رثة الثياب ذابلة، فقال: (يا عائشة! ما أبذ هيئة خويلة؟) ما الذي جعل هيئتها بهذه الرثاثة؟ قالت: يا رسول الله! إنها عند رجل يصوم النهار ويقوم الليل، فأهملت نفسها وأضاعتها، فأرسل لـ عثمان بن مظعون، قال: (يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قال: يا رسول الله! بل سنتك أطلب، قال: فأنا أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) يقول هذا الكلام القوي للصحابي لكي يوقفه؛ لأن عنده شغفاً وإقبالاً شديداً، فالذي عنده إقبال شديد لا يصده شيء هين، إنما يصده شيء قوي، (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ثم قال له: (إن لكل عمل شرة وفترة). الشرة: هي شدة الإقبال، والفترة: هي الشعور بالفتور، وفي الفترة قد يتحول الشخص عن طريق السنة إلى طريق البدعة، وفي الفترة يشعر المرء بالخمول والملل، ويريد أن يعتزل ويقفل الباب على نفسه، فلا يريد أن يكلم أحداً ولا أن ينظر إلى أحد. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لكل عمل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك). دخل الرسول عليه الصلاة والسلام على زينب فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقيل له: هذا حبل زينب، تقوم الليل إلى أن تعجز قدماها عن حملها فتمسك بالحبل وتقرأ وتواصل الصلاة، نحن نذكر هذه الأحاديث للنساء، لأن العبادة والجد قليل في النساء، قالوا: وذلك بسبب الأولاد والزوج والمطبخ، وهذا الكلام غير صحيح، فالمرأة لابد أن تعمل لربها وأن يعينها زوجها على ذلك، فلابد أن يكون لها فترة تخلو فيها بالله تبارك وتعالى، لكي تواصل الجد والعطاء، فـ زينب رضي الله عنها من كثرة التعب تمسك بالحبل لكي تستريح، فقال عليه الصلاة والسلام: (حلوه، عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) أي: إن الله لا يمل من إعطاء الثواب حتى نمل من العمل. قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرأ القرآن كل ليلة؛ فقال له: اقرأ القرآن في شهر؟ قال له: إني أجد بي قوة، فقال: اقرأه في عشرة أيام، قال له: إني أجد بي قوة، قال: اقرأه في ثلاثة أيام، وفي الرواية الأخرى قال له: (فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه). ثم قال له: كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم. فقال: صم ثلاثة أيام من الشهر، قال له: أقدر، فجعل يرقى به إلى أن قال له: (صم صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فذلك خير الصيام). كان عبد الله بن عمرو شاباً في تلك الأيام، وكثرة العبادة والقوة فيها إنما تكون في الشباب، كانت حفصة بنت سيرين تقول: (يا معشر الشباب! اعبدوا الله في الشباب فإني رأيت العبادة في الشباب). فالشاب يستطيع أن يتحمل الأشياء الشاقة، لكن من بلغ ثمانين سنة اشتكى من غير علة، فظهره يبدأ ينحني، ولا يستطيع أن يمشي إلا على عكاز، ويقعد على كرسي في صلاة الفرض. بعض الشباب عندما تقول: اعبد الله يقول لك: إن شاء الله لما أتقاعد على المعاش سأعبد ربنا وسأتفرغ للعبادة، لأني لن أذهب إلى دوام ولا إلى شغل ولا غيره، فأول ما يتقاعد على المعاش يقعد على القهوة، فتقول له: أنت كنت تقول: سأقعد أعبد ربنا، فيقول لك: أنا أشعر بملل وزهق، لماذا؟ قال: أنا طول عمري شغال، ما تعودت أقعد القعدة هذه. عبادة الله مع الوقت تصير عادة وملكة، فالذي تعود على الصلاة من صغره فإن الصلاة تكون عليه سهلة، أما لو كان مفرطاً في حدود الله عز وجل منذ صغره فإذا أراد أن يعبد الله وهو كبير فإنه لا يستطيع فالعبادة في الشباب. فـ عبد الله بن عمرو بن العاص لم يعلم أنه عندما يشيخ ويكبر يعجز عن هذا الجد، فكان لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ضعُف، فكيف كان يعمل؟ كان يفطر عشرة أيام من أجل أن يتقوى، وبعد ذلك يصوم عشرة أيام، لأنه لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإذا كان مثلاً يقرأ القرآن في ثلاث، فإنه كان يقرأ في اليوم عشرة أجزاء مثلاً، ولكن بعد أن كبر لم يعد يستطيع أن يقرأ كما كان يقرأ في شبابه فكان يقرأ المصحف في سبعة أيام، وكان يقسمه بين هذه السبعة الأيام حتى يكمله. وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لماذا لم يترك العمل ويستريح وعليكم هدياً قاصداً كره عبد الله بن عمرو بن العاص أن يقل عمله عما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد ألا يقل عمله حتى لا يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قل عما تركه عليه، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص ندم أنه لم يقبل الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الحيل

الحيل الحيل: جمع حيلة وهي القدرة على التصرف، وتنقسم إلى قسمين: حيل مذمومة وحيل محمودة؛ فالمذمومة هي التي يتوصل من خلالها إلى ما حرم الله بطريقة ماكرة، وأما المحمودة -وهي التي يسميها أهل العلم بالمعاريض- فضابطها أن يتحيل المرء بحيلة ليدفع عن نفسه ضرراً أو ليجلب بها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً، فمن أحسن استخدام الألفاظ في المعاريض تجنب الحيلة المحرمة وبالتالي نجا من الكذب.

الحيلة وأقسامها

الحيلة وأقسامها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:11 - 13]. لما وقع موسى عليه السلام في يد فرعون، وهو كما وصفه الله عز وجل: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39]، وطار لب أم موسى لما علمت بذلك، فأرسلت أخته لتتبع أثره، وهذا معنى قوله تعالى: ((قُصِّيهِ))، وأصل القصص هو تتبع الأحداث، قال تعالى في قصة موسى والخضر: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، أي: انثنيا راجعين على طريقهما الذي جاءا منه مرةً أخرى يقصان الخطا حتى يرجعا إلى الخضر؛ لأن ذلك بغيتهما. ((فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ)) أي: أبصرته من بعدٍ وهي تتابعه، وأهل فرعون لا يشعرون أنها أخته. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، (مراضع): جمع مرضع، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. ((فَقَالَتْ)) أي: أخته التي تقص أخباره: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، احتج بهذه الآية بعض من رخص في الحيل؛ وذلك أن أخت موسى عليه السلام احتالت ولم تظهر شخصيتها في هذا الموقف، بل قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]؛ كأنها لا تعرفه، فرخصوا في الحيل، وذكروا في ذلك جملةً من الأدلة منها هذا الدليل. فاعلم أيها المستغفر: أنه لا يخادع الله أحد إلا خدعه الله، كما قال عبد الله بن عمر: من يخدع الله يخدعه، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] على الحقيقة. الحيل: جمع حيلة وهي القدرة على التصرف، والحيل تنقسم إلى قسمين: حيلة مذمومة، وحيلة محمودة.

ضابط الحيلة المذمومة وأمثلتها

ضابط الحيلة المذمومة وأمثلتها أما الحيلة المذمومة لأنها من جنس حيل اليهود، أن يحتال الشخص إلى ما يريد، إما بطريق مباحٍ إلى محرم، وإما بطريق محرم إلى محرم، فهذا كله حرام، وتشتد الحرمة إذا أخطأ الطريق إلى المراد، فكل من تحيل حيلةً ليحل ما حرم الله عز وجل فهو من أتباع اليهود في ذلك، وقد ذكر الله عز وجل ضرباً من حيل اليهود، فقال تبارك وتعالى في سورة الأعراف، وهو يقص علينا قصة بني إسرائيل مع الحيتان؛ وذلك أن الله عز وجل لما حرم على بني إسرائيل صيد الحيتان يوم السبت -كما قال السدي وغيره- جاءوا إلى النهر العظيم وحفروا حفراً، وهذه الحفر فيها ماءٌ قليل بينها وبين النهر قناةٌ صغيرة، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت بكثرة، حتى أنها كانت ترفع رءوسها من الماء، فإذا جاء يوم الأحد لزمت الحيتان قاع البحر، ولم يظهر حوتٌ واحد، فتحيلوا، فبدأ رجلٌ واحد منهم فحفر حفرة، وجعل بين الحفرة والنهر الكبير مسرباً، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان فدخلت الحفرة، فإذا أرادت أن ترجع إلى النهر مرةً أخرى عجزت لقلة الماء في الحفرة، فيأتي يوم الأحد ويأخذ الحيتان. وفي روايةٍ أخرى: أن رجلاً من هؤلاء ذهب يوم السبت إلى حوت وختمه بخيط وربطه في وتد، فإذا جاء يوم الأحد لم يستطع هذا الحوت المختوم أن يفر، وأخذه ودخل بيته وشواه سراً، فظهرت رائحة الشواء، فشم الرائحة جاره فسأله ماذا فعلت؟ قال: فعلت كذا، فذهب فصنع مثل صنيعه، حتى فشت فيهم تلك الحيلة في صيد الحيتان. فانتصب أهل العلم لهم، ونهوهم أشد النهي عن ذلك، فقالوا لهم: إننا اصطدنا السمك يوم الأحد، فقالوا لهم: لا، لقد صدتموه يوم حفرتم له الحفر، فلما قام أهل العلم بوعظهم، ولم يمتثل هؤلاء لهم، قالوا: لا نساكنكم في قريةٍ واحدة، فإنه إذا نزل أمر الله عز وجل أخذنا جميعاً، فبنوا جداراً في القرية بينهم، فصار المعتدون بالصيد المحرم في ناحية، وأهل الورع والمؤمنون في ناحيةٍ أخرى، وصار لكل ناحيةٍ باب، وفي يوم من الأيام فتح المؤمنون بابهم وخرجوا ولم يفتح الكافرون بابهم، وطالت المدة، فقال المؤمنون لبعضهم: إن لهذا شأناً فتسوروا الجدار، فإذا هم جميعاً قردة ينزو بعضهم على بعض، ففتحوا لهم الباب، فخروا في الأرض فلا يعرفون لهم سبيلا: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]. لنتأمل أيها الإخوة الكرام حقيقة هذه الحيلة التي احتالوها: إن حفر الحفرة أمرٌ مباح، لكنهم توصلوا بهذا الأمر المباح إلى تحليل ما حرم الله، لذلك يقول علماؤنا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مباحاً، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه مباحة أيضاً. رجلٌ أراد الغنى وهذا أمر مباح، فقطع الطريق على الناس؛ فهذه الوسيلة لجمع المال محرمة، إن الغاية عندنا معاشر المسلمين لا تبرر الوسيلة، فإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمعتدون بالصيد المحرم تحيلوا بشيءٍ مباحٍ لتحليل ما حرم الله عز وجل عليهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها وجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه)، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم ثمن الكلب، وحرم عسب الفحل، وحرم حلوان الكاهن، فلا يحل تعاطي هذه الأموال على الإطلاق؛ لكن اليهود لهم شأنٌ آخر، حرم الله عليهم الشحوم، فأذابوها، وجملوها، وباعوها واشتروا بأثمانها فاكهةً ولحماً حلالاً، وقالوا: إنا نأكل اللحم والفاكهة الحلال! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه). ومن جنس المحرمات التي لا يحل للمسلم تعاطيها والمعاملة بها: عسب الفحل -وهذا الفعل مشهور في الأرياف- رجل عنده فحل ذكر، ورجل آخر عنده أنثى يريد أن ينكحها، فيذهب بها إليه فينزو الفحل عليها، فمن أخذ على ذلك أجراً فهو حرام، بهذا النص: (نهى عن عسب الفحل، وعن ثمن الكلب)، ولا يحل لمسلمٍ أن يبيع كلباً أو يشتري كلباً إلا ما رُخِصَ فيه من كلب الحراسة ومن كلب الصيد، ولو أن رجلاً تحيل وأخذ حلوان الكاهن مثلاً واشترى به طعاماً حلالاً فأهل العلم يحكمون بحرمة هذا الطعام. وفي الصحيح: (أن غلاماً دعا أبا بكر رضي الله عنه إلى طعام، فلما أكل أبو بكر قال له الغلام: أو تدري من أين هذا المال؟ قال: لا. قال: إني كنت تكهنت في الجاهلية لفلان فأعطاني هذا المال؛ فأدخل أبو بكر رضي الله عنه إصبعه فيه فمه وتقيأ ما أكل) من الحرام، فالله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه. كذلك من يسلك الطريق المباح من أجل ارتكاب المحرم؛ مثل السفر لقطع الطريق أو لشرب الخمر أو للزنا، فالسفر في ذاته حلال، لكن المقصد حرام فالسفر حرام؛ لأن هذا سيكون من جنس الحيل. والإمام البخاري رحمه الله عقد كتاباً في صحيحه، أسماه (كتاب الحيل)، رد فيه على الذين أجازوا الحيل من الأحناف، ومعروف أن مذهب الأحناف هو أكثر المذاهب ترخصاً في الحيل، والعلماء الكبار عندهم لم يكونوا يرخصون في الحرام؛ لكن جاء من بعدهم من المتأخرين فتوسعوا غاية التوسع، فعقد الإمام البخاري هذا الكتاب، ورد به على بعض الأحناف ممن أجاز الحيلة في ذلك، فبدأ الكتاب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فبوب عليه فقال: (باب ترك الحيل). مع أنه ليس في الحديث ترك، ولكن هذا من فقه الإمام البخاري رحمه الله: الأعمال بالنيات، أي: لك ما نويت، وهذا هو جماع الكتاب كله، ولذلك بدأ به، ثم قال: (بابٌ في الصلاة) وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حدثاً حتى يتوضأ)، فإن الوضوء أمانة، والذي يقوم لرب العالمين في الصف ولم يتوضأ لا يعرف الناس أنه لم يتوضأ، فإن الوضوء شيء خفي لا يدرك، فالذي يقف بين يدي الله عز وجل وهو غير متوضئ بغير عذرٍ فقد أعظم في الخيانة. لقد رأيت في بعض مذكرات السفراء والدبلوماسيين، قال: لما دخل الرئيس السابق الكنيسة، وأراد أن يصلي تأسياً بـ عمر، وكان معه الوزراء والدبلوماسيون والسفراء، فأمر بإقامة الصلاة، فقام هؤلاء الفاسدون الدبلوماسيون يصلون بغير وضوء، ويعتذرون بقولهم: فوجئنا بالموضوع، وكنا في مكان قريب من الرئيس، ولا يوجد وقت حتى نذهب ونتوضأ ثم نعود، واستحيينا فصلينا بغير وضوء. هل اكتشف أحد أن هذا الواقف لم يتوضأ؟ لا. فالخيانة تدخل هنا، لذلك بدأ البخاري رحمه الله بهذا الحديث أي: أن الحيلة في إسقاط الوضوء لا تنفع صاحبها. وقال البخاري أيضاً: (باب في الزكاة)، وأورد فيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أنس بن مالك وفي هذا الكتاب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المتفرق وتفريق المجتمع خشية الصدقة) رجلٌ عنده رأس مال قد بلغ النصاب وزيادة، فأراد أن يفر من دفع الزكاة، فيقسم الأموال على أولاده، بحيث لا يصل نصيب كل ولد إلى النصاب، فهذا إنما فرق المال ليفر من الصدقة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاقب فاعل ذلك بأن أحل عقوبته وأخذ شطر ماله عزمةً من عزمات ربنا. فلا يحل أن يتحيل المسلم لتفريق ماله حتى يفر من أداء الزكاة الواجبة عليه، كذلك الرجل الذي عنده أراضٍ، فقبل أن يحول الحول يعرض الأراضي للبيع، وقد انطوى في ضميره أن يفر من الصدقة، فهذا لا يبارك له أبداً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وقال البخاري: (باب في النكاح)، وذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار)، قيل لـ نافع راوي الحديث، (ما الشغار؟ قال: أن ينكح الرجل ابنته لرجلٍ وينكح هو ابنته بلا صداق بينهما)، فمثلاً: رجلٌ ورجل آخر، لكل منهما بنت أو أخت أو امرأة هو وليها، فقال كل منهما للآخر: زوجني ابنتك وأنا أزوجك ابنتي بلا صداق، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا النكاح، وسماه شغاراً، يقال: شغر الكلب إذا رفع ساقه ليبول، وإنما سماه شغاراً؛ لأن الرجل رفع الصداق عن المرأة وحرمها من الصداق، وهذا لا يحل، وإذا تم النكاح بهذه الصورة فالعلماء يقولون: يبطل النكاح، ويكون للمرأة مهر المثل. إذاً: ما هي الحيلة في نكاح الشغار؟ الحيلة كالآتي: رجل موسر رغب أن يتزوج ابنة رجلٍ فقير، فرفض الفقير، فأغراه الغني وقال له: وأنا أنكحك ابنتي، فحينئذٍ سيوافق الفقير؛ لأنه سينكح ابنة هذا الغني، وبعد أن يتم العقد يقال للفقير: إن نكاح الشغار لا يحل، ويجب حينئذٍ صداق المثل، فهل الفقير يستطيع أن يدفع صداق المثل؟ -ومعنى صداق المثل: أن كل امرأة تقدر بقدرها، بنت الغني مهرها عالٍ، وبنت الفقير مهرها قليل، فلو أننا في وسط فقراء، وامرأة نُكحت نكاح شغار، فأردنا أن نمهرها بالمثل، فننظر إلى بنت عمها أو بنت خالها أو جارتها، أو ما هو مثيل بها من الطبقة ومن البيئة ومن الغنى والفقر- فعندما يعقد ويقال للفقير: إن هذا النكاح لا يحل، فيقول: ما الحل؟ فيقولون: أن تدفع مهر المثل، فيقول: لكن هذه بنت غني ومهرها كثير وأنا لا أستطيع أن أدفعه، أما الغني فيقول: أنا به زعيم؛ لأنها امرأة فقيرة وهو موسر، فيدفع مهر المثل ويأخذها بحيلة نكاح الشغار، وهذا لا يجوز، فكل حيلة تفضي إلى إسقاط ما أوجبه الله عز وجل أو إلى تحليل ما حرمه الله عز وجل؛ فإنها حيلة محرمة.

ضابط المعاريض وأمثلتها

ضابط المعاريض وأمثلتها الضرب الثاني من الحيل والذي احتج به أهل الحيل على حيلهم: ما يسميه أهل العلم بالمعاريض، واحتجوا فيه بقصة إبراهيم عليه السلام لما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، واحتجوا أيضاً بقصة يوسف عليه السلام لما وضع صواع الملك في رحل أخيه، واحتجوا بقصة الملكين لما تسورا المحراب على داود وقالا: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] ولم يكونا خصمين إنما تحيلا بذلك. ف A أننا لا ننكر مثل هذا النوع من المعاريض والحيل، وإنما ننكر النوع الأول، يقول أهل العلم: إذا تحيل بحيلةٍ ليدفع عن نفسه ضراً، أو ليجلب لها نفعاً بغير أن يرتكب إثماً فهذا جائز مشروع، وقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً. فمن الواجب مثلاً: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصته الطويلة لما تخلف عن غزوة تبوك، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى بغيرها)، أي: إذا كان سيسلك هذا الطريق يقول: سأسلك طريقاً آخر، والحرب خدعة، فهذا واجب. أما قصة إبراهيم عليه السلام لما: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89]، فإنه توصل بهذا إلى تفريقهم حتى ينفرد بآلهتهم، ولما قطع رءوس الأصنام، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63]، قال صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في الله)، فخرج من ذلك أن يكون من الكذب الذي حرمه الله عز وجل، وإنما سماه كذباً؛ لأن ظاهره يخالف باطنه ولم يأخذ حكم الكذب، وهذا الذي يسميه أهل العلم بالمعاريض. كذلك في قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] أي أن الله عز وجل هو الذي أرشده إلى أن يفعل مثل ذلك، فهذه حيلة محمودة، ولو تأملت الألفاظ التي وردت في السورة لعلمت أنه بعيدٌ كل البعد عن الكذب، لما أمر يوسف عليه السلام أن يوضع صواع الملك في رحل أخيه، نادوا وهم منصرفون: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70]، هل حدد المسروق، هل قال: إنكم لسارقون؟ لما ذكر السرقة أطلق ولم ينسب، ولما ذكر الفقد نسبه، قالوا: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:71 - 72]، فعبروا بالفقدان، لكن لو قالوا: سرقوا صواع الملك لكان كذباً؛ لأنهم ما سرقوا، لذلك قالوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:72]، ولما ذكر السرقة، لم يقل: إنكم لسارقو صواع الملك. وأصل مسألة المعاريض والحيل كلها مبنية على حسن استعمال الألفاظ، فمن أحسن استخدام اللفظ نجا من الحيلة المحرمة ومن الكذب، وفي بعض الأحاديث التي يحسنها بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن لفي المعاريض مندوحة عن الكذب)، أي: من أحسن استخدام المعاريض لم يقع في الكذب. وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم (لما خرج فاراً من المشركين من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه -وكان أبو بكر رجلاً نساباً تاجراً معروفاً- فكان أبو بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما قابلهما جماعةٌ من المشركين، يقولون: يا أبا بكر من هذا الذي معك؟ فيقول: هادٍ يهديني) فالنبي صلى الله عليه وسلم هادٍ يهديه إلى طريق الصلاح والاستقامة؛ ولكن ظن المشركون السائلون: أنه هادٍ يهديه في الصحراء، اصطحبه معه ليدله على طرق الصحراء. ومثله ما ورد في بعض الأحاديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة بدر هو وأبو بكر، قابله جماعةٌ فقالوا: ممن أنتما؟ فقال: نحن من ماء -ويقصد: من ماء مهين- فقال بعضهم لبعض: أحياء اليمن كثيرة -ماء: اسم حي من أحياء اليمن - ونحن لا نعرف كل أحياء اليمن). ولما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يمزح معه: إنا حاملوك على ولد ناقة -ولد الناقة صغير جداً- فقال الرجل: وما أفعل بولد ناقة؟ -يعني: أول ما يركبه سيبرك على الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق). وكذلك لما (قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ: لا تدخل الجنة عجوز، فبكت المرأة وظنت أنها لا تدخل الجنة، فأعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن من يدخل الجنة لا يهرم، ولا يدركه الكبر، إنما كما قال الله عز وجل: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37])، أي في سن واحدة، وقد ورد في بعض الأحاديث المتكلَّم فيها: (أن أسنان أهل الجنة تكون على ثلاث وثلاثين سنة) نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهلها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فالمعاريض مبنية على حسن اختيار اللفظ، واحتجوا أيضاً بقصة أيوب عليه السلام لما قال الله عز وجل له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، فقد ذكر العلماء أسباباً لحلف أيوب عليه السلام، فمن قائل: إن الشيطان تزيّ بزي طبيب، فقابلته امرأة أيوب عليه السلام وهي لا تدري أنه الشيطان، فدعته إلى علاجه، فقال: نعم أعالجه لكن يقول كلمةً واحدة، وهي: أنني شفيته، قالت: نعم، فلما جاء أيوب عليه السلام وعرفه أقسم أن يجلد امرأته مائة جلدة. ومن قائلٍ: إن امرأته باعت ضفائرها لحاجتها إلى النفقة، وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يقوم أخذ بضفائرها ويستعين بها، فأقسم إن عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة. ومن قائلٍ: إن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة صغيرة يعافيه الله، ففعلت فأقسم أن يضربها إلى آخر تلك الأقوال التي ذكرها أهل التفسير. لكن على فرض ثبوت أي واحدٍ منها، فإن المرأة كانت محسنةً مجدةً في الإحسان، فإذا سلمنا للتفسير الأول: فالشيطان تزيَّ بزي طبيب، فهي لم تقصد إلا علاج زوجها، والتفسير الثاني: أن الشيطان قال لها: اذبحي غنمة، فهي ما قصدت إلا علاج زوجها. والتفسير الثالث: أنها باعت ضفائرها وهذا أبلغ في الإحسان، فهي ما قصدت إلا الإحسان على أي حال وهو الحصول على مال للنفقة، فكانت المرأة محسنة على أي حال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، لماذا تعاقب هذه المرأة الوفية التي ظلت مثابرةً مع زوجها بعد أن انفض عنه كل الناس غير رجلين كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره، كانا يترددان عليه، ومعلوم أن المرأة أكثر الناس تأذياً إذا كان زوجها مريضاَ؛ لأنها تحمله وتساعده وتعاونه، فهي تحمل معه المرض والمشقة، وقد لبث أيوب عليه السلام في مرضه ثمان عشرة سنة، وقد ورد في بعض القصص الإسرائيليات أن الدود كان يسري في بدنه، وهذه رواية إسرائيلية، فنحن لا نثبتها ولا نحتج بها؛ لكن مجموع القصص يدل على عظم البلاء الذي وقع فيه أيوب عليه السلام، فكذلك يقع البلاء عظيماً على المرافق الدائم له وهي زوجه، فإذا أخطأت في طلب وسيلة للعلاج أتضرب؟ لا. لذلك أمره الله عز وجل، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44]، حزمة صغيرة من عيدان الحشائش عددها مائة، ويضربها بتلك الحزمة مرة واحدة. وقد احتج الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنه لو زنى رجل غير محصنٍ وهو لا يتحمل أن يجلد مائة جلدة فيجمع له مائة شمراخ ويضرب بها مرةً واحدة، واستدل بحديث رواه أبو داود في سننه بسند متكلم فيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان هناك رجل مريض وكان جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية أحد الناس، فهشت إليه فوقع عليها، فدخل عليه أصحابه فأخبرهم، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقالوا: يا رسول الله، والله لو حملناه لتفتقت عظامه هو جلدٌ على عظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمائة عثكول أو شمراخ وأمر أن يضرب ضربةً واحدة). فاحتج الشافعي رحمه الله بهذا الحديث وهذه الآية على ضرب الزاني غير المحصن، إذا كان لا يطيق الجلد، وأبى الإمام مالك ذلك، وقال: لا يكون الضرب إلا الضرب المؤلم، لاسيما إذا كان في الحدود؛ لأن الحدود جوابر، وزواجر أيضاً، ولهم في ذلك تفاصيل؛ لكن الله عز وجل هو الذي أفتى أيوب عليه السلام، فأين فعل أيوب عليه السلام من فعل الحيل المحرمة؟! ينبغي أن نفرق بين الحيل المحرمة، التي يتحيل بها الناس إلى إسقاط الواجبات أو إلى تحليل المحرمات وبين المعاريض التي أباحها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مبني على حسن استخدام الألفاظ. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

مشروعية الخداع في الحرب

مشروعية الخداع في الحرب إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. رأس الموضوع بالنسبة للحيل المباحة، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحرب خدعة)، دفع المظلمة أو تحصيل الحق فيه نوع من الحرب؛ دليل أن فيه خصومات، كلٌ يدفع بعضه بعضاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (الحرب خدعة)، بكسر الخاء وفتحها -وخَدعة أفصح كما يقول العلماء- أن المرء سيحتال ويقول قولاً غير الذي يبطنه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أذن لبعض أصحابه بذلك.

قصة مقتل كعب بن الأشرف

قصة مقتل كعب بن الأشرف ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله). وضع الإمام البخاري هذا الحديث في (كتاب الجهاد)، وبوب عليه بقوله: (باب الكذب في الحرب)، ورواه بسياق أطول في (كتاب المغازي)، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله، فقال محمد بن مسلمة: أنا له. وكذلك قال أبو نائلة). فـ محمد بن مسلمة ابن أخت كعب، وورد في نفس الحديث في البخاري: أن كعب بن الأشرف قال: أهذا أخي أبو نائلة، وهو أخوه من الرضاعة. إذاً: اللذان كذبا من أجل قتل كعب بن الأشرف، أقرب الناس إليه، ابن أخته وأخوه من الرضاعة، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن أن نقول له شيئاً، فكلمة (شيئاً) المقصود به الكذب، قال: نعم، قال: أتأذن أن نقول له: كذا وكذا ورد في بعض الطرق، أن نقدح في رأيك وفيما ذهبت إليه؟ قال: نعم. فجاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة، فنادوا كعباً، فقالوا له: إن هذا الرجل قد أتعبنا، وإنه يطلب منا صدقة، فقال كعب: والله لتملنه -أي: إن هذا أول شيء يفعله وسيأخذ منكم زكاة كل مرة- وفي رواية خارج الصحيح فقال لهم: فما حملكم أن تتبعوه، فقالا له: حتى نعلم إلى ما يئول أمره، وقد جئناك نستلف وسقاً أو سقين من الشعير، فقال: ارهنوني نساءكم -انظر اللؤم يريد امرأة مقابل وسق! - كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! فاغتر الرجل وقال: ارهنوني أبناءكم، قالوا: نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق من شعير هذا عارٌ علينا، ولكن نرهنك اللأمة، وهي درع الحرب، وهذا هو الذكاء، فبادروه حتى لا يعرض عليهم عرض آخر، فيقول: ارهنوني آباءكم، وعرضوا عليه اللأمة حتى لا يساوره الشك فيقول: لماذا أحضروا معهم السلاح؟ فهم بهذا العرض يزيلون الشك الذي في نفسه وكأنهم يقولون: إنما أتينا بالسلاح لنرهنه- ثم ناداهُ أبو نائلة، وقال: يا كعب انزل وكان حديث عهد بعرس، فلما سمعت امرأة كعب صوت أبي نائلة قالت: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، فقال كعب: إنه محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة وإن الكريم إذا دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ أجاب، فنزل والطيب ينفح منه، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت مثل هذا الطيب، فقال: عندي أجمل العرب وأعطرها، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأذن له، فأمسك رأسه، ولما استمكن منه قال: دونكم عدو الله فاقتلوه، فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لهم، وهذا إنما أخذوه بالحيلة.

قصة مقتل أبي رافع

قصة مقتل أبي رافع روى البخاري أيضاً في كتاب المغازي، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أن أبا رافع كان يقع في النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب به، ويشبب بنساء المسلمين، ومعنى يشبب: أي يصف العورات ويتغزل فيهن، فانتدب له النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك مع نفرٍ من أصحابه. وفي بعض طرق الحديث خارج البخاري قال: فشيعهم إلى بقيع الغرقد، وقال: اللهم انصرهم، وكان أبو رافع أكبر تاجر في الحجاز كلها، وكان عنده جماعة يسمرون معه، ففقدوا حماراً لهم، فقام العبيد يبحثون عن الحمار، قال: عبد الله بن عتيك: فتقنعتُ بردائي كأني أريق الماء، فرآه البواب، فقال: أيها الرجل إن كنت تريد أن تدخل فادخل الآن وإلا أغلقنا الباب -وكان يظن أنه من الحاشية الذين ذهبوا يبحثون عن الحمار- قال: فدخلت واختبأت، حتى إذا وضعوا المغاليق على وتد وانصرفوا أخذت المغاليق وصعدت، فإذا أبو رافع يسمر وعنده جماعة من التجار، حتى إذا خرجوا أغلقت عليه الباب -حتى إذا استغاث أبو رافع لا يغاث- قال: فدخلت فإذا البيت مُظلم، ولا أدري أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع! قال: من، فاتجهت إلى الصوت فعاجلته بضربة لكنها لم تقض عليه، ثم أظهرت كأنني أغيثه، فقلت: مالك يا أبا رافع؟ قال: ويلٌ لأمك، ضربني رجل بالسيف، فجعلت السيف في بطنه ولم أتركه حتى سمعت صوت عظم الظهر، قال: فعلمت أنني قتلته، قال: وجعلت أخرج حتى وصلت إلى درج فنزلت على ساقي فكسرت فعصبتها بعمامة، وقفزت من على السور، وقلت لأصحابي: النجاة النجاة، ثم قلت: والله لا أمضي حتى أسمع الناعي، فلما صاح الديك قام الناعي، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ساقي فكأنني ما اشتكيتها قط. فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح لهم أن يستخدموا الحيلة في القتال والحرب، والكذب في الحرب واجب، وهو نوع من الحيلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من الكذب لا نعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب). فإن قال قائل: من أين لك أن الكذب في الحرب واجب ولفظ الحديث بمفرده لا يدل على الوجوب؟ مع إن غاية ما في الحديث أنه ليس بكذب فقط؟ فيقال: يستدل على الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، فلو أسر رجلٌ في بلاد الحرب وكان عنده معلومات لو علمها العدو من شأنه أن يجهد المسلمين ويهلكهم لحرم عليه ذلك، فإذا حرم عليه ذلك وجب عليه الكتمان، ويستدل على صيغة الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، إذا علمنا أن هذا حرام يكون عكسه واجب. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

حيلة ابن عيينة على الوالي

حيلة ابن عيينة على الوالي وهناك قصة فيها عبرة، استخدم الحيلة فيها الإمام العلم المفرد الكبير الذي لولاه ومالك -كما قال الشافعي - لضاع الحديث بالحجاز كلها، وهو الإمام الكبير أبو محمد سفيان بن عيينة رحمه الله، شيخ الشافعي وأحمد بن حنبل. والذي حصل أن الإمام الكبير وكيع بن الجراح حدّث بحديث في مكة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي انشغل المسلمون عنه ثلاثة أيام حتى ربا بطنه وانثنى إصبعه، والثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت كأنه حي، لا يربو بطنه ولا يتأثر، ولذلك قال أبو بكر الصديق: (طبت حياً وميتاً)، وهذه من خصائص الأنبياء، أن الأرض لا تأكل أجسادهم ولا يتغيروا، فـ وكيع بن الجراح لما حدث بهذا الحديث قامت عليه القيامة، ووكيع كان كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها في سماء الحديث، فلم يكن نكرة، كان يقرأ القرآن كل يوم، حتى أن الذهبي رحمه الله لما ذكر ترجمة وكيع في كتابه النفيس (سير أعلام النبلاء) قال: هذه عبادةٌ يخضع لها؛ لكنها مفقودة من مثل هذا الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه). أول ما حدّث وكيع بهذا الحديث هاج عليه العوام، لأنه تحدث عن المحبوب الشريف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووكيع لا يساوي شيئاً أمام رسول الله ونحن لا نحابي ولا نجامل. نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواسيا أي: لو أنه هو أحب حبيب ووقف الحبيب في خندق عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدو؛ لأننا لا نعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، هذه هي علامة الإيمان، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، ووكيع ليس مكياً بل هو عراقي -أي: أنه ضيف- وعادةً عندما يرحل العالم الكبير ليدرّس في بلد آخر يرحل إليه الكل؛ لأنه ليس لهم طاقة أن يذهبوا إلى بلده، وقد كانوا يسكتون إذا ارتكب الإمام أمراً مباحاً حتى لو ارتكب ما ارتكب، كـ الأعمش عندما كان يضرب تلاميذه ويخيفهم بالكلب لم يعترض أحد، وكانوا يصبرون عليه، ولم يزهد أحد في حديث الأعمش؛ لأن هذا محتمل، لكن إذا كانت المسألة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا، ووصل السخط على وكيع منهم أن رفعوا أمره إلى الوالي، فعندما علم الوالي بهذه المسألة جن جنونه، وأخذ وكيع وحبسه وحكم عليه بالإعدام، ولم ينظروا في حجة وكيع. شيء ظاهره الإزراء بالنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت أحد، انظر إلى هذا الموقف المشرق! وانظر إلى المواقف المخزية التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، يستهزئ أصحاب الصحف والمجلات والكاركاتير بالله ورسوله، ويقوم سلمان رشدي يشتم الرسول عليه الصلاة والسلام ويصف زوجته بالداعرة وحكامنا نيام، معهم فقط عيد العمال وعيد الشجرة وعيد الثورة وبقية الأعياد يتكلمون فيها عن الديمقراطية، أما عندما يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم وتتهم زوجته ينصتون ولا يتكلمون. فعلم سفيان بن عيينة وهو في المدينة بأن وكيع سيقتل، فسافر من المدينة إلى مكة، ودخل على الوالي، وقال: الله، الله هذا فقيه أهل العراق كيف تقتلونه؟ قال: أولم تسمع ما قال؟ قال: قد روي هذا الحديث حسناً فمن الذي رواه لـ سفيان؟ الذي رواه لـ وكيع. مفعول لما لم يسم فاعله وبعد ذلك خلصه من أيدي الحاكم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

من للإسلام في زمن الغربة [1]

من للإسلام في زمن الغربة [1] يتعرض الإسلام لحملات مسعورة بأقلام مرتدة تعمل لصالح أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، وكان المرتدون قديماً يتسترون ويراوغون، أما اليوم فقد استأسدوا وتنمروا حين هان المسلمون، فصاروا ينفثون سمومهم علناً، ويدافع عنهم أمثالهم، ويتكالبون على الإسلام ليطفئوا نوره ((وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))

أعداء الرسالة من المرتدين

أعداء الرسالة من المرتدين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن الاستضعاف سيطول؛ لأننا سنحاول وضع برنامج من الكتاب والسنة ومن خلال سورة القصص؛ للخروج من هذا الاستضعاف المهين، الذي ما شهد المسلمون قط في حياتهم، حتى مع مراحل الانحطاط الكبير ما شهدوا هذه المرحلة التي يمر بها المسلمون الآن. من لدن أبي بكر رضي الله عنه هل مر المسلمون قط ولو ساعة من نهار بدون خلافة، حتى بدون ملكٍ عضوض يحكم فيه حاكمه بالكتاب والسنة؟ هل مر المسلمون بذلك قط؟ أبداً حتى مع مراحل الضعف المهين، والذي شهدها بعض المعمرين الآن في أواخر الدولة العثمانية، كان هناك سلطان للدين، ولم يتجرأ أحدٌ على الكتاب والسنة مثل ما تجرأ العلمانيون الآن. (العلمانيون) لفظٌ مضلل لأصل الكلمة، كلمة (علماني) ترجمتها الحرفية: لا ديني، هذه الترجمة الحرفية للكلمة، لكن لأنه لفظٌ بشع، أن تقول: لا ديني، لأنها تساوي (ملحد) فجملوا اللفظ، وقالوا: (علماني) نسبةً إلى العلم! وكذبوا، هو (لا ديني) وفعلاً مذهبه يؤدي إلى الكفر في النهاية.

الأمانة وتردي حال المسلمين اليوم

الأمانة وتردي حال المسلمين اليوم إن التعامل مع الكتاب والسنة رصيده أمانة في قلب الرجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو من أشراط الساعة، ولعل زمنه هذا الزمان! - روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من الكتاب، ثم علموا من السنة) (جذر قلوب الرجال)، الجذر: هو الأصل، أي: قبل أن يتعلموا القرآن والسنة رزقوا الأمانة التي بها لا يحرفون الكتاب ولا السنة؛ لأن تحريف الكتاب والسنة خيانة تدل على أن هذا الرجل لا رصيد للأمانة في قلبه؛ بدلالة هذا الحديث، ثم حدثنا: أن الأمانة ترفع من قلوب الرجال، فيظل أثرها مثل الوكت) (الوكت): هو السواد في لون الجلد، مثل أي جرحٍ في جلدك، بعد أن يبرأ الجرح ترى أثره مسود اللون في جلدك. لما ارتفعت الأمانة من قلب هذا الصنف؛ تركت مكانها أثراً مثل الوكت (ثم ترفع الأمانة من قلوب الرجال فتترك أثراً مثل المجل - (والمَجْل) بفتح الميم وسكون الجيم- قال حذيفة -: هو كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط فتراه منتبراً) لما تدحرج الجمر على هذا الجلد يحصل فقاقيع ماء تنبت عليه، هذا هو المجل (كجمرٍ دحرجته على يديك فنفط) (نفط): أي: انتفخ. (فتراه منتبراً): أي عالياً منتفخاً؛ لأنه مملوء ماءً، بعدما يزول هذا الماء يترك هذا أثراً، هذا هو أثر المجل (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً ما أعقله! ما أجلده! ما أظرفه! وليس في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان). ما معنى هذا التدرج في الوصف؟ مثل الوكت، ثم مثل المجل، المجل أوسع من الوكت، كأن الخرق اتسع على الراقع، (استسمنت ذا ورم)، أي: ظننته قوي العضلات، إذاً: المجل أعظم وأكثر اتساعاً من الوكت، ثم هو مع ذلك منتفخ، وهذا الانتفاخ ليس له أي رصيد من الإيمان، فكم من رجل يشار إليه بالبنان له منصب وجاه وليس في قلبه مثقال حبةٍ خردلٍ من إيمان، هذا معنى (منتبر). (نفط فتراه منتبراً) له منظر ولا مخبر له. إذاً: صيانة الكتاب والسنة، والوقوف عند حدود الله عز وجل أمانة، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] (الأمانة): كلمة التوحيد بتكاليفها، هذه هي الأمانة، هل لها عين تطرف والارتداد كل يوم، كل يوم نرى المرتدين يطفحون بالكيل على صفحات الجرائد، ونحن مستضعفون لا حيلة لنا، صوتنا لا يصل لكن هناك حلٌ قوي، هو الذي لاذ به المستضعفون في كل زمان من أتباع الرسل: أن تنادي ربك، وأنت تظهر الضعف بين يديه، وأن تقول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، هذا كان شعار أتباع الرسل؛ لأن أتباع الرسل جميعاً كانوا ضعفاء، هذه صفة أساسية لازمة لأتباع الرسل: ضعفاء، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] ماذا قال شعيب؟ قال كلاماً مفهوماً، نفس التغابي الذي يعاملوننا به الآن فعله قومٌ شعيب معه، كما سنبسط ذلك إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ردة المدعو (نصر أبو زيد)

ردة المدعو (نصر أبو زيد) محكمة النقد الأسبوع الماضي أخرجت الحكم على نصر أبو زيد، وحصلت على حيثيات الحكم من محكمة النقد في أربعة وثلاثين صفاً، وأتيت بأربع صفحات لأقرأها عليكم بعد الخطبة، وهؤلاء ليسوا متطرفين ولا يمتون لنا بصلة، إنما قضاة يتعاملون مع نص أمامهم. فهذا الذي ذكروه في هذه المذكرة من الكفر لو وزع على أمةٍ من المؤمنين لدخلوا النار جميعاً! ارتكبه رجلٌ واحد، ومع ذلك جرائد ومجلات تخرج وتدافع عن هذا الرجل. مجلة أسبوعية: الصفحة الثالثة، تنعي الأمة المسلمة بهذا الحكم بالارتداد على هذا المرتد، صفحة كاملة، لو أراد أحدنا أن ينشر فيها إعلاناً مدفوع الأجر لدفع خمسين ألف جنيه، هذه الصفحة خرجت سوداء، وفي أسفل الصفحة: (البقية في حريتكم) على وزن (البقية في حياتك)! لماذا؟ قال لك: لأنه يحكم في مصر على الناس بالارتداد، هذه حرية؟! فصارت حرية الكفر مشروعة، أو هكذا يريدونها، مع أن هذا المرتد ظهر منه استهزاء بالقرآن، والقول بأنه نتاج العقل البشري -هذا كلامه- والكفر بآيات السحر والجن في القرآن، ولمز الرسول عليه الصلاة والسلام بأن المسلمين أعطوه قداسة حتى يكون مشرعاً إلى آخر هذه الموبقات. هذه هي الجهة التي حكمت أين جهة التنفيذ؟ هل هناك جهةٌ تنفذ الحكم في المرتد حتى يرتدع هؤلاء؟ لو قال رجلٌ: أنا كفرت بالله. فقال قائل: وأنا أقر مقالته أليس المقر حكمه حكم المبتدع؟ أليس يقتل بهذا الإقرار؟ وهذا الجيش من الصحفيين الذين دافعوا عن هذا المرتد، ألا يكون حكمهم هو حكم ذلك المرتد بدون أي قضية ترفع إلى القضاء؟ أليس هذا هو العدل: أن يقتل هؤلاء وأن يحكم عليهم جميعاً بأنهم مرتدون مثل المرتد الأول الذي يدافعون عنه؟! لكن هؤلاء في مأمن، السبب: أننا نحتاج في كل قضية أن نرفع دعوى. لو كفر الرجل، وحكمت عليه المحكمة بالكفر، فجاء رجلٌ فقال: وأنا أقول بمثل مقالته. لا يتعرضون له أبداً، لماذا؟ لأنه لابد من رفع قضية، وأن يجتمع القضاة مرةً أخرى، ويصدروا حكماً على هذا المعتد بالارتداد، وبعد ذلك يقتل إذا كان هناك جهة تنفيذية، أرأيتم مثل هذا العبث؟! لذلك كثر الذين يتهجمون على القرآن والسنة في أمتنا. نحن أُتينا من بابٍ خطيرٍ جسيمٍ ظل المسلمون يحترمونه ويقدسونه على مدار الأعوام، وعلى مدار الأجيال، حتى في عصور الانحطاط. ويرجون النصر على أعدائهم، والله الذي لا إله غيره لو أن شخصاً يعبد الحجر، ويعتقد أن الحجر يضر وينفع لانتصر على أمثال هؤلاء، وإن كانوا يقرءون القرآن!! يلعب بالقرآن بهذه الصورة، ويمتهن بهذه المهانة، وتصدر الجرائد كلها تدين القضاة أنهم وقفوا في خندق الإرهابيين، كلما نصروا قولاً يقوله الله ورسوله قالوا: إرهابيون، حتى لو كانوا ينصرونهم بالأمس.

صمت المسلمين تجاه تيار الردة

صمت المسلمين تجاه تيار الردة هذه الحالة التي نعيش فيها الآن، حالة لم يمر المسلمون بها قط. إيهٍ يا عمر: لو سمعت بعض هذا الذي نمر به إذاً لشاب شعرك! والدعاة إلى الله عز وجل يصرخون في الجماهير! اهتموا -يا أيها الناس- بإسلامكم، هو أولى من رغيف الخبز، لو رفعوا رغيف الخبز إلى جنية لثار الجماهير، ولأحرقت الأماكن العامة مثلما حصل سنة (1976م)، حين زاد سعر الخبز ثلاثة قروش فقط، كانت الخسائر المبدئية خمسة عشر مليون جنيه، خسائر من حريق قطارات وحريق مستشفيات إلخ، وحين زاد سعر الكيلو السكر من ستة عشر قرشاً إلى أربعين قرشاً، وأرادوا رفع قيمة الخبز من نصف قرش إلى قرش؛ ثار الجماهير، وهذا الإسلام يمتهن في كل يوم، والقرآن يعتدى عليه في كل يوم ولا صريخ له، كأن هذه الجماهير لا تدين بالقرآن، ولا تقدسه، وإلا أين جهادكم؟ وأين نصركم؟ وأين اعتراضكم؟ هذه محكمة النقد -التي هي آخر المطاف، لا محكمة بعدها- حكمت بارتداد الرجل، وأن يفرق بينه وبين امرأته هل من جهةٍ تنفيذية؟ الرجل هرب وسافر إلى هولندا؟ ألا تعاملونه معاملة السعد والريان، السعد هرب وذهب إلى باريس، فاحتالوا عليه وضحكوا عليه، وأتوا به ووضعوه في السجن، طيب أرونا حياض الدين، اذهبوا إلى هولندا واضحكوا عليه أيضاً، وقولوا له: تعال وسندافع عنك، واقتلوه هل يفعلون؟ لن يفعلوا أبداً أبداً. (حرية الكفر) كما قلت لكم؟ أصول كلها دمرها، وأنا لا أدندن على هذا الرجل وحده؛ لأن خلفه أمة تتبعه في هذه الأصول، أعظم ما نعانيه: أننا لا نحس بجسامة المحنة التي نمر بها. آهٍ! لو شعر المستضعف أنه مستضعف، وأمسك بالكتاب والسنة؛ إذاً لانتصر، لكن هذا الصراخ الذي نصرخ به في كل مكان ليستيقظ الجماهير؛ ليعلموا أنهم في محنةٍ عظيمة لم يمر المسلمون بها قبل ذلك.

الفرق بين المرتدين في القديم والحديث

الفرق بين المرتدين في القديم والحديث في كل عصر كان هناك من يعتدي على حياض القرآن، لكنه كان يستتر، وكان يستخدم عبارات موهمة؛ لأنه لو صرح لقتل. هذا أبو العلاء المعري -الشاعر المعروف الذي كفره الفقهاء- اعترض على حكم القرآن ببيتين من الشعر، ونحن نعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار)، الدينار مائة درهم، إذاً: ربع دينار خمسة وعشرون درهماً، الدرهم تسعون فلساً تقريباً، يعني لو أن رجلاً سرق خمسة وعشرين جنيهاً تقطع يده. ونعلم أيضاً أنه لو اعتدى رجلٌ فقطع إصبع شخص آخر فإن الدية التي شرعها النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الإصبع الواحد عشرة جمال، والجمل بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وإذا ضربتها في عشرة آلاف تصبح ثلاثين أو أربعين ألف جنيه، دية الإصبع، في حين أن هذه اليد التي تتألف من خمسة أصابع لو سرقت خمسة وعشرين جنيهاً تقطع كلها. فهذا الرجل لم يعجبه الحكم، فقال: يدٌ بخمس مئين عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار فنسب أحكام الله ورسوله إلى التناقض، وقال: إذا أردت ألا تدخل جهنم قل: أعوذ بالله من النار فقط. ويدعي أن كلام ربنا متناقض! يقول: ولأنه إله لا تستطيع أن تراجعه فسلم حتى وإن كان فيها تناقض، وهذا الكلام كفر، فطلبه الفقهاء ليقتلوه فهرب، ورد عليه العلماء، ومن أبلغ المقالات التي ردت عليه قول القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: (لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت). ويهرب الرجل؛ لأن هناك من يطلبه. لو أن هؤلاء اللادينيين حقاً كانوا يعلمون أنه من اعتدى على حكم الكتاب والسنة قتل؛ ما وجد هذا الغثاء، ولا السيل الجارف من الإهانات للكتاب والسنة بدعوى الفكر، والحرية، هل هناك جهة تنفيذية تأتي بهذا المرتد لتجعله عبرة لمن يعتبر؟ لاسيما وقد أطبق علماء الأزهر جميعاً على ردة الرجل، مع حكم المحكمة على ردته أيبقى هذا الرجل له عينٌ تطرف ولو كان في آخر الأرض؟ وتشعر بحسرة عظيمة إذا علمت أن سلمان رشدي اعتدى على الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الجناب العالي، واعتدى على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم واتهمهن بالدعارة والزنا! ومع ذلك لم توجد دولة إسلامية واحدة تسحب السفير من إنجلترا التي دافعت عن هذا المجرم. فإذا علمت ذلك فاعلم أن أعداءنا ما وصلوا إلى هذا طفرة، يفعل الفعل وينتظر ردة فعل، فإذا وجدوا رد الفعل قوياً تردد أن يفعل أخرى، لكن إذا وجد ردة الفعل ضعيفة جداً، لا يعدو أن يكون شجباً واستنكاراً فقط؛ أغراه ذلك بضربةٍ أقوى من الأولى. ما وصل أعداؤنا إلى هذا طفرة، رحل الاستعمار من بلادنا، لكنه ترك تلامذته وأذنابه يعبثون، أليس تلامذته هم الذين كتبوا لنا التاريخ في المدارس الإعدادية والثانوية، وهم الذين كتبوا لنا التاريخ في الجامعات؟ تلامذة المبشرين الذين كتبوا (مآثر الحملة الفرنسية) و (أضرار الحركة الوهابية) ويقولون -بكل تبجح-: الحملة الفرنسية لها مآثر! كانت حملةً صليبيةً تبشيرية ويقولون: لها مآثر! والدعوة الوهابية في بلاد الحجاز التي كان الهدف منها إعادة الدين نقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقال: (أضرار الحركة الوهابية) وتخرج حملة عسكرية من مصر بقيادة إبراهيم باشا لضرب الحركة الوهابية هناك! هذا هو التاريخ الذي درسوه لنا؛ فنشأ هذا الجيل مبتوت الصلة بتاريخه؛ لذلك لا يحس بالضربات المتلاحقة على الكتاب والسنة. إن الصحابة الكرام كان القرآن أعظم في قلوبهم من أن يتطرق إليه تأويلٌ مرجوح، لا أقول: باطل، بل أقول: مرجوح فقط، والتأويل المرجوح له وجه في القوة، لكنه أدنى من التأويل الآخر الراجح؛ لأنه كان أعظم.

جحود المجرمين لواضح البراهين

جحود المجرمين لواضح البراهين الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:84 - 86]. فهذا كلام واضح كالشمس، ركز فيه على كلمتين اثنتين: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، (أوفوا المكيال والميزان بالقسط) فعندما يأتي هؤلاء ويقولون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] مع هذا الوضوح، فهذا يدل على شيئين لا ثالث لهما: إما فاهم ويتغابى، وإما أصم لا يسمع، ولا أقصد بالصمم عطب هذه الحاسة، إن قوماً سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] لأنه لو سمعوا سماع انتفاع ما قالوا هذا الكلام، اليهود الذين سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93] أهؤلاء سمعوا؟ إن السماع الممدوح في القرآن هو سماع الانتفاع؛ إنما مجرد سماع هذه الجارحة، أن يسمع الكلام بأذنه؛ ما قصد القرآن ذلك، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا} [النور:51] حسناً: لو سمع وعصى، فهل هذا سمع؟ لا، هو عند الله كالأصم طالما أنه لم ينتفع بهذا السمع. ولذلك (لما نزلت خواتيم البقرة -كما رواه الإمام مسلم في صحيحه - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]-ضاق الصحابة وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع (إن تبدوا أو تخفوا)! قد يمر بصدر الإنسان من الكفر ما الله به عليم، وقد يخطر بباله نوع من الشر ويتمنى أن يفعله، لكن لا يفعله، أفنحن مؤاخذون بذلك؟! - فجاء الصحابة وبركوا على الركب -والبروك إشارة إلى الذل- وقالوا: لا نستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا. فذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله عز وجل آية الرخصة التي بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]). فالسماع المحمود هو سماع الانتفاع، وليس مجرد سماع الجارحة، ولذلك فإن الصمم الوارد في القرآن إنما ورد لأناسٍ آذانهم سليمة؛ لكنهم عموا عن الحق فلا يسمعونه. فهذا البيان الواضح: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:85]، إما أنهم يتغابون في الخطاب، ويزعمون أنهم لا يفهمون؛ للتخلص من النص، وإما أنهم صم لا ينتفعون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]. واحد يقول: (ما نفقه كثيراً) هذا يدل على أنهم فقهوا قليلاً. نقول: إن هذه الآية تدل على أنهم ما فقهوا شيئاً؛ لأن علماء الأصول يقولون: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فقوله: (كثيراً) هذه النكرة منفية قبل ذلك بـ (ما النافية)، (ما نفقه كثيراً) إذاً هذا يدل على أنهم لم يفقهوا لا قليلاً ولا كثيراً مع هذا الوضوح.

سعار الردة لدى بعض الكتاب

سعار الردة لدى بعض الكتّاب هؤلاء يعاملوننا بتغابٍ، أحدهم نشر كتاباً، الجزء الأول منه سبعمائة صفحة، ويبشرنا بجزئين: الجزء الأول يقول: لا وجود لما يسمى بالسنة، وأتى بأحاديث في البخاري ومسلم ينتقدها، أتعرفون كيف ينتقد؟ جاء إلى حديث الإسراء والمعراج، وصف البراق، فقال: إنه دابة دون البغل وفوق الحمار، يقول: هذا الحديث مكذوب على رسول الله لا شك في ذلك. حسناً: ما هو الدليل؟ يقول: لأن هذا من وحي الصحراء، الذي افترى هذا الحديث رجل بدوي فلاح، دائماً يركب البغال والحمير، فلما افترى هذا جعل البراق بغلاً. أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تنتقد هكذا! لو ورد في القرآن وصف للبراق، أو ورد في أحاديث أخرى وصف للبراق مخالف لهذا الوصف لقنا: لا بأس، لو جاء في القرآن أن البراق صورته صورة إنسان وله ذيل -مثلاً- أو أي شيء، وجاء رجلٌ فقال: دون البغل وفوق الحمار لقلنا: لا بأس؛ لكن رجل لمجرد أنه لم يهضم أن يكون البراق بغلاً فيقول: إن هذا كذب! إذا كان النقد بهذه الصورة فإن كلام الله عز وجل سيتعرض للنقد. وآخر عندما يقرأ قول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] فيقول: إذاً أين طولها؟ لما كان عرضها السماوات والأرض؟ كلام لا نتخيله!! إذاً كلام الله عز وجل غير صادق. إذا تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة هكذا لم يبق في أيدينا حتى: قل هو الله أحد!! وينشر الرجل في منتهى الحرية وفي منتهى الأمان، آمن على نفسه أنه لن تطوله يدٌ أبداً.

سبيل الخروج من مرحلة الاستضعاف

سبيل الخروج من مرحلة الاستضعاف نحن نعاني من حالة عظيمة جسيمة، نحن ضعفاء لا قوة لنا إلا بالله، وأتباع الرسل دائماً ضعفاء، كما ورد في حديث ابن عباس في مطلع صحيح البخاري، لما حاور أبو سفيان هرقل عظيم الروم، قال هرقل لـ أبي سفيان -يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم-: كيف نسبه فيكم؟ فقال: هو فينا ذو نسب. قال: هل كنتم تتهمونه قبل ذلك؟ قال: لا. قال: هل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا. قال: هل قال بقوله رجلٌ قبله؟ قال: لا. قال: اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. قال: يقلون أم يزيدون؟ قال: بل يزيدون. قال: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا. هكذا وصف المستضعفين، وأن عددهم كل يوم في زيادة، مثلما هو حادث الآن، الرسم البياني للراجعين إلى الله كل يوم يزيد، ولا يرتد أحدٌ منهم إلى الخلف أبداً، إذا باشر الإيمان شغاف قلبه لا يرتد أحدٌ منهم سخطةً لدينه، حتى أن المؤلفة قلوبهم لما كان الواحد منهم يحسن إسلامه كان يرفض (سهم المؤلفة قلوبهم) رجل تعطيه حتى لا يكفر، فبعد أن يحسن إسلام الرجل كان يستنكف أن يأخذ هذا المال لماذا؟ يقول: أنا الآن أسلمت وجهي لله عز وجل، وما بي من حاجة أن يقال: أخذ المال حتى لا يكفر، ويراه عاراً عليه أن يأخذه، برغم أنه محتاج إليه! فهؤلاء لا يرتدون أبداً لماذا؟ يعتزون بإيمانهم، أرأيت إلى بني هاشم لما حاصرتهم قريش في الشعب ثلاث سنين، الحرب الاقتصادية حرب يلجأ إليها أعداؤنا في حال استضعافنا، أجاعوا بني هاشم، وقالوا: لا يقصد أحدٌ منهم ولا ينكحهم أبداً ثلاث سنوات، حصروهم حتى ألجئوهم إلى أكل الديدان والحشرات لماذا؟ حتى يتبرءوا من النبي صلى الله عليه وسلم ويعلنوا هذا الرفض، ما خلصهم إلا الله بأن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه يوماً: (أما تعلم أن الله أرسل الأرضة -دابة الأرض، مثل السوس- فأكلت الشروط -لأن قريشاً كتبت ورقة وعلقتها في الكعبة- فأكلت كل شيءٍ إلا اسم الله) فـ أبو طالب أول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى قريش، وقال: لو أخبرتكم أن الأرضة أكلت ورقة الشروط كلها، وما أبقت إلا اسم الله؛ تفكون هذا الحصار؟ قالوا: قد أعذرت وذهبوا إلى الورقة فوجدوا الأرضة قد أكلتها كلها فعلاً إلا اسم الله عز وجل؛ ففكوا الحصار. فاعلم أنك إذا رجعت إلى دينك ستحاصر دولياً ومحلياً، وعلى مستوى الفرد، ستنقل من وظيفتك المرموقة وتوضع في المخازن؛ ستسجن، وتمنع من علاواتك وترقياتك حرب اقتصادية، والأمة بمجموعها لو رجعت إلى الله لمنعوا صفقات القمح التي يمدوننا بها، لكن لا قوة لك إلا بالله، فاسمع إلى كلام الملك الصادق سبحانه وتعالى، الذي لا يتطرق إلى كلامه شكٌ فضلاً عن كذب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] طيب يا رب هؤلاء المشركون معهم المال ويعطوننا القمح. فقال: ((وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً)) أي: فقراً {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، مشركون يعطوننا المال والسلاح، فقال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا} [آل عمران:139]، {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] * {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] هذه مرحلة أخرى، امنع ولا تكتفِ بالمنع، بل اهجرهم في عقر دارهم، وقاتلوهم لنشر دين الله عز وجل؛ يرفعكم الله عز وجل. هذه لمحةٌ وطرفٌ مما نعانيه الآن، إنما قلت ذلك لأن أول درجات النجاح هو وضع الخطة المحكمة، سواءٌ في التقدم أو في رجوع القهقرى. أنت مستضعف، ونحن الآن نتكلم عن الاستضعاف من خلال سورة القصص، وكيف أن الله مكن لبني إسرائيل بعدما كانوا مستضعفين؟ ماذا فعل بنو إسرائيل حتى مكن الله لهم؟ لكن كانت هذه مقدمة ضرورية؛ لبيان حالنا ووضعنا، ومدى الضعف الذي نعانيه، حتى إذا حدونا قلوب المستضعفين وهم في طريقهم إلى الله؛ قالوا: لبيك، بل وألف (لبيك). اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

سبل النجاة

سبل النجاة إن دين الله عز وجل هو الصراط المستقيم وهدي النبيين، وما من نبي إلا ودعا إلى دين الله وحذر العباد مغبة المخالفة لرسم نهج الحق وطريق النجاة. ولقد ابتلى الله عباده فيما ابتلاهم بدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، وقد ابتكروا لذلك مذاهب وفرقاً تختلف إحداها عن غيرها في تفاصليها ومناهجها، ولكنها جميعاً تلتقي عند نهاية واحدة ألا وهي غواية العباد وصرفهم عن الدين القويم. فعلى العبد الناصح لنفسه تنكب هذه الطرق كلها والسير في طريق الله الذي رسمه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛ لأنه سبيل النجاة.

الافتراق سنة ماضية

الافتراق سنة ماضية إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديثٍ أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فكان على العاقل أن يبحث عن هذا الطريق الوحيد للنجاة؛ طريق في وسط ثلاثٍ وسبعين طريقاً، فالأمر إذاً مشكل، ليت الأمر يتوقف على طريقين، أو ثلاثة، أو أربعة، فيمكن للإنسان عندها أن يميز، لكن أن تكون ثلاثاً وسبعين طريقاً والنجاة من طريقٍ واحد، فيكون الأمر مشكلاً جداً؛ هذا الطريق الواحد هو الذي تطلبه من الله عز وجل، سبع عشرة مرة في اليوم، اهدنا الصراط المستقيم، وهو الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]، فالطريق الوحيد سماه الله صراطاً، والطرق الكثيرة سماها سبلاً؛ لأن الصراط أقوم، ولفظة السبل يظهر منها أثر المنفعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه)، فيمكن أن يحقق سبيل من هذه السبل، جاهاً، أو سلطاناً، أو مالاً، أو متعة؛ فهذه كلها سبل، لكنها قصيرة وهامشية لا قيمة لها، إنما طريق الله عز وجل طويل جداً لكنه مستقيم؛ فالطريق إذا كان متعرجاً تحتاج إلى علامات إرشاد، أن أمامك منحنى أو أنك ستتجه باتجاه اليمين، وبدون هذه الإشارات يضل الإنسان، أما لو كان الطريق مستقيماً فلو أن الماشي كان أعمى لا ينحرف عن مشيته فإنه يصل، فطريق الله عز وجل طويل نعم، لكنه مستقيم، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فهذا الطريق الوحيد أليس أوْلى أن تبحث عنه أكثر من بحثك عن لقمة الخبز في بلاد الكفر، أليس هو أولى أن تسأل عنه الليل والنهار كل من تلقى من أهل العلم، ما النجاة؟ وأين هذا الطريق، وما علامته؟ اعلم أيها الكريم! أنك لست أذكى ممن ضل، ولست أشد عبادة منه؛ الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، تُرى هل أنت أذكى منهم؟ A لا. بل هم أذكى بكثير؛ المعتزلة وسائر الفرق الثلاث والسبعين كان رءوسها من أذكياء العالم، هذا عمرو بن عبيد كان المأمون إذا رآه أنشد قائلاً: كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وذلك بسبب زهده، أما من سواه فأول ما يجيء أحدهم عند أمير المؤمنين يريد يصطاد صرة من المال، فيدخل يتكلم أي كلام فيه مداهنة. كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد رويد: هو المشي البطيء، وعادة لا يمشي مشيةً بطيئةً إلا رجل له مأرب، إنما الرجل الذي لا يلوي على شيء تجده جاداً وسريعاً في مشيته، إنما الذي يمشي رويداً ويتلفت يمنةً ويسرة فإنما له مآرب. كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وعمرو بن عبيد كان من أذكياء العالم، ومع ذلك ضل، فكيف ضل هذا وأنت اهتديت، ولست مثله في ذكائه، ولست مثله في عبادته، الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقسم غنائم حنين جاءه ذو الخويصرة وقال: (يا محمد اعدل فإنك لم تعدل، قال: ويلك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! فأراد خالد بن الوليد أن يضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً) وفي الرواية الأخرى قال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من أصله- أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) تعرفون قتل عاد؟ لما أراد الله معاقبتهم استأصلهم فصاروا كجذع نخلٍ منقعر -أي: قتلهم قتلاً ذريعاً- ولم يرحمهم. الرسول عليه الصلاة والسلام يصف وينعت هؤلاء الأقوام للعباد الزهاد، الأكابر السادة، لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، أليس هؤلاء هم الصحابة الذين يضرب بهم المثل في الجد في العبادة؟ عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! افرضه عليَّ -افرض عليَّ أن أقوم بالقرآن كل ليلة- فأبى، قال: لعله أن تكون بك حياة) وقد طالت به حياة، وكان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لكنه كره أن يقل في العمل عما تركه عليه النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص قصته مشهورة؛ فقد تزوج امرأته وفي ليلة الزفاف تركها وأقام الليل، قال: لشدة ما كنت أجده من العبادة، فكان عنده حب لقيام الليل، وهذا الحب أفسد عليه ليلة الزفاف، وكان أبوه عمرو بن العاص يعلم منه هذه الخصلة، فتخوف أن يكون قام ليلته تلك وترك المرأة، فجاء في الصباح وسأل زوجة ابنه ماذا فعل عبد الله؟ قالت: نعم العبد لربه لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فعزمني وعضني بلسانه وقال: أنكحتك امرأة ذات حسب من قريش فأعضلتها، وجعل يقول له: كذا وكذا، وشكاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان من قصته ما تعلمون. إذاً: عندما يقوم عبد الله بن عمرو بن العاص الليل كله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (يا عبد الله! كيف تصوم النهار؟ يقول: أصوم الدهر كله)، يصوم كل يوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كأنه يقول: يا عبد الله! أنت ومن على شاكلتك سيأتي زمان ينبغ فيه رجال يصلون صلاةً، فتقوم أنت وتحتقر صلاتك أمام صلاتهم وتقول: هل أنا أصلي؟ إنما هذا لعب بجانب صلاة أولئك الناس، وحين ينظر إلى صيامه -رغم أنه يصوم كل يوم- يحتقر صيامه إلى صيام هؤلاء، وكل ليلة يصلي إلى الفجر ومع ذلك يحتقر صلاته إلى صلاة هؤلاء. كيف تكون عبادتهم إذاً؟ منتهى الجد في الصلاة، ومنتهى الجد في الصيام، ومنتهى الجد في قراءة القرآن، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم) ما نفعته صلاته في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، ولا نفعه صيامه في تثبيت أقدامه على الطريق الحق، كلما رأى مبتدعاً يلوح برايةٍ تبعه، أفأنت أشد عبادةً من هؤلاء؟ إذاً لماذا ضلوا؟ قلت لك: إن الأمر شائك وصعب، وحري بك أن تبحث عنه في وسط ثلاث وسبعين طريقاً، تفتش عن هذا الطريق الوحيد للنجاة، المسلم العاقل لا يفتر الليل والنهار، يسأل: كيف النجاة؟ وهو أولى من زيادة الدخل، كل ما شئت؛ فما زاد عن حاجتك إلى المجاري، والبس ما شئت إلى بِلى، وهذا كل ما يبحث الناس عنه، وما قطعوا أرحامهم ولا سافروا إلى بلاد الكفر إلا من أجل المال، وإشباع شهوتي البطن والفرج، الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول: (افترقت الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فصعب عليك المسألة. والرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك البيان، وما ترك لنا شيئاً مشكلاً ليس له حل، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) ونحن لا نعلم أبداً طريقاً ليلها كنهارها إلا هذه الطريق. إذاً لا تقل: أنا مشيت بالليل فضللت؛ لأن الليل كالنهار، قال أبو ذر وقد أبصر طائراً في السماء: (ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا عندنا منه علم)، وقال الله عز وجل ممتناً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فمن أين أوتينا؟ أوتينا من الجهل، وقلة المبالاة بالبحث عن الطريق الوحيد وسط كل هذه الطرق، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153] هذا هو الطريق الوحيد، إن العبد لا يصدر إلا من طريقين: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، هذان هما الطريقان، إما هواه أو الهدى من الله {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، هذا الطريق الأول، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] وهذا الطريق الثاني، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَ

التحاكم إلى القوانين الوضعية

التحاكم إلى القوانين الوضعية إذن هذه الآيات كلها تدور على أن العبد يصدر إما عن وحيٍ وإما عن هوى، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فإذا لم يتبع العبد الوحي فما ثم إلا الهوى، أهل البدع برغم ذكائهم وبرغم جدهم وعبادتهم ضلوا؛ لأنهم خالفوا أهل الحق في منهج التلقي وفي طريقة الاستدلال؛ هذا هو سبب ضلالهم، منهج التلقي كما في الآيات التي تلوناها: الوحي، فلا تصدر إلا عن وحي، عن قرآنٍ وسنة، هذا أعذر لك حتى لو زلت بك القدم وضاق عقلك عن فهم الآية عذرت، قلت يا ربِّ! اجتهدت في طلب الحق من هذه الآية فلم أصب، هذا بخلاف الذي يعبد على غير وحيٍ. ولذلك العلماء قالوا بالنسبة للقانون الوضعي الذي تسير عليه الدولة الآن في المحاكم، وفي الجنايات، وفي العقوبات، وفي القصاص، كل القوانين التي في المحاكم الآن ضلال مبين، وهي على خلاف الشرع، ما بقي لنا من ديننا في المحاكم إلا قانون الأحوال الشخصية وقد بدلوه أو بدلوا أكثره، ففيما يتعلق بالمرأة يريدون الإجهاز على البقية الباقية من القانون، الذي هو في الأساس منتقى من مذهب أبي حنيفة، وحتى لو كان ما في هذا القانون قولاً مرجوحاً في مذهب أبي حنيفة فهو خيرٌ من القانون الفرنسي، ومع ذلك فهم يزحفون على البقية الباقية من قانون الأحوال الشخصية. فلو جاء رجلٌ فقضى بالقانون الوضعي في قضية ما، فأصاب حكم الله فهو مأزورٌ غير مأجور، ولو حكم بشرع الله وأخطأ فهو مأجورٌ غير مأزور، فما الفرق؟ الفرق أن هذا الرجل الأول اعتمد في الأصل على غير ما أنزل الله، أصاب الحق أو لم يصب لا قيمة لذلك، إنما من لطف الله بنا أن الرجل إذا أفرغ وسعه في طلب الحق واعتمد على الأدلة الشرعية وأخطأ فإنه يصيب أجراً واحداً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) أي: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق، والأول له أجر الاجتهاد فقط، إذاً برغم أنه أخطأ إلا أنه يؤجر أجراً واحداً، أما الأول فبالرغم من أنه أصاب حكم الله عز وجل، لكنه مأزور؛ بسبب أنه لم يعتمد على الوحي قرآناً وسنة، وهذا هو الأصل؛ لأن الحكم ليس له إلا وجهان فقط: إما وحيٌ وإما هوى.

أسباب الوصول إلى طريق النجاة

أسباب الوصول إلى طريق النجاة إن أول سبيل وأنت تفتش عن الطريق الحق وسط هذا الكم من الطرق أن تبحث عما كان عليه الأصحاب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام عبادةً وعقيدة، كانوا أقل الناس تكلفاً، سمة التكلف غير موجودة فيهم أبداً، حتى الورع بالرغم من أنه يحمل العبد على التكلف بترك المباح، فترك المباح تكلف، فمثلاً لو افترضنا جدلاً أن رجلاً جاء يطعم عند رجل آخر فقال: هذا الدجاج أذبحته أنت بنفسك؟ قال: لا. لكنه مذبوح في بيتي، قال: من الذي ذبحه؟ وهل من ذبحه يصلي؟ الرجل يسأل كل هذه الأسئلة بقصد ألا يأكل لحماً ذبحه رجلٌ لا يصلي، فهذا ورع أو داخلٌ في جملة الورع، لا يريد أن يطعم شيئاً فيه شبهة، ومع ذلك يلوح عليه أثر التكلف؛ لأنه مخالف لسائر الأدلة التي تبين لنا أن الأصل في ديننا اليسر، وما لم يأتك لا تتعنى البحث عنه، فتضيق على نفسك. شخص يدخل الأسواق -ومعلوم أن كثيراً من أموال الأسواق سرقة وغصب، وأن كثيراً من المحلات قائمة على قروض ربوية من البنوك- فلو دخل رجلٌ محلاً تجارياً فسأل صاحب المحل: أتقترض من البنوك؟ أتجري المبايعات على الحل، أو تقع في المبايعات المحرمة. كان ذلك تنطعاً، وهو يضيق على نفسه دائرة الحلال، إنما لو دخل واشترى فما على المحسنين من سبيل، ولا يقال له: لِمَ لم تسأل؟ لكن لو سأل وعرف، ثم احتاج بعد ذلك فاضطر إلى الشراء يلام، ويقال له: فتشت وتعنيت ولم يطلب منك، برغم أن التفتيش هذا داخل في دائرة الورع ولو في الجملة. فالصحابة حتى في ورعهم لا يلوح عليهم هذا التكلف، وقلما وجدنا صحابياً يسأل مثل هذه الأسئلة، لكن ورعهم عليه نور وهالة، لأن هذا يتماشى مع فطرهم، ليس عندهم تكلف في الأصل. فأنت في أول بحثك حتى لا تتوه اطلب سير الصحابة، واقرأ تراجمهم، وانظر كيف كانوا يركعون ويسجدون، كيف كانوا يذكرون الله عز وجل، ثم انظر في سير التابعين، وكيف تأسوا بهؤلاء الصحابة حتى تتدرج إلى العلماء المتبوعين، الأئمة الكبار كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، كل هؤلاء السادة عندما تقرأ سيرهم وتمشي على طريقهم ولو تقلدهم في بعض ما تقرأ، لا تقرأ إزجاءً للفراغ، فمثلاً روي أن الإمام أحمد رحمه الله أصيب بوجع فدخل عليه بعض أصحابه، وهو يئن من المرض، فقال الإمام أحمد له: حدثنا -وأحمد هو أحمد والذي يحدثه لا يبلغ في علمه نصف أحمد - فقال: حدثنا فلان عن فلان، عن طاوس أنه كان يكره الأنين في المرض، قال: فما أنَّ أحمد بعدها، فـ طاوس تابعي وأي حجة في كلام التابعي أو في فعل التابعي إنما الحجة في كلام الله ورسوله، والتأسي يكون بالصحابة، لكن الإمام أحمد بن حنبل لا يجهل قدر طاوس، وكانوا إذا رأوا كلمة الحكمة تخرج من أي فمٍ وصادفت عندهم موضعاً يتبعونها، ولما سئل بعد ذلك عن أنين المريض قال: أكرهه؛ لأن طاوس كان يكرهه، فالإنسان يتأسى بمن سبقه من أهل العلم. ذكر الإمام أحمد ما وقع له في المحنة فقال: وجلدت في يوم الإثنين وكنت صائماً ثلاثمائة جلدة حتى أغمي عليَّ عدة مرات -أي كان يفيق ويضرب ويغمى عليه- قال: فجاءني رجل لا أعرفه، وقال: يا أحمد! اصبر، قال: فكلما جلدت ذكرت الرجل وكلمته وتجلدت. فمن هذا الرجل؟ وما قيمته؟ لا نعرف له رسماً ولا اسماً ومع ذلك صار إماماً لـ أحمد، قال: يا أحمد: اصبر، والأمر بالصبر، جاء في آيات وأحاديث كثيرة، لكن كان يتأسى. فأول ما ينظر الإنسان إلى هدي الصحابة، وكيف كانوا يوجهون التابعين، يحاول أن ينفذ ولو جزءاً مما قرأ، فحين يسمع هذا الكلام يقول: أنا سأكون مثل الإمام أحمد، إذا مرضت فلن أئن، فهو في هذه الحال قد تأسى. ومن المرضى من يعد مريضاً متعباً، ومنهم من يعد مريضاً مريحاً، فالمريض المتعب، أول ما تدخل عليه يجأر بالشكوى، وقد أتي له بالأطباء، وبذل معه كل ما يستطيعه البشر، ومع ذلك فهو يئن، فلا يستطيع القائم عليه أن ينام هو الآخر، بسبب هذا المريض الذي يكثر من الشكوى، وهناك مريض مريح، إذا دخلت عليه قال: الحمد لله لا تشغل نفسك بي، ويقول هذا الكلام وهو يتوجع، فتصور لو أن هذا المريض ترك الأنين لأراح من حوله ولتمكنوا من الاشتغال بأعمالهم دون إشغال فكرهم بحال مريضهم. فالإنسان إذا قرأ مثل هذا وتأسى يكون له في ذلك منافع، لكن أيضاً لابد من النظر فيمن يتأسى، فلا يتأسى إلا بمثل طاوس بن كيسان رحمه الله، فضلاً عن الصحابة الكبار، ومنهم الصحابي الكبير جرير بن عبد الله البجلي، حين أرسل غلامه إلى السوق ليشتري فرساً وكان الغلام ذكياً وحاذقاً (والتجارة شطارة) واستطاع أن يشتري فرساً من رجل بثلاثمائة درهم وكانت فرساً قوية، وجاء جذلان فرحان، وجاء معه صاحب الفرس إلى جرير لينقده الثمن، فـ جرير بن عبد الله نظر إلى الفرس وقال: بكم اشتريت هذا؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: يا صاحب الفرس إن فرسك تساوي أربعمائة، قال له الرجل: بعتك: قال: تساوي خمسمائة، ستمائة إلى أن وصل إلى ثمانمائة، وفي كل ذلك يقول الرجل: بعتك، فارتفع السعر من ثلاثمائة درهم إلى ثمانمائة درهم، يعني: بلغ الفرق خمسمائة درهم، وهو ما يساوي قيمة فرسين، وجرير بن عبد الله هو الذي سيدفع، فلما أعطاه الثمانمائة درهم وخرج الرجل -صاحب الفرس- بقي الغلام مذهولاً، قال لـ جرير: ما هذا الذي صنعت، قال: (إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، هذا هو النصح، فرسه تساوي ثمانمائة، لماذا تنقص في السعر؟ فانظر إلى حفظ العهد، ولذلك سادوا. أنت تنقص سعر السلعة وتكسب خمسمائة درهم وتذهب تصرفها عند الطبيب، آه لو قدرها العبد تقديراً صحيحاً، لأدرك أنه يخسر بهذه الطريقة، والدراهم التي يخسرها في المبايعات كلها بسبب الذنوب لو يدري، لو كان عاقلاً لدفع المال صدقة اتقاء المعصية وشؤمها، وهو الرابح على أية حال، لكنه قصير النظر، لا يدري ما تحت شراك نعله، لذلك خسارته متوالية وهو لا يدري، والعجيب أنه يخطئ في نفس الموضع أكثر من مرة ولا ينتبه؛ كأنه أعمى لا يرى، إنما الهدى هدى الله، لذلك قال جرير: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح) ولو دفعت خمسمائة درهم زيادة خير لك من أن تخسر ذمة الله ورسوله بثمنٍ بخس، فلا تنقض عهد المبايعة بخمسمائة درهم، بل أوف بالعهد، وأعط الخمسمائة درهم وأنت الرابح، هكذا كان التزام السلف، إذا سمعوا الأمر لم يتجاوزوه ولو كان مُراً. أبو قتادة رضي الله عنه جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعه يقول: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه) قال: فما مسست ذكري بيميني قط، وصحابي شهد بيعة الرضوان، قال: (والله ما مسست ذكري بيمني مذ بايعت) حتى تظل هذه اليد آخر عهدها بيعة الرضوان، وقد يشق عليه الأمر، وقد يكون في موضع يحتاج أن يمس ذكره بيمينه في الاستنجاء، ومع ذلك لا يفعل، وما ذاك إلا لحفظ العهد، وكل النصوص في القرآن والسنة عبارة عن عهود ومواثيق متروكة لك، فلا تخسر ذمة الله ورسوله، وعظِّم الأمر أن تتركه، وعظِّم النهي أن تأتيه؛ يكون أسلم لك، فهذه هي بداية الطريق، وشياطين الإنس والجن على جنباته يتقاذفونك حتى لا تضع قدميك على هذا الطريق.

دور الإعلام المضلل في الصد عن طريق النجاة

دور الإعلام المضلل في الصد عن طريق النجاة الإعلام المضلل الآن، سواءً كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، كل ذلك صد عن هذا الطريق الوحيد، الذي فيه النجاة، فأنت يا أخي ليس لك معين، وإن وجد المعينون على سلوك هذا الطريق فهم أقل من القليل. وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل أما آن لك أن تدرك حجم المحنة التي تمر بها، أنت في محنةٍ فعلاً؛ محنة حقيقة، والأَمَر من عدم سلوك الطريق، عدم إحساس العبد بأنه مبتلى، وهذا أشد من البلاء، يعني لو أصيب الرجل بمرض يسير وكابر وقال: أنا لست بمريض، فقيل له: إن بوادر المرض ظاهرة عليك، فقال: لا. أنا صحيح معافى، وأبى أن يأخذ الدواء، أليس من الجائز أن يقتله هذا المرض اليسير (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له). لا تنم لعدوك لو كان نملة، فمن الجائز أن يموت العبد بهذا المرض اليسير لأنه كابر، وقد يصاب العبد بمرضٍ عضال ويلتمس له العلاج ويبرأ. إذاً عدم تسليم العبد بالمرض أشد عليه من المرض ولو كان فتاكاً، وعدم إحساس العبد أنه في محنة في وسط هذه التيارات، وعلى كل سبيل شيطانٌ يدعو إليه، وأهل البدع عندهم إمكانيات، ولهم دول، ولهم مجلات. وعلى سبيل المثال فإن تقي الدين صاحب الفاكهة -يسمونه تقي الدين، من باب تسمية الشيء بغير اسمه الحقيقي- هو رئيس المجلس الصوفي العالمي، عندما جاء إلى هنا آخر مرة قبل خمس سنوات أو ست سنوات قدم عدة ملايين، على صورة إعانة والقصد منها نشر الصوفية، فالفكر الصوفي هذا هو التنويم المغناطيسي، يجعل منك بطلاً مجاناً، لا تريق دماً ولا تقول كلمة حق، ولا تقوم الليل، ولا تصوم النهار وأنت في جنات عدنٍ، المطلوب منك أن تأكل الديك وبعدها تقوم تهضم، ويكون زاد الداعية الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، لا أعلم على وجه الأرض أكثر كذباً على الله ورسوله من هؤلاء الصوفية. يأتي أحدهم ويقول لك: (الرسول عليه الصلاة والسلام أكل ثم جاء رجلٌ فأنشد: (لسعت حية الهوى كبدي)، فجعل يتمايل إلى أن سقط برده من على كتفيه)، يعني من كثرة الوجد والعشق تمايل حتى سقطت البردة من على كتفيه، هذا هو زاد الصوفية، طبعاً الكلام هذا مختلط بقليل شرك، وزندقة -نسأل الله السلامة- فيؤتى بالملايين وتنفق لنشر مثل هذه العقائد، إن الصوفية هم الذين أدخلوا الحملة الفرنسية، والجبرتي الذي يعتبر مؤرخ العصر أرخ لهذه العملية، اقرأ تاريخ الجبرتي وانظر كيف دخل الفرنسيون إلى مصر، فالصوفية هي أفيون الشعوب ومع ذلك ينفق عليها الملايين ولو تساءلنا عن الجماعة التي تحج وتعتمر منهم كل سنة من أين يأتون بالمال، وأين رأس مالهم، فلا تكاد تجد إجابة. ومع ذلك لو جيء رجل من أهل الحق ووجد عنده بعض الكتب، لاتهم بأنه يتلقى تمويلاً خارجياً! ولو ركب سيارة لقيل له: من أين لك هذا؟! وإذا وجد عنده قطعة أرض قيل: الأموال آتية من إيران. رغم أننا أعداء إيران، ونحن لا نحبهم ونبغضهم ونقر أنهم مبتدعة، ومع ذلك نتهم بأن تمويلنا آتٍ من إيران، وهو من المفارقات العجيبة. وذات مرة دخل عليَّ رجل ونظر في كتاب عندي -الكتاب مطبوع في بيروت ومن المعلوم أن لبنان تعد معقلاً للطباعة في الدنيا- وقال: وجاء لك هذا الكتاب من بيروت، ومع ذلك فالواقع يقول أنه ليس في أيدينا شيء، وليس عندنا إمكانات على الإطلاق إلا هذا الوهج من الحق الذي نقوله. فأنت حين تبحث عن الطريق الوحيد اعلم أن أهل البدع معهم إمكانات كثيرة جداً، وأنت ليس عندك إمكانات، ويا ليتهم تركوك تمضي وحدك، إنما يجتالونك، ويضعون العراقيل في سبيلك، فأنت في محنةٍ حقاً، فلابد أن تقدر للأمر عدته؛ حتى لا تفاجأ وينصرف عزمك عن مواصلة السير على طريق الله الطويل المستقيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

مخالفة أهل البدع لأهل السنة في منهجي التلقي والاستدلال

مخالفة أهل البدع لأهل السنة في منهجي التلقي والاستدلال الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن الفرق انقسمت إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة فقط في الجنة، واثنتين وسبعين في النار، وهم أهل البدع، وهم يخالفوننا في منهج التلقي، ويخالفوننا في منهج الاستدلال، ولهم مخالفات أخرى جسيمة كثيرة، لكن هذان الأمران هما أبرز ما عندهم، وكل ما يجيء بعد ذلك، فرعٌ عنهما. وقلنا: إن منهج التلقي لا يكون إلا من طريقٍ واحد، وهذا فيه رد صريح على الصوفية؛ الذين يقولون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر، والرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة الحاجة التي كان يخطبها دائماً، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد)، إذاً: فليس هناك إلا طريقٌ واحد، ومع ذلك يأتي من يقول لك: عدد الطرق بعدد أنفاس البشر، أنفاس البشر لا تحصى، مئات الملايين من الطرق، لذلك كلما هووا شيئاً جعلوه ديناً؛ بسبب هذه المقالة، حتى وصل الأمر ببعض رءوسهم أيام ابن الجوزي إلى ترك الصلاة، لماذا؟ لأنهم أيضاً يخالفوننا في منهج الاستدلال، القرآن لا يستطيع أحد اللعب فيه ولا إدخال ما ليس منه فيه، ولا إخراج شيء من القرآن؛ لأن القرآن محفوظ بحفظ الله عز وجل، ولو وكله إلينا لضيعناه، كما فعل اليهود والنصارى، لما جعل حفظ التوراة والإنجيل إليهم حرفوه، والنفس البشرية واحدة. وهم الآن يلعبون بآيات الله عز وجل عن طريق تحريف المعاني، بعدما عجزوا عن تحريف اللفظ، ولو ترك الله عز وجل الحفظ لنا لحرفوه أيضاً بعدما هانت عليهم الآيات فحرفوا المعاني {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فاللفظ محفوظ، لكن من أولئك من يأتي ويلعب بالمعنى، فذكر ابن الجوزي رحمه الله قال: وبعض أكابرهم هنا لا يصلي، فلما سئل عن ذلك، قال: إن الله عز وجل يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وأنا قد جاءني اليقين. فمعنى الآية في فهم هذا المخذول: أي إذا وصلك اليقين كف عن عبادة ربك؛ لأن لفظ (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية. كما لو قلت لك: ذاكر حتى تمل، أو صم حتى تضعف، أو كل حتى تشبع، (حتى) حرفٌ لانتهاء الغاية، فتكون وصلت إلى نهايتك في الشبع، وفي التعب، وفي الملل، فاعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فإذا وصلك اليقين فكف عن عبادة ربك؛ لأن اليقين هو الغاية. قال ابن الجوزي: ويقول: وصلت وصدق. إنما إلى سقر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أسدّ الناس طريقةً وأعظمهم يقيناً ما علمناه ترك الصلاة ولا ترك الصيام، فيكون هذا اتهام للرسول عليه الصلاة والسلام أنه مات ولم يصله اليقين. والقائل بهذا حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار، أراد أن يجد لنفسه عذراً سائغاً، فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يصله اليقين. ومنهج التلقي هو قرآن وسنة، لكن لابد أن يكون بفهم السلف الصالح أصحاب هذا الطريق الوحيد، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وكما قال مالك رحمه الله: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً. هم أوْلى بالدين وعاينوه غضاً طرياً، وسألوا عنه صاحبه، وأدرى الناس بمراد الله ورسوله، فهم أولى بالاتباع. فمنهج التلقي ينبغي أن يكون محصوراً في الطريق الواحد؛ طريق القرآن والسنة، وبما أن النص قد وصلنا فيبقى النظر في هذا النص وما دلالاته؟ وماذا يريد الله منا بهذا؟ فخالفنا أهل البدع أيضاً في منهج الاستدلال ومنهج الفهم من النصوص، مثلما خالفونا في الأول. فـ إبراهيم النظام وهو أحد أكابر المعتزلة ينكر حديث انشقاق القمر، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فهو يقول: القرآن حق وانشق القمر في القيامة، حين تصير السماء واهية وتنكدر النجوم وتصير الجبال كالعهن ينشق القمر، وينكر أن يكون القمر قد انشق في مكة، ويزعم قائلاً: إن القمر لا ينشق لـ ابن مسعود وحده. فنقول لهذا الجاهل: ليس ابن مسعود فقط هو الذي روى هذا الحديث، رواه أمة من الصحابة. لكنه جاهل بالحديث، جاهل بطريقة نقل السنة؛ لأنه أخذ طريقاً من الثلاثة والسبعين غير الطريق المنجي، لذلك فهم جهله، لا يعرفون شيئاً عن هدي الصحابة ولا عن سمتهم ولا دلهم، فيقول: القمر آية من الآيات العظيمة فهل يعقل أن يكون الناس كلهم نائمين وابن مسعود رأى القمر وحده؟!! وهذه آية لو رآها أهل الشرك لضلت أعناقهم لها خاضعين، فكيف لم يسلموا؟ فينكر النصوص ويهدم بمعول الباطل نصوص الحق؛ لأنه جاهل ومعادٍ، وقد رأى انشقاق القمر الكثير من الناس، كالقوافل التي كانت تمشي بالليل، رأت القمر فلقتين، فلقة هنا، وفلقة هنا.

اعتماد أهل البدع على المناهج الفلسفية للصد عن المنهج الحق

اعتماد أهل البدع على المناهج الفلسفية للصد عن المنهج الحق إن من المبايعات الربوية التي يرعاها اليهود ودخلت بلاد المسلمين عن طريق البنوك، أن يقال لك: أنت تأخذ قرضاً لخمسة وأربعين يوماً، في اليوم الأول بخمسة قروش، وفي الثاني بعشرة قروش، وفي الثالث بأحد عشر قرشاً، وفي الرابع بأحد عشر قرشاً ونصف، وفي الأسبوع الثاني بخمسة وعشرين، فإن سألت عن أساس هذه المعاملة قال لك: هذا هو شغلنا وهذا هو نظامنا. فتقول له: ولكنكم تعسرون على الخلق، وكثير منهم سيموتون تحت الأرجل، قال لك: هذا ليس مهماً، نحن نريد أن نسيطر على قرارات الدول المستضعفة التي تعيش على هامش الحياة، وندخل في ميزانيتها، فنأتي لمن يزرعون القمح ونقول لهم: لماذا تزرعون قمحاً وتتعبون، ازرعوا عنباً، ونحن سنأخذه منكم بالعملة الصعبة، يعني العنب في بلدنا -وهذا الكلام على لسان ذاك الأخرق- يقول لك: العنب في بلدنا مثلاً يعطي اثنين جنيه ونصف، أنت ازرع العنب وأنا سآخذه منك بعشرة جنيهات، فالغافل يفرح، ويقول: أنا أبيع العنب بعشرة جنيه، وأشتري القمح الرخيص واستفيد بهامش الربح، فإذا زرع الأرض عنباً وجوافة، وجعل كل المسطحات الزراعية جوافة وعنباً حتى يصير المكسب سهلاً، ولا يستطيع أحد أن يتنازل عن مستوى حياته الجديد، ولسان حاله يقول: إنه في آخر السنة بعد قضاء كل مستلزماتي يتبقى لي عشرة أو خمسة عشر ألف جنيه، أصلح بها من حالي، وأنا الآن غير مستعد أن أنزل عن هذا المستوى، فإذا وصلت إلى هذا المستوى، قيل لك: العنب كثر عندنا والقمح قل. فنقول: ما الحل أنا لا أستطيع الاستغناء عن رغيف الخبز، فيقال لك: إذاً لا داعي لأن تبعث لنا عنباً، وسنحاول أن نعطيك القمح بقدر المستطاع، فيبدأ عندها التنبه إلى خطورة ترك زراعة القمح، ولكن بعد أن تكون القوى الاقتصادية العالمية قد أطبقت قبضتها على اقتصاد البلد. وإذا قلت لهذه القوى الاقتصادية: الناس في الصومال المسلمة يموتون من الجوع، وأنتم ترمون القمح والبر والشعير واللبن في المحيط، قالوا: حفاظاً على الأسعار، وهذا نظام اقتصادي عالمي. أهل البدع فعلوا مثلما فعل هؤلاء، فيأتي أحدهم ويقول: إن أصحاب الحق عندهم سهام قوية جداً، وإلزامات خطيرة، وكي أهرب منهم وأتقي ضربتهم أقوم بوضع أصل مخترع من عندي، وحين يقول لي أحدهم: قال الله أقول له: أين المطلق؟ وأين المقيد؟ وأين الخاص؟ وأين العام؟ وأتوهه، وأقول له: لابد من فهم كذا، والمقدمة المنطقية الفلسفية وأتوهه، وإذا كثرت التفاصيل تاه الأصل والمراد. ولذلك فإن قصص القرآن يجتنب الخوض في التفاصيل: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، كيف عاشوا وما حكايتهم، ولو جاءت التفاصيل: فقيل: وأشرقت الشمس، وهبت الريح، وغربت الشمس، ونبح الكلب، وعندما يصل إلى المهم في القصة يكون دماغك قد امتلأ بتفاصيل لا قيمة لها، ومن المعروف أنه إذا كثرت التفاصيل ضاع العقل وتاه، فهذا الذي صنعه أهل البدع، ولعلنا نبسط شيئاً يسيراً من ذلك بعد الصلاة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

اعتماد أهل البدع منهج التشنيع على المحدثين للطعن في منهج أهل السنة

اعتماد أهل البدع منهج التشنيع على المحدثين للطعن في منهج أهل السنة السلفيون لهم مِنَّة في أعناق جميع المسلمين؛ لأنهم أصحاب المواجهة ضد الثنتين والسبعين فرقة، في اثنتين وسبعين جبهة مفتوحة ضد الطائفة المنصورة، صاحبة الطريق الوحيد، وقد ظهر ذلك في حياة الإمام أحمد بن حنبل، وفي حياة شيخ الإسلام ابن تيمية. لذلك فالتشغيب قائم على قدمٍ وساق ضد هذه الطائفة؛ لأنهم هم الذين يفضحون هؤلاء المبتدعة، ويغزونهم في عقر دارهم، ولا يجد المعتزلة لها عدواً مثل السلفيين، ولا يجد الأشاعرة لهم عدواً مثل السلفيين؛ لأن من عادة أهل البدع أنهم يداهنون أهل الباطل؛ ليسلكوا مذهبهم، لا مانع عند المبتدع أن يرى الرجل على طامة من الطامات فيدعه، يقول لك: دعه يهلك، المهم أننا نتخذه جسراً ونمر عليه. أما أصحاب الطريق الواحد؛ الطريق الوحيد الذي تكلمنا عليه: (ما أنا عليه وأصحابي)، يرى أن هذا من الغش، لذلك فإن لهم في كل وادٍ معركة، وشيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء الدعوة السلفية المباركة في القرن الثامن الهجري، كتبه كلها عبارة عن جولات حربية مع المخالفين في الأصول وفي مسائل الإيمان، وفي التوحيد، والأسماء والصفات، بل وحتى مع المخالفين في المسائل الفقهية الجزئية مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحدود والديات وغيرها. كل هذا سببه ماذا؟ أننا نستقي من الوحي، وأن مصدر التلقي عندنا مخالف لمصدر التلقي عند المبتدعة، ومصدر الاستدلال عندنا مختلف عن مصادر الاستدلال عند المبتدعة. نبتت نابتة في القرن الثالث الهجري في العراق أزرت على المحدثين وأظهرتهم في ثياب النقص والجهل وأنهم لا يعرفون الفقه، ولعلكم تعلمون أن الذي يغلب على طابع المحدثين هو التمذهب بمذهب السلف، وأسعد الناس بنهج هذا الطريق الوحيد هم المحدثون؛ لأن المحدث كل حياته: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فهو مثل القطار طريقه محدد لا يستطيع أن يخرج عنه، وكلما تسأله عن مسألة يقول لك: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ولابد أن يصل إلى صحابي أو إلى تابعي أو يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا المعنى الذي عبر عنه سفيان الثوري رحمه الله حين قال: (الحديث درج والرأي مرج)، والمرج: مفرد مروج وهي السهول الواسعة الفيحاء، والدرج هو السُلَّم، قال: (الحديث درج والرأي مرج) أي: الحديث درج مثل سكة القطار، فإذا أردت الكلام في المسألة الفلانية لابد أن يكون عندك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قول لصحابي، أو قول لتابعي، أو قول لعالم، المهم لابد أن ترجع إلى أحد، أما الرأي فهو مرج حيث تعمل عقلك في المسألة حتى تصل إلى رأي، فالمرج: هو المكان الواسع الفسيح، فإذا كنت على الدرج -أي كنت على السُلَّم- فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، لأن فلتة الرِجل عن السُلِّم ثمنها غال، فما معنى ذلك؟ معناه: إذا أفلت من الدليل فإن ذلك ثمنه غال، أما إذا كنت في المرج فسر حيث شئت، فالمحدثون أشهر من مشى على هذا الطريق وأبرزهم. فطلعت نابتة في القرن الثالث الهجري يتهمون أهل الحديث بالجمود، وأن حياة المحدث محصورة في: حدثنا وأخبرنا، لكن أول ما يأتي الفقه يسكت، وفي أحد مجالس هؤلاء قال أحدهم: مساكين أصحاب الحديث، لا يعرفون شيئاً في الفقه، قال الحسن بن عمر الهسنجاني -راوي هذه الرواية-: وكانت بي علة وكنت في أواخر الناس فزحفت إليه ثم قلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات فماذا قال علي، وماذا قال عمر، وماذا قال ابن مسعود؟ فسكت، قال له: واختلفوا في الأرش -دية الأصابع- فماذا قال عبد الله بن عمر، وماذا قال ابن مسعود، وماذا قال عثمان؟ فسكت. فجعل يعطيه مسائل من هذا النمط، واختلفوا في كذا، فماذا قال فلان، وماذا قال علان، والرجل صامت، ثم قال له: تعيب عليهم شيئاً لا يحسنونه بزعمك، وأنت لا تعرفه؟! فحين تظهر مثل هذه النابتة، ويأتي من يتكلم في أصل الدين من أهل العلم، يقال له: أنت لا تفهم في الفقه، دع الفقه لأهله، ثم يدعوه للمناظرة ويقول: هيا بنا ندخل ميدان المبارزة، فإذا قال المحدث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، يرد عليه قائلاً: لا. هذا الحديث لابد أن نفهمه على ضوء الآية، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، فالرجل حر، يدين كما يشاء، وهذا دليل من القرآن وهذا دليل من السنة وإذا حصل تعارض يقدم القرآن على السنة، وبهذا يكون قد لبس في هذه المسألة، وبجانب هذه الكلمتين يرفع صوته بالصياح، ولا يترك لك مجالاً للكلام، وإذا به يخرج وهو ينفض يديه قائلاً: هؤلاء لا يفهمون شيئاً، وأغلب العوام ينطبق عليهم القول القائل: (أول سارٍ غره قمر) فالعوام لا تحقيق عندهم، ولا يسمعون إلا للصوت المرتفع، فهذه طبيعة عند العوام، ويظل ذاك الداعية الناصح يحاول عرض بضاعته في أي مكان، إلا أنه يلقى صدوداً من الناس، لماذا؟ لأنه لم يفهم شيئاً في الفقه -بزعمهم-. فهذه من الأشياء التي تترس بها أهل البدع ضد ضربات أهل الحق، ولذلك لابد لصاحب الحق أن يكون طويل النفس. سألني أحدهم مرة فقال: لماذا تزيد كراهة الناس للعالم المقاتل؟ وضرب مثالاً بالإمام عبد الله بن المبارك، والإمام أحمد بن حنبل. عبد الله بن المبارك إمام مجاهد، زاهد عابد، هذا الرجل حين تقرأ سيرته تشعر أنه ليس في الدنيا مثله، فقد كان شامة في عصره كان جواداً، وكان تاجراً ناجحاً جداً، فكان عبد الله ينفق على ستة من أعلام عصره، وكان ينفق عليهم من حر ماله، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) يعني: كان يتاجر خصيصاً حتى ينفق على هؤلاء الستة الذين لو بصق الرجل منهم بصقة فتقاسمناها لخرج كل من في المسجد علماء فكان عبد الله ينفق على سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، والفضيل بن عياض، وكان يخصص لهم الرواتب أول كل شهر، ومرة جاءه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقال له رجل: إنه لا يأكل إلا الشوى -مثل ما نقول نحن: هذا الرجل معه فلوس وهو أغنى منك- أي كأنه يقول: يا إمام تعطيه عشرة دراهم، وهو لا يأكل اللحمة إلا مشوية على الفحم، قال: آلله؟ قال: آلله! قال: إذاً هو يحتاج إلى أكل، فلا تكفيه عشرة دراهم، فأرسل له بمائة درهم. فكان يرى أن النفقة في الله، وليس عنده فرق أأخذها من يستحق أو من لا يستحق، بينما نحن عندنا شح في هذه المسألة، ونتذرع بحجة أن هذا لا يستحق، حتى وإن كان لا يستحق فأنت لا تعامله، يعني: ضع الصدقة في يدي ودعها تذهب إلى غير مكانها، ألست مأجوراً؟! ألست أنت تعامل الله عز وجل؟ فكان عبد الله بن المبارك لا فرق عنده فيمن يأخذ الصدقة أيأكل لحماً أو غير ذلك؛ لأنه رجل يضع الصدقة ويعلم أنه يعامل الله عز وجل. ذهب ابن المبارك ذات مرة إلى الحج هو وغلامه وكان معهم أكل معفن فرموه في المزبلة، وبينما هو جالس إذ رأى بنتاً صغيرة ذهبت وأخذت الكيس الذي رموه في المزبلة ودخلت بيتها بسرعة، وجاء أخوها ووجد طائراً ميتاً فأخذه ودخل مسرعاً، فلفت نظره المنظر، فذهب وطرق الباب عليهم وقال: ما الحكاية؟ قالت البنت: والله ما لنا نفقة منذ ثلاثة أيام، وقد حلت لنا الميتة، فقال لغلامه: كم معك من المال، قال: معي أربعون ديناراً، قال: هات خمسة وثلاثين، وأعطاها للولد والبنت وقال: خمسة دراهم تكفينا للرجوع إلى البلد مرةً أخرى، هذا أفضل من حجنا هذا العام، فقد كان رجلاً فقيهاً، بالإضافة إلى أنه مجاهد، يضرب به المثل، أول ما يذكر المجاهدون إذا عبد الله بن المبارك على رأسهم، كأنه مرابط على الحدود، وكان في غزوة من الغزوات فأبلى فيها بلاءً عظيماً، ولما جاءوا يقسمون الغنائم تركهم وانصرف، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه لم يأت للمغانم وإنما جاء للجهاد أما الغنائم فيتركها للناس. أما من ناحية الحديث والفقه فكان ثبتاً وإماماً كبيراً، -وأنا حين أتحدث عن عبد الله بن المبارك فإنما أتحدث عنه حديث المحب المتيم، فلو قرأت سيرة عبد الله بن المبارك لعذرتني، رغم تقصيري في حقه لأن الموضع ليس موضع شرح سيرة عبد الله، لكن الحديث ذو شجون، والواحد إذا أحب أحداً أطال الحديث عنه. فصاحبنا يقول لي يوم أمس: لماذا عبد الله بن المبارك لم يكن له خصوم يكرهونه بخلاف أحمد بن حنبل؟ قلت: لأن أحمد بن حنبل كان مقاتلاً يدك الحصون، وجاء وقت دك حصون المبتدعة، ونحن نسلم أنه لو كان عبد الله بن المبارك موجوداً في زمن أحمد بن حنبل لكان فعل مثلما فعل أحمد إن شاء الله، فالذي يهاجم ليس كالرجل الساكن، فالساكن لا خصوم له، إنما الرجل الذي يناوئ هذا ويناقش هذا ويدك معقل هذا المبتدع، لابد من أن تجد له خصوماً بصفة مستمرة، وكلما كثر خصوم الرجل في الحق دل ذلك على نباهته، وعلى علمه وذكائه، وهذا مستقى من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا، وأشد الناس بلاءً الأنبياء، فالصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه) فأهل البدع لهم أصول يضعونها ليتخلصوا بها من دلالات النصوص، وعفا الله عن أبي الحسن الكرخي -أحد أصحاب أبي حنيفة رحمه الله- كان يقول: كل آيةٍ وحديثٍ يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. يعني كلام أصحابه هو الأصل، وكلام الله ورسوله هو الفرع، أي: إذا حصل التعارض يكون كلام الله إما منسوخاً أو يحمل على غير ظاهره، فهل هذا من تعظيم النصوص؟! إن تعظيم النص أن يكون كلام الله ورسوله هو الأصل، كما قال

فرار بعض أهل البدع من تشبيه الله بخلقه حملهم على نفي الصفات بالكلية

فرار بعض أهل البدع من تشبيه الله بخلقه حملهم على نفي الصفات بالكلية إن الدعاوى التي يطلقها أهل البدع إنما يتخذون منها متاريس يضعونها كعراقيل، والأدهى والأمر أنهم وضعوا متاريس ضخمة جداً في مقابل نصوص الوحي في العقيدة، وكلٌ منهم يطلب التنزيه، لكنهم يطلبون ما لا يدرك بالعقل، فالقمر وهو مخلوق، لو قلت لك: صف لي سطح القمر، وصف لي حجارة القمر، وصف لي جسمه، وصف لي هذه الأجرام التي تدور بسرعةٍ مذهلة، وهي تعد بالمليارات، فلن تستطيع؛ لأن العقل لا يستطيع أن يصف إلا ما وقع تحت الحواس، التي تعد البوابات للعقل، فما غاب عن أي حاسة من الحواس الخمس لا يستطيع العقل وصفه، والرسول عليه الصلاة والسلام أشار إلى ذلك، لما ذكر الجنة فقال: (فيها ما لا عينٌ رأت -فتستطيع أن تصفه- ولا أذنٌ سمعت)، إن أكثر حاستين يعمل بهما الإنسان ويستخدمهما العقل السمع والبصر، وبعد ذلك قال لك حتى لا تبحث كثيراً: (ولا خطر على قلب بشر)، انظر إلى نفسك حين تجلس للتأمل وتطلق العنان لخيالك فإنك لا تستطيع أن تصف ما في الجنة وهي مخلوقة، فهل تستطيع أن تصف الله؟!! فأهل البدع وقعوا في هذا الأمر فقالوا: نحن نطلب تنزيه الله عز وجل عن النقص، وإذا قرأت عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، قال لك: لو كان لله يد لكانت مثل أيدينا، والله ليس كمثله أحد، إذاً ليس له يد، وأنا أنزه الله، فتقول له: ثبت أن الله له يد، فيقول: أنت مجسم، وأنت ضال؛ لأنك تثبت لله يداً، ومعنى أن له يداً أنك تشبه الله بخلقه، فأنا أولى بالحق منك؛ لأنني منزهٌ وأنت مجسم. فإن قلنا له: إذا كان مطلبك إثبات التنزيه لله فما هو رأيك في الصحابة؟ ترى أنهم ماتوا وقد نزهوا الله، أو ضلوا عن التنزيه؟ فليس له عندها إلا أن يقول: إنهم نزهوا الله، فتقول: هلم ننظر إلى سيرتهم، وإلى فهمهم فما ثبت عنهم نعض عليه بالنواجذ، وما لم يثبت عنهم نرميه في البحر. وأي طالب للحق لن يرد هذا الكلام، ولا يتصور أن الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ماتوا على ضلال ولم يعرفوا الله، والمتصور أن هؤلاء الذين نقلوا لنا هذه الأدلة التي نحتج بها الآن هم أفهم لها منا، أو على الأقل فهمهم كفهمنا فلماذا، لا نطلب طريقة هؤلاء الصحابة؟!! وقد رد ابن قتيبة رحمه الله على هؤلاء برد جميل، يقول: أنتم نفيتم أن لله يداً، فما هي اليد عندكم؟ يقولون: اليد بمعنى النعمة، كما تقول: فلانٌ له عليَّ يدٌ وله عليَّ أيادٍ، فلان صاحب الأيادي البيضاء، ففلان له عليَّ يد أي: ليس بمعنى أنه يضع يده عليَّ، بل هي بمعنى: له عليَّ نعمة وجميل. فـ ابن قتيبة رحمه الله رد عليهم بقوله: اليد التي هي بمعنى النعمة، تفرد في كلام العرب وتجمع، إلا أنها لا تثنى، فتقول: فلانٌ له عليَّ يد (بالمفرد) وله عليَّ أيادٍ (بالجمع)، ولا تقول فلانٌ له عليَّ يدان (بالمثنى). وقد جاء في كتاب الله قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:64] فجاءت بالمثنى فدل على أن المقصود هنا اليد على الحقيقة، وليس المقصود بها النعمة، ولا المقصود بها القوة، كما في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فهذا يكون بمعنى التأييد والقوة والعون وغيرها من هذه الأشياء. فنقول: هل يضر ونحن نسلم أن الله عز وجل ليس كمثله شيء أن يكون له يدٌ ليس كمثلها شيء؟ A لا يضر، فلماذا لا تتبنى هذا القول، وفيه إثباتٌ للنص؟ إذا كان هناك قولان، قولٌ إذا تبنيته أهدرت النص وألغيته، وقولٌ إذا تبنيته أبقيت النص، فلا خلاف عند الكل أن القول الثاني أولى، لماذا؟ لأنك أبقيت النص وقلت قولاً لا يصادمه لاسيما وأنا معترفٌ أنا والخصم أن الله تبارك وتعالى له حياة، وأنا أيضاً لي حياة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، فهذه (حي) والأخرى: (الحي)، إذاً أنا حيٌ لأني أتكلم، وأحرك جوارحي، فهل تسلم أن لله حياة؟ نعم. وتسلم أن لي حياة؟ نعم. وهل حياتي كحياته؟ لا. فلماذا لم تنف الحياة عنه بما أنك أثبتها لي، فعندها لن يستطيع الرد. ولو قلنا أنك أثبت له حياة تليق بجلاله، وأثبت لي حياة تليق بي، فلماذا لا تقول: وله يدٌ تليق بجلاله كحياته، وأنت لك يدٌ تليق بك كحياتك؟ ولماذا لا تقول: له إصبع وله قدم وتثبت سائر ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له عز وجل في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؟ فانظر ما أحلى هذا الكلام، مثل الماء لا يصادم فطرة ولا يتعب عقلاً، أما صاحب البدعة فإنه يدور بك في متاهات أقواله وفي النهاية ترى أنك ذاهب إلى سراب بقيعة، لكن الكلام الذي قلته الآن هو كلام الصحابة والتابعين، وهو الكلام الذي إذا سمعه أي إنسان فإنه لا يرده، فإننا نثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فقد نفى عز وجل المثلية وأثبت الصفة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] في النفي {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] في الإثبات، فيكون نفى المثلية وأثبت السمع والبصر، فماذا نفهم من هذا؟ أنه (سميع) وليس كمثله سمعٌ، (بصير) وليس كمثله بصر، وكذلك له يدٌ ليس كمثلها شيء، وهكذا. لكن يأتي من يرد هذا الكلام فيقول: مَنْ مِن الصحابة قال بهذا القول؟ نقول له: هذا البخاري ومسلم رويا حديث أبي سعيد الخدري: (يوم يكشف الله عن ساقه)، يقول لك: هل روى هذا الحديث أحد غير أبي سعيد الخدري؟ وفيه نسبة الساق إلى الله هكذا بالضمير الصريح؟ لا. أليس من الجائز أن يهم أبو سعيد؟ نعم جائز. لكن التجويز العقلي لا ينبغي أن يعكر على الواقع الفعلي، فالذهن قد يتصور أشياء في الخارج لا وجود لها، مع إمكان حدوثها، أتسلم لي أن الله عز وجل قادرٌ على أن يخلق رجلاً بمائة ألف رأس، في كل رأس مائة ألف فم، في كل فم مائة ألف لسان، كل لسان يتكلم بمائة ألف لغة؟ فهل تنكر هذا؟ أما أن نقول: إن الله خلق واحداً من خلقه بهذه الصورة فهذا هو ما يخالف الواقع الفعلي. فالتجويز العقلي شيء، والواقع الفعلي شيء آخر، أليس من الجائز أن يمشي رجلٌ على الماء، أليس من الجائز أن يسير رجلٌ في الهواء، لكن هل وقع أن رجلاً مشى في الهواء، لا. مع أن القدرة صالحة، فقدرة الله عز وجل ليس لها آخر، ولكن ما وقع. فأنت تقول: هل الصحابي معصوم من الخطأ؟ أقول لك: لا. لكن أنا أقول لك: هو ليس معصوماً نعم، لكن هل أخطأ؟ فأثبت أنه أخطأ، فالتجويز العقلي ليس لنا اعتراض عليه، لكن لا ينبغي أن تهدر الدليل بالتجويز العقلي، أئمتك الذين تأخذ الهدى عنهم، هل يمكن أن يخطئوا؟ نعم يمكن ذلك. فلماذا أخذت عنهم الدين، وأخذت عنهم الكلام مع إمكان أن يخطئوا؟ فلذلك نقول: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه روى الحديث، وأنت تسأل: هل أبو سعيد معصوم؟ أقول لك: لا. من الجائز أن يخطئ أبو سعيد الخدري لكن أقول لك بدوري: أثبت أنه أخطأ بإثبات واقعي. وذلك بأن تأتي بصحابي آخر روى ضد ما روى، فتقول: أنا استدل برواية عمر بن الخطاب على خطأ أبي سعيد الخدري، حينئذٍ أنا أول القائلين بهذا ولا أنازعك، لكن كلامٌ ليس عليه دليلٌ أن صاحبه أخطأ، لماذا ترده؟ يقول: لأن الخبر الواحد لا تثبت به عقيدة، والعقيدة لا تثبت إلا بالتواتر. فنقول: إن معاذ بن جبل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اليمن لوحده، وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، فهل هذه عقيدة أو لا؟ فلو أن أهل اليمن قالوا له: يا معاذ! لن نؤمن لك، فماذا يكون الحكم الشرعي في حقهم؟ كفرة أم لا؟ بإجماع العلماء هم كفرة، فهل نكفرهم بواحد؟ إذا ثبت عليهم التكفير بخبر الواحد دل على أن خبر الواحد حجة ملزمة قطعية؛ لأن التكفير لا يكون إلا بالقطعي، كما أن إثبات الإيمان لا يكون إلا بالقطعي، فالتفسير لا يكون إلا بالقطعي. وبما أنهم كفروا بخبر الواحد، فدل ذلك على أن خبر الواحد قطعي. فلا يتمكن أهل البدع من رد هذه الأدلة. وعلماء المسلمين مثل ابن القيم وغيره أفاضوا في مثل هذه المسألة في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، وكان حين يناقش شبهاتهم يقول: كسر الصنم الأول، كناية عن أن الجهمية لهم أصنام، وهي عبارة عن المتاريس والشبهات التي يضعونها أمامنا، فجاء ابن القيم وكسر الصنم الأول من ثمانين وجهاً، 1، 2، 3، 4، 5، 6، إلى 80، حتى إذا ما أبطلوا وجهاً رد عليهم بالثاني، ثم الثالث والرابع، والخامس، حتى يأتي على بنيانهم من القواعد، وعندما تقرأ الصواعق المرسلة تعجب كثيراً من قدرة علماء المسلمين على نحت الأدلة من الصخر، وكيف اهتدوا إلى مثل هذه الاستدلالات التي هي من وراء وراء الكلمات. ومن الأصنام التي يحتج بها المبتدعة (المجاز).

حرص أهل البدع على إبعاد أهل السنة عن منهجهم الحق

حرص أهل البدع على إبعاد أهل السنة عن منهجهم الحق فالمقصود أن أهل البدع ما تركوا طريق أهل الحق سالماً إنما وضعوا المتاريس فيه، وفي نفس الوقت فتحوا الطريق إليهم على مصراعيها، فينظر الناظر إلى طريقهم فإذا به يظهر في منتهى السهولة، وحين ينظر إلى طريق أهل الحق يرى العوائق والصعوبات فيظن الخير في اتباع الطريق السهل. وهذا يذكرنا بحال أصحاب الأحزاب الدينية الذين يقولون: نحن ندخل مجلس الشعب، وبعد أن ندخل يحلها حلال، وندخل مع حزب العمل مرة، وندخل مع حزب الأحرار مرة، وأول ما ندخل نلعب عليهم، فيدخل ويقول لك: الانتخابات واجبة، ويدخل في الانتخابات، فإذا قلت لهم: كيف تدخلون مع حزب الوفد، بينما شعاره يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، أي: يقول: الدين في المساجد، وإنما أول ما تطلع خارج باب المسجد يحكمك القانون، لكن طول ما أنت في المسجد فسأترك لك البخاري ومسلم، وسأترك لك القرآن وتفاسيره، فإذا خرجت فسأمسكك بالقانون، وهذا معنى: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فكيف بحزب علماني يقول بفصل الدين عن الدولة بمنتهى الصراحة، تذهب لتلتحق به وتعمل تحت مظلته؟ فيقول: أنا سأمسك المعارضة وأخليها إسلامية!! (مثل السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية)!! فنقول له: ماذا تظن نفسك؟ ألا تعلم أنهم ما أجازوا التعددية الحزبية إلا بعدما أمنوا أنفسهم مائة في المائة؛ لأن من المعروف أن كل حزب يريد الحكم، فهل تتصور أن يترك لك خرم إبرة لكي تدخل منه للحكم، هذا بعيد عنك، لقد سد عليك كل الطرق، وسماها دستوراً، وسماها قرارات، ولجنة الأحزاب تعطي كل حزب يرغب في الانخراط في العمل السياسي لوائح معينة فإن وافق عليها أعطي تصريحاً بمزاولة العمل السياسي، ومتى ما خرج عن هذه اللوائح التي وافق عليها ابتداء، لوح له أولئك بهذه اللوائح، فإما أن يعود إليها وإما أن يسحب منه التصريح، فلا يكون أمامه إلا الانصياع والقبول بكل ما يملى عليه على أصل أن يأتي يوم من الأيام فيتمكن فيه من الإصلاح الذي يرجوه، فيبقى طول حياته ماشياً على الخط الذي هم عملوه، وهذا الخط يوصل إلى المحيط. فهو يدخل في أهل البدع، لكن هل يا ترى إذا بقي على هذا المسلك إلى النهاية هل سيجد طريقاً؟ لن يجد إلا المحيطات، وقد يجد طريقاً جانبياً يفتحه له أهل البدع بعدما يكون قد تعبت أنفاسه، وبعد ذلك يغرونه بالمناصب والامتيازات، كما حصل في أول الصحوة، فالصحوة حين بدأت في الجامعات سنة (74 و75م)، كانت هذه الصحوة التي عمت الجامعات آنذاك سلفية، وكانت منشورات الجماعة الإسلامية آنذاك تحمل هذه السمة، فتجدها تنقل من كتب ابن القيم وابن تيمية والألباني، والشيخ ابن باز، فكانت صحوة سلفية مائة بالمائة، أما بعد سنة (77، 78م) بدأت الأحزاب السياسية تدخل وأخذوا الشباب، ووضعوهم في القمة، فقالوا لأحدهم: أنت تأتي رئيساً للكتلة الفلانية، وأنت تأتي رئيساً للكتلة العلانية، وكانت المؤتمرات في ذلك الزمان يحضرها ألوف مؤلفة، فتصور عندما يكون الشاب في سن العشرين ويجلس بجوار المجاهد الكبير فلان الفلاني، ويقال: وفضيلة الشيخ فلان الفلاني، الآن سيقدم لنا كلمة، وفلان الفلاني الذي كان بالأمس القريب يسمع مع الجماهير، إذا به اليوم من القادة، والكل يشير إليه، ولم يكن قد ظهر آنذاك الجماعات المختلطة كما هو حاصل اليوم، فتجد الجماعة الواحدة تحمل الفكر السلفي على التبليغي على غير ذلك، أما من قبل فلم يوجد إلا العاطفة الجياشة للإسلام. فكل ما نحظى به الآن جماعات مشرذمة كانت فيما سبق تحمل رصيداً كبيراً من العمل الإسلامي، فكان الواحد من أولئك الشباب من واحد وعشرين سنة، لما يرى نفسه أصبح في هذا الموقع المبهر البراق لا يستطيع الرجوع، فخطفوهم بهذه الطريقة، حتى صار منهم من يعادي ما كان يعتقد أول مرة، وهذا بسبب الرياسة. فأهل البدع لا تسلم لهم أبداً، فهم كالثعابين ناعمة الملمس لكن القضاء المبرم في لدغتها، ولذلك فإن الطريق الوحيد في وسط الثنتين والسبعين سبيلاً يحتاج منك إلى تفتيش، والأمر جد ليس بالهزل، هذا طريق ناح فيه نوح، وأضجع للذبح إسماعيل، وألقي في النيران إبراهيم، وزاد مقداراً على البكاء داود عليه السلام، ومشى وسار مع الوحي عيسى، وقاسى الضر أيوب، وعالج أنواع البلاء محمد صلى الله عليه وسلم، تزهو أنت باللهو واللعب؟!! هذا طريق كله دماء وأشلاء، لذلك ينبغي أن تعد العدة حتى لا يصرفك عن مواصلة السير ما تجده من مصاعب هذا الطريق، لكن عاقبته الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم فيها، وأن يسددنا ويسدد أقوالنا، ويسدد أفعالنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. والحمد لله رب العالمين.

العزلة الشرعية

العزلة الشرعية العزلة أمر شرعي وسنة نبوية، فقد شرع الله لعباده المؤمنين اعتزال أقوامهم إذا وجدوا منهم الإصرار على الكفر، والتمادي في الصدود، وقد ضرب الله لنا مثلاً وأسوة بقصة إبراهيم عليه السلام، وهذه العزلة لها مواطن وأحوال تستلزمها؛ استنطبت أحكامها من نصوص الكتاب والسنة وعلى وفق ما سار عليه سلف الأمة.

الأسباب الداعية إلى عدم العزلة

الأسباب الداعية إلى عدم العزلة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! من آثار البراءة من أعداء الله عز وجل: الهِجْرة، والهَجْر، والعُزْلة، وقد تكلمنا باختصار عن الهجرة والهجر، ونتكلم اليوم عن العزلة، وهو موضوع شائك؛ إذ يحصل فيه توهمات نظراً لخطأ المعطيات. العزلة أمر شرعي، وهو سنة للأنبياء، وأول من اعتزل: إبراهيم عليه السلام، لما دعا قومه ولم يستجيبوا له، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، لكنه اعتزل يوم أدى ما عليه فلم يجد نتيجةً فخاف على نفسه. إن الرجل التاجر إذا أنفق من رأس ماله، ينبغي له أن يعيد النظر في تجارته، فنفقته ينبغي أن تكون من ربحه، لا يأكل من رأس ماله، فإذا رأى أنه يأكل رأس ماله، فعليه أن يعيد النظر، رجلٌ دعا الناس إلى الله عز وجل، فآذوه، حتى خشي على نفسه منهم، فحينئذٍ وجب عليه أن يحفظ نفسه، وهذا هو حد العزلة الشرعية، وإلا فالأصل عدم العزلة. من الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اعتزل الناس؟ من الذين يقفون على الثغور ويحاربون الكافرين إذا اعتزل الناس؟ من الذي يبين الباطل، الذي هو كالنهر الهادر في الجرائد والمجلات إذا اعتزل الدعاة إلى الله عز وجل خشية الأذى؟ في كل يوم سخافات تكتب في الجرائد والمجلات، لقد اعتقد بعض الناس وبكل أسف ممن كنت أتصور أنه رجل عاقل رشيد، اعتقد وحزن على موت البغي الداعرة وتصور أنهم قتلوها؛ لأنها أسلمت واحتارت وقد كانت حامل في شهرين، فكأن المسلم إذا زنا بكافرة يبقى الزنا حلال؟! ما هذا الخبث الجاري والمشكلة الكبيرة أن كثيراً من الناس ليس لديه من العلم ولا أبجديات الإسلام ما يرد هذا الخبث، موضوعات تافهة، لكن عند الذين يعلمون أبجديات دينهم، لكن هناك أناس لا يعرفون شيئاً. في هذا الوقت وهذه المعمعة: خرج علينا خبران متناقضان أشد التناقض يبعثان على الأسى والحزن، الخبران في صحيفة المسلمون. الخبر الأول: ملياردير فلسطيني عرض أن يشتري حطام سيارة المرأة البغي التي في الحادث، بعشرين مليون دولار، وصفوا حطام السيارة أنها مثل علبة وطأت بالأقدام، فعملوا معه لقاء وحديثاً، أنت رجل فلسطيني، على الأقل تتضامن مع الجياع العراة الذين لا يجدون مساكن، فكيف تشتري حطام سيارة بعشرين مليون دولار!!، قال: يا أستاذ! أنا رجل تاجر! وهذه المعاني التي تبحث عنها، ليست عندي، أنا رجل تاجر، أشتري حطام السيارة بعشرين مليون دولار وسأبيعها بمأتي مليون دولار! يقول: أنا رجل تصرفت من الناحية التجارية، مسألة العواطف التي تبحث عنها، هذه ليست عندي. وفي ذات الصحيفة: ملياردير يهودي يعرض على حكام السعودية أن يبيعوا له أرضاً بمكة بأي ثمن، لكي ينشئ معبداً هناك، ويعرض ما يشاءون من الأرقام التي تخطر على بالهم، فانظر إليهم وانظر إلينا، انظر إلى هؤلاء كيف يفكرون، وانظر إلى هذا كيف يفكر؟ اليهود في العالم: خمسة عشر مليون يهودي، معهم التكنولوجيا والزراعة والإعلام والأموال والسياحة، يملكون الدنيا كلها؛ لأن أغنياء اليهود وظفوا أموالهم لخدمة اليهود، حتى أصبحوا الآن لا يتحكمون في انتخابات الرئاسة البرنامجية فقط، بل يتحكمون في انتخابات معظم الدول الهامة في العالم، وهم الذين يضعون التقارير وهم الذين يرشحون الوزراء، وهم الذين يرشحون رؤساء الجمهوريات، بما لديهم من مخطط رهيب، عندهم تغلغل كامل في الأنظمة، ومن يقرأ كتاب: (بورتوكولات حكماء صهيون) يعلم صدق ما أقول، الكتاب هذا له أكثر من مائة سنة وكأنهم يتكلمون عن الواقع الآن، وكل شيءٍ خططوا له كان. إذاً: ليست المسألة عرض قضايا تافهة، بعض الناس قد يقول: أنت تتكلم في قضايا ليست ذات بال ولا مهمة، نحن نريد القضايا الخطيرة! أقول: لا. من جرب الناس تجربتي، قال مثل قولي، ولقد صدق القائل: (إذا كان عدوك نملة فلا تنم له)، (ومعظم النار من مستصغر الشرر). كنا نظن أن هذه المسائل تافهة ولا تؤثر في العوام وإذا بها تؤثر فيهم فعلاً، ويعادون كثيراً من النصوص الثابتة، لا أذهب بك بعيداً، فهذا أحد الدعاة الكبار نشر كتاباً يتكلم فيه عن الزهد في الدنيا، وأحاديث الزهد في الدنيا موجودة في الصحيحين والسنن، فأتى بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، وأتى بالأحاديث التي ترغب في الزهد بالدنيا، وقال: آفاتنا من انتشار مثل هذه الأحاديث وهي أحاديث في الصحيحين، أجمع العلماء على صحتها. قال: هل نحن طلقنا الدنيا وتزوجها الكافر، وعندما نزهد في الدنيا، المال يكون مع من؟ فهالني أن يكون هذا الداعية لا يفهم معنى أحاديث الزهد، هذا فهم مغلوط، لم يقل الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون عندكم مال ولا تكونوا أغنياء، إنما أحاديث الزهد في الدنيا بمعنى زهد القلب، ولو كانت الدنيا بما فيها لها قيمة لجمعها النبي صلى الله عليه وسلم ولحض عليها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، فكان معه العشاء وليس عنده إفطار، لأن العبد إذا لم يجد فليس له ملجأ ولا منجى إلا إلى الله عز وجل، فدائماً يلهث: يا رب، يا رب، مثل الولد الذي يحتاج ويقول: يا أبت، يا أبت، يا أبت، لذلك قل الشكر في بيوت الأغنياء، تجد الرصيد عنده في البنك والشيكات موجودة، والثلاجة موجودة، والمحفظة مليئة، لماذا يقول: يا رب؟ متى يقول: يا رب؟ لا يقولها إلا إذا تورط، لكن فيما عدا ذلك لا يقولها. فالفقراء زكى عملهم؛ لأنهم أكثر الناس ذكراً لله عز وجل بسبب الحاجة المستمرة. الزهد في الدنيا الوارد في الأحاديث معناها زهد القلب، وليس زهد اليد، إنما رغب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في حيازة المال باليد فقط، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر طبقات الناس، وأنهم جميعاً لا يخرجون عن طبقات أربع؛ جعل صاحب المال العالم أعلاهم، فقال صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٌ آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يتقي الله فيه ولا يصل به رحمه، ولا يرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأخبث المنازل، ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء)، فكل رجلٌ منا لا يخرج عن نمط هؤلاء الأربعة: عالمٌ غني، ثم عالمٌ فقير، ثم غني جاهل، ثم فقير جاهل، وأفضلهم جميعاً العالم الغني؛ لأن تعدي الخير بخلتين أفضل من تعديه بخلة واحدة، إذا كان عالماً ينفع الناس بعلمه ثم يسد بطون الجياع، هذا أفضل من واحد يعلم فقط، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله الحكمةَ، فهو يعلمها الناس، ورجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق). وأنت تلاحظ في الحديثين أن المال لا يبدأ بذكره استقلالاً إنما يأتي تبعاً، ففي الحديث الأول قال: (آتاه الله علماً ومالاً)، وفي الآخر: (آتاه الله الحكمة؛ فهو يقضي بها، وآتاه الله مالاً؛ فسلطه على هلكته في الحق) دليل على أن المال بغير علم مذموم. الولد الذي كنا نتكلم عنه، لديه طائرة خاصة، وعنده سبعون سيارة من أحدث سيارات العالم، فماذا فعل بالمال؟ يذهب إلى باريس ليتعشى فقط، يركب الطائرة ليذهب ليأكل السمك ويرجع، هذا الذي معه مال فقط، ليس عنده علم يعصمه، ولذلك كان الرجل الثالث بأخبث المنازل كلها: (ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ولا يرعى لله فيه حقاً، ولا يصل رحمه). إذاً: المال وحده ليس ممدوحاً، فعندما نقرأ أحاديث الزهد في الدنيا، لا بد أن نعلم أن الزهد الوارد هو زهد القلب، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ عمرو بن العاص: (يا عمرو إني أريد أن أرسلك إلى غزاة كذا)، قائد سرية، قائد جيش، كتيبة (لتغنم مالاً، فقال: يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك) أنا ما اتبعتك لأحرز المال، فقال له: (يا عمرو! نعم المال الصالح للرجل الصالح). ذلك هو الرجل الذي يتقي الله ولديه مال ينفقه لبيوت أناس يأكلون بجانبه، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، فعندما يأتي رجل كبير له منصب في الناس والدعوة ويقول: لا ينبغي أن نعرض أحاديث الزهد في الدنيا على الناس!! هذا فهم مغلوط لمعنى الزهد، وإلا فإن تج

مشروعية العزلة في بعض الأحوال

مشروعية العزلة في بعض الأحوال أيها الإخوة الكرام! العزلة تشرع في ثلاثة أحوال:

وجود الفرد لوحده مع الخوف على النفس

وجود الفرد لوحده مع الخوف على النفس الحالة الثالثة التي توجب الاعتزال، أن تكون فرداً لا معين لك، وبين هذه والتي قبلها عموم وخصوص، ففي هذه الحالة تعتزل إذا خفت على نفسك، أما دون هذا فإن العزلة لا تشرع، حتى نقيم دين الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وجاء هذا الفعل مضارعاً مؤكداً باللام، ونحن نعرف أن من صفات الفعل المضارع الاستمرار، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، فإذا شرعنا العزلة للناس جميعاً وكل واحد يعتزل؛ فمن الذي يقوم بهذه الشعيرة العظيمة. كل عالم عندما تقرأ ترجمته تجد عنواناً مشتركاً في تراجم العلماء الربانيين، التراجم الجانبية: اسمه كنيته مولده شيوخه تلاميذه ورعه وزهده تقشفه، طلبه للعلم؛ ثم تجد محنته. هذا العنوان الجانبي (محنته) تجده في تراجم العلماء الربانيين. ما معنى المحنة؟ أليس فيها مواجهة، هو إذا اعتزل وحده وتفرد ما يمتحن، إنما يمتحن لأنه أمر ونهى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، فدلنا ذلك على أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لا بد أن يصيبه أذى، لذلك قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

كثرة المخالفين وقوة شوكتهم

كثرة المخالفين وقوة شوكتهم الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. هناك كلمة حكيمة قالها العلماء، لها صلة بموضوع الاعتزال، يقول العلماء: (لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف)، الجدل الذي يحصل بين الأقران، ويتكلم أغلبهم بلا علمٍ سابق فضلاً عن عقيدة راسخة، هذا ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الأغلوطات، ونهى عن عُضل المسائل، فهذا أحد وجوه العزلة، ليس المقصود أن تكون هناك فتنة فيها سيوف ودماء تعتزل، لا. كل مسألةٍ لم تعتقدها وليس عندك فيها علم سابق تعتقده ديناً اعتزله، لا أقول: اعتزله فقط، إنما أقول: تعلمه، لكن لا تجادل. الحالة الثانية في الاعتزال: أن تضعف وتقل مئونتك في عرض الحق الذي عندك؛ بسبب كثرة المخالفين وقوة شوكتهم، وهذا أيضاً يدخل في حكمة الدعوة. بلد فيه مبتدعة كثيرون، فالصوفية مثلاً يقدسون الأولياء وينذرون لهم، وأنت فرد وحدك بدأت تدعو إلى التوحيد، واستجاب الناس لك، ورأيت ثمرة غراسك، فليس من المصلحة ولا الحكمة أن تتصدى لذم القبور وأن تقف في مواجهتهم علانيةً؛ لأنه ليس هناك أية مصلحة في كسرك، بقاؤك أفضل من تدميرك. العز بن عبد السلام وهو يتكلم في القواعد الكلية في باب المصلحة، قال: إذا وقعت حربٌ بين المسلمين وأعدائهم ولم يحصل نكاية وجب الانهزام. أي: إذا لم يحصل منا نكاية في العدو بأن كسرناهم وغلبناهم، وغلب على ظننا أننا إذا دخلنا الحرب غلبنا وجب أن ننهزم لعدونا، ثم علل ذلك قائلاً: لأنه إذا لم يحصل نكاية كسرت شوكة المسلمين، وذهبت بيضتهم مع عدم وجود مصلحة في ضياع النفس إذ ضاع الدين. والضرورات الخمس التي نزل الإسلام بكل نصوصه لحفظها: أولها: الدين. ثانيها: النفس. فنحن في حربنا مع عدونا إنما نحارب لتكون كلمة الله هي العليا، ليست حرب استرداد أرض، ولا حرب غزو النسل، أو من أجل أن نوسع الرقعة التي معنا أبداً. ما شرع الحرب في الإسلام إلا لإعلاء كلمة الله دفعاً أو طلباً، جهاد الدفع إذا هجم عليك عدو، فتدفع عن نفسك، لتحفظ بلدك ودينك ومواطنيك. أما جهاد الطلب: فأنت الذي تطلب العدو، تبعث رسلاً، أريد أن أدعو إلى الله عندكم، قالوا: لا. قلنا لهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دعوة الناس ولا تحجروا عليهم وإما قاتلناكم، والله إذا رضوا بجز الغلاصم، ولكز الأراقم والبلاء المتلاطم المتراكم، فهم وما أرادوا ندخل عليهم، وإذا رضوا وقالوا: تفضلوا ادخلوا وادعوا، فإذا دخلنا، فمن أسلم منهم صار منا، ومن لا، فعليه أن يدفع الجزية وهو صاغر، مشروع الجهاد كله إنما قام لأجل هذا. وترك الجهاد مهلكة للذين لا يجاهدون، قال الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ذهب أسلم بن عمران إلى أبي أيوب الأنصاري، فسأله عن قوله تعالى:: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] هو الجهاد؟ قال: لا. وهناك قصة استدعت أن أبا أيوب الأنصاري يقول التفسير الصحيح لهذه الآية، فقد وقع حصار بين المسلمين والروم وبينما هم محاصرون إذ خرج صف عظيم من الروم، فخرج صف من المسلمين للالتقاء بهم، وحصل الاشتباك، فأحد المسلمين دخل في وسط المشركين وجعل يضرب هذا وذاك، وأحدث نوعاً من الاضطراب في صفوف المشركين، فجعل الناس يقولون: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة، فحينئذٍ خطبهم أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس! إنكم تضعون الآية في غير موضعها، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا بيننا وبين أنفسنا سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ قد أعز الله دينه وكثر ناصروه، فلنصلح أموالنا التي تلفت، كل واحد منا له تجارة وزراعة، وبسبب الجهاد المستمر، تلفت الزراعة وتوقفت حركة التجارة، قال: فنزل قول الله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة: ترك الجهاد. إذاً: مسألة المصلحة والمفسدة مهمة في تحديد معنى الاعتزال، فأنا في بلد، أدعو ووجدت لدعوتي صدى، وبدأ الناس يستجيبون، فلنكن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام يوم دخل مكة، بل كانت رايات البغايا على البيوت ترفرف وهو يمر، وكانت الأصنام في جوف الكعبة وهو يطوف، ومع ذلك سكت؛ لأنه ليس هناك مصلحة في استباحة بيضة المستضعفين، فإذا وجدنا أننا لا نستطيع إقامة الدين في وسط هؤلاء؛ دعونا من استجابوا لنا، فإن وجدنا أننا لا نستطيع ولا يوجد لنا رصيد في هذا البلد، وخشيت على نفسي التلف، إما بالأذى وإما بالركون إليهم حينئذٍ نعتزل. وهذا ينطبق عليه قصة أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، فاعتزلوا هؤلاء؛ لأنهم لا يقدرون على تغيير مجتمع فيه أباطرة، وهم مجموعة من الفتية الصغار الذين لا يقدرون على ذلك.

عدم التمايز بين الحق والباطل

عدم التمايز بين الحق والباطل الحالة الأولى: ألا تميز بين الحق والباطل، فإذا دعيت إلى جهة من الجهتين وأنت لا تستطيع التميز فحينئذٍ تعتزل، وقد فعل هذا جماعة من خيار الصحابة، لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما وقعت الفتنة، أخذ أولاده وماله وخرج خارج المدينة، فجاءه ولده عمر بن سعد، وقد تورط وشارك في قتل الحسين، فلما رآه سعد من بعيد جداً وهو لا يعلم من هذا الراكب، وقد كان سعد صاحب فراسة، فقال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فاقترب الراكب شيئاً فشيئاً، فإذا هو عمر ابنه، فدخل عليه، فقال: يا أبت! أرضيت أن تكون أعرابياً في إبلك، والناس يتقاتلون على الملك، أما والله لو ذهبت أظنها تئول إليك، وتصبح أنت الخليفة، فضرب على صدره وقال: يا بني! اجلس، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الغني الخفي). وروى ميمون بن مهران رحمه الله، عن سعد بن أبي وقاص أنهم جادلوه: (كيف تركت هذا ولم تدخل؟ قال: إذا جئتموني بسيف ينطق له عينان ولسان، يقول: هذا كافر اقتله، وهذا مؤمن دعه، حينئذٍ أخوض معكم. يا قومِ! إنما مثلي ومثلكم كمثل قومٍ في سفر، فهبت عليهم ريح مظلمة، ففقدوا الطريق، فقال جماعة: الطريق يميناً، فمضوا، وقال جماعة: الطريق يساراً ومضوا، وقال جماعة: بل نبقى في مكاننا حتى تنجلي، فما لبثت الريح أن انجلت، فإذا الذين وقفوا، وقفوا على الأمر الأول) هذا هو الفقه، أنهم وقفوا على الأمر الأول. ولما اعتزل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قيل له: لم اعتزلت؟ قال: لا أعرف من الباغي، ولو علمت لقاتلت. واعتزل الفتنة أيضاً محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يمشي مع علي ولا يقاتل، حتى إذا قتل عمار قاتل؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمار بن يا سر عندما كان يبني المسجد النبوي، وكان عمار مريضاً، فكان الصحابة يحملون لبنة لبنة، ويحمل عمار لبنتين لبنتين مع مرضه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل التراب عن ظهره وهو يقول: (ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)، وكان عمار مع علي. إذاً: الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه ومن معه، فظهر لـ خزيمة بن ثابت أن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، فحينئذٍ لم يترخص ولم يتوقف وإنما قاتل، فقد ظهر له برهان أن علي بن أبي طالب مبغي عليه. فإذاً: إذا لم يميز المرء الحق من الباطل يعتزل، وليس هذا في الفتن فقط، إنما هذا في كل قضية طرحت، وليس عندك علم أهذا محقٌ أو مبطل، اعتزل الجدل، ولا تخض بلسانك، ولا تقل: أنا رأيي كذا، طالما أنك لم تميز بين الحق والباطل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حكم إلقاء السلام على اليهود والنصارى

حكم إلقاء السلام على اليهود والنصارى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. في الحقيقة وصلتني رقاع مكتوبة، وهي تتعلق بكلامنا عن الولاء والبراء، ورأيت العناية بها، وأن أجلّي لأصحابها ما أخطأوا فيه، أو ما توهموه على خلاف ما ذكرته من النصوص الصريحة سواءً كانت من القرآن أو السنة. وأيضاً هناك بيانٌ آخر يوزع على أئمة المساجد وعلى الخطباء فيه أشياء تستحق الإشادة، وأشياء تستحق أن ننظر إليها وأن نعلق عليها. يقول بعض الذين أرسلوا إلي هذه الرقاع: بعد البسملة والصلاة والسلام، والثناء على الله عز وجل. يقول: أنا من أشد المعجبين بك، ولكن اسمح لي أن أتجرأ، وأخالفك في بعض وجهات النظر، وذلك لا يفسد الود إن شاء الله. السؤال يقول: أنت تقول: إن من علامات الولاء والبراء مقاطعة النصارى وعدم إلقاء السلام عليهم أو أي تحية أخرى وذكرت حديثاً معناه: أن المجتمع عندما يرى يهودياً أو نصرانياً في طريق بئر يطرحه في البئر؟ A أغلب المستمعين هم حاضرون ومواظبون على خطبي، فهل مر هذا في كلامي؟! لا. ما مر على الإطلاق أنني قلت: إذا رأيته في طريق بئر؛ قم وضعه في البئر، وأيضاً ما قلت: إذا قابلت النصراني فلا تحيه بتحية، أنا قلت: قل له أي تحية؛ صباح الخير أو صباح الفُل، لكن قلت: لا تلقي عليه تحية الإسلام التحية الخاصة بالمسلمين. أيها الإخوة الكرام! أخونا الذي أرسل هذه الرسالة، أنا معجبٌ به أنه طرح ما عنده ولم يكتمه حتى أسدده وحتى أصلح له ما أخطأ فيه. لما قلت أنا في الخطبة: أن بعض الناس فعلاً لام عليّ كتابةً ومشافهةً، أنني أحياناً أتعرض في خطبتي للكلام عن بعض الموضوعات العامة مثل الحادث الذي حصل للمرأة الإنجليزية وهذا الولد المصري، يقول: إن المنبر أقدس من أن تذكر عليه أمثال هؤلاء هذا كلام رجل لم يجرب الدعوة ولم يجرب الناس، الذي جرب الناس يختلف كلامه وعطاؤه تمام الاختلاف عن حديث الغرف والمكتبات، يختلف كلامه عن الرجل المثالي الذي لا ينظر إلا في المثاليات، نحن نعالج الواقع، تعرفون ما هو أهم جهد نفتقده في أغلب الذين يعتلون المنابر؟ إن جهد الداعية الأعظم، أن يعين الناس على تنفيذ النصوص، لا يقول له: أنا وضعت لك النص أنت (عقلك في رأسك اعرف خلاصك)، إذا خالفته صرت فاسقاً أو كافراً أو مبتدعاً، أنت حر، لا. أنا مهمتي أن أقول له: النص كذا، وهو يقول: لكن البيئة عندي لا أستطيع أن أقاومها، فآتي أنا أفكر له، كيف ينفذ النص في حدود إمكاناته، لا أتركه على الإطلاق، أسدده وأفكر له، يمكن أن تنفذ الطريقة الفلانية كذا، ويمكن تعمل كذا وكذا، هذا هو جهد الداعية، ربط النص بالواقع، وإعانة الناس على العمل بالنص، لكن أن تقول له: هذا النص أمامك في القرآن والسنة وهو يقرأ! لكنه عاجز عن التطبيق بسبب ضيق عقله، بسبب أنه هو في المحنة، وعادة الإنسان الممتحن لا يستطيع أن يفكر؛ لأن عقله مشغول بالمحنة التي هو فيها، فيحتاج إلى رجل هادئ غير ممتحن يفكر له، فهذا هو جهد الداعية الأعظم. فأنا عندما أتكلم بكلام عربي مبين واضح، ويأتي مثلاً بعض إخواننا في الله عز وجل يستمع هذا، فيكون من نتيجة السماع أنه يفهم، أنني أقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قابلت اليهود والنصارى في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، فحين يفهم أن (أضيقه) أنني أرميه في بئر، طيب ما لقيت بئراً، أذبحه؟! هذا ليس مستبعداً، فهو يقول: طالما عرفت هذا، لزم أن أعمل فيه أي حركة، مثلاً؟ لا. هذه المسألة لم أقلها وليس هذا هو مضمون الحديث. عندنا آفة أيضاً تكلمت عنها في مسائل الولاء والبراء، أننا أُنشئنا تنشئة خاطئة، فمثلاً: مصطلح الأخوة في الإنسانية غزا مصطلح الأخوة في الله؛ لأن كل وسائل الإعلام مرئية كانت أو مقروءةً أو مسموعة، تصب في مصطلح الأخوة في الإنسانية. التعامل مع أهل الكفر وأهل الحرب جائز باتفاق المسلمين، أنت رجل تاجر وتحتاج إلى بضاعة مستوردة، تعمل عقداً وصفقات معهم، هذا جائز لا إشكال فيه، وقد كان المسلمون يتبايعون مع الروم وفارس، وليس مجرد التبايع معهم دلالة على أننا نحبهم؛ لكن ما هو الحب الممنوع في التبايع؟ التوقير فالكافر تقول له: صباح الخير، عقدنا كذا وكذا، والحكاية كذا وكذا، ابعث لي؛ أبعث لك، انتهت المعاملة على هذا، لكن المسلم تختلف معاملته، أول ما تقابله: كيف أنت، كيف أصبحت، كيف أولادك، لعلك بخير، إذا حمد الله؛ أنا أحمد الله وأثني عليه أنه ما زال بخير، وحتى لو كان بيني وبينه خصومة، الأخوة في الله عز وجل لا يرفعها البغي: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9 - 10]؛ لكن نحن ما ربينا على هذا المصطلح، آباؤنا فرطوا في تربيتنا والإعلام له دور، والمثال الذي سأذكره يندرج ولو من طرفٍ خفي تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه). فأنا أقول الآن: عند الناس في أمثالهم مثل خطأ، لكني سأحتج به، يقول المثل: الأب الذي ربى وليس الذي خلف، طبعاً هذا المثل غلط، الأب هو الذي ولد باختصار: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]. مثلاً: امرأة طلقت ومعها ابنها الصغير ثم تزوجت برجل آخر، فزوجها الثاني أخذ الولد وهو ابن شهرين، ورباه حتى صار رجلاً كبيراً، ولم ير أباه على الإطلاق طيلة حياته، من أبوه؟ الذي رباه أو الذي خلفه؟ هذا من باب الإلزام فقط، وليس من باب الاحتجاج، أقول: إن الذي يربي ابنك هذا، ابن من؟ ابن التلفاز؛ لأن الأب على مذهبهم هو الذي يربي. طيب التلفاز مفتوح أربع وعشرون ساعة والأب يعمل ثماني عشرة ساعة، وأحيانا بعض الآباء يقول: أفتقد أولادي تدخل الساعة الواحدة ليلاً وتخرج الفجر، هذا متى يربي؟ تعرف الأولاد يستهويهم الشيطان، هناك ولد كان القاضي يسأله يقول له: أنت لماذا تعمل هكذا؟ فيقول الولد: ما رأيت أبي منذ سنة، قال له: يا بني أبوك مسافر؟ قال له: لا. إنه يبيت في البيت كل ليلة، هو دبلوماسي معروف، قال له: لم أره منذ سنة؟ طبعاً هذا الولد يسهر مع أصحابه ويرجع الساعة الرابعة فجراً، والرجل ينام بعد العشاء، يطلع الفجر لكي يذهب ديوان الشغل، والولد لا يزال نائماً، فبقي سنة لم ير أباه، لذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه) فإذا غاب الوالد وغاب دوره، فلا يبقى إلا الحاضر، والتلفاز هو الذي يربي، فمن جملة ما قتله التلفاز، مسألة الاعتزاز بدينك، وليس معنى الاعتزاز بدينك أن تظلم، هذا الكلام غلط، أنا أعتز بديني ولا أظلم، جاري النصراني لا يؤذيني؛ لا أؤذيه، وإذا وقع في مشكلة، كذلك لا مانع أن أقدم له يد المساعدة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في كلب سقاه). يا أخي! نزل هذا منزلة ذاك، وانتهى. فإذا كان لك في كل كبدٍ رطب أجر، وإذا سقيت كلباً تأخذ أجراً، ولو مددت يد العون لرجل على غير دينك واحتاج إلى ذلك، فالإسلام لا يمنعك من ذلك، لكن يمنعك من السهرات ورفقاء السوء وكثرة الدخول والخروج وأن تقطع إخوانك المسلمين. فنحن نقول لصاحبنا: أنا لم أمنع السلام على النصراني نهائياً، بل أجريت الخلاف الوارد بين العلماء، وقلت: إن بعض العلماء لما قرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، نظر إلى العلة في المنع، لماذا لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام؟ العلة وردت في حديث آخر: إن اليهود إذا سلموا عليكم يقولون: السام عليكم، أي: الموت عليكم. فقولوا: وعليكم. يبقى إذاً أنا أرجعتها له، وهذا هو العدل ما ظلمته، بل بالعكس هو الذي بدأ ودعا عليَّ بالموت، فأنا رددت عليه هذه الدعوة، رداً رفيقاً بدون مشاكل: السام عليه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم الزيادة على ذلك، مع أن البادئ أظلم، لكن ليس المعنى: أن تعطيه بالصاع صاعين! لا. لو زدت شيئاً عليها، فقد تظلمه. دخل رجلٌ من اليهود كما في البخاري وغيره على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (السام عليك يا أبا القاسم، فأجابت عائشة، فقالت: وعليك السام والذام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع: السام عليك يا أبا القاسم، قال: وعليك. فـ عائشة كادت أن تنفلق فلقتين لما سمعت الدعاء عليه، فقالت هذا الكلام، فقال لها: (يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش، قالت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قال؟ قال: أولم تسمعي ما قلت). ونحن إذا خرجنا عن هدي الرسول الكريم، نكون قد ظلمنا أنفسنا وليس هناك عدل أحسن ولا إحسان أفضل من هذا، فالعلماء عندما قالوا: لا تبدءوا اليهود والنصارى بالكلام، قالوا: لأنه يلوي بلسانه ويقول: السام عليكم، ومع الأسف فإن بعض المسلمين لا يقصدون الدعاء يقولون: السام عليكم يختطها خطاً، وهذا فيه شبه بالمغضوب عليهم، والمفروض أن الإنس

بين ابن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما [1، 2]

بين ابن عباس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما [1، 2] لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم القدوة في العبادة والعلم والأخلاق والحرص على الاستزادة من الخير، وكان ابن عباس رضي الله عنه من أشدهم حرصاً على ذلك، ولهذا وغيره كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويدنيه في مشورته، وبين أيدينا مثال على حرص ابن عباس على العلم، إذ يسأل عمر عن آية نزلت في أمهات المؤمنين، وتتابع الحديث بينهما حتى فتحا لنا وللأمة نافذة مشرقة تصف حياة الرعيل الأول وأحوالهم -الخاصة والعامة- التي يفترض أن تكون قدوتنا ودستور حياتنا.

حرص ابن عباس على العلم وتفضيل عمر له

حرص ابن عباس على العلم وتفضيل عمر له إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلت معه بالإداوة، فقضى حاجته، ثم جاء فكشفت عليه منها، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس! هما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، فكنت أنزل يوماً وينزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار. فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك يا ابن الخطاب وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراجعنه ويهجرنه اليوم حتى الليل؟! قال: فقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟ لقد خابت وخسرت. قال: ثم جمعت عليَّ ثيابي ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم. فقال لها: أو أمنتِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تستكثري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تسأليه شيئاً، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ، ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ -يعني عائشة - أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكِ. قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري نوبته، ثم جاءني عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثم هو؟ قال: فخرجت إليه، فقال: حدث اليوم أمر عظيم! قلت: ماذا؟! جاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم؛ طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه. فقلت: قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون، ونزلت فصليت الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له، وجلست عند المنبر مع رهط يبكي بعضهم؛ فغلبني ما أجد فأتيت المشربة، فإذا غلام أسود فقلت له: استأذن لـ عمر. فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. قال عمر: فرجعت، فجسلت بجنب المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر. فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فرجعت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لـ عمر. فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. فانصرف فلما وصلت إلى الباب إذا هو يدعوني، وقال: قد أذن لك. قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو مضطجع على حصير، ليس بينه وبين الحصير فراش، قد أثر الحصير في جنبه. فقلت: يا رسول الله! أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليَّ وقال: لا. فقلت: الله أكبر! ثم أردت أن أستأنس فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت له: يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك إن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فجلست. ثم أدرت نظري في بيته فلم أرَ شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. وكان متكئاً فجلس فقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. فقلت: يا رسول الله! استغفر لي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقسم ألا يدخل على نسائه شهراً من شده موجدته عليهن، فلما انقضت تسعٌ وعشرون دخل على عائشة فقالت له: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، فقد دخلت علينا من تسع وعشرين أعدها عداً. فقال لها: الشهر تسعٌ وعشرون، فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين. ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم فخير عائشة فاختارته، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثلما قالت عائشة).

عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وحالنا اليوم

عظيم حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وحالنا اليوم قال عمر: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) وغسان موالون لملوك الروم، وكانوا في الشام، وكان المسلمون قد أمنوا كل الجهات إلا من جهة ملك غسان فقد كان يهدد أنه سوف يغزوهم في المدينة، فكان الصحابة على أتم استعداد لملاقاة هذا الرجل إذا تحرك إلى المدينة. واستخدم هذه الاستعارة الجميلة: (تنعل الخيل لغزونا) الرجل إذا انتعل فهذا معناه أنه سيمشي وسيمضي، و (تنعل الخيل): أي تهيئ الخيل لتغزونا. ففي يوم من الأيام بعد صلاة العشاء، وفي نوبة هذا الأنصاري جاء فضرب الباب ضرباً شديداً، في بعض الروايات قال عمر: (فخرجت إليه عرياناً -طبعاً ليس عرياناً بمعنى غير متستر، وإنما لم يكن متهيئاً بكامل زيه، وهو دال عن السرعة والمبادرة- فقلت: مالك؟ قال: حدث اليوم أمر عظيم. قال: أجاءت غسان -لأن هذا هو الأمر العظيم الذي كانوا يتوقعونه، وما خطر ببال عمر أبداً هذا الذي سيسمعه من الأنصاري-؟. قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم!). ما أعظم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إن تَكَدُّرَ خاطره صلى الله عليه وسلم كان عندهم أعظم من أن تستولي غسان على المدينة، ما كانوا يصبرون على أن يلحقه أذى أياً كان!! أمّا ما يجري الآن في زماننا في حق النبي عليه الصلاة والسلام فما كان الصحابة يسمحون بعشر عشر معشاره؛ لأن محبتهم كانت صادقة، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام يسب في ديار المسلمين ويلمز ويغمز، وقد صرح بعضهم به تصريحاً، لما رسم أحدهم في رسومه الساخرة (الكاريكاتير) ديكاً وتسع دجاجات، وكتب فوق -هذا كان سنة خمسة وستين في جريدة الأهرام - هذا الرسم "محمد جمعة وزوجاته التسعة" من الذي تزوج تسعاً في المسلمين ولا يحل إلا أربعة لسائرهم؟ من الذي تزوج تسعاً فقط؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، يخرج الرسم بهذا السفور الفاضح، ومع ذلك يظل هذا الرجل في مكانه ولا يحاسب، وكل هذا بدعوى حرية الرأي وحرية الكلمة، وأننا لا نحجر على كلام أحد كيف لا نحجر؟ إذا كان هناك إنسان يستحق أن يحجر عليه فليحجر عليه، فالألفاظ قوالب المعاني. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يوماً يقول: (والله! ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية. فجلده الحد، وقال: إن هذا تعريض بالزنى) أي: لو أن الأب أو الأم كانا طاهرين، لِمَ نفيت التهمة عنهما؟ أكيد هناك أصل لهذه التهمة، فجلده حد القاذف؛ لأن هذا فيه إيماء وفيه معنى القذف بالزنى. فالنبي عليه الصلاة والسلام يعتدى عليه، ويعتدى على سنته من قبل الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً في هذا العلم، كل يوم لما أطالع مثلاً بعض الصحف لا يكاد يوم يمر إلا وفيه هجوم على السنة، أو على القرآن أو على النبي عليه الصلاة والسلام، أو على الله تبارك وتعالى. فأغرى هذا أعداءنا وجرأهم، فرسموا النبي عليه الصلاة والسلام على صورة خنزير، وفي الضربة الأخيرة للعراق في شهر رمضان كانت الصواريخ التي تضرب بها بغداد مكتوب عليها: (هدية رمضان للمسلمين) فلما استنكر بعض المسلمين هذا رد الرئيس الأمريكي وقال: أحد الجنود كتبه ماذا نصنع به؟! متأسفين وانتهى الأمر على هذا، وما أرى حالنا اليوم إلا كما يقول الشاعر: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظلَمْ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا الورع البارد هذا أغرى أعداءنا أن يعتدوا على النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك الاعتداء الصارخ لم يكن هناك أي رد فعل رسمي لأي بلد من بلاد المسلمين. يا أخي: اسحب السفير، اعمل احتجاجاً رسمياً، اعمل مؤتمراً صحفياً، اعترض، قل: كيف تسبون نبينا؟ كيف ترسمونه على هيئة خنزير؟ هذا أقل ما يجب، لكن لم يكن هناك أي رد فعل رسمي على الإطلاق، كأن هذا النبي لا يدين بدينه أحد! الرسول عليه الصلاة والسلام لما طلق نساءه، يقول هذا الصحابي لما سأله عمر: (أجاءت غسان؟ يقول: بل ما هو أهول من ذلك وأعظم) مجرد أن يطلق نساءه هذا أعظم من أن تستولي غسان على المدينة. فقال عمر: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون) لماذا؟ لأن له مقدمات: المرأة التي تعترض على زوجها وتهجره، وتنشز عليه ماذا يُتصور أن يكون رد فعله تجاه ذلك التصرف الخاطئ؟! الرجل الذي تتدفق دماء الرجولة في عروقه لا يطيق أن تفعل به المرأة ذلك، أنها تهجره، وكلما يأمرها تعصيه، ولا تسمع له كلاماً، وتحط من كلامه، وأي رجل يأبى هذا. فهذه مقدمات كان عمر يرى أنها قد تؤدي إلى ذلك، ولذلك أول ما سمع الخبر قال: (قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فنزل وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، والنبي عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة دخل المشربة، ما كلم أحداً -المشربة: غرفة ملحقة بالمسجد- ولم يجرؤ عمر بن الخطاب أن يراجعه أو أن يكلمه؛ لأنه كان غاضباً، فجلس مع قوم عند المنبر، قال عمر: (يبكي بعضهم). أنا على يقين -بما أعلمه من سير الصحابة- لو أن واحداً من هؤلاء الذين يبكون عند المنبر طلقت ابنته لما بكى فلماذا يبكي إذاً؟ يبكي لتكدر خاطره عليه الصلاة والسلام، مجرد أنه متكدر الخاطر -متعكر- هذا يقلقه؛ لأنهم كان يحبونه غاية الحب. هذا الموقف موقف مهيج ومثير، ناس يبكون حزناً قال عمر: (فغلبني ما أجد) يعني: ما كان في صدره من الهم والغم غلبه فلم يصبر على هذه الجلسة، وذهب إلى هذا الغلام وقال له: استأذن لـ عمر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة

زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة قال عمر: (فأفزعني ذلك، وقلت: أوتفعل حفصة ذلك؟!) ولم يقل: أتفعل عائشة، أتفعل أم سلمة؛ لأن الإنسان إنما يكون عطوفاً على ولده، يبحث عن ولده قبل أن يبحث عن غيره، ما ذكر إلا حفصة وقال: (لقد خابت وخسرت، ثم جمع ثيابه ونزل في الحال، وقال: أي بنية! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم. قال: وما يؤمنكِ أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟ لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ). الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث لأجل هذه الفقرة، قال: (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها)، يا ليت الآباء الذين زوجوا بناتهم يتعلمون من هذا الدرس، (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها). أي رجل منا له بنت فزوجها ذراعه مكسور مهما كان ملكاً مطاعاً، وإذا كان زوج البنت ليس بذاك الرجل النبيل، ومع ذلك أنت ممكن تنفق على بنتك، وتعطيه مالاً، وتثني عليه بما ليس فيه ليستقيم الحال بخلاف الولد. فأنت ينبغي عليك أن تعين زوج ابنتك، ولا تحرض ابنتك عليه، ومن المشاكل الكثيرة الشائعة التي زلزلت البيوت أن الأب مثلاً ممكن يذهب فيقرّع زوج البنت أمام البنت، يقول له: أنت غلطان، وهي محقة، المفروض تفعل كذا وكذا لا يا أخي! ينبغي أن تظل قوامة الرجل كما هي، ولا توغر صدره، مر ابنتك بالمعروف والإحسان، فإذا خلوت بزوجها فمره بالإحسان، لكن لا تسمح لابنتك أن تذكر سيئات الزوج هكذا أمامه، كل هذا رعاية لصدر الزوج، وإعمالاً لتمام قوامته على المرأة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لها: (لا تسأليه، ولا تستكثريه، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لكِ. ثم قال لها: ولا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يريد بذلك عائشة-) يريد أن يقول لها: إن عائشة أجمل منكِ، ولها دلال على النبي عليه الصلاة والسلام، فقد يحتمل ذلك لها لمكانتها عنده، فإذا حاولت أن تقلديها لا يحتمل لكِ؛ لأنه ليس لكِ من المكانة مثل ما لها. وكانت عائشة رضي الله عنها محبوبة جداً لدى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك، بل كان يبديه أحياناً، لما حدث بينه وبين بعض زوجاته كلام بشأن عائشة قال: (لا والله، ما نزل الوحي في لحاف امرأة غيرها) وجعل هذا منقبة لها، وكان هذا -كما قلت سابقاً- لا ينكره النبي عليه الصلاة والسلام حتى علمه الصحابة، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة كما في الصحيحين، من حديثها أيضاً رضي الله عنها، قالت: (كان المسلمون يتحرون بهداياهم ليلة عائشة) فحبيب حبيبي حبيبي، إذا أكرمت من أحب أحببتك. فكان الصحابة يعلمون ذلك، فكانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة، من أراد أن يهدي النبي صلى الله عليه وسلم هدية فإنه يمكث حتى إذا كانت ليلة عائشة يعطيه الهدية، حتى صار عند عائشة هدايا كثيرة، وأزواج النبي عليه الصلاة والسلام يعلمن ذلك، فما أعجبهن هذا الحال، فأردن أن يراجعن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأنه يقسم الهدايا عليهن، فأرسلن أحب الناس إليه، وهي فاطمة رضي الله عنها. قالت عائشة: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فدخلت فقال: أهلاً بابنتي! فأجلسها، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة. فقال: أي بنيتي! أتحبينني؟ قالت: أجل. قال: فأحبي هذه. وذهبت إليهن وهن مؤتمرات في بيت إحداهن، فلما دخلت قالت: والله! لا أراجعه فيها أبداً)، فأرسلن بعد ذلك زينب، وهي التي كانت تسامي عائشة رضي الله عنها في المنزلة عند النبي عليه الصلاة والسلام. قالت عائشة: (فدخلت زينب والنبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فكلمت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وجهت كلاماً لـ عائشة وأضجعت في الكلام -يعني: قالت كلاما قوياً- قالت عائشة: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟ -يعني: لو رددت عليها هل يكره ذلك؟ - قالت: فلما علمت أنه لا يكره أن ينتصر قمت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر!) أي: لا تغلب. فانظر إلى هذا الوفاء من قبل عائشة رضي الله عنها تقول: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟) المرأة ينبغي أن تراعي شعور زوجها، فلا تأتي الشيء الذي يكرهه أبداً، هذا من العشرة بالمعروف، من حقه عليها، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بقسمة الهدايا؛ لأن هذا ليس ملكاً له عليه الصلاة والسلام، إنما يسأل الرجل -إذا تزوج بأكثر من امرأة- العدل فيما يملك، أما الهدايا فلا تدخل في هذا؛ ولهذا لم يجبهن النبي عليه الصلاة والسلام. وكانت أخبار عائشة رضي الله عنها فاشية يتحدث بها الخاص والعام، فيقول عمر بن الخطاب لها: يا بنيتي ليس لكِ من الإجلال ولا المكانة ولا الجمال مثل عائشة، فلا تقلديها، فإنه يحتمل لها ولا يحتمل لكِ. وهكذا وعظها أبوها، وحضها على أن تعاشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف.

من سلوكيات الصحابة ونسائهم

من سلوكيات الصحابة ونسائهم (ثم استقبل عمر رضي الله عنه الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة) وهذا يدلك على حرص عمر بن الخطاب على تحصيل العلم، وأن طالب العلم لا يشترط له أن يتفرغ، ما كان عمر متفرغاً، إنما كان صاحب همة. ومن هذا ننبه بعض طلبة العلم إلى أن من يقول: أنا لا أستطيع أن أطلب العلم إلا إذا تفرغت. نقول له: لا، لو كنت صاحب همة لا يعوقك عن طلب العلم ما تجده من العمل. فقسم عمر رضي الله عنه الأيام بينه وبين صاحبه، ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، ويكون صاحبه في تجارته أو زراعته، ثم ينزل عمر إلى تجارته أو زراعته، ويكون هذا الأنصاري عند النبي صلى عليه الصلاة والسلام، فيأتيه بخبر ذلك اليوم، لو نزل وحي أتاه به، ولو قضى النبي صلى الله عليه وسلم في قضية أتاه بها، ولو قال حديثاً أو حدثت واقعة يقص عليه ما حدث من خبر ذلك اليوم. قال رضي الله عنه: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، ينزل يوماً وأنزل يوماً. قال: وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) وفي بعض الروايات (قال: فلما أنزل الله عز وجل ذكر النساء تبجحن، ورأين أن لهن علينا فضلاً) فبدأت النساء لما نزل الوحي يشاركن الرجل في العبادة وتحمّل تكاليف الشريعة، وأهل مكة أم القرى، يعاملون النساء معاملة مباينة لمعاملة أهل المدينة، فأهل المدينة يعاملون النساء معاملة ألطف من معاملة أهل مكة. وفي بعض الروايات الأخرى قال عمر: (وإنما كانت المرأة لحاجة أحدنا، فإذا أحتاجها قضى حاجته، ثم لا يكون لها بعد ذلك ذكر ولا كلام). فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والطبع ينتقل من إنسان إلى آخر؛ بدأت النساء يرمقن فعل نساء الأنصار مع أزواجهن، وينقلن مثل هذا الأدب إلى بيوتهن، انظر إلى لطف عمر وحسن تعبيره، مع أنه معترض! قال: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) ولم يقل: من قلة أدب مع أنها من وجهة نظر عمر قلة أدب، لأنه معترض، ومع ذلك يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي الألفاظ سعة، فالعرب كان عندهم ذوق رفيع في استخدام الألفاظ، مثلاً: (القافلة) إنما تقال للذين رجعوا ولا تقال للذين ذهبوا. ومع ذلك يقولون للذين ذهبوا (قافلة)؛ تيمناً برجوعها. (اللديغ) كانوا يسمونه (سليماً) رجاء سلامته، الصحراء كانوا يسمونها (مفازة) تفاؤلاً بالنجاة منها. ثم هذا أوقع من أن يذكر اللفظ الصريح. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية أخرى أيضاً في صحيح البخاري: (يأخذن من أرابيب نساء الأنصار) (الأرب): هو العقل. قال: (فصخبت عليَّ امرأتي ذات يوم فراجعتني) والصخب من وجهة نظر عمر، مجرد أنها تراجعه. في بعض الروايات قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، وقلت لها: أتراجعينني؟ قالت: ولِمَ لا أراجعك؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وليس هذا فقط، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) وهذا يبين لك أثر القدوة. وقد تعبر كلمة واحدة عن مكنون ما في النفس، على سبيل المثال مرة وفي بعض المؤتمرات في بعض البلاد رجل نيف على التسعين عاماً، معه عصا يتوكأ عليها، وذهب إلى هذا المؤتمر، وبعد ذلك قال: أيها الناس! اسمعوني رفع العصا، وقال: العصا هذه معوجّة من أين؟ قالوا له: من فوق. قال لهم: السلام عليكم. هذا الذي أراد أن يقوله، ومضى الرجل بعد أن أوصل رسالة مهمة إلى أذهان الحاضرين. القدوة له أثر عظيم في استقامة المجتمع، إن الله تبارك وتعالى حكم عدل، إذا كان الرأس صالحاً رزقه الله مرءوسين صالحين، وإذا كان فاسداً رزقه فاسدين، هذه من السنن الكونية التي لا تتخلف، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده. فامرأة عمر بن الخطاب تقول له: لِمَ تنكر وأزواج النبي -اللاتي هن القدوة- يفعلن كذا وكذا؟! (يراجعنه، بل ويهجرنه اليوم حتى الليل) ولم تقل: ويهجرنه الليل حتى الصبح؛ لأن هذا لا يجوز، ولا تقع فيه واحدة من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المرأة إذا باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إنما الواحدة منهن كانت تغاضب النبي عليه الصلاة والسلام من أول النهار إلى آخر النهار.

الصحابة قدوة في علمهم وسلوكهم

الصحابة قدوة في علمهم وسلوكهم هذا الحديث الجليل يوقفنا على طرف من حياة المسلمين رأساً ومرءوسين، ويبين لك السبب في تماسك هذا المجتمع، والسبب أنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأفئدة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي طرفاً من حياته مع بعض أصحابه. فياليتنا إذ نسمع مثل هذا الكلام نترجمه وننقله إلى الواقع؛ فإن بيننا وبين نصوص الإسلام بوناً بعيداً، وأنا أشبه واقع المسلمين مع نصوص الإسلام قرآناً وسنة بهرم، هذا الهرم أو هذا المثلث حاد الزاوية، له ثلاثة نقاط: رأس وهذا ضلع وذاك ضلع، حياة المسلمين الأولى هي هذه النقطة التي في رأس المثلث، فكلما نزلت زادت المسافة بين الضلعين، فإذا أردت أن تقل المسافة اصعد إلى فوق. وهكذا: كلما اقتربنا من القرن الأول سلوكاً وعلماً وعملاً قل الفرق ما بين الواقع والمثال، وكلما ابتعدنا عن هذا القرن الفاضل ونزلنا إلى تحت -مثل هذا الزمان- وجدت هذا البون شاسعاً. هذه النقطة لا أبعاد فيها، ليس فيها طول ولا عرض، وإذا كان فيها طول وعرض فهو يسير جداً لا يكاد يذكر وقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فكان القرن الثاني والثالث فرعاً عن القرن الأول، إذاً ما بقي إلا القرن الأول. وهذا الحديث الذي نتولى شرحه في هذه الخطبة دليل ظاهر على ذلك، الذي يحكي هذه الحكاية هو عمر بن الخطاب، وإن كان الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]). في رواية البخاري قال: (ظللت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب فتمنعني هيبته، حتى حج وحججت معه، وعدل -أي: ترك طريق الناس ليقضي حاجته- فلما قضى حاجته وجاء وكانت الإداوة -وهي شيء يشبه الإبريق فيه ماء- في يد ابن عباس، وهو يصب عليه وضوءه قال: يا أمير المؤمنين! إنني أريد أن أسألك منذ سنة، ولكن تمنعني هيبتك. فقال: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فاسألني. فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس!) وإنما تعجب عمر رضي الله عنه من هذا إما لشدة تتبع ابن عباس لتفسير القرآن، ومعروف أنه ترجمان القرآن، وكان من أكثر الصحابة تفسيراً، وهناك نتف تفسيرية كثيرة عن ابن عباس، فالذي له هذا الباع في التفسير كيف خفي عليه مثل هذا الموضع؟ أو لأنه ما ظن أن ابن عباس يتتبع مثل هذه وتبلغ عنايته حتى يعرف أسباب النزول، وكان لـ ابن عباس مكانة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الصحيحين أيضاً (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدخل ابن عباس مع مشايخ بدر. فلما دخل ابن عباس أكثر من مرة -وكان عمر حريصاً على إدخاله مع شيوخ بدر- فغضب عبد الرحمن بن عوف، وقال: ماله يدخل هذا ولنا ولدان مثله -لنا غلمان مثله-: فسمعها عمر فأسرها في نفسه. فلما اجتمعوا يوماً قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] ما تقول يا فلان؟ فقال: إن الله عز وجل أمر نبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] أن يستغفر ربه. وأنت يا فلان؟ قال: أقول كما قال صاحبنا. وأنت يا فلان؟ كلهم يقول ما قال الأول. فقال: وما تقول يا ابن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين! هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامة موته؛ لأنه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ودخل الناس أفواجاً في دين الله فما بقاؤه؟! فإنه قد أدى ما عليه. قال: هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: والله يا ابن أخي! ما أعلم منها إلا ما تقول. قال ابن عباس: وكان يريد أن يريهم ما عندي، فقال لهم عمر بن الخطاب بعد ذلك: إنه من حيث علمتم -أي أنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم-). فكان لـ ابن عباس هذه المكانة عند عمر، فتعجب أن يفوته هذا الموضع مع شهرته، ومع أن خبر عائشة وحفصة في هذا شاع بين المسلمين. وفي هذا دلالة على أن الشيء قد يخفى عن الإمام الجليل ويعلمه من هو دونه، وإنما نقول هذا لبعض المقلدة الذين إذا قيل لهم: إن الإمام الفلاني لم يعلم بالحديث الفلاني، يقولون: كيف لا يعلم هو به وتعلم أنت به، وهو أعلم منك؟!. نعم هو أعلم من حيث الجملة، لكن جزئيات العلم لا تتناهى، ولم يجمع واحد قط -بدءاً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أدنى رجل- العلم كله ولا جزئيات العلم في صدره، لا يجمع جزئيات العلم جميعاً في صدره إلا نبي، أما غير الأنبياء فقرنهم الله عز وجل بالعجز، ووصفهم بالحاجة، فما منا من أحد -كما يقول الشافعي رحمه الله- إلا وتعزب عنه سنة للنبي صلى الله عليه وسلمُ وقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل. وخذ مثالاً للخضر وموسى عليهما السلام، ولا شك عند جميع المسلمين أن موسى أفضل من الخضر، ومع ذلك لما أراد الله عز وجل أن يعلم موسى عاتبه وذلك عندما سأله رجل من بني إسرائيل فقال: يا كليم الله! أتعلم أحداً هو أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه أنه لم يرد العلم إليه، قال: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك وبعد ذلك قصة الخضر وموسى عليهما السلام معروفة، ولكن كان عند الخضر من العلم ما لم يكن عند موسى، والخضر مفضول وموسى فاضل. فقد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل، فينبغي على المرء أن يتواضع لله، وأن يعلم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا؛ فلا ينبغي أن يستطيل على أحد. فهاهو ابن عباس مع اهتمامه بالتفسير وتقدمه فيه، خفي عليه موضع يعرفه جل المسلمين.

المرأة والمجتمع

المرأة والمجتمع الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

إفساد المرأة أمر متعمد

إفساد المرأة أمر متعمد اعوجاج النساء سبب دمار البيوت، وذهاب الدفء، وقد علم أعداؤنا أن قاعدة بنياننا المرأة، فشرعوا في إفسادها، وصارت كل المؤتمرات التي تعقد في جنبات العالم -وخصوصاً في ديار المسلمين- المقصود بها إصدار قرارات لإفساد المرأة، وإعطائها أكبر قدر من الحرية؛ والقصد بهذه الحرية: أن تخرج من قبضة الرجل. مؤتمر السكان كل قراراته كان المقصود بها إفساد المرأة، تجريم ختان المرأة، والغريب أنه صدر قانون بغاية السرعة، نحن نعلم أن القوانين حبك لها في الخفاء طويلاً، هذا القانون صدر في أقل من شهر وتضمن تجريم ختان المرأة، وأنه إذا ضبط أي طبيب أو أي أحد متلبس بختان امرأة يعاقب بالسجن كذا وبغرامة مالية وصاحب ذلك معركة صاخبة، لكنها مضحكة مؤلمة، صرح فيها بعض من سيقف بين يدي الله غداً لا ينفعه أحد: (أن الختان ليس له أصل في الشريعة الإسلامية) وهؤلاء لا أقول: إنهم جهلة، فهم يدرسون العلوم الشرعية ومع هذا يقولون: إن الختان ليس له أصل، وأن هذه عادة جاهلية، وأن هذا فيه اعتداء على أنوثة المرأة. وكأنهم يخاطبون الصم البكم العمي، الذين لا يقرءون ولا يسمعون ولا يرون. المجلس أباح -منذ سنوات- الاختلاط والإجهاض، ويقرر إمكانية أن تتولى المرأة العمودية -تصبح عمدة- وأباح أن تسافر المرأة إلى الخارج رغم أنف زوجها والبقية تأتي. إفساد المرأة أمر متعمد، (90%) من فساد البيوت على عنق المرأة وعلى عاتقها، وأيضاً (90%) من استقرار البيوت على عاتق المرأة؛ لذلك ينبغي على المرأة المسلمة أن لا تخذلنا في معركتنا الفاصلة، مع هذه القوى المناوئة لشرع الله عز وجل، إذا تحاكمت المرأة إلى الشرع فقد أسقطت كل هذه القوانين التي قننت لإفسادها، لا ينبغي عليها أن تخذلنا في معركتنا، ولا ينبغي أن يؤتى الإسلام من قبل المرأة المسلمة. واستكمالاً لما تقدم من شرح حديث ابن عباس في الشطر الأول للمادة أقول وبالله التوفيق: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي ابنته برسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تستكثريه، ولا تهجريه، ولا تراجعيه، وسليني ما بدا لك).

من آداب الاستئذان

من آداب الاستئذان استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال الغلام: (ذكرتك له فصمت) هذا الغلام اسمه رباح، وكان واقفاً على باب الرسول، واحتج أهل العلم بهذا على جواز أن يتخذ الإمام حاجباً إذا دعت إلى ذلك ضرورة، وأن اتخاذ الحجاب والحراس أمر له أصل في الشرع إذا دعا إلى ذلك داع، وإلا فإنه يجوز للإمام ألا يتخذ حاجباً ولا يتخذ بواباً، وفي هذا أدلة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين - مر على امرأة تبكي عند قبر جديد فقال: (يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُخبِرَت المرأة أنه رسول الله فزعت وانطلقت خلفه، فجاءت بيته فلم تجد حاجباً ولا بواباً، فاعتذرت إليه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إنما الصبر عند الصدمة الأولى). وفي اتخاذ الحاجب والبواب هذا الحديث وحديث آخر، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله بباب بستان وقال: لا يدخل أحد. فجاء أبو بكر فأراد أن يدخل، فقال له: على رسلك، فاستأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، قال: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له وبشره بالجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على حافة البئر، وقد دلى رجليه في البئر فجاء أبو بكر الصديق وجلس بجانبه ودلى رجليه في البئر. قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إن يرد الله بفلان خيراً يأتِ به، يريد أخاً له -طمعاً أن يقول له أيضاً: بشره بالجنة، فهو يتمنى أن يأتي أخوه في هذه اللحظة حتى يبشر بالجنة- قال: فجاء عمر. فقلت: على رسلك، واستأذن له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له وبشره بالجنة، فجاء عمر فجلس بجانب أبي بكر ودلى رجليه في البئر. ثم جاء عثمان قال: على رسلك. فاستأذن له، قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. فقال عثمان: الله المستعان. فدخل عثمان، فلم يجد بجانبهم مكاناً، فجلس في مقابلهم ودلى رجليه في البئر). قال سعيد بن المسيب رحمه الله: فأولتها (قبورهم)؛ لأن أبا بكر وعمر دفنا بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ودفن عثمان في مقابلهم في البقيع. ففي هذا دليل على جواز أن يتخذ الأمير أو العالم أو الحاكم حاجباً إذا دعت إلى ذلك ضرورة. وفي قوله: (استأذن لـ عمر) دلالة على استحباب أن يسمي المستأذن نفسه، ما قال له: ائذن لي، -مع أنه معروف- إنما قال: استأذن لـ عمر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يستأذن عليه المستأذن فيقول: أنا. كما في حديث جابر في صحيح مسلم (أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: أنا. قال جابر فسمعته يقول: أنا أنا؟! كأنما كرهها). قال ابن الجوزي رحمه الله: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم (أنا) لأنها تشعر بالكبر، فكأن قائلها يقول: أنا الذي لا أذكر نسبي، ولا أنسب نفسي لشهرتي. كأنما قال ذلك فكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (استأذن لـ عمر. قال: فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. فرجع عمر إلى المنبر مرة أخرى). وللبحث صلة بعد الصلاة إن شاء الله. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

التعامل مع النساء

التعامل مع النساء إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. لما دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم سأله: (يا رسول الله! هل طلقت نساءك؟ قال: لا. فقال عمر: الله أكبر!) في بعض الروايات أن أم سلمة سمعت تكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالت: (فلما سمعنا تكبير عمر علمنا أنه لم يكن طلاقاً) طبعاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه هذا الخبر عن صاحبه الأنصاري نزل فصلى الفجر، ثم أتى حفصة فدخل عليها وهي تبكي قال: (ما يبكيكِ؟! أولم أكن حذرتك؟! هل طلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا) في بعض الطرق الأخرى قال عمر: (ولولاي لطلقكِ). فلما سأل عمر النبي عليه الصلاة والسلام: هل طلقت نساءك؟ قال: لا؛ فكبر، فأراد عمر أن يؤنسه فذكر ما قاله لـ حفصة، ومثل هذا لا يقال عادة، لكن عمر أراد أن يستأنس وأراد أن يضحك عليه الصلاة والسلام ليزيل عنه ما يجد. قال: (يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) العلماء يقولون: أن تبسمه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه رضي طريقة الأنصار في معاملة النساء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحسن الناس لأهله كما صرح هو بذلك، قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). بكل أسف قد تجد الرجل حسن الخُلق، بساماً ضاحكاً في الخارج مع أصحابه، فإذا دخل البيت دخل وعلى وجهه الغضب، ولا يبتسم لماذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن النساء عوان عندكم) (عوان) أي: أسيرات، فالمرأة أول ما تتزوجها تدخل السجن مباشرةً لماذا؟ لأنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك، وإذا سافرت وتركتها ظلت معلقة بك، ما تستطيع أن تأخذ الإفراج إلا بالطلاق، فالمرأة لما دخلت سجنك كن كريماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام قدوتنا في ذلك وقد حث ورغب في الإحسان إليهن وأنا أوصي إخواني أن يطالعوا كتب الشمائل -شمائل النبي عليه الصلاة والسلام- والكتب التي تعنى بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، مثل شمائل الترمذي، ومثل أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وهناك الشمائل لـ أبي الحسين البغوي، وهو من أجمع هذه الكتب. واربط حياتك بحياة النبي عليه الصلاة والسلام، وحاول أن تنقل ما تتعلمه إلى حياتك، ولن تشقى على الإطلاق.

الإحسان إلى المرأة وإكرامها

الإحسان إلى المرأة وإكرامها إن هناك بيوتاً -بكل أسف- تتصدع كل يوم بسبب عدم الثقة، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام كانت حياته عنواناً للود والوئام، والمعاملة المبنية على التفاهم والحوار وعدم تهميش الآخر. المرأة تحتاج إلى مداراة، لكن ليس معنى المداراة أن تكذب وتقسم على الكذب، هذا لا يحل أبداً، المداراة: أنك توري بالكلام فقط، ولا تقسم على المداراة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن تركته ظل على عوج، فاقبلوهن على عوج). وبما أن المرأة ضلع أعوج هكذا، فأنت لابد أن تتعوج لكي يتلاءم الشيئان على بعض، لو أنت مثل السيف، وهي -ربنا خلقها هكذا- (عوجاء) لا يحصل التطابق والائتلاف، فلأجل حياة سوية سعيدة عليك أن تجاريها وتداريها كي يحصل الائتلاف والشعور بالكيان الواحد. فالنبي عليه الصلاة والسلام طالب الرجل أن ينزل من مكانته إلى المرأة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه فإن أردت أن تقيمه -أي: تجعله سوياً مثلك- كسرته) وأنا على يقين لو أن المرأة صارت كالرجل لطلقها الرجل لماذا؟ لأن الرجل ليس من الممكن أن يعيش مع رجل آخر في البيت، ويخضع له ويطيعه ويمتثل أمره، ويسعى لتوفير راحته؛ بخلاف المرأة، فإن كمالها في اعوجاجها، ونقصها الذي يحوجها إلى الرجل، ولا تستطيع الاستغناء عنه، وبذا يكون التكامل والبناء الواحد. لكن لو استوت مثلك فلن تستطيعا أن تعيشا معاً أبداً. فكذلك ينبغي على الرجل أنه يراعي هذه المسألة. عاملوا النساء معاملة كريمة وتذكروا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم أخذتموهن بكلمة الله) فمن الرجال من إذا تزوج المرأة يسب أباها وجدها وسائر قرابتها والله يا أخي! أنت ما تزوجت المرأة يوم تزوجتها من وليها على هذا، ولو كان أبوها يعلم أنك تسبه أو المرأة تعلم أنك تسبها وتسب أباها ما قبلتك زوجاً. إذاً أنت لم توفِ بالعقد والعهد، فاحفظ العهد ووفِ بالعقد، العقد الذي هو كلمة الله تبارك وتعالى. ثم قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ) وعائشة كانت تلقب (بالحميراء) والحميراء: هي المرأة البيضاء التي يخالط بياضها حمرة، وليست بيضاء مثل الأعاجم الذين تحس أن بياضهم برص، وإنما كانت بيضاء بياضاً ناعماً مشرباً بحمرة، وهذا يعطي جمالاً. فيقول: (لا يغرنك أن كانت جارتكِ أوضأ -الوضاءة: الجمال- وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكِ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، قال عمر: فجلست) وهذا من فقه عمر، لأنه لابد أنك إذا حادثت رجلاً حزيناً، أن تستأنس قبل أن تجالسه وقبل أن تكلمه أول ما جلس عمر بن الخطاب جعلت عينه تدور في البيت قال: (فما رأيت فيها شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة -الإهاب: الجلد، أي: ثلاثة جلود هذا الذي كان في بيته عليه الصلاة والسلام- فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. وكان متكئاً فجلس -وهذا يدل على اهتمام النبي عليه الصلاة والسلام بما سيقوله؛ لأن الأمر الذي قاله عمر يستحق التعليق- قال: أوفي هذا أنت يـ ابن الخطاب -يعني أأنت تقول هذا وأنت الرجل في علمه، وفي قربه مني، وفي فقهه؛ وتقول مثل هذا الكلام- هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا}. هنا مسألة أحب أن أجليها؛ لأنه حصل فيها خلط، كل الأحاديث التي تزهد في الدنيا بعض الغالين نفاها، وقال: ليس من الممكن أن المسلم يطلق الدنيا ويتزوج الخوالي، وأن أحاديث الزهد هذه أغلبها أحاديث قيلت في مناسبات مخصوصة لا ينبغي أن تعمم، وأنه ينبغي على المسلمين أن يمتلكوا الدنيا حتى يقاوموا أعداءهم ويقاتلوهم، وطائفة أخرى تركت الدنيا لأعدائنا فعلاً والحق بين الإفراط والتفريط. أحاديث الزهد في الدنيا المقصود بها زهد القلب، وليس المقصود بها زهد اليد، المقصود بالأحاديث الحاضة على الزهد في الدنيا أن يزهد المرء في الدنيا بقلبه، وأن تكون الدنيا في يده، فإذا خلا قلبه من الدنيا وقصرها في يده كان كالطراز الأول من الصحابة رضي الله عنهم. اليوم نحن نحتاج إلى هذا المال لإقامة حياتنا، ولا نستطيع أن نقاوم أعداءنا إلا بامتلاك هذا المال، وامتلاك السلاح، وامتلاك التكنولوجيا وهذه الأشياء، وهذا لا يكون إلا بمال، لكن لا ينطوي قلبك على حب الدنيا، كل هذه الأثرة التي ذكرها علماؤنا السالفون في أحاديث الزهد في الدنيا لاذعات قوية لا يستغني المرء عنها لسلامة قلبه. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا) وليس معنى ذلك أننا نعيش فقراء، وأننا لا نبحث عن تحصيل دنيانا، الكلام هذا غير صحيح، لكن المقصود أن لا تغزو الدنيا قلوبنا، وعلى هذا تتنزل كل الأحاديث الحاضة على التجافي عن الدنيا وعدم التكالب عليها. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

وجوب مراعاة نفسية المرأة والتودد إليها

وجوب مراعاة نفسية المرأة والتودد إليها ربنا عز وجل خلق الرجل على خلقة، وخلق المرأة أيضاً على خلقة، فالمرأة ضعيفة، كثيرة الظنون، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة) إياك أن تتصور أن المرأة سوف تمشي معك كما تحب على طريقة واحدة. فكل يوم المرأة لها طريقة، فإذاً ينبغي أن تعلم أن الله عز وجل خلق المرأة على هذا؛ فتعذرها، ولا تعامل المرأة كمعاملة الرجل لماذا؟ لأن خُلقها دون خُلق الرجل، وخَلقها دون خَلق الرجل، ومزاجها دون مزاج الرجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت هذه سيرته رفق ورحمة وسماحة، ومن ذلك حديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم عائشة في غزوة من الغزوات. وبصراحة: كم واحداً منا فعل مع امرأته هذا أو قريباً من هذا؟ الكثير من الناس يرى الرفق بالمرأة يجرئها عليه وإذا قسى عليها لانت له واحترمته، ولذلك لابد أن تعامل معاملة قوية وحاسمة، وهذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام. ولنا في حديث أم زرع درس تربوي عظيم، ويظهر مدى وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على أعلى وأرقى الأخلاق، وتبسط مع عائشة رضي الله عنها وسمع منها هذا الحديث الطويل برغم أنه محمل ومثقل بأعباء الدعوة إلى الله عز وجل. والبخاري بوب على هذا الحديث -حديث أم زرع - قال: (باب السمر مع الأهل). بينما من الناس من يرى أن المرأة كل حكاياتها ليست مهمة، ويقول -بكل تبجح- آتي أحط دماغي لكي أستريح ثلث ساعة، وهي تشغلني بهذا الكلام الفارغ! فنقول لهذا وأمثاله: هذا الرجل الذي لم يتأدب بأدب النبي عليه الصلاة والسلام بينما الرجل العاقل هو الذي يشعرها بحلاوة حديثها، والاستماع فن! الاستماع فن! المرأة لما تحكي لك صبر نفسك ثلث ساعة، صبر نفسك ربع ساعة لما تحكي لك مثل هذه الحكايات، لأن هذه حياتها، وأنت طول النهار في الخارج، وهي طول النهار مع الأولاد، فأول ما يأتي زوجها تريد أن تتكلم معه أي كلام، فتفتح معه أي حوار؛ لأن الحياة الرتيبة ليس فيها شيء يستحق الحوار، فإذاً لابد أن تفاتحك بشيء كهذا. وتأمل في هذا الخلق العظيم للرجل العظيم النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة سمع عائشة رضي الله عنها تحكي حكاية أم زرع، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أجود مثال، وشبه نفسه عليه الصلاة والسلام به تطييباً لخاطر عائشة، بل أضاف إلى ذلك شيئاً من عنده عليه الصلاة والسلام تطييباً لخاطرها، قال لها: (كنت لكِ كـ أبي زرع لـ أم زرع -في رواية للنسائي - قالت: يا رسول الله! بل أنت خير من أبي زرع)، وفي رواية الزبير بن بكار قال لها: (كنت لكِ كـ أبي زرع لـ أم زرع، غير أني لا أطلقكِ) لأن أبا زرع طلق امرأته. فالنبي عليه الصلاة السلام كان حسن العشرة جداً مع أهله وبه يجب الائتساء، قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. فمعنى أنه يتبسم عند أن سمع عمر يقول: (والأنصار تغلبهم نساؤهم) إذاً: رضي سيرة الأنصار مع النساء، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منكِ)، وهذا من أدب عمر رضي الله عنه في استخدام الكلام، ما قال: (ضرتكِ) إنما قال: (جارتك)؛ لأن الجار له حقوق، فالرجل المتزوج بامرأتين إذا ذكر إحدى امرأتيه للأخرى يقول: أختك، كما أنك -مثلاً- إذا ذكرت ابن أخيك لابنك تقول له: أخوك لماذا؟ لأن فيه استعطافاً. ثم أنت لا تنقل شيئاً من حياتك في هذا البيت إلى هذا البيت، إذ أن هذا التصرف أكبر غلطة! وهو أن الرجل ينقل حياته ويتحدث عن تصرفاته في بيت إحداهن للأخرى. وأنا في المشاكل أو الحالات التي رأيتها في البيوت التي فيها تعدد، وفيها عدم الاستقرار؛ في الغالب بسبب الرجل لماذا؟ لأنه يذهب يحكي حياته وعشرته مع المرأة الأخرى. يأكل مثلاً طبيخاً معيناً -ملخوية مثلاً بالبامية- فيقول لها: تسلم يديكِ! البامية التي أنا أكلتها البارحة كانت حلوة مثل هذه أيضاً! يعني كأنك تريد أن تقول أنها مثلها؟! هي المرأة لا تقبل أصلاً هذا! حتى لو كانت دونها، يعني هذا أن حياتك هنا غير حياتك هنا.

تعدد الزوجات والقسط في الهدي النبوي

تعدد الزوجات والقسط في الهدي النبوي النبي عليه الصلاة والسلام من جوانب عظمته: أنه كان معه تسع نساء وانظر ماذا فعل في الدنيا، كان قلبه لربه تبارك وتعالى، وكان لا يغفل طرفة عين عن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفقد حاجات المسلمين برغم أنه متزوج بتسع! والمشادّة عادة تكون مع الرجل إذا تزوج بأكثر من امرأة، يكون باب الملاحاة أوسع منه من أن يكون زوج امرأة واحدة. فأنت إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ترى عجباً، هناك حديث في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في السفر يذهب إلى جمل عائشة) فكان دائماً وهو مسافر يبحث أين الجمل ويذهب إلى الجمل، وهو كان راكباً ناقته، ويذهب هناك لكي يتحاورا ويتسامرا. ففي مرة من المرات في سفر كانت حفصة مع عائشة، فـ حفصة رضي الله عنها عملت حيلة، فقالت لها: ألا نبدل ركابينا، أنا أركب جملك وأنت تركبين جملي، وعائشة رضي الله عنها ما فطنت إلى الذي تريد حفصة. فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى جمل عائشة، الذي تركبه حفصة وبقي يتحدث مع حفصة. وأول ما رأت عائشة رضي الله عنها هذا المنظر غارت، حتى دعت على نفسها أن تلدغها حية، انظر إلى أين وصل الأمر! يصل الأمر إلى أنها تدعو على نفسها أن حية تلدغها، وتقول: (اللهم! رسولك ولا أقدر أن أقول له شيئاً) ومع ذلك كانت عائشة وحفصة أختان متوائمتان، كانت الغيرة فعلاً موجودة، لكن كانت الغيرة حميدة إذ لم تتجاوز الحد، كانت غيرة مؤقتة، والمرأة التي تريد أن تنفرد بزوجها وتستبد به تتمنى أن تهلك أختها أو لا تستريح إلا إذا طلقت أختها لا؛ لم يقع ذلك بين أمهات المؤمنين، مع أن المعروف عند كثير من الضرائر ليس مجرد الكراهية لبعضهن وإنما يتعدى الأمر إلى كراهيتهن للرجل، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان محل المحبة والإجلال في أفئدة نسائه جميعاً. بعض إخواننا المتزوجين بأكثر من زوجة ممكن أن يطلق إحداهن بسبب أنه يريد أن تكون الزوجتان متفقتان مع بعض، نقول: يا أخي! هذا ليس من شغلك، المهم أن يحببنك كلهن، وأن تكون محبوباً عند الكل ودعك منهن سواء كانت بينهن محبة أو غيرة وكراهية، هذه مسألة أنت ما لك دعوة بها، المهم أن يحببنك، كلما تدخل البيت -أي بيت تدخله- تجد منهن المحبة. والبعض من الرجال يصر أن يسكنهن في بيت واحد، ويأكلن من أكل واحد، ويقول لهما: تعاليا حتى نقرأ كلنا في كتاب الله -مثلاً- ويحاول إجبارهن على الاندماج مع بعض فالرجل هذا يسبح ضد التيار. لا يا أخي! ما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، كان كل امرأة لها بيت، حتى لو كانت المرأتان في بيت واحد فأنت سوف تمشي على الجمر، ولن تأخذ راحتك أبداً لماذا؟ إذا نظرت إلى إحداهن غارت الأخرى وأضرمت عليك البيت ناراً ومشاكل وهكذا مع الأولى، وستظل كل يوم في تحقيق وفي محضر، أما عندما تكون في بيت مستقل فلن يكون الأمر كذلك، النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسلت صفية بطبيخ لها -إدام- وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا جماعة من أصحابه في بيت عائشة، وصفية أرسلت بهذا الإدام -يعني: طبيخ - وكانت صانعة طعام جيدة حتى لقد وصفت عائشة رضي الله عنها طعامها فقالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية). فأول ما أتي بالطبيخ ورائحته تفوح، وطبعاً عائشة لا تطبخ مثلها، فـ عائشة ظنت أن صفية بعثت هذا الطبق حتى يُرى الفرق بين طبخها وطبخ عائشة، فغارت ورمت الإناء حتى انكسر، فالنبي عليه الصلاة والسلام فطن للمسألة هذه، والصحابة جالسون والحدث كان أمامهم؛ فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (غارت أمكم، وأخذ إناء عائشة رضي الله عنها وأرسله إلى صفية وقال: إناء بإناء وطعام بطعام). لو حصل مثل هذا الأمر مع شخص آخر من الممكن أن يكون فيه طلاق للمرأة، لا يا أخي! الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامل النساء معاملة راقية جداً، والنساء ضعيفات يحتجن إلى الرفق والسماحة. ربنا سبحانه وتعالى أعطى الرجل القدرة على أن يعاشر أربع نسوة، وما ملك من الإماء، لديه القدرة على أن يتعامل مع أربع نسوة، ويكون صادقاً في تعامله معهن جميعاً، يعني مثلاً يمكن يبث بحبه للمرأة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، لا أحد يقول لي: يا غشاش! أو يا كذاب! والمرأة غير الرجل، ربنا سبحانه وتعالى لما خلق الرجل خلق عنده هذه الطاقة وهذا الصبر، بدليل أنه أعطاه أربعاً، فهو إذا قال للمرأة الأولى مثلاً: أنا أحبك، فهو يحبها، وإذا قال للثانية: أنا أحبك، فهو يحبها فعلاً، لكن المرأة لو قالت لغير زوجها: أنا أحبك؛ فهي كاذبة؛ لأن الله عز وجل لم يجعل لقلبها إلا مكان رجل واحد فقط، بينما جعل للرجل أربعاً، فالرجل لما يوزع في أربع جهات فهو صادق، المرأة لو وزعت في جهتين تكون كاذبة.

ماذا بعد رمضان؟!

ماذا بعد رمضان؟! المسلمون في رمضان يظهر جلياً اهتمامهم بالعبادة والقيام وقراءة القرآن وسائر القربات، بينما يهملون دينهم بقية شهور العام، ومن أسباب ذلك الفتور الذي يعتريهم في سائر أيام العام: سيرهم إلى الله على مركب الرجاء أو كما يسمى (دراسة الجدوى) فيستثمرون أوقاتاً تضاعف فيها الحسنات كليلة القدر مثلاً وكأن عملهم فيها مقبول يقيناً، ولا يلتفتون إلى الأوقات الأخرى، ولو ركبوا في إبحارهم إلى المولى الودود تعالى مركب الشوق والمحبة لما تهاونوا ولما استثقلوا العبادة والطاعة.

أحوال الناس بعد رمضان

أحوال الناس بعد رمضان إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعملنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

العودة إلى الله وترك التمرد على أمره ونهيه

العودة إلى الله وترك التمرد على أمره ونهيه فإذا كان الله عز وجل يعاملنا هذه المعاملة ومن صفاته الودود، فيا أيها العاصي المدبر عن ربك تبارك وتعالى! إنك لا تساوي شيئاً إذا انحرفت عن دربه، ومن العجب أن الله عز وجل لما خلقه وسواه بشراً سوياً إذا به خصيم لله مبين، يحاد الله عز وجل، رفعت نسبك فوق نسبه فأنا أعلمك بنسبك جملة بغير تفصيل، قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] فهم يعلمون مما خلقوا، جدك الأعلى تراب ووالدك الأقرب ماء مهين، وقد خرجت من مجرى البول مرتين فكيف تستطيل على ربك؟ ولله در الحسن حين قال: (هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم). أيها المسلم: إن ترك الذنب أهون عليك من طلب التوبة، فإنك قد لا توفق لتوبة، وقد تتوب فلا يقبل منك، فلماذا تلقي بنفسك في المجهول، وقد قدمنا في أول الكلام أنه ما من نهي نهى الله العبد عنه إلا وبإمكانه أن يتبعه، ترك الذنب إذاً خير لك، وأقرب سبيلاً وأشد من طلب التوبة. أيها الإخوة الكرام! إنه ينبغي علينا أن نحقق العبودية لله تبارك وتعالى في أنفنسا وأولادنا، نعم شهر رمضان شهر طاعات، ولكن الله تبارك وتعالى يحب العبد إذا عبده في وقت غفلة الناس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)، وهو حديث زيد بن أرقم في صحيح مسلم، والفصيل هو ولد الناقة الصغير الذي لم يستوِ خفه فهو لا يتحمل حرارة الأرض فيمشي على الأرض قفزاً، هذا الوقت يقدر بأنه قبل الظهر بنحو ساعة ونصف أو ساعة وربع، فإذا صليت لله عز وجل في هذا الوقت فقد عبدت الله في وقت قلما يسجد له فيه ساجد، من الذي يصلي قبل الظهر بساعة ونصف؟ الناس في معايشهم يسعون في الأرض، فإذا عبدت الله عز وجل في هذا الوقت فقلما يسجد لله فيه ساجد، فلك من قبل الظهر بنحو ساعة ونصف إلى قبل الظهر بساعة إلا ربع، فإذا كان قبل الظهر بنحو ساعة إلا ربع تمتنع من الصلاة؛ لأن هذا وقت الزوال إلى أن يؤذن للظهر، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة صلاة الأوابين، والأوابون: جمع أواب وهو الرجاع إلى الله عز وجل، وهذه منزلة من المنازل العظيمة التي إذا حققها العبد كان ناجياً لا محالة، لو ثبت أنه في رتبة الأوابين، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الأوابين لذلك. إذاً: نفهم من هذا الحديث أنك إذا كنت في فقر فتصدقت فقد حققت أعظم العبادة؛ لأنها كانت عن فقر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، فإذا كنت فقيراً ولأهلك عليك نفقة واجبة فلا تتصدق مع هذه القلة إلا على أهلك، هم أولى من غيرهم، إذا كان عليك نفقة واجبة فقد وجب عليك، فإذا لم تكن عليك نفقة واجبة فأولو الأرحام أولى، لكن الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل). إذاً: كلما عبدت الله عز وجل وأجبرت نفسك على ذلك كان ذلك أسد لك؛ لأن هذا عنوان الحب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

معاملة الله تعالى لعباده مبنية على الفضل

معاملة الله تعالى لعباده مبنية على الفضل إن من آيات معاملة الله تبارك وتعالى لنا بالفضل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك)، أي: إذا قدرنا أنه بقي على المغرب دقيقتان أو ثلاث دقائق وكان لك عذر في تأخير الصلاة فقمت فأدركت ركعة وركعت، ثم قلت: سمع الله لمن حمده فأذن المغرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد أدرك) وهذه معاملة بالفضل، وإلا إذا عاملنا بالعدل رد علينا ثلاث ركعات؛ لأن الثلاث الركعات الباقيات من صلاة العصر إنما صليتها في وقت المغرب، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] لها وقت أول ووقت آخر، فإذا أتيت بركعة واحدة في العصر ثم الركعة الثانية والثالثة والرابعة في وقت المغرب فكان مقتضى العدل أن ترد عليك الركعات الثلاث، لكن الله عز وجل قبل منك ثلاث ركعات أوقعتها في غير الوقت بركعة أدركتها في الوقت، فوهب الكثير للقيل، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً؟ قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)، فهم كانوا أكثر عملاً، من الصباح إلى منتصف النهار مدة طويلة، ومع ذلك عجزوا، أي: ما أتموا ما فرض الله عز وجل عليهم فأعطوا قيراطاً قيراطاً، أي: وزعوا الأجر على العاملين، ولذلك كرر لفظة القيراط كما لو أردت أن تقول: إنك أعطيت فلاناً حقه كاملاً فتقول: أعطيته حقه درهماً درهماً، أي: ليس له عندك حق، فتكرير القيراط إشارة إلى أن كل عامل أخذ أجره على قدر ما عمل. وأخذ علماؤنا من هذا الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً) أن المرء إذا كلف بأمر فعجز لظروفه الخاصة فإنه يأخذ أجره، ففي بني إسرائيل يأخذ قيراطاً قيراطاً، وعندنا يأخذ أجره كاملاً، وهذا من جملة معاملة الله إيانا بالفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين-: (إذا سافر العبد أو مرض كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً)، فإذا كان له ورد من الليل يصليه، أو كان له قيام، أو كان له صدقة، فإذا سافر العبد فلم يستطع أن يعمل مثلما يعمله في بلد الإقامة كتب له أجره كاملاً كما لو كان مقيماً، وإذا مرض العبد فعجز عن القيام بما كان يفعله في حال الصحة كتب الله عز وجل له ذلك كاملاً: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) [النساء:70].

دواعي الفتور في العبادة

دواعي الفتور في العبادة بعد هذه المقدمة الضرورية وهي: أن الأمر والنهي في إمكان العبد، ف Q لماذا يفتر الناس بعد رمضان؟ لماذا يقبلون على الله في رمضان ثم يفترون بعد ذلك؟ إذا كانت المسألة عدم الجدية في العبادة فلقد رأيناهم يجدون، إذاً: بإمكانهم أن يجدوا في غير رمضان، إذ لو كانوا عجزة لما أتوا بهذا الجد في رمضان، فإذا كان بإمكانه أن يفعل فلماذا يحجم؟ لماذا هذا الفتور؟ في ليلة السابع والعشرين من رمضان وأنا ذاهب إلى المسجد في الساعة الواحدة لفت نظري هذا العام أن أغلب المساجد ملأى بالناس، وهذا ليس وقت سعي للعبادة، وليس وقت مكوث في المساجد، إذاً: لماذا عمّر الناس المساجد في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ طلباً لليلة القدر، إذاً: فالناس أذكياء! ويعرفون مصالحهم، ويقبلون إذا وجدوا الأجر، لذلك تركوا فرشهم الدافئة في هذا الشتاء وذهبوا إلى المساجد يصلون لله عز وجل، بينما ليلة ثماني وعشرين لا تجد أحداً في المساجد إلا العمّار الراتبون، ما معنى هذا الكلام؟ أيضحكون على الله؟ أول ما يظن أنه أخذ ليلة القدر يذهب لينام، لماذا هذا التفريط؟ إذاً: الناس تعرف دراسة الجدوى، يعرفون المكاسب والخسارة، لكن بكل أسف لم يحسبوها صحيحة هذه المرة. إن الله تبارك وتعالى حي قيوم يقبل العمل، سواء عملته في الليل أو في النهار، عملته في رمضان أو عملته في شوال، فهو تبارك وتعالى قيوم {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، وهو تبارك وتعالى يعاملنا بالفضل، فبرغم قصر أعمار هذه الأمة إلا أنها أكثر الأمم أجراً، فقصر أعمارها وبارك في أعمالها؛ حتى أن الحسنة الواحدة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، وهذا لا نعلمه لأمة من الأمم قط إلا لأمة المسلمين، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، حتى إن العبد قد يفعل الشيء الذي لا يلتفت إليه فينجو به غداً؛ لأن الله عز وجل قبله منه، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] وألف شهر تعني: (838) سنة وبضعة أشهر وعدة أيام، فإذا قمت ليلة القدر وأصبتها فعلاً فقد أضيف إلى عمرك القصير ثمانون عاماً، فإذا سددك الله عز وجل وكل رمضان أدركت ليلة القدر -إذا قمت العشر الأواخر بجد واجتهاد- فكل سنة تعبد الله عز وجل فيها ثمانون عاماً محسوبة إلى عمرك، فإذا لقيت الله عز وجل تلقاه بعمر قد يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عام، فيكتب لك أجر عابد ثلاثة آلاف عام، وهذا لو قدرنا أن رجلاً منذ فرض عليه الصيام من سن الثامن عشر عاماً مثلاً ومات وهو ابن ستين سنة، وصام خمسة وأربعين رمضان، وأدرك في كل رمضان ليلة القدر، فإذا ضربت خمسة وأربعين في ثلاثة وثمانين يصبح معك أكثر من ثلاثة آلاف، فكأنك عبدت الله عز وجل أكثر من ثلاثة آلاف عام، برغم أن عمرك الفعلي لا يجاوز ثلاثين عاماً عند الله عز وجل، فالعمر الفعلي الذي تحاسب عليه أمام الله لا يتجاوز ثلاثين عاماً، إذا مت على رأس ستين سنة، وهذه هي دراسة الجدوى لعمر إنسان مات وسنه ستين سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك). فلو قدرنا أن إنساناً يموت على رأس ستين عاماً، فهو لا يحاسب حتى يبلغ، والبلوغ قد يصل إلى خمسة عشر عاماً، ثم هو ينام ثمان ساعات في اليوم، إذاً: ثمان ساعات تطرح من ستين سنة تذهب عشرون سنة، تقضى في النوم وخمسة عشر سنة إلى سن البلوغ، وهذه خمسة وثلاثون سنة، فلو قدرت ساعات النوم أيضاً في البلوغ وتختصر خمس سنوات، إذاً: ثلاثون عاماً. إذاً: رجل يموت وعمره ستون سنة يحاسب عند الله على ثلاثين عاماً فقط، فهل ثلاثون عاماً مهما فعلت فيها توصلك؟ لا توصلك. ولو عمرت عمر نوح عليه السلام لا توصلك، ولو عمرت عمر إبليس الذي قال لله عز وجل: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]، فلو عمرت من أول ما خلق آدم إلى أن ينفخ في الصور فلن تدخل الجنة بعملك أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). وهناك قصة ضعيفة الإسناد أذكرها على سبيل التقريب لا الاحتجاج، وقد ذكرها الحاكم في المستدرك مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: (أن عبداً عبد الله عز وجل في جزيرة ستمائة عام، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان في الصخر، وأخرج له بقدر الإصبع عيناً عذبة من الماء المالح، فكان يأكل من الرمان ويشرب من الماء ويعبد الله، فسأل الله يوماً أن يقبضه وهو ساجد، فعندما جاء أجله قبضه الله وهو ساجد، ثم قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب بل بعملي! قال: برحمتي! قال: بل بعملي! فقال الله عز وجل: قايسوا نعمي على عبدي بعبادته -ومسألة القيامة مسألة موازين- فأتوا بنعمة البصر ووضعوها في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت الستمائة عام في العبادة أمام نعمة البصر، فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل العبد يستجير ويستغيث ويقول: يا رب، أدخل الجنة برحمتك!! فقال: أوقفوه. فوقف، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟ برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من الذي أخرج لك قحط رمان في الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام، برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: فبرحمتي أدخل الجنة، يا عبدي كنت نعم العبد)!! وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن الأحاديث الصحيحة تنطق على مقتضاه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته آنفاً: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته). فوضع الله عز وجل الآصار التي فرضها على بني إسرائيل عن هذه الأمة، كما قال الله عز وجل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] كان الواحد من بني إسرائيل إذا أصابه البول قرضه بالمقاريض، لا يكفي فيه الغسل ولا يطهره ماء، وإنما يقرضه بالمقاريض، ووضع الله عز وجل هذا الإصر عن هذه الأمة، بل إن الرجل إذا فقد الماء تيمم وصلى وأجزأته صلاته ولا يلزمه الإعادة، وإذا فقد الطهورين معاً صلى بلا وضوء ولا تيمم، وإذا قابله قاطع طريق فأخذ ثيابه كلها وتركه عارياً صلى عارياً وأجزأته صلاته، ولا تلزمه الإعادة، وهذا كله من التيسير الذي امتن الله عز وجل به على هذه الأمة. حرم الله عز وجل على بني إسرائيل الطيبات: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] حرم عليهم الخبائث وحرم عليهم شطراً من الطيبات فضيق عليهم الحلال، فكان البحث عن الحلال في أيامهم في غاية المشقة، وهذه الأمة لطف الله عز وجل بها، ووضع الآصار التي وضعها على بني إسرائيل عن هذه الأمة. إذاً: فالله عز وجل يعاملنا بالفضل، فما الذي غرك به وجعلك تُجبر عنه بعد رمضان؟ ألا يحصي عليك بعد رمضان، أو يغفل عنك فلا يراك؟!! لماذا نعامل الله عز وجل هذه المعاملة؟ ولماذا لا نقبل عليه دائماً في كل يوم وشهر؟ هذا عقوق لله عز وجل، وإن الكريم لا يجب عليك أن تعقه فهذا لؤم، ويوشك الله تبارك وتعالى أن يعاقب الذي حلم عليه كثيراً فلم يرجع.

شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي

شرط الاستطاعة لامتثال الأمر والنهي من القواعد المقررة في ديننا قول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6] فكل أمرٍ أمر الله عز وجل به عباده على سبيل الوجوب فبإمكانهم أن يفعلوه، وكل نهي نهاهم عنه فبإمكانهم أن ينتهوا عنه، فليس هناك أمر فوق مقدور العبد أبداً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وليس هناك نهي يعجز العبد عن فعله قط، وهذا شيء مؤكد لا يختلف فيه اثنان قط، والأمر والنهي معاً يشكلان العبادة مع توحيد الله عز وجل، فالعبادة: هي التوحيد، ومقتضى هذا التوحيد من الأمر والنهي، فمن لم يأت بالعبادة -التوحيد ومقتضاه- فإنه لم يعبد الله عز وجل، إذ إن الله قد خلق الخلق ليعبدوه؛ كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] في الرحلة إلى الله أكثر من مركب يُمتطى، فهناك من يمتطي مركب الرجاء، وهناك من يمتطي مركب الخوف، وأعظم الواصلين إلى الله عز وجل هم الذين يمتطون مطية المحبة إليه تبارك وتعالى، فلا تكلف أبداً مع المحبة. فهذه العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل يجب علينا أن نأتي بها في مكاننا، فإن عجزنا فإلى مكان آخر، لم يخلقك الله تبارك وتعالى لتكون عابداً له في بلدك، بل لو اقتضى الأمر أن تخرج من بلدك ومن أهلك ومن مالك لتحقق العبادة وجب عليك ذلك، فإن لم تفعل ولم تأت ما أمرت به فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:56 - 57] إنما ذكر الموت بعد السياحة في البلدان طلباً للعبادة، كأنه يريد أن يقول لك: كن عبداً لله ومت حيث شئت، المهم أن تحقق العبودية لله، فلا يشترط أن تموت بأرضك وبين أهلك وخلانك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57] وذكر هذا بعد قوله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] أي: حقق العبادة حيثما كنت. وقد رأيت وأنا أقرأ ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه حقق هذا المعنى، فأيام كان طليقاً كان يدعو إلى الله عز وجل ويواجه الفرق المبتدعة، وفعل هذا الرجل بالمبتدعة ما لم تفعله كتائب من العلماء، فلما سجن وجد المسجونين يلعبون ويلهون، ويقضون أوقاتهم في العبث، فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار، وقام فيهم بما يجب أن يقوم به العالم، فجمعهم على الصلاة، وأمهم، وشرع يعطي دروس العلم في التفسير والحديث والفقه، فاجتمع المسجونون عليه حتى ذكر الذين ترجموه أن كثيراً من المسجونين لما جاءهم الإفراج أبوا أن يخرجوا، وخرج من بين هؤلاء المسجونين علماء، فهذا الرجل قام بحق العبودية حتى وهو في السجن، فلا يضرك أين ذهبت، المهم أن تكون عبداً لله عز وجل.

امتثال شرع الله محبة له تعالى

امتثال شرع الله محبة له تعالى الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام! إذا كان الله عز وجل ودوداً يتودد إلى عباده، ويتحبب إليهم بنعمه، فنحن نعلم يقيناً أن المرء لو رزق النبل وسلامة الأصل لا يقابل فعل الكريم بلؤم. إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فأي رجل عنده نبل لا يعق ربه أبداً، من قرت عينه بالله قرت به كل عين، وأنس به كل مستوحش، وأمن به كل خائف، وفرح به كل حزين، وعز به كل ذليل، وجرب من عق ربه عز وجل أرسل طرفك معه وهو يعامل عباد الله، لا يخلو من لؤم أبداً، أما الإنسان الأصيل فلا يعق ربه. فإذا كان الله عز وجل يتحبب إلينا بذلك ونحن نُدبر عنه فيا ترى! ما هو العلاج؟ وما هو الحل؟ الحل أن تحب ربك، إنك إذا أحببته وهو أهل للحب لا يحب لذاته إلا الله، لا نبي ولا ملك، يحب لذاته، وإنما أحببناهم لأن الله قربهم، ولأن الله عز وجل اجتباهم واصطفاهم على العالمين؛ لذلك أحببناهم، ولو نزع الله عز وجل منهم الاصطفاء لأبغضناهم، إذاً: فلا يحب لذاته إلا الله عز وجل. إذا حققت معنى العبودية لم تر مشقة لأمر ولا لنهي، إن راكب مركب الحب لا يضل، الحب مطية لا يضل راكبها، والعبادة بالحب وإن قلت أفضل من العبادة بالخوف وإن عظمت وزادت، ولذلك ترى في عبادة المحبين من الروح مالا تراه في عبادة غيرهم؛ لأنهم يعبدون الله عز وجل حق عبادته، ولله در أبي الطيب المتنبي لما قال وهو يقرب هذا المعنى: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سرّكُمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم هذا عنوان صدق المحبة! طالما أنه راضٍ فلا أشعر بألم الجرح، وفي بعض الأدعية التي تعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنها بسند ضعيف أنه كان يناجي ربه، فيقول: (لك العتبى حتى ترضى، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي) وهذا هو معنى الحب، فإذا أحب الله عز وجل ورضي فلن تشعر بأي تكليف، ولا بأية مشقة، ولله در الشاعر المجيد أبي الشيص الذي قال أيضاً في توضيح هذا المعنى: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخراً عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم إن علاج هذا الإدبار أن تحب ربك. ونحن نقول للداعين إلى الله عز وجل: لا تبغضوا الله إلى الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الناس: (إن منكم منفرين)، فالمفتي إذا كان هناك وجهان في الدليل: شديد ويسير، فلا جناح عليه أن يأخذ في خاصة نفسه بالأشد، بحسب ورعه، لكن لا يجوز له أن يحمل الناس على الأشد إن كان اليسر له وجه في الدليل، فإذا حمل الناس على الأحوط فالأحوط فهو من المنفرين؛ لأن الأحوط فالأحوط معناه: الأشد فالأشد فالأشد، (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) إذاً: حببوا الله إلى الناس، وكان علي بن أبي طالب يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، فاترك المجهول بالنسبة للناس الذي لا يضرهم الجهل به، وعليك بالمعروف. لما جاء عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم) رعاية للضعيف، فإن القوي لا يضره إذا قصرت الصلاة لكن الضعيف يضره إذا طالت الصلاة، فقال: (اقتدِ بأضعفهم)، ولما (صلى معاذ بن جبل بقومه فافتتح صلاة العشاء بالبقرة ترك شاب الصلاة وصلى في ناحية المسجد وحده وانصرف، فقيل لـ معاذ: إن فلاناً ترك الصلاة خلفك، فقال: (إنه لمنافق) فبلغ ذلك الشاب، فشكى معاذاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفتان أنت يا معاذ؟) فالشاب شكى للرسول عليه الصلاة والسلام، قال له: نحن أصحاب نواضح، نسقي طوال النهار، ونحن متعبون من العمل، وهذا يصلي معك العشاء ثم جاء فافتتح البقرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك: (أفتان أنت يا معاذ؟ هلّا صليت بالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى) فلما سمع الشاب قول معاذ: إنه لمنافق قال الشاب: (سيعلم غداً)، فلما كانت أول غزوة قتل هذا الشاب فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ما ظنك؟)، أي: أين ذهب ظنك، وهل صدق لما قلت عنه: إنه منافق؟ إن الله تبارك وتعالى يقبل الصلاة من الخاشع الخاضع ولو كانت بالحد الأدنى منها، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واقتدِ بأضعفهم) ليس المقصود بها الصلاة فقط، بل هذا قانون، فإنك إذا حملت الناس قسراً على عبادة الله عز وجل ولم يكن عندهم من المحبة ما يقاوم ذلك أدبروا؛ لذلك كانت من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيّر بين أمرين اختار أيسرهما، وهكذا عليك أن تكون بشرط: أن يكون للأيسر حظ من الدليل، ليس أن تذهب فتأتي بالرخص، وترخص للناس كل شيء بلا دليل، لا، بل الشرط أن يكون له وجه في الدليل. فمحبة الرحمن تبارك وتعالى هي التي تسهل عليك العبادة، فلا ترى فيها تكلفاً ولا مشقة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، وكل عمل يقربنا إلى حبه، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

وسيلة دفع الهم [1]

وسيلة دفع الهم [1] إن أعظم وسيلة لدفع الهم الذي يبتلينا به الله عز وجل ويكفر به من خطايانا هي دعاء الله عز وجل واللجوء إليه سبحانه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الوقوف بين يدي الله والتضرع إليه طمعاً في تفريج الهموم وكشف الكربات، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أدعية إذا دعا بها العبد ربه مستشعراً فقره إليه، وحاجته إلى إحسانه وفضله، فإن الله يبدله بضيقه سعة، وبهمه فرجاً.

شرح حديث كشف الهم

شرح حديث كشف الهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسم مربعاً على الأرض، ومد خطاً من داخل هذا المربع إلى خارجه، وخط خطوطاً قصاراً حول هذا الخط الطويل داخل هذا المربع، ثم قال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به، وهذا أمله -وأشار إلى الخط الطويل الذي خرج من هذا المربع- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة، وقال: وهذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر) فهذا يبين لنا أن المرء من يوم ولادته إلى زمن موته وهو عرضة للمصائب والآلام، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]. إذا كانت الحياة كذلك فلابد من دواء، وقد تعددت الأدوية القرآنية والنبوية، ومن أحسنها ما رواه ابن حبان وأحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما يصيب المسلم من هم ولا حزن، فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يبدل همه فرجاً، وحزنه فرحاً، قالوا: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ قال: حق لمن سمعهن أن يتعلمهن). (حقٌ) أي: واجب وفريضة، ومن سوف نبين المعاني التي اشتمل عليها هذا الحديث العظيم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حقٌ) أي: صار واجباً وفريضة لمن يسمع هذا الحديث أن يعلم معناه. إن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره، فإذا لم يفهم المرء المعاني نقص إيمانه جداً، وكلما علم معاني القرآن والسنة ازداد إيماناً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب كما رواه البخاري في صحيحه: (أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ قال: لا. إلا فهماً يؤتاه الرجل في كتاب الله)، فالفهم منحة من الله عز وجل، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، وقال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] حتى لا يتصور المستمع أن هذا نقص في داود عليه السلام، فقال: (ففهمناها سليمان) وكل على خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) أي: في الإيمان الذي عند هذا الضعيف، فكان هذا الخير عنده. فالفهم في كلام الله ورسوله مُورثٌ لزيادة الإيمان، وما منا من إنسان إلا أصيب أو ينتظر مصيبة؛ لأن الله عز وجل قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، أي: في معاناة ومشقة، فالذي يتصور أنه من يوم أن يولد إلى أن يموت لا يبتلى فقد ظن باطلاً وعجزاً، ومن دخل الحرب وهو يظن أنه لا يصاب فقد ظن عجزاً.

معنى قوله: (أسألك بكل اسم هو لك)

معنى قوله: (أسألك بكل اسم هو لك) وقوله: (أسألك بكل اسم هو لك) نزه الله عز وجل قبل أن يسأل، فاعترف بالعبودية والذل وخلع حوله وقوته، وأثبت العجز الكامل لنفسه، وأن الله حكيم لا يفعل الشيء إلا لحكمة، وأثبت أن ما نزل به من المصيبة فبما كسبت يده، بعد كل هذه الديباجة بدأ يسأل: (أسألك بكل اسم هو لك) وأيضاً قبل أن يسأل بدأ بالثناء على الله: (بكل اسم هو لك)، والأسماء والصفات أعظم الأبواب لزيادة الإيمان. وروى أبو ذر الهروي في فوائده أن خالد بن صفوان دخل على هشام بن عبد الملك، فكان خالد بن صفوان خطيباً بليغاً، فقال خطبة طويلة بين يدي هشام يذكره فيها بما أنعم الله عز وجل عليه، وبامتداد ملكه، وبما له من الشوكة والسلطان والاستقرار، وقال: فإن شئت يا أمير المؤمنين ذكرت لك مثلاً من الملوك قبلك، فقال له: قل. قال: كان ملك قبلك وكان شاباً فتياً، وله مملكة رائعة كلها خضرة وزهور، وبينما هو جالس في هذا النعيم إذ قال لحاشيته: هل تعلمون أحداً فيما أنا فيه؟ قالوا: لا. وأثنوا عليه وأطنبوا، فقال شيخ كبير أدبه الحق، وقام لله بالحجة، فقال: أنا أقول لك! قال: قل. قال: هذا الذي أنت فيه شيء أصيل أم ورثته عن غيرك، وهو سيكون إلى غيرك؟ قال: بل ورثته عن غيري ويكون إلى غيري، قال: إذاً فما يفيد ما أنت فيه؟ قال: ويحك! وما المهرب؟ قال: أن تعمل بأمر الله على ما أمرك وأعطاك وأسعدك، أو تخلع هذا التاج وتسيح في الأرض فتعبد الله؟ قال: أمهلني حتى السحر، فإذا كان السحر فاقرع بابي فإني متدبر في هذا الأمر، فلما كان السحر قرع الباب فإذا به يجد الملك قد خلع التاج ولبس أطماراً باليه، وقال: أرضى أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، ولو رضيت بالملك لاتخذتك وزيراً، وقد رضيت بالسياحة فاخترتك رفيقاً، فدخل هذا الرجل ورفيقه في جبل فعبدا الله حتى ماتا، فلما سمع هشام ذلك بكى حتى اخضلت لحيته، وأمر بما كان من الطنافس وفأخرجت، فناله بعض حاشيته -أي حاشية هشام - وقالوا: كدرت عليه، ونغصت عليه، فقال: إني عاهدت الله عهداً ألا أدخل على ملك، إلا قمت بما أوجب الله عليَّ من النصح. لقد ترجم خالد بن صفوان مظاهر الجلال لرب العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40] مع أن الآيات كان يمكن أن تكون: (إنا نرث الأرض) والمعنى مستقيم، لكن جاء ضمير العظمة المنفصل (نحن)، ويضاف إلى ضمير العظمة المجاور له (إنا)، و (نرث) أيضاً ضمير عظمة، فالإنسان إذا راقب جملة معاني أسماء الله عز وجل ازداد بها إيماناً، وإذا راقب نعوت الجلال انكسرت رقبته، وإذا راقب نعوت الجمال تعلق به، وإذا راقب الأمر والنهي امتثل وخف عليه التكليف، وإذا راقب صفات التوكل وأن الله عز وجل يدفع عن عبده ويقيه قوي قلبه على التوكل، وإذا راقب مقتضى السمع والبصر أورثه ذلك الحياء من الله، من أن يقيم على معاصيه، أو أن يسمع منه ما يكره. هذه هي معاني أسماء الله عز وجل، ولذلك تأمل آخر الآيات: (إنه هو: الحكيم، العليم، القدير، الخبير، العزيز) وراقب هذه الصفات وتدبرها مع الآية تجدها في غاية الروعة، وأن غيرها لا يغني عنها: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] لا تكون (العزيز الحكيم)، فالرحمة هنا تقوم أكثر من مقام الحكمة، وتدبرها. قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك) وهذا يدل على أن بعض الأسماء خاصة، لا يعرفها إلا بعض الناس، أو آحاد الناس، كاسم الله الأعظم، وإنما يعلمه الله بعض عباده: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) أي: لا يعلمه أحد قط، وفي هذا دلالة على أن أسماء الله لا تحصر في تسع وتسعين بل هي أكثر من ذلك، وهو الذي عليه جماهير العلماء، وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يفيد الحصر، ولا يحصر أسماء الله في التسعة والتسعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

معنى قوله: (ماض في حكمك)

معنى قوله: (ماض فيَّ حكمك) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ماضٍ فيَّ حكمك) لا يستطيع أحد أن يرد قضاء الله عز وجل وحكمه الذي نفذ: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام:73] {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، لكن بعض الناس يقول عن نفسه: (الحق والحق أقول) وهذا خطأ، فلا يجوز لبشر أن يقول عن نفسه هذه العبارة؛ لأنه ما من إنسان إلا وكلامه يشتمل على بعض الباطل، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، وهذا لا يقوم به إلا رب العالمين ورسله، أما الذي لم يعصم فإن كلامه يشتمل على بعض الباطل وإن كان رجلاً فاضلاً. والذي يجري في المحاكم الآن من المعارضة والاستئناف يدل على أن القاضي الأول لما حكم ما تحرى العدل، فيضع أقصى عقوبة حتى وإن كان الجرم لا يستحق ذلك، لأن هناك استئنافاً للحكم، وبعدما يحكم عليه بالإعدام يكون براءة، كيف هذا؟ لأن عندنا مسألة النقض والإبرام، والأصل أن يجتهد القاضي في الحكم وفي النظر إلى أصول الشريعة، وبالنظر إلى دوافع الخصم، ويدرس القضية دراسة جيدة ثم يحكم، هذا هو الواجب، لكن هذا بداية يقول: أطالب بالإعدام!! لماذا؟ لأنه يعرف أن هناك مسألة أخرى، والمحامي يقول لهم: هذا حكم ابتدائي، أي: باطل! فالقاضي ألقى الكلام على عواهله؛ لأنه يعلم أن هذا الحكم سينقض، أو سيخفف، إذاً: لم يكن محقاً عندما تكلم بهذا الكلام، أما رب العالمين فحكمه ماضٍ؛ لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] لا استئناف ولا نقض ولا إبرام، كل هذا لا يوجد عند الله تبارك وتعالى. ولذلك إذا ظلمت في الدنيا أخر الحكم للملك تبارك وتعالى؛ مع أنها مرة، لكن سوف تنصف غداً، ومع ذلك أقول لك: لن يمضي خصمك في الدنيا بسلام، فالظالم لا يظلم رجلاً واحداً. والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم وهذا كلام المتنبي، يقول: (الظلم من شيم النفوس) إلا إذا أوّلنا الكلام بأن هذا أصل الإنسان؛ أي: أن المرء خلق ظلوماً، وهذا حق، فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأصل الإنسان أنه ظلوم لنفسه، لا يظلم لأنه رجل في نفسه، وإنما هناك علة منعته من الظلم، والعلل عند الناس كثيرة، فأهل الإيمان العلة العظمى عندهم: مخافة رب العالمين، وكفى بها علة شريفة يشاد بها، والإنسان لا يظلم؛ لأنه يخاف الله، وآخر لا يظلم؛ لأنه لا يقوى على إيصال الظلم والانتقام فهو عاجز، فيسكت، أو أن له مصلحة، فهذا الظالم لا يظلم نفراً دون نفر وإنما ظلمه فاشٍ، فإذا تركت الدعاء عليه أصابه سهم آخر لمظلوم آخر؛ فلا بد أن يصاب.

معنى قوله: (عدل في قضاؤك)

معنى قوله: (عدل في قضاؤك) حكم الله ماضٍ، وهذا يطمئن القلب: (ماضٍ فيَّ حكمك -أي: أنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً فعله- عدل فيَّ قضاؤك) ففرق بين الحكم والقضاء، وهناك نفر من الناس يبغضون الله إلى الناس، فيقولون: إن الله عز وجل يظلم ومحض العدل عنده سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، فالمؤمن قد يقلب عمله إلى سيء ويدخله النار، والفاسق من الممكن أن يدخله الجنة، وهذا صحيح في جملته، لكن لابد أن يكون هناك كسب من العبد أدى إلى النهاية، وإلا فنحن نقطع أن رب العالمين لا يسوي بين مَن عمل الصالحات وبين مَن عمل السيئات، من عمل صالحاً وأتى بالإيمان فنحن نجزم أنه من أهل الجنة، ومن تاب وأتى بالتوبة على أركانها وشرائطها وواجباتها فنحن نجزم بأن توبته مقبولة. وقد جعل الله إبليس بدلاً من أن كان طاوس الملائكة -على قول من يقول بذلك وليس بصحيح- جعله مخلداً في النار، فيقولون: هكذا قضى الله عز وجل، سبحان الله! إذا كنت لا تأمن مكر ربك بمعنى: تعمل الصالحات فيقلبها عليك، فمتى يطمئن قلبك إلى الله؟ متى يتشجع المرء على عمل الصالحات إن كان الله عز وجل يقلب عمله الصالح (100%) إلى السيئ؟ هذا محال!! {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] هذا لا ينبغي ولا يليق، وإنما يرتكب العبد شيئاً لا يعلمه الناس فيكافئه الله بما في قلبه، هذا هو الفارق بين الأمرين، لا أن من عمل الصالحات وآمن بالله عز وجل أن الله يقلب ذلك عليه، لا يكون ذلك أبداً!! إن الذين يحتجون بهذا القول من أهل البدع إنما يحتجون بدليل صحيح لكن ليس فيه دلالة، أو بما لا يصح وإن كان فيه دلالة، إن الله تبارك وتعالى من أسمائه: العدل، فلا يسوي بين من أطاعه وعمل الصالحات من قلبه وبين من أظهر للناس العمل بالصالحات وليس في قلبه مقتضى لهذا العمل، هذا هو الفرق، وإلا كيف تحب ربك؟ وأضرب لك مثلاً -ولله المثل الأعلى- تخيل أن لك امرأة خائنة لا تأمن غوائلها، ومن الممكن أن تضع لك سماً في الأكل، هل ستأكل؟ أو من الممكن أن تذبحك وأنت نائم، أتنام؟ تخيل أن هذه المرأة خائنة، أو العكس هناك امرأة زوجها هكذا، فهل من الممكن أن تأمن وتطمئن. فإذا كان الأمر كما يقولون فمن لهؤلاء العصاة الذين عصوا الله عز وجل وأرادوا أن يتوبوا ويرجعوا من قلوبهم فعلاً؟ من لهم إذا كانوا يصورون الله عز وجل كذلك؟ إن ربنا عز وجل أولى بالوفاء، ولذلك تهوي الأفئدة إليه؛ لأنه يغفر الزلة ويمسح الحوبة، وقد يخرج الرجل من جبّ المعاصي فيضعه في قمة الولاية؛ لأنه عبده، فالله تبارك وتعالى أولى بذلك، وهؤلاء هم الذين يحتجون بالقدر على المعاصي، وهم الذين أساءوا الظن بالله عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:23] ليس الله كذلك، لكن من ظن أن الله كذلك عامله على مقتضى ظنه فأهلكه. نسأل الله عز وجل أن يعافينا من سوء الظن به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إذا اعتقد المرء أن قضاء الله عدل ازداد إيمانه؛ لأن الذين يسخطون على الله عز وجل يظنون أن الله ظلمهم، فإذا أصابته مصيبة قال: لماذا يا رب من دون كل هؤلاء اخترتني؟ أليس كثير من الناس يعترض على ربه بهذا؟ يسيء الظن بالله ويسخط عليه، ومن سخط فعليه السخط، فإذا اعتقدت أن الله عدل في قضائه وأصابتك مصيبة فقل: هذا بذنب! وأنا أستحق ذلك، بل الله لطف بي؛ لأنه لم يعجل لي وترك لي فرصة أن أتوب وأرجع. وهناك من الناس من لا يرجع، {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، لا يرجعون من تلقاء أنفسهم، فكلما أصابتك مصيبة قل: أنا أستحق ذلك، وقل: بل لطف بي ربي، ولو عجل لي ما تبت، كم من حسرات في بطون المقابر، كثير من الذين ماتوا كان الواحد منهم يتمنى أن يتوب، لكن أهلكته السين وسوف، وسأتوب وسأتوب فاعتقاد أن الله عز وجل عدل هو مقتضى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، رجل يبتلى بالوسوسة في أهله، وهذه ظاهرة بدأت أرى لها غباراً، يسيء الظن في زوجته مثلاً، ليس لأنه غيور، لكن لأنه خائن، إنه ابتلي على نحو ما فعل بالآخرين، لو قلب في صفحاته لوجد أنه خان أيضاً، ولم يكن نبيلاً، ولم يكن ذا عفة، ولم يكن محترماً، فابتلاه الله عز وجل بهذا، وهذه ليست غيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يحب الغيرة في غير ريبة) فإذا لم تر من امرأتك ما يدعو إلى ذلك، فلا توسوس وتقول: أنا غيور، هناك فرق، لكن العاقل الذي لا يكذب ولا يخدع نفسه لو فتش لوجد أن حياته تشتمل على خيانات، فنزع إطار الله عز وجل السكينة من قلبه خشية أن يخون أهله، والعكس أيضاً، والجزاء من جنس العمل. وهذا عدل من الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] فالخداع منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه منه مجازاة فكان أحسن شيء، ومنهم لؤم؛ لأنهم يخدعون الذي لا يخدع فكان أقبح شيء، مثل المكر تماماً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فمكره أحسن شيء، ومكرهم أقبح شيء؛ لأنه يمكر بالقوي الكبير، المتعالي العلي القدير، الخبير اللطيف، وإنما الله عز وجل رد عليهم مقتضى فعلهم؛ لذلك كان فعله أحسن شيء تبارك وتعالى. وعندما تصيب الإنسان مصيبة يعلم أن الله لا يظلم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40] أفمثل هذا الرب العظيم يظلم؟ {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا يظلم أي شيء، فـ (شيئاً) نكرة ومنفية، فاعتقاد أن الله حكم عدل يعينك على التوبة، وأن ترجع فتذم نفسك لا أن تلقي باللوم على ربك: (عدل فيَّ قضاؤك).

معنى قوله: (اللهم إني عبدك)

معنى قوله: (اللهم إني عبدك) سن لنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً ندعو به يشتمل على التوحيد وعلى العبودية: (اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) أي: أنا عريق في العبودية، عريق النسب، ضارب الجدود في العبودية، فأنا عبد وأبي عبد وأمي أمة. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر من ذكر هذا البيت في جلوسه وقيامه، ومشيه وسفره وترحاله، قائلاً: أنا المكدي وابن المكدي كذلك كان أبي وجدي أي: كلنا خدم، وطيلة عمرنا ونحن مماليك خادمون للملك، (أنا المكدي) أي: أعمل بالأجرة، مكدود، و (كذلك كان أبي وجدي) أيضاً، كلنا خدام للملك، ومماليك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. فاشتمل هذا على الإقرار بعبوديته لله عز وجل، وأكثر ما ينغص على الناس في شأن الإيمان: خروجهم من العبودية، وخذ مثلاً: رجل تقدم لوظيفة، فقال: أنا لا آتي إلا مرة في الأسبوع، أو قال: لا آتي إلا شهراً في العام، وآخذ العمل وأعمله عندي في البيت، من الذي يقبل منه هذا إذا ذهب إلى مصلحة حكومية أو إلى أي وظيفة؟! فهؤلاء الذين يناديهم المؤذن فلا يأتون المسجد إلا يوم الجمعة، أليس هذا كالذي يقول: أنا لا آتي العمل إلا مرة في الأسبوع، وهذا الرجل سيفصل قطعاً؛ لأن العمل له ضوابط ولوائح، وسيفصل قطعاً إذا استمر على هذه السياسة، كالذي يقول: أنا لا آتي المسجد إلا يوم الجمعة أو لا أصلي إلا في رمضان كما هو شأن كثير من الناس، وأنا أنظر إلى صلاة القيام شعرت بغصة في حلقي، أين الناس؟ أين ذهبوا؟ لماذا هذا الجحود؟ لماذا تعاملون الله هكذا أيها المحقرون؟ فإذا كنا معاشر البشر لا نرضى هذا لأنفسنا وفي أعمالنا، فكيف نرضاه لله تبارك وتعالى، وهو الغني عن طاعة الطائع ولا يضره عصيان العاصي؟ فالعبودية أمرها عظيم للدين كله، ما أرسل الله الرسل ولا أنزل الكتب إلا لتحقيق أمر العبودية، فمن تمام العبودية ألا يكون لك أمر مع سيدك: {اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك} هناك استعطاف، إذاًَ: مبدأ الأمر كله ذل وخضوع، وهذه هي الصفة الملازمة للعبودية.

معنى قوله: (ناصيتي بيدك)

معنى قوله: (ناصيتي بيدك) الناصية: هي الشعر الذي في مقدم الرأس: {يؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] فالناصية: التي يؤخذ المرء بها، مثل الجمل الأنق، إذا وضعت الحلقة فمه الجمل فإن أصغر ولد يسحب هذا الجمل الطويل العريض، فهذا شأن الناصية عندما تؤخذ، فيكون الإنسان بعدها مسلوب الإرادة، لا يستطيع المشي، والناصية إشارة إلى التفكير. والأقدام هي الموجه، فإذا أخذ بالقدم لا يستطيع المرء السير، كما قال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]، ومعنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] أي: رجل متعسر الخطو إلى الله، كالرجل الذي يمشي فالتفت ساقه وهو يمشي، فيسقط على الأرض مباشرة، هذا هو معنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29]، لا أنه إذا مات التفت ساقاه، لا. نحن نرى الموتى الساق بجوار الساق، فلا تلتف ساق على ساق لا في خروج الروح ولا بعد الموت، وإنما المعنى: أن هذا رجل متعسر الخطو إلى الله، ويدل على هذا تتمة الآيات: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] فبأي وجه يلقى ربه تبارك وتعالى، فهذا متعسر الخطو، فالأخذ بالأقدام عجز عن المسير فقوله:. (ناصيتي بيدك) أي: أنا لا أتوجه إلى وجهة إلا بإذنك، وينبغي على العبد أن يتوجه إلى الله من تلقاء نفسه لا يجر جراً، إن الذي يجر إلى الله جراً لا خير فيه، بل السماء خير منه؛ لأن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وقال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. فمعنى (ناصيتي بيدك) أي: أني لا أملك من أمر نفسي شيئاً، وهذا هو المناسب لمفتتح الدعاء: (أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) فما يتصور أن يكون له اختيار مع الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وهناك حديث موضوع يذكره الخطباء والناس بخصوص هذا الشأن وهو: (عبدي! أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا كذب، لا أقوله وأنسبه إلى رب العالمين، وإنما فحوى النصوص تؤيده، وهذا معنى ناصيتي بيدك، (عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمتني فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلمني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا الكلام حق في معناه؛ لأن النصوص كلها تؤيده، لكن لا أنسبه إلى رب العالمين كقول، والقرآن والسنة مليئان بهذا، بأن الله عز وجل إذا أراد أن يذل عبداً رزقه بشيء، وجعل تلفه فيه، وأهلكه به. إن كثيراً من الناس الذين لم يرزقهم الله عز وجل الولد يتقلبون على جمرات الغضب، ويبيتون يرعون النجوم: اللهم ارزقنا ولداً، فإذا لم يرزقهم الله الولد، يتكدر خاطرهم لذلك، مع أنه قد يرزق بالولد ويشقى به إلى أن يموت، ويشقى به، أي: يحبه غاية الحب، وبعض الناس يحبون أولادهم إلى درجة أنهم يمنعونهم من الخروج إلى الشارع، فيعذبونهم بذلك، وهذا الولد في آخر المطاف لابد أن يسعى في الناس ويتعامل معهم، فإذا مات أبوه ولم يأخذ منه الخبرة في كيفية معاملة الناس شقي فيهم، وعاش حياته كلها شقياً، فبعض الآباء أحب ابنه غاية الحب حتى أنه سلب عقله فلا يستطيع أن يعمل عملاً حتى يتصل في كل وقت ويقول: هل خرج الولد؟ لعل سيارة تصدمه، أو يضربه الأولاد، وحياته كلها كذا، ولما كان وحده كان خالي البال، وكان أفضل من ذلك. فلذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما نكره أن نقول: (قدر الله وما شاء فعل) أي: ما شاء فعل وهذا قدره، فكل شيء يكون في هذه الدنيا إنما يكون على وفق ما أراد الله، فإياك أن تضع اختيارك في مقابل اختياره فتشقى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] إذا اختار لك فلا تختر لنفسك، فإنك لا تدري ما تحت شراك نعلك. كثير من الناس الذين يخرجون ويموتون أو يصابون بمصائب لم يخطر ببالهم قط أن يصابوا، والخير أقرب إلى شراك النعل والشر كذلك كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا سلم العبد بأن ناصيته بيد الله تبارك وتعالى سهل عليه ما يأتي بعد ذلك من حكم الله عليه وقضائه.

وسيلة دفع الهم [2]

وسيلة دفع الهم [2] إن المتأمل في أسماء الله تعالى يجد فيها الكثير من المعاني التي تجعل العبد يستشعر عظمة الله تعالى؛ لأن عظمة هذه الأسماء والصفات تدل على عظمة المسمى والموصوف بها جل وعلا، ودعاء الله عز وجل بأسمائه، واستجداؤه بكامل صفاته لهو من أوفق أسباب إجابة الدعوات وتفريج الكربات.

التفكر في أسماء الله تعالى وصفاته

التفكر في أسماء الله تعالى وصفاته إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وبعد: فهذه دعوة إلى محبة الله تبارك وتعالى بالنظر في أسمائه وصفاته، كل اسم من الأسماء الحسنى له معنى خاص ومعنى عام يلتئم مع بقية الأسماء، وكلما تدبر المرء طائفة من أسماء الله عز وجل التي تحمل معنى الجلال، مثل: الحي، والقيوم، والعظيم كل هذه تؤدي معنى الجلال على تفاوت بينها في المعنى، فكلما جمع المرء طائفة من الأسماء التي تختلف في المعنى العام سهل عليه أن يتدبر أسماء الله عز وجل، ثم ينظر في الكون ليرى أثر هذه الأسماء، ولا يعرف كيف يصل إلا إذا تدبر القصص وتدبر القرآن والسنة. قصة الخشبة فيها تدبر معنى الكفالة، فأنت تعلم أنك عندما تعمل توكيلاً رسمياً لإنسان فهو قائم مقامك، وهذا شيء متعارف عليه عند الناس جميعاً. فأنت عندما تقرأ اسم الله (الوكيل) فهو يقوي قلبك على العطاء، وقصة الخشبة عندما حكيتها في الإمارات أثرت جداً في رجل سمعها لأول مرة، وأثرت فيه كلمة واحدة في الحديث، والكلمة هذه وردت في رواية في صحيح ابن حبان، وإن كان الحديث رواه البخاري وانفرد دون مسلم. عندما التمس الرجل مركباً وذهب إلى صاحبه بألف دينار أخرى بعدما رمى الألف دينار الأولى في البحر في الخشبة قال له: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: هذا أول مركب. قال: ارجع فقد أدى عنك وكيلك) هذه القصة كان لها أكبر الأثر، كأنها غزت قلبه: (ارجع فقد أدى عنك وكيلك)! والوكالة هذه إنما نقولها في باب العهد، إذا تعاهدنا على شيء. إياك أن تجعل الله كفيلاً ووكيلاً وتخونه احذر! لو تحققت بأسماء الله عز وجل قوي قلبك وعلمت أنه لن يضيعك، والرجل لما جاء وقال: (اعطني ألف دينار. قال له: ائتني بشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، فأعطاه الألف دينار)؛ لأنه قلبك يقوى بوكالة الله، لاسيما إذا كان الحال لا يدل على ذلك. وبعد ذلك لما حان موعد الوفاء جعل الرجل يسأل عن صاحبه، لأنه تأخر عليه، وكان من المفروض أن يأتيه في الموعد، فمر يوم ويومان وثلاثة والرجل لم يأت، فرفع رأسه إلى السماء وقال: (ربي إني أعطيت بك فأخلف عليَّ) خدعني بك، وكان يقول لي: كفى بالله شهيداً وكفيلاً ووكيلاً، وأنا لأنني أحبك وأعظمك قبلت بشهادتك، فأخلف عليَّ؛ لأن المال ذهب وانتهى، فأساء الظن بصاحبه. والآخر لما رمى بالخشبة في البحر قال: (يا رب! جعلتك كفيلاً ووكيلاً، أنا قلت له: كفى بالله وكيلاً، كفى بالله شهيداً، وأنت وكيلي في هذه المسألة، فخذ هذا المال) فوثق بوكالة الله، ولو وكَّل إنساناً غداراً خائناً فإنه سيبيعه ويبيع أملاكه، ولا يمكن أن إنساناً آنس غدراً من إنسان أن يعمل له توكيلاً أبداً، لكن لما قال: (جعلتك كفيلاً ووكيلاً) والرجل تحقق بمعنى الوكالة، قال الآخر: فأنا كذلك لست أقل منه، جعلتك كفيلاً ووكيلاً، فأوصل هذا الدين إلى صاحبه، فتحقق هو بمعنى الوكيل، والوكيل بمعنى: الشهيد.

تحت كل محنة بشرى [2]

تحت كل محنة بشرى [2] إن التفاف الساق عند الموت -المذكور في القرآن- هو تعثر السير إلى الله، وليس هو الالتفاف الحسي، ومذهب أهل السنة هو اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، أما التفسير الإشاري ونحوه فهذا من آثار الصوفية والرافضة. كما أن الإرجاء هو تأخير العمل عن الإيمان، والصحيح أن يقال: العمل جزء من الإيمان ولا يقال: هو شرطه.

معنى التفاف الساق عند الموت

معنى التفاف الساق عند الموت قال الله عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * =6005577>وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * A=6005578> وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * A=6005579> وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30]. Q هل كل ميت تلتف ساقاه؟ A لا، وإن التفت ساقا ميت فهذا قليل. ومعنى التفاف الساق في الآية يظهر بتأمل الآيات وما بعدها، فقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي: الروح، ((بلغت التراقي)) يعني: على وشك الخروج. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}: يعني هل هناك راق يرقيه من هذا الخطب الفادح أو طبيب يشفيه؟ وبعض العلماء فسر الآية {مَنْ رَاقٍ} أي: من الملك الذي يرقى بروحه؟ ولكن التفسير الأول أقوى؛ لأن الميت إذا مات فهناك ملائكة موكلون بأن يرتفعوا بروحه، ولا حاجة لأن يقول أحد لأحد: من الذي يرتفع ومن الذي يحمله؟ إنما {مَنْ رَاقٍ} يعني: هل من راق يرقيه أو طبيب يدفع عنه العلة. {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} لو أن أحداً أراد أن يمشي فالتفت ساقاه فإنه لا يستطيع أن يمشي، ولهذا بعدها مباشرة قال: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}، وهو لا يستطيع المشي، فهو ذاهب إلى الله، لكن هو ذاهب إلى الله كمن التفت ساقاه فلا يستطيع أن يمشي، ولذلك في آخر هذا كله قال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] ومصداق هذا في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حمل الرجال الجنازة الفاجرة على أعناقهم صاحت بصوت يسمعه الخلائق إلا الثقلين -الإنس والجن-: يا ويحها! أين تذهبون بها؟!) لما تعاين من عذاب الله تبارك وتعالى فهذا متعثر الأقدام، متعثر السير إلى الله كمن التفت ساقاه وهو يمشي، ومع ذلك لابد أن يساق، سواء استطاع أن يمشي أولم يستطع فهو يساق، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}

بيان مذهب أهل السنة ودعوتهم

بيان مذهب أهل السنة ودعوتهم السؤال يقول: ما هو مذهبكم؟ وما هي دعوتكم التي تدعون الناس إليها؟ A إننا جميعاً نتكلم عن الإسلام، وكلنا يدل الناس على الله، لكن هناك بعض الناس يدل الناس على غير الله: إما بجهل وحسن نية وإما بعمد. مثلاً: الحادي إذا لم يكن عليماً بطرق الصحراء كانت دلالته للقافلة مصيبة! ولو أن رجلاً غريباً في بلد، وأنت أيضاً غريب، فسألك أين محطة القطار؟ فأشرت عليه بخلاف الصواب، فسيذهب إلى حيث أشرت إليه ويفوته القطار فقصدت أن تدله فأصبته! حقيقة دعوتنا التي ندعو الناس إليها، ومذهبنا الذي ندين الله عز وجل به، يرتكز على أصل وهدف: الأصل: هو كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح. وهدفنا: تعبيد الناس لربهم؛ حتى يكون الدين كله لله، دقيقه وجليله، كبيره وصغيره. كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف عليهما أحد من المسلمين حتى أهل البدع، فهم أيضاً يقولون: كتاب الله وسنة الرسول؛ لأن أي رجل يقول أنا أنبذ الكتاب وراء ظهري؛ كافر، وكذلك لو قال: أنا أنبذ السنة وراء ظهري؛ كافر، فكلهم يقولون: الكتاب والسنة، لكننا نزيد القيد الثالث الذي نتميز به عن جميع طوائف المسلمين، وهو: بفهم السلف الصالح، لا نخرج عن إجماعهم ولا مجموعهم، إذا اجتمع الصحابة على فعل شيء أو على عمل شيء لا نخرج عنه، وإذا لم يحصل لنا منهم إجماع لم نخرج عن مجموعهم، فلا نتبنى قولاً لم يقل به واحد منهم، بل إذا قال واحد منا قولاً لابد أن يكون مسبوقاً من واحد منهم، فنحن أسرى للإجماع أو للمجموع. وإذا ظهر في عصرنا شيءٌ من النوازل لم يكن موجوداً عندهم اهتدينا بمجموعهم أو إجماعهم، مثل مسألة نقل الأعضاء، هذه مسألة جديدة حديثة، وليس للسلف فيها قول واضح صريح، لكن إذا أردنا أن نفتي في مثل هذه النازلة فإننا نصير إلى القول بإرشاد منهم بأن ننظر في كلامهم في قضية مماثلة أو شبيهة، والعلة فيها تشابه العلة أو تساوي العلة في النازلة الجديدة التي نبحث لها عن حكم. فنحن حتى في القياس أو في الوقائع الجديدة لا نخرج أيضاً عن مجموعهم ولا إجماعهم.

الكتاب والسنة محفوظان من التحريف

الكتاب والسنة محفوظان من التحريف فلعبوا بكتاب الله عز وجل كثيراً، لكن عزاءنا أن لفظ الكتاب محفوظ، لا يستطيع أحد أن يحرفه، ويستطيع الإنسان بمعرفة كلام الصحابة، ومعرفة اللغة العربية، ومعرفة مقاصد الشريعة أن يصل إلى التفسير الحق. وأيضاً عبث هؤلاء في السنة ولعبوا بلفظها ومعناها! ولكن قيض الله عز وجل لحفظ سنته جهابذة من الرجال، أفنى بعضهم أعمارهم في ضبط لفظة واحدة. ومن تلبيس هؤلاء العابثين أنهم يقولون: حاشا الرسول أن يخون الله، ولكن من دون الرسول ليس بمعصوم، يمكن أن يغلط، فـ أبو هريرة ليس بمعصوم، ويجوز أن يغلط، وإذا جاز على الصحابي أن يغلط جاز على التابعي أن يغلط، وإذا جاز على التابعي أن يغلط جاز على تابعه أن يغلط وهكذا. فينفون الحديث برمته ويتهمون الرواة الثقات العدول. ونحن لو فتحنا هذا الباب ولم نضع له ضابطاً لن ننتفع بكلام الله؛ لأن السنة مبيِّنة لكتاب الله، وإذا ضاع المبيِّن لم يُنتفع بالمجمل. فمثلاً قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72]، إذا لم يكن عندنا فهم للركوع والسجود وقراءة القرآن، لا نستطيع أن نقيم الصلاة بمجرد الأمر، {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} فإذا ضاع البيان ضاع الانتفاع بالقرآن لأجل هذا أدرك علماء الحديث المهمة الخطيرة لحفظ السنة، فوضعوا لها من الضوابط ما لم يخطر على بال بشر في الأمم كلها، والله عز وجل هو الذي هدى المسلمين إلى وضع هذه الضوابط.

من هو الشيعي

من هو الشيعي والشيعي قديماً في أيام التابعين هو الذي يقدم علياً على عثمان فقط، ولا يتعرض لـ أبي بكر وعمر بشيء، بل يعظمون أبا بكر وعمر، وغاية تشيعه أنه يرى أن علياً كان أولى بالخلافة من عثمان، هذا هو الشيعي، وعلماء السنة -كـ سفيان الثوري وجماعة- ردوا على هؤلاء، قالوا: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى على المهاجرين والأنصار. لأن المهاجرين والأنصار جميعاً اتفقوا على تقديم عثمان، ولما دخل عبد الرحمن بن عوف في مسألة الشورى بعد مقتل عمر، أخذ العهد على عثمان وعلي أنه إذا أمره أن يعدل وأنه إذا ولي صاحبه أن يطيع ويسمع، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاث ليال يطوف على المسلمين واحداً واحداً ليرى من الذي يكون أهلاً للخلافة -في نظرهم- عثمان أو علياً، فلما انقضت الأيام الثلاثة التي ما ذاق فيها لذيذ نوم، جاء إلى علي فقال: يا علي! ما رأيت المسلمين يعدلون بـ عثمان أحداً. فالذي يأتي بعد ذلك فيقول: علي أولى، كأنما أزرى على كل هؤلاء الأفاضل، وسفه رأيهم، ونسبهم إلى الخطأ وإلى سوء المقال، فكان الشيعي سابقاً هو الذي يعتقد أن علياً أولى من عثمان بالخلافة، وأما الذي يتعرض لـ أبي بكر وعمر فهذا يسمى رافضياً: إن الروافض شر من وطئ الحصى من كل طائفة ومن إنسان فالروافض هؤلاء لديهم تفسير باطني أيضاً اسمه التفسير الإشاري، والتفسير الإشاري ليس فيه علاقة بين المعنى واللفظ، فمثلاً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] يقولون: عائشة، مع أنه ليس هناك علاقة بين البقرة وعائشة.

التفسير الإشاري وخطره

التفسير الإشاري وخطره وهناك مصيبة وداهية دهياء وفاقرة جسيمة اسمها التفسير الإشاري، الذي يعتمد عليه الصوفية اعتماداً كبيراً، يقولون: إن الكلام له ظاهر وباطن، والله عز وجل حجب الباطن عن علماء الفقه، الذين هم مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وداود الظاهري، وسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي هم هؤلاء علماء الفقه الذين علمهم أضاء ديار الإسلام. أما أصحاب التفسير الإشاري فهم كـ ابن سبعين وابن عربي وابن الفارض، وابن عطاء الله السكندري كل هؤلاء لهم التفسير الإشاري الذي لا يمت أحياناً للفظ بصلة، فوافقوا الروافض في هذه الجهة، والروافض هم غلاة الشيعة، مثل رافضة إيران، الذين يحقدون على أبي بكر وعمر ويلعنونهما ويكفرونهما.

مثال على ورع السلف

مثال على ورع السلف أما عن ورعهم فناهيك به! روى الطبراني في المعجم الكبير بسند جيد عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: (أعرست في حياة أبي - (أعرست): أي صار لي عروس، يعني تزوجت في حياة أبي- فآذن أبي الناس -أي: دعاهم ليحضروا عرسه- وجاء أبو أيوب الأنصاري فوجد الجدران مكسوة -أي: ستائر على الجدر- فوقف على الباب فلم يدخل، وقال لأبي: ما هذا الذي أرى، أتسترون الجدر؟! قال سالم: فقال أبي وخفض رأسه واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب -أي: هذا صنيع النساء وغلبونا في هذه المسائل-. فقال أبو أيوب: لئن غلبن أحداً فلا يغلبنك -يعني: مثلك في ورعه وتقواه وتحريه لا تغلبه النساء، وابن عمر كان معروفاً بالسنة، شديد الورع- ثم قال أبو أيوب: والله لا أكلت لكم طعاماً، ولا شربت لكم شراباً ذلك اليوم، ورجع وانصرف. مع ما كان يربط بين ابن عمر وأبي أيوب من الآصرة القوية والديانة المتينة، لكن ما كانوا يجاملون في مثل هذا، فكيف فيما فوق ذلك؟! ونحن عندما ندعو الناس إلى كتاب الله عز وجل لا ندعوهم إلا بفهم الصحابة، وإلا فالقرآن الكريم قد اعتدى عليه المبتدعة تحريفاً وصرفاً لألفاظه عن دلالاتها.

حقيقة الإرجاء ومن هم المرجئة

حقيقة الإرجاء ومن هم المرجئة المرجئة طائفة مبتدعة من طوائف هذه الأمة، مثل المعتزلة، والجبرية، والقدرية، والأشاعرة، والماتريدية، كل هذه فرق موجودة عندنا الآن، فالمذهب الأشعري والماتريدي يدرس في الأزهر كعقيدة، فالشافعية كلهم أشاعرة، والأحناف كلهم ماتريدية، وليس هناك سلفي في باب العقيدة إلا الحنابلة، وطوائف قليلة من الشافعية والمالكية والحنفية، لكن الغالب على الحنابلة أنهم ينتحلون العقيدة السلفية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون: القرن الأول والثاني والثالث. فالإرجاء: معناه التأخير، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] أي: أخرهم الله وأخر إنزال التوبة عليهم. وجماهير المسلمين يدينون بمذهب الإرجاء الآن وهم لا يشعرون، فعندما يعمل الذنب، ثم تذكره بعذاب الله يقول لك: الله غفور رحيم، هذا مذهب الإرجاء، حيث لا يضع عذاب الله في الحسبان، فالإرجاء معناه: تأخير العمل في الإيمان، ومعلوم أن تأخير العمل في باب الإيمان مسألة غير جائزة، وفي القرآن كثيراً: ((إن الذين آمنوا وعملوا)) ليس (إن الذين آمنوا) فقط فلا بد في الإيمان من أن يصحبه عمل حتى ينجو العبد.

خطأ التسرع في الاتهام بالإرجاء

خطأ التسرع في الاتهام بالإرجاء وبعض الناس اشتد نفسه في الرمي بالكفر فسارع إلى اتهام غيره بالإرجاء، ومن عنده نفس قوي في التكفير من السهل عليه أن يتهم المعتدل بالإرجاء، وهذه مسألة فيها مزلة أقدام ينبغي على الإنسان أن يعتدل فيها! فبعضهم اتهم الشيخ الألباني -رحمه الله- الداعي إلى السنة، والذي أحيا السنة من العدم في هذا العصر، وما من رجل ينسب إلى علم إلا ولهذا الشيخ عليه منة وفضل دق أو جل! اتهموه بالإرجاء. فدخلنا في مسألة رمي الرءوس، وهذه مسألة خطيرة!

العمل جزء من الإيمان

العمل جزء من الإيمان ونحن نعتقد أن العمل جزء من الإيمان، ولا نقول: شرط؛ حتى نغلق الباب على الخوارج والمرجئة، فالخوارج يقولون في العمل: شرط صحة، فإذا لم يعمل سقط إيمانه كله، ولذلك الزاني عندهم كافر، خارج من الملة، والقاتل كافر، وشارب الخمر كافر، وكل مرتكب للكبائر كافر. حتى ضاق عطن أحدهم لما مر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) والحديث هذا معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيشفع لأهل الكبائر الذين هم الفساق والزناة والقتلة؟ فقال: لا، معنى الحديث (شفاعتي لأهل الكبائر) أي كبائر الطاعات، كقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، قال ((لكبيرة إلا على الخاشعين)) إذاً المقصود بأهل الكبائر أهل الصلاة وأهل الزكاة وأهل الحج وأهل الصيام وأهل الصدقة وهكذا، فلما ضاق عطنه حرفه. إذاً الصواب والحق: أن العمل جزءٌ من الإيمان، ولذلك بوب الإمام البخاري في كتاب الإيمان بقوله: (باب الصلاة من الإيمان) أي أن الصلاة جزء من الإيمان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما قلنا وسمعنا. وصلى الله على محمد وآله وصبحه.

تفريق المرجئة بين الإيمان والعمل

تفريق المرجئة بين الإيمان والعمل فالمرجئة فرَّقت بين الإيمان وبين العمل. فقالوا: لو تأخر العمل قليلاً ما يضر، وقالوا: إن العمل شرط كمال. يعني إذا حصل فهو خير، وإذا لم يأتِ لا يضر كثيراً. وبعضهم قال: لا يضر أبداً، وهؤلاء هم غلاة المرجئة، ومنهم من المعاصرين رجل ألف كتاباً فصل فيه على أن فرعون مؤمن ويدخل الجنة؛ لأن الإيمان عندهم كلمة، والعمل ليس شرطاً، ففرعون قال الكلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ونسي الآيات في القرآن التي تذم فرعون، وتكفره، وتكفر حتى الجنود الذين استمعوا لكلامه والذين أطاعوه، فيقول هذا الرجل: من قال لا إله إلا الله كان إيمانه كإيمان جبريل وإن زنى وإن سرق وشرب الخمر ولاشك أن أي رجل آتاه الله تعالى صغير عقل لا يعتنق هذا المذهب على الإطلاق. بقيت طائفة أخرى من المرجئة، وهم الذين لا يستهينون بالعمل، لكن يؤخرونه قليلاً، فهؤلاء أتوا على أحاديث للنبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم كحديث أبي سعيد الخدري الطويل، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً يدخل الجنة لم يعمل خيراً قط). فالحديث هذا في ظاهره حجة للمرجئة، إذ كيف يدخل الجنة ولم يعمل خيراً قط؟ فالإيمان أصل ومقتضى، أصل الإيمان: الكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). ومقتضاه هو القيام بالتكاليف: أن تصلي وتزكي وتحج وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهذا هو المقتضى. والإيمان كمثل طائر يطير بجناحين: الجناح الأول: الإيمان، والجناح الثاني: العمل. فماذا نقول عن رجل دخل الجنة لم يعمل خيراً قط؟ ولم يَبْقَ معه إلا الكلمة التي هي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فالذين يردون على المرجئة قالوا: هذه الجملة في الحديث لا تصح؛ لأن الرواة عن أبي سعيد الخدري غير عطاء بن يسار لم يذكروا هذه الجملة وعطاء بن يسار من ثقات التابعين الفحول الكبار، والحديث طويل في حدود الصفحتين، وقد روى غير عطاء بن يسار عن أبي سعيد جملاً ليست في حديث عطاء بن يسار، أفنعلها بالشذوذ، ونقول: طالما الجملة هذه لم ترد في هذا الحديث تكون شاذة؟! علماء الحديث لا يتصرفون مع الأحاديث هكذا، إنما قال هذه المقالة من ليس له دراية بعلم الحديث، وهكذا يجني على السنة من يقول: هذه اللفظة شاذة؛ لأنه عجز عن تفسيرها، أو عجز عن التصرف فيها.

نظرات في سورة الأنفال [1]

نظرات في سورة الأنفال [1] إن سورة الأنفال من السور المليئة بالدروس الإيمانية، وقد نزلت هذه السورة عقب وقعة بدر، وذكر الله في مطلعها أحكام الأنفال والصفات التي ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها ليتحقق لهم النصر على عدوهم والتمكين في الأرض، ومعلوم أنه لن يتحقق النصر لهذه الأمة حتى تتخلص من شوائب الحزبية والقومية، وتتمثل بصفات المؤمنين المجاهدين.

إن تنصروا الله ينصركم

إن تنصروا الله ينصركم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فهذه نظرات مجملة في سورة الأنفال: دعت إليها الحالة الراهنة التي يعيشها المسلمون مع اليهود في الأرض المحتلة. أيها الإخوة: إن أعجز الناس وأحمقهم من يطلب النصرة من عدوه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، أي: إذا أردت أن تتخذ بطانة -والبطانة إنما تتخذُ للمشورة والنصرة- فإياك أن تتخذ من دونه، أي: مَنْ ليس على دينك، وليس على مذهبك، إياك أن تتخذه بطانة لماذا؟ ((لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)) أي: لا يقصرون في إعناتكم وفي التغرير بكم، هذا كلام الله للذين آمنوا. إنما السياسة التي لا دين لها قاتلها الله؛ هي التي أودت بالمسلمين إلى هذا الدرك الأسفل من الذل والهوان والعار، ولذلك افتتح الله عز وجل سورة الأنفال التي نزلت بعد غزوة بدر، بأوصاف الذين آمنوا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]، ثم بدأ يسرد وقائع الغزوة.

ضرورة صفاء المنهج والعقيدة من أجل النصر

ضرورة صفاء المنهج والعقيدة من أجل النصر موقفنا الرسمي من الشيعة أنهم متطرفون، وأنهم أعداؤنا، وأن أي شخص يضبط متورطاً بأية مشكلة يقال: إنه تبع إيران، والعلاقة الرسمية مقطوعة مع إيران. حزب الله الذي في لبنان حزب شيعي، استطاع أن ينتصر انتصاراً جزئياً بعد مرور سبع عشرة سنة على احتلال اليهود لجنوب لبنان، واستطاع أن يخرج هؤلاء اليهود من الأرض، حتى الآن لا زالوا يعزفون ويتشرقون بهذا الانتصار. أمةٌ مهزومة في كل المجالات، حتى في لعب الكرة مهزومة أيضاً! ما صفا لها لعبٌ ولا جد، أمةٌ على هامش الأرض، رأت عز اليهود واستطالتهم، وأنهم يملكون كل شيء في العالم، الآن لما هُزموا هزيمةً جزئية، فدخل هؤلاء المهزومون بنشوة الانتصار، ويصورون القتل كأنه فيلم مثلما صوروا حرب الخليج، حرب الخليج كانوا يصورون طلعات الطيران، والطائرات تنسف المباني، وتقتل المسلمين العزل وغيرهم من الأطفال، بسبب قتل اثنين من إسرائيل. هذه الحرب كلها لأجل الدين الذي مزقه المسلمون هناك في الأرض المحتلة تمزيقاً، رداً على مقتل مائة مجرم، لأجل اثنين الضربة مستمرة حتى الآن، ونطالب بضبط النفس! هذه أول السلبيات. وثاني سلبية: أن يمجد مثل حزب الله وإن كان قد انتصر، فالمسألة في النهاية مسألة عقيدة، الفرقان بيننا وبين أهل البدع هو العقيدة، والمنهج. نحن لا نراهن على المنهج والعقيدة مهما كنا مهزومين، لكننا نطالب أهل السنة أن يتقوا الله تبارك وتعالى، وأن يحققوا شرط الإيمان، وشرط العبودية التي أمرهم رب العالمين تبارك وتعالى بها، وذلك هو جهاد النفس، إذ لا يطلب أن تقاتل وتجاهد عدوك وأنت لم تنتصر على نفسك، ولا يمكنك أن تنتصر على عدوك في الخارج، هذا مستحيل؛ لأن هذا العدو الكامن في النفس يخذلك، ويقول لك: ستقتل، ويقسم ميراثك، وتتزوج امرأتك، ثم ماذا تفعل وأنت فردٌ واحد؟ وعدوك عنده من العتاد كذا وكذا، ومن العدة كذا وكذا، والدنيا كلها صارت دولةً له، فيخذلك فلا تستطيع أن تقوم. وبناءً عليه ضيعت الأوامر والنواهي، وانتهكت الحرمات، إن أمرت بشيء لم تفعله، وإن فعلته لم تفعله كما أمرت به، وثمة خلل يملأ ديار المسلمين، وهو الشرك والبدع، ومما يدل على ذلك أنه يزور قبر البدوي أربعة ملايين، لا تجد هذا العدد عند الكعبة ولا في عرفات ولا في منى، ويلمع في الليلة الختامية، ويحضرها أكبر الشخصيات، وهذا محفل شركي لا يعبأ الله به، لو دعا كل هؤلاء أنى يستجاب لهم، لا يعبأ الله عز وجل بهم، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112] (لا تطغوا)، أي: لا تتجاوزوا حد الاستقامة. إن الله عز وجل أنزل رسوله بالدين الحق، ومع ذلك تجد في بلاد المسلمين أحزاباً: الحزب الفلاني له تصور في إقامة الحياة وفي حكم الناس، الحزب العلاني له تصور مخالف، وأين حكم الله عز وجل؟ وكأن الله ما أنزل كتاباً ولا بعث رسولاً، حتى بدأ الناس يفكرون كيف يحكمون الناس؟ وكل حزب له تصور، الإسلام خارج كل هذه الأحزاب، يظلون يتكلمون الساعة والساعتين والثلاث لا يذكرون الله، ولا يذكرون الإسلام ألبتة فأنى ينصرون؟!

لابد من الإيمان لحصول النصر

لابد من الإيمان لحصول النصر ما معنى ذكر هذه الأوصاف في ذكر بدر؟ معناها أيها الإخوة: أن نكون مسلمين، إذا أردتم أن تظفروا على عدوكم، ولو كان عددكم وعتادكم قليلاً، كما كان إخوانكم من الأسلاف في بدر، ونصرهم الله نصراً مؤزراً برغم أنهم لم يأخذوا أهبة غزوهم، وما خرجوا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين فقط، وكان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا جياعا: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، وقال لهم الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]. فإذا أردتم أن يكون النصر حليفكم كما كان حليف الأسلاف في بدر مع ذلهم وقلتهم؛ فعليكم أن تكونوا من المؤمنين أولاً، فلابد من شرط الإيمان، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41]. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة: اليوم ثلث الأمة لا يصلون، ولا يسجد لله ركعة. والزكاة صار أداؤها شيئاً شخصياً، مع أن الدولة يجب عليها أن تجبر المواطنين على دفع الزكاة، وإذا رفض رجلٌ دفعها يقاتل حتى يقتل؛ لأن الزكاة حق الله في المال، وهذا هو الذي فعله أبو بكر رضي الله عنه، وشايعه جماهير الصحابة آنذاك، وقد صار دفع الزكاة شيئاً ثقيلاً، كم من المسلمين لا يدفعون زكاة الأموال! وكثير من الذين يدفعون الزكاة إنما يدفعونها بالتشهي، وبالتقتير الشخصي، فهؤلاء لا يُمكَّن لهم في الأرض أبداً ولو ظلوا ألف عام يصرخون بمكبرات الصوت، ويحرقون الأعلام، ويقذفون عدوهم بأشنع العبارات، فإن الوضع باقٍ كما هو. إنما النصر من عند الله تبارك وتعالى ليس من عند أحد، وإنما ينزله على عباده المؤمنين. استنجدوا بالأمم المتحدة، والأمم المتحدة هي التي صنعت إسرائيل، هي التي وضعت اليهود في أرض المسلمين، فهذا لا يفعله عاقل يعقل ما يقول: أن يأتي الأمم المتحدة ليستجير بها، فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار، فكانت النتيجة: أن الأمم المتحدة أدانت الفلسطينيين وقالت: أنتم السبب، أنتم الذين استثرتم شارون، وأنتم لم تتعاملوا معه كرجل كبير صاحب دولة، إنما أطلقتم عليه الصغار؛ فكانت النتيجة هذه الشرارة فأنتم السبب. لابد من اعتذار رسمي، وسيعتذرون، ونظل سنتين أو ثلاثاً نحقق في هذا الهجوم الفلسطيني على اليهود، وبعد سنتين أو ثلاث يتولاها وغد آخر غيره وتبدأ المجابهات مرة أخرى، ويدانون ويدان عليهم، ونظل مائة سنة نحقق من الغلطان. هذه مسألة مكشوفة لأي رجل عنده (أ، ب) فهم لليهود، و (أ، ب) فهم للإسلام، لكن قلت لكم: السياسية التي لا دين لها.

دروس النصر من غزوة بدر

دروس النصر من غزوة بدر غزوة بدر: جاءت على خلاف مراد الصحابة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، الطائفة الأولى: العير، والطائفة الثانية: النفير. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة لإصابة الطائفة الأولى، وقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) لم يعين للمسلمين الطائفة، بل أبهم الأمر؛ لكن لابد من النصر والظفر، لأن الله عز وجل قال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ)، هذا وعد من الله لا يتخلف، إما الطائفة هذه أو هذه، فهذه مسألة مقطوع بها ومنتهية: أنه لابد أن يظفر المسلمون أو يغنموا. الطائفة الأولى: العير، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً لما علم بالعير، وكان موقناً أنه إذا ظهرت العير سيأخذها؛ لضعف حاميتها، لأنهم أربعون رجلاً لا أكثر، وهم غير مدججين بالسلاح الذي يمكنهم من خوض حرب متوقعة أو غير متوقعة، إنما معهم اليسير من السلاح احتياطاً إذا اعترضهم لص أو اثنان أو عشرة لصوص ونحو ذلك، فالسلاح الذي مع الحامية ليس سلاح حرب. خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كما في الصحيح، وأرسل أبو سفيان -لما علم بما عزم عليه المسلمون- وعدل أبو سفيان عن طريق القافلة المعتاد وسلك طريق الساحل وهرب، ففاتت الطائفة الأولى على المسلمين. ظنوه نصراً عاجلاً مختطفاً، يأخذون العير ويرجعون، لكن أمر الله قدرٌ مقدور: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]، (غير ذات الشوكة) هي العير، ما فيها شوكة ولا فيها حرب، ولا فيها قتال ولا قتل ولا ذبح، بل يأخذونها بلا مجهود، يقول: أنتم تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال:7]، إذاً: لابد أن تصيبوا الطائفة الثانية وتقع حرب؛ لأن المسألة ليست مسألة أن تأخذ أموالاً فحسب، المسألة مسألة إظهار الحق، نعم لكم أن تغنموا من المشركين أموالاً؛ لكن ليست هي القضية الأساسية، المسألة التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب، والملاحاة المستمرة بين الحق والباطل، حتى يمحص أهل الحق ويظهر الحق على أيديهم. ((ويريد الله)) هم يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، ولكن الله لا يريد ذلك، فكان ما أراد: أفلتت العير، فلما أفلتت العير علم المسلمون أي الطائفتين أراد الله، فكان النفير. بدأ بعض الصحابة يقول: نحن غير مستعدين، نحن ما خرجنا لقتال، فدعونا حتى نأخذ أهبة: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال:6] العير أفلتت، فلم يبق إلا النفير، وهذا هو الذي تبين وظهر، فيجادلونه في الحق الذي تبين والذي ظهر: (بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]. إذاً: قضى الله عز وجل أن يلتقي المعسكران على غير ميعاد، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يطرح نفسه على عتبة عبودية الله رب العالمين؛ لأن الحل الوحيد أن ينصرهم وأن يأخذ بأيديهم؛ ولذلك نظر إلى أصحابه الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم فداءً لله تبارك وتعالى، ونصراً لدين الله عز وجل، لم يلتفت واحدٌ منهم إلى داره، ولن يتأسف أنه فقد أمواله التي جمعها طيلة حياته، إذا كان الله عز وجل هو المقصود، ومن أجله عملوا، وفي سبيله خرجوا، لم يلتفت ولم يندم واحد من هؤلاء الذين تحقق فيهم الإيمان، والصفات التي بدأ الله عز وجل بها سورة الأنفال. خرج المسلمون العزل الذين لم يكن معهم غير فارسين، ونظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالغ في الدعاء، وفي رفع يديه؛ إشارةً إلى الاستسلام الكامل والانخلاع من الحول والقوة: اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراةٌ فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. حينئذٍ أمسك أبو بكر بمنكبيه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك، فإنه منجزٌ لك ما وعد)، الدعاء -يا إخوان- كم أسقط من ممالك وكم رفع! فلا تستهينوا به، إن الدعاء هو السبب الموصول بينكم وبين الله، {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]. لولا أنكم تدعونه بتضرعٍ وتذلل لم يعبأ بكم، ولستم في ميزانه شيئاً مذكوراً، الدعاء بإخلاص أن ينصرنا الله عز وجل، لكن مسألة النصر مشروطة بما ذكر في قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، قويٌ لا يغلب، عزيز لا يجار عليه.

إيجاد العزة للإسلام والتربية عليه

إيجاد العزة للإسلام والتربية عليه اليهود لن يغلبهم إلا المسلمون وليس العرب، النعرة القومية ضيعت الأرض، ومثيروا النعرة القومية رعاع سوقة على هامش الدنيا، لن يعيد الأرض، ولن يعيد العرض، ولن يعيد المجد إلا الإسلام، ويوم نرفع راية الإسلام نكون أعزة، ولن تكون عندنا قزامة وحقارة وانهزامية، كثير من الناس لا يصرح بلفظ الإسلام لأنه عار وعيب، واستطاع اليهود أن يصوروا الجهاد للعالم بأنه إرهاب ووحشية، ودماء ودمار، وبدءوا يدندنون ليلاً ونهاراً: ما أنتج الإرهاب الإسلامي (الجهاد) إلا دماء، وحشية، إبادة جماعية، عدم رحمة للأطفال، قتلاً للنساء. واستمروا أكثر من قرن يتكلمون على الجهاد ليل ونهار بهذه الطريقة، فلما خرج جيل ضعيف في ديار المسلمين، وراجت هذه الحملة، بدءوا يعتذرون عن هذا يقولون: نحن لا نقول جهاد، نحن الحرب عندنا حرب دفاعية، وهكذا. ويتكلمون عن الرق، الإسلام ينهى عن الرق، والإسلام ينهى عن استعباد الناس، فنقول: لماذا صورتموه هكذا؟! إن الدول الكبرى تسترق الدول وليس الأفراد فحسب، الدول الكبرى استرقت المسلمين الآن، فتش عن محقنة دم في أي قربة دم في العالم تجد أنها دم مسلم، فهذا استرقاق، أي حصار على أية دولة، هذا استرقاق، يمنع الداخل والخارج عنك، يميتك جوعاً، هذا هو الاسترقاق، لماذا لم تتكلموا عن هذا الرق؟ رق المسلمين كان أشرف. مسلم يسترق كافراً، يأتي الكافر يدخل ديار المسلمين فيرى المسلمين فيسلم، ومع ذلك علقت كثير من الكفارات على إعتاق الرقاب، لا يقال: إذا كان عبداً يضل عبداً إلى أن يموت، لكن كثيراً من الذنوب والخطايا كانت المكفرات متعلقة بإعتاق رقبة وتحرير رقبة، وندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عتق الرقاب، فقال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من ضمن الثلاثة هؤلاء: رجل عنده جارية، فأحسن تعليمها وتأديبها وأعتقها وتزوجها)، فالإسلام يحض على مسألة عتق الرقاب. ومع ذلك لو بقي في ديار المسلمين هذا الكافر -الذي صار عبداً بعدما كان سيداً وأذله الله بكفره- لكان خيراً له؛ لأنه في النهاية يرى المسلمين، ثم يسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من قومٍ يدخلون الجنة بالسلاسل)، وهم الكفرة الذين دخلوا الإسلام بسلاسل الحرب، ولم يدخلوا الإسلام عن طواعية، ثم هؤلاء يتكلمون عن الرق!! فيأتي المهزومون روحياً وعقلياً، والذين لم يشربوا الإسلام من منابعه الصافية، فيرون أن الجهاد عار، وعليك ألا تنطق بكلمة الجهاد، لأن الجهاد عندهم وحشية ودمار، وهتك للأعراض والدماء والأموال إلخ، فيعتذر من الجهاد، مع أن الجهاد ليس كذلك.

إعداد جيل التمكين

إعداد جيل التمكين {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، أنت رب أسرة ممكن في الأرض على أسرتك، لماذا لا تصلي امرأتك؟ لماذا لا يصلي أولادك؟ لماذا لا يصلي خدمك؟ إذا كنت صاحب محل، إذا كنت صاحب شغل والعامل لا يصلي، إذا قصر عامل في أي شغل عاقبته، وربما تفصله من العمل، وربما تقيم عليه محضراً في القسم؛ لأنه أهمل في البضاعة، وأهمل في الشغل، وخسَّرك، مع أنه لا يصلي، ويسبُّ الدين وأنت تسمع ذلك، ثم إذا قيل لك: لم لا تنصحه؟! قلت: أنا ماذا أعمل لهم؟ العمال كلهم هكذا. مع أن هذا العامل الذي يبحث في ذلك الوقت عن عمل، والدنيا كلها متعطلة، لو علم أنك ستفصله لأجل أنه لا يصلي؛ سيصلي ولو نفاقاً. إذاً هذا بمنزلة الخادم تماماً، طالما أنه يعمل لديك فأنت مسئول، لا تقل: أنا لا ذنب لي، لأن هذا ذنبك، وأنت مسئول عن عدم صلاة العامل الذي يعمل معك، سرحه لله، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، لن يتعطل عملك، ولن تترك شيئاً لله عز وجل في شيء فتجد فقده أبداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عوضهُ الله خيراً منه). وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالآن أول الدرجات: إصلاح البيوت. إننا لو خرجنا جميعاً بما فينا من خبث فلن ننتصر على اليهود، أرجو أن لا تحركنا العاطفة، ونتصور أن خروج الآلاف المؤلفة يمكن به أن تنتصر على اليهود. رئيس الوزراء الإسرائيلي لما يريد أن يقرأ نصاً من التوراة وهو يخطب في الكنيست يخرج الطاقية السوداء ويلبسها؛ لأن هذا تقليد عندهم، والتوراة المحرفة محترمة عندهم؛ لأن لها قيمة دينية. بعض المسرحيات -في بلاد المسلمين- أتوا فيها برجل معمم يرقص، وكان أحسن واحد يرقص في المسرحية! رجل معمم بعمامة رجل الدين، عمامة العلماء، ويلبس الجبة! وهؤلاء يستهزئون بدينهم إلى هذا الحد! لو جاء عابد بقر، أو عابد حجر ويوقر الحجر، فإنه يغلب هؤلاء، هذهِ سنة الله الكونية، والله لا يحابي أحداً من عباده، كما لم يحاب الصحابة في يوم حنين لما قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فركنوا إلى الكثرة فهزموا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. فأول مراتب الجهاد مجاهدة النفس، إذا كنا نريد أن نقيم الجهاد ونحرر الأرض، فإنها لن ترجع إلا بهذا.

الجهاد لإعلاء كلمة الله

الجهاد لإعلاء كلمة الله الجهاد إنما شُرعَ لإعلاء كلمة الله، وأهل الأرض ثلاثة: إما مسلم أو كافر أو منافق: مسلم لا يتوجه له إلا نصرة الدين والإسلام؛ لأنه هو المخاطب في النصوص، فما بقي غير صنفين: الكافر والمنافق، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) (الناس) في الحديث هم الكفار والمنافقون، فالمنافق يظهر كلمة الإسلام ويبطن الكفر حتى يستبقي دمه وماله ويعيش بأمان، فهذا المنافق تلقائياً سينضم إلى المسلمين. إذاً: من الذي بقي؟ الكفار، فيقال لهم: ادفعوا الجزية وخلوا بيننا وبين الناس، إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحجب الحق عن أحد، ونحن لا نقنع الناس بالضرب، نحن نعرض الحجة، فخلوا بيننا وبين الناس وادفعوا الجزية، إذا قالوا: نحن موافقون على أن ندفع الجزية فستضع الحرب أوزارها، لأننا لا نقاتل الكافر طالما أنه يدفع الجزية، وطالما أنه وافق على الشروط. وإذا قال: أنا لا أسمح لك أن تنشر دينك، ولا أن تنشر الحق الذي تعتقده، ولن أدفع الجزية؛ حينئذٍ ما بقي إلا الحرب، لأنه صد عن سبيل الله. ليس الجهاد أن يخرج المسلمون من ديارهم لمجرد خاطر خطر على بالهم أن يخرجوا ويستولوا على الأموال ويقتلوا الناس بلا هدف، هذا لم يحدث في تاريخ الإسلام قط، إذاً الجهاد إنما هو لإعلاء كلمة الله. ثم إن جهاد العدو في الخارج يسبقه جهاد المنافقين، وجهاد النفس؛ لذلك لا يزال سيف المسلمين كليلاً مع العدو الخارجي حتى يحققوا مواطن الجهاد الثلاثة التي تسبق جهاد العدو الخارجي، ومنها جهاد النفس، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث فضالة بن عبيد الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم: (من المؤمن؟ قال: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم. قالوا: ومن المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قالوا: من المجاهد؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله أو في طاعة الله. قالوا: من المهاجر؟ قال: من هجر الخطايا والذنوب). إذاً: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله. بيوتنا مليئة بالمخالفات. نريد أن ننتصر ونكون جادين، ونظن الطريق غير طويل، البعض يقول: الطريق طويل، وأنا حتى أربي نفسي وأربي عيالي، سأكون قد مت أنا وعيالي، نقول: نعم يا أخي! مت متعبداً لله، إن الذي يزرع النخل لا ينتظر نتاجها، وإذا قيل له: لم تزرع النخلة وهي لن تعطيك البلح ولن تنضج إلا بعد عشر سنوات أو بعد سنوات؟! يقول: كما زرع أجدادي وأنا آكل من غرسهم، كذلك أزرع حتى يأكل أحفادي من غرسي. إذاً: أنت تورث العبودية، هي هذه الجدية في الجهاد. ونحن قصرنا في أن نأخذ الأمر بمأخذ الجد، لا تقل: إن الدنيا كلها مخالفات وأنا فرد؛ فإن الله عز وجل نصر أهل بدر وهم أذلة، والمسألة واضحة: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. لو أن هناك مائة من طراز أهل بدر لفتحنا الأرض المحتلة، مائة من ذلك الطراز النفيس الذين نوه الله بهم في مطلع السورة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2]، و (إنما) عند أكثر العلماء تفيد الحصر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، والوجل هنا ليس المقصود به الخوف المحض المجرد، بل المقصود به: الخوف الذي يخالطه شوقٌ ومحبةٌ وتعظيم، فليس خوفاً مجرداً، بل هو ما يعتري القلب من الوجل عند سماع من يحب. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أحدٌ ممن يمت إليه بصلة، ولو كان قريباً لمن يحبهم، كما كانت أخت خديجة رضي الله عنها، كان يصيبه مثل هذا، طرق عليه الباب يوماً فسمع صوتاً قال: (اللهم هالة) وهو في الصحيحين - البخاري ومسلم - قال: (فارتاع لذلك) أي: نبض قلبه بشدة لمجرد أنه سمع الصوت الذي يُذكِّره بمن يحب، فارتاع لذلك، واللفظ الثاني: (فارتاح لذلك، وقال: اللهم هالة) فالوجل ليس خوفاً مجرداً، إنما هو خوف مع حب. {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، وهذا هو عامل الحب في الوجل، يسمع كلام من يحب فيزداد شوقاً، ويزداد تعلقاً، ولله المثل الأعلى. مثل إنسان يكون له حبيب وأرسل له خطاباً، وهو كل يوم يفقد من قلبه شيئاً شوقاً لهذا الحبيب، وبين الحين والحين يُخرج الخطاب ليقرأ منه، ويظل يتأمل الحروف، ويقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ستمائة مرة، ويقرأ (إلى فلان الفلاني) لاسيما إذا ذكره بلفظ المحبة: إلى حبيبي، أو: (إلى عزيزي)، أو: إلى قرة عيني، يظل واقفاً عند هذه الجملة لا يريد أن يقرأ غيرها، ويسرح في الماضي وأيام اللقاءات، وأيام الجلسات الجميلة والطيبة، فيزداد شوقاً على شوق، ويعد الأيام والليالي، بل الثواني متى يلتقي بحبيبه! كذلك حال الذين يحبون الله تبارك وتعالى، مع الخوف منه، وعدم التجرؤ على حدوده، بل عدم الاستطاعة أن يفكر أن يتجرأ، هذا الذي خالط قلبه هذا الوجل -الذي هو الخوف والحب المخلوط- إذا قرأ آيات الله ازداد محبة، فإذا قال الله عز وجل له: (اقتل روحك، يقول: حباً وكرامة) كما في الصحيح أن عمير بن الحمام لما أصابه سهم قال: فزت ورب الكعبة، يقول: فزت؛ لأنه متحقق، يريد أن يلقى ربه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا). إذاً: الحاجز بيني وبين رؤية ربي أن أموت! فقال عمير: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، مثل هذا لا يخالف لا في قليل ولا في كثير، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تنازع المسلمين على الغنائم يوم بدر

تنازع المسلمين على الغنائم يوم بدر الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. جاء ذكر المؤمنين في مطلع السورة، ولكن سبق هذه الأوصاف الآية التي افتتح الله عز وجل بها السورة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:1 - 2]. الذي حدث أن المسلمين اختلفوا على الأنفال في الغنائم التي غنمها المسلمون يوم بدر، لا ينبغي أن يختلفوا على مال وقد تركوا أموالهم خلف ظهورهم، فلا يليق بهم بعدما ضحوا بالغالي والنفيس أن يختصموا على الأنفال -والأنفال: جمع نفل، وهي الغنائم. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}: قضيت المسألة، فليس لأحدٍ أن يقول: أنا لي الغنيمة الفلانية، وأنا لي كذا أو كذا طالما أنها لله والرسول. ثم ذكرهم بصفات المؤمنين الذين يعبأُ الله بهم، والذين يحبهم الله عز وجل، فكأنما قال: أفلا أدلكم على خيرٍ مما تختصمون فيه؟! إنني إذا ذكرت عند أحدكم اضطرب قلبه خوفاً وحزناً، ولو ذكرت آياتي عندك أن تزداد بها إيماناً وترضى بالله قسماً فهذا أفضل من أن تحصَّل غنائم الدنيا. ومما أنزل الله: (الأنفال لله والرسول)، أليست هذه آياته زادتهم إيماناً، ولم يقل: زادتهم جشعاً وطمعاً وخلافاً، بل قال: زادتهم إيماناً، وكان الصحابة إذا ذكروا ذكروا وارتفعوا حتى يصلوا إلى مدارات الأفلاك.

حل الغنائم للمسلمين دون غيرهم

حل الغنائم للمسلمين دون غيرهم فالله تبارك وتعالى يقول للمسلمين: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] طالما أنك مؤمن، وإذا ذكر الله وجلت، وإذا تليت عليك آياته ازددت إيماناً ولم تزدد جشعاً، فالأنفال لله والرسول، وحلت مشكلة الأنفال كلها بنزول هذه الآية. ثم كانت النتيجة: أن الله عز وجل أغنم المسلمين النفير، فلما فاتت عليهم العير أباح لهم الغنائم إلى يوم القيامة تعويضاً، وما أبيحت لأحد قط من لدن آدم عليه السلام؛ ولو أخذ المسلمون العير لكان انتصاراً جزئياً، وكان سيستمتع بالعير الصحابة فقط، ولكن من بركات الطاعة: أن الله أباح الغنائم لهذه الأمة إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لسود الرءوس غيركم)، وقال صلى الله عليه وسلم تعقيباً على حديث يوشع بن نون الذي رواه الشيخان: (فلما رأى الله عز وجل عجزنا وضعفنا أباحها لنا) يعني الغنائم. إذاً: ما فاتهم شيء على الحقيقة، ما فاتهم لا العير ولا النفير، بل الذين أحرزوه من إصابة الغنائم إلى يوم القيامة كان أعظم من إصابة العير. نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى به عن المنكر. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الغنيمة الحقيقية

الغنيمة الحقيقية في غزوة حنين اختصموا على الغنائم أيضاً، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم، والعامة الذين تأخر إسلامهم، وترك المؤمنين الخلص الذين أبلوا بلاءً حسناً في القتال، فالشباب لم يعجبهم هذا الكلام، وقالوا: يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم، ما هذا بالنَّصَف. يعنون أن هذا ليس إنصافاً، المفروض أن الذي قاتل وضحى بنفسه هو الذي يأخذ المال، والمؤلفة قلوبهم لم يبلوا بلاءً حسناً، ثم إذا به يعطيهم الأموال فما هذا بالنَّصف. بلغت هذه الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجها علاجاً حكيماً، فلم يعاتب ولم يعنت، إنما دعا الأنصار، وقال: (يا معشر الأنصار! مقالة بغلتني عنكم، أنكم قلتم كذا وكذا. فقال كبراء الأنصار: أما الشيوخ فلا) أي: الكبار، الناس الذين أسلموا قديماً ما قالوا هذا الكلام، قالوا: إنما قاله بعض صغارنا. فجمعهم وقال: (هل فيكم أحدٌ من غيركم؟) وهذا كله من أجل أن يبين الحظ والقسم الذي أصاب الأنصار، كأنه لا يريد أن يكون أحدٌ من غير الأنصار يدركهم في هذا الذي سيقوله، (قالوا: لا. قال: يا معشر الأنصار! ألا تحبون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله تحوزونه في رحالكم)، عندما تخير بين مال أو يبقى الرسول معك؛ ماذا تختار؟ لا يتردد مثل الأنصار، ولا يتردد أي مسلم أن يلفظ بها حتى لو انعقد قلبه على خلافها، لا يستطيع إلا أن يقول: نعم، أرضى برسول الله قسماً، حتى لو كان قلبه يأباه، لكنه لا يجرؤ على النطق بها. الناس رجعوا بالدينار والدرهم والمغانم، وأنتم رجعتم برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنكم، ومحبته لكم، ودعائه لكم، (فبكوا جميعاً، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً. قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار)، هذا هو الذي حازه الأنصار حقيقةً، أما الدينار والدرهم فليس له قيمة. كان في زمان الأئمة الكبار والتابعين أناس لديهم أموال لا تقدر، الآن ماتوا وماتت أموالهم، ولا نعلم عنهم شيئاً، ولم يبق إلا أهل الآخرة، هم الذين يذكرون على المنابر وفي الجلسات ويترضى عنهم، كم من غني كان في زمان الإمام أحمد أو الإمام البخاري لا نسمع عنه شيئاً، وكان الإمام أحمد رجلاً فقيراً، وكان الإمام الشافعي رجلاً فقيراً، مات أصحاب الأموال التي هي بالمليارات ولا نعلم عنهم شيئاً، وما بقي إلا هؤلاء. ماذا يعني أن معك ديناراً أو درهماً؟! هؤلاء معهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المستجابة: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ثم قال لهم: الأنصار شعار والناس دثار) يا لها من بشرى! ويا له من عطاء لا يقبله إلا أهل الإيمان ممن اتجهت قلوبهم إلى الآخرة! (الأنصار شعار) والشعار هو اللبس اللين الداخلي الذي يلاصق جسدك مباشرة، هذا اسمه شعار. والثياب العليا اسمها دثار، فممكن الإنسان أن يلبس الدثار، والدثار صوف خشن، لكن لا يستطيع الإنسان أن يلبس صوف الغنم على جلده، فكأنه قال: أنتم أقرب إليّ كقرب هذا الثوب الناعم للجلد.

نظرات في سورة الأنفال [2]

نظرات في سورة الأنفال [2] لقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بصفات كريمة، ووصف الكافرين بصفات ذميمة مقابلة لصفات المؤمنين، ومن هذه الصفات المذكورة نستطيع أن نعرف أسباب النصر والهزيمة لأمتنا. ولما تخلى المسلمون اليوم عن صفات المؤمنين، وصاروا يتبعون الكفار، ويهتمون بالدنيا، ويستهينون بالدين، سلط الله عليهم الكفار، فاستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاروا يتحكمون في كثير من أمور حاتهم.

وجل القلوب من ذكر الله

وجل القلوب من ذكر الله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا زلنا -أيها الإخوة- نلقي بعض النظر على ما جاء في سورة الأنفال، ونربط بين هذه المعاني وبين واقعنا الأليم، ونستخرج أوجه الشبه بين ما كان عليه الصحابة في غزوة بدر، وبين ما نحن عليه الآن. قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، ثم ذكر خمس صفات للمؤمنين في مطلع السورة، وقد ذكرنا في الجمعة الماضية أن استهلال السورة بهذه الصفات له أكبر الأثر في انتصار القلة المؤمنة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة صفات للكافرين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، وقد ذكر في مقابل الصفات الخمس صفات أخرى ولكن بالذم. قال تعالى: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2 - 4]، فقد ذكر خمس صفات لهم. وقلنا: إن الوجل هنا ليس هو الخوف المحض كما في قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر:51 - 52] (وجلون): أي خائفون منزعجون، فهذا هو الخوف المحض، {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ} [هود:70]، إذاً: الوجل المذكور في آية الحجر هو الخوف والفزع، (قَالُوا لا تَخَف) هذا هو الخوف المحض، أما الخوف في سورة الأنفال فهو الخوف المشوب بالمحبة، إذا سمعت ذكر من تحب فإن قلبك ينبض بشدة، وتشعر بشوق مختلط، وهذا الشوق مختلط برعدة تتسلل إلى الجسد، هذا هو الوجل المقصود من الآية. {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]، فهذا هو الوجل المختلط بالمحبة، وتلك هي مقدمات ذكر الله، فأول ما يذكر العبدُ ربَ العالمين يشعر بالوجل، ثم سرعان ما يتبدد هذا الوجل إلى طمأنينة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فليس هناك منافاة بين أن يوجل القلب عند ذكر الله وبين أن يطمئن، فإن الوجل هو مقدمة الذكر، والطمأنينة بالذكر الخاتمة. فربنا تبارك وتعالى يذكر صفات المؤمنين، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] هذا مقدمة الذكر، قال: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] (تلين): هذه هي الطمأنينة، وهي آخر درجات الذكر.

الصم والبكم الذين لا يعقلون

الصم والبكم الذين لا يعقلون أول الدرجات أن يوجل القلب، وهي أول الصفات التي ذكرها الله تبارك وتعالى للمؤمنين، وفي مقابل هذا قال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، هذا وصف للكافرين في مقابل وصف المؤمنين فذكر الله عز وجل فقد الكافرين لأعظم حاستين من الحواس وأجل طريقين إلى الفهم، ونحن نعلم أن مستقر العقل هو القلب، وأن عقل المرء في قلبه. ولهذا العقل طرق، أجل هذه الطرق: السمع والكلام، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] عنده الجارحة -وهي الأذن- سليمة ولا إشكال فيها، فهو سمع سمع إدراك -أي: سمع حاسة- ولكنه لم يسمع سمع فهم، بل يسمع فيزداد طغياناً، يسمع فتنقلب عليه المعاني؛ لأن الفهم منحة من الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الأنبياء:78 - 79]. فالفهم منحة من الله عز وجل يختص الله عز وجل بها من يشاء من عباده، فهؤلاء سمعوا سمع حاسة، ولكنهم لم يفهموا عن الله تبارك وتعالى، ولم يستفيدوا بهذا البيان الذي سمعوه وهم معرضون، وهنا تجد التباين ما بين الفئة المؤمنة وما بين الفئة الكافرة. إننا نذكر هذا التباين لنستفيد منه في هذا الواقع المر، إن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن يصنعون صنيع المشركين: يسمعون آيات الله عز وجل فيخرون عليها صماً وعمياناً. وعندما تطالع الصحف والمجلات والكتب المنشورة، لا تتصور أننا في بلد يحكمه الإسلام، ففي كل يوم تظهر صور جديدة للردة عن الدين! ويخرج هذا باسم حرية الفكر، وأنه لا حجر على الفكر، وأن المتضرر يلجأ إلى القضاء، والقضاء لسان حاله: (مت يا حمار) فحتى يفصلوا في هذه القضية سيأخذون سنين عدداً، والاستشكالات تخرج من مكامنها. نصر أبو زيد حتى الآن قضت المحكمة السورية بردته، تغير القاضي وجاء قاض آخر فنسخ هذا الحكم، وهذا رجل كافر، وكفره واضح مثل الشمس في رابعة النهار، ومثله ألوف مؤلفة، فكيف ينصر قوم يُسب الله عز وجل في ديارهم؟! إن الله عز وجل لما ذكر أنه عاقب المشركين قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13] (شاقوا الله ورسوله) يعني: كانوا في شق، والله رسوله في الشق المقابل، تخلوا عن الله ورسوله وتركوا جانبه، وكانوا مع الذين يظاهرون عليه وعلى رسوله وعلى دينه.

نصر الله للمؤمنين في بدر مع قلتهم وذلتهم

نصر الله للمؤمنين في بدر مع قلتهم وذلتهم فهذه مشاقة لله ورسوله: أن ينشر الكفر باسم حرية الرأي؛ ولذلك نحن في أمس الحاجة إلى أن نضع أيدينا على مواطن النصر، إن الفئة المؤمنة كانوا في وضع لا يحسدون عليه، وضع من جهة الموقع، ومن جهة الإمكانات كانوا في غاية الضعف، قال تعالى وهو يصور ذلك: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]. ما معنى (العدوة الدنيا والعدوة القصوى)؟ (العدوة الدنيا) أي: المكان القريب من المدينة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والفئة المؤمنة. (وهم بالعدوة القصوى) أي: جهة مكة.

نموذج إيماني بدري

نموذج إيماني بدري فانظر إلى هذه الطائفة تتلى عليهم آيات الله، فيزدادون بها إيماناً، وقد ظهر هذا الإيمان في جزئيات من غزوة بدر حفظتها لنا كتب السنة. في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أول ما بدأت الحرب: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فقال: عمير بن الحمام: يا رسول الله! عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. فقال عمير: بخ بخ -يعني: أنعم وأكرم-! فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ما يحملك على قولك بخ بخ! قال: لا -والله- يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فقام عمير وأخرج من قرنه تمرات، وجعل يأكلها، فلما تذكر هذا الوعد وأنه من أهلها، وهي جنة عرضها السماوات والأرض قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) يعني: الذي يحجزني عن دخول الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض هي أن أموت (فألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل، فكان أول قتيل في غزوة بدر). يقول: بخ بخ، هذا الذي يتمنى أن يموت، ترى هل تمنى أن يرجع إلى أهله، أو إلى داره أو إلى ماله، أو إلى جيرانه وعشيرته؟ لا، خرج لا يلوي على شيء إلا أن يقتل: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]: النصر أو الشهادة. المؤمن عزيز، يظل في الدنيا غالباً لا مغلوباً، وهو عندما يتحرك لقتال أعداء الله يقول في نفسه: إما أن أعيش سيداً منصوراً تدين لي الآفاق، وإما أن أموت شهيداً سليماً ولا أبقى على الأرض ذليلاً. المسلمون في الأندلس مروا بواقع أليم، فكل واحد من الأمراء أخذ مقاطعة وقال: هذه دولتي، وجعل يحارب بعضهم بعضاً للاستيلاء على أملاك الغير، الأسبان كانوا في الشمال والمسلمون كانوا في الصعيد -وجنوب أي بلد هو صعيد البلد- كان المسلمون في جنوب الأندلس والإسلام في شمال الأندلس، تصور أن طليطلة -إحدى مدن المسلمين في أسبانيا- ظل الأسبان يحاصرونها سبع سنوات كاملة، ومع ذلك لم ينجدها أحد. وطلنكية ظل الأسبان يحاصرونها عشرين شهراً حتى أكلوا الجيف وأكلوا الفئران، بل وكانوا يأكلون الذي يموت منهم، إذا مات رجل أو امرأة كانوا يأكلون هذا الرجل أو المرأة، وبعد عشرين شهراً سقطت أيضاً؛ لأنهم انغمسوا في الشهوات والنساء والقيان، بل طاوعوا ملوك الأسبان، وأغروا ملوك الأسبان بأن يدخلوا إلى البلد؛ فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضربهم بهذه الهزيمة، وليس على الله بعزيز أن يذل أمثال هؤلاء. يا أيها الإخوة: إن عوامل النصر في غاية الوضوح، إنه لا نصر لنا على الإطلاق على اليهود إلا إذا حققنا هذه الصفات الخمس التي كانت في أهل بدر، مع قلتهم ومع ذلهم ومع فقرهم انتصروا، وكما قلت في مطلع الكلام: الأرض لم تكن تساعد هؤلاء على الكر والفر، لكن الله عز وجل يعطي من أسباب الفوز للطائفة المؤمنة ما يجل عن الحصر وما لا يخطر على البال. قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، في مقابل هذا بطر وعناد: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] فهذا الإيمان الذي كان عند الطائفة المؤمنة ظهرت مفرداته في القتال يوم بدر.

جوانب الضعف المادي عند المسلمين في بدر

جوانب الضعف المادي عند المسلمين في بدر الذي يدرس تضاريس الأرض يرى أن العدوة الدنيا كانت رمالاً رخوة، تسيخ الأقدام فيها ولا تثبت الأرجل عليها، بخلاف العدوة القصوى فإنها صخر، الواقف عليها متمكن يستطيع أن يكر ويفر ويرجع ويقدم، بخلاف العدوة الدنيا التي هي عبارة عن أرض رملية لا يستطيع المرء أن يجري فيها ولا يكر ولا يفر. ثم هناك عامل آخر يدعو أهل مكة إلى الثبات: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال:42] ذلك أن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخذ ساحل البحر هارباً. (الركب أسفل منكم) أي: أنه خلف ظهور المكيين القرشيين الذين خرجوا بطراً، وهذا حافز لأن يقاتلوا أشد القتال دفاعاً عن التجارة والأموال التي خلف ظهورهم. وكان من عادة العرب أنهم يأخذون النساء ويأخذون الأموال حال الحرب؛ ليكون ذلك باعثاً على ثباتهم، فيقاتل الواحد منهم دون امرأته أو دون أخته أو دون أمه، ويفضل أن يقتل ولا ينال أمه ولا أخته ولا امرأته ولا ابنته ولا إحدى حريمه سوء، إذاً: كان هناك حافز لأن يثبتوا، ذلك أن الركب - وهي العير- كانت خلف ظهورهم، وهم إنما خرجوا نجدة للعير، فلا يتصور أن يتركوها. فانظر إلى هذا الذي تسمعه، وذكره رب العالمين تبارك وتعالى من تباين الأرض التي يقفون عليها! ولذلك امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات. خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، ويمرغ خديه على عتبة عبوديته، وهو يقول: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وقضى ليلته يمرغ خديه على عتبة عبوديته تبارك وتعالى، فقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]، لأنه لا قيمة لجهد الملائكة ولا لجهد البشر ما لم يكن مكللاً بعناية الله عز وجل. فانظر أخي: هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون، وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى؟! لا يهزمون أبداً، فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً.

جوانب القوة الروحية عند المؤمنين في بدر

جوانب القوة الروحية عند المؤمنين في بدر محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء؛ والمحبة أعظمها على الإطلاق. هذه الثلاثة هي الحادي الذي يحدو القلوب في سيرها إلى الله عز وجل: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، وهذا الوجل له أثر عملي، وهو أن ينساب الدمع من العين، وهو أهم مظاهر الوجل المختلط بالمحبة، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] وكان هذا هو شأن الصحابة جميعاً، وما كان أحدهم إذا سمع القرآن يسقط مغشياً عليه، وقد قيل لـ ابن عمر رضي الله عنهما: (إن جماعة يسمعون القرآن فيصعقون -أي: من خشية الله- قال ابن عمر: والله إنا لنسمع القرآن ونخشى الله ولا نصعق)، لأن سماعهم كان أتم، وكانت قلوبهم في غاية الاستعداد لسماع قرع الموعظة. أما الذي نزل في عباد البصرة، فكانت قلوبهم ضعيفة مع قوة آيات الذكر فلم يتحملوا، فالصادقون منهم كان يغشى عليهم، لكن جملة الصحابة كانوا ينكرون هذا، قيل لـ عائشة رضي الله عنها في ذلك، قالت: (إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله عز وجل: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]) وكذلك كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول. أثر الوجل نزول الدمع، واقشعرار الجلد، وهي رعدة تحس بها في جسمك وفي قلبك، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، هذا نصيب الطائفة المؤمنة. أما الكافرون فقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:31 - 32]، هذه هي محصلة سماع الذكر، أول ما يسمع الذكر يقول: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) لا يقول: فاهدنا إليه، إنما يقول: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة) إذاً سماع الذكر زادهم طغياناً، بخلاف الذين آمنوا: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). التوكل: هو اعتماد القلب على الله، ليس التوكل كما ظن بعض الغالطين أنه ترك الأسباب بالكلية، فإن السبب جزء من التوكل، والذي يترك السبب بدعوى التوكل أحمق ضعيف العقل، فقد اتفق العلماء جميعاً، وتؤيده مئات النصوص من الكتاب والسنة: على أن السبب جزء من التوكل. كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة إلى المدينة اختفى في الغار، ولو شاء لمشى، ولكنه اختفى حتى يبين أن الاختفاء عن الأعداء ليس قدحاً في توكله على الله عز وجل، ولما قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فإن الله عز وجل الذي خلق عباده وهو عالم بهم قادر على أن يعطل السبب إذا أراد: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198] استخدم حاسة النظر نعم، ولكن نزع الله عز وجل منه هذه الخاصية خاصية إدراك الأجسام بالنظر، فالله عز وجل نزعها لأنه مالكهم، وهو ربهم وخالقهم، ولا يكون شيء في هذا الكون إلا عن إرادته.

إقامة الصلاة عند المؤمنين وصفة صلاة الكافرين

إقامة الصلاة عند المؤمنين وصفة صلاة الكافرين ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] وإقامة الصلاة: أن تأتي بها على الوجه الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيمها، بأن يأتي بأركانها وواجباتها ومستحباتها، لا يخرج عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن تمام إقامة الصلاة: الذل لله تبارك وتعالى، وهذا الذل يظهر في وضع اليمنى على اليسرى، وهي علامة الاستسلام؛ لأن معنى وضع اليد اليمنى على اليسرى يشير إلى التكتيف كالمقيد، والإنسان المقيد لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فكأنما كبل نفسه اختياراً بين يدي الله، كأنما قال: أنا ذليل وعلامة ذلي تكبيل يدي (وضع اليمنى على اليسرى) ثم النظر إلى الأرض، والنظر إلى الأرض ذل، وهو علامة الخشوع؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذين يرفعون أبصارهم إلى السماء حال الصلاة: (يوشك أن تخطف أبصارهم)، الإنسان إذا نظر إلى السماء وشمخ بأنفه لِمَ تشمخ بأنفك وأنت في موقع الذل؟! كل هذا من إقامة الصلاة، وهذه هي صلاة المؤمنين. حسناً: كيف كانت صلاة هؤلاء الجبابرة العتاة الذين سقطوا من عين الله تبارك وتعالى؟ قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35] (مكاءً): أي: صفيراً، (تصدية): هي التصفيق بالأيدي، هكذا كانت صلاتهم، وهذا أقرب إلى اللعب منه إلى الخشوع، إن هذا لا يليق بمكان البيت ولا بشموخ البيت: أن يطوفوا حوله يزعمون أنهم يصلون، وفوق ذلك كانوا يطوفون عراة، ويقولون في ذلك: (لا نريد أن نطوف بثياب عصينا الله فيها)، فانظر إلى هذا الورع البارد! ثياب خلعوها وقلوبهم مفعمة بالشرك، ومفعمة بالكفران، ومع ذلك لا يطوفون بها، وما خطر لهم أن يخلعوا الشرك من القلب، إنما اكتفوا بخلع الثياب. وهكذا تجد الأمم المتدنية تأخذ من الالتزام الشكل دون الجوهر، يعمرون المساجد بالقرآن، وينقلون القرآن، وشعائر الصلاة بمكبرات الصوت، وفي أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم ينصبون السرادقات والاحتفالات، لكنهم أبعد الناس عن الاتباع، ولا جوهر في الحقيقة. طرق الصوفية في أيام مولد النبي عليه الصلاة والسلام يأخذون الدفوف ويعقدون الرايات، ثم يغنون ويصفقون ويتمايلون، وهذا هو حقيقة المكاء والتصدية، يضربون بالدف في يوم مولده وهو الذي حرم الدف على المؤمنين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالدف من جملة المعازف، ويقول: (يستحلون) إشارة إلى أنها كانت محرمة فاستحلوها، فانظر إلى هذا التباين العجيب: يحتفلون بذكرى مولده بما حرمه عليهم!! فأنى ينصرون؟! الأمم الذليلة هي التي تأخذ بظاهر الدين. خطبة في مولد النبي عليه الصلاة والسلام، كلهم يقولون: الرسول عليه الصلاة والسلام بعث رحمة للعالمين فأين أثر هذا عليكم؟ أين أثر هذا على السلوك العام؟! التوجه العام أن يسب الله، وأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم في ديار المسلمين، ولا يصادر كتاب إلا بحكم قضائي، والحكم القضائي يأخذ فترات طويلة، ويقوم شياطين الإنس فيأتون بثغرات القانون، ولا تستطيع أن تصل إلى إنصاف الله ورسوله من العباد إلا بعد جهد كبير، وربما تكون القضية قد ماتت، وتكون المظاهرة الجماهيرية ذهبت أيضاً واختفت. اليوم هل يشعر أحد بما تعانيه الأرض المحتلة الآن كشعوره الذي كان قبل عشرة أيام؟ وسائل الإعلام كتمت الموضوع، ولم تعد الجرائد تأتي بها في صدر الصفحات، ولم يعد الصحفيون يتكلمون كلاماً تفصيلياً ولا النشرات، بل كلام مجمل مقتضب، نحن الآن شعرنا كأن الوضع سكن، مع أنه في غاية الاشتعال، بل هو أشد مما كان عليه وهكذا، فهؤلاء المشركون إنما ابتدعوا لأنفسهم صلاة، فهم في الحقيقة ما أقاموا صلاة.

التسلط اليهودي في الجانب الاقتصادي

التسلط اليهودي في الجانب الاقتصادي قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] (ينفقون) أي: في أوجه البر، وفيما شرعه الله تبارك وتعالى لهم، أما الذين كفروا فقال تعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] إذاً: هؤلاء اليهود الذين معهم المليارات، أغنى رجل في العالم الذي عنده مائة وتسعة وأربعون مليار دولار، رجل صاحب شبكة الإنترنت رجل يهودي، لديهم مليارات لا تنتهي، وهذه المليارات يجندونها لخنق المسلمين في ديارهم بسبب غفلة أبناء المسلمين، شهادة (الأيزو) التي ابتدعها اليهود حتى يفتكوا بالصناعة في ديار المسلمين، تلقفها أبناء المسلمين المغفلون وهم لا يعلمون حقيقة ما ينصب ولا حقيقة ما يدبر لهم. شهادة (الأيزو) مفهومها: أنك كلما صنعت صناعة فاعرضها علينا، واعرض علينا البضاعة، فإذا رأينا أنك وصلت إلى نسبة من الجودة حددناها لك وأعطيناك هذه الشهادة، فكلما جود المسلمون عملاً عرضوه على أعدائهم نحن وصلنا إلى هذا المستوى! فيقال: بكم تبيع -مثلاً- هذه السلع؟ أبيعها -مثلاً- بمائة جنيه، إذاً: هو سيعرف أنك وصلت إلى هذه الجودة وستبيع بالسعر الفلاني، إذاً هو سينزل بضاعة أجود منها وبأقل من سعرك، فتكون النتيجة أن مصنعك يتوقف بلا أدنى مجهود، بعدما يعطيه الجهد، ونتاج العرق والشغل، يقول له: أنت تستحق الشهادة، تفضل، علق الشهادة على الجدار، وهكذا! المسألة مكشوفة في ديار المسلمين. ثم يقولون لهم: إن الذي يحصل على شهادة الجودة سوف يكون له محل في النظام العالمي الجديد الذي أصبح فيه التكتل الاقتصادي أهم من السياسة، اتفاقيات (الجات) هي اتفاقيات اقتصادية وارتباطات، يقولون: الدولة التي لا تشترك في اتفاقيات الجات ستموت، لن نستورد منها ولن نصدر لها، إذاً: ديار المسلمين ديار مستهلكة، وكل البضاعة التي فيها آتية من الخارج، إذاً: ستتوقف الحياة في بلاد المسلمين إذا منعوا الاستيراد أو منعوا التصدير. يقول لك: ما دام أنك عارف أنك ستموت لابد أن تشترك في اتفاقيات الجات. تقول: أنا مشترك. يقول لك: لا، ليس بهذه البساطة ولا بهذه السهولة، في مقابل هذه الاتفاقيات، فإن الدول -التي نصت على الاتفاقية- لها تصور للبنية الاجتماعية، ليس هكذا ببساطة تقول: أنا سوف أشترك، أو أترك الاشتراك، فلابد من تحرير الناس، ولابد أن الناس تتحرر بمحض إرادتها وعلى هواها وعلى كيفها. تقول: فماذا تريدون؟ يقولون: ما معنى أن النساء يتحجبن؟ ما معنى أن المرأة تظل في البيت؟ هذا تخلف، ومن شرط قبولك عضواً في اتفاقيات (الجات) أن تخضع للتغييرات الاجتماعية التي نطلبها منك. لذلك عقد مؤتمر السكان وما تلا مؤتمر السكان حتى هذه اللحظة التي أتكلم فيها، من تجريم ختان المرأة، ومن مد سنوات الاختلاط بين البنت والولد بعدما كان يفصل بين البنت والولد في فترة جزئية في المرحلة الإعدادية والثانوية، ثم يعودون ثانية يختلطون في الجامعة، يقول لك: الاختلاط من أول ابتدائي إلى أن يخرج من الجامعة، وبعد ذلك دخول المرأة البرلمان، ثم بعد ذلك تصير المرأة عمدة، وبعد ذلك المجلس القومي للمرأة، وبعد ذلك وثيقة الزواج الجديدة، هم حرموا تعدد الزوجات، وكنت أقول في نفسي: كيف يحرمون تعدد الزوجات؟! يستحيل أن يستطيعوا أن يحرموا تعدد الزوجات؛ لأن هناك نصاً في القرآن وإذا بشيطان من شياطين الإنس يبتكر وسيلة شيطانية لتحريم تعدد الزوجات، ويقول لك في القسيمة الجديدة: ثلاثة أسئلة توجه إلى الطرفين، هذا السؤال يقول للمرأة: هل تقبلين أن يتزوج زوجك عليك؟ طبعاً: يستحيل أن أية امرأة في الدنيا -والرجل متقدم لها أول مرة- توافق على أن يعدد زوجها عليها، ولو وجد لكان عشر عشر عشر عشر في الألف، امرأة واحدة من كل مليون، فطبعاً لن تقبل المرأة، فيكتب في قسيمة الزواج (لا أقبل أن يعدد زوجي عليَّ)، وفي حال أنه عدد عليها طبعاً المسألة لا تأتي مرة واحدة، لا زال، وستذكرون ما أقول لكم ولو بعد خمسين عاماً، القسيمة الجديدة: أن من خالف هذه الشروط يدفع عشرة آلاف جنيه أو يسجن، فيكبل الإنسان ولا يستطيع أن يخالف ما كتب في القسيمة. إذاً: منعوا التعدد، أول ما تقول له: أنت حرمت التعدد؟ يقول: لا، أنا ما حرمته، أنا كيف أحرم؟ أنا فقط أسأل هذا Q هل توافقين؟ يا أخي! إذا وافقت أنا لا أعترض، وهو يعلم أنها لن توافق، إذاً: بهذا لن يخالف حكم الله، وفي نفس الوقت منع التعدد. هذا تغيير كامل للبنية الاجتماعية، إما أن تفعل هذا وإلا نخرجك من اتفاقيات (الجات)، إذاً تموت، تنتج في بلدك وتبله وتشرب ماءه، وأنت طبعاً لا تنتج شيئاً في بلدك، لا يوجد في البلد شيء، فأنت مضطر لاستيراد كل شيء؛ إذاً: لازم تدخل غصباً عنك، ولازم تغير البنية الاجتماعية غصباً عنك أيضاً. فانظر كيف أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم! نحن في غاية الضعف والهوان، ومع ذلك الصوت يجلجل: إننا إذا رجعنا إلى الله، وحققنا شرط العبودية التي أمرنا الله عز وجل بها؛ إننا لمنصورون عليهم مع ذلنا وضعفنا وقلتنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

المسلمون بين عز الماضي وضعف الحاضر

المسلمون بين عز الماضي وضعف الحاضر الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا لله الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة: هذا التباين الواضح الجلي بين صفات الطائفة القليلة المؤمنة، وبين صفات الطائفة الكافرة الكثيرة، يدعونا إلى النظر مرة أخرى في محاولة الخروج من هذا التيه الذي يعيش المسلمون فيه منذ قرون. بعد انتصار محمد الفاتح رحمه الله وفتح القسطنطينية، وهزيمة المسيحية شر هزيمة على يد المسلمين، بدأ النصارى وأهل المسيحية الشمالية في أوروبا يلمون شعث تفرقهم، واستعانوا في هذا الرجوع بعلمائهم القساوسة، اجتمعوا مع ملوك هذه الأمة وقالوا: كيف الخروج من هذا التيه بعد أن حاقت بهم الهزيمة، وانتصر المسلمون نصراً مظفراً؟ اتفقوا جميعاً، وكان رأيهم كلمة إجماع، أن ينزلوا عند قول علمائهم، اتفق القسُس على أن أعظم مواطن النصر للمسلمين هو كتابهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فعملوا في محاور عديدة: محور إغراق المسلمين بالشهوات، ومحور غسيل الدماغ لمن يذهب من المسلمين إلى بلاد الكافرين، وجعلوا لهم عيوناً في بلاد المسلمين يستقطبون الذين يظهر عليهم النجابة والذكاء، فيأخذونهم إلى بلادهم، ثم يعمل له عملية غسيل مخ حتى يستخدمه فيما بعد. تقرأ كلام المستشرقين في القرآن فترى كلام رجل منصف، لا يتهجم على القرآن، ولا يقول إن هذا الكتاب فيه تخريف، ولا يقول ليس من عند الله، بل يقول: هو من عند الله وهو الكتاب المقدس، ولكن يأخذ الآيات ويبدأ يحرف هذه الآيات. الذين تولوا الجامعة عندنا قديماً، والذين أنشئوا بعض الكليات الخطيرة تعرضوا لعملية غسيل الدماغ: رفاعة رافع الطهطاوي، هذا غُسل مخه وذاب. وهذا أبو التعليم الدكتور طه حسين رجل يأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس لماذا؟ ما الذي جرى في الدنيا؟ لماذا لم يأخذها من ديار المسلمين الذين هم أهل اللغة العربية أصلاً؟ أخذ هناك الدكتوراه ورجع، ولما رجع زوجه عميد الجامعة ابنته الوحيدة لماذا؟ ألجماله، أم لخضار عيونه؟ لا، ابنته الوحيدة يزوجها له لأنه رسم له لوحة، رجل تكلم في الشعر الجاهلي قبل أن يذهب إلى باريس والعلماء كفروه، لما قال: إن دعوى أن قريشاً هي التي بنت الكعبة هذه من أساطير الأولين، ودعوى أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذين بنيا الكعبة من الأساطير أساطير؟! والرجل حفظ القرآن في كتاب القرية، ودخل الأزهر، ولم يقرع سمعه قط: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لم يقرأ هذه الآية من سورة البقرة؟ ثم يأتي يقول: دعوى إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة من الأساطير؟!! لأجل هذا لم يتردد العلماء في تكفيره، ولكن الرجل أظهر التوبة، ثم ذهب إلى هناك ورجع بدماغ آخر غير الدماغ الذي خرج به، وبدأ هؤلاء يفتعلون صدمات أدبية، ويثيرون النقع والغبار على آيات القرآن والسنة. هو هذا الذي قرر علماء المسيحية الشمالية أن يدخلوا على المسلمين منه، وبدءوا يستحوذون على تراث هذه الأمة، ألا وهي المخطوطات، ونحن أمة عظيمة لم تخدم أمة من الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى اللحظة التي أتكلم فيها -سنة ألف وأربع مائة وواحد وعشرين هجرية- لم تخدم أمة من الأمم دينها كما خدمت أمة الإسلام دينها. إنك لو وضعت الكتب التي صنفت في معرفة كلام الله ورسوله كتاباً جنب كتاب لغطت الكرة الأرضية! إن الذي طبع وهو بمئات الألوف بل بالملايين لا يساوي ثلث الذي لم يطبع ولم ير النور؛ كل هذا صيانة لكلام الله ورسوله. فنظر هؤلاء وقالوا: لو استحوذنا على تراثهم واستلبناه منهم وأخذناه، لحلنا بينهم وبين دينهم، ينشأ الناشئ فيهم واهي الدين، ليس له صلة قوية بتراثه، وكلما فقد هذا التراث ومع مغايرة الخصم ومشقة القراءة، مع طول الزمن ستنفصم العرى بينهم وبين تراث دينهم، فلا يعرفون شيئاً عن مراد الله ولا عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما جاء نابليون إلى مصر سرقوا مخطوطاتنا من المكتبة الأزهرية وغيرها، وذهبوا إلى فرنسا وأنشئوا مكتبة من أكبر المكتبات العربية في العالم في فرنسا هناك! ولا تجد بلداً من البلاد إلا وفيها مكتبة إلى خمسة وعشرين مكتبة في البلد الواحد، كلها تعج بتراث المسلمين. في نفس الوقت بدءوا -كما قلت لكم- يقرءون الشبهات في كتب المسلمين، وكم بذل هؤلاء القسس من الجهد في فهم اللغة العربية، مع أن اللغة العربية من أصعب اللغات، وفهم اللغة العربية يحتاج إلى تدريب وممارسة في غاية الجدية، فتخيل أن رجلاً إنجليزياً أو رجلاً فرنسياً أو أسبانياً أو أية جنسية من الجنسيات، عكف على قراءة أصول اللغة العربية، واستطاعوا في خلال عشر سنوات أو عشرين سنة أن يوجدوا كوادر محترفة تقرأ في كتب المسلمين وتفهم كتب المسلمين، هؤلاء بذلوا جهداً خارقاً وحبسوا أنفسهم، وكانوا يبنون الأديرة في قلب الصحراء حتى يجبروا أنفسهم على العزلة، يريد أن يعتزل فيضطر أن يحلق شعره كله، لماذا يحلق شعره؟ من أجل مصلحته، شكله صار قبيحاً، فيجبر نفسه على العزلة، هؤلاء ذهبوا إلى الأديرة التي هي في فيافي الصحراء، وحرموا أنفسهم من متع الحياة ومباهجها، لأنهم ما كانوا يرون إلا تأثيل مجد المسيحية. وهكذا ينبغي علينا إذا كنا نريد أن نصل حقاً، ونبين أو نظهر للناس علامة جدنا؛ أن يظهر العلماء مرة أخرى؛ وألا ينفصل السلطان عن العلماء، إن العلماء هم الناصحون، لكن الحاكم يقرب لاعبي الكرة، والممثلين والمغنيين والله لو ظللنا نهتف ونصرخ إلى أن نموت، فإننا لن نحرر شبراً واحداً من الأرض السليبة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منا وما بطن والإثم والبغي بغير الحق اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حق النبي على أمته [1]

حق النبي على أمته [1] إن للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً كثيرة على أمته، وهي عظيمة لعظم صاحبها، فمن هذه الحقوق محبته، وتعظيمه، والاقتداء بسنته، والدفاع عنه وعن سنته، وعدم الاعتراض على ما جاء به، وليعلم أن السنة وحي أنزل على نبينا لبيان ما أجمله القرآن، فالواجب علينا المحافظة على هذا الدين بتعلمه وتفهمه وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومواجهة أهل البدع والأهواء الذين يشككون في دين الله، وينكرون سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

سنة الدفع وتعلقها بحق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

سنة الدفع وتعلقها بحق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إن الله تبارك وتعالى ذكر سنة الدفع في آيتين من القرآن العزيز، كلاهما في معرض القتال، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وجاءت هذه الآية بعد القتال الذي دار بين جالوت وبين داود. وفي الموضع الثاني من سورة الحج قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40]. سنة الدفع من أهم السنن الكونية التي ترتهن الأمم بها، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، أي: لابد أن يتدافعوا ولابد أن يقتتلوا، لكن هناك فارق؛ فإن الله عز وجل جعل قوة الحق ذاتية فيه، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، فالحق قذيفة، يحمل أسباب القوة في ذاته، لكنه يحتاج إلى مسدد، ومن قوة الحق أنه يتوجه إلى كبد الباطل وإلى دماغه، لا يتوجه إلى العضلة ولا إلى الكتف، وإنما إلى الدماغ، ولذلك قال تعالى: (فَيَدْمَغُهُ) يدمغه نستفيد منها فائدتين: الفائدة الأولى: أنها تصيب دماغه، والمرء إذا أصيب دماغه لا يعيش. ثانياً: فيه معنى الدمغ، الختم، أي أن الذي يصيبه الحق يصاب بدمغٍ وعلامةٍ ظاهرةٍ يظهر منها أنه مبطل، والباطل زاهق، لا روح له ولا نفس. فمن الفوائد التي يستفيدها الناس من سنة الدفع أن نرجع فنغير بعض الأبجديات، التي يظن كثيرٌ من الناس أنه على علم بها، وإذا به بسبب سنة الدفع يعلم أنه لم يكن عالماً بما كان يقدر في نفسه أنه يعلمه. الشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ما معناها؟ كثيرٌ من الناس يظن في نفسه أنه يفهم معنى الشهادة، وهو لا يفهمها؛ لأنه ورثها، ولا نشترط ولا نقول: إن الإيمان لا يكون إلا على سبيل التفصيل لا، بل يقبل إيمان العامي جملةً، والتفصيل بحسب الأنفس وحسب الأشخاص، لا نشترط أن يقف كل مسلمٍ على حقائق الدين ويعلم الأدلة، ويعلم النواقض ويعلم الردود، إنما يكفي الإيمان المجمل.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله ينبغي أن يعلم المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أن الشطر الثاني من الشهادة، وهو قولنا: محمد رسول الله، معناه: أن لا متبوع بحقٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شريك له في الاتباع، وأي عالمٍ يأتي بعده إنما نطيعه لطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الأصل، وقد أجمع أهل العلم على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه، وبعد مماته إلى سنته؛ حتى تقوم الحجة على كل الخلائق الذين يأتون من بعده عليه الصلاة والسلام، وهذا شيءٌ لا نعلم أحداً خالف فيه: أن الرد إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته يكون إلى سنته. فترى كيف نقلت هذه السنة؟ وهل يمكن لأحدٍ أن يطعن عليها؟

كيفية نقل السنة النبوية واهتمام الصحابة ومن بعدهم بذلك

كيفية نقل السنة النبوية واهتمام الصحابة ومن بعدهم بذلك نقول بملء الفم: إنه لم يحظ نبيٌ قط من أنبياء الله بعشر معشار ما حظي به نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا نعلم نبياً رزق بأصحابٍ أوفياء نقلوا كل شيءٍ عنه؛ لتتم الأسوة به غير نبينا عليه الصلاة والسلام، فما من بابٍ من أبواب العلم إلا وفيه أثر، مهما دق، حتى فيما يفعله الناس فطرة، ولا يحتاجون فيه إلى تعليم، كقضاء الحاجة مثلاً، قال اليهود لـ سلمان رضي الله عنه: (إن نبيكم علمكم كل شيءٍ حتى الخراءة؟ قال: نعم، علمنا: أنه إذا دخل أحدٌ الخلاء ألا يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بثلاثة أحجار)، حتى في مثل هذا الأمر، حتى في إتيان الرجل شهوته، حتى في الأكل والشرب ما ترك شيئاً، وكانت أعينهم (كالكاميرا المسجلة) يقولون: (كنا نعرف قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر باضطراب لحيته) وحتى لما قرأ في سورة المؤمنون فجاء ذكر موسى وهارون سعل سعلةً فركع، أنه سعل سعلةً فركع. ويخرج جابر بن سمرة خصيصاً من بيته في ليلةٍ قمراء ليعقد مقارنةً بين القمر وبين وجه النبي عليه الصلاة والسلام، وخرج من بيته لأجل هذا، يقول: (خرجت في ليلةٍ قمراء إضحيان -كان القمر تاماً- فجعلت أنظر إلى القمر تارة، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة، فكان في عيني أجمل من القمر)، ويسجل مثل هذا الحب. ولهم في ذلك أعاجيب في مسألة النقل، بحيث أن الأمر كما قال أبو ذر رضي الله عنه: ما من طائرٍ يقلب جناحيه في السماء إلا وعندنا منه علم عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونقلوا السنة على أوثق راءٍ من الإحكام والاتصال في السند، والدقة في الضبط والحفظ. فالنصارى لا يصلون إلى عيسى عليه السلام بإسنادٍ متصلٍ أبداً، ولا يصلون إلى أصحاب نبيٍ أصلاً، والانقطاع في الأسانيد عندهم قد يصل إلى مائة عام، انقطاع بين الرجل وبين شيخه، بين الذي تلقى عنه الكلام، قد يصل الانقطاع إلى مائة عام، إنما نحن معاشر المسلمين نقلنا سنة نبينا عليه الصلاة والسلام على أوثق القواعد العلمية، وتعب العلماء في تقريب هذه القواعد كعادة الأصول، الأصول مثلها كمثل هذا الجدار في الترابط والتماسك والقوة، فكل عالم يضع لبنة ويمضي، فهذا الجدار ليس نتاج فكر عالم واحد، إنما هو نتاج فكر مئات؛ بل ألوف العلماء الأذكياء، النابهين، فنقلوا السنة، ووضعوا لنا الشروط والضوابط لقبول الأفراد.

معارضة السنة بالعقل ومعارضته لها

معارضة السنة بالعقل ومعارضته لها مما يدعو للأسف أن الخلائف عندما جاءوا لم يكلفوا أنفسهم النظر فيما حققه الأسلاف! يا ليتهم نظروا، لكنهم طرحوا هذه الجهود وراء ظهورهم، وطفقوا يعترضون على السنة، كلما نقل إليهم كلام لا يستسيغونه، جعلوا عقولهم حاكمةً على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتكروا أشياء هم لا ينفذونها في واقع حياتهم. يقولون مثلاً: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة، مع أنهم يقبلون أخبار الآحاد من الكافرين، هذا الذي ينكر الشفاعة الآن، كونها جاءت عن طريق الآحاد، وهذا ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، إنما هو مذهب المعتزلة، الذين يخلدون المذنبين أهل الكبائر في العذاب، ويحتجون بحجج واهية قد رد عليها أهل السنة، وما تركوا قولاً لقائل، وأتوا على بنيانهم من القواعد، فيأتي هذا الآن في الوقت الحاضر فيعرض أدلة المعتزلة يحسب أن أهل السنة لم يردوا عليها. لو أن هذا الإنسان أو غيره من المعترضين على السنة بعقولهم، أصيب بمرض وسافر إلى بلاد الغرب، فقال له الطبيب: أنت مريض بالمرض الفلاني، وأنت ستخضع لعلاج مكثف، وتأخذ الأدوية الفلانية، ترى: هل يقول له: أنت طبيب واحد -يعني: أنت فرد- ومن الممكن أن تخطئ في التشخيص، فلو سمحت ائتني بثلة من العلماء الأطباء -عشرين طبيباً، أو ثلاثين طبيباً- ممن يقع بهم التواتر، ويقولون: إنني مريض بالعلة الفلانية؛ حتى أسلِّم لك! هل سمعتم بهذا في العالمين: أن رجلاً ذهب إلى طبيب، فقال له: أنا لا أقبل كلامك، حتى تأتيني بأطباء يبلغ عددهم حدَّ التواتر، ولا يجوز عليهم الخطأ؛ حتى أقتنع بكلامك، وآخذ العلاج؟ ما علمنا أن أحداً قال هذا الكلام! فلماذا يقولونه في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذا الذي قال له: أنت مريض بالمرض الفلاني رجلٌ كافر، يعني لا ينعقد به خبر، فضلاً عن أن ينعقد به اليقين، ومع ذلك يسلِّمون له، فإذا اعترضنا عليهم بهذا القول اتهمونا بالجهل، وأنه لم يقل أحدٌ بقولنا. ثم يجوزون الأشياء العقلية التي لم يجر عمل الناس عليها، يجوزونها في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأبونها في كلام الناس وفي أخبار الناس، فمثلاً: هل هناك امرأة معصومة بالنص من الزنا أي امرأة كانت؟! غير النساء اللاتي برأهن الله تعالى وعصمهن من الزنا، نحن نقول: إن العفيفات كثيرات، لكن قد تكون عفيفة وتزل مرة -وهي عفيفة-، وهذا الخطأ قد يرتكب بسبب ضعف الإيمان، ومع ذلك لا يزيل الخطأ اسم الإيمان عنها، فأي امرأةٍ في الدنيا ممكن عقلاً أن تزني، وليس هناك دليل على عصمة هذه المرأة ويستحيل منها الزنا Q أليس من الجائز أن يكون الولد الذي تعتقد في نفسك أنه ولدك، يكون ولد رجل آخر أتت به المرأة؟ نحن الآن نتكلم بالعقل مثلما يتكلمون في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي يتكلم في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا العقل المجرد، لو أني قلت له: إن هذا الولد الذي ينسب إليك في الهوية -في البطاقة وفي الأوراق الرسمية- ليس ولدك عقلاً، احتمال أن تكون امرأتك زنت، وهي ليست معصومة من الزنا؛ لأنكر ذلك أشد الإنكار، ولجزم أن امرأته عفيفة، ونحن لا ننكر ذلك، لكن نقول: عقلاً يجوز للمرأة أن تزني، وعقلاً يجوز لأي رجل أن يشك في نسب ولده، لكن هل جرى هذا الكلام بين الناس؟ لم يجر. المرأة تلد الولد ابن سبعة أشهر، ابن ثمانية أشهر، يقول الأطباء: إنه يلزمه أن يدخل الحضانة لمدة شهر، حضانة فيها عشرات الأطفال، فأول ما يولد الولد قبل أن تتحقق من شكله، وقبل أن تعرف أن هذا ولدك تضعه في الحضانة، ويكون له رقم، أليس من الجائز أن تخطئ الممرضة فتأتيك بولدٍ ليس هو ولدك، أو هذا مستحيل؟ جائز عقلاً أم لا؟ جائز عقلاً، فكيف ساغ لك أن تسلم لهذه الممرضة مثل هذا الأمر الخطير، وتأخذ الولد مسلِّماً ومطمئناً مائة بالمائة أنه ولدك، مع أنه جائز عقلاً أن تخطئ الممرضة فتأتيك بغير ولدك. لماذا لا يعمل بهذا؟ مع وجود الفساد العريض المترتب عليه، فلماذا يأخذون هذا الجواز العقلي ويجعلونه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يا ليتهم استضاءوا بكلام أهل العلم الأوائل، لكن يأتون بأدلة المعتزلة في إنكار الشفاعة مع أن أهل السنة والجماعة قد ردوا على المعتزلة، أراد أن يعيدها جذعة مرةً أخرى في زمن انتشر فيه الجهل، بحيث قد أصبح الناس لا يعرفون من الدين إلا قليلاً، فتراه يأتي بالآيات المطلقة التي خصصت بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: أن لا شفاعة لأحد، إنما هي لله، ويستدل بهذه الآيات يقول تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، فهذا نصٌ في عدم قبول الشفاعة على الإطلاق، وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وقال عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70]، ويأتي بهذه الآيات، ويقول: هذه الآيات فيها دليلٌ على أن الشفاعة لا تكون لأحد. فنقول من القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أين ذهبت هذه الآية، وهذا دليلٌ واضح على أن الله يأذن لبعض الناس أن يشفعوا وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، إذاً سيأذن لبعض عباده، ويرضى عن شفاعتهم، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، إذاً هناك استثناء، وهناك إذن بالشفاعة لمن شاء سبحانه. لماذا طويت هذه الآيات؟ ولماذا لم تبين وتوضع بجانب الآيات الأخرى؟ هذا هو المكر، ينقلون شيئاً ويتركون أشياء، وقد أجمع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قبول الأحاديث المتكاثرة، التي بلغت درجة التواتر العلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع، وأن المؤمنين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، ووردت في ذلك أحاديث صحيحة، فما هي المصلحة أن يأتي رجل على طائفة من الأخبار ويأخذها ويترك ما عداها؟ هذه فتنةٌ قديمة أطلت برأسها الآن وقد دحرها أهل العلم قديماً، وانتهت، ثم بدأت تعود جذعةً مرةً أخرى، والسبب في ذلك: غياب حرس الحدود، العلماء الرسميون ليس لهم رد فعل حتى الآن، مع أن هذا العفن يطفح يومياً على صفحات الجرائد والمجلات، وليس هناك رد فعل، وينبغي أن تصان عقائد الناس، ولا يسمح لهؤلاء أن يتكلموا إلا بشهادة تخصص، لماذا يتكلم الكل في دين الله عز وجل، ولا يحترمون أهل التخصص؟ العلماء هم الذين يقولون: هذا مستحب هذا واجب هذا مباح هذا مكروه هذا حرام هذا حقهم وملكهم، ومع ذلك يريدون أن ينتزع هذا الحق منهم، ويقولون: الحق هذا يذهب للأطباء، مع العلم أن الطبيب لا يجوز له أن يقول: هذا حرامٌ شرعاً أو هذا حلالٌ شرعاً، لا يجوز له ذلك. الختان فيه أحاديث، وطالب الأزهر من يوم أن أنشئ وهو يقرأ في كتاب الطهارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ختان الرجل وختان المرأة. وفي صحيح البخاري: (اختتن إبراهيم بالقدوم لما بلغ ثمانين عاماً) ونحن مطالبون بملة إبراهيم، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فملة إبراهيم تلزم المؤمنين جميعاً رجالاً ونساءً، فإذا كان إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم، فهذا فيه مشروعية الختان للرجال والنساء معاً، إذ الأدلة تعم الرجال والنساء، ولا يقال: هذا للرجال دون النساء إلا بدليل، كأن يقال: ثبت الدليل أن النساء لا يشرع في حقهن الختان. فلما نقلوا هذا إلى غير أهل التخصص أغرى ذلك الجهلة بخطوة أخرى مما جعل امرأة قد بلغت من العمر سبعين سنة، تقول في مقال لها: وبعد أن كسبنا الجولة الأولى في استصدار قانون بتحريم ختان النساء، فأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال. ليس عندها حياء، حتى لو كان لها وجه، ليس عندها حياء حيث تقول: أطالب بمنع ختان الرجال، ومن ثم تتكلم أن هذا أصلاً يؤثر على المسألة الجنسية! امرأة بلغت من العمر سبعين سنة، ما هذا الهوان الذي بلغناه؟! هذا معناه أنها ترتفع على كل رجل يحمل العلم الشرعي في هذا البلد، ومع ذلك لم تعاقب المرأة، ولا قيل لها: لقد تعديت الحدود، كيف تطالبين بمنع ختان الرجال، ولم يرد عليها المهتمون بالشريعة، بل أول من رد عليها الأطباء، لأنهم يعتقدون أن هذا من تخصصهم، مع أنه من خصائص أهل الشريعة بالدرجة الأولى. إن عمل وفعل هؤلاء الملبسة أغرى كثيراً من الجهلة في أن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبدءوا يأتون بالأحاديث التي لا يفهمونها، ولا يعرفون وجهها، ويعترضون عليها، وأسهل شيء عندهم هو أن يقول لك: هذا مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام. ولو أتيتهم بكل آية لم يؤمنوا؛ لأنه ليس لديهم منهج علمي يتحاكمون إليه، اعلم أن الأخبار تقوم على الصدق والكذب، فالصادق يقبل خبره، والكاذب يرد خبره، والمتوهم نتوقف في خبره حتى نتأكد أنه محق، هنا الضابط العام لقبول الأخبار، فهؤلاء إذا جاء حديث بسندٍ واحد، هذا الحديث كأن يكن في سنده مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وهذا إسناد كالشمس، مالك بن أنس الإمام العلم، ونافع مولى ابن عمر، وابن عمر صاحب النبي عليه الصل

الاعتراض على أحاديث في الصحيحين والرد عليه

الاعتراض على أحاديث في الصحيحين والرد عليه هذه القصة التي رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد في الصحيحين، من أصح الأسانيد، قال صلى الله عليه وسلم: (جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك، ففقأ موسى عينه، فصعد ملك الموت إلى الله، وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، وقال: اذهب لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مستها يداك سنة. فلما نزل ملك الموت إلى موسى عليه السلام وأخبره بذلك، قال: أي ربِّ! ثم ماذا -بعد هذا العمر الطويل-؟ قال: الموت. قال: فالآن) فيقولون: هذا حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل على كذبه أمور اسمع لتعلم حجم الهجمة الشرسة، وكيف يلعبون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: أولاً: يستبعد هذا من نبيٍ من أولي العزم أن يفقأ عين ملك الموت. ثانياً: أنه صعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فكأن الله لا يعلم ذلك. انظر إلى طريقة الاعتراض! بهذه الطريقة يعترض على كلام الله في الوحي المنزل، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، إذن: هو يعترض على الآية بنفس الطريقة التي اعترض بها على الحديث، يقول: كيف يحملون أثقالاً مع أثقالهم، والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟ كلام الله المنزل يعترض عليه بمثل هذه الطريقة أيضاً، فهلاّ قرءوا كلام أهل العلم في توجيه هذه الأحاديث، وأنه ليس فيها أي معنى منكر؟ فموسى عليه السلام كان جالساً في بيته، فإذا به يرى رجلاً داخل البيت من أين دخل؟ لم يطرق باباً، والنوافذ مغلقة، وإذا بهذا الرجل يقول: أجب ربك. يعني: سلم روحك، هذا معنى الكلام، يعني يريد أن يقتله، يريد أن ينتزع روحه، فدفع الصائل مشروع، أي رجل يدخل عليك ويريد أن يقتلك فقاومه حتى لو أدى ذلك إلى قتله. وموسى عليه السلام فعل بهذا الرجل هذا الفعل لكونه دخل البيت بدون إذن، كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام من أمره بفقء عين الناظر في بيت غير بيته بغير إذن، وهذا حد شرعي، صعد ملك الموت إلى الله عز وجل وقال: (إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت)، رد الله عينه ثم أرسله مرة ثانية، فقال له: أجب ربك، لماذا لم يفقأ عينه في هذه المرة، وفقأ عينه في المرة الأولى؟ لأن ملك الموت عليه السلام كان يأتي الأنبياء عياناً كما رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح في هذه القصة أيضاً. فلما أراد الله أن يبتلي موسى عليه السلام، نزل ملك الموت هذه المرة بغير صورته التي يعرفها موسى، فلذلك فقأ عينه، فلما رد الله عز وجل عليه عينه ونزل بصورته التي يعرفها موسى لم يفقأ عينه؛ علم أن الأولى كانت اختباراً وامتحاناً،؛ لذلك لم يفقأ عينه هذا جواب. الجواب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يقبض نبيٌ حتى يخير)، يخيره الله عز وجل بين الدنيا وبين الآخرة، كما رواه أبو سعيد الخدري في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يوماً فقال: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الحياة الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله. قال: فتعجبنا لهذا الشيخ لِمَ يبكي؟ وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير) خيره الله بين ما عنده وبين زهرة الحياة الدنيا، فاختار ما عنده. فكل نبيٍ يخير بين أن يلقى الله وبين أن يعيش فهم يختارون لقاء الله، ولذلك في آخر الحديث لما قال: (أي ربِّ! ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن) حينئذٍ خُير أنه يعيش بعدد سنوات شعر العجل، أو أنه يلقى الله، فلما خُير وعلم أن ذلك من عند الله اختار ما عند الله، فلما نزل عليه ملك الموت بغير صورته المعهودة وقال: أجب ربك -يعني: سلم روحك- ولم يسبق أن نزلت علامة، أو علم موسى أن هناك علامة، فظن أنه مفترٍ فعاقبه بفقء عينه، ولذلك لم يفقأ عينه في المرة الثانية. ثم يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت، وهذا خطأ، بل الصالحون يكرهون الموت، وفي هذا يروي الشيخان حديثاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) ومعروف أن لفظة (كل) من ألفاظ العموم، بل من أقوى ألفاظ العموم. فهاهي عائشة رضي الله عنها تتحدث عن الكل: (كلنا يكره الموت) فلم يقل لها: لا يا عائشة، ليس كل الناس يكرهون الموت، بل الصالحون يحبون الموت، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التعقيب عليها في هذا، وترك البيان؛ دل على أنه إقرار منه لها. وأن كل الناس يكرهون الموت، ولكن قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الأمر كما تذهبين إليه -أي: من الفهم- إن العبد الصالح إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له من الكرامة؛ فأحب لقاء الله؛ فأحب الله لقاءه. وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبارٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة رأى ما أعد الله له؛ فكره لقاء الله؛ فكره الله لقاءه). فأي معنى منكر -يا عباد الله- في هذا الحديث حتى يقال: هذا كذبٌ على النبي عليه الصلاة والسلام، ويتجرأ على الدعوى أن صحيح البخاري فيه أربعمائة حديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام.

الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليه

الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه والرد عليه لقد صنف رجل كتاباً وسماه: الأضواء القرآنية لاكتساح ما في البخاري من الإسرائيليات، ويطبع في المطابع، ويباع على الأرصفة، وكأن هذه البلاد لا يوجد فيها عالم، ويطبع الكتاب أكثر من طبعة، بل إن كتاب: أضواء على السنة المحمدية، لرجلٍ أزهريٍ فاسد، فصله علماء الأزهر آنذاك من الجماعة الأزهرية، ألف كتاب: أضواء على السنة المحمدية، يتهم أبا هريرة بالكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، ويطبع هذا الكتاب في أكبر دار طبع رسمية في البلد، وهي دار المعارف، ويمر هذا ويباع، ويطبع حتى إلى الآن! فلم يكذب أبو هريرة حافظ الصحابة؟! وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اللهم حبب أبا هريرة وأمه إلى عبادك، قال أبو هريرة: فلا يسمع بي يهودي ولا نصراني إلا أحبني) عملاً بهذه البشارة، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة حافظ الصحابة، ما طعن واحدٌ قط في صدقه يوماً ما. فلم يتكلم عن الصحابة بهذا الهراء؟! وتطبع الكتب في الطعن فيهم، وعدم رد العلماء الرسميين عليهم جناية كبيرة، من الذي يحفظ على الناس عقائدهم؟ لقد بدأ الشك يتسلل إلى الذين لا يعلمون شيئاً. جلست مع بعض الناس وتكلمت معه في هذه المسألة، فقال لي: يا أخي لا يضر السحاب نبح الكلاب. ومثل هذا كثير. كنت أتخيل كل شيء إلا شيئاً واحداً، لم أتخيله قط، وهو أن يخرج من بين أظهرنا رجل يدعي النبوة فيجد له أتباعاً، ممكن أن نصدق أي شيء إلا هذه، يخرج رجل من بين أظهرنا يقول: أنا رسول الله، والرسالة لم تختم، ويجد له أتباعاً! إذاً فكثير من الناس مستعد لقبول الباطل الظاهر، وحماية عقائد الناس أمر واجب، ولابد أن يقف العلماء للذود عن دينهم، ولا يغترون بقول القائل: (لا يضر السحاب نبح الكلاب)، وقول الآخر: يا أخي! صحيح البخاري في السماء، فلا يضر أن يأتي جاهل يتكلم على صحيح البخاري دعه يفضفض هذا هو تعبيره. فلم يتكلم عن صحيح البخاري، ويشكك فيه، ويدعي أن البخاري يروي المكذوبات، فكلما سمع حديثاً قال: وما يدريني لعله مكذوب؟ حتى يأتي ذلك على جميع السنة، فيصبح الناس وليس في أيديهم من البيان الذي امتن الله عز وجل به على المسلمين، حيث يقول سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فإذا جاز أن يلعب بالسنة، وما جاء فيها من البيان والتوضيح؛ فإن الإجمال لا يكفي أحداً، إنكار السنة من حيث التفصيل، وإثباتها من حيث الجملة؛ بدعة قديمة بدأت تطل برأسها الآن.

الاهتمام بطلاب العلم واجب شرعي

الاهتمام بطلاب العلم واجب شرعي إن مما على عموم الأمة أن تفرغ طلاب العلم، فلا ينفقون أوقاتهم في طلب المعاش، بل يتفرغون لإتقان العلم وأصوله؛ من أجل الذود عن هذا الدين، هذا واجب على العوام. أنت أيها التاجر الغني! لا تعرف شيئاً عن الأصول، ولا تستطيع أن ترد عن دينك، اكفل طالب علم، كان طلاب العلم قديماً تكفلهم الدولة، ولهم أعطيات، لذلك كثر العلماء وطلاب العلم في ديار المسلمين، فمع كثرة العلماء لا يستطيع المبتدعة أن يطلوا برءوسهم على السنة ولا يتكلموا فيها. الآن كثير ممن يشار إليهم بالبنان يصعدون المنابر، فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون، نصف الأحاديث التي يحفظونها لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا رجل محب لله ولرسوله إن شاء الله، ونحسبه محباً لله ورسوله، ومع ذلك يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، فيرحم الله زماناً سمع فيه شعبة بن الحجاج رجلاً يروي حديثاً منكراً، فقال له: لتنتهين عنه أو لاستعدين عليك السلطان، وكأنه لم ينته فذهب إلى أمير المؤمنين ويقول: إن رجلاً يروي حديثاً منكراً، فيعاقب بالحبس، أو يعاقب بالمنع من التحديث، فيرحم الله ذلك الزمان. إن إيجاد العلماء مهمة الأمة جمعاء، فرِّغ نفسك لطلب العلم، فإن لم تستطع أنت فتعاون مع آخرين في كفالة طالب علم. إننا مقبلون على خطبٍ عظيم، كل يوم يطل برأسه، ونحن نخاف على العوام مما يكتب في الجرائد والمجلات من طعن في الدين، وتشكيك في الثوابت. فإن هذا دين يجب المحافظة عليه، والدفاع عنه، فإذا كانت الحكومات تخصص إذا كانوا حرس حدود لمنع دخول (الهروين) و (الكوكايين) فإن الاعتداء على صحيح البخاري أعظم من دخول هذه الأشياء. لما رسم النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الخنزير، ولم يتحرك الناس، لأنه في تلك الفترة كان هناك مفاوضات على الأرض، إن عرض النبي صلى الله عليه وسلم أثمن من الأرض، فلو أخذت أرض المسلمين جميعاً من تحت أرجلهم لكان أخف ألف مرة من أن يسب النبي صلى الله عليه وسلم وفينا عينٌ تطرف. ينبغي أن يظهر هذا المعنى عند الناس، وأن يوالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدفعوا هؤلاء الذين يكذِّبون بسنته بلا مستند ولا برهان. بإيجاد خط الدفاع الأول الذين هم في طبقة الفرسان، ونحن نعلم أن الضحايا سيكثرون في هذه الطبقة، الضحايا والقتلى يكثرون في الصف الأول، لكن نمهد للذين يأتون بعد ذلك، وقد هددنا الله تبارك وتعالى، فقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في مثل هذا الجحود والنكران تضيع الأمانة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الرد على الآراء الشاذة سبب في إشاعتها

الرد على الآراء الشاذة سبب في إشاعتها الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن الأصول التي ما اختلف عليها أحدٌ قط من أهل العلم، ولا من العوام، كثرت اليوم الآراء التافهة التي تتناولها، فكثر الكلام في الدين، والطعن فيه، أَوَ كلما قال رجلٌ رأياً تافهاً رددنا عليه؟ كان ينبغي أن لا يرد عليه حتى يموت قوله، لكن المشكلة أنه كلما قال رجل قولاً تافهاً قامت الصحافة والجرائد وأشاعوا هذا القول، وبعد ذلك يقولون: نريد من أن أهل العلم أن يردوا عليها، نريد من أهل العلم أن يقولوا قولهم في الموضوع، مع أنه قول تافه، ليس له قيمة، وما ينبغي أن يلتفت إليه، مثل ذلك الرجل الذي يقول: إن القرآن لم يحدد أن يوم عرفة هو يوم تسعة من ذي الحجة، وأن الله عز وجل قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] أشهر الحج: شوال، وذو العقدة، وعشرُ ذي الحجة، أي: سبعون يوماً، أو أقل بيومين تقريباً، على حسب الرؤية. إذن بدل من أن يتزاحم خمسة أو أربعة ملايين يقتل بعضهم بعضاً عند الجمرات، أو في طواف الإفاضة، أو طواف الوداع، أو في النفرة من عرفات، فبالإمكان أن نقول: في شهر شوال يحج أهل البلاد الفلانية، وفي شهر ذي القعدة يحج أهل البلاد الفلانية، وفي شهر ذي الحجة يحج أصحاب البلاد الفلانية، وبهذا نتغلب على مسألة الزحام، فبالتالي الذين سيحجون من واحد شوال إلى عشرة شوال يكون يوم عرفة بالنسبة لهم تسعة شوال، ويوم العيد عشرة شوال، وبهذا يكون هناك أكثر من يوم عرفة، وهناك أكثر من يوم نحر! كل هذا لنتغلب على مشكلة الزحام في الحج، مثلما حصل في تونس سنة (1964م) حيث صدر قرار -لكن لم يعمل به- بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد، هي اسمها: صلاة الجمعة، من أجل يوم الجمعة فهذا قال لك: لا، إن يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية، فنجعل الصلاة فيه؛ لأن يوم الجمعة يذهب الناس لصلاة الجمعة فيتعطلون عن الإنتاج ساعة! فلم يقول هذا الكلام؟ يقول: إن القرآن لم يقل لنا: إن يوم عرفة يوم تسعة ذي الحجة، وأن يوم العيد كان يوم عشرة، لم يرد هذا في القرآن، وإنما جاء في السنة وفيها أحاديث مكذوبة كثيرة؛ فهذا لعله من المكذوب، فنحن نعرض -بدل ما نختلف هل هو صحيح أو ضعيف؟! - عن الكلام هذا، وننظر إلى مصلحتنا! هناك شخص اقترح اقتراحاً وهو: أن بدل الزحام الذي يكون حول الكعبة نقوم بإيجاد آلة سريعة يركب الناس عليها بذلك يكونون قد طافوا الأشواط السبعة في دقيقة واحدة، ويكون الجماعة الذين يركبون آلة السير قد طافوا طواف الإفاضة، وطافوا طواف الوداع، أو طواف القدوم، أو طواف العمرة في لحظات، وينزلون ويأتي غيرهم وانتهى الأمر! الآن هذا الكلام نحن نستخف به، لكن قد يصدر فيه قرار فيما بعد، مثلما نسمع بأن هناك دعوى بتدويل الحرمين، يعني: لا تكون الدولة السعودية هي التي تتحكم فيه، وإنما كل دولة تتحكم في الحرمين سنة، وهكذا. وكل كلام قد يقال هزلاً في يومٍ من الأيام، ربما يصير حقيقة مع انتشار الجهل وغياب العلماء الربانيين، قبل عشرين سنة قرأت عن الدولة البترولية الجديدة، وصار هذا الآن مشروعاً يريدون تحقيقه، وإن لم يستيقظ المسلمون ربما تحقق. ما هي الدولة البترولية الجديدة؟ قال لك: هي عبارة عن دائرة تشمل المنطقة الشرقية السعودية، وجزء من العراق، وجزء من الإمارات، وجزء من الكويت وهي عبارة عن الدائرة التي يوجد فيها البترول، فليس معنى أن (البترول) في أرضك أنك تتحكم في الناس لا، وإنما النظام العالمي الجديد سيهيمن على هذه البقعة ويجعلها دولة حيادية، يقول لك: الدولة البترولية هذه ليست خاضعة لأحد، هذه حق للعالم، وأنا أبوكم (أي أمريكا) فأنا الذي أوزع عليكم التركات، إذا كنت محتاجاً لبرميل نعطيك برميلاً، تحتاج برميلين نعطيك برميلين، وانتهى الأمر، لكن ليس معنى أن (البترول) في أرضك يكون ملكك! الكلام هذا منذ عشرين سنة وهو مكتوب، وبعد حرب الخليج بدأ يطرح نفسه بقوة، أنه لابد من التحكم في مصادر الطاقة في العالم؛ لأنها ليست ملكاً لمن هي في أرضه. هذا كان رأياً ربما قرأه قارئون في ذلك الزمان، فتمططوا ومطوا شفاههم استهزاءً، فأي رأي خطير ربما -مع غلبة الجهل واستدارة الزمان- يكون حقيقة. الآن يقول: يوم عرفة لم يرد في القرآن أنه يوم تسعة، إذاً نقول له: فأين السنة العملية التي أجمع أهل العلم عليها، بل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وبدأ الحج في يوم ثمانية، وختمه في يوم ثلاثة عشر؟! فلا يحل لأحدٍ أن يقول: إن الحج يبدأ يوم سبعة، ولا يوم ستة، ولا يوم تسعة، بل هو كما وقَّته رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان يخطر ببال أحدٍ أن يقول رجل مثل هذا الكلام؟! حسن رجل قال هذا الرأي الخطير، وصار يطرح كقضية للمناقشة، ثم يقال لعلماء الدين: ردوا عليه، فيشغلون العلماء بأمور مقطوع بها ومستقرة، متى يصل الإنسان إلى الغاية، إذا كان كلما نادى عليه منادٍ في الطريق وقف له ورد عليه فمتى يصل؟! يا إخوان! لقد بدأت الأصول ينظر إليها ويشكك فيها، الذي لم يكن يخطر على بال أحد في يوم من الأيام أن يناقش فيها، بدأنا نتناقش فيها، وفي هذا حيدة ولفت لأهل العلم عن القضايا الخطيرة التي ينبغي أن يعلموها الجماهير، وإشغالهم بهذه المناقشات التي لا طائل تحتها، كونها معروفة عند الجميع. إن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كثيرة، وهذه الخطبة مقدمة لسلسلةٍ هي: (حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته) ما هو هذا الحق، وما الذي ينبغي أن يفعله المسلم تجاه النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا وإياكم على تحقيق الشهادة، وأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر التلقي بالنسبة لنا نحن المسلمين. قال ابن مسعود: كنا ضلالاً فجاءنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلمنا أننا لا نستقل بمعرفة مراد الله تبارك وتعالى إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، كان الصحابة أزكى الناس، وكانوا أفهم الناس للمعاني والألفاظ، ومع ذلك (لما نزل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] شق ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس كما تفهمون، ألم يقل العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟ فهذا هو الظلم). قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، العرب فهموا الآية على مقتضى أساليب العرب، إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فالنكرة كلمة: (ظلم) - (نكرة) يعني: غير محلاة بالألف واللام- وأيضاً هذه النكرة منفية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ)) (لم) هذه نافية، هذه النكرة منفية تفيد العموم، يعني: أي ظلم مهما دق ومهما كان صغيراً، يؤاخذ المرء به فهذا الذي فهمه الصحابة. لذلك جاءوا وقالوا: (أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟) فصحح لهم النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله عز وجل، حين قال: (ألم يقل العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])؟ فهذا هو الظلم المقصود من الآية، فنحن لا نعرف مراد الله عز وجل، ولا ما يحبه الله، ولا ما يبغضه، إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

حق النبي على أمته [2]

حق النبي على أمته [2] من المعلوم أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض، وأنها أحد أركان الإيمان والإسلام، وله صلى الله عليه وسلم على أمته حقوق، منها: أن لا تضع في مقابله أحداً ولا تقدم قول أحد على قوله، وأن تجعل محبته صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة النفس والأهل والولد. والعلماء رحمهم الله تعالى قد ألفوا الكتب في شمائله وأخلاقه وأوصافه صلى الله عليه وسلم. فبدراستها وقراءتها نزداد محبة وموالاة وتأسياً به صلى الله عليه وسلم.

طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الأمة

طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الأمة إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. إن من المستقر عند المؤمنين جميعاً أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فرض، وأنها أحد أركان الإيمان والإسلام، قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإسلام: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) وبقية الأركان مبنية على هذه الشهادة، فالشهادة هي القاعدة، فلا تقبل صلاةٌ ولا زكاةٌ ولا صيامٌ ولا حجٌ ولا سائر الطاعات إلا بعد أن يسلِّم المرء بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. معنى: أن محمداً رسول الله أي: لا متبوع بحقٍ سواه، كما أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، فلا متبوع بحقٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شريك لله في العبادة، ولا شريك للنبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع، واتباعنا للعلماء إنما هو من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإليها المرد في النهاية، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر الذي يوزن عليه كل أحد.

عدم وضع أي مخلوق مقابل النبي صلى الله عليه وسلم

عدم وضع أي مخلوق مقابل النبي صلى الله عليه وسلم إن أول حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: أن لا يوضع في مقابله أحد، إذ لا يزنه أحد أصلاً، إذاً لا يوضع في مقابله أي إنسان كائناً من كان. هذا ابن عباس أتاه جماعةٌ فجادلوه في متعة الحج، وكان ابن عباس يفتي بوجوب التمتع، فقال له القائلون: إن أبا بكر وعمر كانا لا يريان ذلك، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: أبو بكر وعمر؟!) يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ترجمون بها؛ وذلك لمجرد أنهم رأوا رأياً لأفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأزكاهم باتفاق الأمة، ومع ذلك يستعظم ابن عباس أن يوضع أحد في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، هذا أول حقه علينا. في مجادلات الناس مع الشباب والشابات وهم في طريق الالتزام، تجد كثيراً من الناس إذا أراد الشباب أن يعفي لحيته، وأن يحضر في حلقات العلم الشرعي، وأن يترك التعامل مع البنوك الربوية، وينتقدها فإنهم يقفون أمامه بالمرصاد ولكن دون جدوى، فالشاب ماض بعزيمة، وأيضاً الفتاة التي تريد أن تلبس الحجاب ماضية بعزيمة. وفي الأخير: إذا لم يذعن الفتى أو الفتاة لما يريدون، يقولون له: أنت ليس لك كبير. ليس لك كبير أي: قدوة. أقول: لا والله، هذا له كبير ولا أكبر منه في سائر المخلوقات، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أنتم ليس لكم كبير؛ لأنكم خالفتم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ترجعوا إليه، وطاعته واجبة، ومخالفته تساوي ناراً وعذاباً، فمخالفته ليست بالأمر الهين. فأول شيء عليك أن لا تضع أحداً في مقابله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يزنه أحد.

من لوازم تعظيمه صلى الله عليه وسلم محبته

من لوازم تعظيمه صلى الله عليه وسلم محبته اعلم يا أخي! أن هذا الحق إنما ينبني على شيءٍ ضروري، وهو: أن تحبه؛ فإن أحببته حققت هذا الحق الذي له صلى الله عليه وسلم. روى البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله! والله لأنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر -مباشرة بلا تردد-: الآن يا رسول الله، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي) الحب هنا ليس حب الطبع، إنما هو حب الاختيار، فإن المرء قد يطبع على حب ولده حتى يموت بسبب حبه، لو أصاب الولد شيئاً فإن الأب يتألم على ولده. روى ابن أبي الدنيا في كتاب: العيال: أن سفيان الثوري سئل لما مات ولده محمد، وكان ولده الوحيد، وكان سفيان الثوري كلما رآه يقول: يا بني! لو مت قبلي لاحتسبتك، وكان يحبه حباً شديداً فلما مات ولده محمد، سئل: ماذا فعلت يوم مات محمد؟ قال: بلتُ دماً. بال دماً من الحزن على ولده. لا سبيل إلى تغيير الطباع فمن المكن أن يحب إنسان إنساناً آخر إلى درجة الهلكة، ويغلب على حبه، مثل حب الوالد لابنه، وحب الطبع لا يحتاج إلى توصية، ولذلك أوصى الله الأبناء بالآباء وليس العكس قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] وقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:151] وقال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال جل شأنه: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] وقال عز من قائل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، ولم يوص ربنا تبارك وتعالى الوالد بولده إلا في موضع واحد، قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]؛ لأن الوالد مطبوع على حب الولد، ومغلوب عليه، فمثل هذا الحب المطبوع عليه صاحبه لا يقال له: أحب ولدك. ولذلك ترى الأب عندما يمرض ولده، يذهب ويبحث في أرجاء الأرض عن طبيبٍ يرفع هذه العلة عن ولده بإذن الله، وينفق ماله كله، ويذهب إلى أبعد مكانٍ في الأرض، ثم يموت الولد ويفلس أبوه! لا يندم الوالد على هذا الإفلاس أبداً، ولا يقول: يا ليتني سمعت كلام الأطباء عندما قالوا لي: لا تتعب نفسك، لا أمل. الطبيب يقول له: لا أمل، وهو يقول: الكلمة الأخيرة لله، أنا سأسعى. ويسعى بجد ونشاط، فكما قلت لكم: بعدما يموت الولد يكون هو قد أفلس، ومع ذلك لا يندم أبداً أنه أنفق كل ما يملك على ولده، برغم أنه قد سمع كلام الأطباء أنه لا فائدة. بالمقابل انظر إلى حال الولد مع أبيه المريض الذي طالت علته، والولد ينفق على أبيه من مال أبيه وليس من ماله، ويطوف به على الأطباء، فيقابله صاحب له: ماذا فعل أبوك؟ يقول: ربنا يريحه لماذا؟ لماذا قلت هذه الكلمة؟! إذا كانت كلمة بكلمة قل: الله يشفيه، قل: الله يعافيه، قل لصاحبك: ادع لأبي بالشفاء؛ بالعكس إنما قال: الله يريحه، هو يريد أن يقول: الله يريحني منه، لكنه يستحيي أن يقول ما في دخيلة نفسه. فانظر إلى هذا التباين، ما بين حب الطبع وحب الاختيار! الولد يحب أباه حب اختيار، والوالد يحب ابنه حب طبع؛ لذلك يكون حب الاختيار أعلى في الميزان من حب الطبع؛ لأن معنى الاختيار أنك تتجاوز هواك، يعني: أن هناك مطاوعة بينك وبين هواك؛ لأن هذا حب اختيار. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -يبين لنا التباين ما بين الحقَّين-: (لا يجزي ولدٌ والده) مهما فعل الولد، وتخيل كل شيء يمكن أن تفعله لأجل أبيك، فإنك لا تجزيه أبداً إلا في حالةٍ واحدة، إذا فعلتها وهي أن تجد أباك مملوكاً فتشتريه وتعتقه، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه)، في هذه الحالة الوحيدة التي يستوفي الوالد حقَّه من ولده. إذاً حب الاختيار أمامه عقبات وهي: وقوف الهوى، والنفس، وقرناء السوء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: (أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. قال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك) ليس هذا هو حب الطبع لا، إنما هو حب الاختيار، ولذلك بادر عمر مباشرةً، وأعلن أن حب النبي صلى الله عليه وسلم أولى من حب نفسه. إذاً معنى الحديث: كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عمر! إنك لا تكون صادقاً في حبك لي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو كان فيه تلف نفسك هذا معنى الحديث: لا تصدق في حبي إلا إذا آثرت رضاي على هواك، ولو أدى اتباعي إلى هلاك نفسك.

التزام أمره صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته

التزام أمره صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: كل شيءٍ أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في القرآن، وقد ورد هذا في القرآن صريحاً كما في سورة النساء، فأغلبه يدور على هذا المعنى، الذي هو من أول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69] فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فذكر الفعل مع لفظ الجلالة، وذكر الفعل مع الرسول، وأخلاه من أولي الأمر، ولم يقل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر)، فدلنا ذلك على أن طاعته تبارك وتعالى واجبة، وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة، وطاعة أولي الأمر خاضعة وتابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، فأوجب علينا تبارك وتعالى هذه الطاعة. ثم قال بعد ذلك: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]. يعني: لو أن الله عز وجل كتب عليك أن اقتل نفسك، فلا ينبغي لك أن تتردد، أو اخرج من دارك، فلا ينبغي لك أن تتردد، لو فعلت ما توعظ به لكان خيراً لك، حسن ما هو هذا الخير؟ ختمت هذه الفقرة بالبشارة وبالأجر، أن من أطاع الله ورسوله ولو أدت هذه الطاعة إلى هلاك نفسه، وإلى خروجه من ماله، وخروجه من داره، فهذا الرجل قال فيه الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70]. فهذا هو الأجر، والتكاليف الشرعية في جملتها طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الصحيح الذي رواه جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ يحتجون على الله يوم القيامة: الشيخ الهرم الذي جاء الإسلام ولا يعقل، يقول: يا رب! جاء نبيك ولا أدري شيئاً، والمجنون، والصغير -فهؤلاء يحتجون على الله، يعني: لو كنا عقلاء وجاءنا الرسول لآمنا- فيقول الله عز وجل: ألئن أرسلت إليكم رسولاً تؤمنون به؟ قالوا: أجل. فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار)، إذاً فجملة التكاليف الشرعية لهؤلاء هي امتثالهم لأمر ربهم بدخول النار. إن الحرب الضروس على الملتزمين المتدينين لشيء عجيب!! قال الأولون: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أهي جريمة أن أتطهر؟! مثال واقعي: شاب كان يغازل البنات أو كان في عصابة إجرامية، لا يصلي، فأول ما بدأ يلتزم وأعفى لحيته وواظب على حضور صلاة الجماعة في المسجد، وترك الربا، فبدلاً من أن يفرحوا بتوبته والتزامه، إذا بهم يشعلون الحرب ضده لماذا؟ بأي عقل؟ وفتاة منتقبة تقوم عليها الحرب، وتقوم عليها الأسرة الواسعة الطويلة العريضة، ويجبرونها على خلع نقابها لماذا؟! فهذا الملتزم يعاني من البلاء بسبب التزامه بدين الله، وقد يضحي برقبته في سبيل الله، وقد يسجن ولا يخرج إلا محمولاً على الأعناق، وقد يسجن ويخرج وهو مصاب بأمراض، ومعه عاهات، ومع ذلك هو ثابتٌ على الطريق، كل هذا لو جمعته لساوى النار؛ نار الابتلاء التي ابتلى الله بها أولئك المحتجين عليه بالصغر وبالجنون وبالكبر الذي لا يعقل صاحبه شيئاً. يقول عليه الصلاة والسلام: (فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، فمن أبى أن يدخلها سحب إليها، ومن دخلها وجدها برداً وسلاماً)، يعني: هذا الذي أبى الدخول في النار لو عاش، وكان سليم الأعضاء وجاءه نبي لعارضه، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. فحب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، المقصود به حب الاختيار، الذي يمليه العقل والإيمان.

السبيل إلى محبته صلى الله عليه وسلم

السبيل إلى محبته صلى الله عليه وسلم إذاً: أنت لا تستطيع أن تطيع النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا أحببته، فما هو السبيل إلى حبه؟ كيف تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

النظر في وصفه صلى الله عليه وسلم يوصل إلى محبته

النظر في وصفه صلى الله عليه وسلم يوصل إلى محبته إننا إذا وفقنا في الإجابة عن هذا السؤال، فالنظر في وصفه صلى الله عليه وسلم حتى يكون رأي عين يعيننا على استيفاء هذا الحق، وإنما يحسن تصور المرء بقدر ما يعطي قلبه وأذنه للكلام؛ فإنه إذا أعطى أذنه وقلبه عاين، أو كان قريباً من المعاينة، والفرق ما بين المعاينة والسماع المجرد كالفرق بين السماء والأرض. قال القائل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غايةٍ ما بعدها لي مطلب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب هذا هو الفرق بين إنسان يتعلق بمعنى من معاني المحبة، ولكنه عند مشاهدة من يحبه يعلم أنه كان يلعب، أي: لعظمه ومكانته وحسنه وأنه لم يقدره حق قدره. إنما يُحب المرء لصفاته وشمائله، فكلما كان أقرب إلى الكمال، كان ينبغي أن يكون هذا الإنسان أوفى في مسألة المحبة له.

التفكر في صفات الله تعالى يوصل إلى محبته سبحانه

التفكر في صفات الله تعالى يوصل إلى محبته سبحانه وأنت إذا تأملت في صفات الله تبارك وتعالى، وأمعنت النظر فيها؛ غُلبت على حبه، لأجل هذا نتمنى إذا طرح باب الأسماء والصفات على الناس أن لا يطرح بالطريقة الأكاديمية الموجودة في الكتب، إنما نريد أن نحبب الخلق في الله، نريد من الخلق أن يحبوا الله، وأوسع هذه الأبواب باب الأسماء والصفات. وأنت تقرأ القرآن تأمل خواتيم الآيات، وتأمل أسماء الله وصفاته مع سياق الآيات، إن كنت ذكياً وعاقلاً بحثت في هذا الكون عن مقتضى لكل اسمٍ من هذه الأسماء. فمثلاً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] عندما تنظر وتتأمل صفة الإحياء المشتملة على الرحمة في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5] أرجو أن تعطيني سمعك؛ لأن الآيات لها سياق {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] ثم قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. انظر إلى هذا الربط ما بين خلق الإنسان وما بين الأرض؛ إنما يتكون المرء جنيناً في بطن أمه، والنساء هن الأرض التي تبذر فيها النطفة، فتخيل امرأةً لا تنجب، وطافت على الأطباء وقالوا لها: لا أمل. تستطيع أن تصف حالتها بأنها ذابلة، وحزينة، ولا أمل لها. قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] (هامدة) أي: خاشعة، وأظهر علامات الخشوع: الذل والانكسار. (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ) فمثل المرأة كمثل الأرض، فإذا ذهبت المرأة إلى طبيب وقال: مبروك، أنتِ حامل، اهتزت وربت، وربربت، وتورد وجهها، وصار لها في الدنيا أمل، فإذا تأملت هذا في الناس وفي الأرض علمت معنى المحيي، وبان لك هذا الاسم، هو صحيح موجود في القرآن، لكن إذا ربطته بالواقع زاد إيمانك، إذاً هناك علاقة ما بين نمو الإنسان في بطن المرأة وما بين الأرض، فالمرأة مثل الأرض، كما قالت امرأة أبي حمزة لما هجرها؛ لأنها لا تلد الذكور قالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا غضبان أن لا نلد البنيينا والله ما ذلك في أيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا أي: نحن نخرج ما قد يبذر فينا ولذلك لا عهدة على المرأة في مسألة الذكور والإناث، رجل متزوج امرأة لا تنجب إلا البنات باستمرار، فيذهب الرجل ويتزوج بأخرى لكي تلد أولاداً ذكوراً، فالمرأة ليس لها دخل بمسألة الإنجاب سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً. فانظر إلى آثار الله عز وجل في هذا الكون، واربطه بأي اسم من الأسماء والصفات ومثل اسم (الوكيل) عندما يظلمك إنسان تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، وترى المظلوم يذهب إلى القسم ويشتكي ممن ظلمه، ومع ذلك يفتري عليه، مع أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل، إذاً هذا الإنسان لم يفهم معنى (الوكيل) وإلا لما ذهب وعمل تقريراً مكذوباً، إذاً ما معنى الوكيل أو الكفيل؟ لا يكون الوكيل وكيلاً حتى يحفظ، ولا يكون كفيلاً حتى يحفظ، فإذا لم يحفظ لم يكن لا كفيلاً ولا وكيلاً. وإليك قصة الخشبة التي رواها البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسلف رجل من رجلٍ ألف دينار، فقال الرجل: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً، قال: ائتني بوكيل. قال: كفى بالله وكيلاً. قال: ائتني بشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، قال صدقت، وأعطاه الألف دينار على أجل) بعد ما انتهت المدة المضروبة أراد الرجل أن يوفي دينه إلى صاحبه، وكان بينهما بحراً وهاجت الريح وانقطعت حركة الملاحة، وحيل بينهما. الرجل صاحب المال منتظر على الشاطئ الآخر، والرجل المدين على الشاطئ الثاني، فلما يئس المدين أن يجد مركباً أتى بخشبةٍ فنقرها، ثم رفع بصره إلى السماء، فقال: (ربِّ! إنك تعلم أنني جئت فلاناً فقلت: أسلفني ألف دينار. قال: ائتني بشهيد، قلت: كفى بالله شهيداً. فرضي بك، قال: ائتني بكفيل، قلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك. قال: ائتني بوكيل، قلت: كفى بالله وكيلاً، فرضي بك، وأني استحفظك هذه الخشبة) -ووضع الألف الدينار في الخشبة وسمر عليها، وقذف بها في البحر. ما معنى خشبة في بحرٍ لجي، الأمواج فيه كالجبال، أليس من السهل أن تبتلع هذه الخشبة وتذهب؟ لكن الله وكيل، أي: حفيظ، كفى بالله كفيلاً، ولذلك البخاري افتتح كتاب الكفالة بهذا الحديث، ليقول لك: لا يكون كفيلاً إلا من يكون حفيظاً، فإذا ضيع لا يكون كفيلاً، ولا يكون وكيلاً. فلما رمى بالخشبة في البحر، وذهبت الخشبة وصلت إلى الرجل في الشاطئ الآخر، وجعلت تتأرجح على الموج تروح وتجيء، (فلما يئس الرجل أن يرى مركباً، ونظر إلى الخشبة فقال: آخذها أستدفئ بها أنا وعيالي، فأخذها، فلما ذهب إلى البيت نقرها فإذا صرةٌ تنزل منها، فتح الصرة فإذا بكتاب من صاحبه إليه: إنه قد حيل بيني وبينك، وإني قد استودعت الشهيد والكفيل الخشبة. فأخذ الرجل الخشبة، وعلم أن صاحبه عجز أن يصل إليه)، كل ذلك والرجل يحاول أن يجد مركباً آخر، حتى وجد مركباً (فأخذ ألف دينارٍ أخرى وانطلق إلى صاحبه، فقال: هذا مالك، وإنه لم يمنعني أن آتيك في الموعد إلا أنه حيل بيني وبينك ولم أجد مركباً. فقال له صاحبه: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ فقال الرجل: أقول لك: هذا أول مركب، فقال له -كما في صحيح ابن حبان من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة -: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك)، لا يكون وكيلاً إلا أن يكون حفيظاً. ولذلك كثير من الناس يفهم كفالة اليتامى غلطاً، النبي عليه الصلاة والسلام لما قال للصحابة -كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد -: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) فبعض الناس يتصور أنه عندما يلقي بعشرة جنيه أو عشرين جنيهاً لكفالة اليتيم وكفى يتصور أنه حقق الكفالة وسيأخذ هذا الأجر أبداً. (أنا وكافل اليتيم) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتم بعد احتلام)، فأول ما يبلغ الولد الاحتلام سقط عنه حكم اليتم، وأول ما تبلغ المرأة المحيض لم تعد يتيمة. إذاً قبل الاحتلام وقبل المحيض هو طفل صغير، وصبي صغير، أو طفلة صغيرة، لا يدبر أمر نفسه، هذا الولد ماذا فقد؟ فقد أباه، فلا تأخذ هذا الأجر إلا إذا كنت في موضع الوالد من هذا اليتيم، تذهب إليه، وترعاه، وتتفقد أمره، إذا كان مريضاً تسعى في علاجه، إذا كان في المدرسة تتابع ملفاته… أنت ولي أمره، تنزله بمنزلة الولد. إذا فعلت هذا كنت كافلاً؛ لأن الكفيل بمعنى الحفيظ، وليس من أعطى يتيماً مبلغاً من المال يكون كافلاً له، لا. لكن لا شك أن هذا فيه خير، لكن لا يصل إلى ذلك الفضل أن يكون هو والنبي صلى الله عليه وسلم كهاتين، والحافظ ابن حجر يقول: وإن كان هناك فرقٌ بين الإصبعين لكن ليس بينهما إصبع ثالث، وهذا يدل على المتاخمة، وعلى قرب ما بين هذا الكافل وما بين النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً ظلمك شخص وقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فإياك أن تعمل شيئاً محرماً، كأن تذهب وتفتري عليه، وتعمل تقريراً مكذوباً لماذا؟ لأنك جعلت الله وكيلك، وهذا شرفٌ لك أن يكون الله وكيلك، أنت لا يمكن أن تعطي توكيلاً رسمياً لخائن، أو لشخص تظن انه يمكن أن يبيع أملاكك، لا تعطي عادةً التوكيل إلا لرجلٍ يحفظ لك حقك، سواء كان توكيلاً مؤقتاً أو خاصاً أو عاماً، ولا يتصور أن توكل خائناً أبداً. فمعنى أن تجعل الله وكيلك فإنه سيستوفي لك يقيناً، أكثر من استيفائك لنفسك، فلما تقول: حسبي الله ونعم الوكيل تحقق من معنى اسم (الوكيل) وتأمله، لو تحققت من معناه وملأ قلبك؛ لتركت كل شيءٍ له، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ما الذي حصل لهم؟ قال عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]، فهذا جزاء الوكالة، فأنت لا تحب ربك إلا إذا ربطت ما بين الأسماء والواقع؛ لترى آثار الأسماء الحسنى في حياتك. حدثني بعض الذين كانوا يوصلون أموال الزكاة إلى الفقراء، قال: ذهبت إلى بعض الفقراء في منتصف الليل، وكنا في الشتاء -ومنتصف الليل في الشتاء يعني لا يوجد أحد قط في الشارع- قال: ولما أوصلت الأمانة للفقير حتى لا يراه الناس ولا يراني الناس وأنا أعطيه؛ حفاظاً على شعوره وإحساسه، قال: وأنا راجعٌ إلى بيتي سمعت غطيط نائم، قال: وكانت الدنيا باردة، والجو مطير وفيه رعد وبرق، فلفت نظري هذا الغطيط، ولا يصدر للمرء غطيط إلا إذا كان مستغرقاً في نومه، قال: فتتبعت

وفاؤه صلى الله عليه وسلم

وفاؤه صلى الله عليه وسلم في باب الوفاء مثلاً: إذا استحضرت أن الغدر مر وسيء، ولا تحتمله نفسك؛ عظمت قيمة الوفاء، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، ونحن سنمر على أبوابٍ كثيرة؛ لأن هذه المحاضرات تعينك على محبة النبي عليه الصلاة والسلام وتعلمك كيف تحبه حب الاختيار، بمعنى لا تقدم قول أحدٍ على قوله ولو كان فيه تلف نفسك، ولو لم يكن لك فيه مصلحة ألبتة، لا يدفعك إلى سلوك هذا السبيل الصعب إلا الاختيار الذي دافعه الحب والإيمان. باب الوفاء ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة حتى مع أعدائه، جاء في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: لم أشهد بدراً لا أنا ولا أبي، السبب في ذلك أن المشركين لقوهما مهاجرين إلى المدينة، فقالوا لهما: إلى أين؟ قالا: إلى المدينة. فقالوا لهما: إنكما ستقاتلاننا مع محمد. قالا: بل نحن متوجهان إلى المدينة. قالوا: لا نترككما إلا إذا أعطيتمانا العهد أن لا تقاتلا معه، فأعطوهما العهد على ذلك، ومضيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصا عليه ما جرى، فقال عليه الصلاة والسلام: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) وهم أعداء وهم محاربون لهم، قال: (وفوا لهم عهدهم، ونستعين الله عليهم). أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

معاملته صلى الله عليه وسلم مع أعدائه

معاملته صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وأيضاً روى أبو داود والنسائي وغيرهما، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: (لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أمَّن الناس جميعاً إلا أربعة رجالٍ وامرأتين، قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيط بن قبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح. فأما عبد الله بن خطل فأدركه الناس متعلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، وأما مقيط بن قبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه، وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى البحر وركب سفينة، فهاجت ريحٌ عاصف، فقال صاحب السفينة: أيها الناس! إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، أخلصوا. فقال عكرمة: لإن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله عليَّ إن أنجاني لآتين محمداً صلى الله عليه وسلم، فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء عكرمة فبسط يده للنبي صلى الله وسلم، وأسلم وقبل منه، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، وكان عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد اختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة جاء عثمان بـ عبد الله، -وكما تعلمون كان لـ عثمان حظوة عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحبه ويقربه- ولما جاء عثمان بـ عبد الله قال: يا رسول الله! بايع عبد الله. فرفع إليه بصره وخفضه وسكت، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله. فسكت، قال يا رسول الله! بايع عبد الله، فبايعه بعد الثالثة. ثم التفت إلى أصحابه وقال: أليس منكم رجلٌ رشيد، إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا، أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟! قالوا: يا رسول الله! وما أعلمنا بما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينيك -غمزت لنا غمزة-؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي أن يكون لنبيٍ خائنةٌ الأعين). انظر إلى الوفاء حتى مع الأعداء، أمثله صلى الله عليه وسلم لا يحب حب اختيار؟! أمثله لا يوالى؟! أمثله لا يستعذب المرء العذاب في سبيل نصر دينه؟! استحضر هذا يمدك الله عز وجل بقوةٍ على قوة، لا يغلبك أحد، إننا المستضعفون الآن في الأرض لا شك في ذلك، لكننا على يقين أننا سنغلِب، هذه المسألة مسألة إيمانية محضة، لا يصلح فيها الحساب؛ لأن معنا الملك، وانظر إلى كل طائفةٍ من طوائف المؤمنين قبل ذلك، تراها قلة، لكن مكَّن الله لها.

تفاني الصحابة في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم وعن دعوته

تفاني الصحابة في الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم وعن دعوته في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، حديث هرقل لما أرسل له النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب، وحصل بين هرقل وبين أبي سفيان محاورة بشأن النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فكان من ضمن هذه المحاورة أن قال هرقل لـ أبي سفيان: هل أتباعه الضعفاء أم الأشراف والأغنياء؟ قال: بل الضعفاء. قال: يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون. فقال له هرقل بعد ما تم الأسئلة: لئن كان صدقاً ما تقول ليملكن موضع قدميَّ هاتين. من الذي معه؟ مستضعفون عضهم الفقر بنابه، وتأمل هذا الاستضعاف في يوم بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر صحابياً خرجوا لأخذ تجارة قريش ولم يخرجوا للحرب، أفلت أبو سفيان بالعير وأرسل إلى قريشٍ: لا عليكم فقد نجوت بالعير، لكن تعست أمةٌ على رأسها أبو جهل! فقال أبو جهل: لا، بل لابد أن نخرج، فننزل بدراً، وتغنينا القيان، ونشرب، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً. وخرج مع ألف رجل، كانوا يذبحون عشراً من الجمال في اليوم الواحد ليأكلوها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتسم مع أصحابه التمرات، ولما فرضت عليهم المعركة فرضاً، وهم ما خرجوا لقتال أصلاً، وإنما خرجوا لأخذ العير، لكن لم يكن أمامهم إلا القتال، ولابد أن يقاتلوا. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، ثم رفع يديه إلى ربه، وبالغ في رفع يديه والتذلل إليه، حتى سقط برده عن منكبه، وهو يقول: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم عالة فاحملهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد أبداً) هذا هو وضعهم، ودارت رحى الحرب، وكان الظفر للمؤمنين لسبب واضح وبسيط: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12] من الذي يغلب إذا انحاز إليه الملك؟ من الذي يغلبه؟ في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على طائفة من أصحابه وهم يتناضلون بالسهام، فقال: (ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، فالجماعة الآخرين وضعوا النبال وقعدوا، قال: ما لكم؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟! -يعني: ما نستطيع أن نرمي، ولا نغلب وأنت معهم- قال: ارموا وأنا معكم جميعاً). لا يغلب أبداً طرفٌ يؤيده الملك، إننا مستضعفون نعم، لكن سنغلب، والله العظيم! سنغلب بإذن الله، مع أننا ضعاف، ولا نملك الشوكة، لكننا سنغلب، لكن المسألة تحتاج إلى انحيازٍ كامل لله ورسوله؛ حتى تضمن ولاء الملك لك، أن تنحاز بكليتك إلى الله، إنما هذا التردد عندما تجد الواحد منا يفعل طاعة ثم تراه يترك الطاعة بمنتهى السهولة، أللامبالاة موجودة عنده، فمثل هذا لا يَغلب أبداً. النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوتنا في كل باب من أبواب الخير، تجده متقدماً على الخلق جميعاً، أمثله صلى الله عليه وسلم لا يحب ولا يوالى؟ والله يا إخواني! لو درستم شمائله صلى الله عليه وسلم لغلبتم على حبه -أقول: لغلبتم على حبه- ولقدرتموه حق قدره، وهناك كتب في الشمائل مثل: كتاب الترمذي، وهذا الكتاب اختصره شيخنا الألباني حفظه الله، وميز صحيحه من ضعيفه، وكتاب: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي الشيخ؛ وكتاب: الأنوار للبغوي حسين بن مسعود، وهذا أوسع الكتب تقريباً. مع كتب المناقب الموجودة في كتب الصحاح والسنن، فكلها مشتملةٌ على وصف النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأبواب، حتى وصل الوصف إلى نعله، أنا على يقين بأنك إذا أدمنت النظر في شمائله وواليته صلى الله عليه وسلم فإنك ستحبه وتعظمه وتقدره وتبجله، ولا غرو ولا عجب، ففي حديث أم زرع؛ الطويل المعروف، أن المرأة لما تزوجت أبا زرع فجعلت تصف أبا زرع وابنه وابنته وأمه وجاريته، وتصبغ عليهم من الأوصاف والخصال الحميدة، يقول الراوي في غير الصحيحين عند الزبير بن بكار، يقول: وجعلت المرأة تصف كل شيءٍ، حتى وصفت كلب أبي زرع! انظر من حبها للرجل وصفت الكلب. فلذلك سنذكر فضائله صلى الله عليه وسلم في كل باب؛ لتستعين بهذا العرض الصحيح على محبته صلى الله عليه وسلم، وأنه يستحق أن لا تضع أحداً في مقابله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربِّ آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وسرنا وعلانيتنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

البحث عن الرجال

البحث عن الرجال إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش ويلات ومصائب ونكبات، وتمر بأزمة هي أشد وأقسى أزماتها على الإطلاق أزمة لا ككل الأزمات، إنها تعاني أزمة حادة في الرجال. نعم! الرجال الذين يحملون هم هذا الدين ويقتدون بالأنبياء والمرسلين، وما قصة إبراهيم عليه السلام وأهل بيته إلا مثالاً يقتدى، وأنموذجاً يحتذى لمن تاقت نفسه لأن يكون رجلاً يؤثر فيما حوله، ويكون عاملاً في صناعة الأحداث، وليس مجرد صفر يضاف إلى الأصفار الكثيرة التي تمتلئ بها المجتمعات المسلمة.

نص حديث المنطق

نص حديث المنطق إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سعيد بن جبيرٍ رحمه الله، قال: قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة؛ ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحةٍ فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماءٌ؛ فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمرٌ وسقاءً فيه ماء، ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيء، فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً: لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء؛ فعطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فذلك سعي الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صهٍ -تريد نفسها- ثم تسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم -أو قال-: لو لم تحوضه لكان زمزم عيناً معيناً. قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيتٍ من جرهم مقبلين من طريق كذا فنزلوا في أسفل مكة، فرءوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماءٌ، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم. ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم؛ فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبياتٍ منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأَنْفَسَهم وأعجبهم حين شبّ، فلما أدرك زوجوه امرأةً منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يصارع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍ، نحن في ضيقٍ وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحدٍ؟ فقالت: نعم. جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته: أنا في جهدٍ وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ فقالت: نعم. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك. الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعدُ فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، قالت: نحن بخيرٍ وسعةٍ، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شاربكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يثبت عتبة بابه؛ فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حسن الهيئة وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، فقال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعةٍ على ما حولها، قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع هذا البناء جاء بهذا الحجر: فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]).

قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل وزوجته هاجر

قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل وزوجته هاجر هذه قصة أهل بيت نذروا أنفسهم لله تبارك وتعالى، قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام. ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أن أول من اتخذ المِنْطق أم إسماعيل؛ لتعفي أثرها على سارة، وكانت سارة لشدة غيرتها من هاجر قد أقسمت أن تقطع منها ثلاثة أعضاء، وهاجر وهبها ملك مصر الجبار لـ سارة -كما رواه الشيخان في صحيحيهما-: أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بلداً -ذكر الشراح أنها مصر-، وكان حاكم البلد طاغيةً جباراً لا يرى امرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه، إلا أن تكون أختاً مع أخٍ لها؛ -إنما زوجة مع زوجها- كان يأخذها عنوة، فأرسل شرطته يبحثون فوجدوا امرأةً وضيئة -أي جميلة- فكان إبراهيم عليه السلام يعرف هذا من خلق هذا الجبار، فقال ل سارة: إذا سئلت فأنا أخوك وأنت أختي، والله لا أعلم أحداً يعبد الله غيرنا، فأنت أختي في دين الله تعالى، هذه من الكذبات التي كذبها إبراهيم عليه السلام في ذات الله تبارك وتعالى. فلما رأى الملك جمالها خالف شرطه فأخذها، فمد يده نحوها فدعت عليه فيبست يده وشلت، فقال لها: ادعي الله لي إن عافاني لا أقربك بسوء، فدعت فعوفي، فمد يده مرةً أخرى فدعت عليه فيبست يده -يعني شلت-، فقال لها: ادعي مرةً أخرى ولا أَمسّكِ بسوء، فدعت، فمد يده مرةً ثالثة، فدعت عليه فيبست يده، فقال لهم: إنكم ما جئتموني إلا بشيطان، ثم دعت له ففك الله عز وجل شلله، فأخدمها هاجر -أعطاها هاجر كخادمة- فتزوجها إبراهيم عليه السلام، ثم حملت هاجر، فغارت منها سارة غيرة شديدة، فأقسمت -كما يذكر الشراح- أن تقطع منها ثلاثة أعضاء؛ فخافت هاجر على نفسها، فكانت تشد المنطق على وسطها -وهو: نوع من الإزار كانت تربطه على وسطها وتجره خلفها كي تعفي أثرها؛ كرسم القدم على الرمال ونحو ذلك، كان هذا المنطق يغير رسم القدم فيزيله من على الأرض حتى تضلل سارة وهي تبحث عنها لتقطع منها أعضاءها، فلا تجدها-؛ لذلك اتخذت هاجر المنطق خوفاً من ذلك.

أهمية صدق الرجل مع أهل بيته

أهمية صدق الرجل مع أهل بيته لما رأى إبراهيم عليه السلام ذلك -بحث سارة عن هاجر - أخذ إسماعيل وأمه هاجر ورحل من الشام إلى مكة، فجاء بها فوضعها في هذا المكان -مكة- في وادٍ غير ذي زرع، فلما وضعها وابنها وترك معها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ولى راجعاً ولم يكلمها كلمة، فتركها ومضى: فنادت عليه: يا إبراهيم! يا إبراهيم! فلم يجبها، فانطلقت وراءه حتى وصلت إلى ثنية في مكة وهي تنادي: يا إبراهيم! يا إبراهيم! إلى من تتركنا، فوقف ولم يرد عليها، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً: لا يضيعنا، ثم قفلت راجعة. ونستفيد من هذا A أن صدق الرجل في بيته من أهم أسباب إقناع المرأة بأخطر القرارات التي يتخذها الرجل في حياته وتجد أن الرجل الكذوب الذي يكذب وتكتشف امرأته أنه يكذب فيفعل الفعل ولا يجرؤ على أن يصرح به، تضعف هيبته ويقل رأس ماله عند امرأته بخلاف الصدق كما يبدو واضحاً جلياً في جواب إبراهيم على سؤال هاجر وردة فعلها كما جاء في بعض الروايات: (آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه أن نعم، قالت: إذاً: لا يضيعنا) أي: وثقت فيه، فإذا قال: الله أمرني بهذا لا تراجعه، ولا تكذبه، ولا تمتري في صدقه، فرأس مال الرجل: أن يكون صادقاً. إن الآباء لهم في حياة أبنائهم عمق وتأثير وللرجل في حياة المرأة عمق وتأثير، لاسيما إذا تزوجها بكراً، وكان أول رجل في حياتها؛ فإنه يؤثر جداً في تنشئتها وتربيتها؛ ولهذه العلة حث الرسول عليه الصلاة والسلام على الزواج بالأبكار.

بيان مدى تأثر المرأة بخلق زوجها

بيان مدى تأثر المرأة بخلق زوجها ومما يدل على ذلك ما ورد في في حديث أم زرع كما تقول أم زرع: (أبو زرع فما أبو زرع، أناس من حليّ أذنيَّ، وملأَ من شحمٍ عضديَّ، وبَجَّحَنِي فبجحت إليَّ نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل، وأطيط، ودائس، ومنق، فعنده أقول: فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح). وكما هو واضح فهي تصف زوجها وتقول: هي امرأة بكر، وأبو زرع هذا كان قد تزوج قبلها، والرجل لا يقال عنه بكر أو ثيب، فإن هذا الوصف خاص بالنساء، فالرجل يمكن أن يتزوج مائة امرأة، والمرأة مرة واحدة وتصبح ثيباً، فيكون أول رجل قادراً على تشكيلها والتأثير فيها كما يريد. تقول: أناس من حلي أذني. أناس: أي: ليس عندها ذهب ولا تلبسه في أذنها، فجعل الذهب في أذنها. وكلمة أَنَاسَ: من النوس وهو الاضطراب. يعني: المرأة إذا هزت رأسها اهتز القرط في أذنها وهو معنى قولها: (أناس من حلي أذني). تقول: (وملأ من شحمٍ عضديَّ) أي: كانت هزيلة فلما تزوجها أطعمها وسقاها إلى أن امتلأ عضدها بالشحم واللحم. وقولها: (وجدني في أهل غُنَيمة بشق). غنيمة تصغير غنم. أي: كانت حالتهم تعيسة جداً وكانوا فقراء للغاية، وكلمة: بشق. يعني: كانوا يعيشون بشق الأنفس، وكانت الحياة كرباً. فنقلها نقلة عظيمة فجعلها في أهل صهيل: -كناية عن الخيل- وأطيط: -كناية عن الإبل- ودائس: -كناية عن الزرع- ومنق: -المنق: هو المنخل- وكان يستخدم المنخل آنذاك أهل الترف. قولها: (فعنده أقول فلا أقبح) أي: إذا قلت قولاً مهما قلت لا يجرؤ أحد أن يقول: قبحكِ الله، أو قبح الله وجهكِ، لا. لماذا؟ لأنها كريمة على زوجها، لا يوجد أحد يستطيع أن يسبها ولا يشتمها ولا يقبحها. تقول: (وأشرب فأتقمح)، وفي الرواية الأخرى: (فأتقنح)، والفرق بينهما أن يقال: بعيرٌ قامح، إذا ورد الماء فشرب وارتوى ثم رفع رأسه زهداً في الشراب. أما أتقنح: فهو يشرب فوق طاقته. أي: أنها تأكل وتملأ معدتها وبعد ذلك زوجها يقول لها: خذي هذا وكليه، فلم يبق في بطنها موضع للقمة كرامة لها؛ لأنها كريمة عليه. وقولها: (وأرقد فأتصبح)، يعني: تستيقظ في ضحوة النهار، وهذا يدل على أنها امرأة مخدومة عندها خدم؛ لأن المرأة إذا كانت عاملة نفسها فإنها تقوم من بعد صلاة الفجر ولا تنام، تخدم أولادها وتخدم زوجها، وإنما هذه تنام إلى أن ترتفع الشمس في السماء، وهذا يدل على أن عندها خدم يكفونها المؤنة. وبعد أن وصفت زوجها أبا زرع، ومن حبها له وصفت قرابته فقالت: ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع: مضجعه كمسل شطبة، يشبعه ذراع الجفرة: المضجع هو السرير. كمسل شطبة: مسل الشطبة جريدة نخل، وهذا يوحي أن الولد مفتول معتدل القوام، بحيث أن السرير الذي ينام عليه مثل مسل الشطبة، وهذا كلام مدحٍ عند العرب، ففي الكر والفر والقتال لا يظفر إلا ولد بمثل هذا العود. يشبعه ذراع الجفرة، أي: ولد قنوع يشبعه ذراع الجفرة. وتقول: (بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها). فالمرأة على عكس الرجل، هي تقول: بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها، يعني: بنت مؤدبة تسمع كلام أبيها وأمها، وملءُ كسائها، يعني: بدينة، والبدانة مستملحة في النساء، وقد كان العرب يحبون ذلك بخلاف المرأة النحيفة. وغيظ جارتها: كان الرجل -زوجها- متزوجاً بامرأة أخرى فهي ضرتها. أي: جارتها، فهي مغيظة لها من جمالها وبدانتها. أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عقومها رداح وبيتها فساح. العقوم: هي الجراب التي تتخذ فيه المطعومات، وهذا يدل على السعة والرفاهية. ورداح بمعنى: طويل. وبيتها فساح: واسع؛ لأن سعة البيت نعمة من الله عز وجل. - جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تبث حديثنا تبثيثاً -أي: ليست مثل البث المباشر، أي شيء وقع في البيت نقلته على طول إلى بقية الخلق، لا- فهي كتومة، تحفظ الأسرار، ولا تبث الحديث وتشيعه. ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، يعني: لا تتبذل بالمال وتحافظ على المعاش، فهي مُدَبِّرة للبيت. ولا تجعل بيتنا تعشيشاً: أي: لا تجعل البيت كعش الطائر يكون كالمزبلة. بل نظيف مرتب. قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض الدنيا ربيعاً، والماشية كلها تحلب لبناً، فلقي امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فأعجبه المنظر هذا! فطلقني ونكحها، قالوا: يا رجل! أمسك المرأة وتزوج عليها، لكن الرجل أعجبه المنظر الذي رآه فطلق المرأة ونكح المرأة الأخرى. قالت: فطلقني ونكحها؛ فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. ومعنى كلامها: فتزوجت بعده رجلاً سرياً، أي: من سراة الناس وأشرافهم. ركب شريا، الشري: أجود أنواع الخيل. وأخذ خطياً، الخط: هو الرمح الذي كان يجلب من الهند، وكان مركز توزيعه في الجزيرة بلد بالبحرين اسمها الخط، كانت الرماح الهندية تأتي إلى البحرين، ومن البحرين كانت توزع على الجزيرة، فنسب الخط إليها مسمى الرمح. -فهذا الراكب شريف، ومن سراة الناس ويركب أجود الخيل، وراكب الخيل يشعر بالكبر وهو راكب عليه وقد ألمح الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذا، فقال: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالغنم تمشي وهي مدلية رأسها باسطة في الأرض، فالراعي يأخذ من صفاتها، وكذا راكب الخيل فإنه يتقمص بعض صفات الخيل في مشيه وتبختره. وهناك من كتب في بحوث الأغذية أن الإنسان الذي يدمن على أكل لحم حيوان ما ينتقل إليه بعض صفات ذلك الحيوان-. تقول: وأعطاني من كل رائحة زوجاً: -وفي الرواية الأخرى-: وأعطاني من كل ذابحةٍ زوجاً، أي: من كل ما يصلح أن يذبح، من بقر أو غنم إلخ. وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. تقول: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه هذا الرجل ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. يعني: كل الرفاهية والتوسع التي عند هذا، تساوي أقل إناء عند أبي زرع. ما هو الفرق؟ الفرق: أن أبا زرع كان يخاطب قلب المرأة، ولكنها لم تجد هذا الخطاب ودفء الحنان عند الرجل الآخر، على الرغم من أنه وفر لها جميع سبل الرفاهية والعيش الهنيء. فيتبين أن المرأة لا تحتاج إلى مال، ولكنها بحاجة إلى قلب وحنان، وهذا هو الذي فعله أبو زرع، ثم إن أبا زرع كان هو أول رجل في حياة أم زرع، لذلك خط في وجدناها خطاً عميقاً جداً، فهو أول رجل في حياتها، وكان رجلاً صدوقاً حنوناً فأثر فيها. فالمرأة لا تنسى أول رجل في حياتها وهي تحتاج إلى قلب الرجل، وتحتاج إلى دفء الحنان، ولا تحتاج إلى الترف أبداً، فإذا شعرت المرأة معك بالأمان والسلام النفسي، استغنت عن كل شيء في الدنيا. واعلم أن رأس مال الرجل مع زوجته أن يكون رجلاً صريحاً، قدوة، لا يكذب عليها، وإلا فالمرأة تعامل الرجل على ما عرفته من سجاياه أول مرة، وهناك مثل يقول: (اذبح بستك -قطتك- ليلة دخلتك)، البس: كناية عن القط، وفي هذا المثل قصة لطيفة وظريفة: يقال: أن رجلين تزوجا في يوم واحد، أما أحدهما فكانت حياته مستقرة تمام الاستقرار، بينما الآخر في حياة مضطربة صاخبة، مليئة بالمشاكل الأسرية والضرب والصياح، وفي يوم قال الرجل -صاحب المشاكل- لصاحبه: أنا لا أسمع صوتك ولا صوت امرأتك، وأنا كل يوم في نكد، فقال: إن حياتي هانئة جداً، وممتازة، فقال له: ما الذي صنعته؟ فقال: في أول ليلة الزواج كنا نأكل لحمة مع بعض وهناك قطة قربت مني فأمسكتها وذبحتها بالسكين -فهابته المرأة فاعتدلت- فقال: هذه نصيحتك؟ قال: نعم. فذهب إلى السوق واشترى قطة ووضعها في البيت، وأتى بلحمة وجعل يأكل هو وزوجته، وجاءت القطة، فقام وأمسك القطة وذبحها، فقالت له زوجته: هذه فاتت عليك، (اذبح قطتك ليلة دخلتك)، أي: هذا الفعل جاء متأخراً، فلو أنك فعلت هذه الفعلة ليلة الدخلة كنت أتيت بنتيجة. خلاصة الكلام: أن المرأة أول ما رأت خلق الرجل وعرفت أخلاقه عاملته على قدرها. إذاً: الرجل هو قطب الدائرة، والمرأة تدور حوله، يبقى الرجل هو الأصل، وأنا من واقع تجربتي، وملامستي للمشاكل التي أتوسط فيها كل يوم على مدار أكثر من خمسة وعشرين عاماً، ما وجدت امرأة ناشزاً قط إلا وجدت الرجل سبباً في نشوزها، فلو قام عليها بحق القوامة ما نشزت عليه، لكن تفريط الرجل في قوامته هو الذي أغرى المرأة في النشوز، وهاهو إبراهيم الخليل عليه السلام يبين لنا كيف أن المرأة لا تعصي زوجها إن قام عليها بحق القوامة، فانظر إليه عليه السلام وقد جاء بزوجته إلى بلد ليس فيها إنسي وتركها بوادٍ غير ذي زرع وجن الليل عليها هي وابنها الرضيع وإذا بها تلحق به وتقول له: يا إبراهيم! يا إبراهيم! وهو لا يرد عليها، وهي ما تزال تجري وراءه حتى وصلت إلى أعالي مكة، ثم بعد ذلك تقول: يا إبراهيم! لمن تتركنا، بواد غير ذي زرع ولا إنسي، فلا يجيبها، فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم. فما زادت المرأة المُسَلِّمَة لله عز وجل على أن قالت: إذاً: لا يضيعنا. فرجعت تواجه أقدارها؛ إنما رجعت لأن معها الصدق الذي تعودته من إبراهيم عليه السلام، فهو ما كذبها أبداً عليه السلام.

حفظ الله لأوليائه

حفظ الله لأوليائه رجعت هاجر إلى ابنها وعاشت وحدها، تشرب من السقاء الذي تركه إبراهيم عليه السلام، وتأكل من جراب التمر حتى نفد الماء، وعطشت وعطش الصبي وجعل يتلمظ من أثر التمر ولا ماء، فكرهت أن تراه وهو يموت، فذهبت فكان أقرب شيء إليها الصفا، فصعدت الصفا فلم تر أحداً وانحدرت تجري حتى صعدت المروة، تبحث في كل هذا عن ماء، فلم تر أحداً، وسعت سبع مرات، وهكذا يسعى الناس بين الصفا والمروة، وكانت تسعى سعي الإنسان المجهود، والمسافة بين الصفا والمروة حوالي أربعمائة وخمسين متراً. وهي تقطع هذه المسافة وتجري تبحث عن ماء. وبعد أن سعت كل هذا السعي، فإذا بها تسمع شيئاً، فقالت: صهٍ -لنفسها- تقول لنفسها: قد أسمعت لو كان عندك غواث، أي: لو كان شيء يغيثني فضرب جبريل عليه السلام بجناحه الأرض، فخرج الماء من زمزم، فأول ما رأتها تفور، جعلت تحوضها. أي: تعمل حولها حوضاً بقصد أن تحفظ الماء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله أم إسماعيل لو تركتها، لكانت عيناً معيناً). انظر: ماء زمزم من أيام إبراهيم عليه السلام والناس يشربون ويتوضئون ويغتسلون ويرسلون إلى كل مكان وهي لا زالت عيناً، فكيف لو لم تحوضها، إذاً: لملأت الدنيا، فذهبت هاجر إلى رضيعها إسماعيل فإذا بها تجد أنه قد رضع وأكل وشرب وارتوى، وأن الذي غذاه هو جبريل عليه السلام. وهذا درس نستفيده: أن الله عز وجل لا يترك أولياءه يتخطفون في الأرض، لكنه يبتليهم وتكون العاقبة لهم. وهذا الكلام موجه لكل رجل مبتلى، لكل رجلٍِ فارٍ في أنحاء الأرض بدينه، لاسيما إذا كان أهله معه أيضاً، فإن الله عز وجل لا يضيع هؤلاء، فكل الأنبياء والصالحين، الذين فروا بدينهم إلى الله عز وجل مكن الله لهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا). وقد يقول قائل: لماذا أناط الله البلاء بالأولياء وهم أكرم عليه من أعدائه؟ أي: الأنبياء يبتلون وكذا الأولياء، وأعداؤهم -أعداء الله- لهم الدولة والقوة، وهم الذين شردوا المؤمنين، والله قادر على أن يمكن لأوليائه الكل، فلم أعطى الله الدولة لأعدائهم وأناط البلاء بهم؟ فتقول: العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، فسلامة قلبك عند الله عز وجل مقدمةٌ على سلامة جوارحك، يبتليك في جوارحك، ويحفظ لك قلبك وهذه رحمة منه جل وعلا. قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. فالقلب يستمد حياته من المحن ومن العواصف، وتجد أن أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، لكن أهل البلاء هم أقوى الناس قلوباً، فلذلك أناط الله البلاء بأوليائه؛ حتى يلقوا الله عز وجل بقلب سليم. والجارحة تستمد قوتها من القلب. فهذا أيوب عليه السلام مرض ثمانية عشر عاماً حتى رفضه القريب والبعيد، لكن قلبه كان سليماً وما ضره ما فاته من الجارحة.

قصة أبي قلابة في الصبر على البلاء

قصة أبي قلابة في الصبر على البلاء وفي هذا قصة رواها الإمام ابن حبان في كتاب الثقات عن الإمام أبي قلابة الجرمي. عن عبد الله بن محمد قال: كنت مرابطاً بعريش مصر فمررت على خيمة فإذا أنا برجل ذهبت يداه ورجلاه، وبصره، وثقل سمعه، فسمعته يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فقلت: سبحان الله! ما هذا الذي يقوله الرجل، أعلمٌ علمه؟ والله لآتين هذا الرجل، فأتيته فقلت: يا عبد الله! سمعتك تقول كذا وكذا، أي شيء تحمد الله عليه، قال: يا عبد الله! لو أرسل الله الجبال فدمرتني، وأرسل إلي البحر فأغرقني ما ازددت لربي إلا شكراً على هذا اللسان الذاكر، وهذا القلب الشاكر. ثم قال: إن لي ولداً كان يوضئني، وكان يطعمني ويقوم على أمري وقد افتقدته منذُ ثلاثة أيام فابحث لي عنه، فقلت: والله ما سعى إنسان في حاجة آخر أفضل منك، قال: وذهبت أبحث عن الولد، فما مضيت غير بعيد إلا ووجدت عظامه بين كثبان من الرمل قد افترسه سبع، قال: فركبني الغم، وقلت: ماذا أقول للرجل، وهو في هذا البلاء العظيم؟ قال: فجعلت أفكر ماذا أقول له، فتذكرت أيوب عليه السلام؟ قال: فجئت فسلمت عليه، قال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: ما فعل ولدي، قلت يا عبد الله! أتعرف أيوب عليه السلام؟ قال: نعم. قلت: ما تعرف عنه؟ قال: ابتلاه الله ثمانية عشر عاماً، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، وليس هذا فحسب إنما ابتلاه بأهله وابتلاه بماله، فوجده صابراً، فقل ماذا تريد؟ قلت: احتسب ولدك، فإني وجدت عظامه بين كثبان الرمل، قال: فشهق شهقةً وقال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذريةً إلى النار ومات. قال: فركبني غم، وقلت: ماذا أفعل بالرجل؟ فلا أملك له شيئاً، إن تركته أكلته السباع، فمر قطاع طرق، فوجدوني أبكي بعدما سجيته فقالوا: مالك وما قصتك، ومن هذا الرجل، فكشفوا عنه فإذا هو أبو قلابة الجرمي، فقالوا: بأبي عينٌ طالما غضت عن محارم الله وبأبي جسمٌ طالما عانا في طاعة الله، قال: فسجيته ودفناه، وذهبت إلى رباطي، فلما نمت رأيته في منامي في أحسن حالة، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة، وقيل لي: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وأبو قلابة الجرمي أحد الأئمة الثقات، من الرواة عن أنس بن مالك، ثقةٌ، حافظ. فهذا البلاء المنوط بالأولياء هو نعمة من الله سبحانه وتعالى عليهم كما هو واضح في قصة أبي قلابة الجرمي، وقصة هاجر وإسماعيل عليهما السلام. وعاشت هاجر وإسماعيل في هذا الوادي، وبينما قبيلة جرهم تمر في طريقها إلى بلدها، إذا رأوا طائراً يطير ويحوم فقالوا: لا يحوم هذا الطير إلا على ماء، فأرسلوا جرياً لهم أو جريين يعني: رسولاً -يبحثون عن ماء فوجدوا أم إسماعيل ووجدوا الماء هناك، فجاءوا واستأذنوا أن يسكنوا حول الماء، فقالت: نعم، اسكنوا ولكن لا حق لكم في الماء فوافقوا، وبنوا لها بيتاً وسكنت، وشب إسماعيل عليه السلام في هذه القبيلة، وتعلم منها العربية وقد جاء في بعض الآثار أن إسماعيل عليه السلام هو أول من تكلم بالعربية، وفي هذا الحديث: أن جرهم هي التي علمته العربية. فجمع العلماء بين الحديثين، وقالوا: أول من تكلم بالعربية الفصيحة المعربة هو إسماعيل، ومطلق التكلم باللغة العربية كان جرهم. وسكنت قبيلة جرهم مع هاجر وإسماعيل عليهما السلام، وكبر إسماعيل فيهم وكان ذا خلق رفيع، فكان كل بيت يريدون أن يزوجوه ابنتهم، وتزوج إسماعيل عليه السلام امرأة منهم.

دور المرأة الصالحة الزاهدة في صلاح البيت وسعادة الرجل

دور المرأة الصالحة الزاهدة في صلاح البيت وسعادة الرجل وانقضت الأيام ومرت الشهور والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام من الشام لينظر ماذا فعلت المرأة والولد فوجد هاجر قد ماتت، وسأل عن بيت إسماعيل، فدلوه عليه، فدخل وقال لزوجته: أنت زوجة إسماعيل؟! قالت: نعم. فقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا، -أي: يطلب المعاش- فقال: كيف حالكم؟ قالت: في كرب وظنك وشدة، والله المستعان، وقعدت المرأة تشتكي له. فقال لها: إذا أتى فقولي له: إن أباك يسلم عليك، ويقول لك: غير عتبة بابك. فمضى إبراهيم عليه السلام، وجاء إسماعيل عليه السلام وأول ما دخل البيت آنس شيئاً -هذه لغة القلوب يحس أن هناك شيئاً، فهذا يعقوب عليه السلام كما قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:94 - 96]- فسأل إسماعيل عليه السلام: هل جاء أحد؟ قالت: نعم. جاء رجل، قال: ما صفته؟ قالت: رجلٌ وضيء، صفته كذا وكذا. قال: هذا أبي، فهل أوصاك بشيء، قالت: يقرئك السلام، ويقول لك: غير عتبة دارك، -هي لا تعلم معنى عتبة الدار، فهي تقولها بسلامة نية، وربما لو كانت عرفت أنه يقول له غيِّر عتبة دارك يعني: طلق زوجتك، ربما كتمت هذا الكلام- فقال: هذا أبي وأمرني أن أطلقك فالحقي بأهلكِ. ونستفيد من هذا فائدتين: الأولى: أن المرأة هي زينة البيت، وعتبته، -والعتبة كناية عن الباب- فهي التي تحفظ البيت، وتدبر المعاش، فإذا كانت المرأة خائنة، ومسرفة، أشقت الرجل غاية الشقاء. الثانية: أنه لا ينبغي للمرأة أن تشكو من زوجها ولا تفضحه أمام أحد ولو كان أقرب الأقربين، ولا تشتكي أنها لا تأكل ما تريد، وأن مرتبه ودخله ضعيف، وأنه لا يستطيع أن ينفق عليها، فليس هذا من وفاء المرأة، والرجل دائماً يحب المرأة الوفية التي تستر عليه، ولا تكشف عيبه ولا عجزه، ويحفظ لها الجميل. وأنا أعرف رجلاً غنياً من أعيان الجيزة في مصر كان يبكي على امرأته لما ماتت بكاءً شديداً، وأصبره وأقول له اصبر واحتسب، -لأنه كان يبكي بصوت عالٍ- فقال لي: ومن أين لي بمثل هذه المرأة؟ وبدأ يحكي طرفاً من حياته معها، فقال: تزوجتها وليس لي في الأرض شيء، كنت عامل بناء، أعمل مع مقاول، فلما رأى المقاول فيَّ الأمانة والجد، جعلني رئيس العمال، ثم زوجني ابنته هذه، قال: فتزوجتها فكانت نعم الزوجة، كنت فقيراً وكنا نذهب كل خميس وجمعة، لزيارة والد المرأة، وكان بعد صلاة الجمعة يعمل مأدبة ويتوسع فيها، يقول: فكنت آكل، ولكن زوجتي لم تكن تأكل، فيقول لها والدها: كلي، فتقول: يا أبي! فلان هذا كل يوم يأتي لنا بمثل هذا، وهي لم تأكل من ذلك شيئاً، وإنما تظهر هذا التعفف، لكي لا تفضح زوجها ولا يظهر بأنه أقل من أبيها. فالمرأة لا ينبغي أن تفضح زوجها وتشوه سمعته، وليس هذا من خلق المرأة الوفية، المرأة عتبة الباب، وعتبة الدار هي محل اعتناء واهتمام، فإذا أغلق الباب بإحكام أمنا على ما في الدار، فكذلك إذا كانت المرأة أمينة أمن الرجل على ماله وعرضه. ولذلك إبراهيم عليه السلام، عندما جاء وسأل زوجة ولده فتبرمت واشتكت الضيق والشدة. إن المرأة غير الوفية لا تستحق الحياة مع هذا الرجل، والرجل يتخذ قراراً حاسماً، إذا كانت المرأة تشقيه ويئس من إصلاحها، بشرط أن يكون قام بحق القوامة عليها، كما هو حال إسماعيل عليه السلام، عندما استمع وصية أبيه وطلق زوجته. وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لابنه عبد الله بن عمر: طلق امرأتك، قال: لا أطلقها. إني أحبها، فشكاه عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قلت له: طلق المرأة فأبى وقال: أنا أحبها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! أطع أباك، فطلقها عبد الله بن عمر). قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس كل الناس عمر؛ لأن عمر بن الخطاب عندما يقول: طلق المرأة، إنما يقول ذلك لأمرٍ ديني شرعي، كما قال إبراهيم عليه السلام لابنه وعمر بن الخطاب لا يمكن أن تكون المرأة صالحة، تقية، وفية، مطيعة لزوجها ويأمر بطلاقه فلهذا السبب فإن هذا الحديث ليس عاماً، فإذا أمرك أبوك لغير أمرٍ شرعي أن تطلق زوجتك فلا طاعة له. وبعد أن طلق إسماعيل عليه السلام زوجته عملاً بوصية والده، تزوج امرأة أخرى من جرهم وعاش معهم، ومضت الأيام والأعوام وجاء إبراهيم عليه السلام يسأل عن ولده، فدخل بيت إسماعيل، فوجد امرأته فسلم وقال: أين إسماعيل؟ قالت: خرج يبتغي لنا. فقال: كيف حالكم؟ فأثنت على الله عز وجل، وحمدته وقالت: بخير حال. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. فقال: ما شرابكم؟ قالت: الماء. فدعا إبراهيم عليه السلام لهم باللحم والماء، ولو كان في مكة حب وزرع آنذاك لدعا لهم إبراهيم بالبركة بالحب والزرع أيضاً، ولذلك تجد اللحم والماء والبركة في مكة، وتجد فيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تبارك وتعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، كل الثمرة الموجودة في الدنيا تجبى إلى مكة تحقيقاً لدعاء إبراهيم عليه السلام. فلما وجد إبراهيم عليه السلام المرأة تثني على الله تبارك وتعالى بما هو أهله، وتحمده تبارك وتعالى وتثني على زوجها، قال لها: أقرئيه السلام وقولي له: إن أباك يقول لك: ثبت عتبة دارك، فجاء إسماعيل، وكأنما آنس شيئاً فسأل: هل جاءكم من أحدٍ؟ فقالت: نعم. جاء رجل. فقال: ما صفته؟ قالت: كان رجلاً وضيئاً، ومن وصفته كذا وكذا. فقال: بما أوصاك؟ قالت: أن أقرئك السلام، ويقول لك: ثبت عتبة دارك، فقال: إن أبي يأمرني أن أمسكك.

الاهتمام بالأبناء وتربيتهم وتنمية عقولهم

الاهتمام بالأبناء وتربيتهم وتنمية عقولهم وبعد سنوات جاء إبراهيم عليه السلام، وقال لابنه إسماعيل: إن الله أمرني أن أبني البيت هنا، أفتعينني؟ قال: نعم. بعد أن قال: افعل ما أوصاك الله به، وإسماعيل عليه السلام له موقف مشرف وغير هذا، كما هو وارد في قصة ذبحه، عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وفي هذا درس لنا ينبغي على الآباء أن يهضموه لكي يخرجوا ذرية طيبة من الأولاد وهذا الدرس في قوله: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فهذا حوار، وإشراك الولد في اتخاذ القرار، ما رأيك؟ قل لي رأيك في الموضوع؟ لا تقل: إنما هو ولد صغير، فالولد كبير لكنك أنت الذي تصغره، فيكبر وليس له شخصية. لكن إبراهيم عليه السلام يشارك ولده في القرار، فيرد الصغير: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. والولد ينشأ على ما عوده أبوه وما رباه عليه أهله. وهذا محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وحقق الوعد الأول للرسول عليه الصلاة والسلام كانت أمه تأخذه كل يوم وهو صغير إلى النهر، وتكلمه عن الشاطئ الآخر، وتحدثه أن الشاطئ الآخر أحد الأماني الذي يسعى المسلمون إلى فتحه وكل يوم يتفرج على الماء وهي تمنيه وتقول له: نريد أن نعبر ونصل إلى الشط الآخر، وكان يكبر كل يوم ويكبر فيه هذا المعنى، فكبر محمد الفاتح وعنده هذه العاطفة، عاطفة النهر حتى صار شيئاً أساسياً في حياته، فصدق فيه قول القائل: (وراء كل رجلٍ عظيم أم). وليس كما يقولون: امرأة. بل هناك نساء دمرن رجالاً تدميراً. مثل أم محمد الفاتح، ومثل أم سفيان الثوري، فقد كانت تقول له: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، تشتغل بالمغزل وتبيع الغزل لكي تصرف على ابنها الذي يطلب العلم، ووراء الشافعي أم علمته العلم وكانت أيضاً تغزل، وكانت تنفق عليه. فنشأ محمد الفاتح على هذا الحلم والأمنية حتى صار حقيقة. فالواجب على الآباء والأمهات الاعتناء بتربية أولادهم وتنمية عقولهم، ومشاركتهم في المشاكل والحوادث؛ لكي يتعلموا معنى الرجولة الحقة، عليهم أن يقدموا تنمية عقولهم على الأكل والشرب والملبس. فإبراهيم عليه السلام كان يشرك ولده في القرارات والملمات كما قال تعالى حاكياً عنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، أي: أرنا كيف تري الله من نفسك؟ أرِ الله من نفسك خيراً ولا تنكص على عقبيك، فيرد الولد، ويقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]، كان في كلامه التسليم. تؤمر: فعل لما لم يسم فاعله: أي أن هناك آمر، يعني: هذا ليس بملكك ولو كان بملكك ما ذبحتني، لكن هذا أمرٌ لا دخل لك فيه، فأول شيء تفطن له إسماعيل عليه السلام، في إحالته أن والده مأمور: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، قال إن شاء الله، ولم يقل: ستجدني من الصابرين، إنما قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)؛ لأنه لم يركن إلى نفسه، ولم يعتمد عليها، ولم يثق بها، إنما استثنى، وفوض أمره إلى الله. وهناك قصة لأحد العباد الزهاد ويسمى سيمنون الزاهد، كان يقول: يا رب! ابتلني وسوف أريك. -أي: سأصبر على البلاء- فحبس الله فيه البول، فتمرغ بالتراب وقال: يا رب! يا رب! فرّج عني، يا رب! أزل العذاب، لم يتحمل البول محبوساً بداخله، فعافاه الله، فكان هذا العابد يذهب يطوف على الكتاتيب، ويقول للأطفال الذين يحفظون القرآن: استغفروا الله لعمكم الكذاب. فلا تثق بعزيمتك؛ فإن العزائم تنفسخ، والإيمان يزيد وينقص. ولكن قل: إن شاء الله. فأنت قد تقرأ قصة لأحد الأبطال كأن تقرأ قصة أحد المجاهدين من الصحابة، فتحس أنك لبست الشخصية وتقمصتها، حتى إنه لو جاءوك وقطعوك إرباً إربا لا تتأوّه؛ لأنك ما زلت متحمساً وتقرأ في القصة، وتعيش هذا الدور، وفي هذه اللحظة إيمانك مرتفع، ولو جاءوا بك وآذوك فلن تستكين لهم، لكنك لا تدري بعد أن تقرأ القصة ويمضي الوقت ما يحدث، فعند أول كربة قد تصرخ: ارحمونا، ارحمونا. فإسماعيل عليه السلام، يقول: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، يعني: أنا لا أثق بعزمي، وأنا ما عندي من قوة فهي من الله تبارك وتعالى: فخلع الحول والقوة في كلامه، قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وختاماً: لهذه القصة نقول: إن قصة إبراهيم عليه السلام، تدور على ثلاثة هم: إبراهيم، وابنه إسماعيل، وأمه هاجر. فكن قوي العزم وتأس بالرجال؛ إذا أردت الأسوة: إبراهيم عليه السلام، فإن نزل عزمك، فتأس بالصبيان تأس بإسماعيل عليه السلام، فإن نزل عزمك، أفلا تتأسى بربع رجل، وهي هاجر عليها السلام، وأنت تعرف أن المرأة الحرة، نصف الرجل، والأمة نصف الحرة، أي: ربع رجل، وتثبت وتعتمد على الله عز وجل بقلبها، وتسكن في بيداء مكة وحدها، وهي موقنة أن الله عز وجل لن يضيعها. فلابد لك من أسوة، والله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، وهؤلاء هم أسرة إبراهيم عليه السلام. ونحن نحتاج في عصرنا هذا إلى أمثال هؤلاء الرجال، أزمتنا أزمة رجال، وليست أزمة موارد أبداً، إن الله عز وجل جعل الخير في بلاد المسلمين، لكننا نحتاج إلى رجال، رجال من معادن الرجال الذين مكن الله عز وجل لهم في عشر سنوات. اقرأوا تاريخ البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى زماننا هذا، لن تجدوا أقواماً مكن الله عز وجل لهم، وصنعوا دولة في عشر سنوات إلا الصحابة، فقط، دولة عشر سنوات فقط، يعني من ساعة ما هاجروا إلى المدينة، إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنوات صنعوا دولة ودانت لهم فارس والروم، وما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وكلمة الله هي العليا؛ لأنه كان عنده أمثال هؤلاء الصحابة الكرام الأفذاذ. إذاً: أزمتنا أزمة رجال، فهذا الحديث فيه بحث عن الرجال أصحاب القيمة. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الولاء والبراء [1]

الولاء والبراء [1] إن أعلى مقامات الحب هي العبودية، ولا تنبني العبودية إلا على أصلين عظيمين هما: كمال الحب، وتمام الذل، ولا ينبغي صرف هذين الأصلين إلا لله سبحانه، وإن أكبر ثمرة من ثمار هذا الحب هي موالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الكافرين والمنافقين، ولقد كانت أهم قضية تناولها القرآن بعد نبذ الشرك وتقرير التوحيد هي قضية تقرير عقيدة الولاء والبراء، ولقد ضرب لنا الصحابة في ذلك أروع الأمثلة، ولعل من أبرز ثمار هذه العقيدة قيام الجهاد في سبيل الله، وهو الباب الذي فرطت فيه الأمة في هذا العصر، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

العبودية أعلى مقامات الحب

العبودية أعلى مقامات الحب إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا زال الحديث موصولاً عن علامات الحب، وآخر علامة نقف عليها اليوم، ثم نصل إلى الثمرة العظمى من هذه الدروس وهي: أن أعلى علامات الحب قاطبة هي العبودية، وقد درج بعض الناس -لاسيما بين الرجال والنساء- إذا أراد أحدهما أن يعبر عن شدة حبه للآخر، وأنه ليس له بعد الحب مذهب، يقول أحدهما للآخر: أنا أعبدك. هكذا يقولون، والعبادة لا تكون إلا لله عز وجل، مستحق الحمد وحده ومستحق العبودية وحده، لكنهم يعرفون أن أعلى علامات الحب هي العبادة، وحقيقة العبادة تنبني على أصلين عظيمين: الأصل الأول: هو كمال الحب، والأصل الثاني: هو تمام الذل، فلا ذل إلا بحب، ولا حب إلا بذل. فإذا وصل العبد إلى درجة العبادة لا يرى لنفسه اختياراً قط؛ لأن هذا ينافي الذل وينافي الحب اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى أنف يشال ويعقد ليس لك أنف وأنت محب؛ لأنك إذا تحسست أنفك -الذي هو مناط النخوة- فهذا يضاد الحب، والمحب لا أنف له يتحسسه. المستحق للعبادة وحده هو الله عز وجل؛ لأنه وحده هو الذي يحب لذاته، ومن دونه يحب لقربه من الله، لا يحب لذاته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنما نحبهم لقربهم من الله؛ ولأن الله اصطفاهم؛ لذلك أحببناهم وقدمناهم.

العبودية مفتاح النصر

العبودية مفتاح النصر والسنوات القادمة لعلها تتمخض عن حرب فاصلة بيننا وبين اليهود، فما هي عدتنا لهذه الحرب، إننا سنغلب اليهود في أول جولة إذا حققنا شيئاً واحداً: إذا كنا عباداً لله عز وجل فقط. فالعبودية لله سلاحنا الوحيد، واقرأ مطلع سورة الإسراء يتبين لك هذا الأمر: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:1 - 6]. انظر! السورة بدأت بالعبودية، وكررت العبودية مرتين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا}. كلمة (عباد) في القرآن عندما تأتي مضافة بالياء -ياء الإضافة- {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، أو بنون الإضافة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] لما تأتي كلمة (عباد) في القرآن مضافة على الله عز وجل، فهي في الغالب تأتي إضافة تشريف، بخلاف كلمة (العبيد) فلم تأت قط إضافة تشريف، وإنما جاءت لوصف العبودية العامة الشاملة على العباد، عبودية القهر، وأن الكل يحتاج إلى الله عز وجل، لكن عبودية التشريف لا تأتي (بعبيد) تأتي (بعباد) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]. وقلت: إن (عباد) إذا جاءت مضافة إنما تعني إضافة التشريف غالباً؛ لأنها قد تأتي مضافة وليس للتشريف، وإنما للقهر أيضاً، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] وهذه ربوبية شاملة على العباد. فالله عز وجل سيبعث على هؤلاء عباداً له قاموا بحق عبوديته، ولا يمنع أن يسلط عليهم من هو أرذل منهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، سواء كان مؤمناً أو كافراً. واستحضروا في العصر الحديث ما فعله هتلر النازي باليهود، حتى إنهم في المؤتمر الأخير طالبوا الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعله هتلر رسمياً، مع أن الرئيس الأمريكي لا علاقة له بما فعله هتلر، ولكن هي الآن: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:6]، لماذا؟ لم يعودوا عباداً، فرجعت الكرة عليهم مرة أخرى! ثم حذرهم وقال لهم: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [الإسراء:7] إذا ضللتم عباداً سيظل لكم الغلبة والنصر، وتظفرون على عدوكم، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] ترجع الكرة عليكم مرة أخرى. : {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:7 - 8] أيضاً، إذا سكرتم بخمرة الانتصار، وتجاوزتم حدود الله عز وجل، وعدتم للطغيان بعد أن أظفرناكم على بني إسرائيل؛ عدنا أيضاً لإذلالكم، وعاد بنو إسرائيل ليظهر عليكم مرة أخرى وهكذا. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يقول: (إن الله لينصر الدولة الظالمة إذا كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة) فإن الله لا يحابي أحداً من عباده: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، انظر! مع أن المناسب أن يقال: (وإن أسأتم فعليها) وليس (فلها) لكن هذا نوع من التبكيت، كقول الله عز وجل: (فبشرهم بعذاب أليم)، والبشرى لا تكون إلا بالخير، فهذا نوع من التبكيت: أن توضع البشرى مكان النذارة والعكس (وإن أسأتم فلها). سلاحنا في مقاومة كل أعدائنا: أن تكون عبداً لله عز وجل، كثير من الناس يسمع هذا الكلام وينفعل، ولكنه لا يغير في بيته شيئاً، ومع ذلك يصرخ في كل مكان، وينادي بالخلافة، وينادي بالحكم فمن غير المعقول أن يعجز الرجل عن ضبط بيته ثم يحكم دولة، هذا ليس بالإمكان! عاجز أن يأمر امرأته أو ابنته بلبس الحجاب الشرعي، أو هو عاجز أن يأمر ولده بالصلاة، ثم يريد أن يحكم دولة هيهات،!! هو عن حكم الدولة أعجز. إذاً العبودية هي مفتاحنا إلى النصر، وسلاحنا الوحيد. وإنني أطنبت وطولت في الكلام على علامات العبودية لكي أصل إلى الثمرة المرجوة من هذه الدروس وهي: الولاء والبراء، ولأن أكثر أهل الأرض أدعياء، والناس أربعة: مؤمن وكافر ومنافق وعاص.

ولاؤك لمن

ولاؤك لمن فولاؤك لا يكون إلا للمؤمنين، وبراءتك لا تكون إلا من الكافرين والمنافقين، والعاصي يكون ولاؤك له بقدر إيمانه بالله، وبراءتك منه بقدر معصيته. فإذا راقبت علامات المحبة في الناس عرفت من توالي ومن تعادي، ومن الذي تلقي إليه بالمودة ومن الذي تتبرأ منه.

ضياع عقيدة الولاء والبراء في واقعنا المعاصر

ضياع عقيدة الولاء والبراء في واقعنا المعاصر عقيدة الولاء والبراء لأنها متصلة بالله مباشرة؛ حرص أعداؤنا على تمييعها وتضييعها، فظهرت مصطلحات الأخوة الإنسانية، حتى من بعض الذين ينسبون إلى الدعوة يقولون: إخواننا من النصارى، إخواننا الأقباط، هذا قدح في الإيمان، وقدح في عقيدة الولاء والبراء، لقد كفرهم الله عز وجل وهذا يقول: أخونا في الوطن، إخواننا النصارى أو إخواننا الأقباط!! هذا حرام لا يجوز، لأن الله كفرهم، فلا يحل لمن كفره الله وأهانه أن تكرمه. وإذا أردت أن تعرف عقيدة الولاء والبراء أنها ضاعت فاسمع التجار الذين يتعاملون مع المستوردين، وانظر إلى إكرام التجار لهؤلاء الكافرين، وكيف أنه لا يجلس على الكرسي إلا إذا أجلسه، ويتودد إليه، وأن هذا الكافر قد يعقد صفقة محرمة، وقد يفعل شيئاً أو قد يقول شيئاً محرماً، ثم يبتسم هذا المسلم، ولا يغضب لله عز وجل! انظر أيضاً إلى الدرجات العلمية في الجامعات لما يأتي مستشرق، انظر إلى تكريمه في الجامعات! فضيلة المستشرق الفلاني، وقد جاء وهو عبقري وعلامة وفهامة إلى آخر هذه الألفاظ. جون بولكلتر الوجودي أول ما جاء هنا هو وعشيقته دخلوا الجامع الأزهر وأنا رأيته بعيني، وأنا في الأزهر ذات مرة كان هناك رجل فراش أعطوه خُمر، فأي واحدة متبرجة أجنبية تريد أن تتفرج وتدنس المسجد بقدميها -انظر الورع الكاذب والبارد! - يقول لها: البسي هذا الخمار طيب هي لابسة (شورت!) لبِّسها جلباب! امرأة لابسة خمار وشورت في الجامع الأزهر! فأنا داخل المسجد فوجدت هناك مجادلة بين المرأة والفراش، وهو يحاول أن يعطيها الخمار وهي ترفض، هل تعلم ماذا كانت النتيجة؟ أخرجت جنيهاً من جيبها وأعطته في يده، فلم يلزمها بوضع وهذا يحصل في بيوت الله! لماذا يدخل الكفار المسجد الأزهر؟ ما هي المصلحة؟ هل المسجد الأزهر أثر؟ أهو هرم؟ أهو أبو الهول؟ هذا بيت الله عز وجل، وبيت الله عز وجل لا يدخله كافر إلا إذا دخله ليسأل عن شيء، وفيه أحكام كثيرة، كما كان الكفار يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم، يدخل لأجل أن يسأل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له الغلبة، وكان له القهر والسلطان، فأي مشرك يدخل المسجد يدخل لعلة أو لمصلحة، لكن يدخل ليتفرج والمرأة متبرجة ويدخلون في مساجدنا؟! الآن أنا أقرأ في الجرائد منذ سنة (1974م) مقالات لمستشار يقول فيها: إن اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين في الجنة، مستشار يكتب من سنة (74م) حتى الآن، وكتبها هذه السنة أيضاً أن المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة كلهم. ويسمح لمثل هذا أن يكتب، وينشر، ولو كان مضاداً لعقيدتنا التي تمتهن بحجة حرية التعبير وحرية الرأي. المشاركة في أعياد الكافرين، وتسهيل المسألة، ولا تكن متزمتاً ولا تكن متعصباً، كل هذا ضرب لعقيدة الولاء والبراء في مقتل، وصار الذين يملئون ويعمرون أعياد الكافرين هم المسلمون، من الذي يملأ أعياد الكافرين يوم (شم النسيم) غير المسلمين، وبكل أسف أرى أصحاب لحى، وأرى صاحبات نقاب يتنزهون، وخرجوا يشمون الهواء، أقول في نفسي: هل غيب هؤلاء؟ هل نسي هؤلاء أنهم مصنفون كإرهابيين على كل الموائد الدولية؟ هل نسي هؤلاء هذا الأمر؟ هل نسي هؤلاء أن كل حرب تعقد في بلاد من بلاد العالم إنما هي عليهم؟! يخرجون يعمرون مشاهد الكافرين! ليلة رأس السنة من الذي يزني، ومن الذي يعاشر النساء ويشرب الخمر غير المسلمين؟! ويدفعون ألوف (الجنيهات) في الفنادق، والذي له واسطة يجد تذكرة دخول، من الذي يفعل ذلك غير المسلمين في ديار المسلمين؟! وهذا على مرأى ومسمع، ثم بعد كل ذلك يطلبون النصر من الله عز وجل. إن بقاء هذه الأمة على وجه الأرض مع كل هذا الخبث معجزة، إننا نستدل على أننا سننتصر على عدونا ببقائنا، بقاؤنا مع كل المخالفات معجزة وآية من آيات الله عز وجل، نستدل بها أننا سننتصر، كل هذا ولم يخسف بنا. إن الله تبارك وتعالى نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا، مع أن الأرض لله، والأرض لا تقدس أهلها، ولا تصبغ إلا بصبغة الساكنين عليها. مكة -التي هي أحب البلاد إلى الله- كانت في يوم من الأيام دار كفر، وهي أحب البلاد إلى الله، إنما الدار بساكنيها. الآن الدار دار إسلام غداً تصير دار كفر، فالأرض لا علاقة لها بالكفر والإيمان، ومع ذلك نهانا أن نسكن في مساكن الذين ظلموا مع أن الأرض لله لماذا؟ هذا داخل في عقيدة الولاء والبراء، فكثرة مشاهدة آثار الذين ظلموا تؤثر على القلب، ويزعمون أنهم أتوا ليروا أبا الهول والأهرام! فكثرة مشاهدة آثار الظالمين يؤثر على عمل القلب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على الحجر من ديار ثمود، أين ثمود من الرسول عليه الصلاة والسلام؟ تفصله عنهم سنين طويلة، ومع ذلك أول ما مر على الحجر من ديار ثمود تقنع، واستحث الراحلة أن تسرع، وقال: (إذا مررتم بديار الذين ظلموا فأسرعوا؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم)، وهؤلاء موتى لا يؤثرون، فكيف بالأحياء؟ إذاً يقول لك: إذا مررت على قبر ميت أسرع، وبعد ذلك تتعامل مع الكافر فهل هذا كلام معقول! وقد أمرك بالإسراع بجانب قبر الميت منهم، فيحرم عليك أن تجامع المشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشركين فهو منهم)، ألا يكفي هذا رادعاً؟ فيجب علينا أن نخرج العادات والتقاليد البالية التي أخذناها من بلاد الكفر كالتقاليد البالية في الأفراح. بالأمس كان هناك فرح سبحان الله! هؤلاء الناس ليس عندهم حياء، المرأة متبرجة والديوث يتأبطها، والذي لا يشتري يتفرج، في الشارع! حتى قال مؤذن الفجر: الله أكبر فسكتوا وذهبوا ليناموا. أليس هؤلاء أولى بالعقوبة؟! أليس هؤلاء أولى بالعقوبة شرعاً وعرفاً؟! بعض الناس كانوا يشتكون من المحاضرات المعلنة في المساجد، وذات مرة نزل أحدهم ممن لم يصل الفجر في المسجد، ونسي القائمون على المسجد أن يطفئوا (الميكرفونات) الخارجية، وكنت أقول تذكرة عشر دقائق، فتطوع هذا ونزل من بيته ودخل على المسجد كأنه كتلة نار، وقال: هناك أناس نائمون، وهناك طلبة يذاكرون واستدار. وأنا أكمل الجملة، قلت: أكملها في دقيقة، فهو قال هاتين الكلمتين واستدار ذاهباً إلى باب المسجد، وبينما أنا أكمل الجملة استدار وشتم وخرج فهل يستطيع هذا إذا كان الفرح تحت بيته أن يتكلم؟ لا يستطيع، ولا ينصره لا عرف ولا سلطان. فهذه أمثلة! وفي سنة ثمانية وسبعين حين كان أحدهم وزيراً للأوقاف، ساكنو حي المهندسين اشتكوا من الأذان في (الميكرفونات) وقالوا: إن الأذان يزعجنا، وصدر قرار بإغلاق الميكرفونات العلنية في حي المهندسين، وقامت وقتها ضجة وثورة، وتكلم الدعاة عليها كلاماً طويلاً، وقالوا: الأذان لا يزعج أحداً، بل المريض وهو يتقلب في مرضه إذا سمع (الله أكبر) قال: رب أنت أكبر من المرض، فعافني، إذا سمع الله أكبر استبشر؛ لأنه لا ناصر له إلا الله في هذه الحالة، فهل تقوم تحرمه أن يسمع الأذان، وتقول الأذان يزعج! لا يزعج إلا البطالين الكسالى الذين شربوا الخمر إلى الأذان ثم يريدون أن يناموا. إذاً عقيدة الولاء والبراء هي والإيمان بالله لا ينفصمان، إذا وجد أحدهما وجد الآخر، وإذا رحل أحدهما رحل الآخر. وأيضاً -لخطورة عقيدة الولاء والبراء؛ ولأنها أخطر وأطول في الكلام من علامات المحبة- سنذكر أيضاً ضوابطها وعلاماتها، وأن بعض الصور تخرج من مسألة الولاء والبراء مثل المبايعة مع الكافر: أن تتعامل مع الكافر في البيع والشراء هذه الأفعال غير داخلة في عقيدة الولاء والبراء إلا إذا انضاف إليها أشياء، وسنذكر كل شيء بضوابطه. نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولاتسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

نماذج من حياة الصحابة في تقرير عقيدة الولاء والبراء

نماذج من حياة الصحابة في تقرير عقيدة الولاء والبراء الصحابة الأوائل ضربوا أروع الأمثلة في عقيدة الولاء والبراء، فقد خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء جمعوه في حياتهم فداءً لله ورسوله، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] آمن لكنه لم يهاجر، وكانت الهجرة علامة على الولاء لله عز وجل، فبرغم أنه مؤمن إلا أنه قال: (لا توالوهم حتى يهاجروا)، فالصحابة لما خرجوا من ديارهم وتركوا كل شيء، تركوا آباءهم وأبناءهم وأموالهم لله عز وجل، حتى إن بعض هؤلاء كان رجلاً كبيراً بلغ من الكبر عتياً، فوق الثمانين عاماً، ولكنه آمن وكره أن يعيش في برودة المجتمع الكافر، فخرج يقاوم سنه، ويقاوم قلبه وجوارحه، وخرج من مكة إلى المدينة ماشياً، فبينما هو في الطريق إذ أدركه الموت، فضرب كفاً بكف، وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. اعمل لله ومت حيث شئت {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26] أي: جمعناهم على ظهرها ونجمعهم في بطنها، فكن عبداً لله ومت حيث شئت، كن في جوف سبع، كن في جوف بحر، ستصل إلى الله عز وجل. وها هو صهيب الرومي رضي الله عنه، وكان قد جمع مالاً طائلاً وخبأه تحت جدار، ثم خرج هارباً بالليل، فعلم به المشركون فخرجوا وراءه، فأدركوه في الطريق، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال. قال: أرأيتم إن أعطيتكم مالي تخلون بيني وبين وجهي؟ قالوا: أجل. قال: فإن المال في مكان كذا. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، قال له: (ربح البيع أبا يحيى) ربح البيع لماذا ربح البيع؟ لأن الله عز وجل اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. عقد بيع ينتظر توقيعك فقط، المشتري مضمون، لا ينكث أبداً، عقد بيع ينتظر توقيعك أنت فقط، فهل توقع؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، لذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى). وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان أبر الناس بأمه، حتى كان يضرب المثل ببره، فلما أسلم قالت: (لا آكل ولا أشرب حتى تكفر بدينك، لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه). وظلت يومين أو ثلاثة لا تأكل، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فمها بالعصا، قال: فجئتها فقلت لها: (والله يا أمي! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني، كلي أو دعي) هذا هو الولاء والبراء، هذا هو الولاء لله عز وجل، كامل المحبة كامل الولاء، وولاؤك بقدر محبتك. وذكر ابن هشام في سيرته أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضرباً شديداً حتى كان يهذي، بسؤال واحد: ماذا فعل رسول الله؟ يسكتونه ويهدئون من روعه، وهو لا يكف عن هذا السؤال، حتى جاءت أم جميل بنت الخطاب وقد استدعوها: تعالي، طمئنيه، وهو لا يفتأ يقول: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: هو بخير. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. أيها المسلمون: لقد عجز كثير من المسلمين أن يكونوا مثل امرأة مسلمة، لما مات أبوها وأخوها وزوجها، ثم لا تأبه بكل ذلك وتقول: وما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير. قالت: أريد أن أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل لا قيمة لها!

الولاء والبراء في القرآن الكريم

الولاء والبراء في القرآن الكريم القرآن الكريم يدور في أغلب محاوره على تقرير التوحيد ونبذ الشرك، والمعنى التالي مباشرة لهذا المعنى هو: الولاء والبراء، وعقيدة الولاء والبراء: أن تتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الكافرين والمنافقين والعصاة بالقيد الذي ذكرته في العصاة، واعلم أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومتى كانت المحبة في القلب كاملة كان الإيمان كاملاً، أما فعل الجوارح فبقدر الاستطاعة. الإيمان: اعتقاد وعمل قول وعمل، وهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، (آمنوا): هذا عمل القلب، و (عملوا الصالحات): عمل الجوارح، فالإيمان اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فلابد أن يكون عقد القلب كاملاً لا نقص فيه، كل نقص في عقد القلب يعد نقصاً في الإيمان، بخلاف عمل الجوارح، فهذا بقدر الاستطاعة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] (أكره): عمل الجوارح. مر رجل على قوم يعبدون الأصنام، فقالوا له: لن تمر حتى تقرب لإلهنا قرباناً، وإلا قتلناك، فقرب قرباناً لآلهتهم وهو كاره فهذا لا يضره شيء، لأن عقد القلب كامل، ولا يتصور نقصه في عقد القلب؛ لأن في مقابله نقص في الإيمان، والذي يحب الناس لمحبته واعتقاده فيهم إنما يحبهم بالهوى، ينبغي أن تكون محبته لله عز وجل، قد يسيء إليك أخوك ولكنك تحبه، لما فيه من الإيمان برغم إساءته لك، هذا هو الإيمان. الإيمان اعتقاد بالقلب، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان) لماذا؟ لأنه لا يتصور الإكراه في عمل القلب، لأنك تستطيع أن تظهر غير ما تعتقد وأنت آمن؛ لأنه لا يشق عن قلبك، فلذلك جعل الإنكار باليد والإنكار باللسان بحسب الاستطاعة؛ لأنه ظاهر، أما القلب فلم يعذر فيه؛ لأنه لا يتصور عقد القلب إلا كاملاً، والنقص فيه يساوي النقص في الإيمان. إذاً كلامنا على علامات المحبة حتى تعرف من توالي ومن تعادي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فالذي لم يكن مؤتمناً على عبادة ربه كيف يولى منصباً؟!. ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة حكاية عجيبة: أن الملك الصالح كان عنده مستشاراً نصرانياً، وكان هذا المستشار شجاً في حلوق المسلمين، كان يقرب النصارى ويبعد المسلمين، وفي يوم من الأيام جلس الملك الصالح مع هذا النصراني في مجلس، فتطرق الكلام إلى الكلام على النصارى واعتقاد النصارى، فالملك الصالح ذم النصارى، وذكر حكايات عن النصارى فقال: إنهم لا يحسنون الحساب، لأنهم جعلوا الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة! جسم الأب والابن والروح القدس إله واحد! فخطر على بال الملك الصالح أنه يفتش وراء هذا الرجل، فإذا كان خان الله في التوحيد فماذا يفعل في الخزينة؟! فأكتشف أنه يؤدي إلى السلطان ديناراً ويأخذ دينارين على مذهبه، فهم ثلاثة، خان الله عز وجل في التوحيد أفنجعله أميناً على الخزنة؟!! أميناً على الجباية!! ومع أن الأدلة صريحة في القرآن، فأهم معنى بعد التوحيد ونبذ الشرك هو الولاء والبراء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]، هذه الأشياء التي ذكرها الله عز وجل هي مدار حياة الناس كلها، هذه الأشياء هي التي يوالون عليها ويعادون، الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والتجارة والمساكن، هذه هي حياة الناس، قال الله عز وجل: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24]، (تربصوا): يعني انتظروا فاقرة، وانتظروا عقوبة تنزل بكم حتى يأتي الله بأمره، ثم فسقهم جميعاً فسق هؤلاء الذين يحبون هذه الأعراض على الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.

عسى الله أن يأتي بالفتح

عسى الله أن يأتي بالفتح إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. في قول الله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] ما هو الفتح؟ وما هو الأمر؟ وهل بينهما فرق؟ ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)). (أن يأتي بالفتح): أن نظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، فإن لم يكن هذا الفتح، ((أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)) يدمرهم مكانهم بغير كسب منك، كما فعل الله عز وجل فيهم يوم الأحزاب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] ((أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)): يعني: ما خطر لك على بال، ولا دخل في حسابك. والفتح: كسب منك، والله عز وجل يظفرك به ويظهرك عليه. وإذا نظرت إلى حال الصحابة الأوائل، وجدت أن كلا الأمرين قد تحقق، الصحابة خرجوا من ديارهم وأموالهم. وقصة جالوت وداود وطالوت، لما اشتكوا لنبيهم ماذا قالوا له؟ قالوا: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] ولو كانت وأبناؤنا (بالضم) يعني: نحن وأولادنا خرجنا وتركنا المال والديار، لكن انظر! يقول: أخرجنا من ديارنا وأخرجنا من أبنائنا، فانظر إلى فداحة المصيبة! {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]. الولد قرة عين الوالد، فهؤلاء الصحابة لما قيل لهم: اخرجوا، تركوا ما بذلوه طيلة أعمارهم من المال والدار وراءهم، وذهبوا إلى مستقبل غير معروف، الصورة غير معروفة على الإطلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الله لم يضمن لهم أكلاً جيداً ولا ملبساً جيداً، وما تكلم عن هذه قط، ولكنه وعدهم الجنة، فإذا بذلت نفسك لله وخرجت من ديارك وخرجت من مالك وخرجت من ولدك أنا لا أعدك بشيء في الدنيا، فلا أعدك بتمكين ولا أعدك بمطعم وشراب بارد، وإنما أعدك إذا مت أن تدخل الجنة، هذه هي دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: وقود البذل والتضحية هو الإيمان لماذا؟ لأن هذه جنة! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] لم يقل: بأنه يمكن لهم، ولذلك من الغبن الشديد في حقنا: أننا نستعجل التمكين ونستعجل النصر، الرسول عليه الصلاة والسلام قال له الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، أما مسألة أن يمكن لك أو يمكن لابنك أو يمكن لحفيدك أو لا يمكن إلا للجيل القادم بعد زمن طويل هذه مسألة في علم الله عز وجل، المطلوب منك أن تستقيم، أما الوعد بالتمكين فلا، لا نعد بالتمكين إلا إذا أقمنا العبودية، فإن الله عز وجل وعدنا بذلك، لكن لا تقل: أنا فعلت، فلم لم يمكن لي؟! الصحابة لما خرجوا وتركوا أموالهم، ما الذي حصل؟ الله عز وجل أباح لهم رافداً إلى يوم القيامة، نحن نعيش على خيره لو رجعنا إلى الجهاد، كم أُخذ منهم من المال تقريباً؟ جازاهم بأن أباح لهم الغنائم إلى يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل، فعندما ترك الصحابة مالهم لله؛ أباح لهم رافداً لا ينضب، فأباح لهم الغنائم في وقعة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم).

تضييع الأمة لفريضة الجهاد

تضييع الأمة لفريضة الجهاد ونذكر هنا قصة يوشع بن نون المشهورة، وهذه القصة وإن كنا تكلمنا فيها وفي فوائدها ولكن أذكرها لأن هذا وقتها، وقت الجهاد والفداء، وليستشعر الذين كانوا يثبطون الدعاة ويكتبون ضدهم حينما كانوا يدعون إلى الجهاد، فقد ظهر شخص على أعلى مستوى دبلوماسي في مؤتمر صحفي يقول: كلام الجهاد والعنتريات هذا ولى وانقضى، الآن زمان السلام. الكلام هذا كان بمدريد. فالسياسة لا دين لها، والدعاة لم يغيروا كلامهم أبداً، فهم ينادون دائماً بضرورة تعبئة الأمة للجهاد في سبيل الله، وصارت كلمة الجهاد سبّة، وعوقب من ينسب إليها ولو زوراً! بعدما قتلت هذه الروح في الجماهير وهجم علينا أعداؤنا، من يدفع الضريبة ومن يدفع الثمن؟ بعدما قتلوا هذه الروح الفتية في نفوس الجماهير، من الذي سيدفع هذا الثمن، ويدفع ثمن هذا الجرم العظيم في حق الأمة؟ فالجهاد مصطلح إسلامي خالص لا يعرف في أي ملة، يعرف القتال الكفاح النضال أي شيء من هذا الكلام، لكن (الجهاد) كلمة إسلامية خالصة، لم تعرف إلا عن المسلمين. أحد الملوك مرة قال: الجهاد! فاهتزت العروش، وأرسل الأمريكان والإنجليز ليسألوه: ماذا تقصد بهذه الكلمة؟ وضح مرادك! لماذا كلمة (الجهاد) مرعبة؟ لأنها أولاً: مصطلح إسلامي. ثانياً: لا يعلم استخدام هذه الكلمة من قبل المسلمين إلا مع الكافرين، فعندما تقاتل أخاً لك مسلماً فليس اسمه جهاداً: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فقال: اقتتلوا ولم يقل جاهدوا، وقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه) لم يقل: إذا جاهد. فلما نحيي كلمة الجهاد مرة ثانية، وندرس أبواب الجهاد وأحكام الجهاد، فأنت تجهز نفسك لمن؟ نحن نعرف أن الجهاد للكفرة فقط.

عواقب ترك الجهاد

عواقب ترك الجهاد فنحن في زمان الجهاد، وقد أظلنا زمان الجهاد، والجهاد في سبيل الله متعة، والصحابة كانوا يتسابقون إليه، وما الفقر الذي نحن فيه إلا بسبب ترك الجهاد، ولو نغزو كل سنة مرة أو مرتين أو ثلاث، ألم يكن سيسلم أناس كثيرون في الأرض؟ والذين سيرفضون هذه الدعوة ويحولون بيننا وبين دعوة الناس ألن نقاتلهم، ونغزوا أولادهم وأموالهم ونساءهم، وكل هذه عبارة عن أموال، وكل مجاهد كان يرجع من الجهاد ومعه أموال كثيرة والسبي من النساء والأولاد، ولو ذهب ليعمل صفقة تجارية في بلاد الغرب ما حصَّل هذه الأموال أبداً، وإذا احتاج إلى المال يبيع من السبي، وليس هذا فقط، بل هؤلاء منهم من سيسلم، فيكون هو أدخل أناساً آخرين في دين الله عز وجل وظهرت كلمة الله عز وجل. فكتاب أحكام الذمة لـ ابن القيم كتاب من أمتع الكتب في هذا الباب، وقد نشره رجل محقق واعترض على ابن القيم في أشياء كثيرة بسبب الذل المضروب على المسلمين. مثلاً: ابن القيم يقول: إن النصارى واليهود لابد أن يعطوا الجزية وهم صاغرون فهذا شرط، يعني: لا يدفع الجزية إلا وهو ذليل منكس رأسه ويقول: خذ الجزية وهذا شرط مذكور في الآية. فهذا يرد على ابن القيم ويقول: هذا الكلام هذا غير صحيح، ويكفي أن نأخذ الجزية، وما صاغرون هذه؟ وهذا الكلام غير صحيح وإنما هذا المحقق يتكلم من وضع الضعف والهوان الذي يراه ويعيش فيه! الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالكلام). وصح عن عبد الله بن عمر أنه سلم على رجل فعلم أنه يهودي فجرى وراءه، وقال له: رد علي سلامي -هكذا بمنتهى العزة- فقال له: رددت عليك سلامك؛ لأن عز الفرد من عز أمته ودولته، وذله من ذل أمته ودولته.

وقفات مع قصة يوشع بن نون ومقارنتها بالواقع

وقفات مع قصة يوشع بن نون ومقارنتها بالواقع فالرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة يوشع بن نون، قال: (غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا يتبعني رجل له خلفات ينتظر نتاجها)، أي إنسان من هؤلاء أنا في غنى عنه: رجل تزوج ولم يبن -أي: لم يدخل بالمرأة- فهذا يجلس بجانبها لماذا؟ لأن الرجل يتمنى أن يتزوج، و (يعيش في ثبات ونبات ويخلف صبيان وبنات)، فهذا أول ما يرى بارقة السيف تلمع يفر كالجبان هذا لا ينفع. (ورجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها)، رفع الجدران وما زال السقف والدور الثالث والرابع والخامس، هذا الرجل يتمنى أن يرجع ليتمم ما بنى، فهذا يقعد. (ورجل له خلفات ينتظر نتاجها) له غنم، وهو ينتظر الغنم تلد، فبدل أن يكون لديه رأس غنم واحد يكون عنده رأسان وثلاثة وأربعة ويمني نفسه بالغنى. وهذا يذكرني بالرجل الفقير الذي كان له (قلة) سمن، وهذا الفقير كان في كل سبت يذهب ليبيع قلة السمن هذه ويشتري بطتين، ثم يبيعها ويشتري وزتين، فيوم من الأيام رأى بطاً ووزاً، فقال: هذا البط سأبيعه وآتي بشياه، ثم أبيع الشياة وأتي بخرفان، ثم أبيع الخرفان وآتي ببقر وجواميس، وبذلك سأصير غنياً جداً، وأبني قصراً منيفاً، وأتزوج أجمل امرأة في البلد، وأخلف من هذه المرأة ولداً جميلاً أربيه وأؤدبه وهذا الرجل كان يمشي على عكاز، انظر إلى هذه الأحلام كلها! وهو يمشي على عكاز ويحمل القلة، وهو ذاهب إلى السوق ليبيعها ويرجع، وهو مستغرق في أحلامه: وهذا الولد لابد أن أحسن تربيته -وهو في ذلك الوقت كان قاعداً والعكاز بجانب السرير- وأنا لا أحب الحال المشين ولا الكلام الفارغ، لابد أن أجعله ولداً جيداً، فإذا قال لي: لا؛ سأضربه هكذا فضرب على القلة فكسرها وانتهت أحلامه! فهذا رجل له خلفات ينتظر نتاجها ويقول: إن شاء الله تلد وسوف نبني ونترك ونفعل فالقلب هو الذي يعطي قوة الجارحة، فإذا أدبر القلب سحب تأييده للجارحة، وإذا أقبل أعطاها القوة، فلما يكون الإنسان يتمنى أن يرجع فهل يريد أن يموت؟!! ولذلك أحسن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم غاية الإحسان حينما استثنى هؤلاء، فخرج بالجيش وكان ذاهباً إلى حرب العماليق، وليس الجبناء هؤلاء. بالمناسبة! الجيش الأمريكي جيش ضعيف، ولم ينتصر في معركة دخلها قط، واسألوا فيتنام، فالجيش الأمريكي ليس لديه أي انتصار مشرف يستطيع أن يقول: أنا انتصرت، وكما هو معلوم فإن اللص (الفتوة) إنما يرعب الآخرين بقوته وفتوته، والأمريكان يعيشون هكذا (فتوات) فقط. وفي حرب الخليج لو أن العرب تنحوا عنها أكان بإمكان أمريكا أن تدخل وتنتصر؟ أبداً والله، ولذلك أدخلوا العرب في الحرب البرية، وهم شاركوا في الطيران فقط، ولكن الحرب البرية التي هي حرب المواجهة الحقيقية، فالذي يريد أن يقول: أنا غلبت، وأنا قوي، وأنا شجاع يدخل الحرب البرية، فالحرب البرية قدموا فيها العرب، حتى يكونوا -أي: العرب- هم الذين يطهرون الأرض أماهم في الألغام. فيوشع بن نون عليه السلام أخذ جنوده، وكان ذاهباً لمحاربة العماليق، ويذكرون في الإسرائيليات أن العماليق هؤلاء الواحد منهم كان طويلاً جداً، وكانت خلقتهم عظيمة. يقولون: من ضمن الحكايات أن واحداً من جيش يوشع بن نون ذهب إلى بستان حتى يتجسس على العماليق ويأتي بأخبارهم، مع العلم أن هذا الجندي ربما كان طوله كطولي مرتين -فالخلق ما زال يتناقص إلى يوم القيامة- فجاء أحد العماليق ودخل البستان فوجده مختبئاً في جذع شجرة، فأخذه ووضعه في كمه -الرواية تقول هكذا- وذهب به للأمير وقال له: وجدت هذا. فتخيل جماعة هذه صفتهم وذاهبون لمحاربة عماليق! أنا أقول هذا الكلام لتعرف أن الجبان لا ينتفع بالقنبلة في يده، الجبان يسلم لك مباشرة لو أنك أجرأ منه قلباً، فالرءوس الذرية التي يتحدثون عنها والتي يمكن لها أن تحرق الشرق الأوسط كله من أوله إلى آخره لا تهب قوتها ولا تخف منها؛ لأن الله عز وجل ناصرك، {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]. ومثلاً: دولة مبتدعة مثل إيران، والذي حصل في صحراء إيران أيام الرهائن الأمريكان معلوم عند الكثيرين، والرئيس الأمريكي غُلب بسبب هذه المسألة، فقام الأمريكان في صحرائهم فبنوا سفارة مثل سفارة أمريكا في إيران تماماً بنفس المداخل والمخارج، ووضعوا رهائن داخلها وأحضروا قوات (كوماندوز) ليخلصوا الرهائن ولعبوا هذه اللعبة! فهم مخترعو (السينما) في العالم، وتنظر فتجد عمارة مكونة من ستين دوراً وإذا بأحدهم يقفز منها كيف نزل سليماً؟ فهم أصحاب (هوليود). فيقول لك: نحن لابد أن نبين قوة أمريكا فأعدوا هذه التمثيلية لمدة ثلاثة إلى أربعة شهور، يأتي الطيران فينزل جنود (الكوماندوز)، ولكنهم نسوا شيئاً مهماً، نسوا أن الرجل مهما كان يمثل لا يمكن أن يتقمص شخصية الخصم. المهم تدربوا على هذه المسألة مرة ومرتين وأربع مرات وعشر مرات حتى تيقنوا مائة بالمائة أنهم سينتصرون؛ لأن (الرادارات) الموجودة في إيران كلها صنع أمريكي، وهم يعلمون كيف يشوشون على هذه (الرادارات)، ويعرفون أقصى مدى لها، وأنا قرأت في مذكرات بعض القادة العسكريين التي نشرت في السنوات الأخيرة أن أي دولة تصنع السلاح لا يمكن أن تعطي كل أسرار السلاح للدولة المستوردة، فتترك بعض أشياء معينة وكفاءات خاصة لا تستخدمها إلا الدولة المصنعة نفسها، فأنا لدي رادار مثلاً، وهذا الرادار أقول لهم: أقصى مدى له إذا الطائرة أتت على ارتفاع -مثلاً- سبعين متراً، وممكن (الرادار) هذا يكشف الطائرة وهي على بعد أكثر من ذلك، ولكن أنا معطل لهم هذه الخاصية، فلا يستطيعون أن يستخدموها. فطارت الطائرات الأمريكية على ارتفاع منخفض جداً وأفلتت من رقابة (الرادارات)، وربضت في صحراء إيران، وإيران ليس عندها علم بأن هناك طائرات أجنبية على أرضها، واستعدوا للدخول إلى السفارة وتخليص الرهائن حتى يعرِّفوا العالم أن أمريكا لا تغلب، وبينما هم يطيرون اصطدموا ببعضهم، هذا لو أنه مازال يتعلم ما فعل الخطأ البسيط هذا، فاصطدموا مع بعضهم أحياناً وأنت تمشي على الطريق السريع ترى حوادث سيارات لا يعملها طفل صغير، والذي فعلها إنسان يسوق السيارة منذ سنين طويلة. والحادثة أنت إذا وصفتها فستقول: طفل صغير لا يعملها، وتنكشف المسألة بحدوث حريق في الصحراء، ما هذا الحريق؟ قالوا: الطائرات اصطدمت ببعضها، والرجل ظهر واعترف. لماذا هؤلاء لم يضعوا الله عز وجل في حسبانهم؟ نسوا الله فنسيهم، وهؤلاء مبتدعة، فما بالك إذا كنا نحن على عبودية لله كاملة، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]. فخرج يوشع بن نون عليه السلام هو والجيش صباح يوم الجمعة -كما في مستدرك الحاكم- وظلوا يقاتلون العماليق قتالاً عنيفاً إلى أن غربت الشمس ولم يفتح لهم، حينئذ قال يوشع عليه السلام للشمس: (إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم ردها علينا) فرجعت الشمس كما كانت، فظل يقاتل حتى فتح له، وغلب وانتصر لماذا؟ لأن معه رجالاً، والأزمة الموجودة في أمتنا الآن: أزمة رجال، وليست أزمة موارد ولا أزمة سلاح ولا أزمة خطط، وإنما أزمة رجال فقط. فلما جمعوا الغنائم كانت العادة أن النار تنزل من السماء فتحرق الغنائم، فهذا يدل على أن الله تقبل غزوهم، فلما نزلت النار لتأكل الغنائم لم تطعمها وارتفعت مرة ثانية، فمباشرة يوشع عليه السلام قال: (فيكم غلول)، هناك لص في الجيش سرق شيئاً وغل مالاً، فمن يعترف؟ لم يعترف أحد إذاً: (فليبايعني من كل قبيلة رجل أو رجلان)، وكان من علامة (الغال) آنذاك أن تلتصق يده بيد النبي، فالتصقت يد رجل أو رجلين بيده فقال: فيكم الغلول؛ فأخرجوا من رحالهم مثل رأس البقرة من ذهب، فلما أرجعوه نزلت النار من السماء فأحرقت الغنائم.

من ثمار الجهاد

من ثمار الجهاد هذه القصة عقب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (فلما رأى الله عجزنا وضعفنا أباحها لنا) التي هي الغنائم (لما رأى عجزنا وضعفنا أباحها لنا) مع الحديث الآخر: (إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم) إذاً نحن الأمة الوحيدة المتفردة بحل الغنائم، فنكون قد ضيعنا على أنفسنا خيراً كثيراً على المستوى الاقتصادي بضياع كل هذه الغنائم. الغنائم أباحها الله لنا بعد قصة مطاردة أبي سفيان لما هرب بالعير، والرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يأخذ عير قريش جزاءً وفاقاً، أيأخذون أموال الصحابة، ويحرمونهم من مالهم ونتركهم؟! لا، فعلى الأقل نأخذ هذه العير في مقابل ما أخذوه من مال. فلما هرب بالمال عوضهم الله عز وجل خيراً من هذه الصفقة برافد إلى يوم القيامة، والتي هي الغنائم، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه)، فالشيء الذي نتركه لله محضاً وخالصاً يعوضنا الله خيراً منه فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ونحن نقرأ في هذه الآية: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} أننا نغلب وننتصر، ونظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، وفي ذلك شفاء لصدور المؤمنين.

إن الله يعين عباده المجاهدين بما يسلطه على أعدائهم من العذاب

إن الله يعين عباده المجاهدين بما يسلطه على أعدائهم من العذاب {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] وأنا ربما حدثتكم قبل ذلك عن الفيضان الذي ضرب ولاية فلوريدا الأمريكية، وكانت الخسائر المبدئية اثنين وأربعين مليار دولار، وبعد حوالي شهر ضرب أيضاً البحر -بإذن الله عز وجل- مدينة هاواي الأمريكية، وهي مركز من مراكز الدعارة العالمية، فكانت الخسائر المادية خمسة مليارات دولار، ففي ثلاثين يوماً كانت الخسائر سبعة وأربعين مليار دولار وأنت لا تدري ما الذي جرى، مع هذه المخالفات التي في ديار المسلمين، خسر الأمريكان سبعة وأربعين مليار دولار في شهر، ولو أنك تمتلك أقوى جيش في العالم ودخلت في حرب معهم فلا يمكن أن تخسرهم سبعة وأربعين مليار دولار في شهر واحد. إذاً السلاح الماضي لنا هو العبودية {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]. بختنصر الذي ظهر على اليهود أول مرة، دخل مرة على البلد فوجد أن هناك دماً يفور على كومة من القمامة، فقال: ما هذا؟ قالوا له: وفق عقيدة ورثناها عن آبائنا فإن هذا الدم سيظل يفور حتى نرويه من دم أعدائنا، هل تعلم أنه لكي يطفئ هذا الدم -كما تقول الروايات- قتل سبعين ألف يهودي وصب دمهم على هذا الدم، قالوا: حتى إنه لم يبق أحد يقرأ التوراة، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] فإذاً لا يعذبهم بعباده المؤمنين فقط، بل بكل الناس. حتى هتلر النازي كان يشويهم في الأفران شيّاً، وقد ذكرت قبلاً أنهم طلبوا من الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعل هتلر لماذا؟ لأنهم لم ينسوا ضحاياهم، وهم يتحركون بهذه العقيدة، فهل نحن نتحرك بهذه العقيدة، نحن نسينا أن اليهود أعداؤنا، ونسينا أن النصارى أعداؤنا، ونسينا أن المجوس أعداؤنا كل هذا لأن الجذوة التي تتقد منها عقيدة الولاء والبراء ذهبت، وهذه الجذوة هي الإيمان بالله عز وجل، ونحن على يقين أننا سننتصر؛ إذا فعلنا ما أمرنا به من تحقيق العبودية لله عز وجل قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الولاء والبراء [2]

الولاء والبراء [2] إن عقيدة الولاء والبراء هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها علاقة المسلم مع غيره، فالمسلم يوالي المسلمين ويحبهم على غير أنساب تربطه بهم، ويعادي الكافرين وأتباعهم، ولو كانوا أقرب الأقربين. ولقد أدرك أعداؤنا أهمية هذه العقيدة فحرصوا على تمييعها بشتى الوسائل، ودأبوا على استبدالها بمصطلحات دخيلة: كأخوة الوطن، والروابط الإنسانية وغيرها، وأعانهم على ذلك العلمانيون الذين هم من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بلساننا.

ترسيخ عقيدة الولاء والبراء

ترسيخ عقيدة الولاء والبراء إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قلنا فيما مضى: إن أول ما ينبغي أن ينشأ عليه الولد: هو صدق الانتماء إلى الله ورسوله، وذكرنا معنى الانتماء، وأن أساس الانتماء الحب، وكما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: (كل حركة في الكون أساسها الحب والبغض). كل حركة يتحركها الكائن أساسها الحب أو البغض، فأساس الموالاة: الحب، وأساس المعاداة: البغض. فبعدما ذكرنا علامات الحب قلنا: أثر هذا الحب هو موالاة الله ورسوله والمؤمنين ومعاداة الكافرين، فالرجل صادق الانتماء لا ينتظر أمراً من أحد ليدعو إلى من يحب، إنه يدعو إلى من يحب طبعاً، فلا يقال له: ادع إلى من تحب، أو الهج بذكر من تحب، إنه لا يحتاج إلى ذلك. أفلا أعطيك مثلاً ودليلاً؛ لعلك بعدما تستمعه تقول مثلما قال ابن آدم الآول: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]؟ الهدهد أحد جنود سليمان عليه السلام، وهو عبد لله عز وجل، فلا يوجد الكفر إلا في الثقلين الإنس والجن فقط فانتبهوا! فهذا العبد الموحد -الهدهد- انطلق بغير أمر، وراعه ما رأى، ورجع ليحيط سليمان عليه السلام بذلك التقرير الخطير! {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21]، رجع الهدهد ولكن ينطوي صدره على سر عظيم، لو اقترب من سليمان لعله قاتله قبل أن يبوح بالسر الذي بين يديه، لذلك {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22] ولم يترك مهلة لسليمان ليسأله أين كنت، حتى عاجله وبادره بهول ما رأى {فَقَالَ} [النمل:22] جاءت الفاء تفيد التعقيب مباشرة، حتى لا يترك أي فرصة للسؤال {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، ما أخبرني أحد، بل رأيت بعيني. {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} وهذا عجب! المرأة مملوكة لا مالكة، ولذلك حرمت من القضاء، وحرمت من الولايات العظيمة، وجعل عليها القوامة؛ لأنها مملوكة، فالعجيب أن يملُك هذا المملوك! كأنه قال له: اعجب وتنكر أن امرأة تملكهم، ولم يقل: تحكمهم؛ لأن الملك يدخل فيه معنى الحكم، والملك أعظم، ولذلك العلماء لما تكلموا في قوله تبارك وتعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أو ((مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) وكلاهما قراءتان متواترتان، وتكلم العلماء أيهما أبلغ، ((ملك يَوْمِ الدِّينِ)) أو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فقال جمهورهم: بل ((ملك يوم الدين)) أبلغ، لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملك، فيقول: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} لم يقل: تحكمهم بل قال: (تَمْلِكُهُم) وهذا أشد لهوانهم. تصور لما تكون العصمة في يد امرأة، ماذا تفعل بالرجل؟! العصمة في يدها، لذلك نهيت المرأة عن تولي الولايات العامة والقضاء؛ لأنها مملوكة، ولا تكون مالكة، {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]. هذه توطئة: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فلماذا ذكر التوطئة هكذا؟ {وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} إنما قدم بأنها تملك كل شيء حتى يظهر قبح الشرك، بعدما آتاها كل شيء، وملكها وأجلسها على عرش عظيم؛ تسجد لغير الله؟ وليظهر قبح ما ارتكبته المرأة وقومها، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:24 - 26]. فهذا جندي خرج بلا أمر، فلما رأى هذا الشرك لم يحتمل، وذهب ليضع هذا التقرير الخطير بين يدي سليمان عليه السلام، وكل محب منتمٍ يفعل ذلك، والذين يزعمون الالتزام كم من الفواحش، لا أقول: مررت عليها، بل هي في بيتك، وكم من المخالفات لا أقول: غيرك هو الذي يفعلها، بل أنت الذي تفعلها، وأولادك يفعلونها، وامرأتك تفعلها، وجيرانك، ومن معك في البيت، ومن معك في الشارع، ومن معك في البلد، ومع ذلك يقول أنا: لا شأن لي! هذا يصرف معنى الانتماء؛ لأن من يتحقق عنده الانتماء لا ينتظر الأمر في الدعوة إلى من يحب، ولا في اللهج باسم من يحب، إنما يجد نفسه منساقاً إلى ما يعتقد.

حقيقة البراءة من الكافر

حقيقة البراءة من الكافر إن حربنا مع أعدائنا -الذين يجب علينا أن نبغضهم غاية البغض لأنهم كفروا بالله عز وجل- ليست اقتصادية ولا سياسية ولا اجتماعية، إنما هي حرب عقائد، كذا قال الله عز وجل، كل حرب مع عدو لنا القصد منها أن نكفر بالله، أن نرتد عن ديننا، كذا قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]. هذه الآيات ناطقة بأن رجاء كل الذين كفروا أن يرتد المسلمون على أدبارهم، إذاً: ليست حرباً سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، بل هي حرب عقيدة، ولذلك تجد أي مستعمر لأي بلد أول شيء يحرص عليه أن ينشر لغته؛ لأنه لا يتم نشر الاعتقاد ولا فهم المعتقدات إلا باللغة، وتجد هذا واضح الأثر حتى الآن، فاللغة الأولى في بلادنا ما هي؟ لا تقل لي اللغة العربية، فهذا حبر على ورق، مثلما يقال في الدستور: الدين الرسمي للدولة الإسلام هذا غلط، الدين الرسمي للدولة هو القانون، لا الإسلام، هذا هو الواقع، دعنا من الحبر المكتوب على الورق، فهذا كلام لا يساوي المداد الذي كتب به، الواقع أن اللغة الأولى في بلادنا هي اللغة الإنجليزية، وليست هي اللغة العربية، فاللغة العربية مظلومة، ومدرس اللغة الإنجليزية يحظى باحترام وتقدير لا يجده حتى مدرس اللغة العربية. وحافظ إبراهيم له قصيدة رثائية رائعة، اللغة العربية ترثي نفسها، يقول فيها على لسان اللغة العربية المهضومة: وسعت كتاب الله لفظاً وآية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي حتى الآن وما زالت مشكلة تعريب الطب مشكلة المشاكل، كيف تقاعسوا عنها حتى الآن، ولا نعلم أن هناك بلد تحترم هذا التعريب إلا سوريا ومن جرى مجراها من البلاد العربية، ولا زالت بعض المصطلحات الكافرة موجودة حتى الآن ينطقها المسلمون ويعجزون عن تغييرها، مثل أن يقال: عيب خلقي {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهل يقال عيب خلقي؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في ظهره انحناء، فجعل الرجل يخفي هذا بثوبه، فلحظه النبي صلى الله عليه وسلم فناداه، وقال له: (يا فلان! كل خلق الله حسن). الأمم المنتصرة تفرض نفسها وتفرض مصطلحاتها على الأمم الضعيفة، فنتكلم بالكلام الكفري باسم المصطلحات العلمية، ونعجز عن تغييرها لماذا؟ لأنه ساد المصطلح، وصار معروفاً للأساتذة الكبار والتلاميذ الصغار، فلو قلت له: ماتقول في كذا -وسميته اسماً من عندك-؟ لا يعرف الطالب ماذا تريد، مع أن الدنيا كلها تشهد أننا اخترعنا الطب، وهم أخذوه منا، ونحن أولى به، وبضاعتنا يجب أن ترد إلينا، لكن هذا القهر اللغوي غلبنا في كل شيء. المغرب العربي اللغة الرسمية فيه هي الفرنسية، وقد قابلت كثيراً منهم في الحج والعمرة ولا يتكلمون العربية إلا بصعوبة، بل أقول لكم شيئاً رأيته بنفسي، لما سافرت إلى أسبانيا وأنا طالب، وجعلت أبحث عن مسجد لأصلي فيه الجمعة، ظللت أسبوعين أبحث وأسأل كل من ألقى: أين المسجد الموجود في مدريد؟ وبعد بلاء وصعوبة قالوا: المسجد في الشارع الفلاني، فذهبت وأنا أظن أنه مسجد له مئذنة أو مسجد كبير على وجه الأرض، فقابلت رجلاً على قارعة الطريق فسألته: أين المسجد الذي هنا؟ فبصق في الأرض ومضى، فذهبت إلى عنوان وصف لي، فلما وصلت ذهبت إلى استعلامات العمارة وأنا خائف أن يبصق الرجل أيضاً، فسألته وأنا وجل: هل يوجد هنا مسجد؟ قال: انزل هذا البدروم، نزلت تقريباً ستة عشر درجة، فوجدت شقة مؤلفة من غرفتين وصالة ووجدت بها مجموعة مكونة من حوالي مائة رجل يصلون الجمعة، كلهم يتكلم بالعربية وينتمون إلى جاليات عربية، وأغلبهم من الشام. فجعلت أتكلم بالعربية معهم، وأردت أن أتكلم مع ولد بجواري فرفض، وتكلم بالأسبانية، ففرحت وكدت أطير، حيث وجدت بغيتي أخيراً وجدت مسلماً أسبانياً في بلد ظل الإسلام فيه ثمانية قرون -ثمانمائة سنة- فلما تكلمت معه أُسقط في يدي إذ لم يكن أسبانياً، ولكنه شاب مغربي لا يعرف حرفاً من اللغة العربية! فاللغة الرسمية في بلاد المغرب العربي هي اللغة الفرنسية، وهكذا فإن الاستعمار أول ما يدخل يبدأ ينشر لغته؛ لأنه إنما ينشر اعتقاده باللغة، وكل الحروب الدائرة بيننا وبين الكفار حرب معتقدات، وليست حرب اقتصاد ولا سياسة ولا هيمنة أبداً، إنما هي حرب معتقدات كما قال الله عز وجل: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا)) [النساء:89]، كل المسألة أنهم يريدوننا أن نكفر كما كفروا. فهل نوالي مثل هؤلاء؟ هل نلقي إليهم بالمودة؟ إن الولاء والبراء هو الأثر الطبيعي لصدق الانتماء، وإن الكافر إذا ظهر لا يدعك أبداً، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، وقال في الفتية الذين آمنوا وهربوا إلى الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، هذه طبيعة ظهور الكافر على المسلم.

فقه البراءة من الكفار

فقه البراءة من الكفار الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. روى الإمام النسائي في سننه أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم -من العهود والمواثيق-. قال: تبايعني على ألا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح للمسلمين، وتفارق المشركين)، فتأمل هذا! مفارقة المشركين ضرورة، ومن غير المتصور على الإطلاق بأي مذهب على وجه الأرض أن توالي عدو حبيبك وتزعم أنك تحبه! أو تقول: أنا أكرهه، ثم تبسط يدك إليه بالود! فأنت عندما تحب الله عز وجل؛ تكره أعداءه بتلقائية، بدون مجهود، و (تفارق المشركين). لقد كانت جناية الطابور الخامس على أمتنا جناية عظيمة الأثر، بالغة الخطر، لا زلنا نتجرع مرراتها حتى الآن. والعجيب: أن كل خائن وصل إلى قمة الهرم كيف؟ لا أدري! وكأن من مسوغات ارتقاء الهرم أن تكون خائناً! وكلما بالغ المرء في الخيانة كلما واصل ارتقاءه. وقد قرأت منذ أيام في مذكرات أحمد لطفي السيد، الذي لقبوه بأستاذ الجيل، ونزل هذا الكتاب بخمسة وعشرين قرشاً في وقت كان أسعار الورق فيه مرتفعة، وأسعار الكتب في الذروة، ولكن هذا الكتاب كان مدعوماً، وقد كتب عليه في أعلى الغلاف (المواجهة) ومن تحت (التنوير) وعلى غلاف الصفحة الأخيرة مذكور: لماذا تنشر هذه السلسلة بهذا الثمن الرخيص؟! قال لك: لأن الإرهاب سيحطم كل الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، فأحببنا أن نواجه الإرهاب بالتنوير. في هذا الكتاب تحت عنوان (الجامعة الإسلامية) في أيام اللورد كرومر، وعندما كان الإنجليز يحتلون مصر، ظهرت فكرة إنشاء جامعة إسلامية في مواجهة الإنجليز لتحرير البلد، فلما نطق بهذه الفكرة بعض الصحفيين على صفحات الجرائد آنذاك؛ هاب الإنجليز والغرب ذلك، فبعثوا يسألون عن حقيقة هذه ما الجامعة الإسلامية، فانبرى أستاذ الجيل يفند وينفي بقوة قلب وجرأة جنان أن يكون هناك أي فكرة للجامعة الإسلامية، وقال: هذا تفكير ساذج لصحفي كاذب. كل هذه آثار ينبغي أن يكون المسلم عالماً بفقه البراءة منها؛ لأن من أسباب عدم ظهور هذه الشعيرة العظيمة: الجهل، ووضع الضعيف في مكان القوي، والقوي في مكان الضعيف. ونحن نعلم أن الخوارج لما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام -في صحيح البخاري- قال: (يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام) مثلاً: أنت مختلف مع واحد في مسألة، القنوت في الفجر -مثلاً- أبدعة هي أم لا؟ أو مسألة رفع اليدين في دعاء الجمعة بدعة أم لا؟ هذه المسائل الفرعية، مسألة أن الجماعة الفلانية مبتدعة أم لا، مسائل كهذه يهجره بسببها، ويصير جاره النصراني يقول له: صباح الخير، وصباح الفل، ويضحك في وجهه، وأول ما يرى أخاه يتجهم وهذا من أسلوب الخوارج، (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان). فتعاملك مع الناس يجب أن ينبني على أساس الدين، وبالتالي فإن هجرك لأصناف الناس يجب أن يكون وفق العقيدة التي يعتقدها كل صنف، فالمبتدع له نمط، والعاصي له نمط، والكافر له نمط، الرسول عليه الصلاة والسلام قال -كما في صحيح مسلم-: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ضيق عليه، وهذا حديث في صحيح مسلم، أين ذهبت هذه الأحاديث؟!

من صور البراءة من الكفار

من صور البراءة من الكفار وباختصار: عدتنا القادمة هو الإيمان بالله، والاستعلاء بهذا الدين، والولاء والبراء، وأول من ينبغي أن تتبرأ منه هو الكافر بالله عز وجل. مثل إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]، انظر الكلام! {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} عقب من؟ عقب إبراهيم عليه السلام. إذاً: الولاء والبراء جزء من لا إله إلا الله،، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، فهذا معنى كلمة: (لا إله) أليس البراء رفض، والولاء انتماء؟ فعندما تقول: (لا إله) فهذا شطر البراء الموجود في الكلمة المباركة، و (إلا الله): هذا هو الانتماء، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}: هذا هو معنى (لا إله) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] (إلا الله) فجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام يتناقلها أبناؤه وذريته إلى يوم القيامة، فكل الأنبياء من نسله، وإن تعجب فعجب أن يقول الذي نزل بالتوحيد: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، يخشى -وهو الحنيف الذي أرسل بالتوحيد- أن يرتكس في عبادة الأصنام؛ فيستعيذ بالله من ذلك. لأنها كلمة باقية في عقب هذا النبي الكريم شرفه الله بها، وشرف ذريته بها، فإعلانك البراءة من الكافرين لا يتم قول لا إله إلا الله واعتقادها إلا بذلك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ضياع الانتماء والولاء والبراء في واقعنا المعاصر

ضياع الانتماء والولاء والبراء في واقعنا المعاصر نحن في زمان نمر بأحداث جسام، وأزمتنا أزمة رجال، نريد أن نستعلي بهذا الإيمان، فهو الذي يغلب، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. هذا هو سلاحنا الوحيد، وعندما قال الدعاة إلى الله عز وجل: إن السلام الذي عقد مع اليهود ليس سلاماً، بل هو استسلام؛ رموهم بالرجعية والتخلف، وهجم عليهم العلمانيون، الذين يريدون ربط الناس بالتراب وليس بالله عز وجل، حيث يقول قائلهم: وطني لو صوروه لي وثناً هممت ألثم ذلك الوثنا ويقول الآخر: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ويقول الآخر: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا هكذا يريدون أن يربطوا الناس بالتراب، ومن رُبط بالتراب دِيس بالأقدام، وهذه هي طبيعة التراب، فهؤلاء ليس عندهم نخوة العربي الجاهلي، الذي رأى أن اعتداء المعتدي عليه عدة مرات إذعان وإهانة، ليس عندهم نخوة هذا العربي الذي قال -ونعم ما قال! -: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ َولَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ وتأْيِيمٌ وإرْنانُ وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ غَذَا والزِّقُّ ملآنُ ثم قال -ونعم ما قال! -: وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْلِ للذلّةِ إذْعانُ وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ بعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان، يعتدي عليك فتسامحه، ثم يعتدي مرة ثانية وتسامحه، ثم ثالثة ورابعة وتسامحه لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان. فبعض الحلم -إذا جهل الجاهلون عليك، ولم يراعوا معك اتفاقاً- إذعان، فإذا أحسنت إلى أحدهم مرة وثانية وثالثة ولم تجد لإحسانك موضعاً -إذ الذي أحسنت إليه لئيم- حينئذ لا يبقى إلا الأخيرة. وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ ما بقي إلا هذا، فنحن مقدمون على مرحلة خطيرة، والعلمانيون فعلوا في هذه الأمة ما لم يفعله اليهود ولا النصارى، ولهم وسائل كثيرة متعددة. فتسجيداً للانتماء وعملاً بعقيدة الولاء والبراء أول ما ينبغي أن نفعله، مقاطعة السلع اليهودية، وإن كنا نعرف أن اليهود يستطيعون كتابة (صنع في أي بلد)؛ مثل الأخطبوط، فيرسل لك البضاعة عبر أي دولة تريدها أنت. حذيفة بن اليمان لما خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمسكه المشركون وأباه قالوا: إلى أين؟ فأجابا: إلى المدينة. فقالوا: تذهبون وتحاربوننا أبداً! أنتم أسرى عندنا. فقال حذيفة: لكم علينا أن لا نحاربكم فتركوهما، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصا عليه ما حدث، فماذا قال لهم النبي الكريم النبيل؟ قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)، فلم يشهد حذيفة بن اليمان ولا والده غزوة بدر، ليس لأنه لم يكن حاضراً؛ بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم). وفي الصحيح أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الحرب امرأة مقتولة، فغضب، وقال: من قتل هذه؟ قالوا: يا رسول الله! إنها خرجت معهم. قال: سبحان الله ما كانت هذه تقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والذرية). في الحرب أعداؤك لا ينظرون بهذا المنظار، أعداؤك ليس هناك قانون يحكمهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، يريد أن يصل فليفعل ما شاء، وجاراهم المسلمون بالذات في باب الجاسوسية، فالجاسوس يزني، ويشرب الخمر، ويدفعون له المال، ويقولون له: ازن على حسابنا، واشرب خمر على حسابنا، واعمل كل الفجور على حسابنا، وهات عنهم المعلومات أهذا يرضي الله؟! جاريناهم، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، فنحن قوم نبلاء، ونحن محكومون حتى مع أعدائنا فكل شيء حرمه الله عز وجل لا يحل لنا حتى مع أعدائنا: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)، إذاً هو عدتنا وهو ملجأنا وهو ناصرنا، ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] هذا هو القانون. ولذلك لا نسير سيرتهم على الإطلاق، محرم علينا ذلك، فالنبي ينهى عن قتل النساء والذرية ويقول: (سبحان الله! ما كانت هذه تقاتل) إذاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى قتل النساء المجندات في الجيش؛ لأنه إنما ربط الإنكار لعلة أنها لا تقاتل، وإذا ثبت أن المرأة تقاتل جاز قتلها، مثلها مثل الرجل تماماً، (ما كانت هذه تقاتل) معنى ذلك أنها لو كانت تقاتل إذاً تستحق القتل، فكل امرأة ثبت أنها مجندة في جيش العدو تقتل مثل الرجل تماماً، بنص هذا الحديث.

من مكائد الأعداء

من مكائد الأعداء ظهرت عندنا مصطلحات بديلة، وراجت على الجماهير المغفلة، وروجها العلمانيون، يقول لك: أخوك في الإنسانية، ما مصطلح (الإنسانية) هذا؟! {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} ما تقول بعد هذا {تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} هل تصح هذه المعاملة؟! نحن آمنا بموسى وآمنا بعيسى، وآمنا بالتوراة والإنجيل جملة؛ لأنها نزلت من عند الله وإن كنا نقطع أن الموجود منها محرف، فهم يكرهوننا ويعادوننا، ومخططاهم يكشونها علانية، بينما كانوا قديماً كانوا يخافون من التصريح بها، أما الآن فينشرون المخططات على الورق، فهل سمعت بالدولة البترولية الجديدة التي ينوي أعداؤنا إنشاءها على أرضنا!! فحرب الحدود أصبحت مشكلة بين السعودية واليمن، فأرسلت الوفود، وأقيمت مأدبة عشاء هنا ومأدبة غداء هناك، وعقدت الاجتماعات الثنائية. وهم في النهاية يختلفون على أرض في مجملها صحراء لا تصلح لحياة الكائنات. حرب حدود ما بين مصر وليبيا، وبين مصر والسودان، وحرب حدود ما بين قطر والسعودية، حرب حدود ما بين العراق والكويت، وحرب حدود ما بين إيران والإمارات من الذي فجر حروب الحدود هذه؟ فجرها المستعمر عندما خرج اصطنع حدوداً ثم قال لكل فريق: سأجعل لك خطاً على الأرض يحدد ملكك، وأنت ملكك إلى هنا. فالمسألة ليس لها قيمة على الإطلاق، بل افتعلها القوم المسألة هذه، ليكدروا صفو العلاقات الموجودة ما بين الدول الإسلامية بمثل هذه المنغصات. فكم تنفق من الأموال والجهود بعد شحن الصدور بالعداوات، وكل هذا قناع هم صانعوه، وبعدما انتهت حرب الخليج نُشرت مذكرات القادة العسكريين والساسة، واكتشفنا منها أنهم كانوا يخططون لحرب الخليج منذ عشرين سنة، وكتبوا الأوراق بسرعة وببساطة: إن حرب الخليج ليست صناعة اليوم. ومن ضمن النشرات التي نشروها ووضعوها في وسط الكلام: الدولة البترولية الجديدة، التي يريد النظام العالمي الجديد أن يقيمها وتشمل المنطقة الشرقية في السعودية، والعراق والكويت والإمارات، يعني: دائرة البترول، فيرسمون دائرة ويقولون لنا: هذه الدولة البترولية الجديدة، ولأن البترول في أرضكم فستظلون تتحكمون فيه، وأنا الآن العام سام، وأنا النظام العالمي الجديد، وسأعطيكم منه على قدر احتياجكم، والباقي يعطى لمن ينتفع به. وبهذا تصير أرضنا أرضاً جدباء، ليس عندنا صناعة بعد اتفاقية (الجات). وأنت تعلم أنه حتى شهادة التصنيع العالمية (الإيزو) أو (البايزو) هذه الشهادة الخائبة، نتمنى أن الغرب يشهد لنا أننا محترمون ونسكت، فتقوم شهادة البايزو هذه -لا بأس، فهذا مصطلح خاص بي، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاءوا، فلنصطلح على هذا المصطلح- وأصحاب المصانع في بلداننا يتسابقون في تقديمها للجهات الأجنبية، حتى يعطوا هذه الشهادة، فهل عرفت هذه الجهة ماذا تصنع؟ ما جودة صناعتك؟ وكم طاقة مصانعك؟ وهل غطت الإنتاج المحلي أم لا؟ وبضاعتك تسعرها بكم؟ وأنت تخسر أم تكسب؟! ويظل يقول لك: أنت الأول، ولا أحد مثلك وكل ما يعمل اختراع يعطوه هذه الشهادة، فصاروا يخترقوننا في كل شيء، حتى في الصناعات! وعلى سبيل المثال: فإن الحريق الذي حصل في مصنع (البطاطس) في العاشر من رمضان، وكان ذلك المصنع قد توصل إلى تركيبة رائعة، وكان قد تقدم تقدماً هائلاً، فصارت منتجاته تنافس الصناعة الأجنبية، وكانت الأسعار لا بأس بها، فما الذي حصل؟ ألقيت التهمة على المظلوم البريء الماس الكهربائي، هذا الماس كيف نحاسبه؟ فحرقوا المصانع الجيدة، وأصبحنا نستخدم الصناعة الأجنبية، يقول لك: العالم كله أصبح الآن مثل القرية، فنحن اتفقنا على التبادل التجاري، فإما أن تدخل معنا أو تظل صناعاتك ولن نأخذ منك أي بضاعة، فنحن دُفعنا دفعاً إلى اتفاقيات (الجات) وما دخلناها بإرادتنا، فإما أن تشترك أو لن نأخذ منك بضاعة ولن نعطيك بضاعة، وتقبل رغماً عنك القرارات التي تضر باقتصادك. والسوق العربية المشتركة التي هم الآن ينظمونها في منطقة الشرق الأوسط، ما المقصود بها؟ هيمنة إسرائيلية محضة، فليس لدينا أي شيء. فهم بذلك يكشفون عن خططهم، ونحن نعلم أنهم سيضربون اقتصادنا، بينما نقف عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا، فأي هوان وذل أشد من هذا؟!!

البراءة من الكافرين

البراءة من الكافرين أيها المسلمون: نحن أزمتنا أزمة رجال الإسلام أعزنا، ولا توجد علاقات بيننا وبين النصارى، فلا يأتي إنسان يكفر بالله عز وجل وأقول: هذا أخي في الإنسانية أخوك من أين؟ كيف يظهرون كل مرة يقولون: إخواننا الأقباط إخوان من؟ نحن لا نعرف هذه الأخوة على الإطلاق، وهذه ليست دعوة، هذه فتنة طائفية؛ لأن العزة للإسلام والمسلمين، لكن تلك شكاة ظاهر عنك تعارها. (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام) هذا حكم شرعي، فإذا كان لك جار نصراني، أو زميل نصراني في العمل، أو يهودي فلا تبدأه بسلام على الإطلاق، إنما ابدأه بأي صيغة، كأن تقول له: صباح الخير، صباح النور، أو أي كلمة أخرى. ولا يجوز لك أن تسلم عليه بلغته، فإن من علامة الذوبان في عدوك أن تتكلم بالمصطلحات الخاصة به، والكلام الدارج الذي على لسان الناس، حتى عناوين المحلات: (شوبينج إخوان) ما هذه التركيبة؟! لماذا ركبتها هذه التركيبة؟ لماذا جعلت نصفها عربياً ونصفها إنجليزياً؟ لماذا الأسماء الأجنبية صارت واجهات المحلات، وصارت جميلة؟!! وحتى بعض أصحابنا قديماً في الدراسة -الثانوية- الذين دخلوا الطب وصاروا دكاترة، هناك بعضهم -أنا أعرفه- يتعمد أن يتكلم بالمصطلحات الإنجليزية، كما كان قديماً، وإذا أراد أن يتكلم كلمة بالعربية فإنه يجد صعوبة في ترجمتها من الإنجليزية إلى العربية، أما الإنجليزية فصارت دارجة على لسانه وكأنها لغته الأم! شيخ الإسلام ابن تيمية عقد في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم باباً للكلام باللغة الأجنبية، وقال: إن هذا من علامات النفاق: أن الواحد يتكلم باللغة الأجنبية؛ لأن هذا فيه رفعة للغة عدوك، فتكلم بالعربية واعتز بعربيتك فهي لغة القرآن! فأنت قل له أي تحية، ولكن لا تبدأه بالسلام لماذا؟ لأن هذا من خصائص المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه قال:: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). والسلام تحية أهل الجنة، وهذا مصطلح خاص بالمسلمين، فلا تعطه لهؤلاء الكافرين على الإطلاق. ضرب الجزية على هؤلاء علامة من علامات الكرامة والعزة التي أمرنا ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بنص القرآن أن نفرضها على اليهود والنصارى، ولا تتخذ المشركين ولا الظالمين إخواناً لك {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113]، إذاً {لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فمجرد الركون أنت ممنوع منه. فمسألة الولاء والبراء غير منضبطة عندنا، الولاء والبراء من أساسه ومن أصوله ألا يغير في العلاقات الشخصية في محبة ولي الله، وإن كنت تبغضه في الدنيا، هو من أولياء الله أحبه؛ لما فيه من محبة الله عز وجل، ولا أكرهه لأجل مصلحتي، والله نحن نتمنى أن نتعلم هذا الخلق.

موالاة المؤمنين

موالاة المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما أسيد بن حضير حصل منه الذي حصل في الإفك، والنبي عليه الصلاة والسلام على المنبر بعدما أشاع عبد الله بن أبي ابن سلول أن عائشة رضي الله عنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل علي بن أبي طالب وسأل أسامة بن زيد، وتأكد من براءة أهله وكان متأكداً، فعندما صعد النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر وجمع الناس، وقال (أيها الناس! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما أعلم عن أهلي إلا خيراً؟ فقام سعد بن معاذ -ذاك السيد الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات- قال: (يا رسول الله! إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه)، لماذا؟ لأنه زعيم الأوس، فهو له كلمة عليهم، فقالها بلا تحفظ، (إن كان من الأوس أمرتني فضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج) لم يقل: ضربت عنقه أيضاً، لأن الأوس والخزرج كان بينهم مشاكل في الجاهلية وستدخل في الإسلام مرة ثانية. فحتى لا تقع مشاكل تحفظ سعد رضي الله عنه في الكلام عن الخزرج وقال: (وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك) -انظر: الجمال في التحفظ! كان يمكن وهو منفعل أن يقول له: إن كان من الخزرج أضعه تحت رجلاي مثلاً- ومع هذا التحفظ قام سعد بن معاذ، وهو زعيم الخزرج، وقال له: (والله لا تستطيع، ولا تقدر) أي: أنا الذي يقوم بذلك إن كان من الخزرج. كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على المنبر، وهم يتراشقون بسهام الملام، فقام أسيد بن حضير، فقال لـ سعد بن عبادة: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين. حتى ثار الحيان الأوس والخزرج، وهمَّا أن يقتتلا في المسجد، والنبي عليه الصلاة والسلام يخفضهم بيديه -يعني: يشير إليهم بالسكوت- فلا زال يخفضهم حتى سكتوا. عائشة رضي الله عنها قالت: (فقام سعد بن عبادة -وكان قبل رجلاً صالحاً- فاحتملته الحمية)، لم يمنعها غضبها أن تشهد له بالصلاح؛ لأنه ولي لله عز وجل، وكان محبباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومن سادة الرجال، ومن سادة المسلمين. إذاً الغضب الشخصي لا يزيل مناقب أخيك، تظل المنقبة موجودة فيه كما هي، هذه هي قاعدة الولاء: أن الحب في الله عز وجل لا يزيد بالود ولا ينقص بالجفاء لماذا؟ لأن الذي واليته من أجله لا زال موجوداً. وهذا كان خلق الصحابة الأوائل، فلم يكونوا يحبون الشخص لصورته، وإنما لما فيه من الإيمان بالله عز وجل، ويكرهونه لما فيه من البعد عن الله تبارك وتعالى. وهناك أشد من ذلك، وهو ما قالته زينب بنت جحش رضي الله عنها عن عائشة عندما سئلت في حديث الإفك، رغم أنه من عادة الضرائر أن كل واحدة تذم الأخرى، إلا المؤمنة بالله عز وجل، بل حتى المؤمنة قد تضعف؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي) يعني: مثلاً تتكلم تقول: بالأمس جلس يضحك معي، ويقول لي: أنا لا أستطيع أن أستغني عنك. فهذه تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أريد أن أتشبع أمام ضرتي بما لم يعطني زوجي. فقال لها: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، انظر إلى هذا الكلام الجميل! إنسان يلبس ثوبي زور، وأنت تعرف الثياب التي تباع في الأسواق الآن، والذين يلبسون ثياب الزور هذه لا يحصون عدداً، لا يحصيهم إلا الله عز وجل، (كلابس ثوبي زور) ونهاها، برغم أن إنساناً ربما يقول: ألا يدخل هذا في الكذب المباح؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أباح أن الإنسان يكذب لأجل المحبة القلبية، ولأجل أن يزيد الود ويتنامى؟! وهذه المرأة لما تقول هذا الكلام تريد أن يكون لها حظوة عند زوجها أقول لك: لا، بل الرسول صلى الله عليه وسلم لما أباح للرجل أن يقول ذلك لامرأته خاصة أو المرأة للرجل، أراد تحقيق المصلحة، ولكن هذا فيه مفسدة، لأنها ستلفت نظر المرأة الأخرى، فعلاقة الضرائر تكون علاقة فيها شيء من التوتر، إلا إذا عصمهن الله بالإيمان. فـ عائشة اتهمت في عرضها وسئلت زينب عنها: ما رأيك يا زينب في عائشة؟ هل علمت عليها شراً؟ قالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، فوالله ما أعلم عنها إلا خيراً. تقول عائشة رضي الله عنها: (فقالت حمنة -وحمنة أخت زينب، هي التي تكلمت في حادثة الإفك على عائشة - أما أختها زينب فعصمها الله بالورع). ولما ماتت عائشة رضي الله عنها وسمعت أم سلمة العويل قالت: ما هذا العويل؟ قالوا: ماتت عائشة فقالت: (رحمها الله، إن كانت لأحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه)، شهادتك أساسها ما بالرجل من إيمان، ولاؤك لما له من القرب من الله عز وجل، ينبغي أن يكون هكذا، كذلك الصحابة كلهم كانوا هكذا، فلما تقلص هذا الميزان، وأصبح الناس يحب بعضهم بعضاً للصور وليس لاعتبار الإيمان؛ فظهرت المشاحنات والمشاكسات والخصومات. أنا أعرف خصومات كثيرة وقعت بين كثير من الإخوة، خصومات من أتفه ما يكون، والله لو عرضت على ميزان الإنصاف لاتهم المنصف صاحبها بالحمق والتجني، كلها خصومات فارغة، وإنما هي حظوظ النفس، وهذا هو خلق المشركين. ربنا سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73]، وبعد ذلك {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، أهل الدنيا هذا مذهبهم، تكذب على الله وتكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، وتغير شهادتك، وتشهد الزور، وتخدمه في مصالحه يتخذك خليلاً، وهذا مذهب أهل الكفر: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} يعني: يكذب على الله عز وجل {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73] انتبه للمعلومة التي ستأتي! {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:73 - 75] هل لاحظت الفرق بين قوله) {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} [الإسراء:75] هذا يدل على ماذا؟ واو الحال من طبيعتها تهيئة المقام وتهيئة الكلام، وإعطاء مساحة للمعنى، إذا شطب وغير واستفاد هذه الخلة الموجودة في الدنيا والمصالح إلخ؛ فالعقوبة تأتي مباشرة، ليس هناك تهيئة، {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر:74]، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] مباشرة.

ضياع مبدأ الموالاة في عصرنا الحاضر

ضياع مبدأ الموالاة في عصرنا الحاضر فذهب أهل الدنيا إذا أعطيت أحدهم؛ فأنت حبيبه، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى كشف هذه المسألة في القرآن، قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. كنت أعرف رجالاً، وعلاقتي بهم كانت قديمة، ولا أعرف إن كانوا ماتوا أو لا زالوا على قيد الحياة، ناس من الذين وصلوا إلى قمة الهرم، ومنهم رجل وصل إلى وكيل أول وزارة من الوزارات، وقدر لي أنني كنت أخطب في المسجد الذي كان هو رئيس مجلس إدارة فيه في القاهرة، فبعض أصحاب الحي عملوا فيَّ وشاية، وعملوا بلاغاً لوزارة الأوقاف، فنحوني عن الإمامة، وأحضروا واحداً معه إعلام وسياسة واقتصاد، وأصعدوه على المنبر يخطب، وهذا الرجل كان لا يحسن أن يقرأ في كتاب الله عز وجل، وأنا أحسن حاجة كانت تعجبني فيه أنه كان يتحمس في الكلام، ولا أعرف لماذا يتحمس؟ يذكرني بقول القائل: ليس أضنى لفوائدي من عجوز تتصابى وذميم يتحالى وعليم يتغابى وجهول يملأ الأرض سؤالاً وجواباً هذه هي طبيعة علاقات الدنيا، لذلك ربنا قال: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وربنا سبحانه وتعالى قال (الأخلاء) ولم يقل الأصدقاء ولا الزملاء؛ لأن الخلة أعظم الحب، وما سمي الخليل خليلاً إلا بعد أن تخللت محبته قلب المحبوب. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، ولم يقل هذا في النبي عليه الصلاة والسلام، وهم يعلمون أن الخلة أعظم الحب، فقال (أتعجبون أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً؟!) قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، فأثبت الخلة لنفسه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه أعلى مقامات الحب. والله عز وجل يقول: (يا من أحب الآخر حباً حتى تخلل حبه مسام قلبه؛ أنت عدو له إن لم يجمعك التقى معه). إذاً: اعتبار الإيمان هو الاعتبار الوحيد بين المؤمنين الذي من أجله تحب وتكره، وبسبب إهمال هذا الاعتبار صار بعض المسلمين يعطون الود للكافرين ويحرمونه المؤمنين؛ لأجل أنهم مختلفون معهم في المصالح، ولذلك نحن نقسم العداوات مع أعداء الله وأعداء الرسل، نقسمها دركات على حسب القوة: كافر، ثم موالي للكافر -منافق- ثم مبتدع، ثم عاص، وكل واحد من هؤلاء له درجة في المعاداة، بحيث أننا لا نخلط بين هذه الدرجات، وحتى نستفيد من مسألة الولاء والبراء. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أين الخلل؟!

أين الخلل؟! إن الدعوة إلى الله عز وجل وسام شرف يناله من اصطفاه الله من خيرة خلقه وأوليائه، والداعية أثناء سيره في حقل الدعوة إلى الله عليه أن يتسلح بالإخلاص والعلم والصبر والثقة بوعد الله عز وجل؛ حتى تكلل جهوده بالنجاح. وطريقة التعامل مع المدعوين تتوقف على شخصية هذا المدعو، والبيئة التي خرّجته، فعلى الداعية أن يضع الحكمة في موضعها ويعامل المدعوين بأخلاق الداعية لا بأخلاقهم هم.

أهمية العلم للداعية

أهمية العلم للداعية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. أيها الإخوة الكرام: درسنا في هذا المساء بعنوان: أين الخلل؟! وأعرض فيه للجنس الثاني من الكلام على هذا الموضوع الخطير، وهو وإن كان الجزء الثاني؛ إلا أنه مستقل بذاته. الناس في هذه الدنيا يتنافسون على الوظائف، ويُعرف شرف المرء وهمته بوظيفته، وأشرف الوظائف في الدنيا هي وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل، إذ هي وظيفة الرسل، فهذه هي أشرف الوظائف على الإطلاق، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لها ثلاثة أركان: الدعوة، والداعيةُ، والمدعو، ودرسنا هذا المساء يتعلق بالداعية وما ينبغي أن يتحلى به، فهو يبلغ رسالات الله عز وجل. جرت عادة الدول أنها إذا أرسلت سفيراً لها في الخارج فإنها لا ترسل رجلاً جلفاً غبياً غليظاً، إنما ترسل رجلاً ذا لسانٍ عذب ذكياً صاحب بديهة، إذا وقع في محنة فلا يورط نفسه ولا دولته، وتسمع كثيراً عن الإجابات الدبلوماسية. معنى إجابة دبلوماسية يعني لا تحل ولا تربط، لا تستطيع أن تدين بها المتكلم؛ لأنه لما تكلم ترك لنفسه أكثر من مهرب، فإذا قلت له: أنت تقصد كذا؟ قال لك: لا. أنا لم أصرح بذلك، وإذا قلت: تقصد كذا؟ يقول: لا. أنا لم أجب بذلك، هذه هي الإجابات الدبلوماسية، أي أنك لا تستطيع أن تدين القائل، ولا تستطيع أن تقيم عليه حجة، بينما أي سفير غبي يورط دولته، ومعلومٌ أن الرئيس إذا أرسل رجلاً يتكلم باسمه حمل عهدته، وأنت إذا وكّلت رجلاً عنك بتوكيل رسمي صار توقيعه محلك، يبيع مالك، وأملاكك، ويشتري مكانك، بتوقيعه هو نيابةً عنك، ويمضي بيعه وشراءه، لماذا؟ لأن هذا التوكيل قائم مقام الشرع. فالمتكلم عن الله تبارك وتعالى في الدنيا هم الرسل وأتباع الرسل، فالعلماء هم الذين يوقعون عن الله في الأرض، فيجيء المستفتي إلى العالم فيقول: إني عقدت صفقة كذا وكذا وفيها ربح وفير، أفأمضيها؟ فيقول له: لا. فيتجنبها الرجل ويخسر بذلك الصفقة والمال والربح، بمجرد إمضائك وتوقيعك، يأتيك يقول لك: أنا طلقت امرأتي وقلت لها كذا وكذا مرتين أو ثلاثاً تقول له: هذه ليست امرأتك! فتفصلها عنه، ويشرد الأولاد بقولك، ولا يستطيع أن يخالفك؛ لأنك توقع عن الله عز وجل في الأرض. ومن أعظم الجرائم أن تزيف التوقيع في الدنيا، فلو اكتشف رئيسٌ أو مدير أن رجلاً زيّف توقيعه أدخله السجن مباشرة، وذلك لو اكتشفوه، فكيف لو جاء رجلٌ ليس بأهلاً لأن يوقع عن الله في الأرض ووقع؟! إذاً هذا توقيع مزيف! فإذا كان في الدنيا يتعرض للعقوبة فكيف لا يتعرض للعقوبة في الآخرة؟ بل سيتعرض لأشد العقوبات؛ لأن توقيعه توقيع مزيف. لهذا كان لابد للداعية أن يتحلى بالعلم، قال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، لا تسأل عن الرحمن جاهلاً، إنما إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به تبارك وتعالى، وبصفاته، وبما أنزله من العلم على رسله، فأول شيء ينبغي أن يتحلى به الداعية إلى الله عز وجل هو العلم، ولا يحل له أن يفتي إلا عن علم، لذلك كانت حاجة طالب العلم للعالم فوق كل حاجة، وموت العالم من أعظم المصائب التي تصيب طالب العلم، وحاجة طالب العلم إلى الكتاب مثل حاجته إلى الطعام والشراب. وأذكر واقعة ذكرها ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان في ترجمة الشريف المرتضى، قال: ذكر أبو زكريا الخطيب التبريزي رحمه الله، صاحب كتاب مشكاة المصابيح الأديب اللغوي: أن أبا الحسن علي بن أحمد بن علي الفالي كان له نسخة عزيزة نفيسه من كتاب جمهرة اللغة لـ ابن دريد، فاضطرته الحاجة إلى بيعها، فباعها بستين ديناراً، واشترى هذه النسخة الشريف المرتضى صاحب الترجمة التي ذكر فيها ابن خلكان هذه القصة، فلما تصفح الشريف الكتاب وجد هذه الأبيات التي كتبها أبو الحسن الفالي، ويقول فيها: أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال شوقي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقارٍ وصبيةٍ صغارٍ عليهم تستهل شجوني فقلت ولم أملك سوابق عبرةٍ مقالة مكوي الفؤاد حزيني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما قرأ الشريف هذه الأبيات أرجعها إلى أبي الحسن وترك له الدنانير، فانظر إلى حزنه على نسخته من كتاب الجمهرة، والبيت الأخير من هذه الأبيات: تضمين، والتضمين في الشعر معناه: أن يأتي الشاعر إلى بيتٍ لشاعرٍ آخر سبقه فينظم القصيدة على وزن البيت وقافيته، وقد ضمن أبو الحسن الفالي آخر بيت في قصيدته حيث قال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فهذا البيت قاله رجلٌ أعرابي فيما رواه الزبير بن بكار رحمه الله، قال: اشترى حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام جملاً من رجلٍ أعرابي، وكان الأعرابي شديد الحفاوة بالجمل لكن اضطر إلى بيعه، فلما اشترى حمزة الجمل وأعطى الأعرابي خمسين ديناراً، واستاق حمزة الجمل نظر الأعرابي إلى الجمل وهو يبكي لفراقه، وقال: وقد تخرج الحاجات يا أم مالكٍ كرائم من رب بهن ضنيني أم مالك هي امرأة الأعرابي، يقول: يا أم مالك: إن الحاجة تضطر الإنسان أن يبيع شيئاً كريماً ضنيناً به، لا يستجيز لنفسه أن يبيعه لكن الحاجة اضطرته إلى بيعه رغم أنه عزيز عليه: وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنيني فلما سمع حمزة بيت الأعرابي أعطاه الجمل وترك له الدنانير، وكان أبو الحسن الفالي رحمه الله مشهوراً بتضمين الشعر، وهو صاحب الأبيات الرائقة المشهورة التي صارت على كل لسان، يقول فيها: تصدر للتدريس كل مهوس بليدٍ تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديمٍ شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها فلاها وحتى سامها كل مفلس هذا البيت الأخير أيضاً ضمنه أبو الحسن الفالي هذه الأبيات. المهم: أن الكتاب من أنفس ما يقتنيه طالب العلم، مثل السلاح بالنسبة للمقاتل، إذا فقد المقاتل سلاحه غلبه عدوه، وبذلك لا يتصور طالب علمٍ ينهض بغير مكتبة عامرة بالكتب، وبغير المراجع الأصلية، كان العز بن عبد السلام رحمه الله يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن صار عندي نسخةٌ من كتاب المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، والعز بن عبد السلام من أذكياء العالم، ومع ذلك يقول: ما استطبت الفتيا إلا بعد أن حصّل هذين الكتابين. فجلوس طالب العلم بين يدي شيخه والتعلم من هديه وسمته ولحظه قبل لفظه أمر في غاية الأهمية، وإذا لم يلحظ طالب العلم أدب شيخه لم ينتفع بمقاله، والسلف كانوا يتعلمون الأدب قبل العلم، فإذا أحرز الأدب نَبُلَ في العلم، وإذا لم يحرز الأدب لم يزده علمه إلا خسةً ونزولاً؛ فإذا جلس في مجلس ملأه، فإذاً اللحظ قبل اللفظ، وإذا عجز أن يكون مؤدباً فإنه لا ينبل بعلمه أبداً.

الإخلاص هو أول عدة الداعية إلى الله

الإخلاص هو أول عدة الداعية إلى الله قبل طلب العلم هناك ركيزةٌ أساسية ينبغي أن يتحلى بها الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الركيزةٌ البدهية هي الإخلاص لله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5]، فقدم الإخلاص قبل العمل، إذ إن العمل لا قيمة له بغير الإخلاص: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، وكلمة خالص تعني: نقي لم يخالطه شيء. فقول الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، حصر دينه كله في الإخلاص له، وتحقيق الإخلاص عزيز لكنه ممكن، فالإخلاص إما أن يكون ركناً أو شرطاً، أو واجباً، على ثلاثة أقوال للعلماء، واتفقوا جميعاً أن العمل بغير الإخلاص لا قيمة له، كما قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، لخلوه من الإخلاص، فلابد من الإخلاص في العمل، وهو إذا كان ركناً أو شرطاً أو واجباً فلابد أن يكون يسيراً، إذ لو كان عسيراً لما فرضه الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وأعظم أمر في الدين هو الإخلاص، فإذا أوجبه الله على عباده ناسب للطفه عز وجل وبره بعباده ألا يعكر عليهم طريق تحقيق أعظم شيء في الأعمال وهو الإخلاص. أما المقالة التي قالها رويم بن أحمد، وذكر هذه المقالة الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: (من لحظ في إخلاصه الإخلاص فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص). فنحن لو سلكنا هذه المقالة وقبلناها على مضض فمعناها: من تفاخر على الناس بأنه مخلصٌ واستعلى عليهم بذلك فإن إخلاصه يذهب سدى لهذا العجب وهذا الكبر، لا يقال له: إخلاصك صدق فأعد الكرة مرةً أخرى بالإخلاص، هذا إذا سلكنا هذه المقالة، وإلا فالصوفية لها أقوالٌ تعجيزية في باب الإخلاص، كمثل قول رويم بن أحمد أيضاً: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) من الذي يستطيع هذا في الدنيا؟! من الذي يعمل العمل ولا ينتظر عليه عوضاً لا في الدنيا ولا في الآخرة؟! وسئل عن الإخلاص فقال: (أن يستوي عندك المدح والذم)، وهذا مستحيل! أن يشتمك الرجل وأن يمدحك سواء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا شُتِم أو ذُم، والله تبارك وتعالى يرضى إذا مُدِح ويغضب على العبد إذا انتقصه. جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إن مدحي زين وذمي شينٌ -أي من مدحته فذلك المرفوع، ومن ذممته فذلك المخفوض- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله عز وجل)، لست أنت ولا غيرك، ذاك الله عز وجل فمن مدحه الله رفع ومن ذمه أهين: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرةٌ بعين رضاك تجعل الكافر وليا هذا هو الله تبارك وتعالى، فلا يستوي عند رجلٍ المدح والذم، وإلا لماذا يغضب الناس من الذم، بل كان أولياء الله المتقون من الصحابة يزعجهم ويغضبهم الذم، وتتلون وجوههم، وها هو أجل وليٍ لله عز وجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر رضي الله عنه وقع فيه رجل فغضب أبو بكر واحمر وجهه، فقال قائلٌ: يا خليفة رسول الله! ألا أقتله؟ فهدأ أبو بكر وقال له: أكنت فاعلاً؟ قال: نعم. فقال أبو بكر رضي الله عنه: (ما كانت هذه لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي أن الذي يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ويذمه ويقع فيه حده القتل. فإذا قال قائلٌ الإخلاص: أن يستوي عندك المدح والذم، فقد كلف الناس ما لا يطيقون، بل المدح يتهلل الناس له، والذم ينزعجون منه، وكذلك لما سُئل أحدهم -وكل هؤلاء من الصوفية - عن الصبر، قال: أن تستوي عندك النعمة والنقمة، سبحان الله! ومن الذي يطيق ذلك في العالمين؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما مات ولده حزن عليه ودمعت عينه، بل لما قتل عمه حمزة وجد عليه وجداً شديداً، وأقسم ليمثلن بالمشركين، ولم يكن هذا من عادته ولكن لشدة وجده على مقتل عمه، وهل يستوي عنده مقتل عمه صلى الله عليه وسلم وانتصاره في يوم بدر -مثلاً- أو عند المؤمنين؟ ولذلك بسبب مثل هذا التعريف الخاطئ مات لبعض المتزهدة ولد فجعل يضحك، فقالوا له: أتضحك وقد مات ولدك؟ قال: إني أردت أن أظهر الرضا بقضاء الله عز وجل، فلما أراد أن يظهر الرضا لقضاء الله ضحك في موطن الفتنة والبلاء والحزن، فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد استشكل بعض القارئين هذه الحكاية، فقالوا: كيف يضحك هذا الرجل لما مات ولده بينما يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس يقيناً؟! لو كان الضحك في المصيبة منقبة لفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يبكي النبي عليه الصلاة والسلام والدموع علامة الجزع ويضحك هذا العابد والضحك علامة الرضا والانبساط؟ فلما حصل استشكال هذا المعنى، عُرضَ هذا على شيخ الإسلام رحمه الله، فقال: فعل نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل من فعل هذا العبد الزاهد؛ لأن لله عز وجل في كل شيء عبودية، وعبودية الله على العباد في وقت المصيبة أن يظهروا الاستكانة والتضرع لقضائه، قال تبارك وتعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]، يعني: لما وقع البأس عليهم هلا تضرعوا وبكوا واستكانوا، هلا فعلوا ذلك لنرفع عنهم؟ فعبودية المحن الانكسار بين يدي الله، والمحنة من طبيعتها أنها تسخن النفس، فالسخونة تفرز الدمع مباشرةً، والنفس الباردة لا يمكن أن تبكي، ولذلك إذا تحسست الدموع وجدتها ساخنة؛ لا تجد دمعاً باردة. فالرسول عليه الصلاة والسلام أدى عبودية المحنة، وأدى عبودية الرضا بقضاء الله عز وجل، فقال: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، فكانت عبودية النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من عبودية هذا العبد الذي عجز قلبه عن استيعاب عبودية المحنة وعبودية الرضا، فقدم عبودية الرضا -إظهار الرضا- على عبودية قبول البلاء والصبر عليه. فالصوفية لها خرافات لم يأت بها الشرع، وهي تكليفٌ بما لا يطاق، ومعروف أن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة، بل من مذهب أهل البدع من المعتزلة وغيرهم فهم يجوزون على الله أن يظلم، ويقولون: فعال لما يريد، إذا ظلم جاز له ذلك!! كيف والله عز وجل قال في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي)؟ وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، ويجوزون التكليف بما لا يطاق، مثلاً: يقولون: يجوز أن يكلف الله عز وجل العبد بحمل جبل أحد على كتفيه، هم يقولون: يجوز، وأهل السنة قالوا: مستحيل! إن الله لا يكلف ما لا يطاق، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فأنت تعارض الأدلة القطعية. وبعد ذلك كل الرخص نزلت في حالة إذا عجز العبد عن العزيمة أخذ بالرخصة: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ما معنى هذا التنزل؟ لو جاز أن يكلفك بما لا تطيق لما رخص للعبد أن يتكلم بكلمة الكفر وقال له: لا تتكلم واصبر على أذى الظلمة، حتى لو ذبحوك اصبر ولا تتكلم بكلمة الكفر، لكن لماذا رخص له أن يتكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئاً بالإيمان؟ هذا كله ينافي القول بتكليف ما لا يطاق. فعندهم بعض الإطلاقات والتسويات بين الأضداد، وهذا يخالف الحنيفية السمحة، ورويد بن أحمد هذا الصوفي المشهور الذي يقول: (الإخلاص ألا تنتظر على عملك عوضاً في الدارين ولا حظاً من الملكين) كان يدعو الله بأن يبتليه، وأنه سوف يصبر على البلاء، فابتلاه الله عز وجل فحبس فيه البول، فكان يتقلب ويدعو الله عز وجل أن يرفع عنه، وأنه لا يطيق، وأنه لا يتحمل، وظل يجأر إلى الله عز وجل حتى عافاه الله عز وجل، فلما عافاه الله عز وجل جعل رويد بن أحمد يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب! عمكم الكذاب الذي زعم أن الله إن ابتلاه فسوف يراه في مسلاخ رجل صابر. الرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل على عمه العباس رضي الله عنه وكان مريضاً سمع العباس يدعو ويقول: (اللهم إن كنت مؤاخذي بشيء في الآخرة فشدد علي في الدنيا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة)، لو شدد عليك في الدنيا لا تقدر على تحمل بلاء الدنيا، سل الله العفو في الدنيا والآخرة، فكان لابد أن تدعو وتسأل بدلاً من أن تقول: ابتلني في الدنيا أن تقول ارفع عني، فاسأل الله عز وجل أن يعافيك. تحقيق الإخلاص عزيز؛ فالشيطان يريد أن يعكر عليك هذا الركن؛ لأن بفساده فساد العمل كله، فبدل أن يأتي يعكر عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو صلاة، أو زكاة، أو صدقة، مفردات كثيرة يعكر عليك الإخلاص، وإذا عكر عليك الإخلاص فقد عكر عليك كل العمل، فبدلاً من أن يدخل عليك في كل عمل ويتعب نفسه يعكر عليك النية والقصد. فلذلك الشيطان ينازع العبد في الإخلاص، فالعبد يقبل على العمل وهو مخلصٌ لله عز وجل من كل قلبه، فيأتي الشيطان يقول له: أتظن بذلك أنك أخلصت؟ لا. هذا ليس بإخلاص، فالعبد من خوفه على الإخلاص يظن

الثقة في موعود الله يعين الداعية على أداء رسالته

الثقة في موعود الله يعين الداعية على أداء رسالته المتحصن بالعلم ليس كالجاهل، فأول ما ينبغي أن يتحلى به الداعية: الإخلاص؛ ثم الثقة في وعد الله عز وجل إذا جاءه من طريق قطعي لا يتطرق إلا ثبوته شك فلا يحل له أن يتوقف -مثل القرآن- بل عليه أن يثق أن الله ناصره مهما خذله الناس، ومهما كان وحيداً فريداً، فإذا قرأ في القرآن: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فليعلم أنه غالب ما استقام على أمر الله عز وجل، فإذا قرأ قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فليعلم أنه متى استقام على أمره غلب ولو بعد حين، ولو كان وحيداً فريداً. أحد مشايخ الصحوة سجن سنة (1981م) حين أصدر أنور السادات أمراً بالاعتقالات الجماعية، وهذا الداعية ناله الحظ الأوفر من شتائم رئيس الجمهورية آنذاك، ووصفه في الخطاب الرسمي بأنه كالكلب ملقى في الزنزانة، والذي دخل السجن يعرف أن رتبة مأمور السجن كله عقيد، لكن وزارة الداخلية آنذاك عينت على زنزانة هذا الداعية عميداً، وهذا كله من قبيل التشديد على هذا الداعية وإذلاله، يريدون أن يقطعوا عنه كل شيء، هذا العميد الذي عُين كان من المعجبين بهذا الداعية، فكان كل يوم وهو آتٍ لهذا الداعية يجلب معه دجاجة مشوية ويدخلها له ليأكلها، هل تتصور هذا الكلام، انتخبوه وهو رجل قاسٍ، لا يجامل، لا يداهن لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، سخر الله ذلك العميد لهذا الداعية، وأوقفه في ذلك المكان. فلما سئل الداعية عن أيام الحبس الانفرادي قال: كانت كنار إبراهيم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، الرجل لم ينعم في حياته إلا في تلك الأيام، كان يأكل دجاجاً مشوياً كل يوم، ومن الذي يدخل له هذه الدجاجة المشوية؟ إنه الرجل الذي جلبوه ليؤدبه. مثل موسى عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، هم ما اتخذوه ليكون عدواً وحزنا إنما اتخذوه ليكون قرة عين، فكان لهم عدواً وحزناً، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، وهم لا يشعرون أنه لهم عدو وحزن كأن تقول: فلان تزوج في الدنيا ليشقى، وهل هناك أحد يتزوج ليشقى؟! نعم، قد يبتليه الله بامرأة ناشز فيشقى بها، إذاً: الكلام فيه محذوف، تزوج فلانٌ ينشد السعادة فشقي، وهذا مثل قول القائل: لدوا للموت وابنوا للخراب فكل امرأةٍ تلد إنما تلد للموت، وكل بانٍ يبني إنما يبني للخراب، إذاً: هل المرأة حملت وأرضعت وولدت ليموت أم ليعيش فمات؟ ليعيش فمات. ولذلك تحزن المرأة جداً إذا حملت وتعبت وولدت الولد ميتاً، فيقال: حملت وولدت ليموت! فالرجل إذا تصدر الدعوة إلى الله عز وجل وكان مستقيماً على أمر الله فليثق يقيناً بنصر الله عز وجل، ومن تمام ثقته بنصر الله عز وجل: ألا يعتمد قلبه إلا على الله، وييئس من نصر الجماهير له، ولا يزعجه قلة الأتباع إذا كان ذا منهجٍ مستقيم، وأنا أركز دائماً على المنهج المستقيم؛ لأن الجماعة المبتدعة مثل جماعة الهجرة والتكفير حتى الآن وأتباعهم قلة، يقول لك: يا أخي! الرسل كان أتباعهم قلة، وأي شخص مبتدع حوله خمسة أو ستة يقول لك: الكثرة ليست مهمة، فالرسل كان أتباعهم قلة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم المعروف في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرهط -من الثلاثة إلى العشرة- ويأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد)، النبي الذي ليس معه أحد، ظل طيلة حياته يدعو وخرج من الدنيا صفر اليدين من الأتباع، ولكن لا يعني ذلك أنه كان مخطئاً في دعوته، فالجماعة المبتدعة يحتجون بهذا الحديث، يقولون: هؤلاء الأنبياء يأتون وليس معهم أحد فنحن هكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا المسلمين في قريش ما كان حوله إلا ثلة (لا يزال الإسلام غريباً) (لا تزال طائفةٌ من أمتي) ويستدلون بهذه الأحاديث. نقول له: لا. الغربة غربتان، غربةٌ محمودةٌ وغربة مذمومة، أما الغربة المحمودة كأن يكون مستقيماً على أمر الله ولا يضره كثرة الأتباع من قلتهم، أما إذا كان منحرف المنهج وتخلى الناس عنه كأن يبقى معه واحد أو اثنان أو ثلاثة فهذه غربة مذمومة، فالفيصل ما بين صاحب الغربة المذمومة وصاحب الغربة المحمودة هو الاستقامة على المنهج الحق. إذاً: متى استقام الداعية على أمره تبارك وتعالى نصره، ويجب عليه ألا يشك لحظة في هذه الثقة بالله تبارك وتعالى. إذا تسلح الداعية إلى الله عز وجل بهذين السلاحين الماضيين وضم إليهما العلم فقد أحرز كل عدة. إذاً: الإخلاص هو أول عدة الداعي إلى الله عز وجل. ثانياً: الثقة في وعد الله عز وجل بالنصر. ثالثاً: العلم.

طريقة التعامل مع المدعوين تختلف من شخص لآخر

طريقة التعامل مع المدعوين تختلف من شخص لآخر رابعاً: الصبر: إن الداعية سيقابل أخلاقاً شتى: يقابل المبتدع، والزنديق، والكافر، والموالي له، ويقابل الولي والعاصي، سيقابل كل هذه الأنماط، ولا يجوز له أن يسوي بينها جميعاً في المعاملة، فمعاملة العاصي بخلاف معاملة الطائع، ومعاملة الزنديق والحاسد تختلف، إذا كان الداعية ضيق العطن لا يستطيع أن يعامل الناس كلٌ بنمطه سيفشل في دعوته، فقد تجد أناساً يرمون عليك الكلام، وأنت تفهم أنه يعنيك، ويقصدك بالكلام، فإياك أن تظهر له أنك ذكيٌ فاهم، فإنك إذا بينت له أنك فهمت ضيعت على نفسك سلاحك، كما أن رأس مال التاجر المال، فرأس مال الداعية الناس. يعني مثلاً: لو أن هناك تاجراً خدعه أناس وأعطوه نقوداً مزيفة، وكانت النقود كثيرة، مائة ألف أو مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف ثم اكتشف أن هذا المال مزيف، ماذا يعمل؟ يقوم بتصريفها أيضاً على آخرين؛ لأنه سيقول لك: لا، أنا سأخسر رأس مالي -وهذا لا يعني أني أقره على فعله- إنما أخبرك بما يفعله الناس، فهو مثلما خدع فإنه يخدع غيره من الناس، ويجد لنفسه عذراً في ذلك. التغافل في بعض الظروف والأوقات يعتبر أحد الأسلحة الناجحة، فإياك أن تسوي بين الناس جميعاً في المعاملة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأله ونحن نستمع). إذاً: لو سأل أنس رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يغضب؛ لأنه نهاه؛ لكن إذا جاءه رجلٌ من البادية لم يسمع النهي فسأله فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعامل صاحب البادية معاملة المقيم في الحضر، ومن الظلم أن يسوى بينهم، كان يتجاوز لأهل البادية إذا خالفوا، ولا يتجاوز لأهل الحضر. رجلٌ أعرابي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام معه قعوداً -والقعود هو الجمل الصغير- فاستملحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي: تبيعني هذا الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا، قال: اشتريته منك وسأنقدك ثمنه إذا رجعنا إلى المدينة، فجاء رجلٌ آخر من المسلمين لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، فقال للأعرابي تبيعني الجمل؟ قال: بكم تشتريه؟ قال بكذا. وزاد الأعرابي في ثمن الجمل على الثمن الذي اشتراه به النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي صاحب الجمل: بعتك! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إما إن تعطيني ثمن الجمل الآن وإما سأبيعه، قال: أولم تبعني الجمل يا أعرابي؟ قال: ما بعتك شيئاً! قال: بلى بعتني! قال: ما بعتك شيئاً، هلم شهيداً يشهد أنني بعتك، يبيع للنبي الجمل ثم يقول له: ما بعتك وأت بشاهد، هذا كُفر، لأنه تكذيب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلوذون بالنبي عليه الصلاة والسلام ويقولون للأعرابي: ويحك! إنما يقول رسول الله صلى الله عليه حقاً، وهو لا يزال يقول: هلم شهيداً! حتى جاء خزيمة من مكان بعيد، فوجد اجتماع الناس وضوضاء، فسأل عن الأمر فأُخبر بالقصة، فدخل مباشرة على الأعرابي وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: أشهد بتصديقك، نحن نصدقك في خبر السماء أفلا نصدقك على بعير. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين، في حين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يقبل من الصحابة القريبين منه أدنى من ذلك يرى مثلاً عبد الله بن عمرو بن العاص يلبس ثياباً حمراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن لبس الثوب الأحمر القاني -أي: الحمراء، الأحمر البحت الذي لم يخالطه لون آخر- هذا ممنوع أن يلبسه الرجال، ويدخل في أزياء النساء، فلما جاء عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يلبس ثياباً حمراء سلَّم على النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه ولم يرد عليه، فـ عبد الله بن عمرو فطن إلى هذا، فذهب إلى داره فوجد أهله وقد سجروا التنور؛ فخلع القميص ورمى به داخل التنور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهه، وبدَّل ثيابه ورجع، فسلم فرد عليه وقال له: ما فعلت بثيابك؟ قال: سجرت بها التنور! قال: فهلا أعطيتها بعض أهلك، إنه لا بأس بها للنساء. طبعاً هذا الحديث لا يعارض الحديث الصحيح الآخر أظنه حديث البراء أو حديث سمرة بن جندب أو جابر بن سمرة: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وعليه حلةٌ حمراء؛ فيحمل هذا الحديث على أن الأحمر لم يكن بحتاً إنما خالطه لونٌ آخر لكن اللون الأحمر كان هو الغالب، وإذا كان لون لباس هو الغالب نسب اللون إليه، فمثلاً: إذا كان هذا ثوباً أبيض وفيه بعض ألوان أخرى مثل الأخضر أو الأزرق أو الأصفر أو نحو ذلك لكن الغالب عليه البياض، فأنت تقول: ثوبٌ أبيض، لماذا؟ لأن هذا هو الغالب عليه، أو يحمل أن هذا كان قبل نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن لبس الأحمر. المقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يسوي بين الناس في المعاملة، فالداعية ينبغي أن يكون عنده بدائل، فيكون عنده للعاصي طريقة، وللمبتدع طريقة، وللذي يرميه ويؤذيه بالكلام ويستهزئ به طريقة أيضاً؛ وهو أن يستخدم معه لغة التغافل، وألا يظهر له أنه فهم؛ لأنك لو أظهرت له أنك فهمته فقد ضيعت على نفسك الطريق الذي ستسلكه إلى قلب هذا الرجل. الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وكانت قريش تسب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن قبل أن تسبه كانت تقلب اسمه، فهو محمد فيقولون له: يا مذمم!) مثل شخص اسمه منصور فيقول له شخص: يا منخور، فيقلب اسمه، فالرسول عليه الصلاة والسلام اسمه محمد وهم يريدون شتمه، فلكي يغيظوه أكثر بدلاً من أن يقولوا: لعن الله محمداً قالوا: نخلف اسمه ونشتمه، وهكذا نكون قد ذممناه مرتين: مرة بقلب اسمه إلى الضد، ومرة بشتمه، فهو محمد وهم يقولون له: يا مذمم! ثم يشتمون مذمماً: لعن الله مذمماً! قتل الله مذمماً! قبح الله مذمماً! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد)، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم يقصدونه بالشتم، وأنهم يوجهون الشتم إليه، لكن طالما شتموا اسم رجل آخر إذاً فلا يلحقه الشتم: (انظر كيف يصرف الله عني شتم قريش، إنهم يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد). فطرق التعامل مع المدعوين لابد أن تختلف: العاصي لا تعامله معاملة المبتدع؛ لأن المبتدع شرٌ من العاصي، المبتدع يتقرب ببدعته إلى الله يظنها ديناً، لكن العاصي يعلم أنه عاصٍ لله لكن غلبه هواه، وأنت عملك عمل طبيب رفيق، رجلٌ غلبه هواه ماذا تعمل معه، تقتله أم تعينه على أن يتخلص من هواه؟ تعينه على أن يتخلص من هواه. يعني رجل يقرأ في كتب أهل البدع ورجل يقرأ في كتب الجنس والغرام، أيهما أشر؟ الأشر هو الذي يقرأ في كتب أهل البدع، لماذا؟ لأن هذا الرجل الذي يقرأ في كتب الجنس والغرام، والذي يقتني المجلات الجنسية الفاضحة ليتفرج عليها، إنما يتفرج عليها بعدما يقفل الباب، وبعدما يكمل يخفيها عن الأنظار، لماذا؟ لأنه يعلم يقيناً أن هذا منكر، ولا يستطيع أبداً بأي حالٍ من الأحوال أن يقول أو يقنع أحداً أن هذا من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام عرف الإثم تعريفاً جامعاً، لا تشذ عنه حالةٌ واحدة، قال: (الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع عليه الناس)، هل يمكن لأحد أن يعرف الإثم بهذا التعريف الجامع المانع إذاً الإثم هو ما فعلته وأنت مستتر مختفٍ من أعين الناس، كل شيء يدخل تحت هذا التعريف فهو داخل في كلمة الإثم دق أو جلَّ. لكن المبتدع، يقرأ في كتب البدع ويظن البدعة ديناً يتقرب بها إلى الله، فمهما قلت له: هذه بدعة، يقول لك: هذا دينٌ! يتقرب إلى الله بذلك، إذاً كيف تصده وتردعه، وتثنيه عن بدعته؟ ولذلك العاصي أخف من المبتدع، قال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، واعتبروا بقصة الجعد بن درهم المذكورة في كتب التاريخ، وهو رجلٌ عارض الله عز وجل فقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فلما جيء به ليقتل لم يتبرأ من مقالته وصبر على القتل، مع أنه كان من الممكن أن يقول: أنا تبت وينجي نفسه من القتل؛ لكنه كان يعتقد أن البدعة التي هو عليها دينٌ يدين الله به، كما لو جئنا لرجلٍ من أهل السنة والجماعة -مثلاً- وقلنا له: اكفر بالله! فيقول لك: لا، أقتل ولا أكفر بالله، ويرضى أن يقتل ولا يكفر بالله، لماذا؟ لأنه يتخذ القرآن والسنة ديناً، كذلك المبتدع. فعندما تعامل العاصي فتعلمه أولاً، وتتلطف به، وتعينه على الخروج من هواه، لا تعطه أمراً وأنت تضع رِجْلاً على الأخرى وتهدده: تاب أو لم يتب فليذهب (في ستين داهية) وأنه لن يقبل منه عمل، وأنت حرٌ، هذا ليس من شأن الداعية، الداعية صبور حليم، إذا شتم لا يرد، كانت العرب تقول: لا تجار السفه بسفهٍ مثله فإنك إن جاريته بسفهٍ مثله فهذا يعني أنك رضيت فعله فحذوت حذوه! أنت غضبت لأنه سفيه، إذاً فلا ينبغي أن تكون سفيهاً عليه، ما كان ينبغي لك أن تفعل فعلاً أنكرته عليه. النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه سائل من الأعراب يطلب مالاً، يعني لو أتاك سائل يقول: أعطني فتعطيه ربع جنيه، فيقول لك: هذا لا يغطي حتى ضريبة المبيعات!! وأين غلاء المعيشة؟! أو تعطيه ربع جنيه فيقول: أريد ربع جنيه فضة!! فكون هذا الشخص متسولاً فعليه أن يرضى بالقليل دون أن يتكبر أو يسخر. فهذا أعرابي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريد مالاً فجذبه من حاشية الثوب حتى أثر في رقبته وهزه هزاً عنيفاً، وقال له: أعطني من مال الله فليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك! -إذا

أيها الداعية لا تنزل إلى مستوى من هو دونك

أيها الداعية لا تنزل إلى مستوى من هو دونك لو تسافه عليك رجل فاصبر، وإياك أن تنتصر لنفسك فتذم، حتى ولو كان الحق لك، مثلاً: لو كنت ماشياً في الشارع فلقيت طفلاً صغيراً فقال لك: يا سني! وقذفك بحجر، فجريت وراءه -الولد هو المخطئ، وأنت جريت وراءه لتأدبه- من سيخطئ الناس؟ سيخطئونك أنت على الرغم من أنك مظلوم والحق معك، لماذا؟ لأنهم لم ينزلوا عقله على عقلك، إنما عاملوك بقدرك وعاملوا الولد بقدره، يقولون لك: هذا طفل لا يؤاخذ على كلامه، يعني أنزلوك على عقلك، ولو ساووا عقلك على عقل الصبي لكان هذا ذماً في حقك. إذاً: أنت رجل عالم، وهذا رجل سفيه وجاهل وتحامق عليك وتسافه أتعامله بعقله؟ لا. لأن الناس وزنوك بعقلك وعلمك ووزنوه بجهله وسفاهته، إذاً: عليك تقدير نفسك وعلمك وعقلك، ولا تنزل إلى مستوى من هو دونك، ذكر الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء في ترجمة وكيع بن الجراح رحمه الله قال: سب رجلٌ وكيعاً فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج على سابه فقال له: زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت علي، ولو أني أطعت ربي لعصمني منك، أراد أن يقول له هذا المعنى، فكأنه يقول: أنا المخطئ، ولذلك عفر وجهه بالتراب وخرج ليقول: سبني مرةً فلولا هذا الذنب الذي صرت أسيراً له لما تعرضت إلى هذا السب. رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها فترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها إذاً: أخطر شيء يهدد الإنسان هو الذنب، ووكيع تصرف بعلمه، ورجع إلى نفسه فذمها. وأيضاً: ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة وكيع -ووكيع هو الإمام الضخم العلم الجبل، شيخ الإمام أحمد رحمه الله- قال: سب رجلٌ وكيعاً فقيل له: ألا ترد عليه؟ فقال وكيع: ولماذا تعلمنا العلم إذاً؟! يعني: هذا رجل جاهل أنا متفضلٌ لتعليمه، ولذلك لا يصح أن يعاقر الطبيب الداء الذي يداوي منه. فقبيح مِن مَن تفضل بالوعظ أن يجعل الدين غرضاً لنيل مآربه، وقبيح من مَن يتظاهر بالعفة أن يذل نفسه على أبواب السلاطين والأغنياء، فيجعل الدين مطية للحصول على الدنيا، قال بعض السلف: مثل الذي يحصل الدنيا بدينه كمثل رجلٍ رأى وسخاً في أسفل نعله فمسحه بخده، وكان يجدر به أن يشرف هذا الخد ولا يهينه. فالعلماء كانوا أعزة، فهذا عفان بن مسلم شيخ الإمام أحمد رحمة الله عليهم جميعاً استدعاه الخليفة ليسأله عن مسألة خلق القرآن -التي تعرفونها- هل هو مخلوق أم لا؟ قال له: ولماذا تسألني؟ قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أسألك وحدك! لماذا؟ لأن عفان بن مسلم شامة العلماء في بلده فقال: نسأل هذا العالم الكبير، وقال: إنك إذا أجبت وقلت: إنه غير مخلوق سنقطع راتبك من بيت المال، فقال: وكيف يجوز لي أن أجيب بغير ما أعتقد؟! قال: إن أجبت بما تعتقد قطعنا عنك راتبك، فهل القرآن مخلوق أم لا؟ قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، قال: إذاً سنقطع عنك راتبك! فقام عفان من بين يديه وهو يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، وكان عفان بن مسلم يعول أربعين إنساناً في داره، من سينفق عليهم؟ كان متزوجاً بأربع، ولديه ستة وثلاثون ولداً، فكان الصف الأول في المسجد لأولاده، هذا هو العلم! فلما دخل الدار قالوا له: ماذا عملت؟ فقال لهم: أمروني أن أقول بخلق القرآن وإلا فسيقطعون عني الألف درهم التي كانوا يعطونني إياها من بيت المال، فجعلوا يلومونه ويقولون: من أين سنأكل، من أين سنشرب؟ ومن هذا الكلام الذي يقال في هذه المناسبات، في الليل أو في العصر جاء الإمامان الكبيران -ومن يقرأ هذه الحكايات يحس بالغربة- أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وكانا من تلاميذ عفان بن مسلم، وجاءا من أجل أن يطمئنا ما الذي قاله عفان، فلما دخلا سألاه عما قال: فقال: قلت لهم: القرآن كلام الله غير مخلوق فمنعوا عني راتبي: فقلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، قال: فرأيت وجه أحمد يتهلل فرحاً؛ لأنه ضحى بالمال من أجل دينه ومبدئه، نعم يضحون بالمال ولا يكفرون بالله. قال: وفي عشية هذا اليوم جاء رجل إلى باب دار عفان بن مسلم، وقال: هذه دار عفان؟ قال عفان: نعم فقال: أين عفان؟ قال: أنا عفان، قال: هذه صرةٌ بألف درهم ولك في كل شهرٍ مثلها! -وهذه صحيحة- وهو لا يعرف الرجل ولا يعرف من الذي أرسل الرجل، ومن الذي أعطاه الألف درهم: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. فالقصد أن الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يضع الحكمة في موضعها، وألا ينزل في تعامله مع الناس إلى مستواهم، لو عامل الناس بمستواهم لتلون في اليوم ستين لوناً، مرة يصير لئيماً ومرة سافلاً، ومرة قبيحاً، ومرة طفيلياً فهذا لا يليق بالداعية أبداً، كيف سيعلم؟! فعامل الناس بمستواك وبما يليق بك ولا تنزل إلى مستواهم؛ فإن الله عز وجل جمع لك السلطان عليهم بأن جعل الدواء في يديك. قيل لأهل البصرة: بم فاز فيكم الحسن البصري؟ ولماذا أصبح ذكره على كل لسان؟ فقالوا: استغنى عن دنيانا واحتجنا لعلمه. إذاً: عليك أن تبعد عن الملوك والرؤساء وأصحاب الأموال وكل هؤلاء، وتعامل الآخرين بما يليق بمكانتك. إن الملوك بلاءٌ حيثما حلوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تأمل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا فاستغن بالله عن دنياهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذل اعرف مكانة العلم الذي بين جنبيك يرفعك الله تبارك وتعالى، وخلاصة الأمر: عامل الناس بقدر ما عندك من العلم، ولا تتحامق، ولا تجهل عليهم، فليكن عندك الصبر والذكاء والتغافل، وإنزال كلّ رجلٍ منزلته، لا توقر أهل الفسق ولكن أرشدهم، ووقر أهل الكرم ولا تزاحمهم، ولا تجادلهم فيمقتوك، كثرة المراء تورث الحقد والغل والبغضاء في الصدور، وعدم قبول الحق، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من ترك المراء وإن كان محقاً بني له بيتٌ في ربض الجنة)، ولو كان محقاً في المراء فعليه أن يتجنبه حتى لا يطول الكلام، وحتى لا يجر المراء إلى خلاف أو إلى شتم أو إلى تغير القلوب؛ لأن المراء لا يكون من ورائه خير أبداً ولو كان بدايته حقاً، فإن عاقبته لا تئول إلى الحق أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء ولو كان محقاً)، فكيف بمن يماري وهو مبطل؟ ولذلك الداعية إلى الله عز وجل يحمل على كاهله عبء الأمة كلها، وينبغي أن يكون شفوقاً، وصاحب نظرة واسعة لوضع المسلمين، ما يراه من هموم الدعوة خارج أقطار بلده ينبغي أن يؤرقه، وينبغي أن ينظر إلى الحل، ويراسل إخوانه من الدعاة، ويمد الجسور بينه وبين إخوانه من الدعاة إلى الله عز وجل، وليكن استماعه إليهم أكثر من كلامه معهم.

انتفاع الداعية بما عند غيره من علم لا يعد انتقاصا له

انتفاع الداعية بما عند غيره من علم لا يعد انتقاصاً له جرب أن تعطي أذنك وقلبك لمحدثك تجد أنك لن تعدم فائدةً تخرج بها، وكنت قضيت فترةً في صدر شبابي وقبل أن أطعن في الكهولة لا أكاد أسمع من غيري، والسبب لأنني تعودت أن أكون متكلماً، من تعود أن يكون متكلماً يشق عليه كثيراً أن يسمع، فلو نظرت مثلاً إلى ضابط جيش أحيل للتقاعد وعمل شركة تجارية مع شخص آخر فسترى أن ضابط الجيش يريد أن ينفذ كل شيء بالأمر، فلو قال له: نأتي بكذا، يقول: لا، هكذا أفضل، تعود أن يقول افعل فيقال له: تمام يا فندم! من يوم أن كان ملازماً وحتى أصبح ضابطاً كبيراً وهو يأمر فيطاع، كل شيء (تمام يا فندم)! فلو أتى شخص يأمره تصبح ثقيلة جداً عليه. فالذي يتعود طوال عمره أن يتكلم قد يشق عليه أن يكون في محل المستمع، مثلاً شخص لم يخطب الجمعة في حياته وكان ملتحياً، فدخل مسجداً -وكان الخطيب فيه غائباً- وصعد المنبر وخطب، فقالوا له: لماذا تخطب؟ فقال: كوني أسمع نفسي أحسن من آخر يعكر عليَّ، وفي نهاية الأمر أنا الذي أتكلم، وهل هناك أحد ينزعج من نفسه، أو يقبح كلامه حتى ولو كان في غاية القبح؟ فهذه فلسفة شخص لا متكلم ولا شيء، فما بالك لو كان المتكلم متعوداً أن يرتقي أعواد المنابر؟! فيكون قد تعود أنه يتكلم والناس يسمعون. فمن داوم على قراءة سير العلماء -وهذا هو في الحقيقة الباب العظيم لتهذيب النفس- يحتقر نفسه، والله يا إخواننا كثيراً ما فكرت أن أعتزل الدعوة العلنية وأعتزل الفتوى، فكلما قرأت تراجم العلماء أصاب بهم وغم، فأتصل بمن أثق برأيهم من إخواني وأعرض عليهم محنتي وأقول: أنا لست بأهل، وكم مرة أعظم بلائي لأجل أن يقول لي أحد الذين أثق برأيهم: يجوز لك أن تعتذر، فما كنت أرى منهم ذلك أبداً، وكانوا يقولون: أنت آثم لو فعلت! فأرجع بخفي حنين وأنا حزين. عندما أقرأ تراجم العلماء، وأقرأ في صبرهم، وأقرأ في جدهم وعبادتهم، وأقرأ في سعة علمهم فأنظر إلى حالنا الذي يعيش المرأ فيه مع ضحالة العلم وقلة التحصيل وقلة الصبر مع ضيق العطن فأقول: أنا غير أهل أبداً!! فقراءتك في كتب العلماء وسيرهم يهذب من طبعك، فكان مما تعلمته من تراجم العلماء: أن أجرب أن كون مستمعاً، فكنت مثلاً أدخل أصلي الجمعة في أي مسجد، صحيح الخطيب لم يك شيئاً، لكن أعطيه أذني وقلبي، وأصوب النظر إليه، ففي الجمعة الماضية مثلاً وأنا مسافر عرجنا على مسجد في الطريق لكي نصلي، والخطيب لم يكن شيئاً، يعني خطبة ولدت ميتة، أتعرف ماذا استفدت منه في هذه الخطبة؟ شكل الرجل؛ لأنه رجل كبير في السن وكان يتكلم بانفعال، وله لحية بيضاء، وكان يلبس عمامة لطيفة، فكل الذي استفدته من الخطبة شكل الرجل وسمته والحرارة التي يتكلم بها، وخرجت وأنا أرى أني استفدت، لن تعدم فائدة تخرج بها إذا أعطيت أذنك وقلبك لغيرك من أهل الخير. إذا جئت تحاضر في مسجد مثل هذا وتأتي لتحضر درساً لواحد من إخوانك الدعاة فتجد الناس فوق بعضهم والشوارع ممتلئة فتجد في نفسك غيظاً، وتقول في نفسك: إن هذا الرجل مشهور وأحسن مني ويحضر له أناس أكثر مني، ثم تسمع كلام المادحين: جزاه الله خيراً ولا فض الله فاه، وأكثر الله من أمثاله وغير ذلك من المديح، فتقول: لدي تنبيه خفيف لطيف، لا يعكر طبعاً على ما قال، في الواقع يغالط في المكان الفلاني والمكان العلاني وهذا غفر الله له، يعني هذا لا يضر إن شاء الله وغير ذلك من الكلام، ويقعد يتكلم في أخيه بدعوى الورع وغير ذلك. لا. إياك أن تحسد أخاك، ربما كان النفع بك أعظم من النفع به، وانظر إلى الدعاة الوعاظ الذين كان يصلي وراءهم أربعون وخمسون وستون ألفاً، هل لهم تلاميذ ورثوا هذا المنهج؟ لا، لكن تجد العالم الذي يعلم عشرين شخصاً سيخرج من ورائه خمسة عشر عالماً على الأقل. إذاً: صار النفع بهذا العالم مع العشرين أكبر من الرجل الذي كان يحاضر في أربعين أو خمسين ألفاً: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].

تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [1]

تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [1] تعد مسألة تعدد الزوجات من المسائل التي أكثر أعداء الدين من الخوض فيها زعماً منهم أن في التعدد انتهاكاً لحقوق المرأة وهدراً لكرامتها، وهم خلال ذلك يستشهدون ببعض ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه لدعم ما يذهبون إليه، فيحملون هذه الأدلة على غير محملها، ويفسرونها تفسيرات شاذة، حرصاً منهم على دفن كل فضيلة ونشر كل رذيلة في المجتمع المسلم.

عظم ذنب من تنقص أحدا من الأنبياء

عظم ذنب من تنقص أحداً من الأنبياء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. لقد اشتهر عند العلماء والعامة قولٌ وهو: (إن لحوم العلماء مسمومة) ومعنى هذا أنه إذا حَرُم على الإنسان أن يغتاب أخاه المسلم، أو يأكل لحمه، فلا شك أن حرمة العالم أجل من حرمة المسلم مطلقاً؛ لأنه جمع الإسلام والعلم، فهو يزيد على الرجل العامي بدرجة العلم، ولأن منصب العلماء بين الناس هو كمنصب الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم)، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين يبلغون رسالات الله، فيجب أن تصان أعراضهم؛ لأن النيل من عرض العالم قد يضر بدعوته، لذلك كان لحمه مسموماً، وقلّما تجد رجلاً طعن فيه أو نال منه إلا هتكه الله عز وجل. فإذا كان لحم العالم مسموماً فلا شك أن لحم النبي أشد سماً، وأنه لا يجوز لأحدٍ قط أن يسب نبياً أو يغمزه تحت أي دعوى. وعلماؤنا صنفوا بعض التصانيف في مثل هذا الباب، وأقدم من علمته صنف في هذا الباب أبو الحسن الحموي، صنف كتاباً أسماه (تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء)، وللسيوطي أيضاً رسالة (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)، جاء فيها: أنه لا يجوز أن تصف نبياً بما يكون في العرف غير كريم، وإن كان كذلك. فمثلاً: لو افترضنا أن رعي الغنم في بلدنا هذه مهنة حقيرة، فلا يجوز أن تقول: الرسول عليه الصلاة والسلام كان راعي غنم، نعم هو كان راعي غنم، لكن عندما ذكرت رعيه للغنم في هذه المنطقة كان ذلك وضعاً من شأنه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت مهنة النجارة محتقرة في مكانٍ ما، فلا يجوز لك في معرض الدفاع عن نفسك أن تقول: زكريا عليه السلام كان نجاراً؛ لأن الكلام سياقٌ وسباقٌ ولحاق، فلا تأت بجملة وحدها، فتجزئها وتترك أولها وآخرها. نعم زكريا عليه السلام كان نجاراً كما في الحديث، لكنك إنما ذكرتها في معرض الدفاع عن نفسك وعن هذه المهنة، والعلماء إنما قالوا ذلك صيانةً لجناب النبوة؛ لأنهم هم المبلغون عن الله تبارك وتعالى.

التعريض بيعقوب عليه السلام بغرض الطعن في مشروعية تعدد الزوجات

التعريض بيعقوب عليه السلام بغرض الطعن في مشروعية تعدد الزوجات حين يأتي الرجل يريد أن يدافع عن فكرة معينة، فلا يجوز له أن يدافع عنها بلمز أحد من الأنبياء، وحين يأتي رجل يكتب: أن تعدد الزوجات من أكبر المضار، ويستدل على ذلك بقصة يعقوب عليه السلام! نقول له: ما علاقة يعقوب عليه السلام بالموضوع؟ فيتعلل بأنه كان متزوجاً من امرأتين، ثم حصل حقد بينهما، وانعكس هذا الحقد على الأبناء، فقام إخوة يوسف بإلقائه في الجب؛ لأن الإخوة من الأب يكرهون بعضهم بعضاً، كما أن الأب معرض لعدم تمكنه من أن يعدل، فإذا كان هذا حدث لنبي فما بالك بغيره؟ إن مثل هذا الكلام في وجود سلطان شرعي لابد وأن يحد قائله حد المفتري، لأنه كاذب؛ وهل الإخوة الأشقاء لا يقتل بعضهم بعضاً؟ فالعلة موجودة في الإخوة الأشقاء. وهل يعقوب عليه السلام فضل يوسف على سائر أخوته تفضيلاً سائغاً أم تفضيلاً متكلفاً فيه، يطعن عليه به؟ إن الوالد يكون له وجهة نظر في بذل العطاء والحنان لولدٍ دون آخر، ولا يكون ذلك تفرقةً منه، ولا يعرف هذا إلا من رزق الولد. فحنان الوالد حنان فطري خلقه الله فيه، وهو سبب لوجود ابنه في هذه الدنيا، وقد ترتب على هذا الفرق بين الولد والوالد في هذه المسألة أحكام شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد للولد من والده) بمعنى: لو أن والداً قتل ابنه لا يقتل الوالد به، لكن لو أن الولد قتل الوالد يقتل ما هو الفرق؟ الفرق: أن الوالد لا يمكن أن يقتل ابنه إلا إذا زال عقله؛ لأن حنانه جبلي فطري مخلوق فيه، أما الولد فمسألة أن يقتل أباه مسألة سهلة، أو أن يعق أباه، أو أن يرى أباه يبكي قائلاً: يا بني! أطعني في هذا المعروف. بينما الولد شارد؛ لأن حبه تصنع وتكلف.

بعض المقتضيات الفطرية لدى الآباء للتمييز بين الأبناء في المعاملة والعطاء

بعض المقتضيات الفطرية لدى الآباء للتمييز بين الأبناء في المعاملة والعطاء أسوق مثالاً لأبين أن التفضيل بين الأولاد لا يكون ظلماً أحياناً. سئلت أم: من هو أعز ولدك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يعود. فالمقتضى لتمييز بعض الأبناء موجود في هذه الأحوال، وهو: البعد، والصغر، والمرض، فلو مرض ولدك الصغير فإن قلبك يتفطر عليه، لكن لو مرض ولدك الكبير، تقول له: تحمل، أنت رجل؛ لأن الولد الصغير لا يدرك معنى الألم فلا يمكنه الإفصاح عما يعتريه، ولا يعرف معنى الصبر، لكن إذا كبر الولد، فقل له: تحمل، (أشد الناس بلاءً الأنبياء) فهو يفهم الكلام فيتأسى، بخلاف الصغير، ولذلك تجد حنانك وحزنك على الصغير أعظم من حزنك على الكبير. فيوسف عليه السلام كان صغيراً إذ ذاك، وإخوته قالوا: (ونحن عصبة). أي: كبار وكثر. وبعض الناس يقول: إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء والصواب أنهم غير أنبياء؛ لأن الأنبياء باتفاق أهل السنة -بل باتفاق علماء الإسلام جميعاً، بل باتفاق المبتدعة منهم- لا يرتكبون الكبائر لا قبل النبوة ولا بعد النبوة أبداً؛ لأنه إذا ارتكب نبيٌ جريمةً نكراء قبل النبوة يعير بها، فصيانةً لجناب النبوة لا يحفظ عليه كبيرة أبداً قبل النبوة فضلاً عن بعد النبوة، وهم أيضاً منزهون عن الصغائر على القول الراجح. وإخوة يوسف فعلوا فعلين كلاهما كبير، لما قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف:9]، ولما قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فهم أتوا بأمرين: عقوق، وهمٌّ بالقتل؛ فألقوه في الجب بقصد أن يموت، فكأنهم قتلوه، فإن الرجل لو ذهب لآخر وضربه ضربةً لأجل أن يموت فخر صريعاً فمضى الرجل، ثم أفاق المضروب بعد قليل؛ فإن الضارب يعامل معاملة القاتل في الآخرة؛ لأنه لما ضرب أراد أن يقتل، والنية في هذه المسائل معتبرة. هل يعقوب عليه السلام لما تزوج بامرأتين لم يكن يعدل بين أولاده حتى كان هو السبب في قول الإخوة: اقتلوا يوسف؟ أنا لا أريد أن أفيض كثيراً في محاسن تعدد الزوجات؛ لأنه من محاسن الشرع، دعك من أهواء الناس، وهذا الكلام قد لا يرضي عامة النساء، لكن ما جاء الدين لإرضاء أهواء الناس، إنما نزل الدين مهيمناً على الكل، أليس الدين قيداً؟ ألسنا أسراء في يد الشريعة؟ بلى. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالمؤمن مسجون بالتكاليف الشرعية: افعل، لا تفعل، ليس هناك حلالٌ مطلق في الدنيا، كل ما يخطر ببالك أن تفعله لا تستطيع أن تفعله؛ لأنك في الدنيا كالمسجون تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أول رؤيا بعض الصحابة -أظنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره- لما رأى نفسه مقيداً في المنام بقيد، فأولَ القيد بأنه الدين، يعني: دينه متين، الدين قيد، لا تستطيع أن تفعل كل الذي تريد دون ضابط، لأن ديننا جاء ليهيمن على الخلق لا ليتنزل على هوى كل إنسان.

حصر حق الزوج في التعدد بوجود ضرورة أو عيب في الزوجة

حصر حق الزوج في التعدد بوجود ضرورة أو عيب في الزوجة نحن في مسألة إنكار تعدد الزوجات صرنا كالنصارى بكل أسف، حتى إنك قد تجد رجلاً ينسب إلى الالتزام في هذا الباب -أيضاً- كالعوام، فحين يتزوج زوج ابنته بأخرى يأتيه قائلاً: لماذا تتزوج على ابنتي؟ هل ابنتي فيها عيب؟ هل ابنتي مقصرة في شيء؟ فنقول: هل الزواج الثاني لابد أن يكون عن تقصير من الأولى؟! أو بسبب علة فيها؟! من الذي قال ذلك؟ والله تبارك وتعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] والكلام السابق رد لهذا، إذا لم يرد ذكر للعلة فلو قال الرجل: أريد الزواج بالثانية بلا علة، فالزواج بها يشرح صدري، ويقربني من ربي، ويمكنني من أن أتمتع بالمتعة الحلال، وهذا هو مقتضى اللفظ: (انكحوا ما طاب لكم) {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]. لكن حين يأتي هؤلاء وينزعون الكلمة من السياق، ويقدمون للناس أحكاماً مبتورة: أن الزواج الثاني لا يكون إلا لعلة، ولابد من استشارة الزوجة الأولى في الزواج؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك!! وأنا لا أدري أهذا كذبٌ على الله عز وجل أم جهلٌ، وكلاهما مر، هل النبي صلى الله عليه وسلم لما أبى أن ينكح علي بن أبي طالب على ابنته إلا أن يطلقها كان من هذا الباب؟ لا. إن استدلالهم بهذا الحديث يذكرني بمن يقول: إن مكر النساء وكيدهن أعظم من كيد الشيطان، فتقول له: كيف يكون ذلك ولا يوجد أعدى من الشيطان الرجيم؟ يقول لك: يا أخي! هذا في القرآن، قال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، وقال بالنسبة للشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، فبين أن كيدهن عظيم، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، واضح جداً من القرآن. وليس الأمر كما يزعم؛ لأنه إنما استل هذه الجملة من السياق، واستلال الجملة من السياق بغير نظرٍ إلى السباق واللحاق جريمةٌ في حق المعنى، ففي قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] نقول: نعم، إذا قورن كيدهن بكيد الرجال؛ لأن الناس ما هم إلا رجلٌ وامرأة، فإذا قورن كيد الرجال بكيد النساء كان كيدهن عظيماً فعلاً، لكن كيد الشيطان لماذا كان ضعيفاً؟ عندما تقرأ السياق يتضح المقام، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] (ضعيفاً)؛ لأنه مقابل بكيد الله، فصار ضعيفاً لذلك {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:76]، وهو معهم وناصرهم، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء:76]، أي: يا أيها الذين آمنوا -الذين مولاهم الله- قاتلوا أولياء الشيطان؛ لأن الله مع الذين آمنوا، والشيطان مع الذين كفروا، فصار هناك مقابلة {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]؛ لأنه مقابل بكيد الله عز وجل، فما معنى أن نأخذ شطر آية مع شطر آية أخرى ونضربهما ببعض؟!

نقض الاستدلالات على منع تعدد الزوجات

نقض الاستدلالات على منع تعدد الزوجات

الاستدلال بقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) على منع التعدد

الاستدلال بقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) على منع التعدد تأتي الجريمة الثانية في حق المعنى بنزع السياق، يقول لك: إن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] يا أخي! خذ الكلام بكامله في السياق واقرأ قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:128 - 129]. فلو نظرت إلى السياق للفت نظرك في الآية الأولى: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا)، وللفت نظرك في الآية الثانية (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) ذكر الإحسان في الآية الأولى والإصلاح في الآية الثانية، وذكر التقوى معهما. وأي بيت فيه من المشاكل ما لا يستطيع الرجل، ولا تستطيع المرأة الجهر بها، فقد تكون المشاكل متعلقة بأمور تخص المأكل والمشرب أو غير ذلك من الأمور التي يمكن مناقشتها والإفصاح عنها، ولكن في بعض الأحيان يكون الموضوع أعمق من ذلك، لكنه محرج، لا يستطيع الرجل ولا المرأة الإفصاح عنه، والله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية: (وَإِنِ امْرَأَةٌ)؛ لأن بعض النساء يقلن: إن الله سبحانه وتعالى جعل للرجل سيطرة على المرأة، فإذا نشزت جاز له أن يهجر ويضرب، لكن افترض أن الرجل نشز، فماذا تصنع المرأة؟ نزلت هذه الآية لبيان ذلك، فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء:128] الجملة هذه فيها (لا) النافية، وفيها نكرة وهو قوله تعالى: (صلحاً)، والنكرة: هي الاسم المعرى من الألف واللام، وحين تدخل الألف واللام على الاسم يصير معرفة، فكلمة (الصلح) معرفة، وبحذف الألف واللام تصير نكرة. وقال العلماء: النكرة في سياق النفي تقتضي العموم، يعني: (لا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا) أي صلحٍ كان، هذا معنى الآية، المهم أن هذا الصلح يرضي الطرفين، وتمضي الحياة. فإذا أراد رجل أن يطلق، فإن الله تبارك وتعالى وجهه إلى أن يصطلح مع زوجته على أي شيء، لو أنها تركت بعض ما لها من الحقوق لا ضير أن يمسكها. وإذا عزم رجل على تطليق زوجته، فقالت له: لا تطلقني وأمسكني، ولا تقسم لي. أي: لا تبت معي، وهي بذلك تتنازل عن حقها في الفراش، فهل يجوز؟ نعم يجوز، طالما أنها هي التي أسقطت حقها، والمرء حر في إسقاط حقه، إنما لا يجوز للرجل أن لا يوصل حقها إليها، يعني: رجل يمسك بامرأةٍ ولا يعفها في الفراش هذا لا يجوز، وهو آثم بذلك ومرتكب لذنب عظيم، لكن إذا قالت المرأة نفسها: أنا لا أريد ذلك، وأسقطه عنك؛ جاز لهما الاصطلاح على ذلك. وبرهان ذلك من السنة: أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها -زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما كبرت وخافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادت أن تحتفظ بشرف التسمي بأم المؤمنين؛ تنازلت عن ليلتها لـ عائشة رضي الله عنها، فصار لـ عائشة ليلتان ولسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة واحدة، فهي التي تنازلت عن حقها في هذه الحالة. ولأن الطلاق بيد من أخذ بالساق -وهو الرجل- ولأن المرأة قد تكون ظروفها صعبة جداً، إذا طلقت تضيع، فلا جناح عليهما أن يصلح بينهما صلحاً، لكن هذا فيه غبن للمرأة، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] على أي وضع، أفضل من أن تشرد المرأة، لو أن المرأة ظلت مع الرجل، وقد فقدت بعض حقوقها أفضل لها من أن تطلق بالكلية، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، كل واحد شحيح بالاعتراف بالخطأ لا يريد أن يقول: أنا مخطئ جاءوا ليتصالحوا وكل واحد مصر أنه هو المحق، ويشح بالاعتراف بالخطأ، فربنا سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} [النساء:128]، فجعل ضم المرأة إلى الرجل مرةً أخرى من الإحسان، وليس من الإحسان أن تظلمها فاتق الله. إذا أحسنت لا ترد عليها بالسيئة؛ لأن هذا ضد الإحسان، قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أي: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، ثم قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129]، هنا جاء المعنى، فالآية الأولى بينت حال رجل بينه وبين امرأته خلاف، ويريد أن يطلقها، فيقال له: أمسكها ولو على مضض، من قبيل الإحسان. أما لو كان الرجل متزوجاً بامرأةٍ أخرى، وصار قلبه بالنسبة للمرأة التي حدث بينه وبينها نشوز ليس على ما يرام، فإذا تحول قلب الرجل عن المرأة لا يعطيها حقها في الفراش، هذا معنى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129] أي: بالمحبة القلبية والفراش؛ لأن هذا فرع على عمل القلب، أليس القلب مَلِك البدن؟ فالإنسان إذا كره بقلبه لا يمكن للجوارح أن تأتي بخلاف ما في القلب، ولذلك إذا تفتت عزم القلب ضاع عمل الجوارح، فأحياناً يأتي خبر للإنسان وهو متماسك فينزل عليه كالصاعقة، فعندما يسمعه يسقط على الأرض صريعاً ما الذي جرى؟ فهذا القلب لما انفت عزمه خانته قدماه؛ لأن قوة العضو إنما هي من قوة القلب والجنان، لذلك ترى الرجل إذا انفت عزم قلبه لا يستطيع أن يستخدم جارحته أبداً. ذارت مرة قال أحدهم لي: إنه شعر بتعب، فذهب يكشف عند الطبيب، فقال له: عندك مرض القلب، فلما سمع ذلك -وكان قد صعد السلم على قدميه- نزل مستنداً على غيره، وقال: سأكشف عند أخصائي، وعندما كشف عليه قال له: أنت عند من كشفت؟ قال له: عند الطبيب فلان. قال له: إن قلبك أقوى من قلب الذي كشف عليك، فخرج الرجل من عند الأخصائي على قدميه ما الذي جرى له؟ رجله هي رجله، ما الذي جرى له؟ لما انفت عزم القلب ذهبت قوة الجارحة. فالرجل إذا كان يكره المرأة فمن الطبيعي أن لا يميل إليها، ولا يستطيع أن يأتيها في الفراش، قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:129]، إذاً: عدم الاستطاعة جاءت بعد مشكلة {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء:128]. إذاً: عدم الاستطاعة المقصود بها هنا العجز القلبي، وشيء طبيعي جداً أن الإنسان لا يسأل عن هذا العجز القلبي؛ لأن قلبه ليس بيده، إنما القلب بيد الرحمن، كما قال عليه الصلاة والسلام: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر: وهو أن قلبك ليس بيدك، رغم أنه هو ملك بدنك. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، لو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، ولا كرهت إنساناً، ولا غُلبت على كرهه، لكن ليس بيدك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقسم يقول: (لا، ومقلب القلوب!) إشارةً إلى أن تقليب القلوب آية من آيات الله عز وجل. إذاً: الآية جاءت في معرض سياق طويل، فنزع الآية من هذا السياق جريمة في حق المعنى، وتضليل لعباد الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الاستدلال بمنع النبي لعلي بن أبي طالب من الزواج بابنة أبي جهل على منع التعدد

الاستدلال بمنع النبي لعلي بن أبي طالب من الزواج بابنة أبي جهل على منع التعدد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علياً، فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يطلق علي ابنتي) فهم يستشهدون بهذا الحديث فيقولون: هذا كلام واضح جداً، إذا كنت تريد أن تتزوج فالزوجة الأولى مخيرة بين أن تطلب الطلاق أو تبقى، وهذا يدل على أنه لابد أن توقع على الموافقة، فهم بهذا الدليل جعلوا القوامة بيدها، انظر الكلام! يعني هي التي تقول للرجل: تزوج أو لا تتزوج، وإلا طلقتك، فالمسألة ستكون بهذه الصورة. لكن لا بد من النظر في كل ألفاظ الحديث! الشعر الماجن عمل نفس الموضوع، قال: ما قال ربك ويلٌ للأولى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينا أي: ليس هناك ويلٌ للسكارى، إنما هناك {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] دون أن يتم قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]؟! انظر إلى الجريمة التي ارتكبها، أخذ آية قرآنية صحيحة، لكن لا يتم معناها إلا بإتمام بقية السياق قال ({لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يطلق علي ابنتي، والله لا تجتمع بنت عدو الله وبنت رسول الله تحت سقفٍ واحد) هذه العلة الأولى. بنت أبي جهل لا يتصور أحد أن علي بن أبي طالب كان سينكح ابنة أبي جهل وهي كافرة لا، لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10] لا يمكن للمسلم أن يتزوج بكافرة، بينما يمكنه أن يتزوج كتابية مشركة، لكن الكافرة المحضة الأصلية لا يجوز الزواج بها. فطبعاً أبو جهل كافر أصلي، وابنته تبعاً لذلك كافرة أصلية حتى تسلم، إذاً لا يجوز الإمساك بها، لكن بداهةً هي أسلمت. فما المانع إذاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع بنت عدو الله، وبنت رسول الله تحت سقفٍ واحد، إني أخشى أن يفتنوا ابنتي) فانظر إلى العلة، هي مسلمة، لكن خالها كافر، وعمها كافر، وعمتها كافرة، فعندما يأتي هؤلاء الكفرة إلى هذا البيت يخشى على ابنته ريحانته سيدة نساء أهل الجنة، بل سيدة نساء العالمين إلا ما كان من مريم عليها السلام، يخشى على سيدة نساء العالمين (إني أخشى أن يفتنوا ابنتي)، وحتى لا يظن رجلٌ أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحرم على علي بن أبي طالب مطلقاً الزواج الثاني، قال عليه الصلاة والسلام في نفس الحديث: (أما إني لا أحرم ما أحل الله، ولكن لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله تحت سقفٍ واحد)، فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (أما إني لا أحرم ما أحل الله) أي: من التعدد، فكيف لم يفصل الذين وضعوا هذا القانون المشئوم الأبتر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا القول من أهواء الناس، والله تبارك وتعالى اللطيف الخبير، الذي هو أعلم بالناس منهم بأنفسهم، والذي شرع ذلك لهم، إنما هو لصالحهم، فنسبة النساء أكثر من نسبة الرجال؛ لأن الرجال معرضون للقتل في الحروب والعصابات والأوبئة، فيترتب عليه أن يكون عدد النساء أكثر من عدد الرجال. أيتها المرأة التي تسمع كلامي! أيتها المرأة التي مات زوجها عنها وهي شابة، أو طلقها زوجها وهي شابة! ألا تتمنى هذه المرأة أن تكون في كنف رجل. فالمرأة وقت وجود زوجها، تأبى عليه أشد الإباء أن يتزوج عليها وتهدده. فهذه المرأة إذا مات الزوج وهي لا تزال بعد شابة، فهل يُقضى عليها بالإعدام، وتقضي حياتها كلها بلا زوج! ونقول للذين يدافعون عن حقوق المرأة -زعموا- ويقاومون الزواج الثاني! هذه المرأة لما مات عنها زوجها هل صارت وحشاً؟ أو صارت رجلاً؟ أو انتفى عنها وصف الأنثى، أو ما زالت امرأة؟ أليست هذه امرأة لها حقوق؟ فأين ذهب حقها؟ فالمرأة بعد وضعها الجديد ولو مضى على زواجها يوم واحد لا يعود بيت أبيها لها بيتاً، ولا تشعر فيه بالأنس والاستقرار؛ لأنها لا تعامل معاملة البنت البكر، حتى في بيت أبيها، فتنظر هي إلى حالها، من الممكن أن تكون هي المرأة القادمة التي يموت زوجها، أو يطلقها زوجها وهي شابة. إذاً: هي لابد أن تحب لأختها من الخير ما تحب لنفسها، لاسيما إذا كان الرجل عادلاً مستطيعاً.

الحكمة من تعدد الزوجات

الحكمة من تعدد الزوجات الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الحالة التي وصلنا إليها في هذا الباب هي أننا صرنا كالنصارى في هذا الباب؛ والسبب طويل، وجذوره ترجع إلى الوراء، إن الذين امتلكوا دفة الإعلام والثقافة عندنا لا يمتون إلى الإسلام بصلة، ولاؤهم ليس لدينهم، القصص المسرحيات المسلسلات الجرائد المجلات كل ذلك يصب في هذا المستنقع. فإذا جاءهم من يقول: إن للرجل أن يتزوج على زوجته، قالوا: لماذا؟ هل بالمرأة عاهة؟ المرأة ليس لها كرامة؟ ليس لها حرية؟ لا، الكلام هذا كان في العصور الوسطى، في العصر الحجري، لكننا الآن أخذنا حريتنا. هذا اتهام للنبي عليه الصلاة والسلام أنه عيش النساء في العصر الحجري والعصور الوسطى؛ لأن المرأة الآن لم تعد كما كانت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وصاروا يأتون بالشبهات التي يلبسون بها على الناس. نحن قلنا: إن القلب ليس ملكك، يجبر الإنسان على عشق امرأة أو على حب شيءٍ ما وهلاكه فيه، تقول له: يا أخي! انس يقول لك: لا أستطيع، وهل قلبي بيدي؟ فهو لا يستطيع، ويكاد يتلف. وفعلاً بدأ هذا الرجل يضمر، ووجهه ينحل، وأحست زوجته أن الرجل يموت، فذهبت إلى تلك المرأة وقالت لها: اعملي معروف، تزوجيه، أنا لا أريد أن أفقده، لو -صار معي نصف يوم أو يوماً من كل يومين أفضل من أن يموت، تزوجيه. هي بالتالي ركبت دماغها، وقالت: أبداً، لا يمكن، فأرسلت رسالة للرجل صاحب البريد، تقول له: إنها تقرأ لك، أرجوك تحننها، وقل لها: تتزوج زوجي، أنا أريد ذلك. فيقول لها: لا يا سيدتي، لن أقول لها ذلك. أنا أفهم أنك تقول: لا أقول لها ذلك؛ لأن البيت سيتدمر وسيضيع، لكن المرأة نفسها هي التي تقول لك: اعمل معروفاً، كلمها. فيقول لها: لا يا سيدتي، لن أقول. انظر العداء السافر إلى أي درجة وصل! أنا أفهم أنه لا يريد أن يهدم البيت الأول، حسناً، كلام معقول مثلاً، ولو بادي الرأي، لكن المرأة نفسها هي التي تقول: مرها، وانصحها أن تتزوجه. فيقول لها: لا يا سيدتي. إن النساء المطلقات واللاتي مات عنهن أزواجهن كثرة كاثرة، والمتأمل في أحوالهن يبكي بالدمع السخين عليهن، وعلى ظروفهن وأحوالهن، ألسن نساء لهن ما للنساء؟ فأيهما أصلح: أن تقع المرأة في الحرام، أو يعفها رجل؟ (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، الرجل القادر المستطيع الديِّن الخيِّر زواجه خير، فيه تكثير لنسل المسلمين، وفيه أنه ضم امرأةً لا راعي لها. فأعداء الدين عندما يتكلمون في هذه القضية لا يتكلمون بعدل ولا بإنصاف ولا بعلم، بل غمزوا نبياً من الأنبياء بسبب ذلك. إن هؤلاء لا يتورعون في سبيل الوصول إلى ما يريد أسيادهم عن أن يغمزوا حتى الأنبياء، فانظروا يرحمكم الله إلى هذه المسألة، ولا زلت أقول: ما جاء الدين ليرضي أهواء الناس، إنما جاء الدين لمصلحة البشر، فقد يرتكب الإنسان عملاً ضد مصلحته وهو لا يدري، ولذلك العبد الذي يسلم لربه تبارك وتعالى -لدينه وشرعه- من أسعد الخلق.

التزام الأحكام الشرعية لا يأتي إلا بالخير

التزام الأحكام الشرعية لا يأتي إلا بالخير إن الله عز وجل وجهك إذا أشكل عليك أمر أن تقول: ربِّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين؛ لأن الله إذا وكل العبد إلى نفسه طرفة عينٍ أهلكه. ودعاء الاستخارة عندما تتأمل ألفاظه تدرك هذا الأمر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتسمي حاجتك-) تريد أن تتزوج، أو تنقل مسكنك، أو تغير الوظيفة، أو تبدأ مشروعاً، أنت لا تدري أهو خيرٌ لك أم لا؛ تدعو هذا الدعاء بعد صلاة ركعتين من غير الفريضة. (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -وتسمي حاجتك- خير لي في ديني ودنياي، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفني عنه، واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به). انظر إلى الكلام! لأنه قد يقدر لك الخير وأنت لا ترضى به فترفضه؛ فتحرم ذلك الخير. فعليك عندما تدعو الله تبارك وتعالى أن لا تدعوه بالذي تريد؛ لأن ذلك الأمر قد يكون وبالاً عليك وأنت لا تدري، فلا تقل: يا رب! أريد أن أتزوج فلانة. لكن قل: يا رب! إن كانت فلانة خيراً لي في ديني ودنياي فزوجنيها، ولا تقل: أريد الوظيفة الفلانية، أو المسكن الفلاني، لكن قل: إن كان ذلك الأمر خيراً؛ فإن ذلك من أدب الدعاء، وما ألطف دعاء أيوب عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] لم يقل: فاشفني، وإنما قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] إن كنت ترى الرحمة في استمرار بلائي فزده، وإن كنت ترى الرحمة أن ترفعه عني فأنت أرحم الراحمين، فانظر كيف لم يطلب العافية لنفسه، لم يقل: مسني الضر فاشفني؛ لأنه لا يدري، أيهما أصلح له: المرض أو الصحة، والعبد المريض لا يدري بعد أن يصح أيكون مجرماً في الأرض أم لا؟ ربما مرض حتى يعجزه الله عن معصية لو كان صحيحاً لأتاها؛ فرحمه الله بأن ابتلاه، والله أرأف بالناس من الأم بولدها، فانظر إلى أدب الدعاء، قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. فلذلك إذا كانت هناك امرأة يريد زوجها أن يتزوج عليها، فلا تتحانق، ولا تلج باب السفه، ولكن تلجأ إلى عتبة ربها تبارك وتعالى، وتمرغ وجهها بين يدي عبوديته وتدعو وتقول: إذا كان هذا الزواج الثاني يزيد في طاعتي، ويقربني من ربي، ويعف هذه الأخت؛ فاقدره له ويسره له، وإن كان هذا الزواج يضيع إيماني، ويقلبني رأساً على عقب، ويعكر حياتي؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر الخير حيث كان. هذا هو دأب الصالحات المؤمنات، وليس أول ما تعلم أن زوجها سيتزوج عليها ترفع راية العصيان، هي لا تدري هل الزواج الثاني خيرٌ لها أم لا، ليس كل أمر يُرى شراً يكون في الأصل شراً، بل قد يكون خيراً، والله تبارك وتعالى أدب الصحابة في حديث الإفك، فقال: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فسلم للذي يعلم وادعه متضرع القلب، وصف قدميك بين يديه تبارك وتعالى، واضرع إليه ضراعة الذليل أن يقدر لك الخير. هذا هو سلوك النساء الصالحات المؤمنات، ولا شك أن جميع النساء عندهن غيرة، لكن الغيرة لها حدود، والغيرة إذا طغت على حدود الله عز وجل لا تكون محمودة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها كانت تغار، وكانت تقول: (ما غرت على امرأة قط غيرتي على خديجة لكثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها) فغيرة النساء موجودة، والرجل الصالح العادل هو الذي يقتل هذه الغيرة بعدله وإقباله على نسائه، لكن لا يجوز لها أن تتخطى الحدود الشرعية؛ فتظلم بهذه الغيرة. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [2]

تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [2] تعد وسائل الإعلام في العصر الحديث من أهم وسائل التأثير وأخطرها على عقل الإنسان ودينه، وقد أدرك أعداء الله أثر الإعلام في توجيه ثقافات المجتمعات، فاستغلوا ذلك في نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، ومن ثم إبعاد المجتمع عن الدين الذي يمثل الحصن الحصين لحمايته. ومما يركز عليه هذا الإعلام في الآونة الأخيرة مسألة تعدد الزوجات لما لإثارة هذه القضية من قبول لدى طائفة من الناس وبخاصة النساء، وهم خلال ذلك لا ينشدون منح المرأة حقاً ضائعاً، وإنما يريدون من وراء ذلك سد الأبواب الشرعية التي تمنع من انتشار الرذيلة، والاستعاضة عنها بوسائل أخرى مثل اتخاذ الخليلات واعتبارها في النهاية بديلاً للزواج الشرعي.

اتهام دعاة حقوق المرأة ليعقوب عليه السلام بعدم العدل بين أبنائه

اتهام دعاة حقوق المرأة ليعقوب عليه السلام بعدم العدل بين أبنائه إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد. في قصة يوسف عليه السلام عبر كثيرة جداً، لكن من العبر التي نقف عليها، وهي متعلقة بالكلام الذي قلناه آنفاً عمن أورد قصة يوسف مع إخوته في معرض التمثيل على أضرار تعدد الزوجات، فقال: إن يعقوب عليه السلام فرق ما بين الأولاد، وهو يريد أن يقول: فإذا كان هذا حال الأنبياء فكيف بحال العوام؟ هو يريد أن يقول هذا. فغمز ذلك النبي الكريم بالظلم، فهل في قصة يوسف من أولها إلى آخرها أية إشارةٍ من رب الأرباب إلى ظلم يعقوب عليه السلام لولده؟ وهذا الرجل من أين أخذ هذا الكلام؟ أخذه مما جاء على لسان إخوة يوسف: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] فهم الخصم في هذه القضية، فهل الخصم تؤخذ منه الدعوى؟! فإذا جاء رجل مدعٍ، يقول عن آخر: هو ظالم، أقول له: ما هو الدليل؟ فيقول لي: لأنه ظالم، فهذا رجل مدع ولم يقدم دليلاً إلا الدعوى، والدعاوى إنما يستدل لها لا بها، وملخص دعواهم؟ {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] هذه هي الدعوى: أنه يحبهما أكثر مما يحبنا. فأنا آتي على هذا وأقول له: ما هو الدليل على أنه ظلمك؟ لا أقبل منه أن يقول: إنه ظالم لي لا، بل يقول: لا يعطيني كذا، ويعطيني كذا، وحرمني لي من كذا وكذا أما أن يستدل بنفس الدعوى على الدعوى! فهذا لا يقبل منه، فهم قالوا هذه الدعوى، فهل هم محقون فيها؛ حتى أسلم لهم، وألمز هذا النبي الكريم؟ ومما يدل أيضاً على أنهم من العوام أنهم يزنون الأمور بالكيلو، مثل العوام تماماً، فيقولون: بما أننا نحن عصبة؛ إذاً: نحن أولى بالحنان والحب من الاثنين، وهكذا مقياس العوام، إذا قمت في الناس تذكر وتنذر بآيات الوحي، وبكلام النبي عليه الصلاة والسلام، يأتي من يقول لك: هل أنت على هدى وكل هؤلاء على ضلال؟! يزنونها بالكيلو أيضاً، مع أن الحق لا يخضع لمثل هذه القسمة، بل الأنبياء جاءوا في وسط المخالفين، وكل المخالفين سفهوهم واحتقروهم، وأخرجوهم وهموا بقتلهم، بل وقتلوا بعضهم، كيحيى عليه السلام لما قتلوه وأهدوا رأسه لامرأة بغي. فهؤلاء هذا ميزانهم، والمسائل عندهم لا تخضع لمقياس الحق، إنما تخضع للكثرة، والعجيب في المسألة: أن هذه الكثرة يمكن أن تنقلب على ضلال في رأيهم لو كانت ضد أهوائهم، وهذا هو العجيب في الموضوع! ولو عاملتهم بنفس مقاييسهم وقلت لأحدهم: أنت تزن بالكيلو وأنا سأزن لك بالكيلو، لو جاء واحد فقط من المفتين -والجماعة الذين معه لا يؤبه لهم- فقال: إن الفوائد الربوية حلال، ووضع الفلوس في البنوك حلال، وخالفه البقية ولجنة الفتوى، وكل المجامع العلمية في البلاد الإسلامية، قالوا: لا، هذا ربا صريح. يقول لك: لكن أنا مع المفتي فلان! فنقول له: لماذا لا تزنها بالكيلو على مذهبك؟ فالمفروض أن كل هؤلاء يكونون على حق، وأنه يكون على ضلال إذاً: لماذا قلبنا المسألة هنا؟ لأنه صار فيها هوى، ولذلك ليس للعوام مذهب إلا الهوى. فإخوة يوسف عندما جاءوا قسموا هذه القسمة، واتهموا أباهم بالضلال، لم يتفطنوا لمقياس الأب في الحنان. نعم بالنسبة للعدل المادي يجب عليه أن يعدل، وكذلك ينبغي عليه أن يعدل حتى في القبلات، لكن قد يقوم مقتضى يمنع دون ذلك، ولا يكون من الظلم، ولد عاق يشتم أباه ويضربه، شيء طبيعي أن الوالد ينفر منه ويكرهه ويدعو عليه، فهل تريد أن تسوي بين هذا العاق، وبين الذي جعل خده مداساً لوالده؟ لا، لا يستويان مثلاً أبداً. فعندما يوصل الحنان والعطف لهذا ويمنعه عن ذاك؛ فإنما فعله لقيام مقتضى، لكن إذا لم يكن هناك مقتضى فالأصل العدل بين الأولاد في كل شيء. (جاء بشير -والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخص النعمان بشيءٍ دون إخوته، فقالت امرأته: لا والله؛ حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فذهب بشير بابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! إني أريد أن أنحل ابني هذا نُحلاً -أي: أعطيه عطاءً- قال: أكل ولدك أعطيت -أي: مثل النعمان -؟ قال له: لا. قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ثم قال له: أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: فاعدل بينهم) لأنه حين يرى الأخ أخاه الآخر هو المحبوب، وهو الذي يأخذ كل شيء، فمن الطبيعي أن يحقد على أخيه وأبيه، ولا يوصل البر لأبيه، فلذلك نبهه النبي عليه الصلاة والسلام تنبيهاً لطيفاً بما جبل عليه، فأقامه كالدليل على ما يريد، قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: فاعدل بينهم) لماذا؟ لأنه {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، تعطي عدل تأخذ بر، لكن تعطي ظلم وجور وتنتظر البر؟ لا.

ترويج دعاة حقوق المرأة لاعتبار زواج المتعة بديلا شرعيا لتعدد الزوجات

ترويج دعاة حقوق المرأة لاعتبار زواج المتعة بديلاً شرعياً لتعدد الزوجات إن دعاة حقوق المرأة الذين يطالبون بمنع التعدد هم أنفسهم الذين يباركون اتخاذ الخليلات والعشيقات، أي: يمنعون الرجل من التعدد في الحلال ويبيحون المرأة له في الحرام، وقد ذكر أن أحد الدعاة إلى مثل ذلك -وقد أهلكه الله عز وجل في ليلةٍ مباركة- كان يرد على علماء الأزهر في زواج المتعة، ويقول: أليس الأزهر سنة كذا وستين قال: إن الشيعة مذهب إسلامي معتبر؟ فالشيعة يقولون بزواج المتعة، لماذا لا تبيحون زواج المتعة للشباب الضائع الذي لا يعرف كيف يتزوج؟ وصفة زواج المتعة: أن يتزوج الرجل لوقتٍ معلوم، وبمهرٍ معلوم، كأن المرأة تستأجر، كما روى الصحابي الجليل ابن سبرة الذي هو راوي حديث تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة، قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لنا: (استمتعوا بهذه النساء فأحلت المتعة للصحابة ثلاثة أيام ثم حرمت إلى أبد الآبد). يقول: (خرجت أنا وصاحبٌ لي، وكل رجل عليه شملة -أي: عباءة- فذهبوا إلى امرأة يعرضون أنفسهم عليها -أي: تقضي معنا شهرين وتأخذ هذه العباءة- قال: فاستملحت صاحبي -كانت عباءته جديدة، أو كان به مميزات أخرى؛ فاختارته- وما هي إلا ثلاثة أيام إلا ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمها). زواج المتعة فيه إهانة للنساء، كأنهن مستأجرات؛ فلذلك حرمت. فهو يقول: طالما أن الشيعة مذهب معتبر، والآن الشباب غير قادرين على دفع المهر، لا عشرة آلاف، ولا حتى خمسة آلاف، فالذي معه مائة جنية لماذا لا يتزوج شهراً؟ ويظل يتكلم، ويصف العلماء المعارضين لهذه المسألة بأنهم حمير، وهذا كان ينشر في صحيفة الأحرار منذ ثلاث سنين، بدعوى حرية الرأي. فنقول: نحن نقترح اقتراحاً أحسن من هذا إلا أنه حلال: الآن الشباب يفتتنون من العهر والعري الموجود في الشارع، فهلا قلت: أيتها النساء! ادخلن مساكنكن، وتسترن، وهلا قلت لأولياء الأمور: خففوا على الشباب: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه). لا هو يعتبر تحجب المرأة نوعاً من التخلف، ولا يجوز أن تفرط المرأة في مكاسبها، وهذا يعتبر مكسباً عظيماً أخذته المرأة. هل تعلمون سبب تسمية ميدان التحرير بهذا الاسم؟ كان اسمه ميدان الإسماعيلية قبل هذا، وسمي ميدان التحرير لأن صفية زغلول لما خرجت مع من خرج للتظاهر ضد الإنجيلز، فراحوا عند معسكرات الإنجليز يحتجون ويهتفون ضد الإنجليز: يسقط الإنجليز، يسقط الإنجليز وإذا بها ومن معها من النسوة يخلعن الحجاب ويشعلن فيه النار. فما هي المناسبة والرابط في الموضوع بين الأمرين؟ حتى أن التمثيلية ليست محبوكة، يعني: كون المرأة تخلع الحجاب نكاية بالإنجليز! فهل الإنجليز هم الذين فرضوا الحجاب أصلاً؟ وسمي ذلك الميدان بميدان التحرير من أجل تحرير المرأة من دين الله عز وجل، ومن أوامر الله تبارك وتعالى. وبدأت المرأة تسير نحو الهاوية شيئاً فشيئاً، وكل هذا بدعوى تحرير المرأة والحفاظ على مكاسبها. عندما تقول للمرأة: تحجبي. فالله تبارك وتعالى أمر النساء بالحجاب، وأمرهن بالقرار في البيت، فلا تخرج المرأة من البيت إلا لضرورة أو لحاجةٍ ملحة، أما أن تخرج المرأة فيفتتن بها الشباب حتى يقعوا في الزنا، وبعد ذلك تقول: نبيح زواج المتعة! ظلمات بعضها فوق بعض، عصوا الله في أول الأمر، ويريدونا أن نعصي الله أيضاً بجبر هذا العصيان الأول كيف يكون ذلك؟!!

الوسائل المعاصرة لأعداء الإسلام في غزو البلاد الإسلامية

الوسائل المعاصرة لأعداء الإسلام في غزو البلاد الإسلامية نحن أمام مخطط رهيب وتغريب خطير، وهذا هو الذي يمشي فيه أعداؤنا من اليهود الآن، فالحزب الحاكم في إسرائيل الآن خطته غير خطة إسحاق شامير؛ لأن إسحاق شامير كان يذهب إلى استعمال القوة، فيبني المستوطنات على أراضي الفلسطينيين لكن إسحاق رابين كان مذهبه يعتمد على أسلوب المراوغة لنيل أكبر قدر من المكاسب. ولذلك هم الآن يسعون بقضهم وقضيضهم لإقامة السوق الشرأوسطية -الشرق أوسطية-؛ لأنهم حين يغرقون الدول العربية ببضاعتهم هذه سيضيعون اقتصادنا نحن. قرأت بحثاً لرجل ناصح، وهو أستاذ خبير في الزراعة، قال: إن نسبة الفشل الكلوي ارتفعت بسبب البذور التي تأتينا من إسرائيل عن طريق النمسا وسويسرا فهم يحقنون البذور بأشياء تضر التربة وتضر الآدميين، ولكن القاتل لا يعرف. وقرأت خبراً مفاده أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لما علم أن امرأة يهودية قتلت في الضفة الغربية أصدر بياناً قال فيه: نحن نعترض، ولابد أن نثأر. أما نحن فشعب البوسنة والهرسك يكاد يفنى، وكل الذي في جعبتنا الشجب والاستنكار. علينا أن نأخذ العبرة من حرب رمضان، حين تجمع العرب لأول مرة ومنعوا البترول عن أوروبا مات الناس في النمسا وفي البلاد الباردة من البرد، ورأينا صورهم وهم يركبون الجحوش -جمع جحش- ويركبون الدراجات الهوائية لماذا؟ لا يوجد بترول، ولم يكن يأخذ البنزين إلا السادة الكبار. أسباب الحياة في أيدينا لكننا حمقى! فنحن نستطيع أن نحول الحضارة الغربية إلى صفيح لو منعنا عنهم البترول، ولذلك النظام العالمي الجديد ركز على منابع النفط، ومما لا يخفى أن حرب الخليج أعدّ لها منذ نحو خمس عشرة سنة؛ وعندهم نفس طويل جداً في إعداد مثل هذه المخططات. فأسلوب الغزو بأن يدخل على المسلمين ويحتل الأرض بالطائرات هذا كان فيما مضى، أما الآن فالمستعمر يمكث في بيته، ويضع رجلاً على رجل، ويمارس لعبة تحريك العرائس، فيحرك أعوانه كالدمى بالخيط، فهم هنا يعملون ما يريده منهم، وهو هناك يضع رجلاً على رجل!

دور بعض من ينسب إلى الإسلام في الترويج لزيف الحضارة الغربية

دور بعض من ينسب إلى الإسلام في الترويج لزيف الحضارة الغربية كان أحد الأدباء -وقد أفضى إلى ما قدم- تربطه صداقة وطيدة بأديب آخر يكتب في عمود اسمه (مواقف في الأهرام) فكتب عن صاحبه في أحد أعمدته قائلاً: أنا رأيته في المنام في جهنم، وقال: أنت ستلحقني إن شاء الله. ولم يستح هذا الرجل أن يكتب هذا الكلام في عمود (مواقف)! وبعد ذلك أقر وقال: فعلاً؛ لأن الأدباء لصوص وظل يشتم قليلاً. وهذا الرجل ليس موفقاً ولا حكيماً، فعندما ذهب فرنسا سنه (1979م)، يعني الرجل كما يقال: (ما بقي في الكرم إلا الحطب) قيل له: ما الذي أعجبك في فرنسا؟ قال: أعجبني الزواج الجماعي، والزواج الجماعي يقصد به أنهم يتبادلون الزوجات فيما بينهم. هذا هو الذي أعجبه في فرنسا؟! فنحن لا ينقل إلينا من تلك الحضارة إلا مثل هذا، فمثلاً لو أن عندنا طائرات، وحصلنا على معونة من الغرب في مجال الطيران، فإنهم يشترطون علينا مثلاً شراء قطع غيار بمبلغ عشرة مليون دولار، وهذه القطع تكون متعلقة بهيكل الطائرة الخارجي أو ما شابه ذلك، فلو قلنا: أعطونا قطع غيار خاصة بالمحرك يقول لك: المعذرة، يوجد لدينا عجز، خذ أبواباً وشبابيك، فتمتلئ المخازن عندنا بالأبواب والشبابيك لكنه لا يعطيك أسباب الحياة؛ لأنه عدوك، فكيف نسينا أنه عدونا؟ لأن عقيدة الولاء والبراء ليس لها أثر في حياتنا.

دور الإعلام في بعض الدول الإسلامية في نشر الرذيلة بين المسلمين

دور الإعلام في بعض الدول الإسلامية في نشر الرذيلة بين المسلمين أصبحت الحرب الآن فكرية إعلامية رهيبة، سئل مسئول إعلامي عن المسلسلات الفاضحة التي تدعو إلى المجون صراحة. فرد المسئول قائلاً: التلفاز هذا أليس له مفتاح؟ فليغلقله يا أخي! فنقول له: وأنت ما عملك؟ فلماذا لا تدعني أقتل خلق الله، وأسرق البنوك، وأعمل كل شيء وأنا حر في ذلك، فلماذا تقتلني وتضعني في السجن وتشنقني؟! يقول لك: أصلاً أنت متعدٍ على القانون، وهذا ليس في مصلحة الناس. وهل من مصلحة الناس نشر الفجور فيهم؟ وأنت رجل وضعت أميناً عليهم ومسئولاً أمام الله تبارك وتعالى، فكيف تسرب الفساد، ثم تأتي وتقول: للتلفاز مفتاح، والذي يريد أن يقفله يقفله وأنت تعلم أن الناس لا يلتزمون أهذا منطق؟! وهلاّ اعتمدت هذا المنطق في بقية المسائل، دعني أفعل ما أريد، فلماذا تحاسبني على أي خطأ آخر؟ لكن هذا مخطط رهيب لتغريب هذه الأمة، فكتب الدين والمناهج الدراسية، رفعت منها الآيات التي تسب اليهود وتلعنهم، كأنها ليست قرآناً. جاءتني نشرة من شخص أرسلها إلي في خطبة من الخطب، وكنت أظنها سؤالاً، فإذا بها منشور من وزارة الأوقاف لفلان من مديرية الأوقاف لهذا البلد، وتطلب من هذا الرجل ألا يتكلم عن عمر بن الخطاب، وفيها ختم المدير وإمضائه، وبعث لي الورقة أقرأها، فضربت كفاً بكف عمر بن الخطاب! نعم؛ لأن عمر بن الخطاب ذكره يؤلم أناساً، فالكلام عن عمر بن الخطاب يعد مشكلة، لأنه كلام عن العدل والإيثار وهذه الأشياء مشكلة! وفي كل يوم تدفع إلينا أرحام المطابع بسموم كثيرة جداً، ولا يُمكن للدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يصلوا إلى هذه الجماهير التي وصل إليها المفسدون فعلى الأقل لو جعلت وسائل الإعلام منبراً للجميع، وكل واحد يعرض فيها بضاعته، على سبيل العدل، فلو جاء شخص يدعو لزواج المتعة، فدعني أرد عليه، وهذا شيخ الأزهر نفسه تألم حين أرسل رداً إلى الصحف ولم يتم نشره، وهو أكبر شخصية إسلامية في البلد، فكيف يمكن أن يتم البنيان؟ فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وأورد هنا حادثة حصلت عندنا حين عرضت وزارة الإعلام مسرحية ماجنة، قاموا فيها بالإتيان بمجسم يمثل الكعبة، وأتوا ببئر بترول تحت الكعبة، وجاءوا براقصة عارية ترقص فوق الكعبة! وهذه عرضت، وفي النهاية المخرج قال: أنا مسلم، موحد الله، حتى إني ألبس خاتم فضة. فكأننا إذا لبسنا خواتم من فضة! يعني أننا وصلنا إلى قمة الالتزام!! فهل يفعل هذا في صورة الكعبة، التي هي البيت العتيق الذي تحن إليه أفئدة المسلمين من جميع العالم! أنت عندما تذهب إلى البيت العتيق وتدخل وتراه يقف شعرك، وجلدك يقشعر من عظمة البيت! وأنت ترى الناس وهم يطوفون حوله. الشيء المعظم عندنا يصل به الامتهان أن يصور، ويؤتى براقصة لترقص فوق البيت؛ بدعوى أن الجماعة الذين عندهم البترول هم الراقصون وهم إلخ، ولا يستخدمون المال فيما يريد الله، فيأتي هذا المخرج لبيان هذا الواقع فيعرض البيت للمهانة! إن هذه رموز دينية، فلو جاء رجل ورسم صورة الكعبة، ووضعها على الأرض، وقال للناس: دوسوا. فهذا يعزر؛ لأن هذه ليست مجرد صورة، بل هو رمز ديني. لما سقطت الخلافة الإسلامية في تركيا، وفرضوا القبعة على الشعب التركي بدل العمامة -والقبعة شعار غربي- قام علماء الدين جميعاً يقاومون القبعة، فقبض على جماعة منهم، وجيء بواحد من العلماء -طبعاً حكموا عليه بالإعدام- فقال له القاضي وهو يحاكمه: ما أتفهكم يا علماء الدين! أقمتم الدنيا ولم تقعدوها لقبعة، وهي قماش، وتقولون: البسوا العمامة. وهي قماش، فما الفرق بين القماشين؟! قال له: أيها القاضي! إنك تقضي وخلفك علم تركيا، فهل تستطيع أن تبدله بعلم أمريكا، وهذا قماش وهذا قماش؟! فألقمه حجراً وأسكته. لأن هذا يمثل عنواناً، فكما أنك لا تستطيع أن ترفع علم بلد غير بلدك فوق رأسك وأنت تتكلم؛ لأن هذا يعتبر عندكم من الخيانة العظمى والعلم عبارة عن قماش، ثم هم يطالبونا بتحية العلم أيضاً لماذا؟ أليس العلم قماشاً؟ قال لك: لا، الذي لا يؤدي تحية هذا العلم نفصله لأن هذا رمز البلد، وشعارها، وعنوانها. فنحن نخاطبهم بنفس الطريقة ونستخدم نفس الأصل، فنقول: هذا أيضاً عنوان، فالكعبة عنوان، فليس من الضروري أن يصعد فوق الكعبة المشرفة نفسها ويعمل هذه العملية ومع ذلك لم يحاكم المخرج بل أخذ الجوائز عن هذا العمل. ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالث وإذا تتابعت السهام، وتكسرت النصال في الجسد؛ لا يستطيع المقاومة، فلا تأخذوا دينكم لا من صحف ولا مجلات، وأخرجوا التلفاز من البيوت، فهو والله دمار، وهو من أخطر ما يكون! وأنا على استعداد لأن آتي لكم بتقرير شركة إنترناشونال -شركة يابانية منتجة لجهاز للتلفاز- وهذا نشر في مجلة البيان التي تصدر في لندن، يقول العالم الذي كتب هذا التقرير: إن الأشعة التي يرسلها التلفاز تجعل العقل نصف نائم، بحيث أنه يتلقى كل الذي يقذف إليه بلا أي مقاومة، فهذه الأشعة من خصائصها أنها تؤثر على العقل، وتجعله نصف نائم، ويقول: إن علماء الأشعة لم يستطيعوا الحد من خطورة الأشعة تحت الحمراء -التي في التلفاز الملون- وهي تصيب المدمن الذي يشاهد كثيراً بالسرطان. وقد قرأت هذا التقرير مرة على المنبر، وقد صار لنا ثلاث سنوات نردد هذا الكلام وكأننا نحرث في الماء، ونقول: أخرجوا التلفاز، فهو حرام، ونأتي بالأدلة الشرعية على أن وجود التلفاز في البيوت حرام، ومع ذلك يرفض كلام العالم ويقال: هذا ليس خبيراً. طيب: فالآن أتينا لكم برأي الخبراء. وبالفعل هناك أناس رفعوا جهاز التلفاز لما لوحت بهذا التقرير على المنبر، فقفز إلى ذهني قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، فحين نسمع كلام (الخواجة) نسلم له لأن (الخواجة) يفهم، والخواجة دقيق في أحكامه ودراساته، لكن كلام الشيخ لا. لماذا؟!! بل العالم هو أنصح الناس للناس، لاسيما إذا كان من بني جلدتك إذا كان مسلماً مثلك، هو يأخذ بيدك إلى الله تبارك وتعالى. المشكلة حتى في عرضهم للمادة الإعلامية، عرض خبيث جداً. طيب! مدرسة المشاغبين، عندما نشروها، ألم يزدد الشغب في المدارس؟ فما الذي استفدناه؟ يقول لك: لكي نبين أن الحق ينتصر في النهاية؟ ليتها ما زنت ولا تصدقت، كانت امرأة دائماً تزني لماذا يا امرأة؟ قالت: أريد أن أبني مسجداً هذا لا يصلح. إنهم في وسائل الإعلام يعرضون الشر بالتفصيل الممل، يعني مثلاً: إذا عرض الشر في ثلاثين حلقة، بأن يعرض الممثل مبيناً كيف يضرب، وكيف يكسر القفل، وكيف يسرق، وكيف يعمل، وبعد ذلك لم يستطع أن يكسر القفل، فقام وقعد يخترع مفتاحاً ووسيلة لكسر القفل، ويستغرق خمس أو ست حلقات في هذا العمل، وأخيراً يفتحه، ثم إذا به عندما قبضت عليه الشرطة وأدخل السجن، يقول: يا ليتني ما أقدمت على هذا العمل، وينتهي المسلسل على هذا. فهلا جُعلت أيضاً ثلاثون حلقة تصوره وهو يتجرع المر؛ لكي يحصل نوع من التصور، فاعتقاد الشيء فرعٌ عن تصوره، فحين تريد أن تنفر إنساناً من شيء تأتي له بتفاصيل هذا الشيء. فأنت مثلاً حين تصور حاله بعد دخول السجن وقد تشرد عياله، وهو لا يستطيع النوم، ويظل يتقلب على فراشه يجافيه النوم، ويظهر عليه الندم على ما اقترفت يداه، فعند ذلك يحصل تصور لدى المشاهد. لكن أتيت له بتصور مفصل للجريمة، ولما جاء الإصلاح قمت واختزلته في مشهد وأنهيت المسلسل، فهذا هو الذي يحصل، فهل هذا عرض يرجى به نصيحة؟ وأنا دائماً أقول: لابد من اقتران التربية بالتعليم، لأي مصلحة أعمل لافتة طويلة عريضة، أظهر فيها صورة علج على حصان، وبيده علبة سجائر (مالبورو) وأكتب بخط يرى بالميكروسكوب: التدخين مضر جداً بالصحة، هلا كتبت ذلك على رأس هذا العلج، لكي أراه أنا أيضاً. ولماذا هذه القسمة الضيزى، فأنت تعلم أن هذه العبارة الصغيرة هي في صالح الناس، فلماذا تكتبه بهذا الحجم الذي لا يرى؟!! وهذا يذكرني بقصة رجل وجد عنزاً، فذهب إلى الشيخ وقال: يا شيخ! أنا وجدت عنزاً. قال له: لابد أن تعرفها سنة. قال: وكيف أعرفها؟ قال: تطوف في الشوارع وتقول: من الذي ضاعت عليه عنزاً؛ فكان يمشي في الشارع ويقول: من الذي ضاعت عليه عنز بصوت خفيف جداً -أي: أنه يرفع صوته بالكلام ثم يخفضه إذا جاء عند ذكر العنز- فماذا استفاد الناس من صراخ هذا الذي ينادي؟ لم يستفيدوا شيئاً. فكذلك عندما يأتي من يقول: التدخين مضر جداً بالصحة، لا تدخن، فهل هذا مؤتمن عليَّ؟ والأساتذة في كلية الطب والمجامع العلمية الطبية تعقد المؤتمرات في كل مكان، وتعرض في شتى وسائل الإعلام خطورة هذا التدخين. إذاً: أنا مثلما أقاوم المخدرات، والهيروين، أقاوم التدخين وما الفرق؟ بعدما ثبت طبياً عند الكفرة -ودعك منا؛ حتى لا نكون متطرفين- أن هذا مضر جداً بالصحة. وإذا كان الناس لا يعرفون مصلحتهم فلماذا لا أضرب على أيديهم؟ وإلا فلم أتأمر عليهم؟ فيحق لي أن أضرب على يد المخطئ كي لا يضر نفسه؛ لأنني أدرى بمصلحته. فنحن أمام مخطط رهيب، يجب التفطن له، ويجب الركون إلى علماء الدين الأعلام، لا تأخذوا دينكم من الصحف والمجلات، ولا ممن لا تثقون بدينه، الذين يتقلبون كل يوم كالحرباء، إنما خذوا دينكم من أهل العلم، وهم كثر والحمد لله، فإن الله لم يخل العصر من قائم له بالحجة. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قل إن كنتم تحبون الله

قل إن كنتم تحبون الله للمحبة علامات كثيرة تدل على صدق المحب؛ منها: تفريغ القلب للمحبوب، فلا يشرك أحداً في حبه، وإنما يفرغ قلبه لمحبوبه الذي أحبه، كما أنه لا يصرف تفكره إلا في هذا الحبيب، ومنها أيضاً: البذل للمحبوب وطاعته والانصياع لأمره، فالإنسان إذا أحب فإنه يبذل كل ما يستطيع من أجل أن يرضي من أحبه فإن لم تتوفر هذه الصفات كان ذلك الحب ادعاء لا يقوم على دليل.

علامات المحبة

علامات المحبة إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

طاعة المحبوب

طاعة المحبوب من علامات الحب -وهو فرع أيضاً على الأصل الأصيل الذي بدأنا به- ألا يزاحم أحدٌ محبوبك في قلبك، وأن تنفعل له حتى ولو كان بضد رغبتك، ولذا يكثر عجبي من الذين يظهرون الالتزام فإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. أيها المخالف الذي يظهر عليك سمت الالتزام! ألا تعظم نظر الله إليك حال المخالفة، ثم تدعي أنك لا تستطيع أن تترك هذه العادة السيئة ولا أن تترك معصيتك وتقول: كلما أردت أن أتركها أعجز عن تكرها، فنقول لك: ذلك لفتور المحبة، فإنك إذا كنت تحب الشيء وسيدك يغضب ولا يحب ذلك، فأيهما تقدم -أيها العاقل- إذا كان في يد سيدك حياتك وموتك، وشقاؤك وتعاستك، أيهما تقدم؟ تقدم أمر سيدك أم شهوة نفسك؟ كيف هان عليك أن تعلم أن سيدك ينظر إليك وأنت تعصيه، ثم هو يحلم عنك ويمهلك، فتزداد اغتراراً بالمعصية واجتراراً لها، لا والله ما هذا بالنَّصَف، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. إن من علامات الحب أن تطيع من تحب ولو كنت كارهاً، ولو كان على خلاف هواك، وهذا شأن كل محب صادق لا يمكن أن يعصي محبوبه، ألم تر إلى قول الشاعر: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زورِ ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرورِ فإنه يلتذ بكل ما يرضي المحبوب ولو كان غير مرضي لدى المحب. وكما قال المتنبي: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم إذا كان قول حاسدي أرضاك مع أنه قد جرحني فليس لجرحي ألم إذا كان يرضيك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة). وقال آخر: ولئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك مجرد ما أخطر ببالك حتى ولو فكرت أن تؤذيني، فأنا أشكرك أنني خطرت ببالك! ولو كنت ستلحق بي الأذى، هكذا يقول المحبون بعضهم لبعض. هذا كله من علامات الحب، فإذا نقلنا ذلك إلى المحبوب الحق وهو الله تبارك وتعالى فلا يحل لنا -أيها الإخوة الكرام- أن نمشي بهذا التفلت ونحن كل يوم نقدم على الله عز وجل. أحياناً أتعجب -حتى يصيبني الدوار- من الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم، والله هذا شيء عجيب! كلما مر من عمرك عام تحتفل أنك تقترب من مصرعك؟! هل رأيت عاقلاً يفعلها؟!! كلما اقترب من حبل المشنقة يحتفل!! لكن قاتل الله عز وجل الانحلال وقاتل تباع أهل الكفر، فهم الذين نقلوا إلينا ذلك، فالاحتفال بأعياد الميلاد إنما هو شعار الكافرين الذين لا يؤمنون بآخرة ولا بعث، فانظر كيف انتقل ذلك إلينا حتى صار عرفاً بيننا ولا ينكره أحد، بل بعض الذين منَّ الله عليهم بالالتزام في أشياء كثيرة لا يزالون يحتفلون بأعياد الميلاد، ويرددون نفس الأغنيات بنفس اللغة الأجنبية، أهؤلاء محبون لله تعالى حقاً، وكيف يجتمع حبهم المزعوم لله تعالى مع معاصيه وما يغضبه ويأباه؟!! كل يوم يمر فهو صفحة عظيمة تطوى من كتاب نهايته الموت، وكل لحظة تمر تدنيك من مصرعك شبراً فشبراً، فهل عملت لهذا المصرع؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون عاماً، فقال له الفضيل: أنت منذ ستين عاماً وأنت سائر إلى الله، فانزعج الرجل وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وما العمل، وقد فَرَطَ منه تقصير؟ قال: أحسن فيما يأتي يغفر لك ما قد مضى. فإذاً العبرة بالخواتيم، ولا شك أن معرفة ذلك واستشعاره يبعث على دوام المراقبة ورجاء حسن الخاتمة والخوف من سوئها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة. فيا أيها العاصي! الذي قطعت عمرك في العصيان، أقبل على الله عز وجل، لن تجد أرحم منه، لا والداً ولا والدةً، إذا قلت له: (وعجلت إليك رب لترضى)، غفر لك وقبلك إنه هو الغفور الودود.

حب ما يحب المحبوب وبغض ما يبغضه

حب ما يحب المحبوب وبغض ما يبغضه من علامات الحب أيضاً: أن تنفعل لمحبوبك حتى تأتمر من غير أمر وتنتهي من غير نهي، ولكن بشرط وهو: أن تلاحظ تصرف محبوبك فما كان يأتيه ويحبه فقد صار أمراً من غير أمر، وما كان يكرهه ويعافه ويجافيه فأنت كذلك تكرهه وتأباه ولو لم ينهك عن ذلك، هذا الذي قصدته، فإذا رأيت محبوبك يقبل على شيء ما، ولكنه لم يأمرك ولم يقل لك: افعل كذا، فمجرد إقباله على هذا الشيء تعتبره أمراً في حقك وإن لم يأمرك حبيبك، كما في الحديث الصحيح: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء ويتتبعه) الدباء هو: القرع، وهو غير الكوسة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، وكان يتتبع القطعة في الطبق ويأخذها. قال أنس بن مالك: (رأيته صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء فلا أزال أحبه) مع أنه لم يقل له: يا أنس كل الدباء، لكن رآه محباً لأكله فانفعل له، وهذا يشبه تصرف الأم عندما ترى ابنها يأكل القطعة ثم تأخذها وتمضغها له بفمها مع أن الأب لا يعمل هذا الشيء؛ لأن النفس تعافه. ما الذي هون على الأم مثل هذا المضغ؟ حبها للولد، وذلك بسبب طول الملازمة، وأسباب أخرى كثيرة، منها: الحمل، والرضاع، ومنها ما فطر الله عز وجل الأم على محبة الولد فالأم تسهر طوال الليل وبالذات حال فطامها له، وقد يستمر ذلك ثلاثة أو أربعة أيام، مع أنها طوال النهار تهتم بأمور المنزل، فيأتي الليل وهي مرهقة جداً، ومع ذلك تصبر ولا تتضجر، والأب قد يأتي من العمل وهو متعب ومرهق، فعندما يدخل البيت ويسمع صراخ الطفل يغضب وقد لا يحتمل فيضرب الطفل من أجل أن يسكته. هذا هو الفرق، فالأم تفعل ذلك لشدة محبتها للولد، وإذا مات الابن تكون فجيعة الأم بالولد أضعاف فجيعة الأب بسبب شدة الحب، فالإنسان المحب حياته كلها لمحبوبه، فيظل يفكر فيه، ويبحث عن الأشياء التي يحبها، ويقوم بها، ويتمنى لو أنه يتكلم معه الساعات الطويلة، وإذا أرسل رسالة فيظل يقرؤها طوال الليل والنهار، ويكون قد قرأها ستمائة مرة، ومع ذلك لا يزال يقرأ، وكل مرة يحس أنه أول مرة يقرأها؛ لأن كل مرة فيها جرعة شوق لم تكن في المرة الأولى، فجرعة الشوق هذه هي التي تأتي بطعم للكلام. لماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: (اقرأ عليَّ القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) لأن القرآن كلما تعطيه عقلك، يعطيك جديداً، لا ترجع أبداً بغير فائدة. سأذكر مثالاً، ولكن لن أتوسع فيه كثيراً وإنما سأذكر بعض ما يتعلق به، ومن أراد أن يتوسع فليبحث في كتب التفسير عن هذه النكتة اللطيفة، قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95] لماذا قال (مطمئنين)؟ مع أن السياق -في الظاهر- ينفع بدونها؛ لأنه ذكر في الآية التي قبلها أنهم اعترضوا فقالوا: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:94] بشراً مثلنا؟! استنكار، وقالوا: نحن نريد رسولاً من نوع مختلف لا يكون مثلنا، لا يمشي في الأسواق ولا يأكل المطعومات وغيرها. ولو أنهم أُرسل إليهم ملك لقالوا: هذا ليس من جنسنا ونحن نريد أن يُبعث لنا رسولٌ من جنسنا، ليس هذا هو معنى الآية، وإنما معنى الآية أنه: لو أن الأرض عليها ملائكة لن أنزل بشراً، بل سأنزل واحداً من جنسهم، فأنت كلما تعطي القرآن قلبك وعقلك أعطاك أشياء جديدة، وهكذا في خطاب المحبوب، كلما تقرأه مرة جديدة وتعطيه قلبك مرة بعد مرة يعطيك أشياء جديدة، وهذه هي علاقة التفاعل بين المحب والمحبوب، علاقة إخاء وود، لا يمكن أن يكون العطاء من جانب واحد، فيظل المحب يعطي والمحبوب يبخل عليه، لا يريد أن يعطيه شيئاً، والمحب قد تفتر محبته، فلكي تبقي من تحب لا تثقل عليه، فكما أنه يعطيك، فلابد أن تعطيه. وينبغي أن يكون المحب ذكياً لأنه إذا كان محباً فعلاً يبقى هو ومحبوبه على طريقة واحدة، فلا يكون هناك تغاير، ولو نظرت عين المحب إلى المحبوب أو المحبوب إلى المحب عرف أن فيها كلاماً، لكن الغباء أكثر ما يضيع المحبة، فممكن لأي أحد أن يعبر عن طريقة حبه بلمسة، أو بكلمة، والمفروض أن يكون ثمة تجاوب بين المحب والمحبوب ولا يشترط أن يكون كل واحد نسخة من الآخر بل كلٌ يعبر بطريقته، لكن الشيء الملحوظ المشترك هذا التفاعل. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: أنت أولى أن تلتذ به وأولى أن تفهمه إذا قرأته فأنت أولى به مني إذ أنه نزل عليك، فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من أول النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال: حسبك، قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) إذاً من علامات الحب: الانفعال. فأنت كل حياتك لمحبوبك وهو محور حياتك، أفنيت عمرك فيه وفي ملاحظته؛ حتى إذا تبسم وضحك تعرف فمه كيف يبتسم وعيناه كيف تلمعان، كل شيء عندك محفوظ بسبب شدة عنايتك به، فـ أنس بن مالك رآه يتتبع الدباء فأحب الدباء، حتى صار أحسن أكل بالنسبة له، مع أنه لم يؤمر، لكن هذا تصرف المحب، وينتهي وإن لم ينهه، مثل الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكانت دار أبي أيوب الأنصاري تتألف من طابقين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكن في الطابق الأرضي فقال له أبو أيوب: (اصعد إلى فوق يا رسول الله! فقال: السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي، فصعد أبو أيوب إلى فوق فقال: بينما أنا بالليل إذ انتبهت وقلت: أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟) يعني: رجلاي فوق رأسه، وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، وأنا أسوق القصة من الألفاظ المجتمعة، يعني: لا أذكر خصوص لفظ مسلم رحمه الله. قال: فقلت: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟ قال: وانكسر لنا حب -الحب هو الزير- قال: فجففته بلحافي أنا وامرأتي، والله ما لنا غيره، فخشيت أن ينزل الماء على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمع هو وامرأته في ركن، فلما أصبحا نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبداً، اصعد إلى فوق، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكنت أرسل إليه الطعام ولا آكل أنا وامرأتي إلا إذا رجع الطعام إلينا، فنتتبع مواضع يده وفمه فنأكل منها ونشرب، قال: فأرسلت إليه ذات يوم ثوماً -أو قال بصلاً- فلم يأكل منه ففزعت وصعدت إليه وقلت: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا. ولكني أناجي من لا تناجي، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) يقصد جبريل عليه السلام، لما يأتي يناجيه بالوحي فيشم رائحة البصل فيتأذى. فانظر إلى حقوق الصحبة، فإنه لا يريد أن يؤذي صاحبه الذي يأتيه بالوحي، قال: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فقال أبو أيوب -ذاك المحب-: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) لم يقل له: حرام، أو لم يقل له: لا تأكل، بل أجاب إجابة صريحة واضحة: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فانتهى بغير نهي منه. هي هذه علامة المحب، علامة المحب أن يراقب أحوال محبوبه فإذا رأى محبوبه يأتي الفعل مراراً وتكراراً فعله، مثل عبد الله بن عمر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي ولا يركب، فكان عبد الله بن عمر كل سبت يخرج من بيته إلى مسجد قباء ماشياً. بل وصل أمر هذا الصحابي الجليل إلى أبعد من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبروه أن النساء يصلين معه ويحضرن المسجد، فكان هناك بابان للمسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) قال سالم أو نافع: فما دخل منه عبد الله بن عمر إلى أن مات، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: لا تدخلوا من الباب، إنما قال: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) فما دخل منه عبد الله إلى أن مات عبد الله، فهل مثل عبد الله يمكن أن يخالف أي مخالفة دقت أو جلت؟!! لا يمكن ذلك أبداً. وكان عبد الله بن عمر يتتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها، وكان أبوه على خلاف مذهبه، فـ عبد الله بن عمر كان رائده الحب، وعمر بن الخطاب كان رائده المصلحة وسد ذريعة الشرك، كان عمر بن الخطاب مرة يمشي فرأى رجالاً يتدافعون تحت شجرة فقال: ما بال هؤلاء يتدافعون؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فنهاهم عن ذلك وفرقهم وقال: صلوا أينما كنتم، فقد جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم. هذا هو رأي عمر، ولو كان لوحده لساغ له أن يفعل فعلهم، لكن بما أنه في باب الأسوة لا يسوغ له إلا أن يفعل ما يصلح الرعية حتى ولو كان بخلاف مراده، مثل العلماء، فبعض العلماء يفتون بأشياء فإذا خلوا بأنفسهم خالفوا بعض ما يفتون به من باب الورع. مثل ما يعزى لـ أبي حنيفة رحمه الله عندما أخبره رجل أن شاته قد سرقت، فذهب إلى قصاب وقال له: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: عشر سنين. فحرم على نفسه لحوم الشياة عشر سنين؛ لأنه ربما يكون السارق باعها لجزار فيشتري منه فيكون بذلك قد أكل حراماً. ولو جاءه رجل فسأله: هل يجوز أن أشتري لحماً وأنا لا أعلم هل هو ذلك المسروق أم لا؟ فسيكون جوابه: نعم.

تفريغ القلب للمحبوب

تفريغ القلب للمحبوب اعلم -أيها المسترشد- أن أهم علامات الحب: ألا يزاحم محبوبك أحد في قلبك؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد، فإذا شغلته بغير محبوبك لم تكن محباً، وإذا قسمته بين محبوبك وغيره نقصت المحبة وكانت الدعوى أعرض مما بين المشرقين؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:1 - 4] فأبان بهذه الآيات أن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة، وأنه كلما أخلصت هذه الجهة لمحبوبك كانت المحبة أتم ونلت الرضا، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، والتقوى هي جماع كل خير، ولا تتم التقوى إلا باتباع الوحي أمراً ونهياً، ثم لا يتم كل ذلك إلا باعتماد القلب على الله وهو حقيقة التوكل {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]؛ لأن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة. فإن قلت: كيف يتم ذلك وقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه من النساء؟ فقال: عائشة، فقيل: من الرجال؟ قال: أبوها) فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب، ولابد أن يكون للمحبة شيء في القلب. نقول: لا تنافي؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وأبي بكر فرع عن محبة الله عز وجل لهما، فإذا أحب غير الله عز وجل إنما أحبه لحب الله إياه، فهو في النهاية لا ينفعل إلا لحب الله عز وجل، فإذا كان القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة فحافظ عليه، ولابد أن تغار أن يملأ هذا القلب غير محبوبك. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ليبين لهم فداحة الشرك وعظم الجرم الذي يقترفونه في حق أنفسهم قال: (أيها الناس! أيكم يرضى أن يكون له عبد يعمل فيؤدي إلى غير سيده؟) أيكم يرضى هذه الصورة: أن يكون لك عبد يعمل بالأجرة، فإذا كان آخر النهار أخذ الأجرة وأعطاها لغيرك، أهذا عدل بار؟! هل أحد منكم يطيق هذا العبد؟! فإذا كنا جميعاً نجيب: لا أحد يطيق هذا العبد، فكيف صرف الناس العبادة إلى غير الله عز وجل؟!! يأكلون من خيره ومن نعمائه، وكل شيء في حياتهم هو المتفضل عليهم به، ومع ذلك يصرفون العبادة إلى غير الله عز وجل، فكيف لم ترضوا لأنفسكم ما رضيتموه لله عز وجل؟!! هذا من علامات الشقاواة والتعاسة كما قال حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور بـ أبي تمام يقول: ومن الشقاوة أن تحب ومن تحب يحب غيرك أو أن تسير لوصل من لا يشتهي في الوصل سيرك أو أن تريد الخير بالـ إنسان وهو يريد ضيرك سيَّان إن أوليته خيراً وإن أمسكت خيرك فهذا من علامات الشقاء: أن الذي صرفت له مهجة قلبك منصرف عنك، يحب غيرك، ويعطيه الولاء. هذا من أعظم علامات الشقاء، فلذلك كان أعظم سمات المحبة أن تفرغ قلبك لمحبوبك، وليس هناك أحد قط -لا ملك مقرب ولا نبي مرسل- يستحق المحبة لذاته إلا الله عز وجل، هو الذي يستحق المحبة لذاته ولا يستحقها أحد، فإذا أحببنا الأنبياء والرسل إنما أحببناهم؛ لأنهم دلونا على الله عز وجل، فمحبتنا للرسل فرع عن محبتنا لله عز وجل.

البذل للمحبوب

البذل للمحبوب ومن علامات محبتك: بذلك لمحبوبك، وهذا فرع من العلامة الكبرى التي بدأنا الكلام عنها. واعلم أن الحب بذل وعطاء وليس أخذاً، كل الناس يأخذ والأخذ أسهل ما يكون، إنما الحب عطاء وبذل، ألم تسمع إلى الله عز وجل وهو يعلم الصحابة فيقول لهم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] هذا هو الحب، فمن هان عليه أن يبذل نفسه في الله هان عليه أن يبذل ماله من باب أولى، ولذلك لم يتقدم أحد أبا بكر في هذا الحب، كان يكثر أن يقول: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) أي: أفديك بأبي وأمي، ومن باب أولى (أفديك بنفسي). وكما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: (إن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، قال أبو سعيد: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فعجبنا من هذا الشيء) ما الذي يبكيه؟!! والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال شيئاً سوى: (أن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده،) قال أبو سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر. ولما غضبت فاطمة رضي الله عنها منه؛ لأنه لم يعطها شيئاً من ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، فالتقيا مرة فقالت: يا أبا بكر! أتصل قرابتك ويرثونك ولا يرث محمداً أهله؟ فقال لها: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أن أصل قرابتي. ولما جاء والد أبي بكر مسلماً يوم الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بكى أبو بكر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر؟! قال: والله لأن تكون هذه يد عمك أحب إليَّ من أن تكون يد أبي) لأن يكون عمك أسلم وتقر عينك أحب إليَّ من أن يكون أبي هو الذي أسلم. هذا هو الحب، لم يتقدمه أحد على الإطلاق، ولذلك استحق هذه الشهادة: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، واستحق أيضاً هذه الشهادة: (ما منكم من أحدٍ له عليَّ يدٌ إلا وفيته بها غير أبي بكر فله عليَّ يد يجزيه الله بها)، واستحق أيضاً شهادات أخرى؛ منها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الصحابة إلى بذل أموالهم لله عز وجل -وكان أبو بكر سبَّاقاً لا يُلحق غبار جواد جوده في الله عز وجل- فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فذهب إلى بيته وأحضر مالاً عظيماً وجاء ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك يا عمر؟! قال: تركت مثله، وجاء أبو بكر ومعه مال عظيم فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فأتى بماله كله، فقال عمر: لا جرم، لا أسابقك بعد اليوم أبداً) ألم أقل لكم: لا يُلحق غبار جواد جوده في الله فضلاً عن أن يُلحق هو؟ وإنما كان ذلك بتمام المحبة. الذي يبذل نفسه لله عز وجل لا يستصعب أن يبذل ماله وما دون ذلك، ولذلك قال صرمة بن قيس وهو يترجم شعور الصحابة وموقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثوى في قريش بضع عشرة حجةً يذّكر لو يلقى حبيباً مواسيا ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم يرَ داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيا وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس عاديا بذلنا له الأموال من حِلِّ مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المصافيا ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقد سمعت من المقداد بن الأسود كلمات لأن أكون أنا الذي قلتها أحب إليَّ من حمر النعم، سمعت المقداد بن الأسود يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو خضت بنا هذا البحر خضناه معك، والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] قال: فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُرَّ بما قال) يقول ابن مسعود: لأن أكون أنا الذي قلت؛ لأن الرسول سُرَّ بذلك، وهكذا كانوا يتسابقون في رضاه. البذل -أيها الإخوة الكرام- يكون على ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى: أن يبذل كارهاً بمشقة، وهذا يكون في ابتداء الأمر قبل استحكام المحبة. المرحلة الثانية: إذا تخللت المحبة شغاف قلبه بذل راضياً طائعاً. المرحلة الثالثة: إذا استحكمت المحبة أكثر بذل سؤالاً وتضرعاً. تأمل هذه المراحل، يبذل بمشقة، ثم يبذل راضياً طائعاً، ثم يبذل سائلاً متضرعاً، هو الذي يسأل أن يبذل، فإذا قبلت بذله شكرك؛ لأنك قبلت بذله، كما كان بعض السلف يفعل: يخرج بصدقته فإذا وافى فقيراً أو مسكيناً مستحقاً وأعطاه الزكاة فقبلها المسكين صافحه وشكره، فيتعجب المسكين ويقول: أنا أولى أن أشكرك، فيقول له: لا. بل أنا أولى أن أشكرك! لأنك الذي سقت الأجر إليَّ بقبولك الصدقة. فيعطي المال ويشكر الآخذ؛ لأنه هو الذي أتاح له القربى والزلفى من الله عز وجل، أتظن أن الذي يبذل ماله سؤالاً وتضرعاً يبذله رياءً وسمعة؟!! لا. لا يبذله رياءً وسمعة، وكذلك كان الصحابة يبذلون لله عز وجل مهجهم سؤالاً وتضرعاً. في غزوة أحد جاء عمرو بن الجموح وكان رجلاً أعرج، شديد العرج، وقد أسقط الله عز وجل عنه فريضة الجهاد هو والأعمى والمريض فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] فجاء هذا الأعرج شديد العرج يشكو أبناءه، فهل يشكو من العقوق أو أنهم ضربوه أو أنهم حبسوا أموالهم عنه؟ هذا لم يكن يخطر لأبناء الصحابة على بال، أما الآن فإنك تجد أماً مات زوجها وتعبت على تربية ابنيها وأتعبت نفسها لأجلهما، وبعد أن بلغ أحدهما خمسة وعشرين سنة يقول للآخر: هيا نضرب أمنا ضرباً شديداً، فيأخذ كل منهما عصاً ويضربون أمهم، هل رأيت هذا في العالمين؟!! أو خطر ببالك في باب العقوق أن يستلذ ولد بضرب أمه؟!! إننا لا نبرئ الآباء من هذه المحن؛ لأنهم السبب في ذلك، وقلت لكم: إن محنة إهمال الأولاد مؤجلة، ولا يظهر هذا إلا بعد أن يستوي عود الولد. جاء عمرو بن الجموح يشكو أبناءه؛ لأنهم يمنعونه من الجهاد ويقولون: يا أبانا! إن الله عز وجل قد وضع عنك الجهاد، ونحن ستة من أبنائك نقاتل في سبيل الله دونك ألا تقر عينك؟! فيقول لهم: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فلا تحولوا بيني وبينها، ويبكي ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه شهادة) وتدور رحى الحرب ويكون عمرو في أوائل من قتل، وهذا شيء طبيعي، فهو لا يحسن الكر ولا الفر، ولو أراد ذلك ما استطاع لعرجته، فلما جاء موعد الدفن، وكان يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، وهكذا يُعِز القرآن أهله في الدنيا والآخرة حتى عند الدفن، إذا دفن ميتان في قبر واحد فالسنة أن يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، لا يتقدم صاحبَ القرآن العامل به، الواقف على حدود الله عز وجل، المعظم لكلمات الله تبارك وتعالى أحدٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلما جاء موعد الدفن كان للمحبة شأن في الدفن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ادفنوا عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد -لماذا؟ - قال: ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد) حتى الحب يُستصحب ويراعى دفن الميت، مع من كان يحب في الدنيا. وهكذا يفرق الله عز وجل بدينه بين الناس في الدنيا والآخرة، فلا يجمع بين كافر ومؤمن في الدنيا والآخرة، لا في بيت ولا في مال ولا في قبر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين)، وقال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) فلو أن رجلاً يسب دين الله عز وجل ثم مات على ذلك ولم يتب، فهذا كافر، ولو كان له مليارات وأبناؤه فقراء لا يحل لهم أن يأخذوا درهماً واحداً من هذا المال؛ لأنه لا يسوغ لك أن تباينه في الدنيا، ثم تأخذ ماله بعدما مات، إن صدق المحبة يستلزم أن تتبرأ من كل شيء هو فيه، ولا تجري وراء مصلحتك ولا تجري وراء ما يفيدك. كم أوذي المؤمنون من الكافرين في الدنيا بسبب إيمانهم ومع ذلك لم يتركوا الإيمان، فلو ساغ للمؤمنين أن يتزلفوا إلى الكافرين أو ينتفعوا من ورائهم بشيء لهادنوهم؛ حتى يعيشوا وحتى لا يخرجوا من ديارهم وأموالهم، فلذلك قال لك: لا تأخذ المال؛ لأن هذا برهان وعلامة صدق الحب. من علامات صدق الحب: أن تكره كل شيء من الكافر ولو كان يسرك أو ينفعك، هذه من علامات صدق المحبة. وكذلك البذل لله عز وجل لا يجوز تلطيخه بشيء من الدنيا، وبذلك يظهر لك لماذا أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إلا أن يدفع له ثمن الراحلة، كما في صحيح البخاري: (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر وأعلم أبا بكر أنه سيؤذن له في الهجرة اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يعلفهما انتظاراً لذلك اليوم، فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة وجاء النب

الغيرة وأقسامها

الغيرة وأقسامها لا بد أن نراقب علامات المحبة؛ لأن أكثر أهل الأرض يدعون من المحبة والكمالات ما ليس لهم، وعلامات المحبة كثيرة، منها -مثلاً- أن تلتذ بهجر الناس واللياذ بمحبوبك، وتحب دائماً العزلة، والأنس بمحبوبك. وابن القيم رحمه الله يقول: سمعت بعض أصحابي -وأظنه: تقي الدين ابن شقير أو غيره- قال: رأيت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية خارجاً وحده فتبعته إلى بعض الخلوات، فلما وصل إلى خلوة أنشد بيتاً من الشعر فقال: وأحدث نفسي بسيرتك لعلي أخلص بالسر خالياً المحب لا يحب أن يشاركه أحد في حبيبه، فهو يتمنى أن ينفرد ويخلو به لكي يستطيع أن يناجيه، وإذا رأى الناس مجتمعين حول حبيبيه فإنه يكرههم ويمقتهم. ولذلك نحن قلنا في الجمعة الماضية: إن من علامات الحب: الغيرة على المحبوب، والغيرة: أن يريد المحب أن يتفرد بمحبوبه ويكره أن يشاركه أحد فيه، ونحن إذ تكلمنا على الغيرة فاتنا أن نقول في الجمعة الماضية تتمة للغيرة المحمودة والغيرة المذمومة: كل من يغار قد يغار غيرة محمودة، وقد يغار غيرة مذمومة، فالغيرة المحمودة: أن تخاف على محبوبك أن يتغير عليك، وأن تغار عليه أن يُسب وأن يُشتم وأن تُنتهك حرماته، هذه الغيرة المحمودة التي نحن تكلمنا عليها سابقاً. أما الغيرة المذمومة فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: (إن من الغيرة غيرة يكرهها الله، وهي غيرة الرجل على أهله في غير ريبة) وثمة مشاكل كثيرة تصلني منها: أنه اتصلت بي امرأة وقالت إن زوجها يقفل عليها الباب بالقفل، افترض حصل حريق ماذا تعمل المرأة، هل تقفز من سابع دور؟ وهناك شخص قد عمل لكل شباك قفلاً؟ لكي لا ترى!! الله عز وجل يكره هذا، وإذا دخل غرفته ورأى أن السرير غير مرتب قال: من الذي كان قاعداً هنا؟ فإذا كنتَ محباً لله عز وجل فينبغي أن تكره الذي يكره، فإذا علمت أنه يكره هذا لا يحل لك أن تأتيه، ولو كنت ترغب فيه. تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن الحبيب لمن يحب مطيع أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

نفي الأسباب وإثباتها

نفي الأسباب وإثباتها إن من أعظم ما ابتليت به الأمة في عقيدتها فكرتان: الأولى: التعلق بالأسباب وما يقابله من ترك العمل بها. والثانية: الاحتجاج بالقدر في فعل العباد للمعاصي والذنوب. وقد بيّن الله ورسوله هذه الأمور في الكتاب والسنة، وتضمن البيان التحذير من الانزلاق في مثل هذه العقائد الباطلة والأفكار الهدامة للدين، وقد عقل سلف الأمة هذا التحذير، حتى قال بعضهم: ومن ذلك المقولة المشهورة بينهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع).

الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد

الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقد اشتهر عند علماء السلف قولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، وإنما ردوا بهذه المقالة على الذين غلوا في الأسباب وجفوا عنها، فقولهم: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) بمعنى: أن العبد إذا التفت إلى السبب عن المسبب؛ فقد أشرك بالله عز وجل، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو قال الرجل: لولا الكلب لسرق اللص الدار لكان مشركاً. والعبرة هنا بما يكنه قلبه، وإلا لو قال الرجل هذه المقالة، وهو يعني اختصار القول فقط، كأن يقول كما يقول علماء الأرصاد: تأتي الرياح الشرقية فتدفع السحب، فتسقط الأمطار، إذا عنى أن الرياح الشرقية والغربية هي التي ساقت الأمطار من نفسها، وأن الأمطار نزلت، فهذا هو الشرك بالله، أما إذا اختصر العبارة فقط، فقال: إن ذلك بفضل الله تبارك وتعالى وبقدرته، فهذا لا بأس به، كما قال عز وجل: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله؛ فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فهذا كافر بي، مؤمن بالكوكب). فكثير من العباد افتتن بالأسباب، لاسيما إذا جاء السبب كاملاً، فهو يتصور أنه لابد أن يجني الثمرة طالما كان السبب كاملاً، فرد الله عز وجل هذا الاعتقاد بقصة مريم عليها السلام وهي قصة عجيبة مدهشة. (كانت مريم عليها السلام قوية فتية في غاية صحتها، وكان يأتيها رزقها بغير أن تعمل، كما قال تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، وهي قادرة على الاكتساب، فلما ولدت ونفست وأصبحت في أضعف حالاتها -ومعروف أن المرأة بعد ما تلد تكون قد استنفدت كل قواها- قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]، فتصور امرأة نفساء ماذا تفعل بنخلة؟ بل لو جاء مائة رجل من الأشداء فهزوا النخلة ما أسقطوا تمرة واحدة منها، فكيف قال لها ذلك؟! وقد أبان الشاعر المجيد عن هذا المعنى بقوله: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغبن بالعجز يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزقٍ سبب أراد الله عز وجل أن ينبهنا في الحالة الأولى أن الأسباب قد تكتمل على وجهها ومع ذلك لا تؤتي الثمرة، ومثل ذلك أنك ترى هذا في رجل صحيح (100%)، وامرأته صحيحة (100%)، ومع ذلك لا ينجبان، ويضع الطب تقريره أنه لا مانع إطلاقاً لا عند الرجل ولا عند المرأة، ومع ذلك يظل الرجل محروماً من الإنجاب مع اكتمال السبب. والله عز وجل يريد أن يعلمنا أنه لا ينبغي الافتتان بالسبب إذا جاء على كماله، ويريد أن يعلمنا أيضاً أن لا نلتفت عن السبب لقول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، حتى لا يفهم بعض الناس أننا ننفي تأثير الأسباب، فالمعتزلة يقولون: إن السبب لا قيمة له، ولذلك ولج من هذا الباب كثير من العاطلين الذين قالوا: إذا كان الله كتب لنا الجنة؛ فإننا سندخلها بلا عمل، وإذا كان قد كتب علينا النار، فلو عملنا كل طاعة في الدنيا لا تفيد الطاعة، فأبطلوا شرع الله عز وجل بسبب هذا. أما نحن فنقول: إن الأسباب لها تأثير، ولكن الأسباب لا تؤثر إلا بإذن الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) ففهم بعض الناس من قوله: (لا عدوى) أنه نفى العدوى مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فهذا فيه إثبات للعدوى. لكن كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ A أن الجمع بين الحديثين أن نقول: لا عدوى تنتقل بذاتها، وليس بالضرورة إذا جلست بجانب إنسان عنده مرض مُعْدٍ أن تحمل نفس المرض، بل قد يحمل الإنسان المرض، ويأتي آخر فلا يحمله، وأنت ترى أن الإنسان ممكن أن تأتيه رصاصة في رأسه في موضع ما ولا يموت، ويصاب آخر في نفس الموضع فيموت، فلو كان السبب مؤثراً -لا محالة- في كل حال؛ لكان ينبغي أن يكون التأثير عاماً، شاملاً كافة الخلق، لا يتخلف ولا يميز بين إنسان وآخر. ومما يدل على أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما بمشيئة الله قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] رميت الأولى بمعنى: أصبت، ورميت الثانية بمعنى: سددت الرمية، ورميت الثالثة بمعنى: أصبت، إذاً: عندنا رميتان بمعنى الإصابة، ورمية واحدة بمعنى تسديد الإصابة، فيكون معنى الآية: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، وهذا يدل على أن الله عز وجل هو الذي يخلق التأثير في السبب، فيكون السبب مرة قاتلاً ويكون مرة غير قاتل، مثال آخر: (النار) معلوم أن من طبيعتها الإحراق، ومع ذلك نزع الله عز وجل عنها الإحراق لما رموا فيها إبراهيم عليه السلام، فهذا يدلنا على أن الله عز وجل هو الذي يسبب الأسباب، وهو الذي يجعلها تؤثر، لكنه أمرنا بأخذ الأسباب. وباء السببية في القرآن كثيرة، قال الله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] الباء هنا: باء السببية، فإن قال قائل: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، وهذا الحديث ظاهر التعارض مع الآية، فهل الباء التي وردت في الحديث هي باء السببية؟ أي: لن يدخل أحد منكم الجنة بسبب عمله؟ قال العلماء: لا. بل الباء في الحديث هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد منكم الجنة عوضاً عن عمله، لأنه لا يوجد إطلاقاً إنسان على وجه الأرض يستطيع أن يعمل عملاً يقابل النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها عليه، وقد روى الحاكم في مستدركه بسند ضعيف، ونستأنس بهذه القصة فقط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل، فقال لي: يا محمد! إن رجلاً عبد الله في جزيرة ستمائة عام، وسأل الله عز وجل أن يقبضه وهو ساجد، فأخرج الله عز وجل له رماناً من الصخر، وأخرج له عيناً من الماء العذب بقدر الإصبع، فكان يأكل من الرمانة، ويشرب من الماء، ويصلي، فلما جاء موعد وفاته، قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي، فقال: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، كما قال تبارك وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فوضعوا نعمة البصر في كفة، ووضعوا عبادة ستمائة عام في كفة، فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر، وبقيت بقية النعم فضلاً من الله عليه، لم يؤد شكرها) وقد وضع ووضع نعمة البصر في الميزان أولاً؛ لأن أعظم ما يبتلى به المرء أن يفقد عينيه، كما قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه؛ فصبر؛ لم أجد له جزاء إلا الجنة) وفي اللفظ الآخر: (إذا ابتليت عبدي بفقد كريمتيه؛ لم أجد له جزاءً إلا الجنة)، وإنما سماها حبيبة؛ لأن المرء يحب الدنيا بها، فإذا فقدهما؛ استوى عنده الدر الثمين مع الخرز المهين، فلا قيمة لأي شيء عند الأعمى؛ لأنه لا يتمتع برؤية هذه الأشياء، ومن يحب الدنيا لا يحبها إلا بعينيه غالباً، وسماهما كريمتين أيضاً؛ لأن العبد إذا فقد عينيه احتاج إلى الخلق؛ والحاجة إلى الخلق ذل، فلا يكاد يمشي خطوة إلا وهو يحتاج إلى من يساعده. فلذلك الإنسان إذا أنعم الله عز وجل عليه بنعمة البصر فقد أكرمه؛ لأنه عافاه من ذلك الافتقار والاحتياج للناس، فلذلك وضعت هذه النعمة نعمة البصر، ولذلك طاشت عبادة الستمائة عام، (فقال الله عز وجل: خذوه إلى النار، فجعل يستغيث ويقول: يا رب! أدخل الجنة برحمتك، فقال: أرجعوه، فقال الله عز وجل له: عبدي! خلقتك ولم تكن شيئاً أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرجت لك رماناً من الصخر برحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: أخرجت لك عيناً عذبة من الماء المالح أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: قويتك على عبادة ستمائة عام أبرحمتي أم بعملك؟ قال: برحمتك يا رب! قال: برحمتي ادخل الجنة، يا عبدي! كنت نعم العبد). فيظهر من هذا أنه لا يستطيع إنسان أن يوفي نعمة واحدة مهما فعل، وحسبك مثالاً ما جاء في آخر الحديث: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) هل وجدت أحداً تورمت قدماه من كثرة الوقوف في الصلاة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؟ لا تكاد تعثر على رجل بمثل هذا الجد، وهو أعبد من مشى على الأرض بقدميه صلى الله عليه وسلم. يقول: (ولا أنا) فهذا يدل على أن كل العباد الذين يأتون بعد ذلك وعملهم ناقص عن عمل الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدخلون الجنة بأعمالهم، فالباء هنا هي باء العوض وليست باء السببية. والذين لا يفهمون ولا يعملون للآخرة أكثر الناس اعتراضاً على الله عز وجل في باب القضاء والقدر، وبالمقابل انظر إلى الصحابة والأجيال التي أتت بعد ذلك، انظر إلى استقامة فهمهم، روى البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (

ترك الأسباب قدح في الشريعة

ترك الأسباب قدح في الشريعة (وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع)، فلو أن كل رجل قال: أنا لن أتزوج! فمن يعمر الأرض ويقيم الدنيا ويقيم الصناعات ويقيم الجهاد بعد ذهاب هذا الجيل، لابد من نسل، فمن تجده يقول: إذا قدر الله عز وجل لي الولد فسأرزق الولد بلا زوجة، كل العقلاء يحكمون عليه بالحمق، فطلب الولد بلا زواج حمق، وطلب دفع الجوع بلا أكل حمق، كذلك طلب الجنة بلا سعي حمق. وتجد التناقض في حياة الناس، فمنهم من تجده لا يصلي ولا يزكي، ويقول لك: أنا قلبي أبيض مثل اللبن مع أن هناك أناساً يصلون وعندهم حقد وحسد، ماذا عملوا بالصلاة؟ لكن أنا لا أصلي ولا أزكي لكن قلبي أبيض ولا يفعل شيئاً، هذا في جانب الهدى. لكن لو سألته: لماذا تعقد صفقات كل يوم؟ ولماذا تسافر إلى الخارج؟ لماذا لا تجلس في بيتك وتضع رجلاً على رجل، ولو أراد الله لك الغنى لأغناك بلا تجارة وبلا سعي، إذا قلت له هذه العبارة ينكرها عليك، وإذا قلت له: لماذا تذهب إلى البيت؟ قال: لآكل لأني إن لم آكل سأموت من الجوع، لا لن تموت من الجوع إذا كتب الله لك الحياة بغير أكل طيلة عمرك ستعيش. فما بالهم في مسائل الهداية يهونون منها ولا يعملون، ويعتمدون على القدر، وفي مسائل الدنيا يسلكون كل سبيل ويبحثون عن كل سبب مهما كان السبب محرماً، حتى إنك تجد بعض الشباب يذهب إلى بلاد أوروبا ليعمل، تقول له: ماذا تعمل في أوروبا؟ يقول لك: أغسل الصحون في مطعم، لكن لو سألته: كيف تغسل الصحون من بقايا الخنزير وكئوس الخمر؟! وهل خطر ببالك أن تغسل طبق أكلك في بيتك؟ أبداً، هو يأكل ويترك الأطباق، وما خطر بباله أن يأخذ هذا الطبق ويذهب به إلى المطبخ ليغسله. وبعض الناس تجد أنه يسعى في معصية الله عز وجل، فتقول له: لماذا تسعى في معصية الله عز وجل؟ يقول لك: والله أنا بحثت عن عمل فلم أجد، وقد أغلقت الأبواب في وجهي، ويأتي لك بألف عذر حتى يسلك هذا السبب الذي هو في معصية الله عز وجل. عندنا في مصر جماعة مبتدعة اسمها الفرماوية، هذه الجماعة تنسب إلى الشيخ الفرماوي الذي هو قائد الجماعة، يقولون: إن البخاري شيوعي، لأن منطقة بخارى هي تابعه للاتحاد السوفيتي سابقاً، وفي عيدهم يحرقون فتح الباري شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني؛ لأنهم يكرهون البخاري، وكل الأحاديث التي وردت من طريق عائشة أو أم سلمة رضي الله عنهما ينكرونها، وأي امرأة لها حديث ينكرونه بحجة أن صوت المرأة عورة، كأن الله خلق المرأة خرساء لا تتكلم، وهذا خطأ، صوت المرأة ليس بعورة، إلا إذا كان هناك خضوع في القول أي: ترقيق الصوت ونحو ذلك، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. حتى إن بعض الدعاة الذين يسلكون مسالك الاحتياط؛ يقولون: إذا كانت المرأة صوتها ناعم وتتكلم في التلفون فعليها أن تخشن صوتها كالرجل، فنقول: لا داعي لمثل هذا الاحتياط، ونقول: إذا خلقها الله تبارك وتعالى بهذا الصوت فلتتكلم على سجيتها، لكن لا تخضع بالقول، إذ أن الله عز وجل خلقها هكذا، فلا داعي لمسألة تفخيم الصوت ولا دليل عليه إطلاقاً. وهذه الجماعة تعتقد أن العمل شرك، وأن سلوك الأسباب يعتبر شركاً، وكأنك -أخذك بالأسباب- تتهم الله عز وجل أنه خلقك وضيعك، كونك تشتغل تكون قد اتهمت ربك ولسان حالك يقول: يا رب! أنت ما أنفقت عليَّ. إذاً: هذا اتهام لله عز وجل، وحتى تجرد التوحيد فإنك لا تعمل. ومن العجيب أن أفراد هذه الجماعة يلبسون ثياباً على لونين، تجد منهم من يلبس ثياباً خضراً، وآخرون يلبسون ثياباً بيضاً، الذي يلبس ثوباً أخضر يكون المصحف الذي يقرأ فيه جلدته خضراء، والذي يلبس ثوباً أبيض، تكون جلدة مصحفه (بيج) أو نحو ذلك، وقد كنا في المعسكر أول ما يقومون من النوم يلعبون الرياضة ويجرون، وعندما يأتي واحد منهم يسأل عنهم، يقوم الرجل منهم يلف نفسه ببطانية وبعد ذلك يكلم صاحبه، فيقول له صاحبه: لماذا أنت لافف نفسك بالبطانية؟ يقول: الآن استيقظت من النوم، وتجده يحذرنا ويقول: أرجوكم يا جماعة! لا يقل أحدكم أنني ألعب رياضة؛ لأن الرياضة من الأسباب، لأنهم سوف يكفرونه بذلك، يقولون له: أنت تبذل سبباً تقوي به جسمك، فيخشى أنهم -بذلك- يشكون فيه فيقدحون في توحيده. فأنا أسأله أقول له: يا فلان! أنتم تقولون بالأسباب ولا تجوزون الأخذ بها، ومع ذلك أنت خياط تخيط ثياب في بلدك، وهذه الخياطة أليست سبباً؟ قال: نعم، لكن أنا أشتغل وأصرف على الذين وصلوا إلى القمة مثل (البشوات)، نحن إيماننا ناقص، فنصرف عليهم، فصاحب الإيمان الكامل يلبس ثوباً أبيض، وصاحب الإيمان الناقص يلبس ثوباً أخضر، إذاً: الثوب الأخضر للذين يشتغلون لتأكيل الكبار. ولو سألت صاحب الثوب الأبيض: أنت لماذا تحفظ القرآن؟ لقال لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) قلت له: أليس الحفظ سبباً؟ ولماذا لم تترك القرآن ولو شاء الله عز وجل لصب القرآن في صدرك صباً؟ فإذا به يسكت ولا يجيب؛ لأنه خالف البدهيات التي لا يمكن لأحد أن ينكرها في حال من الأحوال وهو ما يراه في حياته العادية. وخذ مثلاً: مفتاح الكهرباء لو ظللت مائة عام واقفاً لأجل أن يضيء لا يضيء حتى تضغط عليه. فالمقصود من العبد أن يفعل السبب، وأن يكون مجداً في طلب الهدى كما هو مجد في إصلاح حياته وأمره، ولذلك قال العلماء هذه المقالة الجامعة: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد) فمهما كان السبب قوياً، ومهما كانت الآلة صحيحة؛ اعلم أنك قد لا تحصل ما تنشده إلا إذا قدره الله تبارك وتعالى لك. (وترك الأسباب بالكلية والانخلاع منها قدح في التشريع) لأن هذا سيؤدي بنا إلى ترك كل الحدود، وستكون المسألة في غاية الفوضى بين العباد. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الحلف بغير الله

حكم الحلف بغير الله Q ما حكم الحلف بغير الله؟ A بالنسبة للحلف بغير الله عز وجل، كأن يقول الإنسان: والنبي أو والولي أو غيرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بالآباء ونهى عن الحلف بغير الله تبارك وتعالى، وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: وأبي وأبي، فقال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، قال عمر: فما قلتها ذاكراً ولا آثراً) أي حتى مجرد أن يحكي الحكاية، ولا ذاكراً لها استئنافاً من عند نفسي.

حكم الاعتماد على الأسباب فقط

حكم الاعتماد على الأسباب فقط Q نحن في هذا الوقت في هذا العصر الحديث لابد أن نأخذ الأسباب التي توصلنا إلى طاعة الله سبحانه وتعالى وتوصلنا إلى ما نريد، الأسباب بيد الله وهو القادر على كل شيء، يقول للشيء: كن فيكون، ولكن هذا المجتمع الذي نعيشه الآن ليس عصر النبوة ولا عصر الخلفاء الراشدين، نحن في وقت الطائرة والسيارة والكمبيوتر، لابد أن نأخذ بها حتى نصل إلى تحقيق المجتمع الإسلامي الكامل، أما أننا نقعد نقول: نحن لدينا إيمان قاطع بقدرة الله سبحانه وتعالى ولا نبذل الأسباب فهذا خطأ. A أيها الأخ الكريم: هذا الذي ذكرته هو الذي أنا قلته تماماً، لكن أنا مضطر الآن لأن أبين بعض الإشكالات التي حصلت من كثرة ضرب الأمثلة. قال العلماء: (الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد، وترك الأسباب بالكلية قدح في التشريع) فلو جاء رجل فقال: أنا لن أتزوج وأريد الولد، ماذا تقول في هذا الرجل؟ تقول: إنه أحمق، ولو قال رجل: أنا أريد أن أصل بالسيارة إلى المكان الفلاني بدون (بنزين) سوف نقول: أحمق، لو قال: لو شاء الله لأجراها بدون (بنزين) نقول: نعم، الله على كل شيء قدير، لكن لابد أن تبذل السبب، بأن تضع (البنزين) في السيارة. كذلك هناك رجل يريد أن يعيش بلا أكل، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة:3]، ثم قال عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] قال سفيان الثوري: (إذا اضطر فلم يأكل الميتة فمات؛ دخل النار) لأنه أعان على نفسه، وقد أحل الله له الميتة لكي لا يموت، فلو شاء الله عز وجل لأقام العباد بدون أن يحل لهم ما حرمه، فإن ربنا سبحانه وتعالى قادر على إبدال أكلنا للميتة التي حرمها علينا، ويعطينا القوة والطاقة حتى نصل إلى الحلال، أليس ربنا على كل شيء قدير، لكن الله أباح لنا أن نأكل الميتة أخذاً بالأسباب، فمفهوم كلامي: أنه لا ينبغي لعبد أن يركن إلى الأسباب فيقول: إن الطب الحديث لازم يرفع العلة، هذا مرفوض، نقول: لا، الدواء قد يرفع العلة وقد لا يرفع العلة. السائل: أنا أقول: إن للأسباب تأثيراً ولكني لا أعتقد أن الأسباب حتماً توصل إلى المقصود؟ الشيخ: هذا هو الكلام الصحيح.

معنى قول أهل العلم: (ونفي الأسباب أن تكون مؤثرة قدح في العلم)

معنى قول أهل العلم: (ونفي الأسباب أن تكون مؤثرة قدح في العلم) Q ما معنى قول أهل العلم: (ونفي الأسباب أن تكون مؤثرة قدح في العلم)؟ A نفي الأسباب أن تكون مؤثرة هذا نفي في العلم، فأي رجل يقول: إن السبب لا يؤثر، كلامه هذا فيه إزالة للوحي كله، بل الأسباب تؤثر؛ لأن الله عز وجل قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] وباء السببية تكررت في القرآن كثيراً كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] أي: بسبب أنهم ظلموا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وكقوله سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] فالله عز وجل لعنهم؛ لأنهم كفروا، فهذا أيضاً سبب، فقولنا: إن الأسباب لا تأثير لها، كأننا ألغينا القضاء والقدر، وبالتالي ألغينا الوحي بطبيعة الحال، فنفي أن تكون الأسباب مؤثرة فيه رد على المعتزلة الذي يزعمون أن الأسباب لا تأثير لها؛ لأن عقيدة الجبر موجودة عندهم هي أن الإنسان مجبور على فعله ولا اختيار له.

مفهوم حديث: (الدعاء هو العبادة)

مفهوم حديث: (الدعاء هو العبادة) Q هل حديث: (الدعاء هو العبادة) يفسر قوله تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)؟ A نعم حديث: (الدعاء هو العبادة) ترجمة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] أي: يستكبرون عن دعائي، فالدعاء هو: التضرع والانكسار بين يدي الله عز وجل وهذا هو حقيقة العبودية، معنى (عبد) يعني: مذلل، فلا يكون العبد عبداً إلا إذا كان ذليلاً، ولذلك قال العلماء وهم يتكلمون في مقامات التوبة قالوا: أيهما أفضل: التائب من المعصية أم الذي لم يرتكب معصية؟ فمع ترجيحهم أن الذي لم يرتكب معصية أصلاً هو أفضل، قالوا: ولكن الذي ارتكب معصية فتاب عنده عبودية ليست موجودة عند الذي لم يعص الله عز وجل وهي عبودية الذل والانكسار، فإن العبد إذا وضع ذنبه أمامه فلا يزال يخاف أن يرديه، وكلما زاد يقين العبد خاف من ذنبه، كما حدث للأنبياء في ساعة المحشر، يأتي الناس آدم فيقول: (نفسي نفسي، إن الله أمرني أن لا آكل من الشجرة فأكلت، فيذهبون إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، إني كانت لي دعوة فدعوتها، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث، فيذهبون إلى موسى فيذكر وكزته للرجل الذي قتله، فيأتون إلى عيسى عليه السلام، فكلٌ يقول: نفسي نفسي، ولم يذكر ذنباً، حتى يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: أنا لها! أنا لها) كما في حديث الشفاعة الطويل. فهاهم الأنبياء المقدمون على أقوامهم يذكرون ذنبهم، فكذلك إذا رسخ إيمان العبد عظم عنده الذنب العظيم، كما روى الترمذي وغيره وهو في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (وإن الفاجر ليعمل الذنب العظيم، فيرى كأنه ذباب نزل على وجه، فقال به هكذا، فطار) أما المؤمن فيعمل الذنب، فيرى أنه كجبل يكاد أن يسقط على رأسه، فيبين خوف المؤمن أما الكافر فيفعل الذنب العظيم جداً ويرى هذا الذنب كذبابة حطت على وجهه فقال هكذا فطارت. وجاء عن السلف قولهم: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً)، فالإنسان قد يفعل الطاعة فيعجب بها ويظن أنه فعل شيئاً ذا بال، فلا يزال يظن هكذا حتى يرديه الله تبارك وتعالى، ورب معصية يفعلها العبد ستأخذ بطريقه إلى الجنة، فكلما ذكر المعصية؛ جد واجتهد، خوفاً من الله تبارك وتعالى. ولا يفهم من هذا أن المعصية أفضل من الطاعة، كما قال بعض المتصوفة لما جاء في كلمة السلف: (ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً) قالوا: وفي هذا دلالة على أن الذنب أحياناً يكون أفضل من الطاعة، وهذا تفكير مقلوب؛ لأنه لا يمكن أن يقول قائل: إن الذنب أفضل من الطاعة أبداً، لكن تأثير الذنب على العبد المؤمن يكون إيجابياً كما يقول العلماء في استثمار الصفات السلبية، فمثلاً هناك بعض الناس تجد عنده إحباطاً شديداً، لا يأكل ولا يشرب، وكل يوم يضعف جسمه، يقول: كلما تذكرت القبر وعذاب القبر والوحدة والغربة وإلى أين يصير، لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب، وتجده لا يصلي ولا يذهب إلى المسجد، بل غالق على نفسه الغرفة، وإن هذا يدمر نفسه، والمفروض أن يكون استثمار الخوف استثماراً إيجابياً، كلما خاف جد واجتهد، لا أن يقعد، فكذلك الذنب لابد للعبد أن يستثمره، أنه يجعله رائداً بين يديه إلى الله تبارك وتعالى. فالدعاء أصله الانكسار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغضب على ابن آدم إذا لم يسأله) الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب والله أعلم.

كيفية الجمع بين حديث: (لا عدوى ولا طيرة) وحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)

كيفية الجمع بين حديث: (لا عدوى ولا طيرة) وحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) A حديث: (لا عدوى ولا طيرة) أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى من اتكل على الأسباب، وحديث: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فيه إشارة إلى من اعتمد عليها واتكأ عليها، فهذا ليس فيه نفي للعدوى إنما فيه إثبات لها؛ بدلالة تتمة الحديث لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى، فقال الرجل: يا رسول الله! إنه يكون عندي الجمل الأجرب فيعدي السليم، كيف لا عدوى؟ فقال عليه الصلاة والسلام له: فمن أعدى الأول؟) أول جمل أجرب على وجه الأرض من أعداه؟ فيريد أن ينبه بهذا إلى أن الله عز وجل هو الذي قدر العدوى وقد تأثيرها، وأنه لا عدوى تنتقل بذاتها؛ بدليل أن الجمل الأول الذي أصابه الجرب لم يجرب بسبب عدوى وإنما قدره الله عليه، وهكذا ما بعده.

الأخوة [1]

الأخوة [1] إن الأخوة في الله سبحانه وتعالى نعمة إلهية ومنحة ربانية، وإن الحب والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، وقد رتب الله سبحانه وتعالى لعباده المتحابين فيه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، والنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في فضل الأخوة لا تخفى على ذي لب، فهي أساس صلاح المجتمعات وبناء الدول واستحقاق النصر من الله عز وجل.

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فأول ما بدأ أن أسس المسجد ليجمع بين الناس، وليربطهم بربهم، ثم بعد ذلك آخى بينهم، وحتى نعلم أهمية هذه الأخوة يجب علينا أن نُطل إطلالة سريعة على وضع المؤمنين في مكة قبل الهجرة، لأنك لن تستطيع أن تقدر هذه الأخوة ولا تحس بشأنها وضرورتها إلا إذا علمت حالهم في مكة، ولنبدأ -مثلاً- بحال زعيمهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم، برغم أن الله تبارك وتعالى منعه بعمه أبي طالب، فكان ذا منعة ومع ذلك وصل إليه الأذى. قالت عائشة رضي الله عنها بعد غزوة أحد -وما أدرك ما غزوة أحد، وما جرى للمسلمين فيها والنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟! لقد كسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على جبهته، وقتل حمزة عمه وقتل نفر كثير من المسلمين، فحزن عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حزنا ًعظيماً- فقالت له عائشة كما في الصحيحين: (هل مر عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: نعم. لقد لقيت من قومك -ثم ذكر لها قصته لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله عز وجل وقد أدموا قدميه بالحجارة- قال: فبينما أنا مهموم هائم، إذ رأيت سحابة تظلني، فرأيت جبريل عليه السلام، فقال: إن الله قد علم ما قال لك قومك، وما قلت لهم، فلو شئت لأقلبن بهم الأرض، وهاهو ملك الجبال، قال صلى الله عليه وسلم: فسلم عليَّ ملك الجبال، وقال: إن الله أمرني أن أكون طوع أمرك فلو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت -وهما جبلان عظيمان في مكة- فقال عليه الصلاة والسلام: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً). وفي الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة إذ جلس أبو جهل وجماعة وقد ذُبح جزور بالأمس -جزور أي: بعير- فقال أبو جهل: من منكم يقوم إلى سلى هذا الجزور، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ -السلى هو موضع البهيمة في بطن الحيوان وهو يساوي من الإنسان المشيمة في بطن المرأة فكان ملقياً على الأرض- فقال: من يقوم فيأخذ هذا السلى فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فوضع السلى بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: وأنا أنظر فلو كان لي منعة -أي: لو كان له ظهر وعشيرة في مكة- لمنعتهم، قال: فأُخبِرت فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم فجاءت تجري وهي جويرية صغيرة فطرحت السلى من على ظهره وهي تشتمهم وتسبهم، وقد رأيت أبا جهل يميل إلى القوم وهم يتضاحكون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: اللهم عليك بقريش ثلاثاً، قال: فسكتوا وزالت الضحكة من على وجوههم -كانوا يخافون دعوته- ثم قال: اللهم عليك بـ أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وسمى أقواماً، قال عبد الله بن مسعود: والله لقد رأيتهم جميعاً صرعى يوم بدر). والنبي صلى الله عليه وسلم برغم أن الله منعه بعمه إلا أن الأذى وصله، فما بالك بصغار المؤمنين المستضعفين الذين لا يأوون إلى أهل ولا إلى قرابة قوية؟! لقد كانوا يتوجسون ريبة من هؤلاء المشركين، ففي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أول من أسلم النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه الله بعمه، وأبو بكر ومنعه الله بقومه، أما سائر المؤمنين كـ عمار وأمه سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد، وخباب، فقد أخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وألقوهم في رمضاء مكة، أما بلال فقد هانت عليه نفسه في الله عز وجل فأخذه الولدان يجرجرونه، وهو يقول: أحد أحد) ففي هذا الجو العصيب لا يمكن أن تقوم أخوة. والحياة إذا لم يكن فيها من تحبه ويحبك فلا قيمة لها، فقد كان الواحد منهم يخشى أن يجتمع بأخيه فيعذبان، وكان شيء مفقود أن تجتمع إلى إلفك، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم جد الحرص على أن يوجد في المسلمين هذه الخصلة (الأخوة).

قصة إسلام أبي ذر الغفاري وما ورد فيها من صور الأخوة

قصة إسلام أبي ذر الغفاري وما ورد فيها من صور الأخوة وفي الصحيحين قصة عجيبة تريك هذه الريبة التي كان يشعر المسلمون بها في مكة، من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال: (أخبرني أبو ذر عن أول إسلامه قال: علمت أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي -وأخوه هذا أنيس، أسلم أيضاً وهو أخوه الوحيد- فقلت لأخي: ارحل إلى مكة -وهو من غفار- فأعلم لي خبر هذا الرجل، قال: فركب أخوه ورحل ثم رجع إليه بعد أيام وقال له: لقد رأيت رجلاً يحث على مكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر -وأنيس أخوه كان شاعراً- قال: ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال له أبو ذر: ما شفيتني، ثم جهز رحله وأخذ شنةً فيها ماء ورحل إلى المسجد الحرام، قال: فمكثت في المسجد لا أسأل أحداً؛ لأنه إن سأل ضرب وعذب، وكانوا يتربصون بكل من يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فمكثت في المسجد يومي هذا لا أسأل أحداً، فمر بي علي بن أبي طالب فقال: الرجل غريب؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحد منا الآخر شيئاً، فلما أصبح الصباح رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً شيئاً، فمر بي علي، فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحداً منا الآخر شيئاً، فلما كان في اليوم الثالث رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً -كل هذا وهو خائف- قال: فتضعفت رجلاً منهم -نظر إلى رجل فوجده ضعيفاً فقال في نفسه: لو سألت هذا فإني آمن غوائله، فلن يؤذيني- فقلت له: أين ذلك الذين يقولون إنه صبئ؟ قال: فأشار الرجل إلى القوم وقال: الصابئ الصابئ قال: فقام القوم عليَّ بكل مدرة وعظم وانقلبوا عليَّ حتى كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت على وجهه- قال: فمر بي علي وقال لي: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ ألا تخبرني بخبرك؟ فقلت له: إن أمنتني أخبرتك؟ قال: لك ذلك، قال: إني أسأل عن ذاك الرجل الذي يزعمون أنه نبي، قال: فاتبعني فهذا وجهي -أي: أنا ذاهب إلى هناك- وإنني سأسبقك، فإن رأيت ما سيؤذيك فسأصلح نعلي، فإن رأيتني أُصلح نعلي، فانطلق ولا تنحني عليَّ -وفي رواية البخاري قال:- فإن رأيتني أريق الماء فانصرف ولا تنحني عليَّ- قال: فتبعته فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فأسلمت مكاني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى قومك وانتظر خروجي -أي: لا تجهر بدعوتك حتى لا ينالك الأذى وانتظر خروجي وظهور دعوتي- قال أبو ذر: أما والله لأصرخن بها فيهم، فخرج إلى المسجد الحرام وقال: أيها الناس! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فانقلب المسجد عليَّ، فما زالوا يضربونني حتى الموت حتى انكب عليَّ العباس وقال: أيها الناس! أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ قال: فتركوني، فلما أصبحت صرخت فيهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فانقلبوا عليَّ ففعلوا بي ما فعلوا بالأمس فأكب العباس عليَّ وقال: أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ فأنقذني منهم، -وفي رواية مسلم - قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم حتى كأني نصب أحمر فهربت منهم واختبأت في المسجد ثلاثين يوماً ليس لي طعام إلا ماء زمزم، حتى تكسرت عكن بطني، ولم يعد على كبدي سخفة جوع -العكن: كسرات البطن إذا سمن المرء، وكان المتصور أن رجلاً يعيش على الماء يصير جلداً على عظم، وإنما هذا تكسرت عكن بطنه، يعني: أصبح له كرش وأصبح اللحم يتكسر من السمن، ولم يعد على كبدي سخفة جوع، أي: لم يشعر بالجوع - فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عن ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم). فانظر إلى إسلام أبي ذر وإلى ما كانوا يلقونه إذا جهر المرء بدعوته، يقول له علي: (اتبعني فإن رأيت ما أخاف عليك انحنيت أصلح نعلي وانصرف أنت) فلا يستطيع الرجل أن يمشي مع أخيه، ولا أن يستمتع بهذه الأخوة، ولا أن ينصر أحدهم الآخر؛ لأنهم جميعاً مستضعفون، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع شمل هؤلاء المستضعفين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].

بذل المؤمن ماله لإعانة أخيه

بذل المؤمن ماله لإعانة أخيه ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الأخوة عقداً نافذاً لا كلاماً فارغاً لدرجة أنهم كانوا يتوارثون دون ذوي الرحم، كانوا يتوارثون بهذه الأخوة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن من المهاجرين وسعد من الأنصار، فقال سعد: (يا عبد الرحمن! إني أكثر أهل المدينة مالاً ولي زوجتان، فأقسم مالي نصفين، وانظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما أطلقها ثم تزوجها أنت، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق) فدله على السوق فانقلب في ذلك اليوم بفضل أقطٍ وسمن -الأقط: هو اللبن الجاف- وما هي إلا أيام حتى قابل النبي صلى عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف في الطريق وعليه صفرة كأنه خضاب أو نحو ذلك فقال له: (مهيم -أي: ما هذا الذي أراه عليك وهو أثر الصفرة؟ - قال: إني تزوجت، قال: وكم أصدقتها؟ قال: بنواة من ذهب) نواة من ذهب في بضعه أيام. إن المرء عندما ينظر إلى سماحة سعد لا يسعه إلا أن يُعجب بنبل عبد الرحمن وعفته فقد قال له: (هذا نصف مالي خذه، ثم انظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما) مع أن العرب كانوا يغارون جداً على العرض، ولا يتصور في رجل أن يقول: اختر بين زوجتي أطلقها وتزوجها أنت: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] وقصة الأوس والخزرج والمعارك الرهيبة الجاهلية التي كانت تحصل بينهم لا تكاد تنسى، فإذا لطم الرجل الآخر لطمة تقوم لها الحرب على قدم وساق، وقد قامت الحرب أربعين سنة بين الأوس والخزرج على شيء تافه جداً وقتل ألوف مؤلفة، ونزلت هذه الآية للأوس والخزرج: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] أي: إنك لا تستطيع مهما أوتيت من المال أن تشتري ولاء أحد، ولا أن تشتري قلبه، ويمكن أن يظهر لك الولاء، أما القلب فلا.

عدم تحقيق الأخوة في الله سبب لضعف الأمة وتفرقها

عدم تحقيق الأخوة في الله سبب لضعف الأمة وتفرقها إن هذه المحنة التي يعيشها المسلمون الآن هو هذا الشتات القلبي بين المسلمين، وهذه الأخوة الجوفاء التي يتشدق المسلمون بها الآن هي السبب في هذه المصائب، فأين حدبك على أخيك؟ وأين شفقتك؟ لقد قلت من هذا المكان مراراً وتمنيت من كل قلبي أن أجد له أثراً فعالاً. قلت: الذين يحجون أكثر من مرة. والحج بعد المرة الأولى يصير في عداد النافلة، أي: التطوع، فينفق بضعة ألوف من الجنيهات على هذا الحج ويذهب ولا يحج على السنة. ففي اليوم الثامن يحشرون حشراً إلى عرفات ولا يبيتون في منى، وإذا ما أفاضوا من عرفات يتجاوزون المزدلفة ولا يبيتون بها قلت لمثل هؤلاء: هذه الألوف التي تنفقها انظر إلى أخ لك فقير لا يجد ثمن الزواج، أو إلى مريض لا يجد ثمن العلاج، أو إلى رجل يريد التوسعة في سكنه، أو إلى رجل هدم مسكنه رأساً ويعيش في عشة، قل له: خذ هذا المال، واقض به حاجتك، لكن عقد الأخوة فارغ، مجرد دعوى جوفاء لا قيمة لها، ولا يمكن لمثل هذه المؤاخاة أن تقوم في مجتمع يسوده الجهل والجبن والشح، مع أنك إن فعلت ذلك تقربت إلى ربك عز وجل أكثر من تقربك بهذا الحج الناقص، فحدبك على أخيك وعفوك عليه فرض عليك، وحجك نافلة، فقدم الفرض على النافلة إن كنت تريد الأجر؛ لكن ما أظنك تريد الأجر؛ لأن المرء إن علم أن هذا الموطن يؤجر فيه أكثر من الموطن الآخر لا شك أنه يذهب إليه. والذين يذهبون إلى المصيف ينفقون في عشرة أيام أكثر من ألف جنيه، ثم يعودن بأوزار يحملونها على أظهرهم ويزعمون أنهم يرفهون عن أنفسهم، وإننا ما علمنا أن المعصية يمكن أن ترفه عن العبد وتزيل همه. أترفه عن نفسك بالنار؟! كالذي يرى أن الجو حار فيقول: أدخل فرناً؛ فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فهذا الذي يذهب إلى المصيف ثم يعود بأوزار على ظهره يعمل عمل المجانين، وهذا من المفاهيم الخاطئة الناتجة عن الجهل بهذا الدين وحدوده ومعالمه.

فضل الأخوة في الله

فضل الأخوة في الله لقد رأينا أناساً يرون في سماع القرآن الكريم مأتماً، فيرفه عن نفسه بسماع أغنية، أو بأن يلهو ويلعب وإذا زجرته قال: ساعة لقلبك وساعة لربك. اسمع نصيحتي: ساعة قلبك لا تكون إلا لربك. إن هذا القلب إن لم يكن له صلة وثيقة بالله عز وجل يظل دائماً في جحيم، إن ذكر الله عز وجل يريح القلب؛ ولذلك لما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل وثيق يلقى الله تبارك وتعالى به قال: (أن تموت ولسانك رطب بذكر الله عز وجل) رطب بذكر الله عز وجل. فالنبي عليه الصلاة والسلام آخى بين هؤلاء المستضعفين، وصارت هذه الأخوة عقداً نافذاً حتى بعد الممات، (ففي غزوة أحد أراد عمرو بن الجموح أن يقاتل، وكان رجلاً أعرج شديد العرج وكان له ستة أبناء من الفرسان -يعني: ليسوا كأي المقاتلين، بل هم من الفرسان، في مقدم الجيش- فقالوا له: يا أبانا! إنك ممن عذر الله؛ فإنك أعرج، فقال لهم: إنني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فلا تمنعوني، ثم شكاهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: دعوه لعل الله يرزقه الشهادة، ثم دارت رحى الحرب وقتل عمرو مع من قتل، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنه قال: ادفنوه مع فلان فقد كانا متحابين) يعني: أنه يحشر يوم يحشر مع من يحب، فانظر إلى هذا، وانظر إلى الذي يقول: (صديقي ريجن، صديقي كارتر)، ويعطيهم ود قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً حشر معهم)، وفي الصحيحين: (أن رجلاً جعل يصرخ في القوم ويقول: يا محمد! أجبني وكان رجلاً من الأعراب فجعل القوم يغمزونه -أي: يقولون له: حسن عبارتك ولا تقل: يا محمد قل: يا رسول الله- والرجل لا يأبه ويصرخ حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: أعماله دون أعمالهم، هل يمكن له أن يراهم مثلاً في الجنة أو أن يكون مع من يحب في الجنة؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مع من أحب، قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء كفرحنا لهذه البشارة) لأنهم جميعاً يحبون النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي عليه الصلاة والسلام ساق لنا أحاديث كثيرة في المودة والمحبة وهذا التعاقد الأخوي، فقال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله عز وجل: أين المتحابون بجلالي؟ أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، المتحابون بجلالي، أي: الرجل يحب الآخر لله، لا للمال والمصلحة. لا تخضعن لمخلوق على طمعٍ فإن ذلك نقص منك في الدين واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

نعمة الإحساس بالخطأ

نعمة الإحساس بالخطأ الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن بعض المسلمين يفكرون تفكير هذا اللص الحميري الذي قال يوماً: إني لأستحيي من الله أن أُرى أُجرجر حبلاً ليس فيه بعير وأن أسأل النكس الدنيء بعيره وبعران ربي في البلاد كثير يقول: لم أسأل الدنيء بعيره وأستعيره منه وأقترضه لأقضي عليه حاجتي، وبعران ربي كثيرة في البلدان، أسرق منها ما أشاء؟! فبعض المسلمين يفكرون بعقلية هذا اللص إما جهلاً وإما تجاهلاً، ونعوذ بالله عز وجل أن نكون من أهل هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] فلو أنه في يوم من الأيام تفطن لخطئه لعدل، لكنه يحسب أنه يحسن الصنع؛ فلذلك لا يمكن أن يرجع، وإن حاولت أن تقنعه لا يرجع؛ لأنه يظن أنه من المحسنين، وهذا ما يشير إليه بعض الباحثين بقولهم: (نعمة الألم)، فالألم من أجل نعم الله على العبد؛ بخلاف ما يتصوره بعض الناس؛ مثلاً: إن جاءك (مغص) شديد؛ فهذه نعمة؛ ولعل بعضكم يقول: وما وجه النعمة وهو ألم؟! فأقول انظر إلى الأمراض الفتاكة كالسرطان مثلاً، إنه ينهش في جسم المريض ولا يشعر المريض بالألم؛ فالألم إنذار؛ فلذلك يبادر الإنسان إلى الطبيب فيأخذ العلاج، ويمكن له أن يتدارك المرض من أوله، بخلاف ما إذا سرى المرض في جسم العبد، وهو لا يدري أنه مريض، حتى إذا شعر بالألم كانت القاضية، فنعمة الألم هذه كنعمة الإحساس بالغلط، ولذلك يقول الأطباء: (إن أولى درجات العلاج هي الاعتراف بالمرض) أن تعترف أنك مريض هذه أولى درجات العلاج أما أن تكابر فأنت وشأنك. فهؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، منع الله عز وجل منهم نعمة إدراك الغلط، وقد حسن لهم الشيطان أعمالهم فهم: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] انظر مثلاً: إلى هذه الصفوف عندما تقام الصلاة، هل المسلمون يحسنون تسوية الصفوف؟ إنه مما يؤسفني أن أقول: لا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تختلفوا -أي: في الصف- فتختلف قلوبكم) لماذا تدخل في هذه الصلاة ثم تخرج منها وليس بينك وبين أخيك رابط؟ إنك لا تقف معه كالبنيان المرصوص، رجل بجنب رجل فقط، وقد قال عبد الله بن مسعود: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، ولقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأينا الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف أي: يُحمل بين الرجلين؛ لأنه لا يستطيع أن يقف على قدميه. فانظر إلى هذا الذي يُهادى بين الرجلين يُحمل حملاً، كي يأتي إلى هذه الجماعة، حتى يدرك جلال هذه الأخوة.

الحب والبغض في الله

الحب والبغض في الله إن قصرت في قيام الليل، أو في صلاتك، أو لم يكن معك مال تتصدق به، أو عجزت أن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، فأحب في الله عز وجل، تدرك منزلة رفيعة، ففي صحيح مسلم: (أن رجلاً ذهب ليزور أخاً له في قرية مجاورة، فأنزل الله عز وجل ملكاً في صورة رجل، فوقف على قارعة الطريق، فقال لهذا الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: إني ذاهب لأزور أخاً لي، فقال له الملك: أو ترى أن له عليك نعمة -يعني: له جميل عليك-؟ قال: لا. غير أني أحبه في الله عز وجل، قال: فإن الله عز وجل يقول لك: إنه أحبك كما أحببته) إنه أحبك. وإذا أحب الله عز وجل عبداً، أحبه كل أهل الأرض ووضع له القبول في الأرض، كما في الحديث الصحيح: (إن الله عز وجل إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلان بن فلان فأحبه). تصور أنك إن ذكرك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فقال: إني أحب فلان بن فلان، انظر إلى هذا الشرف السامق، وهذا لمجد الأثيل، أن الله تبارك وتعالى في علوه وكبريائه ومجده يذكر هذا العبد المستضعف الذي يمشي بقدمين على الأرض، ويقول: إني أحبه. لو أن ملِكاً في هذه الأرض قال: إني أحبك -وأشار إلى عبد- لكاد أن يطير من الفرح، مع أن محبة هذا لا ترفع شيئاً ولا تضعه. وهذه محبة الملك المتعال: (إني أحب فلان بن فلان) ألا ترغب أن تكون هذا العبد؟ إياك أن تستحقر نفسك، فإنك لا تدري منزلتك عند الله عز وجل: (إني أحب فلان بن فلان، فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) وورد في بعض الآثار: إن العبد الصالح إذا مات بكت عليه الأرض، بكى عليه موضع سجوده، وبكى عليه موضع قدمه الذي كان يمشي به على الأرض؛ لأنه افتقد هذا الصالح، ثم إن هذا العبد إذا مات رُفع ورفعت روحه إلى السماء، وتفتح له أبوب السماء، من هذا؟ فلان، أي: الذي كانوا يحبونه وهو حي، فيستقبلونه ويدعون له، وقد طيب الله عز وجل ثراه وروحه حتى يُرفع إلى عليين. إذاً: هذه الأخوة في الله عز وجل لها أجر عظيم جداً، فإياك أن تدنس هذه الأخوة بشيء من هذه الأرض، كأن تتقرب إلى إنسان لأجل ماله أو جاهه أو نفوذه، لا. أحب لله عز وجل وأبغض فيه، فإن هذه الأخوة كانت من أعظم ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كانوا يتجمعون في المسجد كأنهم روح واحد، ألم تسمع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: (كنت أتناوب النزول أنا وأخ لي من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الأخ الذي عناه عمر هو: عتبان بن مالك وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر، وظلت هذه الأخوة يتوارث بعضهم بعضاً إلى بعد موقعة بدر مباشرة، فنزل قول الله عز وجل: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75]، فألغيت المواريث وبقيت المناصرة. إن هذا المجتمع المفكك لا يمكن أن يعود وينتصر إلا إذا فعل الدعاة ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فالذين يريدون أن يجاهدوا بأيديهم، كيف يجاهدون في هذا التفرق العظيم بين الناس؟! هل يمكن مثلاً أن نقول الآن: حيَّ على الجهاد وربع الأمة مثلاً لا يصلي أو ثلث الأمة لا يصلي أو نصف الأمة لا يصلي؟ هل تضمن إذا دارت رحى الحرب أن لا يطعنك في ظهرك؟ لا تضمن ذلك، لأن قلبه ليس عليك، يجب على الذين يريدون هذه المنزلة أن يبدءوا من حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون: (نبدأ من حيث انتهى)، فهذه مقالة خطأ، وأقل ما يمكن أن توصف هذه المقالة أنها خطأ، يقول: (نبدأ من حيث انتهى)، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يوم انتهى ترك شيئاً لغيره حتى يبدأ به؟! لقد أتم كل شيء ثم انظر إلى حالك الآن وأنت مستضعف لا تملك من أمر نفسك شيئاً، وانظر إلى إخوانك وقد تفرقوا شذر مذر، بحيث أنك لو قلت لأحد الناس: إن فلاناً يموت، إن فلاناً سقط بيته، إن فلاناً مريض، أعطونا شيئاً من المال على الأقل، فنصف الموجودين لا يُعطي شيئاً، أظن هذا إن قلت له: أعطني روحك فسيكون بها أبخل. يجب أن نبدأ كما بدأ النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الأخوة يجب أن تعود، لقد رأيت بعض المسلمين -ولا أريد أن أقول: (كثيراً) مع أن الواقع يشهد أنهم كثير- إذا اختصم أحدهم مع الآخر في مسألة فرعية، ترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه؛ بل لعله لا يقابله أبداً، ويتجنى بعضهم على بعض، وهم أسوأ ما يكونون في المعاملات المالية، ولقد رأيت بعض الناس قال للبعض الآخر: أليس معك مال نصنع شركة؟ قال له: نعم معي، وذهب الرجل إلى امرأته فقال لها: اخلعي الذهب، وهاتي كذا، وهاتي كذا، سوف نبيع كل هذا وننشئ شركة، وسنأخذ جزءاً من الأرباح كل شهر، وجاء الرجل بذهب المرأة، وجاء بالمتاع الذي كان ادخره يوماً ما، ووضعه في يد صاحبه، فأخذ هذا الإنسان المال، وكان عليه دين، فَسَدَّ دينه بمال أخيه، وكلما قال له أخوه: أين التجارة؟ قال له: أنا وصيت على البضاعة، ستأتي غداً، بعد غد، غداً، بعد غد حتى طال الأمل، ثم كشف هذا الآخر عن وجهه، قال له: حدثت لي ظروف، فأنفقت المال، وكاد الآخر أن يجن؛ لأن امرأته كادت أن تُطلق بسبب بيع الذهب، أهل المرأة أصروا على أن يأتي بالذهب، والرجل لا يملك شيئاً، والآخر يقول له: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] وهذا الآخر أيضاً فقير مثلك، وكان أولى بماله منك، وما أعطاه المال حتى هدده، وما أعطاه ماله كاملاً؛ بل أعطاه مقسطاً، وضاع ذهب المرأة وضاع متاعه الذي ادخره، وراحت الأخوة من بين الاثنين. أهذه أخوة؟! أهؤلاء يمكن يوماً أن تقوم بهم دولة؟! إن سنة الله تبارك وتعالى في الأرض لا تتخلف وهي سنة عادلة، يوم ينظر الله تبارك وتعالى إلى هذا القطيع فيرى قلوبهم تجمعت في بوتقة واحدة وفي مكان واحد، نكون أحق بنصر الله عز وجل، أما الآن فنحن لا نستحق هذا النصر، ولا نستحق أن يرفع عنا هذا الضيم، الذي وضعه الله عز وجل بعدله، ويجب على المسلمين أن يراجعوا هذه الأخوة، وأن ينظروا أين مكانهم من هذه الأرض، وهل يحبون في الله عز وجل أم يحبون لعرض زائل، إن هذه الدروس يجب أن نستفيد منها استفادة عملية. فأرجو أن يراجع كل منا نفسه في باب الأخوة، هل يحب أخاه فعلاً في الله عز وجل أم لا؟ إن كان عنده مال مدخر وأخوه يحتاج إلى هذا المال؛ فليحمله إليه، جرب يا أخي ولا تقل: هذا المال أنا أدخره للطوارئ. جرب أن تعطيه لأخيك، كما يقول بعض الدعاة: (جربوا الله مرة)؛ فإنك إن كنزت هذا المال، أتى الله عليك بجائحة أخذت هذا المال وربما تستدين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة) فجرب وأحسن إلى أخيك وسترى وقع هذا الفعل في حياتك، فإن الله تبارك وتعالى بيده نواصي العباد. وستعلمون أثر هذه الأخوة فيما بعد عندما تبدأ المجابهة ما بين هؤلاء المسلمين، وما بين القوى الثلاث اللائي كن يقطن في المدينة المنورة وهم أعداء الدولة المسلمة: الكفار، والمنافقون، واليهود. هؤلاء الأعداء الثلاثة الذي وقفوا بالمرصاد لهذه الدعوة، فلا تستطيع هذه الدعوة مع قلة عددها وعتادها أن تنتصر عليهم إلا بهذه الأخوة. أرأيتم في غزوة أحد لما جاء طلحة بن عبيد الله وقد أحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يصلوا إلى ما الله مانعهم منه، وهو أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يقتلوه، ترس عليه طلحة وأبو دجانة -ترس يعني: احتضنه وجعل ظهره للسهام- فأصيب طلحة في ظهره بسهام الكفار وهو لا يتحرك، حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الأخوة والمحبة الصادقة. إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الأخوة [2]

الأخوة [2] لقد سطر لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حياتهم العملية أروع صور الحب والبغض في الله، وإيثارهم إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ولذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى ومكن لهم في الأرض، ففتحوا البلدان، ومصروا الأمصار. وإن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم وما تعيشه من ذل وهوان يجد أن من أسباب ذلك غياب روح الأخوة في الله.

صور مشرقة من حياة السلف في الحب في الله

صور مشرقة من حياة السلف في الحب في الله لا يستطيع قوم بناء مجتمع يسود هذه الأرض إلا إذا كانت لبناته كالبنيان المرصوص، أما أن يكون أفراده شذر مذر: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فخصوماتهم الدقيقة التافهة يمكن أن تقوض أركان المحبة الزائفة التي يدعيها بعضهم مع بعض.

قتل كعب بن الأشرف

قتل كعب بن الأشرف كعب بن الأشرف آذى النبي صلى الله عليه وسلم، وشبب بنساء المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام يوماً -كما في الصحيحين -: (من لـ كعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله. قال محمد بن مسلمة: أتأذن لي في قتله؟!)، أتعلمون من هو كعب بالنسبة لـ محمد بن مسلمة؟ إنه خاله، ونحن نعرف أن الروابط من جهة الأم تكون أقوى من الروابط من جهة الأب في محل الحنان، فتجد خالك أحن عليك من عمك. وهذا خاله، لكنه آذى الله ورسوله، فلا يساوي بعرة ولا قيمة له فقال: (أتأذن لي في قتله؟ قال: نعم. قال: فهل تأذن لي أن أقول له شيئاً؟ -يعني أن أكذب عليه حتى أستدرجه- قال: نعم)، فذهب معه أبو نائلة، أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، يعني: ليس رجلاً غريباً، إنما تربطه به أواصر محبة، كان من الممكن أن يحابي ويقول: يذهب غيري؛ فإن قلبي لا يطاوعني ولكن: نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا فذهبا إليه وقالا له: (إن هذا الرجل -يعنيان النبي صلى الله عليه وسلم- قد أعنتنا وشق علينا، وطلب منا صدقة ونحن لا نجد ما نأكل. قال: قد علمت والله ليشقن عليكم. قالوا: ولكنا لا نريد أن نظهر أننا تركناه حتى نرى شأنه أو ما يؤول إليه أمره، فهلا أعطيتنا وسقاً أو وسقين من شعير فنعطيهما لهذا الرجل؟! قال: ارهنوني شيئاً -وسق من شعير أو وسقين لا قيمة لهما، فانظر إلى هذا المشرك الكافر ماذا يريد في مقابل وسق! - قالوا له: وما تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. فقالوا له: أنت أجمل العرب، وقلما جاءتك امرأة إلا فتنت بك؛ فاغتر في نفسه، فقال: إذاً ارهنوني أولادكم. قالوا: معاذ الله أن يسب أولادنا يوماً أنهم رهنوا بوسق من شعير! ولكن نرهنك اللأمة -اللأمة هي الدرع والسيف، وإنما قالوا: نرهنك اللأمة حتى إذا أتوا بالسلاح لا يشعر بريبة، وأنهم جاءوا ليقتلوه- قال: نعم. فحددوا موعداً، فلما أرادوا -لأنهم اصطحبوا اثنين آخرين- أن يذهبوا إلى كعب بن الأشرف صحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الله معكم. فذهبوا إليه وناداه أبو نائلة: انزل يا كعب. فقالت امرأته: إلي أين يا كعب في هذه الساعة؟ قال: إنه أخي أبو نائلة، أخي من الرضاعة، وإن الكريم إذا دعي إلى طعان بليل أجاب، كيف لا أنزل؟! قالت: لا تنزل، فإني أشم رائحة الدم. فقال: هذا أخي أبو نائلة، ونزل، وكان قد تطيب، وكان ريحه يسبقه، فقال محمد بن مسلمة: ذروني أقول له: دعني أشم رأسك، فإذا استمكنت من ذؤابتيه ورأسه فدونكم فاقتلوه. فلما جاء كعب قال له محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم ريحاً! هلا تأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فأعطاه رأسه، فاستمكن منه وقال: دونكم فاقتلوه، فسمعوا قعقة السيوف على عظمه، وانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه! قالوا: ووجهك يا رسول الله!). هذا عدوا الله ورسوله لا قيمة له: نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه رأس النفاق

موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه رأس النفاق وهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، ابن زعيم المنافقين ورأسهم: (قال عبد الله بن أبي ابن سلول: الذي قال {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]-ويقصد بنفسه الأعز وبالنبي صلى الله عليه وسلم الأذل، لعنه الله- فقال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أقطع عنقه. قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). فقام عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال: يا رسول الله! إني لا أحب أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأنا أقتله. قال له: لا تقتل أباك، فماذا يفعل عبد الله؟ - ذهب إلى أبيه وأخذ بتلابيبه، وقال: والله لن تدخل المدينة حتى تقول: أنك الأذل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز، وما تركه يدخل المدينة حتى قالها). نعادي الذي عادى من الناس كلهم بحق ولو كان الحبيب المواتيا

موقف أبي قتادة مع كعب بن مالك

موقف أبي قتادة مع كعب بن مالك وهذا أبو قتادة الأنصاري لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من كلامه، قال كعب: (فكنت أمشي في الأسواق ولا يكلمني أحد -يأتي على الناس فينصرفون ويتركونه وحده- قال: فلما شق عليَّ ذلك، كنت في الحال الذي وصف الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] قال: فتسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي، وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟ -لماذا هذه الجفوة؟ أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟ - فالتفت إليه أبو قتادة وقال: الله أعلم. قال كعب: ففاضت عيناي رثاءً لنفسه. فهؤلاء هم الناس الذين انتظمت حياتهم في سلك واحد وهم الذين انتصروا على أهل الأرض جميعاً؛ لأن هذا يؤذن أن قلبهم واحد، وأن مشاعرهم واحدة لا تتخلف، فانظروا إلى حالهم وانظروا إلى حال المسلمين الآن، ترى أنهم أجدر الناس، وأحقهم بنصر الله عز وجل، وترى أننا الآن لا نستحق نصر الله تبارك وتعالى، كيف وقلوبنا ليست على قلب رجل واحد كما أومأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

تعامل الأنصار مع المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم

تعامل الأنصار مع المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم إن أسباب نجاح المجتمع الذي كونه النبي صلى الله عليه وسلم كان من أساسه: صدقهم في هذه الأخوة، فقد كانت الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً. في صحيح البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال لهم: لا) لماذا؟ لأن المهاجرين لم يكونوا يحسنون الزرع، فمعنى أنهم يأخذون نصف النخل ولا يحسنون الزرع أنهم سيتلفونه ولا يستفيدون به، إذاً: ماذا يفعلون؟ قال المهاجرون للأنصار: (تكفوننا وتقتسمون معنا الثمر)، يعني: أنتم تشتغلون بالفلاحة وبما يتطلبه النخل، ونحن نقسم معكم هذا الثمر في آخر الموسم. بل كان من شأن الأنصار عجباً! أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقسموا التمر وضعوا أيضاً معه سعف النخيل -وهو الجريد- فكانوا يأخذون بعض الثمر مع السعف، ويجعلون في مقابل هذا السعف تمراً كثيراً للمهاجرين، يعني: كانوا يبخسون أنفسهم حقها، وهم أصحاب الزرع والثمر. فلما كان يوم خيبر وتدفقت الأموال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيهم حقهم، فقالوا: (يا رسول الله! إننا فعلنا الذي أمرتنا به -يعني فعلنا ما شرطت علينا- وإنك وعدتنا شيئاً في مقابل هذا، فنريد أن توفي لنا به، قد وعدتنا الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك لكم)، أين في المسلمين الآن من يقتسم اللقمة مع أخيه بحق، فضلاً عن أن يجور عليه أو أن يتهمه أو أن يأكله؟ إننا وضعنا أيدينا على مكمن الداء، وهو أن كل رجل في المسلمين إنما هو بمفرده يتحرك وحده، لا يلتصق بأخيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر). هذا المجتمع مجتمع المؤمنين، وليس مجتمع أدعياء الإيمان، مجتمع المؤمنين الحق: إن أخاك إن تألم شعرت بوجع في قلبك هذا هو مجتمع المؤمنين! أما مجتمع أدعياء الإيمان فحدث عن الخلل الذي فيه ولا حرج، فهو أشبه بمجتمع اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، انظر إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، حتى في معرض القتل يذكره بأنه أخوه، لم يقل له فمن عفي له ممن قتله شيئاً، إنما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] حتى في معرض القتل والقلوب لدى الحناجر يذكرهم بأنهم إخوة، فما بالك إن لم يكن هناك قتل؛ فإن وجود رابطة الأخوة أدعى؟! وقد قال الله عز وجل أيضاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] قال هذه الآية بعد قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] هم يقتتلون، والذين يقتتلون عادة ينسون روابط المودة، بدليل أنه يمكن أن يقتل أخاه -في ساحة الحرب- الذي كان يبادله الود بالود، لكن هذه حرب، ومع ضراوة هذه الحرب يذكرهم الله سبحانه بأنهم إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. وفي معرض الطلاق الذي يشحن النفوس ويشحذ، ويكون كل طرف متربصاً بالآخر، يقول الله عز وجل: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ليس لمجرد أنك طلقت المرأة أن تقطع روابط الصلة بينك وبين أهلها، في مثل هذه المواقف -التي تتغلب فيه النزعة الترابية الجسدية على نزعة الإيمان والروح- يذكر الله تبارك وتعالى بوجود هذه الروابط بين المؤمنين. فهذه الأشياء إن لم تكن موجودة؛ فمن باب أولى أن يوجد هذا الحب والود. إن ضياع هذه الأخوة أوقعنا في مأزق كبير جداً، فلا نستطيع الآن أن نجمع بين شتات المؤمنين؛ حتى عيرنا الكفرة، وأخذوا سفاسفنا وأظهروها على أنها كبائر، وصاروا يعيرون المؤمنين، والله تبارك وتعالى: {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] (ما بأنفسهم) أي: الذي علق بأنفسهم، وإن الله تبارك وتعالى سنته لا تتخلف ولا تختلف. قرأت اليوم لأحد الصحفيين، يقول: إن العالم كله الآن مبهور، ويتابع باهتمام سفينة الفضاء التي أطلقوها من اثني عشر عاماً، وقد قطعت أكثر من أربعة آلاف مليون كيلومتر، يقول: فبينما العالم يهتم بهذا فماذا نجد في بلادنا؟ نجد القوم يناقشون فوائد البنوك هل هي حرام أو حلال، وستر الوجه أهو واجب أم مستحب، ونقل الأعضاء أهو جائز أم لا. انظروا إلى هذا الجاهل! وما علاقة أن ترسو سفينة الفضاء على أي كوكب بالذي قاله؟! أيريدنا أن نأكل الربا مثلاً، وما علاقة هذا بهذا؟! وهل سلط الله عز وجل خراف البشر على هذه الأمة المتآكلة التي أكلها الجهل والهوى إلا بعد أن أكلوا الربا؟! إنهم رأونا أمة مستضعفة، كلؤنا مستباح، وليس هناك أحد ينتقم منهم ويردهم على أعقابهم، فشددوا وطأتهم. يقول الصحفي: وقد سمعت أحد الدعاة هنا في خطبة جمعة يقول: جاءني رجل فقال لي: إني ألقيت يمين الطلاق على امرأتي، وقلت لها كذا وكذا هل وقع اليمين أم لا؟ يقول الصحفي: العالم وصل إلى القمر وهذا يسأل عن هذا، وهذا رجل داعية يعتلي منبر أكبر مسجد ويتحدث عن هذا. فنقول له: كفى جهلاً! فما تمكن الأعداء من الأمة إلا عندما ضيعت أمر ربها وشرعه، وأصبحت أمة ينخر فيها السوس، ولا صريخ ولا منقذ؛ لأنها هانت على الله، وتركت شرعه، وخالفت الأخوة الإسلامية التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام. فأين أخوتكم أيها المسلمون؟ إننا نرى الرجل يختلف مع أخيه في مسألة فرعية أو مسألة تافهة؛ فيكون حاله كما قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا يعني: إن تضربني مرة أضربك عشر مرات، ورجعت العصبية المقيتة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها تحت قدميه، وبدأت تطل برأسها على المسلمين. وكان من نتيجة غياب هذه الأخوة أن ظهرت هذه الأنانية، وأن ظهر هذا الكبر والاعتداد بالنفس، وما ظهرت هذه الصفات في مجتمع إلا قتل، وكلمة (أنا) قد فتكت بثلاثة عتاة؛ فتكت بإبليس عندما قال لله عز وجل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فما كان مصيره؟ كان مصيره النار خالداً مخلداً فيها أبداً. وكذلك قارون عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] هذا بعبقريتي وذكائي، أنا كنت أعلم أنني سأكون غنياً؛ لأنني ذكي أحسن التدبير والخطط: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، اعتداده بنفسه، فماذا فعل الله به؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. وكذلك صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف الذي قال الله عز وجل فيه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32]، هذا الرجل قال لصاحبه وهو يحاوره: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] فماذا كان جزاؤه؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42]، صاحبه قال له: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، فلعل بعضكم يقول: هذا الرجل الصالح قال: (أنا) أيضاً؟! نقول: هناك فرق شديد بين (أنا) هنا و (أنا) هناك، إنك لو حذفت كلمة (أنا) في قول الرجل المتكبر ما استقام المعنى، ولو حذفتها في كلام الرجل الصالح لاستقام المعنى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} [الكهف:34] أحذف كلمة أنا تجد أن المعنى لا يستقيم، فهذا يدل على أن كلمة (أنا) يدور حولها المعنى، بخلاف قول هذا الرجل الصالح: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] فلو حذفت كلمة (أنا) استقام المعنى: (إن ترني أقل منك مالاً وولداً)؛ فيدل على أنه لم يعني كلمة (أنا)، إنما قالها في مقابل قول الرجل: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فهو يقول له: إن كنت تراني أنا -هذا المستضعف- أقل منك مالاً وولداً {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف:40]. وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (طرقت الباب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا. فسمعته من داخل الدار يقول: أنا أنا! كأنما كرهها) لماذا كرهها؟ لأنها تشعر بكبر، وإن كنا لا نعتقد أن جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، إنما غيره يمكن أن يكون كذلك، فكأنما -وهو يقول: (أنا) - يقول: أنا مستغن عن نسبي وعن تعريفي، (أنا) فلم يقل: أنا جابر أو أنا ابن عبد الله الأنصاري، إنما قال: (أنا)، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فيها نبرة كبر) لذلك كرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكره شيئاً إلا أن يكون ممقوتاً ولا يأتي بخير، ونحن نتابعه صلى الله عليه وسلم، ونعمل بسنته، فإنه ما تضيع سنة إلا تحل مكانها بدعة، وما يزول إيمان عن بقعة من الأرض إلا حل محله مثله من الكفر، كالزجاجة الفارغة إن لم يملأها شيء ملأها الهواء، فلابد أن تملأ بشيء، ونف

اتباع الكتاب والسنة هو السبيل لتحقيق الأخوة الصادقة

اتباع الكتاب والسنة هو السبيل لتحقيق الأخوة الصادقة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. لعل قائلاً يقول: قد أحسنت فيما قلت! يحنو بعضنا على بعض، لكن ما السبيل إلى هذا الخلق الرائع الذي كان فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: السبيل كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على نهج السلف الصالح -هذا هو السبيل- وأن تضع في حسبانك ألا تقدم بين يدي الله ورسوله قول أحد كائناً من كان وإن أصابك ما أصابك؛ فحينئذٍ تجد نفسك وضعت رجليك على أول الطريق، أما بغير ذلك فلا. تجد الآن بعض المسلمين يكفر الطرف الآخر، لماذا يكفرونهم؟ لأنهم جهلة، ليس عندهم شيء من العلم، إنما عندهم شبهات، ويعتدون بأنفسهم أشد الاعتداد، وهذا -كما قلنا- ضيع ثلاثة من أكبر العتاة، فهو كفيل أن يضيع هؤلاء الغثاء، الذين لا يزنون شيئاً في الحياة. إن الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه أصحاب عبادة وزهد، إلا أنهم جهلة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفتهم: (يخرج أقواماً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية)، أبعد أن يكون من القانتين الصائمين العابدين يخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية؟! نسأل الله العفو والعافية! (يخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية) نعم؛ لأنه جاهل، لم يقف على شيء كبير من العلم، لذلك خرج وما نفعته عبادته. لذلك: نحن ندعو دائماً إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح. أما درى هذا القائل قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (من قال لأخيه (يا كافر) أو قال له (يا عدو الله) فإن لم يكن كذلك إلا حار عليه ورجع، ولو كان مازحاً) لو كان يمزح ويقول له: (يا كافر) مازحاً، إن لم يكن هذا كافراً رجعت إليه الكلمة. هناك جاهل يقول: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)، ويأتي على رجل من المسلمين يزعم أنه كافر، ثم يقول لك: إن لم تكفره فأنت مثله كافر. وهذا إنما أتي من فهمه ومن يكُ ذا فمٍ مرٍ مريض يجد مراً به الماء الزلالا فالماء النقي عندما يوضع في إناء فيه طين يصير الماء كله طين، ويذهب صفاؤه. إن هذه القاعدة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) إنما تقال في الكافر الأصلي، الذي لا يختلف على كفره اثنان، فمثلاً لو قال رجل: إن النصراني ليس بكافر. نقول له: أنت كافر لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى حكم بكفره بلفظ قاطع محكم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] فهذا حكم الله عز وجل القاطع، الذي لا يحتمل تأويلاً. حينئذٍ: الذي يتوقف في تكفير من أطلق الله عز وجل عليه الكفر فهو كافر، ونقول له: أنت كافر بملء فمنا. إنما يأتي رجل كان في الأصل مسلماً، فارتكب أعمالاً هي من أعمال الكفر، واختلف الناس فيه، فقال جماعة: هو كافر، وقال جماعة: نلتمس له العذر وليس بكافر، فلا يمكن أن يقال: من لم يكفر الكافر فهو كافر؛ لأن هذا كافر من وجهة نظرك، والدلائل التي قامت عندي لا تكفره، حينئذٍ لا نعمل هذه القاعدة التي إنما تقال في الكافر الأصلي، لا على الكافر الذي اختلف المسلمون في كفره. وهؤلاء ترى أحدهم يرمي جماهير المسلمين بالكفر؛ لأنهم لا يكفرون من يرى أنه كافر، وهذا جاهل جهلاً غليظاً جداً. وهؤلاء الذين يكفرون المسلمين لا تصادقهم، ولا تدعهم إلى بيتك، ولا تؤاخهم؛ لأنهم قد يكفرونك، وأنت لا تضمن أنك إن أدخلتهم بيتك لم يسرقوا ما عندك من مال؛ على أنه غنيمة، ولا تضمن أنهم لا يستحلون امرأتك على أساس أنها من السبي. فلا تدخلهم بيتك ولا كرامة، واغلظ عليهم في ذات الله عز وجل؛ فإنهم فرقوا شمل المسلمين. فإن أسلافهم الخوارج كان عندهم شيء من العلم وكانوا أهل عبادة وزهد، أما هؤلاء فهم جهلة أغمار. فأسلافهم كفروا علياً رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة. انظر إلى فجور هؤلاء يكفرونه! يجعلونه من أصحاب النار! والمعصوم صلى الله عليه وسلم قد شهد له أنه من أصحاب الجنة، ومع ذلك يقولون: هو من أصحاب النار، وخرجوا عليه وكفروه، ومع ذلك فإن علياً رضي الله عنه أنصفهم والإنصاف عزيز: ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم فعندما سئل عنهم علي بن أبي طالب: أهم كفرة؟ قال عنهم قولة الرجل الفقيه، الذي يقف على حدود ما أنزل الله، ولا يتهجم إذا اغتاظ. وهؤلاء الذين يكفرون المسلمين ترى أحدهم إذا هدأت ثورته كف عن التكفير، وإذا غاظه أحد كفر الجميع، فالمسألة عنده لا ترجع إلى موازين ولا إلى أدلة. فلما سئل علياً رضي الله عنه عنهم: أهم كفرة؟ قال: لا. من الكفر فروا، لكنهم قوم أصابتهم فتنه فعموا وصموا. انظر تشق عصا المسلمين بالجهل والهوى. إذا أردت أن تسلك طريق الأخوة في الله فعليك أن ترجع إلى اللبنة الأولى، إلى ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أول ما علمهم! فأول ما علمهم: التوحيد والرهبة من الله عز وجل، واتقاء غضبه، ورجاء رضوانه تبارك وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يهدي أمتنا إلى التي هي أقوم والتي هي أحسن. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا

السنة بين المحبة والاتباع

السنة بين المحبة والاتباع إن من لوازم محبة النبي صلى الله عليه وسلم اتباع سنته، وواقع المسلمين اليوم يظهر زيف دعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان عليه فالصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يعظمون كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد أدرك الصحابة الكرام أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، وتعظيم كلامه أمر واجب على الأعيان، وأنه لا يتم الإيمان إلا به؛ فلذلك بذلوا الغالي والنفيس من أجله صلى الله عليه وسلم، بينما تجد في المقابل في زمننا من يحكّم عقله وهواه ويرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على عدم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فعدم تقديم النص أمر خطير جداً يجب الحذر منه.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته من الإيمان

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته من الإيمان إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته، ونصب الحرب على أعدائه لأمر واجب على الأعيان، ولا يتم إيمان العبد إلا بهذا. قال بعض العلماء: إن العبد إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن معنى وتفسير هذه الكلمة المباركة هو أن الله عز وجل هو المعبود بحق، ولا معبود بحق سواه، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع. وهنا نكتة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما يتعلق بخطبة الحاجة، قال: لما بدأ الكلام بدأ بصيغة الجمع: (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره) إلا في الشهادة لم يقل: ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه لا يقوم أحد نيابة عن أحد بهذا الأمر، بل لا بد أن يشهد كل عبد بذاته: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يستقيم إيمانه إلا إذا شهد هو بنفسه: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إن الناظر في جيل الصحابة الأوائل يرى أن أعظم ما يميزهم المحبة العظيمة التي غرست فيهم الاتباع، اتباع أولئك الصحابة وتعظيمهم لكلام النبي عليه الصلاة والسلام. جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، وكان دار أبي أيوب على طابقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي أيوب: (السفل أرفق بنا -أي اجعلنا في أسفل الدار- إنه يغشاني أصحابي فالسفل أرفق بنا) وكان أبو أيوب في الطابق العلوي، وذات ليلة وهو يمشي في الليل فزع، فقال: أنا أمشي على سقف يعلو النبي صلى الله عليه وسلم!! وانكمش هو وأهل داره في زاوية حتى الصباح، استعظم أن يمشي على السطح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحته، قال: (وانكسر حب لنا)، هذه الزيادة ليست في صحيح مسلم، إنما في نفس الحديث عند البيهقي في باب النبوة وغيره. قال: (وانكسر حبٌّ لنا -الحب: هو الجرة العظيمة- قال: فجففت الماء بلحافي، اللحاف الذي يتغطى به هو وامرأته والله ما لنا غيره، خشية أن تسقط قطرة ماء على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما أصبح الصباح قال: يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى). حتى إنه لما كان يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام فيأكل منه، فيرجع إليهم ما تبقى منه فيأكلون، فيسأل أبو أيوب: أين مواضع يده؟ وإذا شرب يقول: أين موضع فمه من الإناء؟ فيتحرى مواضع فمه ويده صلى الله عليه وسلم فيأكل من الموضع الذي أكل، وكذلك يتحرى في الشرب موضع فمه صلى الله عليه وسلم في الإناء فيشرب هو وامرأته منه، فأرسل له يوماً بصلاً، فلم يأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فلما صعد الرجل بالطعام إلى أبي أيوب ورأى البصل كما هو فزع ونزل وقال: (يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أُناجَى فأكره ذلك) -يعني يكره أن يؤذي الملك، فماذا قال أبو أيوب؟ رغم أن البصل حلال، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينهه عن ذلك، قال: لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره، وامتنع من أكل البصل. كذلك في الصحيح أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لأبنائه يوماً، وأبناؤه هم: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم، وحمزة، وبلال، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفي لفظ: (إذا استأذنت أمة أحدكم أن تخرج إلى المسجد فلا يمنعها). فقال أحد أبنائه -وهو بلال: والله لنمنعهن يتخذنه دغلاً! الدغل: جمعه أدغال، وهو المكان كثير الشجر، كأنه يقول: إن بعض النساء قد يتخذن من الخروج إلى المسجد ذريعة فيقضين مآربهن، فيقول: لنمنعهن حتى لا يتخذنه دغلاً وحجة، يعني: -كما لو دخل رجل في الأدغال وراء شجرة أو نحو ذلك- فحصبه عبد الله بن عمر بحصيات، وقال له: أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وتعارضه! والله لا رأيتك أبداً، فيذكرون أنه ما دخل عليه حتى مات. هذا لأن ابن عبد الله بن عمر اعترض على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في اعتراضه سوء أدب من وجهة نظر والده، بغض النظر عن أنه متأول، ولا يقصد أن يرد برأيه الحديث، وإنما كان عنده علة جعلته يتلفظ بهذا القول، لكنه كان قولاً فجاً في نظر عبد الله بن عمر، فلم يتحمل منه هذا.

اعتراض الغزالي على حديث: الكلب الأسود شيطان

اعتراض الغزالي على حديث: الكلب الأسود شيطان الآن يعترضون ليس على حديث نبوي بل على آيات القرآن الكريم، وبطبيعة الحال هم لا يعترضون على ذات الآية إنما على معناها ومؤداها. وهذا محمد الغزالي المصري في كتابه الأخير -وهو من أشأم الكتب التي صدرت في هذا العصر- لمّا أتى على حديث أبي ذر، الذي رواه عنه عبد الله بن الصامت، وأخرجه مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة المرأة والكلب الأسود والحمار، قال أبو ذر: يا رسول الله! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الكلب الأسود شيطان). فهذا بيان واضح للتفرقة، وأبو ذر استشكل الكلب الأسود، لماذا الكلب الأسود؟ فقال له: (الكلب الأسود شيطان). فيأتي الغزالي فيقول: بل الكلاب كلها سواء، يعني: لا فرق بين الكلب الأسود والأحمر والأصفر. كيف هذا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما استشكله أبو ذر وقال له: إنه شيطان؟! فيأتي هذا فيقول: لا، ليس شيطاناً، بل الكلاب كلها سواء، لا فرق بين أصفر وأحمر وأبيض، فهذا رد صريح للأحاديث النبوية، وهناك العشرات الذين يردون الأحاديث، بل أكثر!

اعتراض الغزالي على حديث الحبة السوداء

اعتراض الغزالي على حديث الحبة السوداء ومن الأمثلة أيضاً: لما ذكر الغزالي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام)، تدرون ماذا قال؟ لقد قال: لا يعقل أن الحبة السوداء تستخدم في (الأنفلونزا)، أو تستخدم في (المغص)، أو تستخدم في مثل هذه الأشياء، فلا بد أن الحديث ليس على ظاهره، فيقول وهذا كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، يقول: فهل دمرت كل شيء؟ مع أن لفظ (كل) من ألفاظ العموم، إذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أن الحبة السوداء شفاء من كل داء، ولسنا نعتقد أن الحبة السوداء هي التي تدفع الداء، إنما هي سبب، قد يرفع الله عز وجل الداء بشربة ماء، وقد لا يرتفع المرض بأخذ جميع أنواع العلاجات التي صنعت لرفع هذا المرض، فالمسألة مسألة أسباب فقط، والله تبارك وتعالى هو الشافي. هناك امرأة مغربية ذهبت إلى أطباء الدنيا، وقرروا أن عندها سرطان، وأن الحالة ميئوس منها، وقالوا: لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، وقالوا لأهلها: متعوها وأكلوها وشربوها كل ما تريد؛ لأنه لم يبق من عمرها إلا ثلاثة أشهر فقط، فقال الأهل للمرأة: أي شيء في نفسك وتريدينه من أكل أو شرب أو غيرهما سنوفره لكِ، قالت: أريد أن أذهب إلى الحرم، وأقضي بقية عمري هناك، وذهبوا بها إلى الحرم، ولم تكن تأكل ولا تشرب، وإنما كانت تشرب من ماء زمزم فقط، وكانت تأكل بعض حبات الفاكهة ونحو ذلك، مرت ثلاثة أشهر والمرأة لا شيء عندها أربعة أشهر خمسة أشهر ستة أشهر أين ذهب المرض؟ لا تدري، شعرت أنها في صحة جيدة، عرضت نفسها على أطباء المملكة، قالوا: إنك لا تشتكين من أي علة، قالت: هؤلاء لا يعرفون شيئاً، الأطباء الكبار قرروا أن بها سرطاناً، وأطباء المملكة يقولون: ليس بها شيء، أبناؤها لم يصدقوا ما قرره أطباء المملكة، فأخذوها وطاروا بها إلى الأطباء هناك، فبحثوا فلم يجدوا العلة، أين ذهب المرض؟ لا يعرفون، قالوا لها: عند أي طبيب تعالجت، وأي دواء أخذت؟! قالت: ما أخذت شيئاً سوى أنني كنت في الحرم، وكل طعامي وشرابي كان من ماء زمزم. فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى رفع هذا الداء بماء زمزم. كما قلنا: قد يرتفع العلاج بشربة ماء، وهذا ما حدث لـ أبي ذر في قصة إسلامه، أنه اختفى من المشركين في المسجد الحرام، ونزل إلى ماء زمزم، ولم يكن له شرب ولا أكل إلا من ماء زمزم، حتى قال أبو ذر: (حتى تكسرت عكن بطني). يعني: صار اللحم طبقات بعضها فوق بعض من شرب ماء زمزم، (حتى تكسرت عكن بطني ولم أجد على كبدي سخفة جوع). ماء زمزم هو الماء الوحيد الذي إن شربته قام مقام الطعام، بخلاف الماء العادي إذا كنت جائعاً فلا تستطيع أن تستسيغ الماء، بخلاف ماء زمزم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم) أي: ماء زمزم. فمن الذي يقول بقول الغزالي؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحبة السوداء شفاء من كل داء) فنحن نعتقد أنها شفاء من كل داء إلا السام، -وهو الموت- واحتجاجه بالآية في غاية العجب؛ لأن الآية تقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فيقول: فهل دمرت كل شيء؟ تمام الآية: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فدل على أن المساكن استثنيت من هذا التدمير. انظروا إلى الجرأة على حديث النبي عليه الصلاة والسلام! فاتباع وتوقير كلام النبي عليه الصلاة والسلام فرع -بلا شك- عن المحبة، لو كان هؤلاء يحبون النبي عليه الصلاة والسلام كما كان يحبه السلف الأوائل لوقفوا عند قوله، ولم يتقدموا بين يديه بقول، فضلاً عن أن يخالفوا قوله، فإن مخالفة قوله عليه الصلاة والسلام جريمة عظيمة.

الفرق بين تعظيم الصحابة للكتاب والسنة وبين المتأخرين بعدهم

الفرق بين تعظيم الصحابة للكتاب والسنة وبين المتأخرين بعدهم إن الفرق بيننا وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في قوله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] ورثوا الكتاب! هناك فرق بين الذي قاتل من أجل آيات الكتاب وبين الذي ورثه، أنت ترى أن الرجل قد يخلِّف ثروة طائلة لأولاده، فترى كثيراً من أولئك الورثة ينفق هذا المال كله الذي جمعه والده في عشرات السنين، ويأتي الولد ويضيعه في عشية أوضحاها دون أن يذرف عليه دمعة، إنما الذي جمعه بكده وعرقه لا ينفق منه درهماً واحداً ولا ديناراً إلا إن علم أن هذا هو موضعه فيه؛ لأنه تعب عليه. كذلك الصحابة ما كانوا ليخالفوا الكتاب أبداً، ولم يكونوا ليخالفوا قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم تحملوا الأذى من أجله، وما وصلنا الكتاب ولا السنة إلا على أشلاء أولئك الصحابة، والحروب التي خاضوها واستعذبوا الموت في سبيل الله عز وجل، من أجل أن يوصلوا إلينا هذا البيان نقلاً أميناً صحيحاً غير محرف، بخلاف أولئك الذين ورثوا الكتاب ترى أحدهم يحتج بالآية في غير موضعها، بل وبضد موضعها أحياناً، وتهون عليه، ويجاهر ويكابر. هناك بعض أصحاب محلات الحلاقة يكتبون على جدران محلاتهم قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] وهذه الظاهرة موجودة عندنا في بعض محلات الحلاقة، ماذا يقصدون بكتابة هذه الآية؟ إنهم يقصدون بذلك أنه عندما يحلق اللحية مرتين يصير الوجه ناعماً والخد أملساً، فهذه الآية ساقها الله تبارك وتعالى مساق المدح لأهل الجنة، وهؤلاء يضعون الآية في غير موضعها بل ضد موضعها، لماذا هانت عليهم آيات القرآن الكريم إلى هذا الحد؟! لأنهم ورثوا الكتاب، لم يحسوا بقيمة هذا القرآن. كذلك ترى مكتوباً في محل عصير أو شراب: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، هل هذا هو الشراب الطهور الذي أراده الله تبارك وتعالى من الآية؟! بل وترى بعض الذين يحملون القرآن الكريم -أي: يحفظونه عن ظهر قلب- مخالفات عجيبة. حدثت عندنا قصة وهي: أن أحد الأثرياء ماتت والدته، فأراد أن يأتي بأشهر قارئ ليقرأ لها، فأتى بقارئ كبير ومشهور جداً، وإنما يسمع الناس صوته في الإذاعة، ولم تكتحل أعينهم برؤياه، فلما علموا أن القارئ الإمام سيقرأ في العزاء أتوا من كل حدب وصوب، ومن كل فج بعيد؛ حتى يرون هذا القارئ. هذه القصة حدثت قبل عشر سنوات، يعني من نحو خمسة عشر عاماً، فلما ذهبوا ليتعاقدوا معه، قالوا له: بكم تقرأ ثلاثة أرباع؟ قال: أقرؤها بأربعمائة جنيه، الأربعمائة جنيه في ذلك الوقت كانت قيمة عالية، قالوا له: خذ المال، قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، انظروا! وكأن هذا القارئ لم يقرأ قط قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]! وكأنه لم يقرأ قط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، كأنه لم يقرأ هذه الآيات! بل قال: أرسلوها إلى البنك الفلاني، وجاء الرجل وقرأ، والناس ينصتون ليس لآيات القرآن، إنما ينصتون للصوت، هم منسجمون مع الصوت، حتى أن قارئاً كان يقرأ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] قام رجل وقال: الله يزيدك يزيده ماذا؟! أكثر من سبعين ذراعاً!! وأحياناً تقرأ هذه الآية: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] يقول بعض الحاضرين: اللهم اجعلنا منهم، هو لا يدري زمر الجنة من زمر النار، إنما يسمع للتطريب فقط، فانسجم الناس، المهم طلبوا ربعاً رابعاً، قال: أنا مرتبط بأعمال، حسن! خذ ما شئت من المال، الذي طلب منه مواصلة القراءة هو ذلك الرجل الثري؛ لأن الحاضرين في عزاء والدته عدد ضخم جداً، وهم يتفاخرون بذلك، أبى، فقال له بعض الناس: لماذا تغالي في أجرك؟! أربعمائة جنيه في ثلاثة أرباع! لماذا تغالي في أجرك؟! فقال -ما أدري مازحاً أم جاداً، مع أن المزاح في هذا لا يجوز- قال: ألم يقل الله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] أنا أعتقد أن هذا الرجل لو قصد واعتقد هذا المعنى لكفر، فإن الدنيا كلها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لو وضعت الدنيا في كفة ووضع شطر آية في كفة، لا يشك أحد أن هذه الآية بل وشطر الآية أفضل من الدنيا كلها، وهل يظن أن هذا الرجل لو غالى حتى أخذ أموال الدنيا كلها أنه وفى هذا القرآن حقه؟! فإذا كان هذا حال الذين يقرءون القرآن كله، ويحفظونه عن ظهر قلب فكيف بغيرهم؟! ولقد نعلم علماًَ ضرورياً أن جل الصحابة كانوا يحفظون القرآن كاملاً، لكن الفرق بيننا وبينهم كبير.

الفرق بيننا وبين الصحابة في حفظ القرآن

الفرق بيننا وبين الصحابة في حفظ القرآن كان الصحابة كتلة واحدة؛ لأنهم تعلموا الإيمان والقرآن جميعاً، وما كانوا يتجاوزون آية من آيات القرآن إلا ويعملون بها، ويقول بعض العلماء: لعل هذا هو السبب الذي جعلهم لا يحفظون القرآن كله، الذين يحفظون القرآن الآن ليسوا أذكى منهم ولا أحفظ، والعرب الأوائل اشتهروا بالحفظ، كانوا يحفظون المعلقات، ويحفظون الأمثال، هكذا كان الحفظ! أيعجزون أن يحفظوا آي الذكر، ويحفظوا أقوالاً مركبة معقدة كالصخر؟! أفلا يحفظون آيات الذكر الحكيم التي يحفظها الطفل الصغير؟! {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. أنا أعرف رجالاً عاشوا وهم يحفظون القرآن، وماتوا وهم لا يعرفون تفسير المعوذتين! {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] الواحد منهم لا يعرف ما هو الغاسق، ولا يعرف ما معنى وقب، وكذلك الطفل الصغير لا يعرف لكنه يحفظ، فهذه بركة في القرآن الكريم أن يحفظه الكل، أفيعجز أولئك الصحابة الذين كانوا يحفظون الأقوال الجامدة من أن يحفظوا القرآن الكريم؟! لا يعجزون، إذاً لماذا مات أغلبهم ولم يحفظوا القرآن الكريم كله؟ لأنهم لم يكونوا يتجاوزون الآية ولا الآيتين ولا الثلاث إلا بعد أن يعملوا بها. وهذا -كما قلت:- أحد الفروق التي تميز أولئك الصحابة العظام وبين جيلنا الآن.

السر في كون الصحابة فاقوا من بعدهم

السر في كون الصحابة فاقوا من بعدهم أثُر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، وإنه يأتي أقوام يتعلمون القرآن ثم يتعلمون الإيمان)، هذا هو الفرق: تعلم الإيمان أولاً، فإذا جاءته آية أو جاءه حديث لا يفقه معناه لا يعترض، لأنه آمن أولاً فيسلِّم، بخلاف الذي يقرأ القرآن بغير إيمان كامل فإنه يمكن أن يعترض على آيات، أو يمكن أن يرد أحاديث كثيرة. فلذلك عبد الله بن مسعود كأنه بهذا القول يشير إلى خطورة تعلم المرء القرآن قبل تعلم الإيمان، أو تعلم العلم قبل تعلم الإيمان، لقد وصلت استهانة الناس بالقرآن إلى حد أنهم حرفوا النص، لا أقول حرفوا التأويل، إنما حرفوا النص. بعض أقطاب الصوفية وأظنه ابن عربي أو رجل يشابهه لما جاء يفسر قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]-الصوفية يفسرون القرآن بالإشارة- قال: تفسير الآية ليس كما يتبادر إلى أذهانكم، وإنما معنى الآية هكذا: (من ذل ذي يشف ع)، أتى بلفظ آخر للآية: (من ذل): من الذل. (ذي): اسم إشارة، أي: من ذل نفسه. (يشف) أي: من الكبر والبطر والرياء والعجب. (ع): فعل أمر: من وعى، أي: ع هذا الكلام، هل الآية هكذا لفظاً ومعنى؟! سبحان الله! هانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأن الأمر كما قال تعالى: {وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169]، وهذا رجل وارث، ما قاتل على آيات الكتاب حتى يعز عليه أن يحرف المعنى، لأن مسألة تحريف اللفظ هذه مسألة خطيرة جداً. صحيح أن ألفاظ القرآن الكريم يحمل وجوهاً كثيرة، والآية الواحدة قد تحتمل أكثر من معنى، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يعود على معنى الفقه بالإبطال، إذا كان التأويل سائغاً معتبراً لا يخرج عن حد اللفظ اللغوي، وكان معنىً سائغاً لائقاًً كهذا التفسير اللائق لقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] هذه الآية معناها: أن المساجد لله تبارك وتعالى، فلا تخلط فيها شيئاً من الدنيا، ولذلك يمنع فيها البيع والشراء، وهيشات الأسواق، والنزاع والخصومة، وإنشاد الضالة، وهذه المعاني في المسجد إلى آخره. فالمعنى السائغ اللائق هو كما قال بعض العلماء: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} المساجد هنا: جمع مسجَد، أي: أن أعضاءك السبعة التي تسجد بها لله، فلا تسجد بها لأحد غير الله، لا تأت وتخرَّ على الأرض ساجداً أمام أي إنسان مهما كان عظيماً، كما يفعل بعض الجهلاء، كما حدث مع شاه إيران لما خرج من المطار أتى رجل وقبل نعله وسجد له. وهذا المعنى الذي قاله هؤلاء العلماء في هذه الآية معنى لاائق؛ لأن اللغة تدل عليه، لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد من البشر على هذه الأعضاء السبعة، بل هذه الأعضاء إنما يسجد بها المرء لربه تبارك وتعالى. فإذا كان اللفظ محتملاً للمعنى ولا يخرج عن دلالته اللغوية فإنه جائز، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يصل إلى إبطال الآية ذاتها، مثل لفظ: (من ذل ذي يشف ع) مع أن الآية خلاف هذا تماماً، إنما تجرءوا على فعل هذا الفعل المنكر، وهانت عليهم آيات القرآن الكريم؛ لأنهم ورثوا الكتاب.

الفرق بيننا وبين الصحابة في الاختلاف

الفرق بيننا وبين الصحابة في الاختلاف الصحابة الأوائل كانوا يختلفون عن هؤلاء اختلافاً كبيراً، لذلك فنحن نشبه بُعْدَ المسلمين عن تطبيق الإسلام بمثلث حاد الزاوية، النقطة لا أبعاد فيها، مثل إذا وضعت نقطاً برأس القلم فليس فيها طول ولا عرض، وإن كان فيها أبعاد فهي أبعاد قصيرة جداً لا تكاد تذكر، فلو قلنا: هذه النقطة هي العهد النبوي، كانوا كلهم شيئاً واحداً، حتى لو حدث خلاف فهذا الخلاف ينتهي بسرعة؛ لأن الصحابة ما كانوا يقصدون الخلاف ولا يتعبدون به، إنما الخلاف شيء طارئ رغماً عنهم، حدث بسبب اختلاف وجهات النظر، ولكنهم كانوا يرجعون بسرعة إذا ظهر الحق. كما في الصحيحين (أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة، فكأنما احتد على عمر، فرجع أبو بكر فقال لـ عمر: اغفر لي. فقال: لا أغفر لك. فانصرف أبو بكر وندم عمر أن أبا بكر قال: اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فذهب إلى بيت أبي بكر فلم يجده، ف أبو بكر كان قد توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رفع شيئاً من ثوبه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم هذا فقد غامر -يشير إلى أن هيئة أبي بكر هيئة غير عادية- فجاء وقال: يا رسول الله! اختلفت مع عمر في شيء من الحديث، فقلت له: اغفر لي. قال: لا أغفر لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، فقعد، -فلما سأل عنه عمر فلم يجده توجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام- فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام تغير وجهه، وقال له ولهم جميعاً: جئتكم فقلتم لي: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت! وواساني بماله ومنعتموني! فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قال: فما أوذي بعدها. الآن يختلف بعض الإخوة مع أخيه في مسألة فرعية، فتراه يترك المسجد الذي يصلي فيه مع أخيه، وإذا رآه قادماً من طريق أخذ في طريق آخر، وإذا ذُكِرَ أخوه ذمه، وقد ينهشه لماذا؟ لأنه مختلف معه، تراه يراقبه في صلاته: هل يحرك الإصبع أم يشير بها؟ هل يشير أم يرفع عند النفي والإثبات؟! هل يقبض بعد القيام من الركوع الثاني أم يرسل، قضايا فرعية يتعاملون فيها كالقضايا الأصولية، وهذه مصيبة عظيمة! إن الدافع هو جهل أولئك بالخلاف وأدب الخلاف وأدبه، كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في المسائل العظيمة، وأظن خلافهم في اختيار الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام في سقيفة بني ساعدة مشهوراً، وكان كفيلاً بتدمير الدعوة، لأنه كان من الأنصار من هو مصر على -بلغة العصر- أن يرشح نفسه بمقابل أبي بكر الصديق، أو في مقابل المهاجرين، حتى قال قائلهم: (منا أمير ومنكم أمير)، وأصروا على ذلك في بداية الأمر، ولكن لأن الله تبارك وتعالى يعلم أنهم أخلصوا دينهم لله، وأنهم لا يتعبدون بالخلاف ولا يختارونه، فأصلح ذات بينهم، وزال الخلاف، فلما قضي الأمر لم تجدهم يعترضون على اختيار أبي بكر خليفة، ويقول: لا، أنا معترض، وهذه وجهة نظري. الآن لو حدث كمثل الأمثلة التي ضربتها لا يتحمل الناس بعضهم بعضاً فيها، هؤلاء لم يتحمل بعضهم بعضاً في القضايا الفرعية فكيف بالقضايا الأصولية؟! وفي حديث عبد الله بن مسعود لما أتم عثمان في منى أربعاً، وهو في الصحيحين، لكن الجملة التي أريدها في سنن أبي داود، وفي مسند الإمام أحمد: (لما بلغ ذلك عبد الله بن مسعود أن عثمان يتم استرجع). وفي مسند الإمام أحمد بسند فيه ضعف: (أن أبا ذر لما بلغه ذلك حوقل واسترجع أن يتم أربعاً) ولكن لما أقيمت الصلاة قاموا يصلون خلفه أربعاً، قيل لـ عبد الله بن مسعود في ذلك قال: (الخلاف شر). لأن الخلاف الذي ينتج عنه خروج عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان، مع أن عثمان اجتهد في هذه المسألة، فأداه اجتهاده إلى ذلك ووافقته عائشة عليه، فإنه أعظم ألف مرة من المصلحة الحادثة التي يحصلها من لا يصلي خلف عثمان أربعاً، أيختلفون بين يدي الله في مناسك الحج؟ أهذا هو الفقه؟! فعندنا مثلاً المفتي لما يرى أن هلال رمضان لم يره، بينما في بلد مجاور لنا رأوا الهلال، فيقول هذا المفتي: إن لكل بلد رؤية خاصة، وهذان قولان معروفان عند أهل العلم: اختلاف المطالع واتحادها، وإن كان الراجح اتحاد المطالع، لكن الرأي الآخر قال به علماء، واختاره هذا المفتي، فلا نخالفه في هذا الأمر لعموم البلوى بالمخالفة، حدث عندنا في حلوان منذ أربع سنوات: أن السعودية رأت الهلال قبلنا بيوم، وصادف -ولعلكم تذكرون- العيد يوم الجمعة، فبعض الذين لا يتبعون المفتي بعد صلاة الجمعة وقف على المنبر وأخذ ماءً وشرب، بينما هذا اليوم كان هو المتمم لرمضان عندنا، الناس جميعاً صُوَّم، وهذا وقف على المنبر وشرب، وقال: اليوم يوم العيد ولا يحل صيام يوم العيد! لقد حدث خلاف كادت أن تطير فيه رقاب، ما هي المصلحة؟ وهل هناك مصلحة أن يذهب أناس يصلون العيد وإخوانهم في نفس البلد يتمون صيام رمضان؟! إذا كان من المسائل التي رجح بها القائلون باتحاد المطالع، قالوا: إذا اجتمعت الأمة المسلمة على يوم عيد واحد وعلى يوم صوم واحد، فهذا أدعى أن يحس بعضهم ببعض، فلا شك أن أهل البلد الواحد أكثر إحساساً بهذا الأمر من أهل البلدان المتفرقة، يعني: إذا كان العيد في تلك البلاد، ونحن لا زلنا صائمين، فإننا لا نحس أن هناك مخالفاً؛ لأننا جميعاً صُوَّم، إنما إذا كنا في البلد الواحد وأقوام يصلون العيد، وأقوام يتمون صوم رمضان! هذا بلا شك من الجهل، كما قال بعض العلماء: لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف. فالصحابة الأوائل كان عندهم من فقه النفس وفقه الأحكام الشرعية ما يعقلهم من مثل هذا الزلل الذي يقع فيه كثير من الشباب اليوم، أضف إلى ذلك الإخلاص، يوجد الآن أقوام يتعبدون بالخلاف، وهذه مصيبة كبيرة، بل بدعة قبيحة جداً، أن يتعبد عبد بالخلاف.

من أدب الخلاف عند الصحابة

من أدب الخلاف عند الصحابة جاء في سنن الإمام الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار)، فحدث بينه وبين ابن عباس جدال طويل حول هذا الحديث، صحيح أن هذا الحديث نُسخ، لكن لم يصل النسخ إلى أبي هريرة، فلا يزال يفتي بالذي سمعه، قال له ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! -أي: سآكل اللحم بغير أن أطبخه؟! - يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ -يعني: ألا يجوز لي أن أتوضأ من الماء الساخن؟ - هبني في شتاء قارس وأريد أن أتوضأ بماء ساخن، لا بد أن تمسه النار، يعني: أنت تلزمني إذاً بعد أن أتوضأ بالماء الساخن أن أحدث وضوءاً بماء بارد لم تمسه النار، إذاً لا فائدة في تسخين الماء. هل ابن عباس أتى بنص أم بشبه عقلية؟ شبه عقلية، ما أتى بنص، لذلك ثبت أبو هريرة، ولم يرجع عن قوله، ثم قال له: يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، لا تأت بهذه الشبه العقلية على النص، النص هو المقدم. صحيح أن ابن عباس روى حديثاً -وهو صحيح- (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عند ميمونة، خالة ابن عباس وكان يحتز من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فصلى ولم يحدث وضوءاً)، فهذا من جملة الأحاديث التي يحتج بها العلماء على نسخ الحديث الأول. لو أن ابن عباس روى هذا لـ أبي هريرة لرجع أبو هريرة عن قوله، لكن الذي جعل أبو هريرة يثبت على هذا القول: هو أن معه نصاً وابن عباس ليس معه نص، بل جدل عقلي. انظر! هذا خلاف بين ابن عباس وبين أبي هريرة، هل هجر أحدهما الآخر؟ لا. كما قلنا: الصحابة انتفعوا بالآيات، وانتفعوا بالأحاديث التي تحث على الترابط والتماسك، ولقد قال بعض العلماء: من عجز أن يقوم الليل، وأن يتصدق، وأن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، فليحب أخاه في الله، فإن هذا يحقق به خيراً عظيماً. وحسبنا حديث أبي هريرة: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية مجاورة، فكان هناك ملك على قارعة الطريق، قال له: إلى أين؟ قال: إلى قرية كذا أزور فلاناً. قال: هل ترى عليك له نعمة؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فأنا رسول الله إليك إن الله أحبك كما أحببته). فإذا وصل العبد إلى مثل هذه المرتبة فاز والله، لكن تجد أن روح المحبة طاشت وزالت بخلاف تافه جداً!! ربما جزئية واحدة نختلف فيها تفرقنا، ومائة ألف جزئية متفقون عليها بيني وبينك لا تجمعنا! قد أكون متفقاً معك في عشرات المسائل، متفقاً معك في العقيدة، متفقاً معك في غالب الفروع، لكن خالفتك في جزئية واحدة، تتجنبني، ولا تصلي في المسجد الذي أصلي فيه، وإذا ذكرتني ذميتني.

أدب الإمام الشافعي مع مخالفيه

أدب الإمام الشافعي مع مخالفيه ما أكمل عقل الشافعي رحمه الله! اختلف هو ويونس بن عبد الأعلى أحد تلامذته في مسألة وتفرقا، فما كان من الشافعي إلا أن ذهب إلى دار يونس، ودخل عليه، وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟! الذي أبعد هؤلاء الشباب عن جادة الصواب: أنهم لم يتتبعوا خُطا أسلافهم بحق، بل لم يتتبعوا أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة بمحبة المسلم لأخيه وعذره، وأن يلتمس له العذر؛ لذلك الفرق بيننا وبين أولئك كثير.

ضعف الاتباع عند المتأخرين لبعدهم عن زمن النبوة

ضعف الاتباع عند المتأخرين لبعدهم عن زمن النبوة فلو افترضنا أن النقطة هذه هي زمان النبوة، فالخلاف الحادث فيها كان خلافاً يزول بسرعة؛ -كما قلنا- لأنهم ما كانوا يختارون الخلاف، إذا أخذت ضلعاً أو خطاً مستقيماً من هذه النقطة، واعتبرت أن هذه هي الأوامر والنواهي، وأن هذا هو الإسلام، وأخذت خطاً مستقيماً آخر ينبع من ذات النقطة، ومثلنا الصورة هكذا هذا رأس المثلث وهذان الضلعان، كلما انحدرت إلى أسفل كلما ازدادت المسافة بين الضلعين أي: أنك كلما انحدرت وبعدت عن مصدر الضوء -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- فكلما أوغلت في الظلام بعدت، وكلما ابتعدت المسافة بين الضلعين بعد الإنسان عن زمان النبوة، وكلما بعد عن تحقيق الإسلام يكون بينه وبين الأوامر والنواهي خط طويل طويل. فلا شك أن الاتباع -اتباع النبي عليه الصلاة والسلام- فرع عن المحبة التي تكون في قلب العبد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الذي يحب النبي عليه الصلاة والسلام يستحيل أن يخالفه، أعجز كثير من المسلمين أن يكونوا كهذا الرجل الذي طاف بديار محبوبته يوماً، فقال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار مجرد أنها كانت في هذا المكان فهو يرى أن لهذا الجدار منة عليه وحقاً، أنا لا أقصد إقراره على هذا المعنى، لكن لعل المعنى الذي أريده وصل إليكم. وكهذا الرجل الذي أراد أن يهدي محبوبه يوماً هدية، ولكنه كان عاجزاً فبكى ثم قال: أرسلت دمعي للحبيب هدية ونصيب قلبي من هواه ولوعه قال اجتهد فيما يليق بقدرنا قلت اتئد جهد المقل دموعه ما أملك إلا هذا فأنا أرسله إعلاماً بالمحبة.

اقتداء الأئمة بالصحابة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

اقتداء الأئمة بالصحابة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم علماؤنا المتبوعون رحمة الله عليهم، كـ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان، والأوزاعي وهؤلاء السادة كانوا مثل أسلافهم من التابعين وشيوخهم حتى الصحابة رضوان الله عليهم، فساروا على نهجهم سيراً حثيثاً، ليت الذين يتبنون هذه المذاهب يتأدبون بالأدب الذي تحلى به إمام المذهب، اتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام الذي هو فرع عن المحبة الأصيلة في قلب ذلك الإمام العظيم، أظن قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هو قول مشتهر مستفيض عنهم جميعاً، فلا يقدمون قول أحد على قوله عليه الصلاة والسلام. هذا المعنى نظمه بعض المتأخرين، وهو الشيخ محمد سعيد حفظ المدني، وكان حنفياً ويسكن في المدينة المنورة، وغالبنا لا يعرفه، له منظومة الهدى، نظم فيها قواعد الإسلام وآدابه، منظومة رائقة جداً، يقول بخصوص هذه الجزئية -جزئية الاتباع-: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأصل بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرض على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتموا قولي مخالفاً لما رويتموا من الحديث فاضربوا الجدار بقولي المخالف الأخبار وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر ما قالت الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وذكر في هذه المنظومة أيضاً قول بعض المتأخرين من الأحناف: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يفصل بالمذهب الحنفي، فقال: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب فهذا القول من علمائنا السادة الأكابر يدل على محبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مستفيض بل متواتر من أقوالهم التي نقلت عنهم في كتب المذاهب وفي كتب غيرهم، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله لما تناظر هو وإسحاق بن راهويه في مسألة شراء البيوت، فاحتج الشافعي عليه بالحديث، فقال له إسحاق: إن الحسن وعطاء يقولان كذا وكذا. فقال له الشافعي: أنت فقيه أهل خراسان؟ قال: هكذا يقولون. قال: كنتُ أحوجَ أن يكون غيرك في موضعك فآمر بقرص أذنه، وهل لأحد قول مع قول النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولما سأله سائل: إذا جاءك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أتأخذ به؟ قال: سبحان الله! أتراني ألبس لباس الرهبان؟ أترى على وسطي زناراً؟ أتراني أخرج من كنيسة؟! أشهدكم أنه إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً فلم أقل به أنه قد زال عقلي. وكذا قاله بعض العلماء المتبوعين كـ أحمد وغيره- قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، قلت به أو لم أقل. فلله درهم برءوا أنفسهم أحياءً وأمواتاً! وكان الإمام الشافعي يقول لـ أحمد: يا أحمد! أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح عندك الحديث أعلمني به حتى أفتي عليه، -أو قال: أعلمني به حتى أقول به- كوفياً كان أو حجازياً أو بصرياً. قال الإمام الذهبي: ولم يقل: أو مصرياً؛ لأن الشافعي كان أدرى بحديث أهل مصر من أحمد، إنما قال: بصرياً كان أو كوفياً أو حجازياً ولم يقل مصرياً؛ لأنه كان أبصر بحديث أهل مصر من الإمام أحمد. فالحاصل أن الاتباع فرع على محبة النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نعلم ضرورةً أن الذي لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ما نزعم أنه لا يحبه؛ لأن عدم محبة النبي عليه الصلاة والسلام كفر، لكن نقول: إن المحبة في قلبه خفيفة، ليست هي المحبة التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها، وأن يوقر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتقدم بين يديه بقول ولا فعل، ولله در الإمام السبكي! حيث قال في رسالته النافعة: بيان قول الإمام المطلبي. إذا صح الحديث فهو مذهبي. وليتصور أحدكم إذا بلغه الحديث أنه واقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بهذا الحديث وبهذا الأمر، أكان يسعه أن يرده؟ ليتصور أحدنا أنه الآن يسمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، أكان يسعه أن يرده ويبدي التأويلات، فضلاً عن التمحلات الباردة التي يبديها بعض الناس ليفتن غيره، وذلك بتغيير دلالة الأحاديث النبوية، أكان يسعه أن يقول هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الجواب بالنفي، فكذلك لا يجوز للمسلم أن يبلغه عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث فيخالفه إلى غيره، إذ أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة المدرسة العقلانية ونقد أحد ممثليها

حقيقة المدرسة العقلانية ونقد أحد ممثليها Q السائل يقول: الغزالي يمثل المدرسة العقلانية، ما أصل هذا النهج المنحرف؟ وكيف انحدروا ووقعوا فيه؟ كما لاحظنا أن كثيراً من الشباب السذج لا يعرفون خطر هذا الانحراف. A الشيخ محمد الغزالي خطه من قديم تقريباً واحد، فالذي يتابع كتابات الشيخ الغزالي من أوائل ما بدأ يصنف، يرى أن كتابه الأخير ليس مفاجأة، إنما المفاجأة فيه أنه جمع كل الأوابد والطامات في هذا الكتاب، أما هذه فمتفرقة في كتبه كلها، فتقديم عقله على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم اكتراثه بعقول غيره هذه هي مصيبة هذا الرجل، كأنما هو الوحيد الذي يفكر ويتدبر ويفهم، تعجبت جداً! عندما أورد حديث موسى وملك الموت الذي رواه البخاري ومسلم، واعترض عليه اعتراضاً متهافتاً للغاية! فيقول: إن بعض الطلبة من الجزائر قال لي: هذا الحديث هل هو صحيح؟ فقلت له متبرماً: وما يعنيك؟ قال: أردت أن أسأل عن صحته. قال: فأجبته وأنا ضائق الصدر: الحديث مروي عن أبي هريرة. ما علاقة روايته عن أبي هريرة بالصحة؟ هو لم يقل لك: من الصحابي الذي رواه؟ إنما يقول لك: ما صحته؟ مع كون هذا الرجل يعلم أن هذا الحديث في الصحيحين، لكنه لم يصرح بأن الحديث في الصحيحين؛ لأن تصحيحه أو اعتراضه على حديث في الصحيحين دعوى فجة من مثله، لذلك هو يتبرم ويحوم ويدور ويتحاشى أن يقول: إن الحديث في الصحيحين. يقول: فلما رجعت إلى هذا الحديث في بعض مصادره -ونقل من شرح الإمام النووي كلاماً للمازري والخطابي وغيرهما- قال: ودافعوا عن هذا الحديث، ودفاعهم كله دفاع تافه خفيف الوزن لا يساغ، قال: ثم رجعت أتأمل وأتدبر فوجدت أن الحديث فيه نكارة، إذ كيف يكره الصالحون الموت؟! بل كيف يكره نبي بل رسول بل من أولي العزم من الرسل الموت؟! وهل الملائكة تصاب بالأعراض وأنه فقأ عينه؟! قال: ورفضت الحديث. رفض الحديث بهذا التفكير الذي لا يعجز عنه أسخف الناس تفكيراً من الذين لا يتمتعون بعقل راجح يقولون مثل هذا القول، كيف وهذا الرجل داعية من عشرات السنين؟! ويقول: فرجعت أفكر وأتدبر، معنى ذلك أنه فكر ملياً في الأمر، لكن (تمخض الجبل فولد فأراً)، بعد كل هذا التدبر والتفكر ما وصل إلا إلى هذه النتيجة السقيمة، ما وسعه شروح العلماء السابقين، هلا عندما يردها يردها بعلم وحلم بدلاً من أن يصف أولئك العلماء كـ ابن خزيمة والحافظ والنووي والمازري والخطابي وابن القيم وابن تيمية، وكل هؤلاء الذين مروا على هذا الحديث وغيره وفسروه تفسيراً مستقيماً، هل هؤلاء جميعاً دفاعهم تافه خفيف الوزن لا يساق؟! فهذا عجيب! لو قرأ مثلاً في فتح الباري وكلف خاطره لعلم أن في مسند الإمام أحمد رواية لهذا الحديث بسند صحيح أن ملك الموت كان يأتي الأنبياء على صورة رجل، فحينئذ سؤاله: وهل الملائكة تصاب بالأعراض؟ سؤال لا قيمة له؛ لأن الذي أصيب هو الجسم العارض، يقول: وهل الصالحون يكرهون الموت؟ يعني يقول له: أجب ربك، فيفقأ عينه ويفر من لقاء الله! هذا منكر. نقول: رجل دخل على موسى عليه السلام، ما يعرف من أين دخل؟ والباب غير مفتوح والنافذة غير مفتوحة، وهو جالس في داره إذا به يجد رجلاً يقول له: أجب ربك. وكان ملك الموت قد نزل -كما يظهر من الحديث- في هذه المرة بصورة تختلف عن الصورة التي كان ينزل بها على موسى، وكان هذا من باب الامتحان له. إذاً الخلاصة أن موسى عليه السلام رأى رجلاً غريباً في الدار، من أين دخل؟ لا يدري، فعاقبه المعاقبة الشرعية -كما يقول ابن خزيمة - وفقأ عينه، لأن الناظر في دارٍ بغير إذن صاحبها تفقأ عينه، لقوله عليه الصلاة والسلام عندما رأى رجلاً ينظر قال: (لو أدركتك لفقأت بها عينك ولا دية لك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فإذا دخل البصر فلا إذن). فلو جاءك رجل لا تعرفه وأنت في الدار وقال لك: أجب أمير المؤمنين. هل تجيب أمير المؤمنين، أو كما عهدت من أمير المؤمنين أنه إذا أرادك أرسل لك حاجباً من عنده، وعلمت أنه لا يرسل آحاد الناس، إذ لا سبيل لآحاد الناس أن يصل إلى أمير المؤمنين؟ فقال لك: أجب أمير المؤمنين حالاً، أتستجيب له؟ فهذا رجل قال لموسى عليه السلام -ولا يعرفه-: أجب ربك؛ ففقأ عينه. ولذلك لما صعد ملك الموت وقال لله تبارك وتعالى: (إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد عليه عينه وقال له: انزل لعبدي فقل له: ضع يدك على متن ثور فلك بكل شعرة مستها يداك سنة). فلما نزل ملك الموت نزل هذه المرة بصورته المعروفة، لذلك موسى لم يفقأ عينه، ولو كان الرجل غريباً أيضاً لا يعرفه موسى لفقأ عينه في المرة الثانية، أما أنه لم يفقأ عينه هذه المرة؛ لأنه نزل بصورته التي يعرفها موسى عليه السلام، حينئذ فطن موسى أن هذا كان امتحاناً له، فقال: (إن ربك يقول لك: ضع يدك على متن ثور، فلك بكل شعرة مستها يداك سنة) فعلم أن الأولى كانت اختباراً له، لذلك قال: (أي رب: ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن)، فواضح جداً أن موسى عليه السلام له مبرر أن يفعل ذلك. لكن في عجز الحديث أن موسى لم يكره الموت بل رحب به، قال: (فالآن) فهل في هذا الحديث أن موسى كره الموت؟ ثم هل الصالحون فعلاً يكرهون الموت أم لا؟ هذا الرجل يقول: إن الصالحين لا يكرهون الموت؛ لأنهم يرحبون بلقاء الله، وكذلك كل الذين لا يعتمدون على الحديث يزلون، يعتمد على عقله فقط، ولله در سفيان الثوري رحمه الله حيث قال: الحديث درج والرأي مرج، فإذا كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت. يقول: إذا كنت تتبع عقلك ورأيك وهواك فالمسافة كبيرة جداً أمامك، تنتقل من رأي إلى رأي لأنه لا ضابط لك، فالرأي والذي يتبع الرأي مرج من المروج الواسعة والفسيحة، أما الحديث فهو درج سلم، فإذا كنت على السلم احذر أن تزل قدمك فتندق فتقع على أم رأسك. يريد أن يقول: إن من يحتج بالأحاديث النبوية يجب عليه أن يحذر؛ لأنه مقيد بالنص، بخلاف الذي يعتمد على عقله إن سار يمنة ويسرة ما يضره، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن)، سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بأوامر ونواه: افعل لا تفعل كأنه مسجون، ليست هناك رغبة مطلقة لأي إنسان، كل رغباته محدودة ومقيدة، إنما الأشياء المطلقة لا يجدها المسلم إلا في الجنة، فالدنيا سجن المؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي؛ لأنه يمشي على درج. فهذا الرجل لأنه لا يعني بالأحاديث النبوية ولا ينظر فيها، ويعتمد على عقله وفهمه، بغض النظر عن أفهام الناس وعقولهم، وفيهم ألوف مؤلفة عقل أقل واحد منهم يزن عقل عشرات مثله؛ فكان هذا سبباً في زلَله، لكنه لو نظر في الأحاديث النبوية لما أقدم على هذه الدعوى، وأن الصالحين يحبون الموت. ونرد هذه الدعوى بحديثين: الحديث الأول: ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وفي آخر الحديث (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي بقبض روح عبدي المؤمن يكره إساءته وأكره مساءته) فهذا نص في أن العبد المؤمن يكره الموت، فمن أين له أن يقول: إن الصالحين يحبون الموت؟ الحديث الآخر: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت) هنا الشاهد، ولو كان الصالحون يحبون الموت لقال لها: لا يا عائشة، هناك من يحب الموت. أما وأنه أقرها على هذا القول -ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة- دل على أن إقراره عليه الصلاة والسلام لهذه الجملة في أن الصالحين يكرهون الموت. ومن مثل عائشة رضي الله عنها في الصلاح؟! (قالت: كلنا يكره الموت. قال: ليس كذلك، إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة رأى مقعده من الجنة؛ فتعجل أن يخرج من هذا الضيق إلى هذه الجنة؛ فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن العبد الفاجر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، ورأى العذاب الذي ينتظره، والنعيم الذي كان فيه قبل ذلك -بالقياس إلى هذا العذاب- كره أن تخرج روحه؛ كره لقاء الله فكره الله لقاءه) واللقاء هنا معناه الموت، للحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (واعلموا أنكم لن تلاقوا ربكم حتى تموتوا) فدل أن اللقاء هنا ليس هو وقوف العبد بينه وبين ربه ليس بينهما ترجمان لا، اللقاء في هذا الحديث معناه: الموت، كما هو مفسر في هذا الحديث. فهل في هذا الحديث ما يذكر أن يستنكر؟! وهل الرجل الذي تدبر وأمعن ونظر، ثم عبس وبسر، هل في نظره هذا أي فكرة عميقة أو أي أطروحة تستحق الاحترام؟! الجواب: لا، اعترض -كما قلنا- اعتراضاً لا يعجز عنه أقل الناس تفكيراً. المدرسة العقلية معروفة، وهي المدرسة التي لا تكترث بعلم الأثر، ثم هم يحابون كتّاب العصر وأولئك العلمانيين، حتى إن الشيخ الغزالي نفسه مشترك مع بعض النصارى في إصدار مجلة اسمها: (كل الناس) عندنا في مصر، وفيها صور خليعة لنساء، وفيها لاعبي الكرة، وفيها كل شيء، فهذا يشترك مع أولئك؛ حتى لا يقال: متزمت. فهذا الرجل من خلال كتاباته -وإن كان يقول: أنا أعتز بالإسلام، لكن يبدو أنه لا يعتز به، بل إنه يشعر بعقدة نقص إذا نسب نفسه للإسلام عند أهل الغرب، لذلك يتحاشى تماماً أن يخالف الحديثُ فكرَ أهل الغرب، ويظهر ذلك جداً في الأصل السقيم الذي يعتمده، وهو الترخص، وأخذ شواذ الفتيا من ا

الكبائر والصغائر

الكبائر والصغائر إن للشيطان خطوات للإيقاع بالإنسان، إذ يبدأ بتهوين الصغائر في نفسه، ثم يقوده إلى الكبائر، ثم إلى الكفر والعياذ بالله، ولقد حذر الله منه وبين أنه عدو مضل مبين يجب الحذر منه، والكبائر هي كل وعيد ختمه الله بنار أو بعذاب أو بلعنة أو بغضب، وأما الصغائر فقد حذر الله عز وجل منها أيضاً، ولكنها أخف من الكبائر، وبين الشارع أنه لم ينج من اقترافها أحد، فما من رجل يقع بجهل أو هوى في الصغائر فيعترف بذنبه ويتوب إلا تاب الله عليه.

خطورة موالاة اليهود والنصارى

خطورة موالاة اليهود والنصارى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإن موسى عليه السلام لما قتل الفرعوني قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، كل عدو مضل لكن ليس مبيناً، لكن صفة الإضلال صفة أساسية ورئيسة في العداوة، من ظن أنه سوف يأتيه نفعاً من عدوه فهو سادر في أودية الضلال، والذي يعتمد على عدوه أشد منه ضلالاً. فربنا تبارك وتعالى قد حذرنا وخالفنا أمره، خالفنا تحذيره، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118 - 120] كلام واضح غاية الوضوح {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118] أي: من سواكم، إذاً: لا يأتي من مخالفك في المذهب خير، سواء كان كافراً، أو كان فاسقاً، أو مبتدعاً لا يأتيك منه خير، قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران:118] يعني: لا يقصرون في إفسادكم، الخبال يعني: الفساد (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي: ودوا من قلوبهم لو وقعتم في العنت. فأفواههم ما بين الحين والحين تظهر هذه البغضاء؛ لكن لأن الحرب خدعة والحياة مكر فهم لا يستطيعون أن يخرجوا ما في صدورهم على ألسنتهم، إنما يخرج لبداً، وما تخفي صدورهم أكبر، فهل هذا الكلام العربي المبين واضح أم غامض؟ يقول تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران:118] وما من آية إلا وهي واضحة، لا يسمى الشيء آية إلا إذا كان واضحاً: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ) فهو كلام عربي واضح: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). ثم ذكر ربنا تبارك وتعالى نماذج للمفارقات بيننا وبينهم، وأنهم لا يستحقون منكم أن ترفعوا لهم رأساً، بل انبذوهم نبذ النواة، ولا ترفعوا لهم رأساً لماذا؟ لأن هناك تبايناً بينكم وبينهم: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران:119] وهم بالمقابل لا يحبونكم، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]، ولم يذكر: (ويكفرون بكتابكم)؛ لأن هذا الإضمار فيه وضوح، إنما صرح في الأولى لأن كل شيء يبني على الحب والبغض، ما من حركة في الكون أو سكنة إلا يتبعها حب أو بغض: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فإذا كانوا يكرهونكم فالإضمار أقوى وأبلغ. {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119] لا يقول: ويكفرون بالكتاب كله؛ لأنه واضح، إذا فارقناهم في المحبة فكل شيء يأتي بعد المحبة ضرراً علينا، فيكون الإضمار أقوى من التعريف. كما قال ربنا تبارك وتعالى في قصة يوسف لما نادى على صواع الملك: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74 - 75] هذا أقوى من أن يقال: يسجن، يعاقب، يجلد، {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] أي: ما خطر ببالكم عقوبة له يستحقها. فإضمار الجزاء أقوى من تعيينه، كذلك إضمار تكذيبهم للكتاب أقوى من تعيينه، لاسيما بعدما ذكر التباين في المحبة: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران:119]، هذه الآيات في غاية الوضوح، أنه لا يأتيك من عدوك نفع على الإطلاق، وذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآيات نزلت في اليهود، وما ندري والله ما الذي يجري، فألسنتهم تنطق بالسوء، هذا واضح غاية الوضوح: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] ونحن نعلم، ومع ذلك عز علينا أن نقول مثل ما قال الشاعر العربي -لما حدث بين قومه وبين آخرين موادعة ومهادنة، وكان الآخرون يعتدون عليهم، فاتفقوا أن يفتحوا صفحة جديدة، فإذا بهؤلاء يغدرون مرة أخرى، فقال هذه الأبيات التي اختارها أبو تمام وأودعها في ديوان الحماسة، ثاني قطعة في هذا الديون الكبير، وهي أبيات يصح أن أقول فيها: إنها شعار المرحلة، يقول: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا لكنهم لئام، فرجعوا مرة أخرى ونقضوا العهود، قال: فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ شر صريح وواضح، وعريان، غير مستتر، ولم يبق سوى العدوان، لا نقول: نحن مصرون على السلام، ولابد من السلام، ولابد من دفع عجلة السلام لا وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَان بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ كل هذه مشيات للأسد. وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلاْنُ الزق: قربة من جلد، إذا كانت ملآنة ونخستها بإصبعك يفيض الماء، يريد أن يقول: كفى فقد بلغ السيل الزبى، هذا معنى الكلام وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ مثل أن يضرب شخص شخصاً آخر فيقول المضروب: الله يسامحك، فيضربه مرة ثانية، فيقول: الله يسامحك، يظل يضربه مائة مرة وهو يقول: الله يسامحك، لا، هذا اسمه: إذعان وخضوع واستسلام، ولا يجوز أن يقال: حليم، إنما يقال: ضعيف، سموا الأشياء بمسمياتها حتى لا ينخدع الناس، لا تقل: هذا حلم، قل: هذا ضعف. وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ مددت يدك مرة واثنين وعشراً وعشرين ومائة ومع ذلك فهو لئيم، يضرب اليد التي امتدت إليه للسلام، لم يبق إلا الشر، هذه هي سمات العدو، وهذه هي طريقة الرد على العدو.

الشيطان يوقع الإنسان في الكبائر

الشيطان يوقع الإنسان في الكبائر إن أعدى أعداء الإنسان الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الشيطان ذئب الإنسان)، وقد ذكرنا قبل ذلك: أن هذا الشيطان نصب فخوخاً لبني آدم ستة تندرج تحتها كل أجناس الشر، وهي تترقى إلى أسفل، وقد يتعجل المرء، فهذا عدوك يترقى بك في المهالك إلى أعلى، فكيف يترقى الشيطان بك إلى أسفل؟ الشر الأول: أن يوقعه في الكفر، فإن نجا العبد من الكفر أوقعه في البدعة، فإن نجا من البدعة أوقعه في الكبيرة، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، إذاً: هذا تدني وتدرج لأسفل، وهذا لا يناسب كيد الشيطان، فيقال: إن هذا تدرج يائس مفلس، يريد أن يوقع بك الضر على أي وجه، لا يدعك سالماً على الإطلاق. يبدأ بالكفر، فإن نجا لا يتركه، لكن يتدرج به إلى أسفل رجاء أن يرجع به مرة أخرى إلى الكفر. هناك كلمة حسنة يقولها علماء السلف، يقولون: إن المقاتل لا يغير عقيدته، ولكن يغير موقعه. أنت رجل لك هدف، إذا مضيت في هذا الطريق القصير اعترضتك عقبات كثيرة، فليس من الحكمة أن تدخل وتجابه كل هؤلاء الأعداء في هذا الطريق، لكن ارجع إلى الوراء وابحث عن طريق آخر ولو كان بعيداً، المهم أن تصل سالماً. إذاً: رجوعك القهقرى إلى الخلف ليس هزيمة، ليس النصر أن تكسب أرضاً، وأن تتقدم إلى الأمام إذا كان في التقدم عطبك، اعلم أن النصر ألا تدمر وتهلك، ولذلك فإن القادة العسكريين يجعلون رجوع الجيش سالماً منهزماً من أبواب النصر؛ لأنه يستطيع أن يهاجم بهذا الجيش مرة أخرى، لكنه لو استمر على مواجهة العدو بدون سلاح قوي فهذه الهزيمة. فهذا الشيطان إن عجز أن يلقيك في الكفر يتدنى بك الصغائر ثم الكبائر، ثم إلى الكفر مرة أخرى. البدعة بريد الكفر وبوابته، وكذلك الكبائر إن أصر العبد عليها واستحلها كفر، إذاً: أخذه من الكبائر إلى الكفر، وقد يأخذه من باب المباح ويلقيه في الكفر، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] إنها خطوات ماكرة خفية، فقد يدخل الكفر من باب المباح وهو لا يدري. فتكلمنا عن الكفر، وتكلمنا عن البدعة، والآن نتكلم عن الكبائر:

سبب تسمية الكبيرة وأقسامها

سبب تسمية الكبيرة وأقسامها إنما سميت الكبيرة كبيرة لجسامة جرمها، وأنكر جماعة من المعتزلة أن يكون في الذنوب صغائر وكبائر، قالوا: (كل ذنب كبير إذا قيس بجانب الذي عصيته)، ويقول بلال بن سعد: (لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظم من عصيت)؛ لذلك عظموا المعصية، وقالوا: إن كل ذنب كبير. وهذا خطأ، وهو مخالف للشرع وللعقل. أما مخالفته للشرع: فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وهذه الآية واضحة، فجعل الذنوب كبائر، وفواحش، ولمماً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك؟) ونزل في ذلك قول الله تبارك وتعالى مصدقاًَ كلام نبيه ومرتباً: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]. الذنوب فيها كبير، وفيها أقل، وفيها أقل، ومن جهة العقل فقد اتفق العقلاء: أن من لطم رجلاً ليس كمن قتله، فإن من قتل رجلاً بحديدة فأرداه لا يعامل -لا في أعراف البشر، ولا في أحكام الله عز وجل- معاملة الذي لطم. فكما أن الإيمان يتفاوت، فكذلك الظلم يتفاوت، وكذلك الفسق يتفاوت، وكذلك الذنوب تتفاوت، فهناك ذنوب كبيرة، عظيمة جسيمة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منها نحو ثلاثين كما في الأحاديث الصحيحة، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب) يشير إلى أن الكبائر لا تنحصر لا في سبع ولا في تسع، إنما مجموع ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الكبائر يصل إلى ثلاثين، وقد اتكأ كثير من العلماء الذين صنفوا في الكبائر على أحاديث ضعيفة، لكننا لا نعول إلا على الصحيح. إذاً: ما هي الكبيرة؟ وما حدها؟

تعريف الكبيرة وحقيقتها

تعريف الكبيرة وحقيقتها الكبيرة هي: كل وعيد ختمه الله عز وجل بعذاب أو بنار أو بلعنة أو بغضب، كل هذا كبيرة، وكل معصية أوجبت الحد فهي كبيرة، وألحق العز بن عبد السلام بهذا: من استهان بالذنوب حتى لو تبين له أنها حلال، نضرب مثلاً لذلك: لو أن رجلاً أراد أن يزني فوطئ امرأة، فاكتشف أنها زوجته، هل الإثم ينحط عن هذا الإنسان؟ A لا، كذلك لو أقدم على قتل إنسان يظنه معصوم الدم -أي: لا يحل له أن يقتله- فاكتشف عندما نظر في جثته أن هذا قتل أباه أو أخاه، وأن دمه هدر، فهذا يؤاخذ؛ لأنه لما قتل كان يعتقد أنه يقتل معصوم الدم، ولا عبرة في أن يقول: إن هذا كان حلال الدم؛ لأنه قتل أبي أو قتل أخي فوجب منه القصاص، وهذان المثلان ضربهما العز بن عبد السلام فيمن يستهين بالذنوب. فالكبيرة هي ما ختم بعذاب أو غضب، كقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذا واضح أنه من أكبر الكبائر، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر هذا من السبع الموبقات، التي بدأها بـ: (الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) أي: ينبغي أن يقتل بحق: إما زنا بعد إحصان، أو ردة عن الإسلام، فالقتل العمد من السبع الموبقات، ولقد ختمه الله عز وجل بخمس عقوبات. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا بكل أسف استهان به كثير من المسلمين، مع أن العقوبة مضاعفة على صاحبها!: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -هذه كلها تؤذن بأن الذي سيأتي من الكبائر-: المسبل إزاره) الذي يطيل الإزار تحت الكعبين، والكعب: هو العظم الناتئ في أعلى القدم، وهناك كثير من المسلمين يجرجرون أزرهم، ويقولون: المهم القلب، ويقولون: نحن لا نفعل ذلك خيلاء، وحسبك ما ورد من الوعيد في مقدم الكلام: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -كيف يقال: هذه قشور، أو هذه صغيرة وقد تقدمها هنا الوعيد؟! -: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) في الأسواق يحلف بالأيمان الغلاظ أن هذه السلعة جيدة وممتازة، وهو يعلم أن هذه السلعة مكتوب عليها: صنعت في بلد كذا، وهو الذي وضع هذه الصناعة، كثير من التجار يسأل، مثلاً عن البضاعة اليابانية فيجد لها قيمة، وجميع الناس يقبلون عليها، فهل يجوز لنا أن نأتي ببضاعة من الصين أو من أي بلد ونضع عليها صنع في اليابان، والناس يقبلون على ذلك؟ فهذه سرقة، وحرام شرعاً. كذلك تغيير مقاسات الملابس، يعلمون مثلاً أن المقاس الأكبر هو المطلوب، فيأتي التاجر على المقاسات المتوسطة ويضع عليها مقاساً كبيراً، فأنت تنظر إلى الورقة الموضوعة على الملابس وتشتري، ثم تجد أن هذا الذي كنت تظن أنه يلائمك، على مقاس ولدك الصغير، وهذا كله حرام وغش وفسق، ولا يجوز، ويحلف بالله العظيم أن هذه السلعة صنعت في اليابان، أو في البلد الفلاني، فهذا ينفق سلعته بالحلف الكاذب. وقوله: (والمنان) -الذي إذا فعل منّ- فهذه كلها تؤذن أنها من الكبائر. فالكبيرة: ما لعن فاعلها، وهذا ما ذكره العلماء في الحد، إذا لعن الله أحداً أو لعن رسوله أحداً فقد ارتكب كبيرة، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) وهذا الحديث من الأحاديث التي فيها جواز لعن المعين، كما في الحديث الحسن: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن جاري ظلمني. فقال له: خذ متاعك، وقف على قارعة الطريق. فأخذ الرجل متاع البيت ووقف على قارعة الطريق، فمر رجل، فقال: مالك يا فلان؟ فقال: جاري ظلمني. فقال: لعنه الله، قاتله الله ومضى. وجاء آخر فقال: مالك يا فلان؟ فقال: ظلمني جاري؛ فقال: لعنه الله، قاتله الله ومضى. وجاء ثالث -وهكذا دواليك، والجار يسمع- فجاء الجار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! مره أن يرد متاعه إلى الدار فإن الناس لعنوني). وفي النساء المتبرجات قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العنوهن إنهن ملعونات) المرأة التي تسير في الطريق متبرجة كاشفة عن شعرها ونحرها وصدرها وساقيها ويديها قال: (العنوهن إنهن ملعونات) لا تقل: لعنة الله على فلانة بنت فلان لا، لكن قل: لعنة الله على المتبرجات، فهذا يشمل جنس المتبرجات، ولكن لا نلعن فلانة بنت فلان؛ لاحتمال أن تتداركها رحمة الله عز وجل فتتوب، وأصل اللعن: الطرد من الرحمة. فأيما نص وجدت فيه لعناً لصاحبه فهذا داخل في أبواب الكبائر. أسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم كبائر الذنوب وصغارها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حقيقة اللمم وعدم انفكاكه عن الإنسان

حقيقة اللمم وعدم انفكاكه عن الإنسان الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] (اللمم): ما يلم بك مما لا تستطيع دفعه، فيقع المرء فيه إما بجهل وإما بهوى. و (اللمم): الصغائر. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل ابن آدم خطاء) فأنت لا تنفك عن ذنب أبداً، لابد أن تقع في الذنب، فاجتنب الكبائر، فإذا وقعت في الصغائر بجهل أو هوى غفر الله لك؛ لأنه قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] أي: أنه لم يسوِ اللمم بالكبائر، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، إذ كل ابن آدم خطاء، فلابد أن يصيب ذنباً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي. ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً، فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب؛ غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً، فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب؛ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) أي: ليس إذناً أن يفعل ما يشاء؛ لكنه طالما يعترف أنه مذنب، ولا يجحد أنه عاصٍ، ويرجع إلى ربه؛ فإن الله أكرم من أن يبقي الذنب عليه بعد اعترافه. فهذا الحديث من جملة أحاديث كثيرة تبين أن العبد لابد أن يقترف الذنب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة) لابد أن يأخذ حظه من الزنا، قال: (فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). فاللمم الذي أشار إليه ابن عباس: كل شيء ما عدا الفرج. هذا هو اللمم الذي لابد أن يقع فيه ابن آدم، من الذي لم ينظر إلى ما حرم الله؟ من الذي لم يتكلم بما يغضب الله؟ من الذي لم تسمع أذنه إلى ما حرم الله من الغيبة والنميمة والتجسس؟ من الذي ما ضرب ظلماً؟ من الذي ما خطا برجله إلى معصية؟ من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط فهذا كله من اللمم. فإذا وقع العبد في زنا الفرج سمي زانياً، ولا يسمى زانياً -أي: الذي يوجب الحد الشرعي كالجلد والرجم وغيرهما- إذا نظر إلى المحرمات، ولا يسمى زانياً إذا بطش، إنما يسمى زانياً شرعاً وعرفاً إذا صدق الفرج ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحسن في الجاهلية فأسلم أعطاه الله عز وجل أجره مرتين، ومن أساء عوقب بالأول والآخر) فالفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه؛ ولذلك كان الفرج هو الكبيرة، وكل ما عدا ذلك من مقدماته فهو اللمم. وفي الحديث الصحيح (أن رجلاً قابل امرأة في الطريق، ففعل معها كل شيء إلا الجماع، فبينما هو يمشي إذ دخل في حائط، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني فعلت كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام حتى نزل قوله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال: يا رسول الله! أهذه لي أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة). فما من رجل يقع بجهل أو هوى في شيء من اللمم فاعترف بذنبه وتاب؛ إلا تاب الله عز وجل عليه، فهذا وعد الصدق الذي وعدنا ربنا تبارك وتعالى، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

من للإسلام في زمن الغربة [2]

من للإسلام في زمن الغربة [2] رمى أعداء الله هذا الدين الحنيف عن قوس واحدة، وكان في طليعتهم المرتدون من بني جلدتنا، فأثخنوا في الأمة، واضرموا نار الفتنة، ونفثوا السموم، فمنهم من أعلن عداءه للدين، ومنهم من أيد بصمته عن الباطل ودعمه لمتبنيه، فلا مخرج من هذا الاستضعاف إلا بالعودة إلى كتاب الله، والالتزام بنهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم

تطبيق حد الردة في زماننا

تطبيق حد الردة في زماننا إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا هو حكم المرتد، من رضي بالكفر بعد الإيمان حكمه القتل سواءً كان رجلاً أو امرأة؛ كما قال علماء العربية والأصول أن: (مَن) و (مَا) والأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم والألف واللام التي تفيد الاستغراق من صيغ العموم أيضاً، ولفظة: (كل) و (جميع) أيضاً من صيغ العموم، فحيثما وجدت كلمة من هذه الكلمات في أي سياق فاعلم أن السياق يستغرق أفراد الجنس. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)، هذا يفيد العموم سواء كان رجلاً أو امرأة؛ وإنما دعاني إلى هذا القول أنه ورد حديث في بعض الكتب أنكره علماء الحديث، وبكل أسف تبناه بعض الفقهاء في كتبهم وقالوا بمقتضاه، وخصصوا به هذا العموم، وهو الحديث المنكر الباطل بإجماع علماء الحديث وهو: (إذا ارتدت المرأة لا تقتل)، وهذا خصوص أو تخصيص، وسلطوا هذا الحديث على الحديث العام: (من بدل دينه فاقتلوه)، فكانت النتيجة أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وأن الرجل إذا ارتد يقتل، ولكن الراجح أن هذا العموم قد سلم من التخصيص، ولا معارض له، وهو يشمل الرجال والنساء معاً.

كيفية الخروج من مرحلة الاستضعاف

كيفية الخروج من مرحلة الاستضعاف خروجنا من هذا المأزق بإعادة النظر في التعليم الشرعي، تقدم لي مشكلات وبكل أسف من طلبة في المعاهد الأزهرية نجحوا بتقدير عال (90%) و (93%) و (87%)، والطالب منهم يريد أن يدخل كلية الشريعة؛ لأنه مؤمن برسالة معينة، ويريد أنه يصل إلى درجة أستاذ في كلية الشريعة، يريد أن ينصر الله ورسوله، فيعترض عليه أهله، ويقولون له: تطلع في الآخر (فقي)؟!! أربيناك من أجل أن تكون في الأخير (فقي)؟! ومعنى كلمة (فقي) أي: فقيه، فكيف كانت هذه هي النظرة للفقه والفقهاء؟ كانت بسبب الإعلام الرسمي الذي حط من منزلة الفقهاء. فيأتي لك بفلم، وولد خطب بنتاً من أهلها باسم الحب، ويريد أن يتزوجها باسم الحب، فيذهبون إلى مأذون يلبس العمامة والكاكولا، فيقول لهم: خلصونا بقا!! وهل هي في اللغة العربية لفظ (بقا)؟! فما المقصود من هذه العملية؟ المقصود منها تحقير هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، ولا زالوا يحطون من قيمة أساتذة العربية، من أيام دانلوك الذي وضع نظام التعليم القذر في بلادنا ونحن زرعناه في البلاد العربية، بينما مدرس الإنجليزي طيلة عمره محترم، وحصة الإنجليزي والفرنساوي والفيزياء والكيمياء تكون الحصص الأولى، وحصص اللغة العربية تكون الحصص الثالثة والرابعة، أما حصة الدراسات الإسلامية فلا تكون إلا في السادسة، عندما يكاد الطالب أن يقفز من فوق السور، ووصل إلى درجة من الإعياء أنه لم يعد قادراً على استيعاب أي شيء. وفي نفس الوقت رفعوا درجات اللغة الإنجليزية، ورفعوا مرتب أستاذ اللغة الإنجليزية، فإذا كان مدرس اللغة العربية يأخذ أربعة جنيهات فإن مدرس الإنجليزي يأخذ اثني عشر جنيهاً، وهذا فيه تحقير، إذاً: من سيدخل قسم اللغة العربية إذا كان سيأخذ أربعة جنيهات؟! لذا فالأب يقول لابنه: ادخل يا بني قسم اللغة الإنجليزية حتى تحصل على إثني عشر جنيهاً، ومضافاً إلى ذلك الدروس الخصوصية، ولأنك ستكون ترجماناً، والترجمة الفورية مطلوبة في كل مكان. ثم أعطوا مادة الإسلامية لمدرس اللغة العربية؛ لأن مدرس اللغة العربية مستواه الاجتماعي منخفض، فعندما يعطونه حصة الدين يكون الدين كذلك، ويأتون بمدرس اللغة العربية وهو يلبس (البنطال أبو الحمالات) وكل دقيقة يشد ويمط في (حمالات البنطال والحمالات تلسع) ويجعلون منه أضحوكة، ما المقصود من هذا الكلام؟ المقصود تحقير اللغة العظيمة التي نزل بها القرآن، وهذا مخطط قديم ورهيب، وأنا ألح عليكم أن تقرءوا رسالة: (في الطريق إلى ثقافتنا)، لأستاذنا الجليل الشيخ محمود شاكر حفظه الله، وهذه الرسالة فيها تاريخ تغريب التعليم من أيام محمد علي الذي يطلق عليه باعث النهضة الحديثة إلى الآن، رسالة يشيب شعرك وأنت تقرؤها، والشيخ محمود شاكر كانت له مساجلات عظيمة على صفحات مجلة الرسالة يوم أن كان لها قيمة، ثم نشر هذا التراث على شكل كتاب باسم أباطيل وأثمار، اقرءوا هذا الكتاب، فهو دفاع عن العربية وذود عن حياضها، ضد لويس عوض، وعبد العزيز فهمي الذي كرموه بأن عملوا اسمه على مترو مصر الجديدة. إذا ذهبت لتركب من مصر الجديدة ترى على المترو اسم عبد العزيز فهمي، والذي كان يطالب بأن تحل اللغة العامية محل اللغة العربية، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله الأخ الأكبر للشيخ محمود شاكر له رسالة عظيمة في الرد على عبد العزيز فهمي، معارك على كل الجبهات، أين رجالنا على كل الجبهات؟ هل عندنا كوادر يقاتلون هؤلاء؟ لا. ليس عندنا كوادر، إنما عندنا أشباه فقط، ومن أعظم أبواب الخلل اشتباه العالم بشبيه العالم؛ لأن الجاهل يأتي فيتزيا بزي العالم، فيظنه الناس عالماً، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك، ويذكرني هذا بأبيات لـ تأبط شراً، وهو شاعر جاهلي اسمه ثابت بن جابر، ولقبوه في كتب الأدب بـ تأبط شراً، فيحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني أن رجلاً ثقفياً أحمق قابل ثابت بن جابر، وكان تأبط شراً رجلاً ضعيف البنية، فقال: بِمَ تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال له: باسمي! ساعة أن ألقى الرجل فأقول له: أنا تأبط شراً ينخلع قلبه!! فآخذ منه ما أريد، فقال له: بهذا فقط؟ قال: فقط. ففكر الثقفي قليلاً وكان يكنى بـ أبي وهب، فقال له: هل تبيع لي اسمك؟ يعني طالما أنك تخوف الناس باسمك فلماذا لا تبيعه لي؟ فقال له تأبط شراً: بكم تشتريه؟ قال له: بهذه الحلة الجيدة وبكنيتي، فقال له تأبط شراً: وافقت، فخلع الرجل حلته، وقال له: هذه الحلة وأنت أبو وهب، فقال له: هنيئاً لك، وأنت تأبط شراً، واتفقوا على ذلك، وهذا لا شك أنه حمق عظيم، وقام تأبط شراً بكتابة أبيات وأرسلها إلى امرأة الثقفي يقول فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه اكتنى بي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأسٌ كبأسي وسَوْرَتي وأين له في كل فادحةٍِ قلبي أي: هو أخذ اسمي، لكن هل أخذ قوة قلبي، وأخذ جرأة جناني وجلدي على الأحداث؟! ما أخذ ذلك، فتزيا أبو وهب بزي القوي، وتصور نفسه أنه تأبط شراً وذهب إلى ذي بأس ماذا سيقول له: أنا تأبط شراً (بصوت شاحب منخفض)؟!!! مع أن الرجل ليس له قلب شجاع أصلاً. مثلما حصل في حرب الخليج، إذ صرح الرئيس الأمريكي وقال: نحن نناشد الرئيس العراقي صدام حسين ألا يريق الدماء! ونحن نعلم أن جيشه رابع جيش في العالم، وأن لديه خبرة في الحرب الميدانية؛ فهو يحارب منذ ثماني سنين، ونحن قد جهزنا ثمانية عشر ألف كفن، فيقول صدام حسين: حقاً أمريكا تخاف مني!! فماذا عملوا به؟ لعبوا به وأدخلوه الحرب، مثل الأحمق الثقفي، ليس له قلب ولا ساعد وظن نفسه تأبط شراً، وذكرني بالمثل الخرافي الذي كان يحكى لنا من زمان وهو: كل شخص يقتل يحل محله عفريت، فيحكون مرة أن هناك رجلاً عجوزاً قُتل، فعفريته ضروري أن يكون على عكاز، المهم أن العفريت عندما طلع بعدما قتل الرجل كان ماسكاً للعكاز ولا يستطيع أن يقوم من مكانه، فكان هناك رجل يمشي هكذا، فقال له العفريت: يا بنيّ! خذ بيدي حتى أقوم لأخيفك؟ فاليوم عندما يلبس رجل العمامة وكاكولا ويجلس على كرسي، أو يقولون له: أنت مدير الأوقاف، أو أنت مقيم شعائر، أو أنك في لجنة الفتوى، هو ليس بعالم وليس عنده مؤهلات العلماء، لكن الحكاية طلعت في دماغه وكبرت، وهذا من أعظم أبواب الخلل. لذلك نحن نضع دائماً صورة العالم الرباني الذي يرجع إليه؛ حتى لا يلتبس عليكم، فالناس الذين يذهبون إلى مقيمي الشعائر ليحصلوا منه على فتاوى في الطلاق هذه جناية على الفروج؛ لأنهم جهلة لا يعرفون حدود الطلاق ولا الرجعة. إذاً: معرفة العالم مسألة ضرورية في مرحلة الاستضعاف، حتى تعلم من العالم الذي إذا ناداك قلت له: لبيك، ومن شبيه العالم الذي إذا ناداك أخرسته، وعرفت أنه لا يتبع، إذاً: مرحلة الاستضعاف مرحلة خطيرة جداً، ونحن في مفترق الطرق. هذه مقدمةٌ ضرورية في كلامنا على الاستضعاف، فنحن سوف نرسم البيت المسلم الذي ينتج لنا ديناً يستحق التمكين، إذا أردت أن يمكن لولدك فماذا تفعل؟ افعل كذا وكذا وكله من القرآن والسنة كما هو دأب علمائنا، إذ في القرآن والسنة كفايةٌ لمن اعتبر وادكر، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كفريات نصر أبو زيد

كفريات نصر أبو زيد نصر أبو زيد أستاذ اللغة العربية والدراسات الإسلامية في كلية دار العلوم اعتمد في الحكم بردته على ما قررته محكمة النقض وبما أنهم رجال قانون فإنهم يتعاملون مع النصوص، فلما قرءوا كلام الرجل -وهم أناس يتعاملون مع النص- خرجوا بالنتائج الآتية من كلام الرجل، وهذا تقرير محكمة النقض خرج في أربعة وثلاثين صفحة وقد قرأته، وسأقرأ عليكم منه من ص (20) إلى ص (24)، والتي فيها مجمل ما ذكر الرجل في كتبه، وكان من المفروض أن يكتب هذا التقرير في كل الصحف الرسمية؛ نصراً لله ورسوله ولدينه وإعزازاً للمؤمنين، بدلاً من مجلة السيارات التي تنشر في أخبار اليوم، والإعلانات التي تأخذ نحو عشر صفحات، هذا أولى أن ينشر على الناس ذراً للرماد في عيون المارقين، وهناك مجلة كاملة لنشر الفاحشة اسمها (مجلة الحوادث)، تنشر الشر بالتفصيل الممل المقيت، والشباب في هذه الأيام عاطلون، يريد أن يضيع وقته، فيقرأ هذه المجلة، ويخطر على باله أن ينفذ بعض هذه التفصيلات التي يقرؤها. ألا تتعجبون من الجرائم التي تقع في المجتمع ليل نهار! هذه بضاعتكم ردت إليكم، كان من الأولى أن ينشر هذا التقرير إعزازاً للمؤمنين ونصراً لدين الله عز وجل، لكن نحن بهذا الصوت الضعيف لعل الله عز وجل أن ينقله، ويتخلل إلى أفئدتكم فتعملون بما أمركم الله عز وجل به. فاسمعوا هذا الذي ذكرته محكمة النقض التي لم تسلم من الإهانة والتجريح، واتهموهم بأنهم دخلوا مع الإرهابيين في صف واحد، وبعدما كنا نحارب الإرهابيين فيا فرحة الإرهابيين بهذا التقرير، يقولون: ويكفي عند جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية لاعتبار الشخص مرتداً أن يتعمد إتيان الفعل أو القول الكفري ما دام قد صدر عنه بقصد الاستخفاف أو التحقير أو العناد أو الاستهزاء، ولا يندفع حكم الردة إذا تحقق ما تقدم، وإن ادعى المرتد أنه مسلم؛ لأنه اتخذ موقفاً يتنافى مع الإسلام؛ لأن الزنديق يموه بكفره، ويروج عقيدته الفاسدة، ويبطن الكفر ويدعي الإسلام. وبعد هذه المقدمة، قالوا: وكان الثابت مما أبداه الطاعن الأول -الذي هو نصر أبو زيد - في مصنفاته المبينة بالأوراق -أنها تضمنت وفقاً لطريق دلالتها وما لا احتمال معه لأي تأويل جحداً لآيات القرآن الكريم القاطعة بأن القرآن كلام الله، يقول: إن هذا من صنع البشر، إذ وصفه بأنه منتج ثقافي، يعني: مثل أي سلعة، وأن الإيمان بوجود قيزيقى يناقض الحقيقة، ويعكر الفهم العلمي للنصوص، هذا كلام المرتد، وينكر سابقة وجود القرآن في اللوح المحفوظ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]، ينكر أنه في كتاب مكنون، وينكر سابقة وجوده في اللوح المحفوظ، ويعتبره مجرد نصٌ لغوي!! ويصفه بأنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأنه تحول إلى نصٍ إنساني متأنث، منحياً عنه صفة القدسية استهزاءً بقيمته، وينكر أن الله تعالى هو الذي سمى القرآن بهذا الاسم، جاحداً للآيات القرآنية التي صرحت بذلك مع كثرتها، وذكر في أبحاثه: أن الإسلام ليس له مفهوم موضوعي محدد منذُ عهد النبوة إلى يومنا هذا، وهو قولٌ هدف منه إلى تجريد الإسلام من أي قيمة أو معنى، ووصفه بأنه دينٌ عربي لينفي عنه عالميته وأنه للناس كافة، ووصف علوم القرآن بأنها تراث رجعي، وهاجم تطبيق الشريعة، ونعت ذلك بالتخلف والرجعية، زاعماً أن الشريعة هي السبب في تخلف المسلمين وانحطاطهم، ويصف العقل الذي يؤمن بالغيب بأنه عقلٌ غارقٌ في الخرافة، وصرح بأن الوقوف عند النصوص الشرعية يتنافى مع الحضارة والتقدم، ويعطل مسيرة الحياة، ويتهم النهج الإلهي بتصادمه مع العقل بقوله: (معركةٌ تقودها قوى الخرافة والأسطورة باسم الدين والمعاني الحرفية للنصوص الدينية، وتحاول قوى التقدم العقلانية أن تنازل الخرافة أحياناً على أرضها) انتهى كلام المرتد. قالت المحكمة: وهذا من الكفر الصريح، وكشف الله عز وجل عنه بقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، والأساطير هي الأباطيل أو الأحاديث التي لا نظام لها، ومفردها (أسطورة) وهو ما نعت به الطاعن، الدين والنصوص الدينية؛ زاعماً أنهما ينطويان على خرافة، ويقول: إن تثبيت القرآن في قراءة قريش كان لتحقيق السيادة القرشية التي سعى الإسلام لتحقيقها، وكأن القرآن لم ينزل إلا لتحقيق سيادة قريش، ويهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويلمزه بقوله: (موقف العصبية القرشية التي كانت حريصةً على نزع صفات البشرية عن محمد وإلباسه قدسيةً إلهيةً تجعل منه مشرعاً). وينكر حجية السنة النبوية، وأن الإسلام دين الوسطية، ويدعو إلى المروق من النصوص الشرعية بقوله: (لقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر -لا من سلطة النصوص وحدها- قبل أن يجرفنا الطوفان). وأبحاثه فيها اتهامٌ للقرآن والسنة والصحابة والأئمة، ومنهم الشافعي وأبو حنيفة بالعصبية الجاهلية، فحارب الإسلام في نصوصه ومبادئه ورموزه، واعترض على نصيب البنات في الميراث؛ راداً بذلك على ما ورد في القرآن الكريم بنصوص قطعية محكمة في هذا الصدد، وتمادى في غلوه بالدعوى إلى التحرر من النصوص الشرعية، يزعم أنه ليس فيها عناصر جوهرية ثابتة، وأنها لا تعبر إلا عن مرحلة تاريخية قد ولّت، وهذا ظنٌ بشرع الله تعالى أنه غير صالحٍ لكل الأزمنة، ويصف اتباع النصوص الشرعية بالعبودية، وينكر أن السنة وحيٌ من عند الله عز وجل، ويدعي أنها ليست مصدراً للتشريع، متحدياً بذلك الآيات القرآنية العديدة التي وردت في هذا الشأن على خلاف إجماع الأمة، وسخر من أحكام الجزية وملك اليمين، مصوراً الإسلام بالتسلط برغم تسامحه وحظه على عتق الرقاب، وأنكر أن الله ذو العرش العظيم، وأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وأن من خلقه الجنة والنار والملائكة والجان، رغم ورود آيات القرآن الكريم قاطعة الدلالة في ذلك، متجاهلاً هذا. وسخر من نصوص الكتاب العزيز، مستخفاً به بقوله بما معناه: إن النص القرآني حول الشياطين إلى قوة معوقة، وجعل السحر أحد أدواتها، بما معناه: أن القرآن حوى كثيراً من الأباطيل، وسار على هذا النهج المضاد للإسلام في مقاصده وعقائده وأصوله بجرأة وغلوٍ وتجريح، نافياً عن مصادره الرئيسة ما لها من قداسة، ولم يتورع في سبيل ذلك أن يخالف الحقائق الثابتة حتى التاريخية منها، وكان هذا هو منهجه، وهو مدرك لحقيقته وفحواه في ميزان الشريعة، إذ أنه نشأ مسلماً في مجتمع إسلامي، ويعمل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، ويقوم بتدريس علوم القرآن، ومثله لا تخفى عليه أحكام الإسلام وأركانه وأصوله وعقائده، بل إنه يدعي الفقه والعلم وذلك حجةٌ عليه، وإذ هو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة بالنسبة لأي مسلمٍ لم ينل حظاً من التعليم أو الثقافة الدينية؛ فإنه يعد مرتداً عن دين الإسلام؛ لإظهاره الكفر بعد الإيمان، وما تذرع به من أن ما صدر عنه من قبيل التأويل فهو مردود، إلى آخر الكلام والحيثيات التي نشروها في محكمة النقض. هذا الكفر كله أخرج من عدة كتب، ولو وزع كفره على أمةٍ من المؤمنين لدخلوا النار جميعاً، فماذا بقي إذا كان يحتوي على الأباطيل والخرافة تسيطر عليه؟ وماذا بقي لنا من بيان الرسول عليه الصلاة والسلام؟

وجود الردة في هذا العصر

وجود الردة في هذا العصر هذا الرجل على ملته خلقٌ كثير؛ لكنه تجرأ ونطق، وهم جبنوا وخرسوا فلم ينطقوا، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في كل نفس داعية الألوهية، فكل شخص على استعداد أن يكون إلهاً، وتجد الرجل المتواضع الذي كان معك في الحارة وتربى معك تدرج حتى وصل إلى قمة الهرم في رئاسة الناس، وإذا به يقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعباد، هو قال هكذا، لم يقل: للعبيد؛ حتى لا يقبض عليه أحد، فإذا قلت له: أنت تتخذ ألفاظ الألوهية التي قالها المولى جل وعلا في القرآن، يقول مجيباً عليك: لا. القرآن قال: (للعبيد)، وأنا قلت: للعباد، فإذا أصابه مغص يجأر ويعظ الأرض. فكل نفس فيها داعية الألوهية، كما حدث لفرعون، قال ابن القيم رحمه الله: لكن فرعون تجرأ فأظهر، وغيره جبن فأضمر، فهؤلاء الجبناء الذين يدافعون عنه على صفحات الصحف والمجلات هم على نفس عقيدته، لكنه هو الذي عبر.

غياب العدالة والحدود في بلاد الإسلام

غياب العدالة والحدود في بلاد الإسلام حكم الله عز وجل في هذا المرتد أن يحضروه، ولو أرادوه لأتوا به، فحكم الله عز وجل أن يقتل هذا المرتد، لكن بكل أسف ليس عندنا جهةٌ تنفيذية، والآن محكمة النقض أتعبت نفسها في القراءة ثم خرج التقرير في (34) صفحة، وشغلوا الناس وأملئوا الصحف، ثم بعد كل هذا: هل هناك جهة تنفيذية لتطبيق الحكم على المرتد؟ لا. كل هذا مجرد حبر على ورق. وما حدث للمستشار غراب ليس عنكم ببعيد، الرجل أراد في آخر حياته أن يحكم بالشرع، فقال: لا يأتيني رجلٌ زنى وقد أحصن إلا حكمت عليه بالرجم، والقصة الآتية حدثت في محكمة أسيوط: فالرجل كلما أتى إليه برجل زان محصن، والمحصن هو المتزوج إذا زنى، فكان المحامون كلما أتت قضية زان محصن يحاولون تأخير القضية حتى تقع في دائرة غراب، لماذا؟ لأن غراباً قال: لا أحكم إلا بشرع الله، وشرع الله هو الرجم، وهذا حكم الله في القرآن والسنة، وصحيحٌ أنه لم يأت في القرآن إلا الجلد، لكن الرجم كان ثابتاً بآية من آيات القرآن ثم نسخت ورفعت كلها بإجماع العلماء، وثبت هذا الرفع في كتاب الحدود من صحيح البخاري رحمه الله في باب رجم الحبلى من الزنا، وفيه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، وإنه كان مما نقرأ من كتاب الله آية الرجم)، هذا كلام عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهذه الآية نُسخت تلاوة ورفعت، ونص الآية كما ورد في مستدرك الحاكم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم). وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أورد آيةً أخرى رفعت من القرآن في هذا الكلام، فقال: وإنه كان مما نقرأ في كتاب الله عز وجل الآية الآتية: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) فهذه كانت آيات ورفعت بإجماع العلماء، لأن النسخ على نوعين: 1 - ما نسخ حكمه وبقي لفظه، مثل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]. 2 - وما نسخ لفظه وبقي حكمه، مثل آية الرجم، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنه كان مما نقرأ آية الرجم، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمتُ، وأخشى أن يطول بالناس زمان، فيقول قائلٌ: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيذلوا بترك فريضة أنزلها الله)، فالرجل أراد أن ينفذ حكم الله، فكلما أتى له زانٍ محصن يقول: حكمت المحكمة برجم الزاني، وهنا نتساءل: هل هناك جهة تنفيذية تنفذ الرجم، لا. ليس هناك جهة لتنفيذ الرجم، فمعنى هذا الحكم أن الرجل أخذ براءة، رفعت قضية إلى محكمة أسيوط في رجل زانٍ محصن، وكانت القضية في الليل للمستشار غراب، ثم انتظروا حتى الصباح، ثم صدر الحكم: حكمت المحكمة حضورياً برجم الزاني فلان الفلاني، وإذا بالقاعة تضج بالتصفيق: يحيا العدل!! يحيا العدل!! وما معنى (يحيا العدل) والرجل حكم عليه بالرجم؟! يعني الإعدام، إزهاق الروح، والسبب في قولهم: (يحيا العدل) أنه أخذ براءة؛ لأنها لا توجد جهة تنفيذية تقوم بتطبيق الحكم. وهذا أمر لا يجوز!! قد يقول شخص: بما أن الحكم بالرجم حبر على ورق فهل من الممكن أن نبدل هذا الحكم بالسجن مثلاً؟! وهل يعني هذا أن غراباً غلطان مثلاً؛ لأنه لم يحكم عليه بالسجن، كأقل رادع من العقوبة؟! هل يسعه ذلك؟! A لا يجوز لأحدٍ أن يبدل حكم الله بدعوى أنه لا يوجد من ينفذه، ليس هذا من سلطة القاضي، فالقاضي يحكم، والحاكم هو المسئول عن التنفيذ، لكن ليس من سلطة القاضي طالما لا توجد جهةٌ تنفيذية أن يقول: لابد أن أعمل أية عقوبة عليه حتى لا يخرج براءة، سيقول شخص: ما دليلك على ذلك؟ أقول: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في صحيح البخاري أيضاً، ورواه البخاري في كتاب الحدود في باب الاعتراف بالزنا: (أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال الآخر وكان أفقه الرجلين: نعم، يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله -وانتبه لهذه المقولة: بماذا قالا؟ بكتاب الله، لكن ما هو الموضوع؟ - فقال الرجل الثاني: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا وإنه زنى بامرأته -والعسيف هو الأجير، وسمي عسيفاً؛ لأنه يعسف ويتعسف معه- وإني ذهبت إلى جماعةٍ فقضوا أن على ابني الرجم؛ فافتديت ابني بمائة شاة وخادم، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لأقضين بينكم بكتاب الله، أما الغنم والخادم فردٌ عليك)، وانتبه هنا للكلام، هو بدل حكم الله بفدية، قالوا له: ابنك عليه الرجم، فقال: لا. وأدفع مائة من الغنم وخادماً، فقال له: لا. أما غنمك وخادمك فردٌ عليك، ونحن نسوق هذا الكلام أيضاً إلى الجماعة الذين أحلوا الفروج الحرام من مقيمي الشعائر الجهلة بأحكام الطلاق، كم أحلوا من فرجٍ محرم، يفتون في الطلاق، يا أيها الناس! لا يجوز لكم أن تستفتوا هؤلاء. يوم أمس الأول كنت أصلي الفجر في الريف، فوجدت رجلاً وامرأته أمام المسجد، وقالا لي: نحن نبحث عنك؟ فقلت: ما بكما؟! فاتضح أن الرجل طلق امرأته، ادعى أنه كان سكران، والمرأة تقول: لا، وادعت أنه لا يضبط الكلام، وأنه قال لها أول مرة: أنتِ طالق بالثلاث، ثم ذهبا لفلان فرد أن هذا يمين! وهل هذا يمين؟! فجاء في المرة الثانية وقال لها: أنت طالق بالثلاث، فرد مرة أخرى أنه مجرد يمين، وكل مرة يأخذ عشرين جنيه ويرد بأنه ليس بطلاق وإنما يمين، وثالث مرة قال لها: أنت طالق بالثلاث، ورابع مرة البارحة قال لها: أنت طالق بالثلاث، وهذا كلام صريح مثل الشمس، فقالت المرأة عندما قال لها في الرابعة أنت طالق بالثلاث: أنا لا أريد هذه المرة الذهاب للمفتي السابق!! فقلت لهما: المرأة من الطلقة الثالثة زانية وأنت زانٍ، إن لفظة: (أنت طالق) لفظ صريح في إيقاع الطلاق. وليس عند العلماء جميعاً أي إشكال في وقوع الطلاق بهذا اللفظ الصريح، بل إن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة على أن امرأة هذا الرجل طالق من المرة الأولى طلاقاً بائناً، ويقول الأئمة الأربعة: من قال لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، فهي طالقٌ ألبتة لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وخالف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم رحمهما الله، وقالا: لا. مفهوم العدد لا يكون إلا إذا تكرر، فلو سمع رجلٌ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال مائة مرة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)، فجاء رجلٌ فقال: (سبحان الله وبحمده مائة مرة) فهل قالها مائة مرة أو مرة واحدة؟ قالها مائة مرة، كذلك الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالقٌ ألف مرة فإنه لا يفهم من العدد إلا مرةً واحدة، إلا إذا كرر هذا العدد في مجالس منفصلة فقال لامرأته: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! فخرج ثم دخل، فقال لها: أنت طالق! وهكذا فمع كل طلقة بمجلسٍ جديد، فتكون قد كررت العدد مرةً ومرة ومرة، قال الفقهاء: فلو قال لامرأته: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، طالق، فكل طلقةٌ تقع بمفردها، لماذا؟ لأن العدد مفهومه التكرير، وقد كرر، إنما الإشكال أن يجمل العدد في لفظٍ واحد فيقول: أنت طالق مائة مرة، وقعت مرة واحدة؛ لكن لو ظل يقول: أنت طالق، طالق، طالق، طالق، على طول هكذا فإن الطلاق يقع. وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله رفضا أيضاً هذه المسألة، والمهم أن المسألة فيها بحث طويل، والمحاكم الآن في مصر والشام على فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. فعلى فتوى العلماء السابقين تكون امرأة هذا الرجل طالق منذ زمن الطلقة الأولى، وعلى فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله امرأته طالق من الطلقة الثالثة، ومع ذلك كنت أصلي في المسجد فوجدت الرجل وامرأته واقفين يبيعون العنب، ما الذي حصل؟ قالا: إنما ذهبا إلى مدير الأوقاف وأرجعها له، فهنا لا يكون إلا واحد من اثنين: إما أن يكون مدير الأوقاف لا يفقه شيئاً، وإما أن يكونا دلسا عليه، ونقلا له كلاماً غير الذي قالاه لي لما وجدا الحكم صريحاً. وأنا أقول هذا الكلام لأن هناك أناساً يقولون: ادفع عشرين جنيه وأرجع امرأتك، فنقول له: لا. أما العشرون فردٌ على صاحبها وقد وقع الطلاق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، (أما الغنم فهي ردٌ عليك والجارية ردٌ عليك) -أي الخادم كما ورد في بعض الروايات- ثم قال: (فأما ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام، وأما امرأة هذا فعليها الرجم). وتأمل ما ورد في الحديث: (قالوا: اقض بيننا بكتاب الله، فقال: والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) فهل تجدون الرجم في كتاب الله؟! وهل الجلد في كتاب الله؟ نعم. لكن هل التغريب في كتاب الله؟ ليس في كتاب الله. إذاً: قوله: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله) يدل على أن السنة من الوحي، وهي داخلةٌ دخولاً لازماً في قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، إذاً: الذكر عند جميع علماء المسلمين قرآن وسنة. ومما يدل على ذلك هذا الحديث المتقدم الذي رواهُ الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال: (والله! لأقضين بينكم بكتاب الله)، فقضى بما ليس في كتاب الله نصاً وقد ثبت في السنة، فدل على أن السنة هي من كتاب الله عز وجل، لقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].

الغاية من إقامة البيت المسلم

الغاية من إقامة البيت المسلم إن الغاية من إقامة البيت المسلم هي توحيد الله عز وجل وإقامة حدوده، وإن من أهم المقومات لهذا البيت المرأة الصالحة، ولقد حض الشرع على اختيار المرأة الصالحة؛ لأنها بمثابة المصنع الذي يخرج منه الرجال، فالرجال الذين يعول عليهم نصرة هذه الأمة لن يأتوا إلا بعد اختيار الأرض الخصبة التي تخرجهم، وبعد اختيار المرأة الصالحة ينبغي علينا أن نحسن تربية الأولاد، وفق شرع الله عز وجل، بأن نهيئ لهم القدوة الحسنة التي يقتدون بها، والمتمثلة في الوالدين فعلى الأب أن يعظم الله عز وجل بلسانه وجوارحه؛ ليتأسى به الولد في ذلك، فهذه دعوة إلى الاهتمام بالأساس فالتمكين منوط به.

إقامة البيت المسلم وارتباطه بجيل بالتمكين

إقامة البيت المسلم وارتباطه بجيل بالتمكين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها الإخوة الكرم: لماذا تقوم الحروب بين الناس؟ هذا السؤال ليس له إلا جوابٌ واحد، وهو أن كل طائفة على وجه الأرض تبحث عن التمكين لها، كل الحروب القائمة على وجه الأرض سببها البحث عن التمكين، فالنظام العالمي الجديد الذي تحاول أمريكا أن تفرضه باستخدام مذهب اللصوصية والإرهاب، كل هذا ليكون لها مكان -وأصل التمكين من المكان- وشرع الله عز وجل الجهاد للمسلمين لأجل هذا التمكين. إذاً: غاية النزاع في الأرض سببه التمكين، لذلك امتن الله عز وجل على بني إسرائيل أنه مكّن لهم، فقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] بعد ذكر التمكين مباشرةً، ذكر الله عز وجل ميلاد موسى، فقال تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] إذاً: التمكين يحتاج إلى رجال، رجال يجودون بأرواحهم للدفاع عن دين الله، وعما يعتقدونه على أي حال، فالمسلمون يجودون بأرواحهم دفاعاً عما يعتقدونه الحق من دين الله عز وجل، فسبيلنا إلى التمكين، وجود رجال، وبغير هذا الشرط لا يكون هناك تمكين أبداً، فلا تمكين إلا برجال، الرجولة ترضع من الصغر، فالذي يضيع عمره وطفولته، يضيعها في الفوضى لا يؤمّل الخير فيه، ومثل هذا لا أبني عليه بناءً سامقاً، لأن الأصل ضائع، فأنت أردت أن تبني برجاً، فكلما أردت أن تصعد إلى فوق يجب عليك أن تهتم بالأساس -المسألة هكذا متناسبة- الصعود إلى فوق معناه الاهتمام بالأساس، فأساس الإنسان طفولته، هذا البناء العظيم الذي يبنى، وهذه المسئولية الجسيمة التي توضع على كتف الإنسان، لا يتحملها إلا رجل له بطولة مشرفة، وأين ذهبت طفولة أولادنا؟، ماذا علمناهم؟ أكلوا وشربوا وذهبوا إلى المدارس وتعلموا كل شيء إلا الدين. هكذا ذهبت طفولة أولادنا هدراً، واعلم صلاح البيت مناط بصلاح الأساس، هذا هو معمل تخريج الرجال، والمرأة تعرف مسئوليتها، والرجل يعرف مسئوليته.

الغاية من الزواج

الغاية من الزواج أقف على Q لماذا نتزوج؟ لو سألت هذا السؤال أي رجل، فإنه لا يجيبك على الفور، إنما يتريث ويفكر قليلاً، فهذا التريث يدل على أنه لم يتزوج لهدف، وإنما تزوج لأن أمه تريد أن تفرح به، وأبوه يريد أحفاداً، أو يريد أن يورث الأولاد، أو يريد أن يخلِّد اسمه، وهذه المسألة تجد للناس فيها مذاهب، لكن أصل الزواج كله قائم على ما ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: (إني لأكره نفسي على إتيان المرأة، رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده)، هذه هي الغاية من إقامة البيت المسلم. إذاً: الغاية هي توحيد الله عز وجل، لا يكون من نسلك رجل فاسق ولا فاجر: (إني لأكره نفسي على إتيان المرأة، رجاء أن يخرج الله من صلبي نسمة توحده) هذه هي الغاية، والله تبارك وتعالى لما ذكر طلاق المرأة للمرة الثالثة قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: للمرة الثالثة، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، حسن! {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230]، يعني: الزوج الثاني، وأراد الزوج الأول أن يردها إلى عصمته: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، إذاً: الغاية من إقامة البيت المسلم هو إقامة حدود الله عز وجل، فالبيوت التي تسودها الفوضى لا قيمة لها: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:230]، إذا كان الهدف المراجعة، فلأن يكون في إقامة الحدود من باب أولى. رجل يتزوج بامرأة لماذا؟ ليقيما حدود الله، هذه هي الغاية من إقامة البيوت، ولقد ذهب الشرع مذهباً عظيماً في سبيل هذا الاصطلاح، فحض على اختيار المرأة؛ لأن المرأة كالأرض، فالأرض البوار ثمنها رخيص، والأرض التي تزرع ثمنها غال. إذاً: عندما تنظر إلى المجتمع الذي تعيش فيه المرأة، إذا خرجت من بيتٍ ملتزم فإنها توزن بالذهب، لا تستكثر من أجل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس، فهذه هي الأرض الخصبة.

أهمية اختيار الزوجة الصالحة لإقامة البيت المسلم

أهمية اختيار الزوجة الصالحة لإقامة البيت المسلم إن المرأة الصالحة تشبه الأرض الخصبة، ولقد حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اختيار أجود الأرض، حيث قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)، إن الرجل الذي ابتلاه الله عز وجل بزوجة ناشزة لا يستمتع بها في الدنيا ولا في الآخرة، فمزاجه معكّر بصفة دائمة في الدنيا، وعندما يقف بين يدي رب العالمين لا يستجمع قلبه، فأي متعةٍ حصل عليها هذا المسكين. اعلم أن المرأة قنطرة سعادة وشفاء، فكيف تستهين باختيارها؟ ابحث عن المرأة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك. إن الرجل إذا تقدم إلى امرأة لابد أن يراعي فيها الصلاح، وهذا لنجابة الولد؛ لأن المرأة الفاسدة لا تربي الأبناء تربية سليمة فهي تهدم ولا تبني. إذاً: المرأة الفاسدة لا تستحق شربة الماء، ووجودها كعدمها، تماماً مثل الرجل الكافر لا قيمة له، فالحيوان البهيم أفضل منه عند الله عز وجل. روى وكيع في أخبار القضاة في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي، رحمه الله، وكان قاضياً مشهوراً، أنه جاءه رجلٌ نصراني على بغلة، وكان مقرباً من زوجة الخليفة؛ لأنه كان يشتري لها الذهب وحاجياتها، فظن أن له مكانة، فكان يظلم الناس وعنده من يسنده ويعينه على ظلمه، فظلم هذا النصراني رجلاً مسلماً، فرفع المسلم شكاته لـ شريك بن عبد الله رحمه الله، فجاء هذا الرجل النصراني على بغلة منتفخاً، فلما نزل من على بغلته أمر به شريك فجلد جلداً قوياً فتوعد شريكاً، أنه سيشتكيه إلى امرأة الخليفة، وركب النصراني البغلة، وجعل يضربها بعنف، فقال له شريك: قاتلك الله! لا تضربها، فإنها أذكر لله منك: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، لا يوجد الجحود والكفر إلا في بني آدم والجن، فكل المخلوقات مستقيمة على صراط الله، وهي أذكر لله عز وجل من كثيرٍ من بني آدم، إن الحيوان البهيم أفضل من الكافر، قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، يعني: الأنعام أفضل منهم. فالمرأة الصالحة خير متاع الدنيا، واسألوا الذين ابتلوا بنساءٍ فاسدات، اسألوهم. إن الرجل إذا ابتلي بامرأةٍ فاسدة يحسد كل رجلٍ يمشي في الشارع يظنه سعيداً، يحسد كل الخلق، لأنه يشعر أنه يشقى وحده، حتى ربما حسد من هو أدنى منه في الدين والعلم والمكانة، بسبب فساد المرأة؛ لذلك حض النبي صلى الله عليه وسلم الرجال على اختيار النساء، فإنهن الأرض التي تنتج الرجال الذين يمكن الله لهم.

السلوك الحسن وأثره في إقامة البيت المسلم

السلوك الحسن وأثره في إقامة البيت المسلم سلوك المرء الصالح له أثر في كل من في البيت وفي كل من حوله، فهذا الإمام أحمد بن عبد الله العجلي رحمه الله، روى في كتاب: الثقات في ترجمة أحد العلماء، اسمه الحسن بن صالح بن حي، أن الحسن باع جاريةً له، فاشتراها رجل، وذهبت الجارية إلى بيت الرجل المشتري، وفي نصف الليل قامت الجارية تقول: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة، أي: قوموا إلى الصلاة، فقالوا لها: أأذن الفجر؟ فقالت لهم: ولا تصلون إلا الفجر؟ قالوا: نعم. فقالت لهم: لا تقومون الليل؟ قالوا: لا. فلما أصبح الصباح رجعت إلى الحسن، وقالت: ردني إليك، فإنك بعتني إلى قوم سوءٍ لا يقومون الليل. هذه جارية مملوكة من أين أخذت هذا الخلق؟ أخذته من هذا البيت. أذكر لكم عن هذا البيت كيف كان شكله وكيف كان وضعه؟ هذا البيت كان فيه الحسن بن صالح بن حي، وأخيه علي بن صالح بن حي وأمهما، وكان طريقتهم كالآتي: كانوا يقسِّمون الليل ثلاثة أقسام، الحسن بن صالح يقوم في الثلث الأول، وعلي بن صالح يقوم في الثلث الثاني، وأمهم تقوم في الثلث الثالث، فلما ماتت الأم قسم علي الحسن الليل بالنصف، يقتسمان وقت الأم بينهما، فلما مات الحسن، حمل علي الليل كله، هذا هو البيت، فجارية تعيش في مثل هذا البيت كيف لا تقول مثل هذه المقالة الرائعة: إنك بعتني إلى قوم سوءٍ لا يقومون الليل؟! ابنك كاميرا مثل (الكاميرا المسجلة) يلتقط عليك كل حركاتك، فإياك أن تتصور أن الولد يغفل عنك، فالولد يتأسى بك، فكل شيءٍ تفعله يصوره ويسجله (كالكاميرا المسجلة)، فعظم حرمات الله أمام الولد، إذا ذُكر الله فاجهر بالثناء عليه أمام الولد، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارفع صوتك بالتسليم والصلاة عليه أمام الولد، هذا كله يؤثر في بنيان الولد، وفي تربيته، عظم حرمات الله عز وجل، فإنها من تقوى القلوب.

حكم عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح

حكم عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح أزمتنا اليوم أزمة رجال، فلو أن عندنا مائة رجل كالصحابة، والله لفتحنا الدنيا، ونحن نبحث عن هذا الصنف من الرجال. إذا كنا نريد أن نختصر مسافة البحث عن التمكين ينبغي علينا أن نربي أولادنا وذلك باختيار المرأة الصالحة، فهي غاية أماني الرجل في الدنيا، وأساس صلاح الأولاد، وهي مربية الأجيال، ولذلك حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك حضاً صريحاً. إن الرجل قد سُن له أن يدخل البيوت ويخطب المرأة، فهل يجوز للمرأة أن تطلب الرجل؟ لقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإقرار في أن للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وهذا شيءٌ عجيب؛ لأن للعلماء قاعدة تقول: (ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) يعني: قد يكون هناك فعل لم يحرم لذاته، ولكن حرم لأننا لو فتحناه أدى إلى فساد، وذلك مثل النظر، فالنظر إلى النساء ليس محرماً في ذاته، إنما هو محرمٌ لما يفضي إليه من الفساد وهو الزنا، ولذلك قال العلماء: النظر بريد الزنا، ومنع الرجل من النظر إلى المرأة لما يفضي إليه النظر من الفساد. إذاً: حُرِّم النظر إلى المرأة الأجنبية سداً لذريعة الزنا. إذاً: أنا أريد أن أتزوج، سأتقدم بطبيعة الحال إلى امرأةٍ أجنبية، فكيف آخذها؟ هل أتزوجها قبل أن أنظر إليها أم أنظر إليها؟ نقول: انظر إليها قبل الزواج، إن النظر حرام إلى الأجنبية. نقول لك: نعم. النظر حرام إلى الأجنبية سداً لذريعة الزنا، ولكن يباح للمصلحة الراجحة، وهي دوام العشرة. ولذلك روى الإمام النسائي والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (خطبت امرأةً فقلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال: فهل نظرت إليها؟ قلت: لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) (يؤدم بينكما) أي: يدوم الود، وقال له في النص الآخر: (انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وكان في أعين الأنصار صغر، فقال: (انظر إليها)، فلربما لم تنظر إليها ثم تتزوجها فتجد فيها شيئاً لا تحبه، فتطلقها بعدما صارت ثيباً! لا. إذاً: المصلحة الراجحة وهي دوام العشرة بيني وبين التي خطبتها تقتضي أن أنظر إليها قبل الزواج، مع أن النظر محرم في الأصل سداً للذريعة. والمرأة لو عرضت نفسها على الرجل فقد يكون هذا الرجل ضعيف القلب فيظن بهذه المرأة سوءاً، فالأفضل والأصون لكرامة المرأة أن لا تعرض نفسها؛ لئلا يطمع فيها الفساق، ولئلا تبتذل. ولا يباح للمرأة أن تعرض نفسها مع وجود مثل هذا، ولعل مثل هذا الخاطر هو الذي يحجب النساء العفيفات عن عرض أنفسهن على الرجل الصالح، خشية أن يظن الرجل بهن سوءاً أو يظن أنها امرأة متبجحة قليلة الحياء، وهذا أمر مغروس في الفطرة. ففي صحيح البخاري من حديث ثابت البناني رحمه الله قال: (كنت عند أنس بن مالك، وعنده ابنةٌ له، فقال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوأتاه)، أتهب الحرة نفسها؟ أي: هذا عيب! إذاً: المناسب أن لا تعرض المرأة نفسها سداً لذريعة سوء الظن بها، لكن في سبيل الوصول إلى الرجل الصالح، يباح لها أن تعرض نفسها، إذ هو غاية المنى بالنسبة للمرأة في الدنيا، وخروجاً من هذا الأصل فإنه يباح لها ذلك، وإن سيئ بها الظن، يباح لها ذلك، كل هذا لتحصيل الرجل الصالح الذي هو غاية المنى في الدنيا، وعلى ذلك أدلة منها هذا الدليل الذي ذكرته آنفاً، ومنها أيضاً: ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقالت: يا رسول الله! وهبتُ نفسي لك، فصعَّد النظر إليها، وصوبه، ثم جلست المرأة، فقال رجلٌ لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عنها: يا رسول الله! زوجنيها، قال: ما عندك، اذهب إلى أهلك فالتمس مهراً، فذهب ثم جاء. قال: ما وجدت، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع. فقال: لم أجد، ولكن يا رسول الله! معي إزاري، أعطيها نصف الإزار مهراً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وما تصنع بإزارك إن لبسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل وطال جلوسه ثم قام ينصرف فناداه، قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا، قال: أتقرؤهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم. قال: اذهب قد ملكتكها بما معك من القرآن) فقامت المرأة تتبعه إلى منزله. استنبط الإمام البخاري رحمه الله! من هذا جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وإن كان الحديث قد سيق في هبة المرأة نفسها. لا يحل للمرأة أن تهب نفسها للرجل، فتقول: وهبتُ نفسي لك، يعني: بلا مهرٍ ولا ولي، فإن هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، لكن استنبط الإمام البخاري بدقيق فقهه، وثاقب نظره من الحديث ما لا خصوصية فيه، وهو جواز أن تعرض المرأة نفسها على الرجل.

حكم عرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح

حكم عرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح إن عرض الرجل وليته أو ابنته أو أخته على الرجل الصالح اتباع سنة الأنبياء والصالحين، من ذلك: الرجل الصالح صاحب مدين الذي ورد ذكره في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، قالوا: إنه شعيب، والراجح أنه ليس شعيباً النبي؛ لأن شعيباً النبي قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89]، وقد ثبت أن قوم لوط كانوا في زمان إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى مدةٌ طويلة تزيد عن الأربعمائة سنة، إنما الراجح أنه رجلٌ صالح من أهل مدين: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]، فعرض ابنته على الرجل، لما رأى فيه من صفات الكمال. وكذلك في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: (إن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر، من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر: أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئاً وأوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً، قال عمر: قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها). وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث زينب بنت أم سلمة: (أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت له: يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان -تريد أن تزوجه أختها شقيقتها- قال: تحبين ذلك؟ فقلت: نعم. لست لك بمخلية -أي: لست أنا الوحيد التي معك- وأحب من يشاركني في الخير أختي، فقال: إن ذلك لا يحل لي، فقلت: يا رسول الله! فوالله إنا نتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة، قال: ابنة أم سلمة؟ فقلت: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن). أي: هي محرمةٌ لسببين، السبب الأول: أنها ربيبة في حجري، والربيبة هي ابنة المرأة من الزوج الآخر. بمعنى أن رجلاً تزوج امرأة، أنجب منها بنتاً، ثم طلقها أو مات عنها، فالمرأة تتزوج، وإذا تزوجت المرأة رجلاً، تصير البنت من الزوج الذي طلق أو مات ربيبة، والربيبة تحرم إذا دخل الزوج بالأم، أما إذا لم يدخل بها، فيجوز له أن يتزوجها، قال الله عز وجل في آية المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23]، أي: إذا عقد الرجل على المرأة ولم يدخل بها وطلقها، جاز له أن يتزوج ابنتها، بخلاف البنت، فإنه إذا عقد الرجل على البنت ولم يدخل بها، حرمت الأم إلى يوم القيامة، لقول الله عز وجل في آية المحرمات: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]، فبمجرد العقد صارت البنت زوجة، وصارت أمها محرمة إلى يوم القيامة، فقال: (فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي)، والسبب الثاني: لأن ثويبة أرضعته وأبا سلمة، فهو أخوه من الرضاعة، فلا يحل أن ينكح الرجل ابنة أخيه من الرضاعة. وروى أبو يعلى في مسنده بسندٍ قواه الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أن امرأةً قابلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج تعرض نفسها عليه، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها، ويلوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه الفضل). كل هذا فيه دليل على أنه يجوز للمرأة أن تعرض نفسها، ويجوز للولي أن يعرض بنته، وهي سنة سنة الصالحين، وهناك أمثلة أخرى نذكرها إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

القوة والأمانة صفتان حميدتان يجب توفرهما في الرجل الصالح

القوة والأمانة صفتان حميدتان يجب توفرهما في الرجل الصالح الحمد لله، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. تأمل قول ابنة الرجل الصالح قالت لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، للرجل الصالح صفتان حميدتان وهما: الأمانة والقوة. فالقوة: ليقوم الرجل بأعباء الزوجية، من نفقة وغيرها، والأمانة: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله)، هذه هي الأمانة، إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، لماذا تظلمها؟ لماذا تقض مضجعها بالمعاملة السيئة، إذا لم تمسك بالمعروف فسرِّح بإحسان! فلا تعضلها، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والرجل الأمين لا يخون الأمانة، فقد جاء وأعطى ولي الزوجة العهد أنه سيحافظ عليها، وأنه سيتقي الله فيها، فإذا كان رجلاً أميناً حقاً لا تُضَار المرأة يوماً معه، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، لا يضر الرجل إن لم يكن ذا مال أو جاه أو جمال، إذا كان قوياً وأميناً، ولكن أين الذين يزنون الرجال بميزان الرجولة لا بميزان المادة؟ لقد فقدوا في هذه الأيام!!

نماذج لكيفية وزن الرجال بميزان الدين

نماذج لكيفية وزن الرجال بميزان الدين ذكر أبو نُعيم في كتاب: حلية الأولياء، في ترجمة سعيد بن المسيب رحمه الله، سيد التابعين، قال: عن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، قال: كنت أحضر مجلس سعيد بن المسيب في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففقدني أياماً، فلما جئت قال: أين كنت يا بن أبي وداعة؟ قلت: ماتت زوجتي، فانشغلتُ بها، قال: فهلا آذنتنا فشهدناها معك، قلت: كرهت أن أشق عليك، قال له سعيد: هل أحدثت زوجةً؟ فقلت له: يرحمك الله ومن يزوجني، وليس معي من المتاع شيء، قال له: أزوجك ابنتي، قال: نعم، ولكن ليس عندي غير درهمين أو ثلاثة، فتشهد سعيد وحمد الله عز وجل وزوجه ابنته بنت سعيد بن المسيب وقد خطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لابنه الوليد بن عبد الملك ولي العهد، فأبى سعيد أن يزوجه، حتى إن عبد الملك بن مروان احتال واخترع مصيبة لـ سعيد بن المسيب وجلده مائة جلدة انتقاماً منه، وصب عليه جرة ماءٍ باردة في يوم بارد، وألبسه جبة صوف بسبب أنه رفض أن يزوج ابنته من ابنه، هذه هي الرجولة، لو تقدم أمير المؤمنين لأي واحد منا فلن ينام الليل!!، سيقول: الحمد لله! ضمنت أن البنت ستعيش في عيشٍ رغيد، والنعمة ستكون تحت رجليها، لكن موازين الرجال مختلفة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، لكن سعيد بن المسيب حمد الله وأثنى عليه، وتشهد، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوج الرجل، فقال: فلما جاء اليوم الثاني وكنت صائماً، ووضعت أمامي خبزاً وزيتاً لأفطر طرق الباب، قلت: من؟ قال: سعيد، قال: ففكرت في كل سعيدفي الدنيا إلا سعيد بن المسيب، فإنه ما رؤي منذُ أربعين سنة إلا بين البيت والمسجد، وما فاتته تكبيرة الإحرام قط، فقلت: أفي بيتي سعيد بن المسيب ما عهد الرجل هكذا -لذلك خطر على باله كل سعيد إلا سعيد بن المسيب - قال: ففتحت الباب فإذا سعيد، فظننت أنه تراجع أو بدا له شيء، فقلت: يرحمك الله، كنت أحق أن آتيك أنا، قال: ل. ، لكنك رجل قد تزوجت، وكرهتُ أن تبيت الليلة عزباً، فخذ زوجتك. وكانت خلفه في الباب، قال: فلما دخلت المرأة سقطَت من الحياة، وأغلقت الباب وصعدت إلى السطح أنادي في الجيران، فقالوا: مالك؟ قلت سعيد زوجني بابنته، فنزلت إليَّ أمي، فقالت لي: والله لا تقربها حتى أصلحها لك في ثلاثة أيام، قال: فبعد ثلاثة أيام دخلت بها، فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظهن الناس لكتاب الله، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأرعاهن لحق زوجها، فمكثت شهراً لا ألقى سعيداً، فلما أردت أن أخرج أمسكت بإزاري، وقالت: إلى أين؟ قلت: أذهب إلى سعيد أتعلم منه، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد. فلو كن النساء كمثل هذي لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال أين هؤلاء النساء؟ المرأة هي قاعدة البناء العظيم الذي ترتكز عليه الأمة، فساد المرأة يعني فساد الدنيا والآخرة، وصلاحها صلاح الدنيا والآخرة. سعيد زوّج رجلاً معه ثلاثة دراهم فقط؛ لما لمح فيه من الصلاح والنجابة والأمانة والقوة، فيا أيها الناس! اختاروا لبناتكم الرجل الصالح. أيها الرجل: لا تستحيي أن تعرض ابنتك أو من كنت وليها على من تثق بدينه وتقواه، لست أفضل من عمر، ولست أفضل من صاحب مدين، هؤلاء السلف، ونعم السلف لنا، سنُّوا لنا هذه السنة، وعلم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما عنف عمر وما راجعه، فدل ذلك على أنها سنة بإقراره صلى الله عليه وآله وسلم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. والحمد لله رب العالمين.

انحراف الأبوين عقبة أمام التزام الأبناء

انحراف الأبوين عقبة أمام التزام الأبناء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد. أيها الإخوة الكرام: الحديث عن الأسرة مؤلم ومحزن، لا يعرف ذلك إلا من دخل في مشاكل الناس، ربما ظن أحدكم أن التمكين قريب، لكن ليس الخبر كالمعاينة، أسرنا مهترئة، بسبب الفشل، والآن أجيب عن السؤال الذي ذكرته في مطلع الخطبة، لماذا نتزوج؟ نسبة لا تكاد في الأرقام الذين تزوجوا بقصد أن ينجبوا عباداً لله، بالنسبة للسواد الأعظم قليل جداً، أولياء الأمور هم الذين استرعاهم الله عز وجل هذه الذرية، كثيرٌ منهم خانوا هذا العهد وضيعوا رعيتهم كل يوم تأتي المكالمات لمشاكل لا آخر لها، فهذه وأختها، لبسن النقاب منذُ أربعة أشهر، تقول إحداهن: لقد وصلت وتقول: ما أحسست أنني استحق الحياة إلا بعد أن غطيت وجهي، وهذا الشعور لا يشعر به فعلاً إلا من تعاطى هذا الفعل، والمرأة إذا ارتدت النقاب لا تستطيع أن تخلعه، فإذا نزعت نقابها فكأنك كشفت عورتها، هكذا شعور المرأة المنتقبة، لكن ما هي المشكلة؟ المشكلة أن أباها أمرها بخلع النقاب، ثم اتخذ خطوات عملية، أخذ النقاب ووضع عليه (كيروسين) ثم أحرقه، هذه الخطوة الأولى. الخطوة الثانية: الأم تذهب إلى بيت أبيها عقوبة لهذه البنت، وأبت أن ترجع هذه الأم إلا إذا خلعت النقاب. الخطوة الثالثة: ممنوع منعاً باتاً وضع أي شيء على الرأس، لا تضع حتى غطاء الرأس! يعني تخرج بشعرها. الخطوة الرابعة: أنه إذا جاءه ضيف ألزم بناته وأهله على أن يصففن شعورهن، ويدخلن على هذا الضيف سافرات. الخطوة الخامسة: أنه يأمرهن أن يجلسن بجوار الضيف وإذا امتنعن من ذلك فالسوط موجود!! الخطوة السادسة: الضرب المبرِّح أمام الضيف!! أسمعتم؟! أهؤلاء رجال؟! لو لم يكن هناك دين لكان هناك غيرة، فالكلاب تقتتل على الكلبة. وهذا كلب ومع ذلك فيه نوع من الغيرة، وهذا الرجل يفعل كل هذه الأفاعيل مع ابنته، وهاهي تسأل: ماذا أفعل؟ ويقف الإنسان في حيرة، قالت: بذلنا كل شيء، ستقول لي يا شيخ: اصبري تحملي، كل ما يخطر على بالك أنا فعلته، إنه يضربني بالسوط ضرباً مبرحاً أمام الضيف. هذا نموذج لكثير من الأسر، هؤلاء لا يستحقون الحياة، هؤلاء يهزمهم شر الخلق وأضعفهم -اليهود والنصارى- هؤلاء لا ينتصرون أبداً، إن بنياننا الأسري مختل. يا أولياء الأمور: إذا انتقبت البنت فاحمدوا الله على ذلك؛ فإن النقاب عفة ووقار وشرف. اسأل نفسك سؤالاً: أيهما أفضل عندك: أن تنتقب ابنتك أم أن يهرب بها أحدهم ويتزوجها؟ هذه بمقابل لبس النقاب، فالنقاب صيانة وعفاف وشرف، كيف تأخرت حتى الآن في تغطية وجه امرأتك وبنتك وأختك؟!

إهمال التربية سبب تحطم الأسر

إهمال التربية سبب تحطم الأسر هناك أسرة بكاملها تحطمت بسبب أن الولد ما تربى التربية الإسلامية الصحيحة، صاحب رفقاء السوء، وتعرف على واحد من أصحاب المخدرات فأعطاه منها، وقال له خذ وشُم: بعد ذلك صار مدمناً لها، فمباشرة من حين أخذ (الجرعة الأولى من المخدرات) بدأ يتغير، بدأ يسرق مال أبيه، ثم يسرق من بيوت الناس، قبضت الشرطة عليه، وسألوه ابن من أنت؟ قال: أنا ابن فلان الفلاني، يعني: من بيت كبير، وأبوه ذلك الرجل صاحب المنصب الكبير، فيذهبون به إلى قسم الشرطة -فضيحة- أما في البيت فهو كل يوم في ضرب وصراخ في ذلك البيت الذي لم يكن أحد يسمع لهذه الأسرة فيه صوتاً، أما الآن فكل يوم عراك وصياح، وهذا الولد لا يتقي الله، ولا يرقب في أهله إلاً ولا ذمة، فإنه يسبّهم بأقذع الألفاظ، يريد أن يشُم تلك المخدرات، فتحطم بنيان الأسرة وتصدع. ما سبب ذلك؟ السبب: إهمال التربية الصحيحة، هذا الولد لو كان رجلاً تقياً، لما وجد في أصدقائه ولا أقرانه من يقول له: شُم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، أنت إذا كنت رجلاً مصاحباً للمؤمنين، أرأيت مؤمناً يغشك ويدمرك ويعطيك ما حرم الله؟ لا. لا يمكن هذا، أي رجل ملتزم يعرف قيم دينه إذا ارتكب هو في نفسه معصية فإنه يحاول أن يتوارى عن الأنظار، فكيف يجهر بها أمامك؟! بل كيف يدعوك إليها؟ لا يجرؤ على ذلك.

من شروط التمكين: الصدق مع الله

من شروط التمكين: الصدق مع الله إن الأمة الإسلامية اليوم تملك ثروة بشرية هائلة -ملايين- ولكن أين الرجال فيهم؟ إنهم قلة، مثلاً: أي رجل وقع في أزمة وخير ما بين دين الله وما بين الدنيا، فإنه يختار الدنيا مباشرة، يقول لك: أكل وأعيش وأولادي وتركتي. وإذا قيل لأحدهم: احلق لحيتك وإلا لن تأخذ الوظيفة، تراه يتساءل هل يحلق حتى يأخذ الوظيفة ثم يعفيها مرة أخرى، هذا إذا كان الرجل فيه تدين، وغالب الناس لا يقف عند هذه المسائل ولا يفكر على الإطلاق، بل يقوم فوراً ويحلق لحيته، ولسان حاله يقول: لماذا لا أختار الدنيا؟ اعلم يا أخي! أن الله عز وجل لا يضيِّع من توجه إليه، وإنما يختبرك وينظر إلى صدق عزيمتك، كما قال تبارك وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، فإذاً: لا بد من اختبار، إذا صدق الرجل مع الله عز وجل ورسوله، وكان وقافاً عند حدود الله عز وجل مكّن له في الأرض: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فهذه شروط التمكين، هل نحن أمة تستحق التمكين، وثلث الأمة لا يصلي؟ ثلث الأمة لا يصلي وربما أكثر، هؤلاء لا يسجدون لله عز وجل، هل يمكّن لهؤلاء؟ لا يمكَّن لهم أبداً، إنما يمكَّن الله عز وجل لعباده المؤمنين، الذين إن مكنّ لهم كانوا أوفياء لشرعه. إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية وحال أفرادها يرى كثيراً من الناس يتصرف تصرف أهل الجاهلية، إذا ركبوا سفينةً في البحر وأتاهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم قد أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:22 - 23]. إذا كنت في البحر وذهب منك الحول والقوة حينها تلجأ إلى الله، وبمجرد أن تمشي على رجليك، تتصور أنك ملكت أمرك حينها!! هذا يذكرني برجل ركب معي من القاهرة مرة، ويبدو أنه أول مرة يركب طائرة، والطائرة كانت تطير بسرعة كبيرة حوالي ألف كيلو في الساعة، نظرت للرجل ورأيت وجهه قد اصفر، أول ما بدأت الطائرة تطير وقال: انتيت، لا حول إلا بالله. يعني: لم يعد في أيدينا شيء، الطائرة صارت مرتفعة، فبعد أن استقر حاله وأحضروا له عصير الليمون، تعرفت عليه، وقلت له: سمعتك تقول كذا وكذا، لا حول ولا قوة إلا بالله، وهل وأنت تمشي على الأرض بقدميك لك حول بغير حول الله؟ إن كثيراً من العباد يحسب المسألة خطأ، عندما يمشي على الأرض ينسى قدرة الله. يعني: أنه بإمكانه فعل كل شيء، يستطيع أن يعود إلى بيته لوحده، ويستطيع أن يمشي، لكن وهو في الجو، فلا يستطيع أن يفعل شيئاً!! وكذلك لو كان في لجة البحر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، في الجور والبحر يلجأ إلى الله. إن الله ليكره ذلك، والله عز وجل لا تليق بعظمته هذه المعاملة، وهو الغفور الودود، وتأمل هذين الاسمين المتعاقبين: (الغفور الودود) يعني: يغفر الذنب ويتودد إليك. مثلاً -ولله المثل الأعلى- إذا أسأت إلى أبيك، أو إلى أخيك، أو إلى أمك، أو إلى أختك، أو إلى خالك، أو عمك، أو صديقك، كان عليك أن تصطلح معه، وتذهب لتقول له: هل تريد مني خدمة؟ أنا جئت اليوم أقدّرك وأعتذر عما بدر مني، حتى تزيل هذا الغبش الذي كان. إذاً: المسيء هو الذي يتودد، لكن لاحظ الشيء العجيب، الله عز وجل هو الغفور، يغفر للمسيء، وهو الودود الذي يتودد إلى عبده المسيء، فسبحان من رب عظيم! فلماذا أشركت معه غيره؟ أشركت مالك أو أولادك أو امرأتك أو سلطانك أو أشركت معه غيره وهو يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) هذا من عزته تبارك وتعالى، فالعزيز لا يقبل هذا. تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة دائر الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه ولا ترد الأسود حياض ماء إذا كان الكلاب يلغن فيه لا يمكن للأسد أن يشرب من حوض شرب منه كلب؛ ترفعاً وعزة. وها نحن في صفاتنا نأبى أن نشارك أصحاب الخسة فيما يطلبونه، فلله عز وجل المثل الأعلى، فكيف بهذا الإنسان يشرك به ويتركه!!؟ لا، هو العزيز، ولذلك عندما تشرك معه غيره، يقول لك: اذهب إلى من أشركت؛ لأن حقيقة الشرك فيه دلالة على النقص. هل يوجد أحد في الدنيا يتمنى أن أحداً يشاركه في ماله أو في تجارته، عندما تذهب إلى أي شارع تجد شركة فلان الفلاني، فلان وأولاده، فلان وشركاه، هذه الشركات عُملت لماذا؟ أنا لو معي رأس مال أكنت أتمنى أن يشاركني أحد في الربح؟ الحال أن بعض الناس حين يشتركون مع بعض تجد كل شريك يطمع في شريكه. ويقول له: أنا أريد ربحاً أكثر منك، ويمكن أن يظلمه، فلو كان هذا الرجل معه مالاً ما أشرك معه أحداً. إذاً: الشركة دلالة على النقص، لماذا دخل في شراكة؟ لأن رأس ماله ضعيف، أو لأن خبرته قليلة، أو لأنه ضعيف يحتاج إلى ظهر يحميه، لذلك يُدخِل شخصاً ذا سلطان ليحميه، وهناك أناس لهم مناصب كبيرة أحيلوا إلى التقاعد، فتجد أصحاب الأموال يذهبون إليهم يدخلونهم في هذه الأموال ويشاركونهم، من أجل أن يخلصوهم من الجمارك؛ لأن هذا المتقاعد يعرف المسئول الفلاني والمسئول العلاني وما إلى ذلك، مع أن هذا المتقاعد تراه يجلس لا عمل له، يجلس على مكتب، ويوصِّلونه بسيارة، والسائق يذهب به ويعود، هذا كله لماذا؟ لأجل أنه يعرف المسئولين الكبار، فالرجل هذا يسهل لهم العقبات ويمرِّر لهم المخالفات. إذاً: الإشراك نقص فقل لي إذاً لماذا تشرك مع الله؟ هل الله عز وجل فقير؟ لا. فرزق الله لا ينفد، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180]. إذاً: يجب أن نعلم أن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، وأنه الغني ونحن الفقرءا، نحن محتاجون إليه، وهو غني عنا، ومع ذلك تراه يغفر ذنوبنا ويتودد إلينا، فما علينا إلا أن نوحده وأن نعظمه حق التعظيم، وأن نقدره حق التقدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الغيرة للمحبوب

الغيرة للمحبوب إن للمحبة علامات وأمارات كثيرة، وإن من أوضحها وأشدها دلالة: الغيرة للمحبوب. وإذا تأملنا في واقع الأمة اليوم على اختلاف طوائفها ومذاهبها وما تدعيه وتتشدق به من حب النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا البون شاسعاً والفرق واضحاً جلياً بيننا وبين سلف الأمة من الصحابة والتابعين. فها هم اليهود اليوم يسبون نبينا عليه الصلاة والسلام جهاراً، ويصورونه على صورة خنزير ولم يحرك أحد من المسلمين ساكناً، بينما كان سلف الأمة يبذلون المهج والأرواح في الذب عنه صلى الله عليه وسلم والدفاع عن عرضه، وما ذاك إلا لأنهم صدقوا في حبهم، فأطاعوه وغاروا عليه، وقدموه على المال والنفس والأهل والولد، فأين نحن منهم؟ ما حقيقة محبتنا له صلى الله عليه وسلم؟

الغيرة للمحبوب من علامات المحبة

الغيرة للمحبوب من علامات المحبة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! إن وقود الانتماء هو الحب، وللمحبة علامات تقطع بها وجه كل دعي للمحبة وهو عار عنها، ونحن اليوم مع علامات للمحبة، وإنما آثرت ضرب المثل بأقوال المحبين في الدنيا لأقيم الحجة على الخلق بأمرٍ غير منكورٍ عندهم يسلمون به. إن المحب لا إرادة له مع حبيبه، ولو صارت له إرادة مع حبيبه فإن هذا قدحٌ في دعوى محبته، وكل الناس لا ينكرون هذا المعنى، فإذا عدّلناه إلى أجلّ محبوبٍ وهو الله عز وجل رأيت دعوى عريضة، ورأيت الكاذبين يتلو بعضهم بعضاً في أمر لا ينكرونه بينهم. إن من علامات المحبة: الغيرة للمحبوب. وعليه فلا أتصور حباً بلا غيرة، فإذا رحلت الغيرة رحل الحب تبعاً لها، والغيرة هي أنفةٌ أن يشاركني في محبوبي أحد، وهي نارٌ وتوهج يخرج من القلب حال ذكر المحبوب، وهي أنانية التفرد بالمحبوب، هذا هو أصل الغيرة: أن تغار له وعليه. وكما ورد في الحديث الصحيح: أن هلال بن أمية الواقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! وجدتُ رجلاً مع امرأتي -ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، وكان الرجل إذا رمى امرأته أو غيرها بالزنا فرض عليه أن يأتي بأربعة شهداء وإلا جُلد- فجاء هلال بن أمية الواقفي، وقال: (يا رسول الله! وجدت رجلاً مع امرأتي فقال: يا هلال! أربعة شهداء أو حدٌ في ظهرك، فحينئذٍ انتفض سعد بن عبادة -سيد الخزرج- وقال: يا رسول الله! أدع لكعاً يتحسها وأبحث عن أربعة شهداء؟! والله ليس له إلا السيف غير مصفح! فقال النبي صلى الله عليه وسلم للخزرج: انظروا ما يقول سيدكم -يستنكر عليه؛ لأنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل- فقالوا: يا رسول الله! اعذره، فوالله ما تزوج امرأةً قط إلا بكراً، وما طلق امرأةً فجرأ أحدنا أن يتزوجها بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد؟! والله إني لأغير من سعد، والله أغير مني؛ لذلك حرم الفواحش).

أين من يغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أين من يغار لرسول الله صلى الله عليه وسلم الغيرة للمحبوب أن تنتهك حدوده، وأن يعتدى عليه هذه هي ثمار المحبة. لقد بكيت كمداً وحزناً هذا الأسبوع من هذا المنظر الذي رأيته، يصور اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم على صورة خنزير، ويكتبون عليه اسمه الصريح ويدوسون القرآن بأرجلهم!! وما ذاك إلا لأنهم يخاطبون أمةً ميتة، فهل لهذا الرسول في الدنيا العريضة مؤمنون به ومحبون له؟!! لقد بكيت كمداً، وإنما يبكي الحر من القهر قاتل الله السياسة التي لا تخضع للدين! بأي وجهٍ يجلس المفاوض مع اليهود؟! على ماذا يتفاوض؟! قطعة أرض، ما بقي بعد الذي حدث شيء يسب نبينا صلى الله عليه وسلم ونسكت!!. إذاً: أين الحب الذي ندعيه؟! إن احتلال اليهود لأرضنا وأخذهم لها شبراً شبراً لأهون عند الله عز وجل ورسوله وعباده المؤمنين من سب الله ورسوله، فعلى أي شيءٍ يتفاوضون؟! على أرض! ما قيمتها؟! {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، بغير هذه العلامات وبغير هذه الرتب لا يحل لنا أن نرث الأرض. ولو أن رجلاً عربياً جاهلياً لا يدين بدين -كافرٌ بالله العظيم- حدث له عشر هذا؛ لانتفض ولرده أنفة وحياءً وكبراً. إن للشاعر الجاهلي في حرب البسوس أبياتاً صارت في كل الأمصار، واختارها أبو تمام وأودعها في القطعة الثانية في ديوان الحماسة. يقول: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يبقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كْمْا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَربٍ فِيه تَوْهِينٌ وتَخضِيعٌ وإقرَانُ وطَعنٍ كَفَم الزِّقِّ غدا وَالزِّقُّ ملآنُ وبعضُ الحلمِ عندَ الجَهلِ لِلذِّلَّةِ إذعَانُ وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ وتأمل البيتين الأخيرين: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ إنسان يضرب ولا يرد، لماذا؟ لأنه حليم، ويضرب المرة الثانية ولا يرد؛ لأنه حليم، وكذلك في الثالثة والرابعة والعاشرة، لا يرد لأنه حليم!! فهذا ليس بحلم، وإنما استكانة وإذعان وضعف. وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ فإذا صفحت مرة وثانية وثالثة ولم تجد مكاناً لهذا الإحسان فما بقي إلا الشر. وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ وهاهم العرب ما زالوا مصرين على السلام مع اليهود مع ارتكابهم لهذا الجرم الشنيع! فيا ترى: أي سلام يتحدثون عنه؟! وقد حذر الدعاة وبحت أصواتهم وجفت حلوقهم أن اليهود لا عهد لهم، وهم في تحذيرهم يستقون كلامهم من كتاب الله عز وجل، ومع ذلك ترى محاولة استئناف المفاوضات لاستعادة الثقة! الثقة بمن؟ بالذي يصور النبي صلى الله عليه وسلم على صورة خنزير، ويطأ القرآن بقدميه؟!! هذا الذي جرى لا يجبره إلا الدم، وليس له علاج إلا الدم. وما وصل اليهود إلى هذا إلا بعدما علموا يقيناً أن هذه الأمة ماتت، وأنه ليس هناك أحدٌ يتخذ لها قرارتها، فقادتها كذبة كلهم، فالذين يدعون أن قرارهم بأيديهم لا يستطيعون فعل شيء، وكلنا يعرف هذه الحقيقة. صورة خنزير ينتسب إليها ألف مليون رجل على عجرهم وبجرهم، لكن كلهم مجمع على تعظيمه صلى الله عليه وسلم، وعلى توقيره ولو بالدعوة الكاذبة!!! أين الموالد التي تقام كل عام في محبة النبي عليه الصلاة والسلام؟! أين الذين يتشدقون بمحبته في الموالد؟! وها نحن في شهر ربيع، وبعد عشرة أيام ستسمع الموالد والجحافل، وسترى الطرقات ممتلئة بهؤلاء الذين يدعون حبه صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يدعي حب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أهين، وصور بأخس دابة على وجه الأرض، فما هي ردة فعلنا؟!

صورة أخرى تطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم

صورة أخرى تطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم حده القتل ولو تاب، ولو أظهر التوبة، رعايةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو تركنا الساب ليقول: تبت، ثم يرجع ويسب: تبت؛ لاستهانوا بجناب النبي عليه الصلاة والسلام. ولكنه يقتل. إن الكافر التافه الذي لا يتكلم أهون من السابّ؛ ولذلك فقد فرق الرسول عليه الصلاة والسلام بين الكافر الذي لا يسب وبين الذي يسب، روى الإمام النسائي وأبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً يوم فتح مكة غير أربعة رجال وامرأتين، قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل. فأما مقيس فأدركوه وقتلوه، وأما عبد الله بن خطل فأدركوه معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، وأما عكرمة ففر وركب البحر، وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، خرج عثمان بن عفان وخلفه ابن أبي سرح، ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فبايعه، ثم قال لأصحابه: أليس منكم رجلٌ رشيد إذ رآني كففت يدي عن بيعتي هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟ قالوا: يا رسول الله! هلا أومأت إلينا بعينيك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين). والسؤال الذي يطرح نفسه: جاء عبد الله بن أبي سرح تائباً فكيف يقتله والإسلام يجب ما قبله، وقد أسلم رجالٌ في فتح مكة كانوا من أكفر الكافرين وقبل منهم؟ فلماذا لم يقبل من ابن أبي سرح؟ لأنه كان يفتري على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب الوحي له، فكان يقول: كنت أملي محمداً ما أشاء!! فافترى عليه، وطعن في أمانته، وهذا من أعظم الكذب؛ لذلك استحق القتل، بخلاف الكافر الذي سبق منه إحسان. قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وقد نظر إلى أسرى بدر فقال:: (لو كان مطعم بن عدي حياً ثم خالطني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له)، فوصفهم بأنهم نتنى، وأخبر أنه لو المطعم بن عدي حياً ولم يسلم وجاءني ليفتدي هؤلاء لأعطيتهم له، مع أنه كافر، فما هو وجه التفريق بينهما وهذا كافر وهذا كافر؟ أن الثاني عنده نخوة وشهامة. مثلاً: أبو طالب خفف الله عز وجل عنه العذاب -مع أنه كافر مخلد في النار- بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]؛ لأنه كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، ففرق بين كافر نصير، وبين كافر يسب ويؤذي، وهما بخلاف الكافر الكاذب، ولذلك فإن افترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت أبداً بخير، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3]، والأبتر: الأقطع من الخير. وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً نصرانياً أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرأ البقرة وآل عمران وجد في نظر المسلمين، ثم إنه تنصر وكفر ولحق بالروم، وقال: أنا الذي كنت أملي على محمدٍ القرآن، فقصمه الله عز وجل وقطع عنقه، فدفنوه؛ فأصبح الناس وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل أصحاب محمد، نبشوا على صاحبنا وأخرجوه، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فجلس منبوذاً هناك). ألم تضم الأرض بين جوانبها أكفر الكافرين؟ هل رأيتم الأرض لفظت كافراً؟ كم ضمت الأرض بين جوانبها من الكافرين وما لفظتهم ولفظت هذا؟ لأنه اعتدى على النبي صلى الله عليه وسلم وسبه بداء الخيانة، وأنه كان يملي عليه القرآن. في الانتماء غيرة، ها هم اليهود خمسة عشر مليوناً، لو تطوعنا وبصقنا عليهم لأغرقناهم، ومما قتلني كمداً أن الأحاديث الصحفية ليل نهار بالذي يجري والذي لا يجري، ومع ذلك ما رأينا صوت دول دينها الرسمي الإسلام عقدت مؤتمراً صحفياً في الحال، وأنكرت هذا الفعل وتوعدت، وما ذاك إلا لأنهم كذبوا في دعوى محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا يعنيهم ذلك، ولا دولة حتى الآن تطوعت ورفعت رأسها وقالت: كيف يفعلون ذلك؟! أولا يستحق النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟! أولا يستحق أن يعقد له مؤتمر صحفي في الحال، ويندد ويطرد السفير ذراً للرماد في العيون؟! ولقد مررت برجل عامي صاحب مطعم جالس هو وامرأته يحدثوني عن هذا ولم أكن قد قرأت الجرائد ولا أعرف القضية، وكان الرجل يبكي وينهمر دمعه هو وامرأته يبكون وهم يتكلمون الرسول عليه الصلاة والسلام هو رأسنا، ونحن جميعاً نواليه ونحبه، يظهرون المحبة له حتى ولو خالفوه، لكنهم يظهرون المحبة ولا أحد يخالفه، ولا أحد يتبرأ منه.

دور الإعلام في التنقص من النبي عليه الصلاة والسلام

دور الإعلام في التنقص من النبي عليه الصلاة والسلام ثم وافق هذا الذي جرى والذي لا يمسحه ولا يجبره إلا الدم شيءٌ مقيت مثله تماماً لكنه حدث على أرضنا، ونشر هذا يوم أمس في جريدة الأهرام في الصفحة الثانية: امرأة رأت فلماً أجنبياً في نادي السينما يوم السبت الماضي، وفي نهاية الفلم اللقطة الآتية: بطل يأتي بعدما انتهى على بيت وقال: يا محمد! فظن المشاهد أنه يرى الرجل، فإذا بكلب أسود يخرج من البيت، فأخذه وانصرف!! هذه هي النهاية، وهذا حدث على أرضنا، وأنا ما رأيته وإنما نقلته عن جريدة الأهرام.

صور من غيرة السلف الصالح لله ولرسوله

صور من غيرة السلف الصالح لله ولرسوله إن الخطب فادح والأمر جلل، والذي وصلنا إليه ليس هناك شيءٌ بعده، أن يسب الله عز وجل -وقد سبوه- وأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سبوه وصوروه- فما هو رد فعلنا؟! إن امرأةً كشف اليهود عن سوأتها، وهي امرأةٌ نكرة، لا نعرف لها اسماً ولا رقماً ولا نسباً، ولكنها مسلمة، فنادت: وامعتصماه! فجرد المعتصم الجيش العرمرم ليرد عرض امرأةٍ مسلمة، وفتح عمورية، وأنشد أبو تمام قصيدته التي تناقلتها الكتب؛ لأجل امرأةٍ مسلمة.

قتل كعب بن الأشرف

قتل كعب بن الأشرف إن المعاهد الذمي الذي له عهد وأمان ينتقض عهده وأمانه بالسب، والحربي ليس له أمان، فـ كعب بن الأشرف كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه، ويهيج عليه القبائل، ويسبه، ويشبب بنساء المؤمنين، كما يفعل سلمان رشدي في هذه الأيام؛ فقد شبب بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، واتهمهن بالدعارة، فلما وجد اليهود أنه لا أحد ينتصر لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، صوروه على صورة خنزير، وكتبوا اسمه صراحة!! وهذه خطوة طبيعية ومتوقعة؛ لأنهم لم يجدوا من يحرك ساكناً لذلك. ولو أن أحداً من الناس اتهمت امرأته بالدعارة لدخل في حرب مع القائل ولو كلفه ذلك حياته، ولن يلومه الناس ولن يتهمونه بالتهور، فمن قتل دون ماله وعرضه فهو شهيد، وهذا يدافع عن عرضه. وهاهي أمنا: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وجويرية، وخديجة رمين في أعراضهن، فأين نخوتنا وشهامتنا؟! لقد رأوا أمة ميتة لا تتحرك، ترمى في أغلى شيء لديها ولا تتحرك، فما المانع أن يصور اليهود النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة ويلصقونها على أبواب المحلات العربية من أجل أن يصبح المسلمون فيجدون هذه الصورة على أبواب المحلات؟!! لا رد فعل على الإطلاق؛ وكأنما هذا الرسول ليس له أحد في الدنيا!!! وقد اتصل الرئيس الأمريكي بـ سلمان رشدي، وهو رجل لا قيمة له في دنيا الناس، فلماذا يتصل له الرئيس الأمريكي؟ لأنه سب النبي صلى الله عليه وسلم. نكاية في المسلمين، وتشجيعاً لمن على شاكلته. وعجباً لمن يدعي الإسلام ثم يكون هذا حاله!! وما هو إلا خلف لسلفه السابق أمثال: عمرو بن أبي عزة لما وقع في الأسر يوم بدر، ودخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: أطلق سراحي فعندي أولاد ونساء وسأحفظ لك الجميل، فأطلق سراحه ومنّ عليه، فذهب إليه كفار قريش وقالوا له: أعنا عليهم بشعرك، فقال: إني عاهدتهم وأنا رجلٌ فقير ولي عيال. فقالوا له: عيالك عيالنا! لئن مت نضمن عيالك إلى عيالنا، فهجا النبي صلى الله عليه وسلم، وذاك قبل وقعة أحد، فلما أمسكه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعف عني ولا أعود. فعفا عنه، فرجع فسبه وشبب بنساء المسلمين، فأمكنه الله منه، فقال له: اعف عني ولا أعود! قال: (لا والله لا أدعك تمشي في شوارع مكة تحك عارضيك وتقول: خدعت محمداً مرتين؛ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وأمر به فقتل. هكذا فلنكن! صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا لكنهم قوم لا ينفع فيهم جميل ولا معروف فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنّاهُمْ كَمَا دَانُوا مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدا وَالزِّقُّ مَلآنُ إن زق الماء إذا كان ملآناً وطعن فإنه ينفجر بالماء، والمعنى: أننا أصبحنا ممتلئين وسننفجر، هذا هو معنى البيت: وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدا وَالزِّقُّ مَلآنُ والنبي عليه الصلاة والسلام لما رأى كعب بن الأشرف يطعن في عرضه ويشبب بنساء المؤمنين قال: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه آذى الله ورسوله؟)، والعلماء يقولون: إن التعقيب بالفاء يدل على أن علة القتل هي السب والأذى، فكان أول من قام هو محمد بن مسلمة وهو ابن أخيه، وقام الآخر وقال: وأنا، فكان أبو نائلة، أخوه من الرضاعة، فهم من أقربائه، وقال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! أتأذن أن نقول له شيئاً؟ أي: نخدعه نكذب عليه نجره قال: نعم. فذهب محمد بن مسلمة إلى كعب وقال له: جئتُ أقترض منك وسقاً أو وسقين من شعير، فإن هذا الرجل قد أعنتنا وأتعبنا، وكل يوم يطلب منا الصدقة، فقال: كعب: وأيضاً، والله لتملنه. فقال: قد مشينا معه ولا نريد أن نفارقه حتى نرى عاقبة أمره، فقال: ارهنوني نساءكم!! أي: في وسق شعير يريد أن يأخذ امرأة الرجل، والمسألة كلها خداع، فقال: (نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟!) تأتي المرأة فترى هذا الجمال ولاتنظر إليك بعد ذلك؟ فقال: ارهنوني أبناءكم! قال: هذا عارٌ علينا، أن يسب أحدهم يوماً فيقال: رُهن بوسق من شعير، ولكن نرهنك اللأمة، وهو درع الحرب، وكان هذا ذكاء من محمد بن مسلمة، حتى إذا جاء بأدوات الحرب لا يشعر أنهم يريدون قتله، فجاء هو وأبو نائلة وعباد بن بشر وجماعة، وخططوا خطة، وقال محمد بن مسلمة: أنا سأمسك رأسه فإذا تمكنت من رأسه دونكم فاقتلوه، فجاءوا بالليل ونادى أبو نائلة أخوه من الرضاعة، وقال: يا كعب! فسمعت امرأة كعب الصوت، فقالت: لـ كعب: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم، إلى أين أنت ذاهب في هذه الساعة؟ قال: هذا رضيعي أبو نائلة وابن أخي محمد بن مسلمة وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب! ونزل يفوح عطراً، فلما دنا من محمد بن مسلمة قال له: ما رأيت كاليوم عطراً، ما هذا العطر؟ فتبسم كعب وقال: عندي أعطر العرب، وأجمل العرب، وكان ما زال عروساً، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ فأعطاه رأسه، فلما أمسك رأسه واستمكن قال: دونكم عدو الله، فقتلوه). وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل السيرة على أنه كان مستأمناً معاهداً، فلما سب لم يكن له عهد ولا أمان.

أبناء الصحابة يتسابقون في قتل أبي جهل لأنه كان يسب رسول الله

أبناء الصحابة يتسابقون في قتل أبي جهل لأنه كان يسب رسول الله في الماضي عندما كان هناك انتماء وولاء خالص للإسلام كان هناك أطفال في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، أمثال معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، لهم موقف شبيه بهذا الموقف، فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (كنت أقف في الصف يوم بدر، فإذا بغلامين، جاءني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم جاء صبيٌ مثله فغمزني وقال مثلها، فعجبت! فلما رأيت أبا جهل يجول في الناس قلت: هذا صاحبكما! فتوجها إليه فضرباه جميعاً، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته! فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلٌ يدعي أنه قتله، -شرف أن يقتل عدو الله ورسوله، هذا هو قصب السبق، وهذا هو الولاء والانتماء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فلما نظر إلى السيفين قال: كلاكما قتله تطييباً لخاطرهما-). إن هذه محنة، ومن المحن تأتي المنح، وقد قرأت خبراً عجيباً: قصة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصادق المخبر في كتاب: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) يقول: حدثني كثيرٌ من الثقات والعلماء الغزاة الذين كانوا يحاصرون بني الأصفر (الروم) أنهم كانوا يحاصرون المدينة شهراً وشهرين وأكثر، وأهل المدينة يتحصنون بالحصون وعندهم الأكل والشرب، قال: كنا نحاصرهم شهراً وشهرين وأربعة حتى كدنا أن نيأس في غزوهم، وإذا هم قد سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ففتحنا الحصن بعد يومين، فقال هؤلاء العلماء: كنا نتباشر بسب النبي صلى الله عليه وسلم مع امتلاء قلوبنا غيظاً من ذلك، يتباشرون أي: يستبشرون، فإذا سمعوا أهل الحصن يسبونه عرفوا أن الفتح قادم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]، إن شانئه وسابه لا يموت بخير، وهو مهزوم، فكأنهم فعلوا ذلك بشارة، مثلما كانت بشرى لأسلافنا أنهم لم يستطيعوا فتح الحصن إلا بعد أن سبوه، فأسلمهم الله عز وجل لهم وفتحوا الحصن بعد يومين. واتفق العلماء على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل؛ مسلماً كان أو ذمياً؛ وذلك رعايةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم.

شعراء الصحابة يذبون عن عرض النبي عليه الصلاة السلام

شعراء الصحابة يذبون عن عرض النبي عليه الصلاة السلام صرمة بن قيس شاعرٌ صحابي كان في الجاهلية على دين إبراهيم -أقول هذا لتعلموا الفرق- يذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل وبعد الهجرة، فيقول: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكّر لو يلقى حبيباً مواسيا ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بطيبة راضيا بذلنا له الأموال من حل مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذي عادي من الناس كلهم بحقٍ ولو كان الحبيب المصافيا وفي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لشعراء المسلمين: (اهجوا قريشاً، فوالذي نفسي بيده لهو أسرع فيهم من النبل)، فأرسل إلى عبد الله بن رواحة وقال: (اهجهم، فهجا فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، فهجا فلم يرض، فأرسل إلى حسان بن ثابت، فجاء حسان فدخل فقال: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه فأخرج لسانه من بين شفتيه وجعل يحركه- لأن الأسد إذا غضب ضرب جنبيه بذنبه- ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لأفرينهم فري الأديم) أي: لأمزقن أعراضهم كما يمزق الجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل حتى تأتي أبا بكر فإنه أعلم بنسب قريش)، فذهب إلى أبي بكر فلخص له نسب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشأ حسان يقول لـ أبي سفيان وأتباعه أيام كان كافراً: هجوت محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمداً براً تقياً رسول الله شيمته الوفاء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يبارين الأعنة مصعدات على أكتافها الأسل الظماء فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم يعز الله فيه من يشاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا الشعر (لقد شفى حسان واكتفى) أي: شفى صدور المؤمنين، واكتفى منهم بما فعلوه، هذا هو الأسد الضارب بذنبه.

تربية الأبناء على الدين أول طريق للتمكين

تربية الأبناء على الدين أول طريق للتمكين والآن نتكلم عن تربية الأولاد، ودورهم في النهوض بالأمة نتكلم في قول الله عز وجل: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:6]، ونتكلم عن جيل التمكين ومواصفات جيل التمكين. المستعجلون يستقبلون هذه الخطوات، لكن إهمال تربية الولد مشاكله مؤجلة، فهذا الجيل المهزوم إنما هو تربية آباء لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، هذا الجيل المهزوم الذي يملأ الدنيا الآن ابن لأب جاهل لم يكن عنده انتماء ألبتة، لذلك ورث هذا الحطام الهشيم. والمسألة في تربية الأولاد مسألة وقت، تخيل أن هذا الجيل جيلنا وجيل أبنائنا بعد سبعين سنة مثلاً، أليس أولاد جيلنا هم الذين سيحكمون؟ وهم الذين يتخذون القرار؟ فالمسألة مسألة وقت، خمسون سنة في عمر الأمم لا تساوي طرفة عين.

صور من حياة السلف في التضحية لهذا الدين

صور من حياة السلف في التضحية لهذا الدين صلاح الدين الأيوبي استرد بيت المقدس بعدما ظل تسعين سنة في أيدي الصليبيين، فلنأخذ مثلها ونرجع البيت المقدس، هذا هو الدواء الناجح والأمثل، فقد اتسع الخرق على الراقع، ونحن نربي أولادنا حتى لا نسقط من ميزان الحق، وحتى لا ينظر الله عز وجل إلى الأرض فيمقتها كلها ويستبدل بهؤلاء الناس رجالاً آخرين.

قتل أبي رافع

قتل أبي رافع يحكي لنا البراء بن عازب قصة تاجر الحجاز أبي رافع، وكان أبو رافع ممن يعين بماله على المسلمين وعلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أشهر تاجر في مكة: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. فقام عبد الله بن عتيك، وانتدبه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية وقال: اذهبوا إليه، فذهبوا حتى وصلوا إلى قصره المنيف، وهو تاجر كبير، وعنده ضيوف وسمار يسمرون معه إلى آخر الليل، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا وأنا سأذهب وأتلطف في الدخول، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه. وقد يكون هذا الرسم الذي رسموه، اليهود بداية حرب بيننا وبينهم أرادها الله، فتهيج الدنيا وتموج في بعضها وينصر الله عز وجل من يشاء. فحتى يقتل هذا الكافر - أبو رافع - يخرج حمار من القصر، فيرسل الحرس ليبحثوا عن هذا الحمار، فعندما رأى عبد الله بن عتيك الحرس خارجين من القصر جلس وكأنه يتبول، وتقنع حتى لا يرى ولا يعرف. قال: فدخلت، ولم يفتشني أحد، فدخلت واختبأت، فبعدما دخلوا كلهم وأغلقوا القصر من الداخل، قال: وضع الحارس الأغاليق في ودٍ في كوة -والكوة: هي الطاقة التي في الجدار، والود: هو الوتد الذي في الطاقة، فعلق السلسلة التي فيها المفاتيح على الوتد الذي في الطاقة- فنظرت إلى المفاتيح وقلت: الحمد لله. فلما دخل الحارس لينام كمنت -لأن هناك ضيوفاً ولا يستطيع أن يدخل عليهم- حتى خرج السمار آخر الليل، فدخلتُ، فكلما دخلت أغلقت عليّ الباب من الداخل -ولم يفته أن يغلق الباب على الحارس- قال: فدخلت فرأيت القصر كله مظلم، فناديت عليه: يا أبا رافع! فقال: من؟ فاتجهت نحو الصوت، قال: فعاجلته بضربةٍ وأنا دهش -ودهش: يعني مذهول لم يصدق أنه دخل القصر ووجد أبا رافع - غير مصدق لنفسه، والمذهول إذا ضرب يضرب ويده ترتعش فلا يحسن الضرب. قال: فقال أبو رافع: من؟ فاتجه إليه وضربه ضربة وهو دهش، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، واستغاث، قال: فغيرت صوتي وجئت كأنني أغيثه، فقال له: أغثني! الويل لأمك! ضربني فلان، أو ضربني رجل، قال: فعاجلته بضربةٍ أخرى، فلم تغن عنه شيئاً، قال: فصرخ، فغيرت صوتي وجئته كأنني أغيثه، فقال: الويل لأمك! ضربني ضارب، قال: فأمسكت بذباب السيف فتحاملت به عليه، فسمعت صوت العظم. فأول ما سمع صوت قعقعة العظم علم أنه قتله، ولكنه لم يهرب، بل قال: لن أخرج من هنا حتى أعلم أنه هلك -أي: عندما يعلن الناعي من على السور ويقول: مات تاجر الحجاز-. انظر إلى الفداء!! يريد أن يطمئن أن المهمة قد تمت على أتم وجه، فإنه: قد يمكن أن تخفق العلمية ويصاب بغيبوبة في المخ فقط، وقد قرأت لبعض المتخصصين في طب الأطفال يقول: إن الولد لو حدث له موت مخي فإنه يسترد مخه بعد أربعة شهور، ويبقى مخه (مائة في المائة) وتقول المجامع العلمية الطبية: إن موت المخ لا يكون إلا بعد خمس سنين. أي: يستطيعون بعدها أن يقولوا: إن المخ مات فعلاً. فلما سمع عبد الله بن عتيك القعقة أراد أن يتأكد من مقتله، فما كان ليخرج حتى يعلم أنه قد مات، وبمنتهى الفدائية ظل في القصر حتى أذن الديك، فلما أذّن الديك قام الناعي فوقف على السور وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز! قال: فلما سمعت ذلك جعلت أفتح الأبواب، فلما وصلت إحدى السلالم وكانت الليلة مقمرة ظننت أني وصلت إلى آخر درجة، فوقعت على الأرض فكسرت رجلي. فخلع عمامته رضي الله عنه وتسور السور إلى أصحابه وقال: لقد قتل الله أبا رافع، الحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فحملوه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأول ما وصل قال له صلى الله عليه وسلم: (ابسط قدمك فبسطها فمد يده عليها فكانت أصح رجليه).

خروج الصحابة في غزوة تبوك

خروج الصحابة في غزوة تبوك إن ربنا سبحانه وتعالى عاتب الصحابة، فقال: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، هذه الآيات في سورة التوبة نزلت في غزوة تبوك، وبين الهجرة وبين غزوة تبوك ثمان سنين، فقد: تأجل هذا العتاب ثمان سنوات: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. لأن غزوة تبوك كانت من أشق الغزوات على الصحابة، وقد سمي جيشها بجيش العسرة جاء في قلة مال، وفي حر شديد، وسفر بعيد طويل. فقلة المال لأن الثمار بقي لها شهر وتقطف وتباع في الأسواق، ويحصل رواج تجاري، فلم يكن يوجد سلعة ولا فاكهة تباع أو تشترى، الأموال مجمدة، فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، ثم ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البذل والفداء والتضحية، فقام عثمان مرةً ثانية، فقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام عثمان مرةً ثالثة وقال: هذه ألف بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وهو يضرب فخذه بيده ويقول: (ما على عثمان ما فعل بعد اليوم)، لقد جهز جيش العسرة من ماله. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. فقطعوا رضوان الله عليهم في شدة الحر مسافة طويلة جداً في واحد وعشرين يوماً سيراً على الأقدام، وتركوا زروعهم ولم يبق على قطافها إلا شهر أو أقل، وكانوا ينتظرون الحصاد ليروج. فهذه الأشياء مجتمعة أظهرت المنافقين في المجتمع المدني، وجاءوا يقولون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، واغتر بعض المؤمنين الصادقين فتخلفوا بسبب هذه الظروف الشديدة. أمثال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وانكشف من المنافقين بضعة وثمانون منافقاً، وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13]،: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]. وفي هذه الظروف عاتب ربنا سبحانه وتعالى الصحابة لماذا لم تخرجوا؟ إلا تنصروه الآن فهو مستغنٍ عنكم، ليس بحاجةٍ إليكم، فينصره الذي نصره لما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار، بغير كسب أحد منكم، وبغير تأييد أحد منكم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، وقال لهم يهددهم: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة:39]. انظر إلى هذا التهديد! إن لم تنفر يعذبك عذاباً أليماً، ويخسف بك، ويأتي بقومٍ يحبهم ويحبونه. إن الرجل في الصعيد إذا قتل له قتيل يلبس طرحة، ويقول بلسان حاله ومقاله: هو امرأة حتى يأخذ بالثأر! امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المشهور، كانت حياته كلها خمر وعربدة، فأفاق يوماً من شرب الخمر وقد قتل أبوه، فقال: لا بد أن نطلب الملك، وخرج هو وصاحب اللهو إلى بلاد الروم فلما تجاوزا الحدود، بكى صاحبه لما نأت به دياره فقال: يصبره: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا إذا متنا في طلب الملك فسوف يعذرنا الناس، لكن هناك شخص تدنت همته فأخذ هذه الأبيات وعمل لها تشطيراً، على نفس البحر والقافية، ولكن للناس فيما يعشقون مذاهب، ذهب هو وصاحب له ليتغدون عند صاحب لهم، وكانوا يظنون أنهم سيأكلون لحماً، ففوجئوا، فأول ما رأوا المائدة المستديرة طاشت أحلامهم، ورأوا الخطب الفاجع. فأنشد يقول: أتانا غنيم بالفطير وأحضر وكنا حسبناه دجاجاً محمرا بكى صاحبي لما رأى اللفت دونه وأيقن أن الجوع كان مقدرا فقلت له لا تبكِ عينك إنما سنأكل لفتاً أو نموت فنحضرا فكل واحد له مذهب في الدنيا هذا رجل يسعى إلى ملك، وهذا رجل يسعى على ملء بطنه. لقد قال امرؤ القيس نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا فالناس سيعذرونه إن مات وهو يطلب الملك. ولو نحن لو متنا وتركنا هؤلاء يعربدون ويسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، ماذا سيقول الجيل الذي يأتي بعد ذلك؟ ويتهموننا بخيانة الأمانة، ولذلك هذه مسألة خطيرة. فلابد لكل مسلم أن يكون له انتماء، ومن حسنات هذه المصيبة الفادحة أنها ألهبت شعور العوام، كان هناك أناس غارقون في هم الدنيا؛ فصار الإسلام قضية بالنسبة لهم! ولم يكونوا ليتحركوا أبداً مهما قلنا لهم، ومهما فعلنا معهم. يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم نوموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم فهذه القضية تلهب الشعور، فالإسلام يجب أن يكون قضية، ولا بد أن نتكلم عن الإسلام كل يوم في البيت، لابد أن يكون هناك جزء من الوقت بين الرجل وامرأته يتكلمون فيه عن الإسلام وقضاياه. فعندما تفكر في مستقبل الولد ماذا سيفعل الولد؛ فكر في حال الأمة إن أمتنا تعاني، تعاني بعد سبعين سنة من الإهمال، ولذلك نحن نقول: المسألة مسألة وقت. فسب النبي صلى الله عليه وسلم ورسمه على هذه الصورة لا يمكن أن يمر هكذا دون أن نفعل شيئاً، ونحن نناشد القيادات السياسية ونقول: نحن متأكدون أننا لو دخلنا في حرب فسننتصر، إن الله معنا، مهما كان معهم من الرؤوس النووية، لكن ادخلوا الحرب بالانتماء إلى الإسلام تغلبوا وتنتصروا. لقد مُرغت أنوفنا في التراب رغماً عنا خمسة عشر مليوناً يفعلون بألف مليون منتسب إلى الإسلام على عجره وبجره كل هذه الأفاعيل! ألا نستلهم القوة والانتماء من تصرف الجيل الأول؟ وكيف أنهم عزوا وسادوا؛ بحبهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يفدونه بالآباء والأمهات.

جزاء من يسب الله ورسوله

جزاء من يسب الله ورسوله هذا هو جزاء من يهجو رسول الله؛ لأن الله عز وجل ناصر لرسوله ودينه، فلو سبوه فإن الله متم نوره، ولو مدحوه فإن الله متم نوره، لكن من ينكث فإنما ينكث على نفسه. إن هذا الرجل قد آذى الله ورسوله، فانتدب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلة من الأوفياء لله ورسوله. إن مسألة الانتماء مسألة مهمة جداً، ولتكن نقطة الانطلاق والبدء هذا الحادث الأليم المفزع الذي ملأنا بالغيظ، وإن من علامات الانتماء: الغيرة أن يغار له وعليه. كان الولد يقتل أباه، والوالد يقتل ولده، كل هذا لأنهم ما كانوا يعرفون غير الإسلام أباً لهم. في صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أجمة فيها عبد الله بن أبي ابن سلول -والأجمة: المكان المرتفع من الأشجار- فـ ابن سلول أول ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سبه وقال: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة. يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو كبشة هو جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه -كما يقول ابن حبان - والعرب كانوا إذا انتقصوا رجلاً نسبوه إلى جد غامضٍ؛ لأنهم كانوا يفتخرون بالأنساب والأحساب، فعندما ينسبونه إلى جدٍ لا يعرف فكأنهم قد مزقوه، ومعي: (غبر علنيا): ضيع علينا الدنيا وأخذ منا السلطان، فسمع هذه الكلمة ابنه عبد الله، فهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (والذي بعثك بالحق لئن شئت لآتينك بعنقه)، مع أنه أبوه! وانظر الآن إلى هذه النماذج: الأب يكفر ويسب دين الله عز وجل ليل نهار، ويصد عن سبيل الله عز وجل، والولد يخدمه فيما يريد من المعاصي، فإذا قلت له: لماذا تعمل هكذا يا بني؟! قال لك: إن أبي عنده مرض السكر والضغط، ولو أني تركت البيت ومشيت فسوف يموت مباشرة فليمت يا أخي!! ليستريح منه العباد والبلاد، إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، وهو في الصحيح. فهو عبدٌ مكروه كل شيء يكرهه، حتى الدواب تكرهه، فهو غير جدير بالحياة؛ لأنه فهو يسب الله وهو يرتع في خيره، ويصرف العبادة إلى غيره، والسب هو أعظم الأذى على الإطلاق. إن الصحابة ما كان يخطر ببالهم عشر معشار ما يفعله الجيل الآن، ما كان الأب يتردد أبداً في قتل الولد إذا كان عدواً لله ورسوله، مثلما حدث بين أبي بكر وابنٍ له، فبعدما أسلم ابنه قال له: لقد رأيتك في موقعة كذا في غزاة كذا وكنت إذا رأيتك اجتنبتك خشية أن يسبق سيفي إليك فأقتلك، فقال: أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك لماذا؟ لأن الولاء والانتماء الأول هو لله ورسوله، ويأتي بعد ذلك أي ولاء وانتماء، فنحن نحب المؤمن لحبه لله عز وجل، ولحبه للنبي عليه الصلاة والسلام، لا نحب المؤمن لأنه جلد وعظم ولحم؛ لأنه لا فرق بينه وبين الكافر من هذه الحيثية، لكن كلما كان محباً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإننا نواليه بقدر ما فيه من حب، ونعاديه بقدر ما فيه من جفاء وضعف، وهكذا كان الصحابة الأوائل. إننا نهيج بهذه الحكايات والقصص نفوس المسلمين، الذين يعانون من هذه المحنة العظيمة والفاقرة الشديدة والداهية الدهياء، وهي أن يسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نروح ونغدو، ونأكل ونشرب، ونتمتع مع الأولاد والنساء وكأن الأمر لا يعنينا!! لو حصل عشر معشار هذا في زمان أي خليفة من الخلفاء، والله لما أرضاهم إلا أن يستلبوا بلاد عدوهم كلها، فسبّ النبي عليه الصلاة والسلام هو أعظم حدث. إننا نعرف أنهم يسبون النبي عليه الصلاة والسلام، ويسخرون منه؛ لكن أن يصرحوا بهذا، ثم يقومون بكتابة اسمه بالخط الفارسي الفصيح، وهو يرسم قرآناً ويمسك بالقلم ويكتب، وتوضع على المحلات المسلمة كلها، فيصبحون ويجدونها معلقة على أبواب محلاتهم، وتصور وكالات الأنباء هذا الحادث وتنشره بكل جرأة ووقاحة!! وكما هو متوقع وفي نفس اليوم اعتذر الرئيس الإسرائيلي، ولم نر أحداً من قادة العرب شجب واستنكر. وقالوا: مثلما قالوا في ذلك الرجل الذي قتل مائة في الحرم الإبراهيمي أن عقله مختل! وماذا سنفعل؟ ولكن سنأخذه ونضعه في مستشفى الأمراض النفسية، وانتهت القضية، وذهبت دماء الناس في الحرم الإبراهيمي هدراً!! وكذلك هذه الرسوم: البنت صغيرة وتذهب ولا ردة فعل وانظر في المذكرات التي ينشرها القادة العسكريون، يقولون: بعد حرب (73) كان من ملامح هذه الحرب دشن الطائرات، وكانوا يصبون قنابل، وأطنان الذخائر ولا تؤثر، فأين هذه الطائرات وأين تختبئ؟! فهم يريدون أن يعرفوا دشن هذه الطائرات وكيف بنيت، والكلام هذا منشور. فقالوا: إن هناك واحد من العملاء في أحد المطارات يستطيع أن يعرف هذه الدشنة وشكلها، فدخل ورأى الدشن؛ لأنه كان يعمل في ورشة طائرات، فأراد أن يعرف بكم طن أو بكم كيلو من الممكن أن تفجر هذه الدشنة، فأتى برقم معين لا يمكن لدشنة أن تصمد أمامه، ولتمام الدور أتوا برجل من بلده إلى هنا على أنه يعاني من اكتئاب من يوم أن ماتت أمه أو من يوم أن ماتت أخته وهو يكلم نفسه ويهذي، وكل هذا من أجل إذا عمل العملية يقولون لقد كان مكتئباً، ونحن لم نقصد، فأتى بقدر معين من الذخائر لا يمكن لدشنة أن تصمد أمامه، وفجرها، وكان تفجيراً رهيباً. فلو وضع مثلاً ثلاثمائة كيلو في هذه العملية ولم تفجرها سوف يضعون مثلاً ستمائة؛ لأنه سيرى الخسائر المبدئية في الدشنة، فلو رأينا أن ستمائة كيلو مثلاً دمرت تسعين بالمائة أو سبعين بالمائة من الدشنة، إذاً إذا أرادوا الضرب سيضعون ستمائة أو تسعمائة أو ألف. وفي الأخير يخرج الولد وهو مكتئب إلخ، ويأتي فريق طبي من أكبر الأطباء الذين لا يخطر على البال أن يكذبوا، فيخدمون مخابرات بلادهم ويقولون لك: إن الولد عقله مختل، والحمد لله أنه لم يحرق المطار كله. فهكذا تطلع البنت صغيرة، وامسحوها فيّ هذه المرة!! وكذلك الولد الذي قتل المائة في الحرم الإبراهيمي هو مجنون وامسحوها فينا هذه المرة!! وهكذا. لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الهجرة الهجر العزلة

الهجرة الهجر العزلة الولاء والبراء أصل من أصول الإسلام، فلا يتم إيمان عبد حتى يوالي أولياء الله، ويتبرأ من أعداء الله، ومن كل ما يعبد من دون الله وحتى تتم البراءة التامة من أعداء الله تعالى فقد شرع الله تعالى الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، وشرع الهجر لأعداء الله تعالى من الكفار والمشركين وأهل البدع، وكذلك الهجر للمعاصي وأهلها، ولكل شيء يخالف دين الإسلام.

البراءة من أعداء الله ومن كل ما يعبد من دون الله

البراءة من أعداء الله ومن كل ما يعبد من دون الله إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يعتبر أبو الوفاء ابن عقيل هو أحد علماء الحنابلة، عاش معظم حياته في القرن الخامس الهجري، ومات في أوائل القرن السادس، وهو صاحب أطول كتاب أُلف، لا أقول: في الإسلام فقط، ولكن في الدنيا كلها، فقد ذكر ابن رجب رحمه الله في ذيل طبقات الحنابلة أن له كتاباً يسمى كتاب (الفنون) يقع في ثمانمائة مجلد، وكان واعظاً ماهراً، وعالماً أصولياً بارعاً، له كلمة حكيمة يقول فيها: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى تزاحمهم على أبواب الجوامع، ولا تنظر إلى صراخهم في الموقف بـ (لبيك اللهم لبيك)، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة). إذا رأيتهم يواطئون أعداء الله ورسوله، ويلقون إليهم بالمودة؛ فلا تغتر بزحامهم على أبواب الجوامع إنه يأتي يصلي في الصف الأول ويرتشي ويأتي يصلي في المسجد ويزني ويشرب الخمر، فلا تنظر إلى هذا الزحام، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة. نحن اليوم مع ثلاثة نماذج هي آثار للبراء: الهجرة، والهجر، والعزلة هذه كلها نواتج للبراءة من أعداء الله ورسوله، وإنما ركزت عليها؛ لأن الولاء لا يكون إلا بعد براءة صحيحة، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ إذ لا يستقيم إيمان بالله إلا بعد كفر بالطاغوت رجل عنده بقايا من الكفر بالطاغوت لا يؤمن بالله حق إيمانه، فيبدأ بتطهير قلبه أولاً، كمثل الإناء، فإذا كان في قعر الإناء بقايا طين فصببت فيه الماء الزلال تعكر الماء كله، كذلك إذا كان في القلب بقايا من الإيمان بالطاغوت فصببت فيه الإيمان بالله؛ تعكر الإيمان كله، فلا يسلم لك إيمانك إلا إذا كان القلب نقياً من الكفر بالطاغوت. إن مواطأة أعداء الشريعة أعظم جريمة يرتكبها المسلم؛ لأنها باب من أبواب الكفر، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما بايع جرير بن عبد الله حين جاءه مسلماً قال: (أبايعك على أن لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين)؛ وذلك لما لمخالطة المشركين من الأذية على القلب.

مشروعية الهجرة إلى الله تعالى بترك الأهل والأوطان

مشروعية الهجرة إلى الله تعالى بترك الأهل والأوطان حتى تتم لذلك لتتم البراءة شرعت الهجرة، وشرع الهجر، وشرعت العزلة فأما الهجرة فنوعان: هجرة، وهجر. هجرة بالبدن، وهي: مفارقة الأرض والخلان والأخدان والإخوان, وهذا أعظم ما يفعله العبد المتبرئ من أعداء الله عز وجل؛ لمشقته على النفس، وأول من هاجر هو إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26] {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، فشرعت الهجرة بعده؛ إذ أن الله عز وجل امتن عليه بأن الحنيفية السمحة كانت على يديه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فسنت الهجرة بالبدن ومفارقة الأرض لكل مؤمن يدين بدين الحنيفية بعد إبراهيم عليه السلام. وهاجر لوط أيضاً، وهاجر نبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه بإذنه قبل ذلك. ومن الخسة بمكان أن يربط المرء عواطفه بتراب، أبى الله للمسلم إلا الرفعة، فلا يربط المسلم نفسه بالتراب، حتى ولو كان أشرف مكان على وجه الأرض وهي مكة إن مكة وهي بلد الله الحرام، وهي أحب بلاد الله إلى الله، كانت يوماً ما دار كفر، تركها النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر منها، فالمسلم لا يرتبط بأرض أبداً؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41 - 42]، (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) أي: أخرجوا قسراً من أرضهم وأموالهم ظلماً وعدواناً لماذا تخرجه؟ لماذا تستحل ماله؟ لماذا تشرده؟ هذا ظلم، لكنهم هاجروا في الله من بعد ما ظلموا، (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) والحسنة: هي التمكين في الأرض، (ولأجر الآخرة أكبر) إذا وافى ربه عز وجل، فقد أخذ الله عز وجل على نفسه أنه من خرج من أرضه أن تبارك وتعالى يعزه ويوطئ له الأرض، (لنبوئنهم) اللام والنون المشددة للتأكيد، ولأجر الآخرة أكبر. ولذلك كان من تمام هجرة المسلمين إلى المدينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المهاجر أن يظل في مكة بعد النسك أكثر من ثلاثة أيام، فقال للصحابة: (لا يحل لرجل هاجر من مكة إلى المدينة أن يرجع فيستوطن مكة مرة أخرى)، له ثلاثة أيام بعد النسك فقط، وبعدها لا يحل له أن يبقى في مكة؛ حتى لا يرجع في ما وهبه وفعله لله عز وجل، فهذه هي هجرة الصحابة رضي الله عنهم. ولذلك يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما مرض في حجة الوداع: (مرضت مرضاً أشرفت فيه على الموت، فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته بكيت. قال: ما يبكيك؟ فقلت له: أخشى أن أموت بمكة)، أي: يموت في الأرض التي هاجر منها، يريد أن يكون عمله لله عز وجل؛ لأن أمامه نموذجاً محزناً وهو سعد بن خولة، فقد مات رضي الله عنه بمكة، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى سعد بن أبي وقاص أنه مرض مرضاً شديداً خاف أن يموت بمكة ما خاف على أمواله، ولا خاف على بنته الوحيدة آنذاك، إنما خشي أن يموت بالأرض التي هاجر منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل الله أن يحييك فينتفع بك قوم ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، ووصفه بالبائس لأنه مات بمكة. كل هذا حتى يبقى العمل لله عز وجل، فلا يلوث بالتراب؛ لأنه ليس من عقائدنا التمسك بالأرض، فهذه الأرض التي ولدت فيها إن عجزت أن تطيع الله فيها فيجب عليك الهجرة، لا تقل: بلدي التي ولدت فيها، فما هذا من قول المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي)؛ لم يكن يمجد الأرض كما يمجدونها الآن، وكما يستغلون هذا الحديث استغلالاً خطأً، فيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة ويحب الأرض لا والله، إنما قال: (إنك لأحب أرض الله إلى الله)، فلذلك هي أحب الأرض إلينا وإن لم نكن من أهلها؛ لأنها أحب الديار إلى الله، فكذلك هي أحب الديار إلينا. إنما حقر النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالأرض ليخف وقع البلاء عليه، فإذا فارقت بلدك وفارقت ملاعب صباك، وفارقت أموالك التي أنفقت فيها شطر عمرك، فيقول لك: لا تحزن، ليخف البلاء عليك إذا فارقت وطنك. الهجرة بالبدن من أرض الكفر إلى أرض الإسلام واجبة، ومن الديار التي تقام فيها شعائر أهل البدع إلى الديار التي تقام فيها السنة واجبة، وكذلك تشرع الهجرة من البلد التي غلب على أهلها كسب الحرام. وكل هذا بحسب طاقة الإنسان، فإن كل واجب إنما يكون بحسب الطاقة.

الهجر أحكامه وأنواعه

الهجر أحكامه وأنواعه إن عجزت أن تخرج من بلدك، وعجزت أن تفارق بالبدن، ولم تستطع أن تحقق الهجرة، فما بقي إلا الهجر. واعلم أن أصل الهجر بين المسلمين حرام، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأنس وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وجماعة من الصحابة يزيد عددهم عن عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين أن يتهاجرا فوق ثلاثة أيام، فقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)، وهذا الهجر محرم بإجماع العلماء. والهجر المحرم هو الهجر لأجل الدنيا، أن تهجر أخاك للدنيا المحضة، لا لسبب شرعي، فإن هذا لا يحل ولا يجوز. وقد تهاجر اثنان فكتب أحدهما إلى الآخر: يا سيدي عندك لي مظلمة فاستفت فيها ابن أبي خيثمه لحديث يرويه عن شيخه قال روى الضحاك عن عكرمه عن ابن عباس عن المصطفى نبينا المبعوث بالمرحمه إن صدود الإلف عن إلفه فوق ثلاث ربنا حرمه فعاده ووصل رحمه. وهكذا كان أهل العلم، ففي الدنيا لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث على الإطلاق. إن التباغض الحادث بين المؤمنين لا يقطع أخوة الإيمان قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:9 - 10]، هكذا ذكرت الأخوة بعد البغضاء والشحناء، فكذلك أخوك المسلم ينبغي أن تواليه وإن كان بينك وبينه مظلمة، ولا يحل لك أن توالي الكافر وإن أحسن إليك، فإذا أساء إليك أخوك فينبغي أن تواليه؛ لأن أخوة الإيمان لا تنقطع بالمشاحنات، ولذلك مع هذا التهاجر والاقتتال وصفهم الله عز وجل بالإيمان {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فكل إنسان نواليه على قدر ما فيه من المحبة لله ورسوله، ونعاديه على قدر ما فيه من الذنب والمعصية والبدع، وأصل الهجر بين المسلمين حرام. وينقطع الهجر بالسلام والكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، لكن إذا كان الهجر لسبب شرعي فهو جائز إلى آخر العمر، فيجوز لك أن تقطعه إلى آخر العمر، لكن هذا أيضاً له ضوابط.

العلم من شروط الهجر

العلم من شروط الهجر الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام! الهجر نوع من الجهاد، وهو فرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشترط العلماء في الآمر والناهي أن يكون عالماً بالمسألة التي سينكرها أو سيأمر بالمعروف فيها، فمن التبس عليه ذلك توقف. لقد رمانا أناس كثيرون في أول الالتزام بالخروج عن الإسلام؛ لأننا دللناهم على السنة الغائبة، وكانوا يزعمون أننا جئنا بدين جديد، فهل هم محقون؟ هل جئنا نحن بدين جديد أم أنهم أنكروا علينا بالجهل القديم؟ لقد أنكروا علينا بالجهل القديم، فهناك بعض المسائل الدقاق التي تخفى على طالب العلم فضلاً عن العوام. إذاً: قبل أن ينكر -فضلاً عن أن يهجر- لابد أن يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه. وهذا الهجر لا يختص بهجر الأبدان فقط؛ بل إنه يشمل كل ما يضاد الله ورسوله ودينه؛ كهجر المجلات الخليعة، والصحف الوقحة التي تناوئ الإسلام، مثل صحيفة الدستور، والمجلات الفاجرة التي تنادي جهرةً بتنحية شريعة الله عز وجل، ويقولون: ما تأخرنا إلا بسبب تحكيم الشريعة والعجب أنهم يصرحون بذلك ويرجعون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين! هذا هو العجب العجاب! إنني أقرأ كلام بعض هؤلاء فأحس بدبيب الأفاعي تحت السطور، وأرى حيات لجلدها حفيف ولأنيابها جرش من خلف السطور! إنما أرسلوا هذه الحيات والأفاعي من بنات أفكارهم ليغتالوا قلوبنا وأفكارنا، وليشككوا في انتمائنا للإسلام كمثل كشيش أفعى أجمعت لعضي فهي تحك بعضها ببعض هذا هو كلامهم، لاسيما أن أكثر الذين يتعاطون هذه الصحف والمجلات ليسوا من الدعاة حتى يقول: أنا أقرأ لكي أرد إنما هم من العوام، وقد يقال: لو أن داعية ترخص واشترى مجلة من هذه المجلات؛ ليعلم حقيقة الحرب الدائرة على الإسلام، ويبصر الجماهير بما يحاك لها في الظلام، قد يقال: إن هذا جائز؛ كما أنه أجيز لأهل الإسلام أن يقرءوا التوراة والإنجيل ليردوا على أهل الكتاب، وأبيح للعلماء أن يقرءوا كتب أهل البدع ليردوا عليهم من كتبهم، وقد نبغ عندنا علماء أجلاء كانوا أفقه لدين النصرانية من لمباشنودا، والذي يقرأ كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ يعرف قدر هذا الشيخ، وقدر فهمه للنصرانية. يقول ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة بضع وسبعمائة: إنه قابل أحد القساوسة، الذين هم البطاركة الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، قال: فجادلته في دينه، فرأيته يفهم من دينه شيئاً سبحان الله! يفهم من دينه شيئاً! إذاً ابن كثير كان أعلم منه بالنصرانية، فقد كان هؤلاء العلماء وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينقلون من الإنجيل ويحاججون هؤلاء بإنجيلهم. فإذا جاز للمسلم أن يفعل ذلك لغرض المصلحة الراجحة، فلا يحل للعوام الذين لا ينتصبون للرد على هؤلاء أن يقرءوا مثل هذا، ولا يشتروا مثل هذه الصحف؛ لما يخشى عليهم من تزيين العبارات، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى صحيفةً من التوراة في يد عمر قال: (ما هذا يا عمر؟ قال: صحيفة من التوراة كتبها لي رجل يهودي. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلت وجهه حمرة، وكان إذا غضب كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: أمتهوكون في يا ابن الخطاب؟! -أي: أمتحيرون؟ - والله لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما حل له إلا اتباعي)، لِمَ يخشى على مثل عمر أن تكون هناك عبارة منمقة مزينة تخترق قلبه. وكما قال سفيان الثوري: القلوب ضعيفة والشبهة خطافة. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعصم قلوبنا من الشيطان وشبه أولياء الشيطان، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، إنك نعم المولى ونعم النصر.

الزجر بالهجر تابع للمصلحة والمفسدة

الزجر بالهجر تابع للمصلحة والمفسدة (الزجر بالهجر) قاعدة نص عليها العلماء، لكنها تدور مع المصلحة، والزجر: أن تزجر العاصي والمبتدع بهجره، هذا هو معنى قول العلماء: (الزجر بالهجر) مثلاً: رجل عاصٍ تؤدبه امرأة ناشز تؤدبها بالهجر مبتدع تؤدبه بالهجر، وكل هذا في إطار المصلحة الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) هجر ثلاثة من خيار المؤمنين خمسين ليلة، هجر كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع؛ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، بل قال كعب: (وكنت آتيه في مجلسه فألقي عليه السلام، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكلموا هؤلاء الثلاثة. وأيهما أولى بالهجر: كعب بن مالك أم عبد الله بن أبي ابن سلول؟ وهو رأس المنافقين، الذي تولى كبر حديث الإفك، ورمى السيدة العفيفة الطاهرة عائشة بالزنا، أيهما أولى أن يهجر، وأن يضيق عليه الخناق، وأن يؤدب؟ أليس هذا المنافق رأس المنافقين أولى بذلك؟! ومع ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وعاش هذا الرجل، وقد صان دمه وعرضه وحياته بإظهار كلمة الإسلام، ومات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ بل وكفنه ببردة له، وليس ذلك بنافعه عند الله، كونه يتدثر ببردة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن صلة الرحم أقوى من البردة، ومع ذلك فإن أبا لهب لم ينفعه أنه كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صفية! عمة رسول الله! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً، يا فاطمة! بنت محمد! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً)، فإذا كانت صلة الأرحام لا تنفع؛ فالبردة لا تنفع من باب أولى، ومع ذلك صلى عليه، ودفنه، وسجاه ببردته وهذا يدلنا على أن مسألة الهجر خاضعة للمصلحة، فإن المسلم إذا هجرته إنما وكلته إلى دينه. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، فأعطاه عطاء، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً كذا وكذا، وإنه لمؤمن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني لأعطي الرجل العطاء، وأذر من هو أحب إلي منه، أدعهم لإيمانهم)، إذاً: أخوك المؤمن لو هجرته وغلظت عليه فإنك تعلم أنك ستعود إليه ويعصمه إيمانه من الفجور في الخصوم. وفي معجم الطبراني الكبير بسند قوي عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: (عرست في زمان أبي -أي: تزوج- فآذن أبي الناس، ودعاهم إلى وليمة العرس، وستروا البيت ببجاد أخضر -أي: شبيه بالستائر- قال: فجاء أبو أيوب الأنصاري، فلما رأى البجاد وقف، وتغير لونه، والتفت إلى أبي، وقال: أهكذا تسترون الجدر ببجاد أخضر؟! قال سالم: فاستحيا أبي وخفض رأسه -وابن عمر أحد السادة الورعين- وقال: يا أبا أيوب! غلبنا النساء -ماذا نعمل؟ هذا عمل الحريم! - فقال أبو أيوب: لئن خفنا أن يغلب النساء أحداً فلا يغلبنك، والله لا أكلت لكم طعاماً أبداً، وخرج أبو أيوب ولم يحضر وليمة العرس). إنه يكل ذلك الهجر إلى عبد الله بن عمر وإلى إيمانه، فإن ابن عمر لا يفجر في الخصومة، بل سوف يذهب إليه ويترضاه لما بينهما من الإيمان والآصرة القوية، لكن إذا كان الرجل فاجراً، رقيق الدين، فإذا غلظت عليه فجر في الخصومة، وازداد بعداً من الالتزام، فليس هناك أي مصلحة في أن تفعل معه مثل ما فعل أبو أيوب مع ابن عمر، فالمسألة مرتبطة بالمصلحة والمفسدة، ولذلك تحتاج إلى فقيه، كثر التهاجر والصرم بيننا بسبب الجهل الواقع بين المسلمين، لا يتهاجر عالمان أبداً إلا على شيء ديني شرعي.

الهجر لأجل التأديب

الهجر لأجل التأديب الزجر بالهجر له درجات منها: التأديب، فإذا تجاوز ولدك حده، أو امرأتك، أو من لك عليه ولاية؛ جاز لك أن تهجره أكثر من ثلاثة أيام تأديباً، ولمعنى شرعي كما قلنا، كما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: (باعت عائشة بيعاً أو قال: وهبت هبةً -وكانت عائشة كريمة، سخية اليد- فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير وهو الأخ الأكبر لـ عروة بن الزبير، وهو ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة، فـ عائشة هي خالته، وقد كانت رضي الله عنها سخية، وعبد الله بن الزبير كان فيه بخل، فلما علم أن عائشة رضي الله عنها وهبت قطعة أرض كبيرة- فقال: لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فبلغ ذلك عائشة فقالت: أو قال ذلك؟ لله علي ألا أكلمه إلى أن أموت -نذرت: أي: نذراً واجب الوفاء-، فطال الهجر على عبد الله بن الزبير، واستشفع بطوب الأرض أن تكلمه عائشة، وكل ذلك وعائشة تأبى تمام الإباء -ولا يخفى ما لـ عائشة رضي الله عنها من الفقه في دين الله عز وجل، فليست من النساء اللواتي يعتركن على الدنيا أو يهجرن للدنيا- فلما طال الهجر على عبد الله بن الزبير ذهب إلى المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وكلاهما من بني زهرة، فشكا إليهما، فقالا: نحتال لك حيلة، فجاءوا بعباءة واسعة، والمسور بن مخرمة واقف هنا، وعبد الرحمن هنا، وقالا له: ادخل في وسطنا، وتدثروا ثلاثتهم بالعباءة، ووقفوا على الباب عند عائشة واستأذنوا، قالت: من؟ قال: المسور وعبد الرحمن. فقالت: ادخلا، قالا: ندخل كلنا؟ قالت: ادخلوا كلكم، فدخلوا جميعاً، فدخل عبد الله بن الزبير ورفع الستر، ورمى نفسه على عائشة يقبلها وهو يعتذر، وهي تشيح عنه، يكلمها فلا تكلمه، ويتوسل إليها فلا تقبل توسله، والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود يناشدانها الله عز وجل أن تكلمه، فما زالا بها حتى كلمته وسط دموعها الغزيرة، وهي تقول: إني نذرت والنذر شديد، ثم أعتقت عائشة رضي الله عنها في ذلك أربعين رقبة حتى تتحلل من نذرها). يقول العلماء: هذا المثال يدل على جواز أن يهجر المرء تأديباً، لا سيما إذا كان لمعنى شرعي؛ لأنه لا يجوز لـ ابن الزبير أن يتدخل في هبة عائشة لغيرها، فإنه إذا ملك الإنسان ملكاً فهو حر في هبته أو بيعه، ولا يحل لأحد أن يفتات عليه، فهذه مرتبة من مراتب الهجر لمعنى شرعي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الزجر بالهجر

الزجر بالهجر الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إن الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن المسلمين امتثلوا هذه القاعدة لخف وقع المعصية في ديارهم، ولقل أهل البدع، لا سيما إذا كان للزاجر سلطان. أصحاب المحلات الذين يظنون أن العمال الذين يعملون عندهم ليسوا تحت مسئوليتهم نقول لهم: إن العامل إذا ترك الصلاة فهي في عنق صاحب المحل، لماذا يذهب أصحاب المحلات ويتركون محلاتهم وفيها العمال يعملون؟ لو أن هذا العامل أساء في العمل، أو أتلف بضائع المحل لأزاحه عن العمل، وليس بعيداً أن يقدمه للنيابة ويرفع ضده قضية إذا تبين له أنه سرق شيئاً من البضائع، أو إذا تأخر عن موعد فتح المحل مرة أو مرتين بما وقع في نفس صاحب المحل أن هذا الرجل مهمل، فإنه يستغني عن عمله؛ لأنه عق صاحب العمل، فإذا عق ربك تبارك وتعالى كيف ساغ وهان عليك أن يبقى معك مع هذا العقوق؟ لو أن كل صاحب محل اشترط على العامل أن يصلي الصلوات الخمس في جماعة لقضينا على هذا التهاون الذي نراه في ديار المسلمين. إن البيع وقت النداء يوم الجمعة محرم، قال العلماء: فكذلك البيع وقت النداء للصلوات الخمس؛ لجامع العلة المشتركة بين الحكمين. إذاً: لا يجوز أن تعقد صفقة بيع والمؤذن يؤذن، بل توقف عن كل شيء، كما توقف البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوه، وإذا أمر الله عز وجل بترك شيء فإنه يكون حراماً، فكل أصحاب المحلات سيسألون عن هؤلاء العمال، فينبغي أن يُهجر، فإن العامل إذا علم أن عيشه سيقطع، وهو محتاج للوظيفة، فهو على استعداد أن يمسك ذيل بغلة السلطان في سبيل لقمة العيش، فإن البعض قد يرتشي ويعمل المحرمات، ويعتذر بأنه يريد أن يأكل لقمة العيش. فإذا كان في سبيل طلب لقمة العيش سوف يرتكب المحرمات، فحينما تأمره بتقوى الله عز وجل والصلوات الخمس سوف يلقى هذا الأمر عنده -لو عنده مسحة إيمان وإسلام- قبولاً وراحة، فإنه سيريح نفسه من الشغل، ويغسل وجهه من العرق الذي عليه، فهي ساعة راحة بعد العمل المضني. فلو أن أصحاب المحلات فعلوا ذلك لفعلوا خيراً كبيراً، فكم تكلم الدعاة في هذا الأمر، وناشدوا أصحاب المحلات أن يتقوا الله في هذا الأمر، إننا نريد أن نرى المحلات مغلقة في وقت الصلاة، مكتوباً عليها عبارة (مغلق للصلاة)، نريد أن نرى هذه العبارة مرة أخرى، نريد أن نرى الناس كلهم يتوجهون إلى الصلاة، فلا بيع ولا شراء. وأنت على ما عودت الزبون، ولي تجربة في هذا الأمر، ففي مطلع الثمانينيات عندما كنت أشتغل في بقالة في مدينة نصر وفي المنطقة الأولى -في منطقة راقية- وكان هذا المحل له رواج؛ لأمانة صاحبه، ولأنه كان يأتي بأحسن البضاعة، فكنا نبيع بنحو ثلاثة آلاف جنيه في اليوم الواحد. المهم أن المنطقة الأولى هناك في مدينة نصر معروف أنها منطقة راقية، وفيها مسجد رابعة العدوية، الذي صار في مكان مسجد عمر مكرم، ومسجد عمر مكرم كان الناس إذا أرادوا أن يدخلوا أحداً الجنة -بزعمهم- يمرون بجنازته من عند مسجد عمر مكرم، وبعد أن ازدحم مكان هذا المسجد وتلوث بدخان السيارات وغيرها؛ استبدلوا مسجد رابعة العدوية بمسجد عمر مكرم. وهنا فائدة نحوية: وهي أن الباء في الاستبدال تلحق بالمتروك، فيقال: استبدلوا مسجد رابعة بمسجد عمر مكرم، ولذلك يقول العلماء: باء الاستبدال إنما تلتحق بالشيء المتروك، فلو كان عندك ثياب أسمال بالية، وأتيت بقميص جديد، وأردت أن تعبر أنك استبدلت هذا القميص بهذا القميص، فتقول: استبدلت الثوب الجديد بثوب قديم. فالباء هذه تلصق بالشيء الذي تركته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فهم تركوا الشيء الطيب، وقال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] وهم هنا تركوا الخير، الذي هو المن والسلوى، ولذلك جاءت الباء في ((الذي هو خير)) واسمها (باء الاستبدال). فالمهم: أن هذا المسجد صار المسجد الرسمي الذي تأتي منه الجنائز العسكرية وهذا كله لأن الحي راقٍ، فأول ما بدأت العمل كان المحل يزدحم في أوقات الصلوات، والشيطان يزيد العمل والرزق يكثر، وكيف تترك الزبائن؟ وسوف تصلي بعد قليل وهكذا. فقلت لصاحب المحل -وهو رجل أحسبه من المؤمنين المخلصين، ولا أزكيه على الله عز وجل- قلت له: إنه لا يجوز البيع وقت النداء، فقال: الزبائن كثير، وكلهم أناس أكابر، ومستواهم عالٍ، وسوف يغضبون علينا، وأنا من سنة سبعة وستين وأنا على هذا الحال فقلت له: نبدأ ونجرب، فأول ما يؤذن نوقف البيع، وبدأنا في هذا الأمر، فأتى إلينا رجل في وقت الأذان، فقلت له: لا بيع ولا شراء، أنت الآن تسمع الأذان، (الله أكبر) يعني: الله أكبر من البيع والشراء والفلوس ومن كل شيء، فقال: ولماذا؟ أين صاحب المحل؟ قلت له: صاحب المحل سبقني، ذهب يتوضأ، وأنا لن أبيع، وكان هناك ثلاثة أو أربعة أو خمسة فخرجوا من المحل. الشيء العصيب هو أننا رجعنا من المسجد ووجدناهم واقفين في باب المحل! لم يذهبوا ليصلوا معنا، فهذه آية من الله عز وجل أن رزقك منتظر لك، مع أن هناك عدة محلات، من الممكن أن يأخذهم الغيظ فيشترون من أي محل آخر، ولا يرجعون إلى هذا المحل على الإطلاق، لكن الأمر كما قال الله عز وجل: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فإذا قدر الله عليه أن يقف هنا فسوف يقف؛ لأن الله أخذ بناصيته، والمال الذي معه قد كتب لي ثم استمرت هذه المسألة ولم نجد كبير عناء، إلا شيئاً يسيراً في البداية، وبعد نحو شهر أو شهرين كان إذا أذن المؤذن لم نجد أحداً لماذا؟ لأنه كان إذا أراد أحد أن يشتري شيئاً ينظر إلى الساعة أولاً، يقول لي أحدهم: كنت إذا أردت أن أرسل البنت أنظر إلى الساعة، فإذا وجدت أن الظهر قد اقترب فلا أدعها تذهب. فنحن نناشد أصحاب المحلات نناشدهم الله عز وجل الذي هو أقوى من سلطة القانون، عندما يسمعون الأذان أن يغلقوا المحلات، ويصطحبوا العمال للصلاة، وإذا ثبت أن العامل تهرب، وجلس يدخن في دورة المياه وقت الصلاة، فعليه أن يفصله من العمل، فإن الذي يخون الله عز وجل لن يكون أميناً في عمله على الإطلاق يخون الملك العلام، القوي، القادر عليه، وبكل جرأه وبجاحة، ولا يؤثر فيه إطلاقاً أي تأثير، فهل تتصور أنه سيعمل لك حساباً؟ لا والله، هذا خائن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. فالزجر بالهجر عن طريق المشاحاة، وعن طريق قطع الحوافز، بل عن طريق الفصل الجذري، هذا يعيد لنا بهاء المجتمع الإسلامي، فينبغي لنا استخدام قاعدة الزجر بالهجر حتى تقل المعاصي واللامبالاة الموجودة في المجتمع. والداعية إلى الله عز وجل لابد أن يكون لطيفاً وظريفاً وخفيفاً، ودائماً يقول كلاماً حسناً، لكنه أحياناً يحتاج إلى أن يستخدم المشرط مع بعض الناس. اتصل بي أحدهم فقال: أنا أريد فلاناً. قلت: أنا فلان. قال: صلِّ على النبي. عليه الصلاة والسلام، طيب زيد النبي صلاة. عليه الصلاة والسلام، وحد الله قلت: لا إله إلا الله. قال: انظر أنا طلقت طلقات ليس لها عدد، وأريد أن أعرف هل أنا أعيش الآن في حلال أم في حرام؟ قلت له: أنت تعيش في حرام، وهذه لا تحتاج إلى مفتي. فقال: وهل أنا تكلمت؟ قلت له: نعم، تقول لي: إنك طلقت طلقات ليس لها عدد، والطلقات إنما هي ثلاث فقط، فلو أنك طلقت ثلاث مرات لحرمت عليك امرأتك، وأنت الآن تقول: إنها طلقات ليس لها عدد، ثم تأتي وتسألني: أأنا في حلال أم حرام! فقال: احلم علي واسمع مني هذا الكلام قلت لها في المرة الأولى: هات كوب الشاي، فلم تأت به، فقلت لها: أنت طالق. قلت: وقعت ثم قال: وقلت لها: اعملي كذا وإلا فأنت طالق، وغير ذلك من الأمور التافهة التي لا يمكن أن يعملها رجل عاقل إلخ ما دار بيني وبينه من كلام. فهل هناك أحد يستفتي في هذه المسألة ويسأل هل هو في حلال أم في حرام؟! وهذا السائل هل ينفع أن يكون أباً؟ أو يصلح أن يكون جديراً بلقب الأبوة؟! وهل يتصور أن ينجب هذا الرجل أبناءً حتى ينفعوه هو على الأقل؟ بل هل من الممكن أن ينفعوا أنفسهم؟! فهذا النمط من الناس إذا استفتاك أحدهم بهذه الصورة فإنه سيضيع وقتك، فلا بأس أن تغلق السماعة ولا تكلمه؛ لأنك مضطر أحياناً لاستخدام مثل هذا: الزجر بالهجر.

هجر المبتدع والعاصي

هجر المبتدع والعاصي لو أن رجلاً مبتدعاً ينشر بدعة في حيك، فلا تسلم عليه، وإذا كنت تعلم أن إلقاء السلام عليه لا يصده عن بدعته فسلم عليه، وتودد إليه، وأعطه بعض الهدايا، وزره في بيته، وأخبره أن هذا لا يحل، ولا يجوز، وابذل معه كل ما في وسعك، فإذا لم ينفع معه كل ما سبق فلم يبق لك إلا أن تهجره ولا تسلم عليه. فإذا قيل: إن هذا مسلم، أقول: أنا أعرف أنه مسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما هجر كعب بن مالك كان كعب يلقي عليه السلام، يقول كعب: (فكنت أقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) والرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر المسلمين ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، يقول كعب: (فلما شق علي هجر المسلمين ذهبت إلى حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فتسورت الحائط، فوجدت أبا قتادة في بستانه، فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام، وأبو قتادة من خيار المسلمين، وكعب من خيار المسلمين، فهذا مسلم مع مسلم، فلا يقال إذاً: إن المسلم لا يجوز هجره أو عدم السلام عليه للمصلحة، لا، يقول كعب: (فألقيت عليه السلام، فوالله ما رد علي السلام. فقلت: يا أبا قتادة! نشدتك الله ألا تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله أعلم. ففاضت عيناي). فمسألة ترك السلام على المسلم مسألة مشروعة، طالما أن فيه المعنى الذي من أجله هجرته. إذاً: الزجر بالهجر يرفع البدعة من بيننا. ولو علم العصاة أنه لا محل لهم ولا عيش في ديار المسلمين؛ لاستخفوا بعصيانهم وراء الجدر، مثلاً: شارع نبوي المهندس هنا شارع قذر، موبوء، كل البذاءات والفواحش موجودة هناك رجال ونساء مختلطون، وأصوات الموسيقى في السيارات تصم الآذان، وأنا أتكلم عن الشارع وليس عن سكان الشارع، فإنه شارع قذر، وكل شارع يمارس فيه العصيان بغير نكير فأهله من تعساء الحظ، لأنهم متاخمون للمعاصي، وإني كلما مررت في هذا الشارع أستعيذ بالله عز وجل، حتى أصبحت لا أكاد أمر فيه من هول ما أرى بالنسبة لبلد كبلدنا. لا يوجد أحد يقول لي: يا أخي! نحن رضي الله عنا، هذا شارع الهرم والإسكندرية والمصيف والبلازا والكلام هذا؟ لا، نحن نقيس الشوارع بنظيرها عندنا، وفي الآخر محافظتنا تعتبر من الأرياف، ويعتبر إلى حد ما فيها الاستتار والحشمة أفضل من المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والمنصورة وهذه البلاد، وهذا من رحمة الله عز وجل أننا بادون في الأعراب، لا عندنا حضارة ولا مصايف ولا آثار ولا متاحف لكي نبتلى بالعراة الذين يلبسون الميني جب إلى فوق الركب ويأتون يفترجون، لكن هذا الشارع إذا قيس بنظائره من الشوارع الأخرى كان هذا في غاية القبح. فنحن نقول للآباء الذين عندهم سيارات: اتقوا الله عز وجل، ولا تعصوا الله بالنعمة، تعطي ابنك السيارة ويظل يلعب بها، وهو يشرب السيجارة، ويسمع الديسكو بأعلى صوت يصم الآذان هل هذا هو شكر النعمة؟ أعطاك الله رجلاً تمشي عليها، ثم أعطاك سيارةً تركبها وحرم غيرك من رجله ومن السيارة فأين شكر النعم؟! {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. إذاً: هجر أهل المعاصي يقلل من وجود المعصية، وكذلك هجر التعامل معهم أيضاً. فإذا كان هناك رجل غير ملتزم، ويتظاهر بالفسوق والعصيان، وعنده بقالة، أو محل ملابس، فلا تشتري منه، بل اذهب واشتر من عند الملتزم، فإن الملتزم إذا فتح الله عليه سيكفل أسراً جائعة، وسيخرج الزكاة من ماله، فكم من تجار خير فتحوا بيوتاً للفقراء والمساكين، جزاهم الله خيراً، وأسأل الله عز وجل أن ينمي لهم أموالهم، وأن يبارك لهم فيها، فإذا قصدنا أحد هؤلاء التجار لكي يكسي عرياناً، أو يطعم جائعاً، أو يكفل أسرة فقيرة، فلن يتأخر أبداً. وعندما تذهب وتشتري من عند رجل ملتزم بضاعة أغلى مما هي عند الرجل الفاسق وتحتسبها لله عز وجل، يبارك لك فيها. كذلك إذا احتسبت القيمة الزائدة عند هذا الرجل؛ لأنه يزكي ويطعم الفقراء والمساكين، فقد تكون شريكاً له إذا ربح، فإن يد الله عز وجل سحاء، ينفق بالليل والنهار، لا يغيضها شيء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. كذلك من باب أولى اعتزال الصحف والمجلات الخليعة والمنحرفة، وليس هذا الأمر مقتصراً على الذين يهاجمون الإسلام بل هناك نمط من المفتين يخافون من أهل الفسق، فبدلاً من أن يفتوا بشرع الله تعالى فيوصفون بالإرهاب والتطرف والتشدد، يفتون الناس بغير شرع الله؛ بل يحللون الحرام ويحرمون الحلال والعياذ بالله! سئل بعضهم في مجلة الشباب -كما حدثني من أثق بنقلهم- عن التدخين: أحرام هو أم حلال؟ فقال: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنيه فهو حرام عليه، لكن إذا كان دخله كبيراً فلا بأس بالتدخين!! أهذه فتوى؟ وعلى ضوئها نستطيع أن نقول: إذا كان الموظف مرتبه مائة جنية فلا يشرب الخمر، وإذا كان مرتبه أكثر فلا بأس أن يشرب الخمر!! فما هو أصل القياس الصحيح الذي يجعلنا نلحق هذا الدخان بالخمر، ولو من وجه أو وجهين؟! ولماذا لا يريد أن يقول: إن التدخين حرام؟ لو أن الأطباء اجتمعوا، وجميع منسوبي وزارة الصحة، وأخرجوا لنا تقريراً بأن التدخين مضر؛ فسوف نحرمه، ومع هذا فإن كل المجامع الطبية العالمية بما فيها المجامع المصرية في بلادنا، ووزارة الصحة، تقاريرها الرسمية وغير الرسمية تقول: إن التدخين مضر جداً بالصحة، وهذا الكلام يكتب على علب السجائر بأمر من القانون، وإلا فإن أصحاب المصانع لا يريدون كتابة هذه العبارة، لكنهم مجبورون من قبل القانون. إذاً: مذهب الدولة الرسمي في السجائر أنها ضارة جداً بالصحة، والمفتي الذي أفتى بهذه الفتوى له فتوى بتحريم الدخان، وهي موجودة عندي، لكنه يفتي كل سنة بفتوى ثم يتراجع عنها، كما أفتى في رمضان أن نصوم مع السعودية، ثم أفتى بأن لكل بلد مطلعه، وإلى الآن لم يبتوا فيها، مع أن المسألة عند أي رجل عنده قدر من أصول الشريعة، لا يتردد على الإطلاق في الأخذ باتحاد المقال، رعاية لمصالح المسلمين. فأنت عندما تشتري هذه الصحف وفيها مثل هذا الكلام، وتقرأ فيها مثل هذه الفتاوى التي لا يحكمها خطام ولا زمام، ولا ترجع إلى أصل صحيح، فمن حيث أردت الخير لدغك ثعبان، فلابد أن تصون نفسك ومالك، فبدلاً من أن تشتري هذه الصحف بأربعين قرشاً، تصدق بها على مسكين خير لك. والله الذي لا إله غيره لقد اتصلت بي في الأسبوع الماضي أسرة تبكي لأنها لا تجد شيئاًَ، ويبيتون على الطوى، ولا يوجد في البيت كسرة خبز، وليس عندهم رجل يعولهم، كلهم نساء، فعندما قلنا لبعض الناس: اذهبوا إلى البيت الفلاني واعملوا كذا قال: إن المرأة قبلت قدمه، وظل النساء يبكين طوال الفترة وهو يعطيهن ما يسد رمقهن ويشبع جوعتهن، وقد كانوا أصحاب عز، ولكن أباهم مات، والعم أكل الميراث في قصة معروفة، وبقيت المرأة وبناتها يبيتون على الطوى لا يجدون رغيف خبز يأكلونه. إذاً: الأربعون قرشاً سوف تشتري بها ثمانية أرغفة، وسوف تطعم بها أربعة أو خمسة جائعين، وتكون قد ادخرتها لنفسك، فأنفق من مالك فإن أولادك لن ينفعوك إذا لم يكونوا ملتزمين بأمر الله تعالى، إنهم سيختصمون في الميراث وأنت ما زلت جثة ساخنة، وبعد أن تدفن سيرجعون ويقتتلون على الميراث ولن يترحموا عليك. لقد حضرت مرة مشاجرة بين أصحاب ميراث، مع أن أباهم لم يكن له إلا أربعون يوماً منذ أن مات، وإذا بالولد يصيح ويغضب، ويريد الدنيا، ويريد أن يتزوج قبل تقسيم الميراث، ويريد كذلك سيارة أسوة بإخوته، ويقول: إن أباه ظالم، إنه كان يعطي لفلان وفلاناً وتركني، ولم أكن أعرف أنه سيموت، وإلا فإنه كان سيعطيني وأخته تقول له: يا أخي! هذا أبوك لم يمر عليه إلا أيام، فقال: الله يرحمه، لا تجعليني أغلط عليه!! فهل يستحق هذا الولد شربة ماء؟! هل يستحق أن تترك له جنيهاً واحداً؟! لقد حرم الأب نفسه من الطيبات والمأكولات والمشروبات، بل حتى من الصدقة؛ كي يورث لابنه شيئاً، وإذا به بعد موت أبيه يفعل هكذا!! فينبغي أن تكثر من صدقة السر؛ فإن هذا هو الحساب الجاري الذي ستتركه لنفسك، وعندما تموت سوف تلقى ما أنفقت أمامك، وأنت وحدك الذي ستنتفع به، وبهذا تكون قد تركت لأولادك شيئاً ونفعت نفسك أيضاً. إذاً: الزجر بالهجر ضرورة شرعية، نحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر، فابنك الذي لا يصلي لا تجلس معه، ولا يأكل معك على مائدة واحدة، ولا تسوي بينه وبين الذي يصلي في الهبة، فالولد الذي يصلي أعطه وأكرمه، والذي لا يصلي لا تعطه؛ لأن عطاءك إنما هو بالموالاة لله عز وجل، فمن كان ولياً لله واليناه، ومن كان عدواً لله عاديناه. وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاء والبراء إنما هو على قدر الخير والشر في الإنسان، يوالى بقدر ما فيه من الخير، ويعادى ويهجر على قدر ما فيه من الشر. وإذا عرف ابنك أنك ستطرده، وأنك لن تسامحه على الإطلاق في مسألة ترك الصلاة، فهل سيتمادى؟ لا. إذاً: الزجر بالهجر قاعدة من قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ينبغي أن نحييها في مجتمعاتنا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الانتكاس

الانتكاس الانتكاس مرض خطير، وله أسباب كثيرة، منها: ضغط المجتمع الفاسد، والكبر والغطرسة وعدم الخضوع لأوامر الإسلام، والذنوب والمعاصي كإطلاق النظر فيما حرم الله تعالى. وإن الثبات على دين الله تعالى هو علاج هذا المرض الخطير، ومما يعين على الثبات: الالتزام بالدين بعقيدة صادقة، والنظر في سير السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

خطورة الانتكاس عن دين الله تعالى

خطورة الانتكاس عن دين الله تعالى إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام: إنما يعرف قدر خطر العلة بشدة فتكها وكثرة ضحاياها المبتلين بها، فالطاعون -مثلاً- وهو (الكوليرا) من أخطر الأمراض وإن لم تكن أخطرها إطلاقاً؛ لكثرة ضحاياها، وإن الذين يموتون بها ألوف من البشر، وإنما قام العلاج أصلاً على دفع العلة لاستبقاء الإنسان، فإذا مات هذا الإنسان لم يعد للعلاج موضع ولا للنظر فيه محل. وإن من أخطر الأمراض على الإطلاق لشدة فتكها وكثرة ضحاياها: مرض الانتكاس بشعبتيه: الشعبة الأولى: الردة عن الدين كليةً، والشعبة الأخرى: ضعف الالتزام والتقهقر في التمسك بتعاليم الدين. والارتداد هو أعظم الانتكاس، والنكس: أن ينقلب الشيء على رأسه، وتخيل رجلاً وضع رأسه مكان قدمه، فهو يمشي على رأسه، فأنى يفلح مثل هذا الإنسان وهو منكوس مقلوب، فلم يعد لعقله موضع يسترشد به!! إن الارتداد عن دين الله تبارك وتعالى أعظم الانتكاسات جميعاً، وضعف التمسك بتعاليم الدين هو المرض الفاشي في عموم المسلمين.

ثبات الصحابة على دين الله تعالى

ثبات الصحابة على دين الله تعالى إن الثبات على الأمر هو رأس العلاج كله إن الصحابة الأوائل كانوا مستمسكين بهذا الدين، ويرون أن دينهم أولى بالحفاظ من دمائهم ولحومهم. وقد أخذوا هذا التمسك وعدم التفريط من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث الحديبية -وهو حديث عظيم اشتمل على حكم باهرة ويحتاج أن يذكر به المسلمون دائماً- لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر هو وأصحابه وصدتهم قريش عن البيت، وحصلت المفاوضات، جاء بديل بن ورقاء مندوباً عن قريش يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام كلاماً فصلاً واضحاً، قال: (إنا لم نجئ لقتال)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأوفياء، لا يغدر ولا يعرف الغدر أبداً، قال: (ما جئنا لقتال، إنما جئنا آمّين البيت، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة)، وإنما قال هذا وهو واثق من أصحابه، إن قريشاً برغم كثرة عددها وعدتها وأموالها قد أنهكتهم الحرب، والذي أنهكهم هم هؤلاء الذين قال فيهم عروة بن مسعود: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، لقد كانوا قلة، فقراء، جوعى ومع ذلك أدبوا قريشاً، ونحن على استعداد أن ندخل مع قريش في جولات وجولات إذا صدونا عن البيت. (إن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فقد جموا -أي: تعبوا- وليس لهم بنا طاقة، فإن أظهر -أي: يظهر أمري- فإن شاءوا دخلوا مع الناس، وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا الأمر حتى تنفرج سالفتي)، والسالفة: صفحة العنق، أي: سأقاتلهم حتى لو بقيت وحدي ولا أدع هذا الأمر. هذا هو الثبات الذي ورثه أصحابه منه، ففي نفس الحديث لما جاء سهيل بن عمرو وأراد أن يكتب مع النبي صلى الله عليه وسلم صيغة الكتاب، كان من جملة ما كتب: وإذا جاءك رجل منا وإن كان على دينك رددته إلينا، وإن جاءنا رجل منكم ترك دينه لا نرده إليك، فصاح الصحابة وقالوا: سبحان الله! كيف يأتينا مسلم فنرده؟! فلم يكد يكتب هذا الشرط حتى جاء أبو جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الكتاب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد أسلم، فعذبه أبوه عذاباً شديداً في الله، ولم يترك دينه، ولم ينكث على عقبيه، ولم يتخلَّ عن دينه، فقيده بالحديد ورماه في سجن، فاستطاع أبو جندل أن يفك بعض قيوده، ولكنه لم يستطع أن يفك الحديد كله، وجاء من أسفل مكة إلى الحديبية -وهي مسافة بعيدة- يجر أغلاله وقيوده، حتى جاء فألقى نفسه بين أيدي المسلمين، وكان قد عُذب في الله عذباً شديداً، فعندما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل قال: يا محمد! هذا أول ما أقاضيك به، أي: نحن لازلنا نتكلم: إذا جاءك رجل منا وكان على دينك ترده إلينا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لم نفض الكتاب بعد -أي: ما كتبناه- قال: لا. قال: فأجده لي -أي: اتركه لي نستثنيه من الكتاب- قال: لا أفعل، إذاً: لا نكتب كتاباً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع). فحينئذٍ صاح المسلمون وقالوا: سبحان الله! يأتينا مسلماً ونرده إلى الكافرين! وانبرى عمر وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، ولم يقتنع عمر بهذا، فحار، وهذا موقف يدع الحليم حيران. وفي الصحيح أيضاً من حديث سهل بن سعد أنه قال للناس يوم صفين في قتال علي بن أبي طالب: (أيها الناس! اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفعلت)؛ لأنه قال له: ارجع. ضع نفسك مكان الصحابة: رجل جاء من أسفل مكة يجر قيوده مسلماً، وقد عذب العذاب الأليم في الله فلم يترك، بل دفعه قلبه وهمته العالية أن يتخلص من بعض أغلاله ويمشي هذه المسافة الطويلة يجرها، إن الإسلام تغلغل حتى مس شغاف قلبه؛ فرأى أن هذا الدين لا يباع، وأنها ساعة بعدها يحط المسلم رحله في الجنة وينسى بؤسه قط، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الأرض فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط). لو كنت مكان هؤلاء الصحابة ولم يعصمك الله عز وجل بالإيمان، لرغبت أن ترد كلام النبي صلى الله عليه، فقد راجع عمر النبي عليه الصلاة والسلام وكان الجواب واضحاً: (أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، فذهب عمر إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له: هو رسول الله، وليس يعصيه، وهو ناصره فالزم غرزه)، أي: لا تبرح كلامه قيد أنملة، وأُمر أبو جندل بأن يرجع. ثم فر رجل آخر يقال له أبو بصير، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت قريش رجلين وراءه، فلما وصل أبو بصير -وكان قد عذب أيضاً- إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا بالرجلين على إثره، فقالوا: يا محمد! العهد الذي بيننا، يريدون أن يرجع معهم، فقال: كيف ترجعوني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع)، فرجع أبو بصير، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا يأكلون التمر وأبو بصير معهم، وكان مع أحدهما سيف، فجعل يتحدث عن سيفه، وأن هذا السيف جديد، وأنه قتل به كثير من الناس، وأخرج السيف من غمده يلمع مصقولاً، فقال له أبو بصير: ما أجود سيفك! هذا سيف جيد فعلاً، أرينيه! فأمكنه الرجل منه، فضرب عنقه، وفر الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، فقال أبو بصير: (يا رسول الله! قد وفى الله ذمتك، قلت لي: أرجع فرجعت، ولكن خلصني الله منهم)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فلحق أبو بصير بسيف البحر. أي: ذهب إلى شاطئ البحر هو وأبو جندل، وكان كل رجل من المسلمين يسلم من قريش يلحق بهم؛ حتى أصبحوا عصابة على شاطئ البحر، فلا يسمعون بعير لقريش إلا هاجموهم وقتلوهم وأخذوا العير. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أنه إذا خرج رجل مسلم من قريش فلا يرده؛ حتى يجنبوا قريشاً هذه الهلكة، وأنزل الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]. إننا نحتاج إلى هذه الدروس كي نثبت على دين الله عز وجل.

أسباب الانتكاس

أسباب الانتكاس

من أسباب الانتكاس: النظر المحرم

من أسباب الانتكاس: النظر المحرم إنك لا تدري بأي شيء تنتكس، فقد تنتكس بنظرة، كما حدث لـ برطيطة، وقصته عبرة لكل من أراد أن يعتبر، فقد هلك وكفر بالله العظيم بسبب نظرة واحدة فقط. ذكر أهل التفسير: أن إبليس جمع المردة -وهم أعتى الشياطين وأقواهم إغواءً لبني آدم- فقال: لقد تعبت من برطيطة، فمنذ أربعين سنة وأنا أحاول أن أضله فلا أستطيع، فمن يكفيني أمر هذا؟! فانبرى له مارد يقال له: الأبيض، وكان صاحب الأنبياء، أي: الذي يتبع الأنبياء، فقال: أنا أكفيك، فقال له: انطلق، فانطلق هذا الأبيض ولبس لباس الرهبان وذهب إلى صومعة برطيطة، وكان برطيطة يدخل في الصلاة فما يخرج منها إلا بعد عشرة أيام يصلي باستمرار، وكان يصوم في هذه العشرة الأيام، فعندما ذهب هذا المارد الأبيض نادى برطيطة فلم يلتفت إليه، فكبر وأخذ يصلي، وبعد عشرة أيام عندما خرج برطيطة من الصلاة نظر من الصومعة فإذا رجل له سمت حسن، ولحية جميلة، وعيونه مسبلة، وهو واقف لا يتحرك، فأعجبه سمته، فنادى عليه: من أنت؟ قال: أنا رجل أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فقال: إني عنك في شغل، ودخل الصومعة وجلس عشرة أيام جديدة، وبعد العشرة الأيام نظر من الصومعة وإذا بالرجل واقف يصلي، فقال له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فكان برطيطة قد رآه عشرين يوماً يصلي، وهكذا ثم قال له: اصعد، فصعد، فدخلا في سباق العبادة فكان برطيطة يخرج من الصلاة كل عشرة أيام، أما ذلك المارد فقد نوى ألا يخرج من الصلاة أربعين يوماً، فكان برطيطة يصلي عشرة أيام ويسلّم، فيجد هذا ما زال واقفاً لا يتحرك، فيدخل في الصلاة مرة أخرى وهكذا، فاحتقر برطيطة نفسه أمام هذا الرجل وأمام عبادته، فقال له: أنت إذاً الأستاذ، فقال: لا. أنت الأستاذ، وأنا جئت كي أتعلم منك، قال: لا. بل أنت أجد وأشد وأعبد إلى آخره. فقال له المارد: أنا الآن مضطر لأنصرف عنك؛ لأن لي صاحباً آخر مثلك، فسأذهب لكي أعتكف معه عدة أيام، ولكن سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، فقال: لا تعلمني، فأنا في شغل، ولا أريد أن يأتي الناس إليَّ، قال: لابد أن أعلمك، وفعلاً علمه اسماً معيناً، وقال له: هذا اسم الله الأعظم! ثم بدأ الأبيض يصرع الناس، فيذهب إلى رجل فيصرعه فيصبح مريضاً، فيبحث أهله عن طبيب، فيأتي هذا المارد ويلبس لباس الأطباء ويذهب ويقول: أنا طبيب! ثم ينظر إلى المريض، فيقول: هذا مرض خطير ليس له علاج إلا عند شخص يدعى برطيطة، والشيطان يتلبس به ولا يتركه حتى يذهب المريض إلى برطيطة، فأول ما يقول كلمة السر يخرج الشيطان ويتركه مباشرة، ويرجع سليماً. ثم بدأ الأبيض يصرع الناس واحداً بعد الآخر، ويرشد كل واحد ليذهب إلى برطيطة، فعرف الناس كلهم برطيطة، وانشغل عن العبادة بالمال. فذهب هذا الأبيض إلى بنت ملك من الملوك وصرعها، وعمل نفسه طبيباً وذهب إليهم، وقال لهم: المرض صعب جداً، وهو مرض عضال، ولا يصلح له إلا برطيطة، فذهبوا إلى برطيطة، فقال: أنا لا أعالج النساء، وكان المارد قد أخبرهم بأنه سيرفض، قال: ولكن قولوا له: أقل الأحوال أن يضعها في هذا الغار بجانبك وتعهدها، وفعلاً وضعوها بجانبه في الغار، وتلبس بها الشيطان فسقط عنها ثوبها، فنظر إليها برطيطة فإذا هي من أجمل النساء، فوقع حبها في قلبه، ثم وقع عليها فحملت إلخ القصة. إذاً: لقد أهلكته نظرة واحدة لماذا؟! لأن الإنسان لا يدري متى ينفتح على الذنوب والمعاصي، فالقلب كالصندوق، وهو مِلْك الرب، فمن الممكن أن ينفتح على هذه الصورة ويغلق فتكون الفتنة، والعياذ بالله. سبحان الله! رجل يضع جهاز التلفاز يبث ليل نهار في بيته صور النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وينظر الساعات الطويلة إلى هذا التلفاز، ويمشي في غاية الأمان، فمن الذي أعطاه كل هذا الأمان؟! كيف يمشي هكذا وهو آمن على قلبه؟! هل هو ملك أم نبي مرسل؟! فهذا يوسف عليه السلام قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. يأتي أحدهم ويشتكي قسوة قلبه وجهاز التلفاز عنده في البيت ليل نهار، هذا داء، والدواء أن تحطمه وتخرجه من البيت، ولا تمكن نظرك ولا نظر أولادك من أن يقع عليه يا إخواننا! إن العلاج يحتاج إلى حزم، ولا تنظر ولا تسمع إلى لوم الناس؛ فإنهم لن ينفعوك أمام الله عز وجل. لما مات الملك حسين في الأيام الماضية، وهو الذي بقي أطول مدة في الحكم، فقد حكم ستاً وأربعين سنة، فقلت في نفسي: هل ستقوم هذه السنين أمام أول ليلة في قبره؟ ست وأربعون سنة وهو ملك، لو وضعت في كفة فهل ستقوم بمبيت أول ليلة في قبره؟! إن الناس لن ينفعوك فانظر إلى الذي ينفعك، استعن بالله ولا تعجز، ولا يكونن أحدكم إمعة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

من أسباب الانتكاس: الكبر والغطرسة

من أسباب الانتكاس: الكبر والغطرسة هناك رجل اسمه جبلة بن الأيهم، وكان آخر ملوك غسان من النصارى، وكان في الشام، جاء مسلماً في زمان عمر على قول؛ لأنه مختلف في إسلامه، فـ ابن عساكر وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما يقولان: لم يسلم قط، وآخرون قالوا: بل أسلم! فبينما كان جبلة يمشي إذ وطئ ثوبه رجل من بني فزارة، فاستدار جبلة ولكمه لكمة هشمت أنفه، فما كان من الرجل إلا أن بادله اللكمة بلكمة، فجاءوا إلى عمر بن الخطاب يحتكمون وهما روايتان: الرواية الأولى: أن جبلة وطئ ثياب رجل من بني فزارة، فاستدار هذا الرجل الفزاري ولكمه لكمة في وجهه، فجاء جبلة بهذا الرجل إلى عمر بن الخطاب وقال له: لقد ضربني هذا، فقال له عمر: (الطمه بدلها، فقال: بل يقتل. قال: لا. قال: أو تقطع يده. قال: لا. فقال: بئس هذا الدين)، إنه يريد أن يجعل الدين تابعاً لهواه، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، ولأجل هذه الآية دارت رحا الحرب بين العرب وبين المسلمين: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فما جاء الدين خاضعاً لهوى أحد، إنما جاء الدين ليَحكم لا ليُحكم، فالذين يلتزمون بهذا الدين ويريدون أن يفصلوه عن حاجاتهم وأهوائهم ومزاجهم لم يسلموا بعد، فلن يسلم الرجل حتى يستسلم، فهذا ضُرب وقد كان ملكاً عندما كان نصرانياً، وعقوبة من يضرب الملك معروفة، فهو يعترض ويقول: لم لا يقتل لأجل هذه الضربة أو تقطع يده؟! أقل القليل أن تقطع يده التي لطمني بها، فلما قال له عمر: لا، قال: بئس هذا الدين، وتنصّر. والرواية الثانية: أن جبلة وهو يطوف بالبيت داس على ثيابه رجل، فاستدار جبلة ولكمه، فذهب الرجل المظلوم الملكوم إلى عمر وقال: أقدني منه! فقال عمر: الطمه بدلها، فقال جبلة: أنا أضرب! قال عمر: نعم، تضرب. قال: أوجهي كوجه هذا المازني؟! أي: هل وجوهنا سواء؟! فأنا ضربته وهو ليس له قيمة، أما أنا فقد كنت ملكاً، فخدي ليس كخده حتى تستوي الضربتان، فقال له عمر: دع عنك هذا، إن الإسلام سوى بينك وبينه، ولا فضل لك عليه ولا له عليك إلا بالتقوى، فقال: ما كنت لأفعل هذا أبداً، قال: إن لم تفعل أخذت أنا منك، فلما رأى أن الأمر جدّ وأنه لا هزل فيه، قال: دعني أفكر، فلما كان في نصف الليل هرب والتحق بالروم وارتد. إذاً: على أي أساس أسلم جبلة إن كان أسلم؟! لقد دخل في الإسلام وهو يلبس ثوب الملوكية وثوب الكبر، وكان لابد عليه أن يطرح هذا الثوب، فإن هذا دين لا نظير له قط، دين سوى بين الناس جميعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، لا فضل لأمير على مأمور، الدماء كلها عند الله واحدة، فلو أن الأمير قتل كنَّاساً في الشارع فإنه يقتل به، فعلى أي أساس أسلم هذا الرجل؟! لقد أسلم على هوى وطمع، وأنه ملك ويريد أن يكون ملكاً، كمثل بعض الناس أصحاب الوجاهات حينما يلتزم بالدين يريد أن يكون وجيهاً أيضاً بين الملتزمين. مثلاً: بعض الفنانين والفنانات والمغنيين والمغنيات التائبين وأنا لا أقلل من توبتهم أو من رجوعهم، لكن هذا مرض فتاك وداء عضال ينبغي أن نظهره ولا نجامل في إخفائه، قبل توبتهم تعودوا على الشهرة، فإذا دخل أحدهم في مكان تعود على الحفاوة وأن كل الناس يقومون له ويحترمونه ويجلونه، ثم منَّ الله عليه بترك هذا المستنقع ونظف نفسه، وبدأ يدخل في دائرة الملتزمين، فيريد أن يكون مشهوراً أيضاً في دائرة الملتزمين، ويريد أن يقوم له الناس ويحترموه، ويضعوه في مكانه أيضاً. وهذا من عوامل الانتكاس، فإنه لم يتحقق بحقيقة الإيمان، والمفروض لأجل واقعه الأليم المرير الفائت أن يظل منكس الرأس طيلة عمره؛ ندماً على ذنبه الذي اقترفه، لاسيما أنه ذنب عظيم نسأل الله العافية، فكم من ممثلة تابت وقد كانت أيام التمثيل تمثل أفلام الجنس والدعارة والعشق على أقذر مستوى، ثم تابت، فما هو الحل وهي عارية في كل البيوت، فكل الناس عندهم الفيديو ويتفرجون على الأفلام؟! أرأيت إلى هذا الذنب ما أبشعه!! ربما لو زنى الرجل أو المرأة في حجرة مغلقة ثم تاب لكان أيسر؛ إنما التبعة إذا كان في بلد لا تقيم الحدود أو يستغفر ويفعل من البر ما يستطيع لعل الله أن يسقط الذنب عنه، وإذا كان في بلد تقيم الحدود وعرض نفسه للحد فقد طهر نفسه، لكن امرأة عارية في كل بيت فإن ذنبها عظيم، فكان من المفروض بمقتضى هذا الذنب أن تظل مطأطأة الرأس طيلة عمرها أو طيلة عمره، فكيف يريد أن يكون مشهوراً في الوسط الجديد الملتزم؟!! هذه آثام ينبغي للمرء أن يتخلص منها.

من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد

من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد إن من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد، وإن الذي لا يحقق هذا الدين يضعف أمام الضغط المتواصل للمجتمع الفاسد، سواء كان الضغط من قبل الحكومات أو من قبل الأسر، والصحابة رضي الله عنهم في مسألة الإيمان والاعتقاد لم يكونوا يقيمون لأهليهم وزناً. فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان من أبر الناس بأمه، بل كان يضرب به المثل في البر بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟! لا آكل ولا أشرب حتى ترجع عن دينك فأموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمك! وفعلاً امتنعت من الأكل يومين أو ثلاثة، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فغروا فمها بالعصا حتى تأكل، فقال لها سعد كلاماً واضحاً، معناه: (يا أماه! والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، كلي أو دعي)، فلما لم تجد مناصاً أكلت. وكثير من الأهل يقاومون أولادهم مقاومة شديدة إذا أعفى الولد لحيته يحلف على أمه بالطلاق أو يطرده من البيت، وأنا أقول لك: اخرج من البيت، فهذه هجرة واجبة لا تنقطع إلى يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، قال ابن جرير الطبري: ومعنى الآية: يا عبادي الذين آمنوا اعبدوني ولا تتركوا عبادتي، واخرجوا عمن منعكم مني، وقال: ويدل عليه قوله: ((فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)) [العنكبوت:56] أمر بتحقيق العبادة. إن خروجك من البيت هجرة لا تفرط فيها، وإن الأرض إذا ضاق منها موضع ففي الآخر متسع، ولا عذر له: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول فالأرض واسعة، والمهم هو تحقيق عبودية الله عز وجل، ولا تنكث على عقبيك ولا تفرط، وافعل كما فعل الصحابة الأوائل فقد كانوا ثابتين على الحق المبين.

أنموذج للمنتكسين الذين خالفوا تقاليد مجتمعهم

أنموذج للمنتكسين الذين خالفوا تقاليد مجتمعهم لقد رأينا الذين دعوا إلى تحرير المرأة، أمثال هدى شعراوي، ودرية شفيق، وأمينة سعيد، وكل هؤلاء خالفوا المجتمع، وكان المجتمع يومئذٍ عليهم، ليس لأن المجتمع كان ملتزماً، ولكن لمخالفة العادات والتقاليد، فـ هدى شعراوي لما ذهبت إلى باريس وانحلت من العادات والتقاليد التي كان المجتمع متحلياً بها، وكان من ضمن تلك العادات آنذاك النقاب، وهو البرقع الذي تستر به المرأة وجهها، ولا زالت هذه العادات موجودة في بعض البلاد العربية، أن المرأة لا يراها أحد من أهل بلدها، فإذا ذهبت إلى لندن أو واشنطن أو باريس خلعت نقابها؛ لأنه عيب أن تُرى المرأة متنقبة في غير بلدها، لاسيما إذا كانت امرأة أمير، فلا تُرى أبداً في بلدها ولكن تتعرى في الخارج، فالمسألة مسألة عادات وليست مسألة التزام. فهذه المرأة عندما ذهبت إلى باريس وأثناء عودتها ذهب أبوها -وكان من الأثرياء- ومجموعة من الأثرياء ليستقبلوها وهي راجعة في السفينة، فإذا بالمرأة تنزل من السفينة سافرة الوجه، مكشوفة الشعر لقد ذهبت متنقبة ورجعت سافرة، فعندما رآها أبوها غضب ولم يتحمل هذا الموقف وانصرف وتركها، وكان المجتمع كله ضد هؤلاء، حتى إن واحدة ممن سميتهن أدلت بحديث وهي مفتخرة، أنها أول بنت لبست (شورتاً) في الجامعة! قالت: فاجتمع كل من في الجامعة ينظرون إليَّ، فقد كانت مسألة غريبة وعجيبة!! ورغم ذلك صبرن هؤلاء النساء على هذا بدعوى تحرير المرأة، وتحقيق مكاسب، وهي في الشرع آثام وليست مكاسب: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، هذه آثام مركبة على صاحبها، جنى سيئة لم يعملها بيديه، فصبرن هؤلاء النسوة، وكن طلائع هذا السفور المزري الموجود في بلاد المسلمين، أفلا يكون في مقابل هؤلاء نساء صالحات يدعون النساء إلى الرجوع إلى البيت مرة أخرى، ويفدين هذا المبدأ بأنفسهن، ويكن طلائع هذا الفتح، لاسيما والشرع وكلام الله ورسوله يعطيهن من القوة ما لا يمكن أن تحرزه امرأة من هؤلاء اللواتي دعون إلى التبرج؟! ثم البائعون أصاحب المحلات، ألا يكون منهم من يكتب في وقت الصلوات (مغلق للصلاة) ويغلق الباب، ويأمر الذين يعملون معه أن يذهبوا إلى المسجد؛ لعله يفتتح هذه السنة على كل المحلات التي حوله! من الذي يفتتح مثل هذا ويجعله حسبة لله عز وجل، ويعلم أن الرزق لن يفوته على الإطلاق، وأن ما قدره الله كائن له لا محالة؟! من الذي يفتتح مثل هذا الباب ويفعله، ويكون على ثقة أن الله لن يضيعه، وأن رزقه لن ينقص ريالاً واحداً؟! إن الثبات على المبدأ لا يكون إلا بعد أن تعتقد هذا الدين، فإن كثيراً من الناس قد يلتزم؛ لأنه يحب الداعية الفلاني، فهو التزم لأجله، فإذا عامله -مثلاً- هذا الداعية بقسوة أو غلظة، فإن كان ملتحياً حلق لحيته، وإن كان يقيم الصلاة في المسجد ترك الصلاة فيه هذا انتكاس؛ لأنه ليس له مبدأ، فلم يثبت أبداًَ. إن بعض الناس لا يلتزم بهذا الدين إلا إذا أعطي شيئاً من متاع الدنيا، فإن أعطي شيئاً رضي والتزم بهذا الدين، وإن لم يعط ما يريد انتكس مرة أخرى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. وفي أمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما من حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يصف شريحة من الناس لا يرجعون إلى الالتزام إلا بالمال. وهناك سهم في الزكاة هو سهم المؤلفة قلوبهم، فالرجل قد يأتي ليسلم لأجل المال، ولا مانع أن يعطى أمثال هؤلاء من أموال الزكاة، ولكن لابد أن يُتعاهدوا بالأمر والنهي، وهذا السهم لا زال قائماً، ولابد أن يمتحن ما بين الفينة والأخرى كي يُعلم التزامه. قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار)، ولم يقل: مالك الدينار، ولا مالك الدرهم، ولا مالك الخميصة، إنما قال: عبد، إشارة إلى هوانه، وأنه لا قيمة له، وأنه صار مملوكاً، وإذا كان عبد الدينار فلا بد أن يكون هناك مالك لهذا العبد، فمن الذي ملكه إذاً؟! إن الدرهم هو الذي ملكه، والخميصة هي التي ملكته، إذاً: صار الشيء مالكاً وصار هذا المالك عبداً: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس)، أي: نكص على عقبيه ورجع، (وإذا شيك فلا انتقش)، وهذا دعاء عليه، أي: إذا دخلت في قدمه شوكة فيا رب لا تخرجها، فلا انتقش ولا أخذ الشوكة أحد بالمنقاش، فهذا نمط من الناس إنما يرجع إلى الالتزام بالمال. وهناك نمط آخر يرجع إلى الالتزام بالمصيبة، فإذا أصيب رجع، ولكن سرعان ما ينتكس أمثال هؤلاء. إذاً: حسن التصور وأن تعرف أين موضع قدميك يعينك على الثبات، وضغط المجتمع المخالف من أقوى أسباب الوهن، وينتكس به كثير من الذين لم يتحققوا بواقع هذا الدين، أما الذين آمنوا به فإن هذا لا يزيدهم إلا ثباتاً، كما في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في صحيحه لما سأل هرقل أبا سفيان عن الذين دخلوا في الإسلام أول ما ظهر، فقال: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد إذ دخل فيه؟ قال له: لا. فعلق هرقل قائلاً: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب). فإذا دخل الإيمان وتخلل القلب فإنه يصير ملازماً له، لا يتركه، كذلك الذي يدخل في هذا الإسلام ولا يتركه سخطة لدينه، سواء ضرب، أو أخذ ماله، أو جلد، أو عذب كل هذا لا يكون حاملاً له على أن يترك دينه.

نماذج للثابتين على دين الله تعالى

نماذج للثابتين على دين الله تعالى الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إن الخروج من ضغط المجتمع الفاسد، أو من ضغط الأسرة الفاسدة أو الجاهلة، لا يكون إلا بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، وفي سير الأئمة الماضين.

مصعب بن عمير رضي الله عنه

مصعب بن عمير رضي الله عنه كان مصعب بن عمير رضي الله عنه، من أعطر شباب قريش، وكان يلبس الحرير، وكان ذا وجاهة بين أبويه وفي قومه، فلما أسلم ترك كل ذلك وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الرعيل الأول الذي دخل دار الأرقم، وهو أول سفير ومعلم وناشر للإسلام خارج حدود مكة، وكفاه شرفاً بذلك كفاك شرفاً أن تكون أول الداعين إلى خلة ماتت: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، لا يستوي الذي أنفق في وقت عز فيه النصير، مع الذي نصر دين الله لما دخل الناس فيه أفواجاً، لا يستوون!! ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير -فيما ذكر- رث الثياب، بكى، وهو يذكر ماضيه، لكنه ترك ذلك محبة لله عز وجل وطمعاً فيما عنده. روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قدم له طعام وكان صائماً، وذلك بعد أن استشهد مصعب رضي الله عنه في غزوة أحد، فقال عبد الرحمن: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكان عليه بردة إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجله بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلا زال يذكر السالفين ويبكي حتى ترك الطعام) هذه هي الأسوة، والذي يتأسى هو عبد الرحمن بن عوف أحد السابقين الأولين من المهاجرين، لكنه يذكر إخوانه الذين سبقوه كم سقط على درب الإيمان من نبيل وكريم! ولا تجد على هذا الدرب إلا الرجال الأفذاذ، لا تجد منهم ضئيل القدر صغير الحجم أبداً، هذا الطريق لا تجد عليه إلا كل نبيل.

ابن النابلسي وثباته على الدين أمام الخليفة العبيدي

ابن النابلسي وثباته على الدين أمام الخليفة العبيدي وهذا ابن النابلسي أحمد بن محمد بن سهل الرملي دعاه الخليفة العبيدي، وبنو عبيد كانوا قد غيروا الدين، وأزالوا الملة، وقتلوا الصالحين، فلما حضر ابن النابلسي الرملي قال له الخليفة: بلغني أنك تقول: إذا كان للرجل عشرة أسهم فيرمي فينا واحداً وفي الروم تسعة، فهل هذا الكلام صحيح؟ قال: لم أقل هكذا، بل قلت: يرمي فيكم تسعة ويرمي العاشر الروم، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين. فأمر بيهودي فسلخه وهو حي -وهذه قصة صحيحة ومشهورة- فكان يذكر الله وهو يسلخ حتى وصل إلى رأسه، فقال ابن النابلسي: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، وكان الدارقطني -إمام المسلمين في زمانه- إذا ذكر ابن النابلسي يبكي، كيف أنه جاد بنفسه! ومن أين له هذا الصبر؟! يسلخ حتى إذا وصل إلى رأسه قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]؟!! فما بدل ولا غير، والثابت من ثبته الله؛ ولذلك يشرع للمسلم أن يقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله. اخرج من حول نفسك وقل: رب! لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا ما دونها، فإن الله عز وجل يقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، أي: لا فضل لك إذا صبرت، إنما هو الله الذي صبّرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرصة)، أفيسلم الله عز وجل أولياءه للناس؟! أفلا يري هؤلاء الأولياء كرامته وأنه لا يتخلى عنهم حتى يقوي قلوبهم على المضي في طريقه وسبيله! نسأل الله تبارك وتعالى أن يصبرنا على الاستمساك بدينه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

مداخل الشيطان [1]

مداخل الشيطان [1] إن أعظم ما يرجوه الشيطان من بني آدم هو وقوعهم في الشرك والكفر بشتى الطرق والوسائل. ولأهمية توحيد الألوهية الذي أشرك فيه كثير من الناس كان هو الفارق بين الجاهلية والإسلام، ومن أجله قام العداء، واشتعلت الحروب بين العرب والنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحرب القائمة اليوم بين اليهود والنصارى من جهة والمسلمين من جهة أخرى إنما هو حرب عقائد وأديان، بينما نجد من بني جلدتنا من يميع قضية الاهتمام بالتوحيد والدعوة إليه! ويدعو إلى حوار الحضارات، واقتراح الثقافات.

التحذير من اتباع مذهب الشيطان

التحذير من اتباع مذهب الشيطان إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار. الجنس الأول من الشر الذي يطمح الشيطان إليه مع بني آدم: أن يوقعهم في الكفر. وللشيطان مذهب لم يغِب عن الأرض طرفة عين، قال الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62] وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض يتبعون مذهب الشيطان (جِبِلَّاً كثيراً)، وهذا واضح أيضاً في قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] ومعروف عند العلماء: أن اسم الجنس إذا حُلِّي بالألف واللام فإنه يفيد العموم والاستغراق. (مَن) مِن صِيَغ العموم فقوله: {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] أي: عموم المخلوقات. ثم جاء بعد ذلك تفصيل لهذا العموم بعموم آخر للتأكيد، وهو قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18]، فكلمة: (دابة) اسم لجنس الدواب، فإذا دخلت الألف واللام على كلمة (دابة) أفادت كل دابة على وجه الأرض، وكذلك الأشياء الأخرى مثل النجوم والشجر فكلها تسجد لله. فلما جاء ذكر الناس قال تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. إذاً: ليسوا جميعاً موحدون، مع أن الكون كله ساجد موحِّد إلا الثقلين: الإنس، والجن: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيراً} [يس:62]. وأي مذهب عموماً لا يكون إلا بأمر ونهي، فقد أنزل الله عز وجل الكتاب، وأرسل الرسل؛ ليأمر الناس بشيء وينهاهم عن شيء. إذاً: الأمر والنهي أصل كل مذهب، ولذلك قال الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} [النساء:119].

توحيد العبادة هو الفرقان بين الجاهلية والإسلام

توحيد العبادة هو الفرقان بين الجاهلية والإسلام النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء إلى العرب ودعاهم إلى الله لماذا قاتلوه؟ مع أنهم كانوا يوحدون الله عز وجل بتوحيد الربوبية الخاص بالخلق، والإحياء، والإماتة، والإيجاد من عدم، ولم يدعِ أحد من العرب أن آلهةً أخرى اشتركت مع الله في خلق شيء، ولا في تدبير شيء، وقد أقام الله عز وجل عليهم الحجة في كثير من آيات القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]. {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. هذا كله يقرونه لله عز وجل. إذاً: لماذا قاتل العربُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام ولم يسلموا له بدعوته؟ إن التوحيد الذي أبى العرب أن يسلموا به هو توحيد العبادة؛ توحيد الألوهية، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. هذا الذي أنكره العرب، وصبروا على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم، وأبوا أن يقولوا هذه الكلمة. ما المشكلة؟ قل: (لا إله إلا الله). لماذا تقوم الحروب؟ لماذا تعرِّض نساءك لأن يكنَّ سبايا؟ لماذا تعرض نفسك للقتل؟ لماذا يُسْتَرَقُّ ولدُك؟ لماذا كل هذا؟ فأبَوا أن يسلموا بتوحيد العبادة، وتوحيدُ العبادة في مثل قوله تبارك وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] (يقُصُّ الحق) أي: يقضيه، وفي الرواية الأخرى المتواترة وهي قراءة حمزة، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي وخلف: (يَقُضِيْ الْحَقَّ). {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]. {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ} [القصص:88]. {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]. فهذا هو توحيد العبادة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] وتوحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الألوهية، لا يحل لأحد أن يأمر بمعروف؛ بواجبٍ أو مستحبٍِ أو ينهى إلا الله ومَن أرسله مِن رسول. وعندما درسوا الدين في المدارس افتتحوه بعبارة شهيرة ماكرة قالوا: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم -وذكروا بعض مظاهر الجاهلية- يسجدون للأصنام، ويشربون الخمر، ويَئِدون البنات) وانتهى الأمر على هذا، وصارت عبارةً دارجةً شهيرةً في الكتب، هل هذه العبارة صحيحة؟ والقاعدةُ الإعلاميةُ اليهوديةُ الماكرةُ تقول: (ما تكرر تقرر) فمع تكرار العبارة يصير وقعُها في نفوس الجماهير مستقراً، حتى لو كانت خاطئة، فإذا استقرت هذه العبارة في نفوس الجماهير فنظروا الآن: هل هناك أحد يعبد الأصنام؟ A لا. هل هناك من يشرب الخمر؟ سواد المسلمين لا يشربون الخمر ويعلمون أنه حرام حتى الذين يشربونه. هل هناك من يدفن البنات الآن؟ الجواب: لا. إذاً: الإسلام الذي قاتل لأجله النبي صلى الله عليه وسلم موجود، هل هذه العبارة صحيحة بهذا الإطلاق؟ الجواب: لا. إن العرب قاتلوا حتى لا يكون الحكم لله، يريدون أن يحكموا ويشرعوا بأهوائهم، لا يحل الحكم في خردلة فما دونها إلا بحكم الله عز وجل. إن العرب صبروا على القتال، وفقدوا الأنفس الغالية -فقدوا الرؤساء، وفقدوا السادة والصناديد الكبار- وسُبِيَت نساؤهم؛ وهذا عارٌ عند العرب أن تذهب امرأةُ أحدهم إلى رجل كان يستقلُّه قبل ذلك ويحتقره، ويُقْتَل الصغار، وأبَوا أن يوحدوا توحيد العبادة الذي هو التسليم لحكم الله عز وجل، فهذا هو التوحيد الذي قاتل النبي صلى الله عليه وسلم العرب لأجله؛ توحيد العبادة (الأمر والنهي).

من الأدلة على عدم توحيد بعض المسلمين لله بتوحيد الحاكمية

من الأدلة على عدم توحيد بعض المسلمين لله بتوحيد الحاكمية يزعجني أن كثيراً من الناس لا يلتزم أحكامَ الله، ولا يسأل عنها إلا إذا وقع في ورطة ولم يجد لها حلاً، أو أصابته مصيبة فجاء يسأل عن حكم الله، أيكون الجمادُ خيراً من الإنسان؟ إن الله عز وجل قال للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. لماذا لا يرجع الإنسان إلى الله إلا بعد أن يصيبه العذاب الأليم؟! رجل يسرق أموال الناس، ويختلس من الشركة، ويضع أمواله في البنوك، ومكث على هذه الحال ثماني عشرة سنة وهو يفعل ذلك، وفجأة سقط صريعاً، كشف عنه الأطباء فظَهَر أن عنده ذبحة، وعندما علم بذلك طفق يسأل وجاء يقول: ماذا أفعل في تركة ثماني عشرة سنة؟ البيت الذي بنيته من هذه الأموال كل مشروعاتي من هذه الأموال ربَّيت أولادي من هذه الأموال لا أمتلك شيئاً على الأرض إلا من هذه الأموال، وأنا لا أستطيع أن أخرج من بيتي ولا أخرج من تجارتي، فجدوا لي حلاً، ماذا أفعل؟ هكذا مدة ثماني عشرة سنة يفعل كل شيء، ثم إذا أصابته جائحة جاء يسأل عن حكم الله. كثيرٌ من التجار يعقدون الصفقات ولا يسألون عن حكم الله فيها، صحيحٌ أن الأصل في البيوع الحل، لكن نظراً لاختلاط المسلمين بالكافرين، وأن الكافرين يستحدثون من وجوه المبايعات ما يحفظ لهم أموالهم، ولا يلتزمون بحكم الله، والمسلمون يعاملونهم، وللكافرين اليدُ العليا في البضائع والصناعات، فيذهب المسلم فيعقد صفقة مع الكافر على مذهبه؛ لأنه هو السيد والمالك، فيشترط عليه شروطاً هي في ديننا محرمة، فحينئذٍ يجب عليه أن يسأل أهلَ العلم في كل مبايعة جديدة، وإن كان الأصل في المبايعات الحل؛ لكنه لا يعلم الشرع فلا بد أن يسأل أهل العلم. فكم يا ترى للتجار مستشارين من أهل العلم؟ التجار الكبار لهم مستشارون قانونيون ومحاسبون، ويعطونهم رواتب عالية وثابتة، ويعطونهم نسباً أيضاً، وأهلُ العلم استشارتهم مجانية بلا مال، فهل يا ترى لكل تاجر كبير مستشار من العلماء يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويصدر عن فتواه؟ هذا مِن أدل الأدلة على أننا لا نوحد الله عز وجل توحيد الحاكمية الذي هو من أخص خصائص توحيد الألوهية.

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد هذا الجنس الخطير -الكفر- هو ما يطمح الشيطان إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صيانة جناب التوحيد حتى ولو باللفظ، لا أقول بالفعل -حاشا لله- إنما باللفظ. ويدل على هذا ما رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهما بسند قوي عن طفيل بن سخبرة وهو أخو عائشة رضي الله عنها لأمها: (أنه رأى في المنام طائفة من الناس قال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ثم قابَلَ -يعني في منامه- طائفة أخرى قال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، فقال لهم: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا له: ونِعْم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله ومحمد، فاستيقظ من منامه، فأخبر بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالرؤيا فقال له: هل أخبرتَ أحداً؟ قال: نعم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً أخبرني أنه رأى في منامه كذا وكذا وأنتم كنتم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياء منكم أن أقولها لكم، كنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد، ألا قولوا: ما شاء الله ثم محمد). ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول له: (ما شاء الله وشئتَ، قال: أجعلتَني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئتَ) مع أنه لم يخطر ببال الرجل -فيما أحسب- أن يكون جَعَل محمداً صلى الله عليه وسلم نداً لله، ما أظن أن هذا المعنى خطر على باله، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟!) جعله نداً لله بحرفٍ واحد، حرف الواو (ما شاء الله (و) شئتَ) حرف واحد! فما بالك بالذين يقولون جُمَلاً، ويكتبون كتباً في الشرك: يا بدوي أغثني! يا جيلاني أمدني! يا دسوقي ادفع عني! حرف واحد، لا أقول كلمةً ولا جملةً ولا كتاباً؟! كتاب: (دلائل الخيرات) منتشر عند العوام وهو يعج بالشرك، ولا يحل لأحد أن يقرأ منه حرفاً واحداً. إذاً: نخلص من هذا أن التوحيد الكبير الذي كان فرقاناً بين الجاهلية والإسلام هو توحيد العبادة، وكانت العرب تعرف بعضاً من أسماء الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، وإنما أنكروا صفة الرحمن جحوداً واستكباراً منهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] نوع من الجحود. فهذا الجنس الخطير -الشرك- هو ما يسعى الشيطان إليه، وأوسعُ هذه الأبواب: تلقي الأوامر والنواهي من غير الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:116 - 117]. وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا سُئِل عن مسألة في الحلال والحرام يقول: (يعجبني)، و (لا يعجبني)، (أحب ذلك)، و (أكره ذلك)، فلما قيل له: ألا تقول: حرام وحلال؟ فتلا قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام: ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثةَ عشر عاماً يدعو الناس إلى الله وإلى توحيده، وأهْدَرَ الأموالَ لعلةِ التوحيد بين الناس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلمُ الكافرَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهلُ مِلَّتَين). لو أن شخصاً كان ابن أغنى إنسان على وجه الأرض، وكان ولده الوحيد، فأسلم الابن ومات الأب كافراً، فلا يحل لهذا الولد أن يأخذ درهماً واحداً من تركة أبيه، وقد يكون من أفقر الناس، ومع ذلك لا يحل له أن يأخذ درهماً واحداً، الذي فرَّق بينهما التوحيد، حتى يكون الدينُ كلُّه لله، ومسألةُ عِلِّية المال تنتفي، وهذا يدلك على أن الفرقانَّ المعنيَّ به في القرآن هو التوحيد الذي فرَّق بين الوالد وولده، والولد ووالده.

تهوين بعض الجماعات الإسلامية من شأن التوحيد

تهوين بعض الجماعات الإسلامية من شأن التوحيد فمِن عَجَبٍ أن تهوِّن بعضُ الجماعات الإسلامية الآن من شأن التوحيد، ويقولون: إن الكلام في التوحيد يفرق، ونحن نريد أن نجمع الكلمة، إذا اختلفنا في الله فعلى مَن نجتمع؟ كلمةُ التوحيد قبل توحيد الكلمة، ولا سبيل إلى توحيد الكلمة إلا بعد أن نتفق على كلمة التوحيد، واحتجَّ بعضُهم -غلطاً ووَهماً منه- بقصة هارون عليه السلام، وأنه ترك الناس أن يعبدوا العجل خشية أن يفرق بينهم: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:92 - 94] قال: فترك هارون بني إسرائيل يعبدون العجل حتى لا يفرق بينهم، فهل هذا صحيح؟ A هذا خطأ، وقولٌ ظاهرُ البطلان من آيات القرآن، لقد نهاهم هارون عليه السلام وقال لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه:90] فبيَّن لهم أنه لا يحل لهم أن يعبدوا العجل، وفي سورة الأعراف بيَّن عليه السلام أنهم كادوا يقتلونه لما نهاهم: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] أيقتلونه لأنه ساكن ساكت، أم لأنه قاومهم ووقف في وجوههم؟! فكيف يُظَنُّ بنبي الله هارون أن يرى الناسَ يعبدون العجل من دون الله عز وجل، فيسكت خشية أن يفرق جمعهم؟ إنما أرسل الله عز وجل موسى وهارون، وقَسَم الناس إلى قسمين: فراعنة، وإسرائيليين، جعلهم قسمين كبيرين، لماذا؟ أيتركون عبادة فرعون ويعبدون العجل؟! ما هو الفرق؟ فصاروا يهوِّنون مِن مثل هذا، ويقولون: الكلام في التوحيد يؤدي إلى الفرقة.

خطر الحرب الثقافية على المسلمين

خطر الحرب الثقافية على المسلمين قالوا: لو أن شخصاً يقول: إن الله عز وجل لا يرى ولا يسمع، فليست هناك مشكلة. ويقولون: يا أخي! أهم شيء العدو الخارجي؛ إسرائيل الآن متغلغلة. ونسي أن المد الثقافي الذي هو أخطر من الغزو العسكري قائمٌ على قدم وساق، يا ليتهم يواجهوننا بالذخائر إذَنْ لَوَجدوا رجالاً؛ لكنهم قتلوا شباب الأمة بالثقافة والإعلام. أي رجل عنده جهاز التلفاز الملعون تجده في الساعات الأخيرة من الليل يرى المشاهد الجنسية الصارخة. وبعضُ الأبناء في المرحلة الثانوية والجامعية يأتي فيقول: إني مبتلىً بداءٍ عُضَال؛ إن شبكة الإنترنت تبث الأفلام الجنسية، فهو يسجل على الأشرطة كثيراً من هذه الأفلام، وصار مدمناً على مشاهدتها. وفي أمريكا يعرفون المسلمين الملتزمين الذين يظهر عليهم سَمْت الالتزام، ويرسلون إليهم مبشرات -راهبات- من أجمل النساء، فيستمتن في الدعوة إلى دينهن. ولقد حدثني أحد شباب السعودية قال: كنتُ أدرس في أمريكا، فطَرَق الباب شخص، فخرجتُ فوجدتُ امرأة في غاية الجمال، فقالت: لحظة أكلمك. قال: فأغلقتُ الباب في وجهها، فطَرَقَت مرة أخرى، فكلمتُها مِن خلف الباب. قالت: لحظة أكلمك، لا تغلق الباب في وجهي. ففتح الباب وقال: ماذا تريدين؟ قالت: إنني أدعوك إلى يسوع المسيح. فأغلق الباب مباشرة. فما كان من المرأة إلا أن قرأت المنشور بأعلى صوتها من خلف الباب. يقول تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]. وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. فالمسألة إذاً مسألة عَقَدية. فهؤلاء اليهود يفعلون كل شيء لتدمير شباب هذه الأمة، والعجيب أن يكون هناك عملاء يُغَطُّون مثل هذه الأفاعيل، ويحسنون الظن بالعدو. (إستاكوزا) التي أنكرها بعضُهم أشهراً طويلة، حتى جاء التقرير الرسمي يؤيد ذلك، والتي تدمر الثروة السمكية في كل مياه المسلمين، وفي مصر لو أن رجلاً أخذ كيساً من هذه (الإستاكوزا) التي تأكل الأسماك، وأفرغه في مصب النيل، وانتشرت (الإستاكوزا) في مئات الألوف من االقنوات الصغيرة وأكلت الثروة السمكية كلها، فإن أكبر دولة لن تستطيع أن تفعل في ذلك شيئاً إلا أن تسمم الماء، وهذا جزء مما يفعلون. اللُّبان، والحلوى، و (الشيكولاتة)، مخلوطة بمادة قوية تثير الأعصاب والغرائز الجنسية، فأول ما يأكل أحد هذه الحلوى أو يمضغ هذا اللبان تثور شهوتُه ذكراً كان أو أنثى، ويقولون: لن نكتب عليها: صُنِع في إسرائيل؛ لكن سنكتب عليها: صُنِع في اليابان، وصُنِع في إندونيسيا، وصُنِع في مصر إن لَزِم الأمر. الحرب الثقافية التي هي على أشدها الآن لها عملاء. كتب أحدهم على صفحة كاملة: النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا يعلم الغيب غداً، لو كان موجوداً لعَدَّل آيات المواريث، فما بال الذي أنزل عليه القرآن، أفَمَا كان يعلم ما سيحدث في زماننا؟ ويُكتب هذا بالخط العريض على الصحيفة كلها، وهذا الرجل أستاذ في كلية الآداب، ولا يزال يدرس حتى الآن. وفي الأسبوع الماضي كتب أحد الصحفيين في جريدة الأهرام تحت عنوان: مجرد رأي، يقول: إن أستاذاً في الجامعة الأمريكية يدرس كتاباً من سنوات طويلة، وهذا الكتاب يسب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مقذعاً واضحاً، فيقول في هذا الكتاب: والطلبة مُجْبَرون على المذاكرة وعلى كتابة هذه الأفكار حتى لا يرسبوا في المادة، هذا الكتاب فيه: إن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج خديجة مع أنها أكبر منه؛ لأنه كان رجلاً فقيراً فلاذ بمال المرأة، وأنه هو الذي ألَّف القرآن، ومن جملة ما ألَّفه: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] الآخرة هي: عائشة، والأولى هي: خديجة. الآخرة هي عائشة البكر، قالوا: لأنه كان يعاني من كبت جنسي فتزوج بنتاً صغيرة. هذا الكلام مكتوب ويدرَّس في دولة تزعم أن دينها الرسمي الإسلام من سنوات طويلة، هذه العبارات كانت كافية لأن يتنبه الساهي وليستيقظ الغافل لكن لا أحد يتابع؛ ويطْلُع جيل يدرُس مثلَ هذا ويدافع عنه. هذا هو المد الثقافي والغزو الفكري. فيقولون: إن هؤلاء اليهود يفعلون ويفعلون ويفعلون، فهل نتكلم في أن الله يرى أو لا يرى، يسمع أو لا يسمع؟! يا أخي! اتركوا هذه الصغائر وهذه الأشياء البسيطة، أمامنا العدو الكبير الذي هو أكبر من تعطيل صفات الله وهو إسرائيل! فهل يمكن أيها الإخوة الكرام أن نجتمع يوماً ما على شيء ما إذا لم نجتمع على توحيد الله؟ الذي يقول: إن الله لا يرى، ولا يسمع، ولا يبصر، يعبُد صنماً! والذي يقول: إن الله يرى كرؤيتي، له بصرٌ كبصري، له سمعٌ كسمعي، يعبُد جسماً، وأهل السنة والجماعة مذهبهم الوسط، فيقولون: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه من غير تعطيل ولا تكييف، ولا تجسيم ولا تمثيل. هذا ما يجب أن نعتقده في الله تبارك وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يرد هذه الأمة إلى دينه رداً جميلاً، وأن يهديهم صراطه المستقيم. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك ولا يرحمنا. رب آتِِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكلُّ ذلك عندنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

مداخل الشيطان [2]

مداخل الشيطان [2] إن من مداخل الشيطان على بني آدم إيقاعهم في البدعة، ودفعهم إلى رد الحق بسبب تعصبهم لعادات الآباء وتقاليدهم؛ ولا مخرج ولا عاصم من هذه الفتن إلا بالعلم، والاهتمام بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والنظر في حياة الصحابة واهتمامهم بتلقي الوحي عن رسول الله، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله برأي ولا قول ولا فعل.

تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور

تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! فلا زلنا نميط اللثام عن كيد الشيطان لابن آدم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:27 - 29]. في ترتيب هاتين الآيتين سرٌّ بديع، وقفتُ عليه بتوفيق ربي، ثم بطول التأمل في الآيتين، ولكن لا يظهر المعنى إلا بمقدمة، وهذه المقدمة قد تطول؛ لكنها ضرورية. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} [الأعراف:27]. ثم قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28]. إن تأثير الآباء في الأبناء عظيم الجذور؛ ولذلك دَرَج أهل الجاهلية أن يحلفوا بآبائهم، ومِن المعلوم أن الحلف إنما هو لتعظيم المحلوف به، ففي الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال: (سمعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقول: وأبي! وأبي -أي يحلف بأبيه- فقال: يا عمر! إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت، قال عمر: فما حلفت به ذاكراً ولا آثراً) ذاكراً: لا أحلف، ولا آثراً: لا أقول: إنني في يوم من الأيام قلت: وأبي، فيحلف بأبيه على سبيل الحكاية، وليس على سبيل الحلف، فإعمالاً لهذا النهي من النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيماً لجنابه يقول: (ما حلفتُ به ذاكراً ولا آثراً) ولأن الوالد هو أغلى ما يمتلكه الولد في هذه الدنيا مع الأم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أرادوا أن يُفَدُّوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: بأبي أنت وأمي. أي: أفديك بأبي وأمي، ولو كان هناك أغلى منهما لفديتك به. وفي صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يصلي صلاة العصر مع علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فلما خرج من المسجد أبصر أبو بكر الحسن بن علي، فجعل أبو بكر يعدو خلفه والحسن يهرب حتى أمسكه أبو بكر، فرفعه على عاتقه وهو يقول: (بأبي شَبِيْهٌ بالنبي ليس شَبِيْهاً بـ علي). والباء هنا ليست باء القسم، إنما هي باء التفدية؛ أي: أفديه بأبي ليس شبيهاً بـ علي، إنما يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كله. فكانت العرب قديماًَ يحلفون بالآباء لرسوخ هذه العلاقة بين الأبناء والآباء في نفوس الأبناء.

الاعتراض على الأنبياء بسنة الآباء

الاعتراض على الأنبياء بسنة الآباء ذكر ربنا تبارك وتعالى أن الرسل أول ما عورضوا بسنة الآباء، وجعلها الناس عقَبَةً كأْداء في طريق الأنبياء: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} [الزخرف:23] وهذا كله يفيد العموم، أي: ما جاء نبي قط أرسله الله إلى قرية ما إلا عارضوه بسنة الآباء فقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. ولو رجعتَ إلى القرآن الكريم تجد تفصيل هذا الكلام.

نبينا عليه الصلاة والسلام ومعارضة قومه دعوته بسنة الآباء

نبينا عليه الصلاة والسلام ومعارضة قومه دعوته بسنة الآباء ثم كان نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الذين عورضوا من الأنبياء بسنة الآباء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21] وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب -أترغب عن دين آبائك- فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب). فسنة الآباء عَقَبَة كأداء. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] فلو كان هناك أحد غير الوالد يذكر عند الولد لذكره الله؛ لأنه ذكر الآية في معرض الحث على كثرة ذكر الله، ولا يُضْرَب المثل بالأدون، إنما يُضْرَب بالأعلى، فلو كان هناك أكثر من الآباء ذكراً عند الأبناء لذكره الله عز وجل.

فرعون ومعارضته لدعوة موسى بتقليد الآباء

فرعون ومعارضته لدعوة موسى بتقليد الآباء وكذلك عورض موسى عليه السلام وأخوه هارون بسنة الآباء، لما جاء إلى فرعون وملئه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78].

معارضة قوم هود وصالح وشعيب لأنبيائهم بسنة الآباء

معارضة قوم هود وصالح وشعيب لأنبيائهم بسنة الآباء وكذلك لما جاء هود عارضوه بسنة الأنبياء أيضاً: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:70 - 71]. وكذلك لما جاء صالح إلى ثمود ودعاهم إلى الله عز وجل: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوَّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62]. ولما جاء شعيب إلى مدين عارضوه أيضاً بسنة الآباء: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]. فبماذا أجابوه؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]. جُنِنْتَ؟! نتبعك ونعبد الله، ونتصرف في أموالنا على حسب رأيك؟! {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].

نوح عليه السلام ومعارضة قومه بسنة آبائهم

نوح عليه السلام ومعارضة قومه بسنة آبائهم نوح أول نبي أرسل -كما في الحديث الصحيح- وعورض بسنة الآباء: قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:23 - 24]. فجعلوا جهل آبائهم قائماً مقامَ الحجة،: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] نعم ما قَدَروه حق قدره، يخلق عباده، ويخلق لهم السماوات والأرض، ولا يرسل إليهم أنبياء يعرفونهم طريق سعادتهم؟! أهذا يليق بالرحمن الرحيم؟! يطعمهم، وينمي أبدانهم، ويملأ بطونهم، ولا يرسل إليهم رسولاً يعرِّفهم به؟ إن الذين زعموا ذلك: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] مَن الذي فعل ذلك؟! مَن الذي أنزل هذه الكتب؟! {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91] مَن الذي علَّمكم أنتم وآباءكم؟ {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]. فهؤلاء جعلوا جهل آبائهم قائماً مقام الحجة في معارضة الأنبياء.

إبراهيم عليه السلام أكثر من عورض بسنة الآباء

إبراهيم عليه السلام أكثر من عورض بسنة الآباء إبراهيم عليه السلام الحنيف، وهو من أكثر الذين عورضوا بسنة الآباء: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53]. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:69 - 74]. وكان بينه وبين أبيه مجادلة عنيفة أدى فيها إبراهيم عليه السلام حق البنوة وحق العبودية، أدى حق البنوة فدعا أباه بألطف عبارة إلى الله، وأدى حق ربه عز وجل إذ تولى بِرُكْنه وترك الأصنام وعابديها: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيَّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيَّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيَّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيَّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً} [مريم:41 - 46]. قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة فيقول إبراهيم: أَلَمْ أنهك -يعني أن تشرك بالله شيئاً- فعصيتني؟ فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام فيقول: يا رب! وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزيٍ أعظم من أن يدخل الأبعدُ النار -الأبعد: أبوه- فقال الله عز وجل: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، انظر تحت قدميك، فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ -صورة ضبع منتن الرائحة، يدور في رجيعه- فيؤخذ بقوائمه إلى النار). إن الله عز وجل لا يجامل أحداً في التوحيد: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].

الاقتداء بآدم عليه السلام في عدائه للشيطان

الاقتداء بآدم عليه السلام في عدائه للشيطان قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف:27]. الأبناء عندهم عصبية للآباء، كفروا بالله بسبب العصبية للآباء، ولو سُبَّ والدُ أحدِنا لاحمرَّ أنفُه، ولربما فدى سمعة أبيه بحياته، ولا يرى بأساً عليه من ذلك، إذْ كان يرد اعتبار أبيه. وهذا امرؤ القيس لما خرج هو وصاحبه ليسترد مُلْك أبيه -الملك الضائع- رأى أنه لو قُتِل ما كان ذلك يشينه بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا فقلتُ له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموتَ فنُعْذَرا كان يبحث عن مُلْك أبيه، وكان أبوه ملكاً، فرأى أن يفدي استرداد الملك بحياته. إذاً: المقدمة الطويلة هذه نستفيد منها: شدة عصبية الأبناء للآباء. قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] حتى في الفواحش دفعتهم العصبية أن يفعلوا الفاحشة، ويجعلوا فعل آبائهم حجة، ثم يفترون على الله بعد ذلك فينسبونها إليه. طالما أن عندكم غَيرة ونخوة وعصبية، فقد أخرج الشيطان أبويكم من الجنة وكشف سوآتهما! فأين عصبيتكم لهما؟! لماذا صار أكثر الناس منقادين للشيطان الرجيم؟! لماذا تَبِع أكثرُ أهل الأرض الشياطينَ؟! أين عصبيتهم؟! لماذا لم يمقتوا الشياطين وقد أخرجوا أبويهم من الجنة، وكشفوا عن سوآتهما؟! لماذا تكيلون بمكيالين؟ لماذا توالون الشيطان وآدم أبوكم؟! ولذلك جاء لفظ الأب في الآية: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} [الأعراف:27] استثارة للنخوة! استثارة للعصبية! بأن يعادي الشيطان الذي أخرج أباه، ولم يفعل هذا فقط، بل كشف عن سوأته. فكان ينبغي له إذا كان فعلاً يوالي هذا الوالد ويتعصب له ألاَّ يوالي عدوَّه الذي أخرجه من الجنة، وجعلنا سبايا له. لكننا سَبْيُ العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسَلِّمُ هل يا ترى نعود إلى وطننا الذي خرجنا منه يوماً ما؟! قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه- (يقول الله عز وجل لآدم يوم القيامة: يا آدم! يقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، يقول: يا آدم! أخرج بعث النار، يقول: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين -هؤلاء يدخلون النار، من كل ألف إنسان تسعمائة وتسعة وتسعين في النار وواحد في الجنة- فقال الصحابة: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟ قال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قال: فكبرنا، قال: والذي نفسي بيده لأنتم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أبشروا فإن مِن يأجوج ومأجوج ألف -في النار- ومنكم واحد في الجنة). فهذه الأمة بالنسبة للأمم كألف بالنسبة لواحد. فهذه طريقة قرآنية لاستثارة عصبية الناس، لماذا صاروا منقادين للشيطان؟! لماذا صاروا دعاة له وقد أخرج أباهم؟ إن كان عندهم عصبية وإحساس، وعارضوا الأنبياء بسنة الآباء، فلم لا يعارضون الشيطان بسنة أبيهم أيضاً؟! وهذا يدلك على مبلغ الغبن الذي وقع فيه أكثر الناس.

رحلة إبراهيم عليه السلام في الكون

رحلة إبراهيم عليه السلام في الكون الكفر هو الجنس الأول الذي يسعى الشيطان إليه، والعاصم منه أن تحب ربك وتواليه، وأن تجعل محور حياتك يدور عليه، فتحب الذي يحبه، وتكره الذي يكرهه، ولا تفعل الأمر إلا إذا أُمِرت، وإذا نهيت فلا تستر على الفعل، فهذا هو العاصم. واعتبر بقصة الخليل عليه السلام الحنيف، قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:74] الإله مشتق مِن وَلَهَ، والوَلَه: شدة التعلق، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]. ثم بدأت رحلة إبراهيم الذي لم يعرف في الكون إلا الله، فجعل إبراهيم عليه السلام يبحث عن مثال في الكون لإلهه الذي يعبده. وقد اتفق أهل الأرض جميعاً على نسبة الجمال إلى الله، فكلما رأوا شيئاً جميلاً عَلَت أصواتهم: الله! فصار ذكر الله عَلَماً على كل جميل بكل اللغات. فإبراهيم عليه السلام الذي لا يعرف إلا الله يجده في ضميره وفي نفسه، فيريد أن يبحث له في الكون عن مثال. فمن عانى هذه القضية ظل مسهَّد الطرف لا ينام، في كل ليلة يرعى النجم، لا يكتحل طرفه بنوم. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] جَنَّ: يعني: صار في كبد الليل وأشده ظلمة، في وقت تنام فيه العيون، وتهجع الأبدان، هو مسهد الطرف لا ينام، يبحث عن مثالٍ لإلهه الذي يحبه، ويجده في صدره وقلبه. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وهذا فيه إشعار كأنْ ليس في الكون غيره، هو الذي لفَّه الليل بظلامه وسدوله: {رَأَى كَوْكَباً} [الأنعام:76] في هذا الظلام الدامس يرى شيئاً يلمع. إذاً: ما هو أجمل شيء في الكون في هذا الظلام؟ هذا النجم، إذاً: هو ربي؛ لأنه لا أجمل منه، ولا أفضل منه يصل إليه طرفي إلا هذا النجم المضيء الذي بيني وبينه ملايين الأميال. إذاً: هذا الجميل في الكون هو ربي: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]. لماذا؟ لأن إلهه الذي يحبه لم يغب عنه طرفة عين، فإذا غاب هذا عني، فأنا أكون في غربة عظيمة، الأنسُ بالله رأس مال الأولياء، ولذلك يطاردونهم ويعذبونهم ويشردونهم ولا يشعرون بوحشة قط. لماذا؟ لأن الله ما غاب عنهم قط، إنما الأنس يتم به. ذكر الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء خبراً عظيماً -اقشعر له جلدي لما قرأته- لبعض العلماء أيام الإمام الدارقطني رحمه الله كان يعادي أمراء الدولة، فقبضوا عليه وجاءوا به وقالوا: بلغنا أنك تقول عنا: لو كان عندي عشرة أسهم لرميتكم بسهم، وفي الروم بتسعة أسهم. أصحيح هذا الكلام؟ قال: بل قلت: لو كان معي عشرة أسهم لرميتكم بتسعة وجعلت في الروم واحداً، قال: فأخذوه، فسلخوه وهو حي، فلما وصلوا إلى وجهه قال: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الإسراء:58] وكان الدارقطني رحمه الله إذا ذكر هذا الرجل بكى. رجل يُسْلَخ وهو حي ما الذي صبَّره؟ الأنس بالله الذي يجده. مَن أنِسَ بالله لم يشعر بفَقْد المخلوقين؛ لكننا نحن نشعر بوحشة السجن والحبس؛ لأن الله ليس معنا، ولا نستشعره في ضمائرنا، لذلك يغيب عنا. وقد أبى إبراهيم عليه السلام أن يتخذ إلهاً غائباً، لما أفل: {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] فأبى أن يكون إلهاً. ولذلك بهذه النقطة تستشعر لماذا يطول الليل على المرضى؟ مع أن الليل قد يكون قصيراً كلَيل الصيف مثلاً، واليوم طويل، والألم يسري في بدن الرجل نهاراً وليلاً؛ لكن يعظم وطء المرض عليه بالليل، لماذا؟ لأنه لا يجد أنيساً، وكان الذي يقصر عليه مدة الألم في النهار ويهوِّن عليه الألم هو دخول الناس وخروجهم، هذا يدخل فيسليه، وهذا يعزيه، وهذا يأمره بالصبر، وهذا يضحك معه، وهذا يمازحه، فيشعر أنه محل أفئدة الناس فيصبر، أما إذا انصرف الناس عنه ووجد نفسه وحيداً فهنا يشعر بالوحشة ويحس بوقع الألم. فكذلك الذي لا يكون الله عز وجل معه دائماً هو في وحشة من جلده فضلاً عن أن يكون في وحشة من أبناء جنسه. {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77] وابتهج؛ لأنه أوضح من النجم وأكبر وأشد لمعاناً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77]. إذاً: كلما وجد شيئاً أجمل قال: هذا ربي: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:77 - 78] طوال الليل لم يكتحل بنوم؛ لأنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده. {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] هذا هو، هذا أكبر، ليس لأنه أشد لمعاناً وأعظم توهجاً، بل لأنه أكبر. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] فظهرت له العلامة، ليس هناك شيء في الكون يصلح أن يكون إلهاً يعبده. إذاً: وظف إبراهيم عليه السلام كل حواسه للبحث عن إلهه الذي يعبده. إذاً: كلما ازددت تعلقاً بربك كلما فَرَق الشيطان منك ويئس من المحاولة: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

محاولة إيقاع الشيطان لبني آدم في البدعة

محاولة إيقاع الشيطان لبني آدم في البدعة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الجنس الثاني الذي يسعى الشيطان إلى إيقاع العباد فيه بعدما نجو من الكفر: البدعة. أيها الإخوة الكرام! البدعة تغييرٌ لدين الله عز وجل، وطمسٌ لآثار الوحي.

العلم بالله هو العاصم من البدعة

العلم بالله هو العاصم من البدعة ما هو العاصم من البدعة؟ العلم. فالصحابة رضوان الله عليهم لم تكن فيهم البدعة، لماذا؟ لشيء واحد، لو نحن حققناه الآن لضربنا البدعة بسهم قاتل، هذا الشيء هو: أن تعلم أنك عبد لله، والعبد له سيد، والسيد يأمر، فلا ترفع قدمك مِن على الأرض إلا إذا قيل لك: تقدم، ولا يتحرك لسانك بقولٍ إلا إذا قيل لك: قل، {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] يعني: لا تقولوا حتى يأمركم، ولا تفعلوا حتى يأمركم، فالذي يفعل الفعل من تلقاء نفسه فقد قدم بين يدي الله ورسوله، ونصب نفسه مشرعاً. فالصحابة ما كانوا يفعلون شيئاً من ذلك. أحد الصحابة كان يمشي في جبل، فرأى غاراً في جبل فأعجبه، فقال في نفسه: لو تخليت عن الناس وتحنثت لربي فيه!. إذاً: قصده حسن أم لا؟ قصده حسن، يريد أن يريح الناس من شره، ويجتنب الناس ويعبد الله حتى يصفو له قلبه. لكنه قال: فوالله لا أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: يا رسول الله! رأيت غاراً في جبل فأعجبني فقلت: لو اعتزلتُ الناس وتحنثت لربي فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إني لم أبعث بالرهبانية، إنما بعثت بالحنيفية السمحة). وأخذ الرجل الجواب واستراح، فلم يفعل حتى يستأذن. كذلك كان تلقيهم لنصوص الوحي عالياً وفي غاية الروعة، جاء في مسند البزار: (كان أبو الدحداح يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] فقال أبو الدحداح: يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم. قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟). تقول الرواية: (إن هذا الحائط كان فيه ستمائة نخلة)، قال صلى الله عليه وسلم: (بيتٌ لا تمرَ فيه جياعٌ أهله) بعض الناس قد يستشكل عليه معنى الحديث فيقول: نحن لسنا أهل تمر، ومع ذلك نحس بالشبع، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود أنه قد يدخل الرجل بيته وهو شديد الجوع، فيجد امرأته لا تزال تعد الطعام، ويتحاج بعض الوقت حتى يكون الطعام جاهزاً، فما الذي يقيم صلبه بسرعة ويجعله يشعر بالشبع؟ التمر أو أي مادة سكرية؛ ولكن التمر أفضلها، فقوله عليه الصلاة والسلام: (جياعٌ أهله) ليس المقصود به الجوع الدائم، ولكن الجوع المؤقت الذي يزول بالتمر، أي أن الرجل سيعاني من الجوع ولو للحظات إذا لم يكن في بيته تمر. يقول أبو الدحداح: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟ قال: نعم. قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ قال: لك الجنة. قال: فإني أشهدك أنني أقرضته حائطي هذا). وقام أبو الدحداح رضي الله عنه من المجلس وذهب إلى الحائط الذي كان يمتلكه، فلم يدخل منه لأنه صار ملكاً لله، ولم يعد ملكاً له، فوقف على باب الحائط وقال: (يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك، فإني أقرضت حائطي هذا ربي، فيأتي صوت المرأة المؤمنة ينبعث من داخل الحائط: ربح البيع يا أبا الدحداح)، ولم تقل له: ضيعت مستقبل الأولاد، كان عليك أن تترك لهم خمسمائة نخلة، أو حتى مائتين وخمسين نخلة، ليَكْبُر أولادُك أغنياء؛ ولكنها قالت له بلهجة المؤمن الصادق: (ربح البيع يا أبا الدحداح) أفَمِثل هذا في تلقيه يمكن أن يفتري على الله عز وجل فيبتدعَ حُكْماً لم ينزله الله؟!

الجهل من أعظم أسباب الوقوع في البدع

الجهل من أعظم أسباب الوقوع في البدع إن الجهل هو سبب كل المصائب الموجودة في الدنيا: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد:5] شخصٌ خرج علينا الأسبوع الماضي بفتوى من أعجب ما يكون! يقول: إن التنمُّص جائز للرجال حرام على النساء، تصوَّر! يجوز للرجل أن يرقق حاجبه حتى يكون كالهلال، ما هي الحجة؟ هي كحجة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]. لماذا؟ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] يا غبي! الطين خيرٌ من النار، فالنار تحرق، والطين فيه رخاوة وبرودة، يقيس الشيء على الضد، وهذا هو سبب الغباوة! ما هي حجتك أن يتنمَّص الرجال دون النساء؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله النامصات والمتنمصات) ولم يقل: النامصين. إننا نجأر إلى الله من أمثال هؤلاء مجددينات النامصات! سئل أحد الأذكياء وهو الأديب كامل كيلاني رحمه الله وقال يوماً ما: إننا نعوذ بالله ونجأر إليه من المجددينات. فقالوا له: وما المجددينات؟ لم يكن جمعاً مذكراً سالماً، ولا جمعاً مؤنثاً سالماً؟ قال: هذا جمع مخنث سالم، أي: سالم من الرجولة ومن العلم. الإجابة عن هذه الفتوى ولا أقول: شبهة، فهي أدنى من أن تسمى شبهة، هذا جهل فاضح، لا يرتقي إلى العلم بسبب ولا إلى الشبهة بسبب. أيها الكرام! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لجمالها). إذاً: مَن الذي يبحث عن الجمال؟ إنما هم الرجال. من الذي يحرص أن يظهر في أبهى حلة وأجمل منظر؟ إنها المرأة، فهذا رأس مالها أن تكون جميلة، فإن شطراً من العباد ينكحون النساء للجمال، وفي سنن النسائي قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن المرأة إذا لم تتزين لزوجها طلقت عنده) أي: ثقلت وكره النظر إليها، إذاً: لا بد أن تتزين، وقال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالحلية إنما تكون للبنات، وإنما قيل: حلية؛ لأنه يُتَحَلَّى بها. فالخطاب في هذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الذي يتزين ويتحسن هي المرأة وليس الرجل، والرجل يبحث عن الجمال في المرأة، والمرأة تبحث عن الرجولة في الرجل، قَلَّ مِن النساء مَن تبحث عن شكل الرجل: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] هذه هي صفة الرجل التي تبحث المرأة عنها. فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يُعْقَل -وهذا الأمر لا يكون إلا في النساء- أن يقول: لعن الله المتنمصين، هذا خطاب ليس له واقع؛ لأنه لا يتنمص الرجال، وهذا معنى قول العلماء: الخطاب خرج مخرج الغالب، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كانت العرب تضاعف الربا، يأخذونه أضعافاً مضاعفة، فهل لو أكل الرجل الربا ضعفاً بسيطاً جاز له ذلك؛ لأن ربنا عز وجل يقول: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فهل يجوز للواحد أن يقول: سآكله ضعفاً واحداً؟! وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة باتت - يعني: في الليل- هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) فإذا أراد الرجل امرأته نهاراً فهجرت فراشه نهاراً، أتلعنها الملائكة أم لا؟ تلعنها الملائكة حتى تمسي، وإنما نص على الليل؛ لأنه في الليل يكون الفعل عادة، ولا يكون نهاراً، فنص على ما خرج الغالب عليه. فعندما يرى النبي عليه الصلاة والسلام أن النساء هن اللاتي يطلبن الحسن، وهن اللاتي يتفلجن قال: (لعن الله النامصات) لأنهن يفعلن ذلك، ولا يليق أبداً أن يقال: ولعن النامصين؛ لأنه ليس هناك رجل واحد يتنمص. هذه هي المسألة ببساطة شديدة لا تحتاج إلى كبير علم، ومع ذلك فهذه فتوى من آلاف الفتاوى. العلم هو العاصم من مثل هذا وغيره.

اهتمام الصحابة بما أنزل الله على رسوله

اهتمام الصحابة بما أنزل الله على رسوله الصحابة كان عندهم تلقٍّ عظيم واهتمام بما أنزل الله على رسوله، وهناك مثالان: المثال الأول: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ظللتُ سنةً أريد أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حجَّ وحججتُ، وعدلَ وعدلتُ، فقضى حاجتَه فجاء، فصببت عليه وضوءه فقلت: يا أمير المؤمنين! إنني منذ سنة أريد أن أسألك عن مسألة فتمنعني هيبتُك، فقال: يا ابن أخي! إذا علمتَ أن عندي علماً فسلني، فقلت: مَن المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] قال: واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة. ثم ذكر عمر الحديث فقال: (كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار وهم من عوالي المدينة، ينزل عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل جاءني في العشية بخبر ذلك اليوم من وحي أو حديث أو أقضية، ونحو ذلك، فإذا كان يومي نزلتُ ففعلتُ مثل ذلك). فـ عمر رضي الله عنه لا يريد أن يفوته شيء من العلم، فعَمِلَ مناوبةًَ بينه وبين جار له، ينزل إلى زراعته في يوم وصاحبه عند النبي عليه الصلاة والسلام يتلقى العلم، فإذا نزلت آية حَفِظَها، وإذا قُضِي في قضية حَفِظَها، وإذا قيل حديثٌ حَفِظَه، وفي الليل يذهب إلى عمر فيقول له: نزلت آية كذا، وذُكِر حديث كذا، وقُضِي بقضية كذا، فإذا كان في اليوم التالي فعل عمر نفس الفعل. والمثال الثاني: في الصحيح أيضاً قالت عائشة: (رحم الله نساء الأنصار؛ لما نزل قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] شققن مُرُوطَهن فاختمرن بها، وكن كالغربان)، ولم تقل المرأة منهن: حتى أصل إلى البيت، وأذهب لأشتري قماشاً وأفصله وألبسه، لا. بل نزل حكم الله في المجلس، فشقت المرأة منهن مرطها ونفذت الأمر فوراً. وكان الصحابة كذلك إذا سمعوا شيئاً من الوحي انقلبوا إلى بيوتهم يتلون آيات الله، فكانوا يترجمون هذا القرآن واقعاً حياً لا يتلكئون. فهؤلاء الصحابة كانوا يتلقون العلم بهذه الطريقة؛ لذلك ما ظهرت فيهم بدعة، إنما أول بدعة ظهرت في الإسلام هي بدعة القدرية، وظهرت في آخر حياة الصحابة، ظهرت في حياة ابن عمر وأبي سعيد الخدري. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يعلَِّمنا ما جهلنا. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أي الغاديين أنت؟!

أي الغاديين أنت؟! إن حسن الخلق جماع كل خير، فهو من خصال الخير التي ينتفع بها المرء في الدنيا والآخرة كما ورد في الكتاب والسنة، فحسن الخلق أن تحسن إلى الناس في جميع تصرفاتك ومعاملاتك متأسياً بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فالإحسان يؤثر في أحقر الحيوانات وأدناها همة وهو الكلب فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله؟ وليس هناك أثقل من البر -حسن الخلق- فمن برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.

الناس غاديان: بائع نفسه فموبقها أو معتقها

الناس غاديان: بائع نفسه فموبقها أو معتقها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها أو معتقها، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، أي: أن الغادي الأول يبيع نفسه، والثاني أيضاً يبيع نفسه، فأحدهما يعتق نفسه، والآخر يوبقها، أي: يدخلها في الرق، وهذا حديث يشير إلى نهاية كل حي، وأن الناس قسمان لا ثالث لهما كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108].

الصنف الأول: بائع نفسه فموبقها

الصنف الأول: بائع نفسه فموبقها في آخر سورة الفرقان ذكر ربنا تبارك وتعالى هذين الصنفين، لكنه قبل أن يذكرهما ذكر نعمه على عباده، وبعد ذكر النعم ذكر أحد الصنفين، وهو الصنف الذي أوبق نفسه وأدخلها النار، ثم أخر ذكر الصنف الصالح، وفي تقديمه للصنف الذي دخل النار عبرة وفائدة، تعلمها بعد سرد الآيات. لقد امتن الله عز وجل على عباده بنعم عظيمة وكثيرة، فقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:47 - 54]. فتأمل هذه الآيات: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً) إلى آخر الآية، (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)، (وهو الذي مرج البحرين)، (وهو الذي خلق من الماء بشراً) ولكن ما هي النتيجة؟ {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] إنما ابتدأ ربنا بذكر الكفر بعد تعداد النعم ليظهر لك العقوق، ليظهر لك عقوق الكافر بعد هذه النعم التي امتن الله عليه بها بأن عبد غيره سبحانه وتعالى، وكان ينبغي أن يشكر ولا يكفر. ولكن {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55]. من الذي يعبد من يضره؟ من الذي يحب من يضره؟ إن الناس تحب الذي ينفع ويظهر النفع، وتكره الذي يضر. من خصائص الإله أنه يضر، وهذا الضرر إما أن يكون بعدوك -أن يضر عدوك- أو يضرك أنت، فتعرف الألم الذي يصيبك ولا تستطيع أن تتحمله -فالمرض مثلاً- قد يكون ألمه في غاية الشدة، وهذه نعمة؛ لأن أعظم الأمراض الفتاكة يأكل الجسم بلا ألم، فأول ما يتألم المرء يكون الأمر قد انتهى ولم يعد ثمة فائدة لأنه إشعار لك بأن هذا الموضع من الجسد يحتاج إلى علاج ونظر طبيب، فالألم نعمة؛ لأنه ينبه إلى موضع المرض، وإلا فالأمراض مثل السرطان -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الأمراض وسوء المنقلب- إنما يأكل بدن المرء فلا ينتبه إلا وقد انتهى الأمر. إذاً: هذا الضرر نعمة. كل إنسان في نفسه داعية الألوهية فلو ترك وما يريد لقال: أنا ربكم الأعلى، واعتبر بفرعون. وإن فرعون قدر فأظهر وعجز غيره فأضمر. وكل إنسان إذا استولى عليه الغرور لديه استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، فإنه إذا اغتنى وارتفع وتكبر يكاد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما حصل في سنة إحدى وثمانين عندما خطب رئيس الجمهورية آنذاك خطابه وضرب على المنضدة ضربة وقال: (أنا الحاكم، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) هكذا قالها في خطابه، وتكلم عن العلماء بكلام ممقوت بغيض، ووصفهم بمجانين السويد وغير ذلك. فدل الواقع الذي يصير إليه الناس أن كل إنسان إذا استولى الشر على قلبه فإنه على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى. فإذا ابتلاه الله عز وجل بقاصمة له: مرض، فقر، ظلم؛ فإذا به يرتدع ويتوب، وهذه كلها قدر وضرر لكنها في تمام النفع لهذا العبد، فلو أنه تُرك وما يريد لدخل النار، فكان -إذاً- لابد أن يضره -رحمة به- ليوقفه عن اقتحام النار. إذاً: من خصائص الله عز وجل أنه ينفع ويضر: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] الكافر كلما وجد مناوئاً لله وضع يده في يده، فبدأ ربنا عز وجل بذكر هذه الصنف بعد تعداد النعم؛ ليظهر لك قبح الكفر وأهله.

الصنف الثاني: بائع نفسه فمعتقها

الصنف الثاني: بائع نفسه فمعتقها ثم ذكر تبارك وتعالى الصنف النفيس، الذين هم أولى الناس بهذه الحياة، فبدأها بذكر خصلة جامعة، وهي التي لا يكاد المرء ينتفع بخصلة من خصال الخير إلا بها، فقال عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] (وعباد الرحمن) ولم يقل: وعباد الله؛ لأن صفة الرحمة مدعاة لحسن الخلق، (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) يمشي بوقار وسكينة، لا يصعر خده للناس، ولا يمشي في الأرض مرحاً، (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) أي: قولاً سلاماً، وهذه الخصلة هي جماع كل خير، وكل الخصال بعد ذلك تنبني عليها؛ ولذلك بدأ الله بها، وهي جماع حسن الخلق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) لماذا؟ لأن في الآخرة تنصب الموازين، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً؛ فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم. قال: لا المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصدقة -وذكر بعض أصناف الخير- كأمثال الجبال يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار). إذاً: هذا رجل معه صيام وقيام، وصدقة وحج، وزكاة فدخل النار؛ لكثرة خصومه وظلمه لهم، فإن استطعت أن ترحل إلى الله ولا خصم لك فافعل، فربنا تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]. فالرجل إن كان حسن الخلق فإنه يلقى الله عز وجل بلا خصوم، وهذا هو سر إدراكه لدرجة الصائم القائم: أنه يلقى الله بلا خصوم، حسناته موقوفة عليه.

أهمية حسن الخلق وفضله

أهمية حسن الخلق وفضله ومن حسن الخلق: الإحسان إلى الناس، فالإحسان يدق العنق، بل يؤثر في أحقر الحيوانات وهو الكلب مع ذلك إذا ألقيت له قطعة خبز أو لحم هز ذيله، -اعترافاً بالجميل- وأثر فيه إحسانك إليه. ومن طريف ما يذكر في ذلك أن حاتماً الطائي رأى ابنه يضرب كلبة له، فقال: يا بني! لا تضربها، فإن لها علي جميلاً ومعروفاً. فإنها تدل الضيفان عليَّ. أي: إن الضيف يسمع نباح الكلب ويرى النار، وكانت النار والكلب وسيلتان في الجاهلية لإرشاد الضال، ولذلك كانوا يتخذون الكلاب، فالغريب السائر يتبع صوت الكلب؛ لأن الكلب لا يكون إلا في مجتمع أهلي، ولا يعيش إلا في سكن وبين ناس. وقصص وفاء الكلاب معروفة، والإحسان يدق العنق، حتى إن تأثيره يتعدى إلى أرذل الحيوانات. وقد صدق الحكيم الترمذي -وهو غير الترمذي صاحب السنن- إذ يقول: (ليس هناك حمل أثقل من البّر، من بّرك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك). أي: إذا أردت أن تدخل رجلاً سجنك -وأن تكون أشرف سجان- أحسن إليه، فإذا أحسنت إليه فلا يستطيع أن يوصل السيئة إليك؛ لسابق إحسانك إليه، ولكن إذا جفوته وشتمته فقد أطلقت لسانه في عرضك، يتكلم فيك بحرية؛ وهذا مصداق قول الحكيم الترمذي: (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك).

صور من حسن الخلق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام

صور من حسن الخلق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية، لما صدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن البيت، وبدأت المفاوضات بين قريش وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بديل بن الورقاء يتفاوض مع النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: (إننا ما جئنا للقتال، إنما جئنا لنعتمر، فخلوا بيننا وبين البيت، وإلا فوالله! لأجاهدنهم عليه حتى تنفرد سالفتي) فذهب بديل بن الورقاء إلى قريش وأخبرهم. فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال لقريش: ألستم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى. فقال لهم: دعوني آتيه، وقد عرض عليكم أمر رشد، فجاء عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك مشركاً، ولكنه أسلم بعد ذلك- فلما جاء قال: يا محمد! إنها واحدة من اثنتين: إما أن تغلب وتظفر على قومك، فهل رأيت أحداً اجتاح قومه قبلك؟ وإن تكن الأخرى -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً -وفي الرواية الأخرى: أوشاباً- خليقاً أن يفروا ويدعوك -يعني: لا جلد لهم على قتال، وقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم، وقد عظهم الفقر بنابه، وظهرت عليهم الرثاثة، وقد ارتدوا القديم المرقع من الثياب، وظهر الفقر. فيقول: إن قامت حرب إياك أن تظن أن هؤلاء ينصرونك، إنهم مجموعة من الأوباش، من الغجر- فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا الكلام وهذا الشتم للصحابة، قال: أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات، وهذا سب مقذع لآلهتهم؛ فانزعج عروة وغضب، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من هذا المتكلم؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر فقال عروة بن مسعود: والله! لولا أن لك عليَّ يداً لأجبتك -أي: لولا أن لك علي جميلاً سابقاً أديته إلي لرددت عليك عيبك في آلهتنا-. فانظر كيف صده الإحسان عن الرد، وكيف صان لسانه عن الرد لسابق جميل أبي بكر، وهذه هي عاقبة الإحسان، وهذا هو شاهدنا من القصة. فربنا تبارك وتعالى بدأ بهذه الخصلة الجامعة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} [الفرقان:72] أي: أعرضوا عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام استعان بهذه الخصلة العظيمة على نشر دعوته، فكان صلى الله عليه وسلم يسمع السب بأذنه وكأنه لم يسمع، بل إذا جاء رجل أراد أن ينتقم له أمره بالعفو، وأمره بالصفح كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من أكمة -مكان فيه أشجار كثيرة- فلما رآه عبد الله بن أبي ابن سلول -رأس المنافقين- قال: لقد غير علينا ابن أبي كبشة -وهو يسب النبي عليه الصلاة والسلام، يقول يعني: كنا سادة في أقوامنا، وبلال الحبشي لم يكن له ذكر ولا قيمة، وجاء فوضعه بجانبي، وأوقفه في الصف بجانبي، فأهدر سيادة السيد، ورفع منزلة العبيد، لقد قلب الموازين - فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمشي معه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول -ابن رأس المنافقين، وكان صحابياً صالحاً، وسمع كلمة أبيه- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق! والذي أكرمك! لئن أمرتني لآتينك برأسه. قال له: لا. ولكن بر أباك وأحسن صحبته) وهكذا فليكن الخلق. والانتقام عادةً يكون انتقاماً شخصياً، فنزه نفسك عن الانتقام لنفسك، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً بيده قط، إلا أن تنتهك حرمات الله) وعائشة رضي الله عنها هي المرأة الوحيدة التي ضربها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها تخطت هذا الحد. تقول عائشة رضي الله عنها: (لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً -بهدوء- وخلع نعله ومشى رويداً رويداً؛ حتى لا يحدث النعل صوتاً، ووضع جنبه رويداً رويداً على الفراش، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق. قالت: فقمت وراءه وتقنعت إزاري -ظلت تمشي خلفه- حتى وجدته عند البقيع، فرفع يده ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف -أي: راجعاً- فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أحضر أي: مشى بتمهل- فأحضرت، دخلت الغرفة، ودخلت تحت اللحاف -لكن أنفاسها لا زالت متلاحقة، وهذا ليس حال امرأة نائمة- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فوجد اللحاف يرتفع وينخفض مع أنفاسها، فقال: مالك يا عائشة! حشية رابية؟ -تشتكين من شيء في صدرك، لقد تركها مستريحة، وجاء وهي تنهج- رآها ارتبكت. فقالت له: لا شيء. فقال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله، وقصت عليه الخبر، وهي كانت مراقبة للموقف كله، والنبي صلى الله عليه وسلم يظنها نائمة، وهذا من رفقه وحسن خلقه أنه لا لم يزعجها عند دخوله، وكان إذا دخل فوجد في البيت إنساناً مستقيظاً يسلم سلاماً لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان، وهذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فظنت عائشة رضي الله عنها أنه ذاهب لبعض نسائه، ولذلك خرجت وراءه، وهذا حيف وجور، لا يليق أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تعد- فقصت عليه الخبر، فقال لها: أنت السواد الذي كان أمامي؟ -الزي المستحب للنساء هو الأسود، فهي لبست هذا السواد وخرجت- قالت عائشة: فلهزني -أي: ضربني بمجامع يده- في صدري لهزة أوجعتني، وقال: أظننت أن يحيف عليك الله ورسوله بأن تكون النوبة لك وأذهب لغيرك-؟ إن جبريل أتاني، وما كان ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فناداني فأخفا منك -أي: ناداني بصوت لم تسمعيه، حتى لا تسمعي فتستيقظي- فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحدي -فهي حديثة السن، وحدها بالليل، وتخاف، فحمد الله أنها نائمة- قال: وكرهت أن أوقظك فتستوحدي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل بقيع فتستغفر لهم -فأدارت عائشة دفة الحوار بذكاء- وقالت: يا رسول الله! ماذا أقول إذا دخلت عليهم؟ -غيرت السيرة- فعلمها دعاء زيارة القبور). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بجانبي فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه فقمت، فوقعت يدي على قدميه منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. فقلت: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- إنك لفي شأن وأنا في شأن آخر) هو ساجد يثني على ربه تبارك وتعالى، وهي تظن أنه ذهب لبعض نسائه، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها تجسيد لحسن الخلق، فقد وصف من أعدائه بالأمين، ولم يكذبه أحد قط وهو معتقد أنه كاذب صلى الله عليه وسلم. وهذا هو جماع الخير فكل خصلة من خصال الخير يمكن أن تقبل منك بحسن الخلق، وكل خصلة من خصال الخير قد ترد عليك بسوء الخلق، فحسن الخلق يحفظ كل خير، بينما لا يبقى مع سوء الخلق حسن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع سبه بأذنه، وكان يتجاهل ويتغاضى، وكانت قريش لما اغتاضت من النبي عليه الصلاة والسلام تقلب اسمه وتسبه، فيقولون: مذمم -محمد من الحمد، ومذمم من الذم- فيقولون: قاتل الله مذمماً، قبح الله مذمماً، لعن الله مذمماً، فيبتسم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لـ أبي هريرة: (انظر كيف يصرف الله عني شأن قريش، إنهم يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد!) مع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنه المشتوم والمقصود، ولكنه يتغاضى ويتغافل، وهذا من حسن خلقه صلوات ربي وسلامه عليه. فلا يكون لك مع الناس خصومات إلا من كان عدواً لله ورسوله، فهذا ينبغي أن تغاضبه، وأن تعلن الخصومة له إذا قدرت على ذلك. فكن ذا خلق حسن متأسياً برسولك محمد صلى الله عليه وسلم -بحسن خلقه- في جميع أوقاته ومعاملته حتى مع أهل بيته، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته أفضل زوج، وكن نساؤه أسعد نساء على وجه الأرض، وإنما كان ذلك لحسن الخلق، فليتعلم الأزواج الذين حولوا بيوتهم إلى ثكنات عسكرية، وضرب ومشاكل على الدوام من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته وأهل بيته. فهو صلى الله عليه وسلم ما أسر قلوب زوجاته إلا بحسن الخلق. وعلى سبيل المثال أقول لك: هل تستطيع أن تذهب بعد صلاة الجمعة اليوم إلى بيتك إن كان عندك مثلاً صالة واسعة، وتجري أنت وامرأتك وتتسابقون؟ أظن أنك تنكر ذلك وتقول: كيف يكون هذا؟ أنا رجل والرجل له هيبة وهي امرأة- فأقول لك: إن أشرف من وطأ على الأرض بقدميه فعلها، كما رواه أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا في غداةً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال للصحابة: تقدموا فتقدموا، فقال لـ عائشة: تعالي أسابقك. قالت: فسابقته فسبقته، فتركني -أي: تركها فترة- حتى إذا حملت اللحم -بدنت- ونسيت أمر المسابقة، وكنا في غداة؛ فقال لهم: تقدموا، فتقدموا، فقال: تعالي أسابقك. فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك) سبقتيني المرة السابقة وأنا سبقت هذه المرة من يفعل هذا مع امرأته؟! وهذا من حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية) ولهذا القول قصة، وذلك أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أضيافاً من الصحابة عند السيدة عائشة رضي الله عنها فبع

قيام الليل والتضرع إلى الله راحة وطمأنينة

قيام الليل والتضرع إلى الله راحة وطمأنينة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64] فانظر إلى هذا العجب (يبيتون سجداً وقياماً) ولفظة (بات) إذا جاءت مطلقة فهذا يعني: النوم والراحة، أي: الاستغراق في النوم والغياب عن الوعي، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في وضوئه، فإنه لا يدري أين باتت يده) والحديث هذا مختص بالماء الموضوع في الأواني. فإذا استيقظت من النوم فلا تضع يدك في الماء. ولكن خذ في إناء صغير، واغسل يدك ثلاث مرات بالكامل، ثم ضع يدك في الماء قال صلى الله عليه وسلم: (فإنك لا تدري أين باتت يدك) والعلماء قالوا: لاحتمال أن تمر اليد على موضع النجاسة فتحمل النجاسة وأنت لا تدري. إذاً: قد تمر اليد على محل النجاسة وأنت لا تدري، لأنك: نائم، غائب عن الوعي، ولذلك جاءت لفظة (باتت) مطلقة، بخلاف ما إذا كانت مقيدة، فإنها قد تأتي مقيدة وتدل على أنك سهران لم تنم، كأن تقول مثلاً: بات فلان لا يكتحل بنوم فهذا يدل على أنه سهران، ولكنها هنا مطلقة فتعني: النوم الاستغراقي. (والذين يبيتون) جاءت مطلقة. أي: أنه نائم، فكيف يستقيم ذلك مع قوله (سجداً وقياماً) وهذا يدل على السهر؟ نقول: اعلم -يا عبد الله- أن راحة المؤمن ليست في النوم بل راحة المؤمن أن يصف قدميه بين يدي من يحب، فكأنما قال: هو في حال قيامه وسجوده مستريح كالذي ينام تماماً، وراحته في الركوع والسجود، ولذلك اللفظ (يبيتون) يعني: مستريحون، لا ضجر عندهم من الصلاة بالليل، وهو يعلم أن الله عز وجل يضحك له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك) وضحك ربنا على حقيقته، يضحك؛ لكن كما يليق بجلاله، لا تقل لي: يضحك كضحك عباده بقههقة، وله لسان وشفتان ونحو ذلك، لا، الله عز وجل (ليس كمثله شيء)، لكنه يضحك على الحقيقة وليس مجازاً: كناية عن الرضا، والسرور، والقبول لا. يضحك ربنا على الحقيقة، لكن لو سألتني كيف يضحك؟ أقول لك: لا أدري، فالكيف محجوب عنا، لكننا نثبت لله ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم له، إنما الرضا والقبول يكون له أثر صفة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليضحك إلى عبد كان في رفقة يمشون بالليل، وكان النوم أحب شيء إليهم، فعرجوا -ضربوا الخيام، والنوم أحب شيء إلى هؤلاء الرفقة، من شدة الإعياء والتعب، إلا أن هذا العبد لم يستطع أن ينام فقام فتوضأ فصلى لربه ركعتين) قبل أن ينام صلى لمحبوبه، والله عز وجل هو الذي ينزع التعب عنه، والله عز جل يبارك له في نومه، ويذهب عنه التعب، ولذلك كان قتادة يقول: (اللهم اكفنا من النوم باليسير). لكن انفعنا بهذا النوم. فهذا الرجل قبل أن ينام قدم هواه لمحبوبه على هواه لنفسه، فقام يتملق ربه بركعتين، ولا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة إلا الركع السجود في صلاة الليل، في جوف الليل الآخر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربنا يمهل حتى الثلث الأخير من الليل، فينزل فينادي عباده: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه) فلا يدعو إلا المستيقظ آنذاك، والنائم لا تسمع نومه، إلا شخيره وهذا لا ينتفع بنزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، بخلاف هؤلاء الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً. إذاً: السجود والقيام ليس مشقة، بل هو راحة وطمأنينة. نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة لنا زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم

ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم حديث أم زرع حديث عظيم، فيه فوائد جمة ونكت لطيفة، وقد صنف في شرحه بعض العلماء تصانيف خاصة، فقد ذكرت فيه صفات بعض الأزواج، فمنها الصفات الحميدة التي ينبغي التحلي بها، ومنها الصفات الذميمة التي ينبغي اجتنابها وعدم الاتصاف بها، والحديث فيه إرشاد إلى كيفية تعامل الأزواج مع زوجاتهم في بيوتهم، وفيه بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلق كريم ومعاملة حسنة.

شرح حديث أم زرع وذكر بعض فوائده

شرح حديث أم زرع وذكر بعض فوائده إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. فدرسنا هذا المساء بعنوان: (ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وسنستعرض هذه الليلة الحديث الشهير المعروف بـ (حديث أم زرع)، ونحن في أمس الحاجة إلى مثل هذه الدروس لإعادة الدفء الذي حل محله البرود في البيوت، وصارت الشركة بين الرجل والمرأة قائمة على أنها هي أخف الضررين، فكثير من البيوت تقوم بسبب الأولاد، مع أن الرجل يتمنى لو أنه فارق المرأة والمرأة تتمنى لو أنها فارقت الرجل، وكلاهما يعيش مبغضاً للآخر، لكنه يصبر بسبب الأولاد، ولو لم يكن بينهما أولاد لتفرقوا كل في ناحية. هذا الدرس وأشباهه يبين لنا أن هذا الدفء الذي تعاني كثير من بيوت المسلمين فقده، سببه أنهم لا يترسمون خطا النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النساء، وكذلك النساء لا يترسمن خطا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام في ضرب المثل في الوفاء، وفي معرفة لماذا خلقت هذه المرأة، ومعرفة حدود طاعة الرجل. إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لنا أكثر من موقف؛ بل حياته الكريمة كلها مليئة بهذا النموذج العطوف، فقد كان يعامل النساء معاملة في غاية الرفق وفي غاية الرفعة، وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بالنساء فقال: (رفقاً بالقوارير)، وحديثنا ليس عن الحد الأدنى أو ارتكاب أخف الضررين في العلاقة الزوجية إنما نحن نرتقي إلى ما هو فوق هذا، ونضرب المثل بالإحسان، وكما سيظهر من خلال فوائد هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أفضل زوج على وجه الأرض. روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، (باب السمر مع الأهل)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، وكذلك رواه الإمام النسائي في كتاب عشرة النساء، ورواه كثيرون، وسوف الزيادات التي وردت في روايات من لم أذكرهم في أثناء الكلام. قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية: (جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى. وقالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره. وقالت الثالثة: زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. وقالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة. وقالت الخامسة: زوجي إذا دخل فَهِد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد. وقالت السادسة: زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث. وقالت السابعة: زوجي عيايا أو غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك. وقالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب. وقالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد. وقالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. وقالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع! أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح. أم أبي زرع! فما أم أبي زرع عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع! مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع! طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها. جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع! لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً. قالت: فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً ثرياً، ركب سرياً، وأخذ خطياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، قالت: فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع). وفي رواية النسائي قال لها: (ولكني لا أطلقك)، هذه الزيادة وردت عند الإمام النسائي. هذا حديث ألفاظه قوية جزلة، وقد كانت عائشة رضي الله عنها من أفصح الناس، ولها خطبة في الدفاع عن أبيها أبي بكر الصديق في غاية الروعة، شرحها أبو بكر ابن الأنباري في جزء مفرد، فـ عائشة رضي الله عنها تحكي هذه الحكاية الطويلة والرسول عليه الصلاة والسلام الموصول بالله عز وجل، والذي يحمل أعباء الدين كله، جالس يسمع ويعطي أذنه لها، ثم يعقب على هذا الحديث بأن يختار أفضل رجل ضرب به المثل في هذا الحديث، فيقول لها: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع). وهذا المجلس الذي حكته عائشة مجلس نميمة، وهذا هو الغالب على مجالس النساء.

خبر المرأة الأولى

خبر المرأة الأولى بدأت القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول: (زوجي لحم جمل غث)، الغث: هو الرديء، تشبهه بأنه لحم جمل رديء، ومعلوم أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال، وهذا اللحم مع أنه لحم غير مرغوب فيه، فهو غث أيضاً، أي: لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم قعود صغير لقبلناه على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء أصلاً. تقول: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر)، قليل من لحم جمل على قمة عالية، ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم غث؟ فهي تقول: (على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى)، أي: ليس جبلاً سهل المرتقى، فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم لحم ضأن مثلاً أو نحوه. وهي تريد بهذا أن تقول: إن الرجل جمع ما بين سوء الخلق وسوء المعشر، فأخلاقه سيئة جداً لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً. وهناك بعض الناس هكذا، إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك، فأخلاقه وعرة كوعورة الجبل، فهي تصف زوجها بهذا.

خبر المرأة الثانية

خبر المرأة الثانية وقالت المرأة الثانية: (زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره). تقول: أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره، ومع ذلك فقد تكلمت! وفي الرواية الأخرى: (زوجي لا أثير خبره، إني أخاف ألا أذره)، يقول العلماء: إن (لا) هنا زائدة، والمعنى: إني أخاف أن أذره، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره. وأصل العجر هو: انتفاخ العروق في الرقبة، والبجر: انتفاخ السرة، فكأنها قالت: له عيوب ظاهرة وباطنة، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو انتفاخ العروق، وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة، فكأنها تصف هذا الرجل أن عيوبه الظاهرة ظاهرة وجلية ومعروفة غير مستترة، وله عيوب خفية لا تعرفها إلا المرأة، وكنت عنها بالبجر، الذي هو انتفاخ السرة. ومنه قول علي رضي الله عنه في يوم الجمل: (إلى الله أشكو عجري وبجري)، وهذه المرأة أيضاً تذم زوجها.

قلة الوفاء في النساء

قلة الوفاء في النساء وعدد النساء اللواتي ذممن أزواجهن أكثر من عدد النساء اللواتي مدحن أزواجهن، وهذا مصداق لقول النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى النساء في يوم عيد، ووعظهن: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن فقلن: نكفر بالله؟ قال: لا. تكفرن العشير -أي: الزوج- لو أحسن الرجل إليكن الدهر ثم رأيتن منه يوماً سوءاً لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط). فهذا خلق النساء، ولذلك فإن الوفاء في النساء قليل، والرجل إذا رزقه الله سبحانه وتعالى بزوجة وفية صالحة فإن هذا فعلاً هو متاع الدنيا؛ لأن الوفاء في النساء قليل، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام خرج مخرج العموم، وإن كان خطابه موجهاً لنساء الصحابة.

خبر المرأة الثالثة

خبر المرأة الثالثة ثم قالت المرأة الثالثة: (زوجي العشنق)، العشنق: هو الطويل المغفل الذي بلا منفعة، والعلماء يقولون: إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة، وفيه تباعد ما بين الدماغ والقلب، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل بلا قلب، أو قلب بلا عقل، تقول: (زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق)، فلا حيلة لها معه، وفي الرواية الأخرى: (وأنا معه على حد السنان المذلق)، أي: تعيش معه على شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل، فهذا الرجل بلغ من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم، ولا لتسكت، فعلى كلا الحالين إذا سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها، لكن هي تحبه، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها، فهي تسكت على سوء خلقه، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة.

حاجة المرأة للرجل

حاجة المرأة للرجل ولسائل أن يسأل فيقول: إذاً ما هي الميزة في المعيشة مع هذا الرجل؟ والجواب أن نقول: إن المرأة تحسب ألف حساب لطلاقها، فلو عاشت للأكل والشرب فقط لكان هذا عندها ميزة، فالمرأة تصبر على هذه الحياة المرة لأجل أن تعيش في كنف الرجل. وقد وجدت كثيراً من المشاكل من هذا القبيل، فقد كان أن بعض النساء يرسلن رقعاً مكتوبة، ويتكلمن مشافهة عن الكرب الذي تعيش فيه في بيت أبيها، وتريد أن تتزوج بأي إنسان؛ لأنه إذا كان هناك كرب على أي محور، فكرب تأكل وتشرب معه أفضل من الكرب مع الضيق، فهي مسألة موازنة، فالمرأة لم تطلب الطلاق من زوجها بالرغم من هذا الرفض لشأن هذا الرجل؛ بسبب أنها تحتاج إليه، والله عز وجل قد فطر المرأة على الاستئناس بالرجل، ويقولون في المثل: ظل رجل ولا ظل حائط. وفي خبر هذه المرأة وصلنا إلى الحد الأدنى، وليس هناك أدنى من ذلك، فهذه المرأة تقول: إن زوجها طويل وليس فيه منفعة، ومع هذا الطول المفرط فهو سيء الخلق، لا تستطيع أن تشتكي منه، وإذا سكتت فإن النتيجة أنه يعلقها فيدعها لا هي متزوجة ولا هي مطلقة.

خبر المرأة الرابعة

خبر المرأة الرابعة أما المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً، وهي أول امرأة تصف زوجها بخير، تقول: (زوجي كليل تهامة)، ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء (زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة)، أي: لطيف المعشر، وحسن العشرة، (لا حر): أخلاقه ليست شديدة، (ولا قُر): أي: ليس بارداً، (ولا مخافة ولا سآمة)، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار، فتتكلم معه ولا تسكت.

الرفق بالنساء

الرفق بالنساء وأردأ الرجال هو الرجل الذي لا تشعر المرأة بالأنس معه، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس لأزواجه ويستمع شكايتهن، ويحل المواقف العصيبة جداً بكل راحة واطمئنان، ولو تعلمنا من النبي عليه الصلاة والسلام صفة الزوج الصالح لانتهت مشاكل البيوت. ففي الصحيحين عن عائشة قالت: (ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية، ففي يوم من الأيام أرسلت صفية رضي الله عنها إناء فيه طعام إلى بيت عائشة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ومعه ضيوف، فأخذت عائشة الإناء وكسرته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابة: غارت أمكم، ثم أخذ إناءها وأرسله إلى صفية، وقال: طعام بطعام وإناء بإناء)، فانتهت المشكلة، وحُلت بابتسام، وهكذا إذا عز أخوك فهُن، فإذا كانت المرأة متعصبة ومتصلبة فهُن، ولا يأخذ الرجل العناد والأنفة ويبادر بالطلاق، فيصرح به في وقت، ويكني في وقت آخر، كما لو كان الطلاق سيسحب منه، فيريد أن يستخدمه قبل أن يسحب منه.

المرأة أسيرة عند زوجها

المرأة أسيرة عند زوجها لابد أن يعلم الزوج أن المرأة أسيرة عنده، وهذا الوصف وصفها به النبي عليه الصلاة والسلام عندما أوصى بالنساء في آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، فقد قال: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم)، عوان: يعني أسيرات، فحتى لو أن المرأة فرت منك فإنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك إلا إذا أعطيتها الإفراج، وإلا فستظل في سجنك مدة طويلة، وبعض المذاهب كالأحناف يقولون: تظل في سجنك مدى الحياة، والمالكية يقولون: القاضي يطلق إذا ثبت الضرر، لكن على أي حال هي في السجن، فعندما تكون المرأة مسجونة وأنت السجان، فلابد أن تقدر هذه العلاقة، وأن المرأة في النهاية لا تستطيع أن ترغم أنفك على شيء، فكن معها حليماً، وحاول أن تحل أصعب المواقف بالابتسامة وبالكلمة الطيبة.

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع نسائه

حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع نسائه إن من جوانب عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه تزوج تسع نسوة ومع ذلك فعل الذي فعل في حياته صلى الله عليه وسلم، والرجل منا لو تزوج مثلاً بامرأتين، وابتلاه الله عز وجل بإحداهن أو بهن معاً؛ فإنك تجده يكلم نفسه في الشارع، ويتمتم وهو يمشي، فيظن من يراه أنه يسبح ويقول: يا فلان أنت تسبح؟ فيقول: لا. أنا أحسبل، أي: يقول: حسبي الله ونعم الوكيل! مع أنهن امرأتان فقط. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان معه تسع نسوة، ومرت عليه مواقف صعبة تتعجب من تصرفه فيها! ففي الصحيحين من حديث عائشة -وعائشة رضي الله عنها كانت طرفاً دائماً في كل حادثة- تقول عائشة رضي الله عنها: (كان الناس يتحرون بهداياهم ليلة عائشة)؛ لمعرفتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها ويقربها، فأنت إذا أحببت حبيبي فأنت حبيبي، فحبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، هذه هي قاعدة الولاء والبراء، {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، فالصحابة كانوا يتحرون بهداياهم ليلة عائشة، فتكون عند عائشة هدايا كثيرة، وكان بقية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يردن مثل هذا أيضاً، وأردن أن يقسمن هذه الهدايا بالتساوي، فأرسلن أحب الناس إليه، وهي فاطمة رضي الله عنها، قالت عائشة: (فجاءت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في لحافي، فدخلت، فلما رآها قال: أهلاً بابنتي، فجلست فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة ابن أبي قحافة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي بنيتي! أتحبينني؟ قالت: أجل، قال: فأحبي هذه)، ففهمت الجواب، وهو أنها لا تراجعه، وكان جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعات في بيت إحداهن ومنتظرات النتيجة، فدخلت فاطمة رضي الله عنها وقالت: (والله لا أراجعه فيها أبداً)، فلم ييأسن وأرسلن أحب أزواجه إليه بعد عائشة، وهي زينب رضي الله عنها، تقول عائشة رضي الله عنها: (فجاءت زينب وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في لحافي، فتكلمت، وفي بعض الروايات تقول عائشة: وجدعت، أي: قالت كلام ثقيلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟ وهي بخبرتها وعشرتها معه تعرف إذا كان كارهاً أو غير كاره.

مراعاة المرأة لمشاعر زوجها

مراعاة المرأة لمشاعر زوجها فهذا درس للنساء يتعلمن منه، وينظرن إلى هذا الوفاء، فإذا كان هذا الفعل يعكر على الزوج فلا تفعله، فإن عائشة رضي الله عنه ما قامت ودافعت، إنما قالت: (فنظرت إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر؟)، فهذا درس تعلمه السيدة عائشة للنساء، أنها تراعي زوجها، فإذا كان زوجها يتعكر من صفة معينة، فلا يجوز أن تفعلها أبداً، وهذا هو مقتضى الوفاء والعشرة بالمعروف. وهذه أسماء رضي الله عنها تقول كما رواه البخاري في صحيحه: (تزوجني الزبير بن العوام وما له في الأرض شيء، غير أرض أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم إياها على بعد ثلثي فرسخ من المدينة)، والزبير بن العوام كان شديداً، وكان متزوجاً بامرأتين، فإذا أراد أن يضربهما ربط ظفائرهما في بعض حتى لا تهربان، فكانت المرأة الأخرى تتقي الضرب بيديها، أما أسماء فما كانت تحسن ذلك، فكان يظهر أثر الضرب عليها وينتفخ وجهها، فتذهب وتشتكي الزبير، فيقول أبو بكر لها: (ارجعي يا ابنتي فإن الزبير رجل صالح).

المرأة لآخر أزواجها

المرأة لآخر أزواجها وقال لها: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرأة لآخر أزواجها)، أي أن المرأة إذا مات زوجها، وكانت تحبه، وهي تستطيع أن تعيش وحدها بلا زوج، فلا تتزوج؛ حتى تكون زوجة زوجها الذي تحبه ومات عنها؛ لأن المرأة لآخر أزواجها، حتى إن أم الدرداء الفقيهة عندما أرسل إليها معاوية بن أبي سفيان يريد أن يخطبها، ومعاوية كان أمير المؤمنين، فقالت له أم الدرداء: (يا معاوية! ما مثلك يرد، ولكني عاهدت أبا الدرداء عهداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة لآخر أزواجها)، فقال لها أبو الدرداء: (تعالي نتعاهد -وهو حي- ألا تتزوجي بعدي)، حتى تكون زوجته في الآخرة. فكان أبو بكر يقول لـ أسماء: (يا بنيتي! إن الزبير رجل صالح)، فقسوة الزبير رضي الله عنه وشدته كانت معروفة عنه، حتى إنه ذات مرة كان جالساً مع عمر بن الخطاب يتكلمون، فقال الزبير: (أنا مؤمن الرضا كافر الغضب)، يعني: عندما أرضى أكون كالنسيم، وعندما أغضب أتغير كثيراً، فقال له عمر مداعباً: (أظنها لو آلت إليك -يعني الخلافة- لظللت يومك بالبرحاء تقاتل على مد من شعير)، أي: من الممكن أن تعلن حالة الطوارئ القصوى إذا أخذ أحد قليلاً من الشعير، فكان هذا معروفاً عن الزبير رضي الله عنه، وهو أحد العشرة الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة، وقال فيه: (لكل نبي حواري وحواريي الزبير بن العوام). فتقول أسماء رضي الله عنها أنها كانت تذهب إلى هذه الأرض التي كانت على بعد ثلثي فرسخ، وتأتي بالنوى، وتدقه للفرس، وذات مرة وهي آتية من هذه الأرض تحمل النوى على رأسها، رآها النبي صلى الله عليه وسلم وكان يركب دابته ومعه نفر من أصحابه، قالت: (فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم البعير ودعاني للركوب خلفه، قالت: فاستحييت، وذكرت الزبير وغيرته، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنني استحييت مضى، فلما ذهبت إلى البيت ذكرت للزبير أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعاها للركوب خلفه، فذكرت غيرته فلم تركب، فقال لها الزبير: لمشيك أشد علي من ركوبك خلفه)، فمن شدة غيرته تراعي هذه المرأة الصالحة هذا الأمر عند زوجها، والزوج كما يقول بعض العلماء: مفتاح الجنة بالنسبة للمرأة، أو أحد مفاتيحها؛ للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أسماء بنت يزيد: (أي هذه! أذات بعل أنت؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في طاعته- قال: انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)، فحق الزوج عظيم جداً. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟ فلما علمت أنه لا يكره أن أنتصر، قمت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنها ابنة أبي بكر))، وانتهى الإشكال، بل لا إشكال أصلاً، فانظر إلى حلمه عليه الصلاة والسلام، وكل نشوزٍ أو جل النشوز في البيوت سببه الرجل؛ لأنه لا يقوم بحق القوامة، ولو قام بحق القوامة لقل أن تنشز المرأة، وأنا لا أقول هذا الكلام من كيسي؛ بل أقول هذا الكلام بالبحث الميداني، وقد رأيته بعيني، فلا تنشز المرأة إلا بعدما يهدر الرجل قوامته أو بعضها أو يتسامح فيها.

قوة المرأة في ضعفها

قوة المرأة في ضعفها فالمرأة ضعيفة وهي مجبولة على أن تأنس بالرجل، وقوتها في ضعفها، والذين أرادوا أن يحرروا المرأة أرادوا أن يحرروها من الزوج، وأرادوا أن تصير لها مواصفات الرجل، وهذا لا يمكن؛ إذ لا يمكن أن يعيش الرجل مع رجل في البيت أبداً، فالمرأة قوتها في ضعفها، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال لنا ذلك، فقد قال: (ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن)، فلا يوجد أحد يستطيع أن يخدعك إلا المرأة، فقوتها في ضعفها. وأهم شيء عند المرأة أن تشعر بالدفء، وأول ما تبدأ تشعر بالبرودة، تبدأ تكبت وتخون زوجها مثلاً بالمال، فتسرق زوجها؛ لأنه ليس له أمان، وتكذب؛ لأن الرجل لا يقبل اعتذاراً، فالرجل هو الذي يعلمها الكذب، وهذا هو الإرهاب، لكن المرأة إذا أعطيتها الدفء تأخذ منها كل شيء، وتكون امرأة صالحة.

المرأة تحب الأمان عند زوجها

المرأة تحب الأمان عند زوجها فهذه المرأة تقول: (زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر) أي: ليس ناراً على زيت حار، كلما يتكلم يتطاير الشر من عينيه، (ولاقر) أي: بارد ليس عنده إحساس أبداً، وقلما يتحرك، فهو لا هكذا ولا هكذا (ولا مخافة): أي: لا تخاف أنها تقول أي شيء بحضرته؛ لأنه يعذرها دائماً، كما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يفعلن، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (إني لأعرف غضبك من رضاك مع أن رضاها أو سخطها لا يضره؛ بل رضاه وسخطه هو الذي يضرها أو ينفعها يقول: (إني لأعلم إن كنت عني راضية أو علي غضبى، فقالت: وكيف تعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم)، مع ان المعنى واحد. ومثل هذا فعل ابن عمر، فقد كان له جارة عجوز، فكان يقول لها: (خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام)، فتبكي، مع أن خالق الكرام واللئام واحد وهو الله عز وجل. فـ عائشة رضي الله عنها تعترف وتقول: (نعم والله ما أهجر إلا اسمك)، فتعترف وهي آمنة، طالما أنها لم تأت معصية لله عز وجل، فهي آمنة، حتى لو ساء خلقها مثلاً على زوجها، والمرأة تحب هذا الطراز من الرجال الذي تعيش آمنة في كنفه.

خبر المرأة الخامسة

خبر المرأة الخامسة وقالت الخامسة: (زوجي إذا دخل فهِد، وإذا خرج أسد، ولا يسأل عما عهد). اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح؟ لكن الظاهر أنه خرج مخرج المدح، فقولها: (زوجي إذا دخل فهد) يقولون: من طبع الفهد -وهو الحيوان المعروف- أنه كثير النوم، فهي تصفه بالغفلة، والرجل الذي يزيد ذكاؤه عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة، رجل متعب جداً، فلا بد من شيء من التغافل. قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: (الفطن المتغافل). يعني: الذي يتجاهل بإرادته، وليس لازماً أن يُعرفها أنه يعرف، ولكنه يتجاهل بإرادته؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل.

من أخلاق الزوج الجيد المداراة

من أخلاق الزوج الجيد المداراة فلابد للرجل -وإن كان سيداً مطاعاً أو ملكاً متوجاً- أن يداري رعيته والمداراة من خلق المسلم الحاذق، وكم من مشاكل تحصل في البيوت بسبب أن الرجل لا يداري! مع أنه يمكن أن تمر هذه المشاكل بسلام لو أن الرجل تغافل قليلاً، وقد أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا التغافل فقال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته ظل على عوجه، فاقبلوهن على عوج). أي: أن المرأة فيها عوج، والمطلوب من الرجل أن يميل مع هذا العوج ولا يظل مستقيماً دائماً، وهذا معناه أن الرجل ينزل من مكان الرجولة إلى مستوى المرأة، والرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من مشى على الأرض بقدميه، وأعبد من عبد لله عز وجل، ما نقص من هذه المكانة العظيمة شيئاً لما قال للصحابة يوماً: (تقدموا، ثم قال لـ عائشة: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، قالت: فتركني حتى نسيت، وحملت اللحم -أي: صارت سمينة- وفي غزوة من الغزوات قال لهم: تقدموا، ثم قال لها: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: هذه بتلك)، فهذا الفعل ما نقص من قدره صلى الله عليه وسلم؛ بل زاد فيه. فأنت إذا أردت أن ترفع مستوى المرأة حتى تصير مثلك؛ فكأنك تريد رجلاً آخر في البيت، وهذا لا يصلح؛ لأنك لا تستطيع أن تعيش مع رجل آخر، والمرأة لو كان فيها جدية وطبيعتها مثل الرجال فلن تستطيع أن تعيش معها أبداً، فاللازم أنك تكون على مستوى المرأة، وتنزل من مكان الرجل إلى مستوى المرأة، وهذا النزول اسمه: المداراة، فمثلاً: رجل من طبع امرأته أنها لا تكاد ترضى، بل دائماً تصفه بأنه لا يفهم، ولا يعرف شيئاً، والناس كلهم يخدعونه، فذهب واشترى حذاء مثلاً، والبائع أكرمه فعلاً. فتسأله: بكم اشتريته؟ فيقول: بأربعين جنيهاً، فتقول: لقد خدعك لو كنت أنا الذي أشتريه لاشتريته بعشرين جنيهاً فقط، فتكدر على الرجل هذه الهدية، بدلاً من أن تقول له: الله يبارك فيك، الله يحفظك، الله يوسع عليك، ونحن دائماً نتعبك مع أنها لن تخسر شيئاً إذا قالت هذا الكلام. والرجل إذا ذهب واشترى شيئاً وهو يعلم أن امرأته ستظل تقول له: لقد خدعوك، فإنه يتخلص ويقول لها: هذا هدية، وينهي الأمر بدلاً من أن يكدر حاله، فإذا كنت تعرف أن هذا الخلق موجود في المرأة، فلا داعي لأن تكدر الحياة؛ بل لا بد من المداراة؛ إذ هي خلق المسلم الحاذق، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يداري، وقد علمنا ذلك. أما دليل المداراة: فهو حديث في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما دخل الرجل، ألا الرسول عليه الصلاة والسلام له الكلام، واستقبله استقبالاً حافلاً، وأخذ الرجل حاجته ومضى، وعائشة رضي الله عنها ترى وتسمع الموقف، فقد قال له أولاً: (بئس أخو العشيرة)، وهذا ذم له، والآن يلين له الكلام، ويفرش له العباءة، فقالت: (يا رسول الله! قلت ما قلت وفعلت ما فعلت!) فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتقى لفحشه)، أي: الذي تحترمه لأنه قليل الأدب، وتحترمه لأن لسانه شديد، فهذا شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة. فهذا الحديث أصل في المداراة، وهناك فرق واضح جداً بينها وبين النفاق. فهذه المرأة تمدح زوجها وتقول: (إذا دخل فهد)، فوصفته بالغفلة؛ لأن الفهد موصوف بالغفلة وكثرة النوم. ثم أردفت تقول: ولا تظنوا أنه مغفل في وسط الرجال؛ بل (إذا خرج أسد) أي: كالأسد، فوصفته بأنه يتغافل عما يكون في البيت، لكنه إذا خرج فهو رجل في وسط الرجال.

عدم سؤال الرجل امرأته عن كل شيء

عدم سؤال الرجل امرأته عن كل شيء قالت: (ولا يسأل عما عهد)، فلا يأتي ويقول لها: أنا أعطيتك موزاً فأين ذهبتِ به؟ مثل ما يذكرون عن بعض البخلاء أنه كان كلما يحضر لحماً كان يعد اللحم، فيأتي فيلقى اللحم ناقصاً ثلاث قطع أو أربع. فيسأل: أين باقي اللحم؟ فتقول له: أكلها القط، فيأتي بميزانه إذا خرج، فيزن اللحم، ويزن القط، وبعد ذلك يذهب لعمله ثم يأتي، فيجد ثلاث قطع قد ذهبت، فيحضر القط ويزنه فلا يجد شيئاً وهذا لا ينبغي؛ بل كن كريماً، فربما كانت المرأة مثلاً تعطي بعض الشيء لأهلها، أو تتصدق، أو نحو ذلك، فلا تحرجها؛ بل وسع عليها، فالمرأة هذه تقول: (ولا يسأل عما عهد). وهذا من كرمه وإغضائه، إذاً: فهذه المرأة مدحت زوجها.

خبر المرأة السادسة

خبر المرأة السادسة وقالت السادسة: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث). (إذا أكل لف): يلف: أي: يأكل من كل الأطباق، ولا يترك صنفاً إلا ويأكل منه، (وإذا شرب اشتف)، أي: يستمر يشرب حتى لا يبقي شيئاً، فهو نهوم، أكول، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة، فما ترك شيئاً إلا أكل منه، ويشرب بنوع من النهم، وتكون النتيجة أنه عندما ينام يلتف لوحده، هذا هو الجزاء، ولا يشكر هذه المرأة التي طعامها جميل، وشرابها جميل، لدرجة أنه يأكل بشره، بل يكافئ المرأة بأنه إذا اضطجع التف، فهي تشتكيه.

اللف في الأكل مخالف للسنة

اللف في الأكل مخالف للسنة ومسألة اللف مخالفة للسنة، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك)، والبخلاء يستغلون هذا الحديث أسوأ استغلال، فيضع الجبن أمام الضيف، ويضع الديك الرومي أمامه، ويقول: كل واحد يأكل مما يليه، هكذا السنة! ومما يحكون في قصص البخلاء: أن رجلاً دعا آخر وذبح له ديكاً رومياً، وصنع ملوخية، والضيف عادة لا يمد يده إلى اللحم في البداية، بل تجده يأكل وبطنه تمتلئ أرزاً وخبزاً وهو يقول للديك: هيت لك! لكن يمنعه حياؤه وخجله أن تقع يده أول ما تقع على الديك، فالرجل وضع الديك الرومي أمامه، والملوخية لها اسم (الشريفة) فقال له: كل من (الشريفة)، والضيف يريد أن يمد يده إلى اللحم، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فكاد الضيف أن يشبع، فمدَّ يده إلى الديك، والبخيل يقول له: كل من (الشريفة)، فقال له: اتركني مع قليل الأصل!

من أدب الضيافة ألا تحوج الضيف إلى مد يده

من أدب الضيافة ألا تحوج الضيف إلى مد يده فينبغي ألا تحوج الضيف إلى أن يمد يده، وهذا أدب نعلمه لربات البيوت، أدب تنظيم المائدة، وتنظيم الأكل، حتى لا تحوج الضيف إلى أن يمد يده؛ بل يوضع من كل الأصناف أمام كل الضيوف، حتى لا يحتاج أحد إلى أن يمد يده، فهذا أدب من آداب وضع الطعام.

أهمية التخفيف عن المرأة بالكلمة الطيبة

أهمية التخفيف عن المرأة بالكلمة الطيبة هذه المرأة تقول: (زوجي إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث)، إيلاج الكف: أن يولج الرجل يده على امرأته ويربت على كتفها، والمرأة تحتاج بعد عناء اليوم الطويل إلى هذه الكلمة الطيبة، فهي طوال يومها في المطبخ، وتطعم الأولاد، وتنظف البيت، فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، كأن يقول لها: لقد تعبتِ اليوم، جزاك الله خيراً، ويتكلم بهذا الكلام، واعلم أنك عندما تقول هذه الكلمات، لو أن المرأة نقلت جبلاً من مكان إلى مكان؛ فإنه يزول عنها الهم، ويزول عنها التعب. فهي تحتاج إلى كلمة طيبة، وأنت كلما تدخل وتقول لها: جزاك الله خيراً، أنت تتعبين لأجلنا، وأنت أيضاً تتعب لأجلها، وهذه حقيقة معروفة، لكن أنت إذا اعترفت بجميلها اعترفت بجميلك، فأنت تؤدبها، وتعينها على أن تقدم لك الشكر. فتقول: (لا يولج الكف) على عادة الأزواج المحبين، (ليعلم البث)، البث: قد يكون الحزن، وقد يكون الحب، كأنها تقول: هو لا يولج كفه إيلاج الرجل الحنون حتى يعلم شكواي؛ بل يعلم أنني أشتكي ومع ذلك كأنه في عالم آخر، غير منتبه لأي شيء. وإذا حملنا البث على الحب، صار المعنى: أنه لا يولج الكف حتى أبثه النجوى، وحتى أحادثه.

خبر المرأة السابعة

خبر المرأة السابعة وقالت السابعة -وهذه ما تركت شيئاً في الرجل-: (زوجي عيايا غيايا طباقا)، (عيايا): من العي، (غيايا): من الغي، وهو الضلال البعيد، (طباقا): مقفل لا يتفاهم، (كل داء له داء): كل عيوب الدنيا فيه، كل داء تجده فيه. (شجك) يجرح وجهها، (أو فلك) يكسر عظمها، (أو جمع كلاً لك)، أي: إما يشج رأسها فقط، وإما يكسر عظمها فقط، وإما يكسر عظمها ويشج رأسها، فهذا الرجل عنيد جداً.

الاعتدال في ضرب النساء

الاعتدال في ضرب النساء إن الله سبحانه وتعالى لم يشرع الضرب إلا للإصلاح، والرسول عليه الصلاة والسلام قيد الضرب الذي جاء مطلقاً في كتاب الله في قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فالضرب هذا يحتمل أن يكون ضرباً شديداً وأن يكون ضرباً خفيفاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح)، أي: غير شديد، فهذا الضرب مطلق في كتاب الله وقيد بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فعلى الزوج أن يضرب ضرب المحب لا ضرب المنتقم؛ إذ المقصود بالضرب هو الإصلاح. وانظر إلى المثل العالي الذي ذكره الله عز وجل في كتابه المجيد عن أيوب عليه السلام امرأته الوفية التي ظلت ثمانية عشر عاماً تخدمه وهو في شدة البلاء، صدر منها شيء، فحلف أيوب عليه السلام أنه إذا عافاه الله أن يجلدها مائة جلدة، مع أنها هذه المرأة الوفية وهي لا تستحق هذا الجلد، فقال الله عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44]، والضغث: هو مائة عود طري، مثل عود البرسيم، فيجمع مائة ويضربها بها ضربة واحدة، فيكون كأنه ضربها مائة ضربة؛ لأن هذه المرأة الوفية لا تستحق أن تجلد مائة جلدة، لكنه عليه السلام أقسم أن يضربها، وهو لا يحنث؛ بل لا بد أن يضرب، فقال الله عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} أي: مائة عود {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. فالضرب المطلق في كتاب الله عز وجل قيده النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، لما قال: (واضربوهن ضرباً غير مبرح). وفي سنن أبي داود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ضرب النساء، فجاء عمر وقال: (يا رسول الله! زئرن النساء على أزاواجهن)، زئرن: أي: استأسدن، فعندما أمن النساء أنهن لن يضربن، استأسدن، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الضرب مرة أخرى، فما بقي أحد إلا ضرب زوجته، عوضوا عن المدة الماضية، فطاف ببيت النبي صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة، كلهن يشتكين أزواجهن، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكي زوجه، ليس أولئك بخياركم)، أي: ليس الذين يضربون هم خياركم، إنما يلجأ الإنسان إلى الضرب في وقته، ويكون ضرباً يسيراً، مثلاً بالسواك، ولكن تجد بعضهم يحمل نصف عرق خشب في جيبه ثخين وطويل، والذي يراه لا يعرف أن له مآرب أخرى، ويقول: هذا ضرب بالسواك!! فالإنسان لا مانع أن يضرب، لكن الضرب في كتاب الله عز وجل آخر مرحلة، وبعض الأزواج يبدءون بالضرب، وهذا خلاف تنفيذ تهديد المرأة الوارد في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن))، وأنا أقول: لا يلجأ الرجل إلى الضرب إلا لأنه عجز عن الهجر، ولو هجر حقاً فلن يصل إلى الضرب، فإذا اضطر إلى الضرب يضرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب ضرباً غير مبرح. تقول عائشة رضي الله عنها، كما في صحيح مسلم: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه لما كان في ليلتي التي هي لي، جاء ففتح الباب رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً، فما هو إلا ريثما أن وضع جنبه على الفراش رويداً رويداً، حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق). (رويداً رويداً)، هذا من الأفعال التي تكرر في كل مرة، أي: بهدوء شديد، والرسول عليه الصلاة والسلام يظن أن عائشة نائمة، فكره أن يوقظها، وهذا من رأفته وحنانه عليه الصلاة والسلام، قالت: (فانطلق، فتصنعت إزاري وانطلقت وراءه -وكانت تظن أنه ذاهب إلى بعض نسائه- حتى ذهب إلى البقيع، فرفع يديه ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف فانحرفت -انحرف راجعاً- فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أي: فمشى الهوينا- فأحضرت، فسبقته، فأول ما دخلت البيت دخلت تحت اللحاف، فقال: مالك يا عائش؟! حشيا رابية)، هل هناك شيء؟ لأنه تركها مستريحة، وجاء وهي تتنهد من تعب المشي.

تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه

تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه فأول ما لقيها قال: (مالك يا عائش؟!)، وانظر إلى اللطف! يقول: يا عائش! وهذا هو الترخيم، والداعي له هو المحبة والمودة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما كانت عائشة تشتكي، كان يكون معها في غاية اللطف، حتى إنها لما حصلت حادثة الإفك، وهي حادثة قوية اتهمت عائشة رضي الله عنها في عرضها، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبرئها من عند نفسه، وكانت تتمنى أن يبرئها بكل قوة، لكن سكوته عن تبرئتها كأن فيه اتهاماً، ولو كانت بريئة فلماذا لا يبرئها؟ ففي هذه المحنة كانت تبكي، تقول: (بكيت ثلاثة أيام بلياليهن حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي)، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يلاطفها، ولا يخفف عنها، ولا يقول لها: أنت بريئة؛ بل كل الذي كان يفعله عليه الصلاة والسلام أن يدخل وهي مستكينة مكسورة، ويقول: (كيف تيكم؟). تيكم: اسم إشارة للبعيد، فحتى هذه ليست إشارة للقريب، ويقف على طرف السرير قليلاً وبعد ذلك ينصرف تقول عائشة رضي الله عنها قبل أن تعلم بهذه الحكاية: (وكان يريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده منه حين أشتكي)؛ لأنها لما جاءت من هذه الغزوة -غزوة بني المصطلق- مرضت شهراً، وهي لا تعلم بحديث الإفك، وليس من عادته صلى الله عليه وسلم عندما تمرض أن يكتفي بأن يقول لها: (كيف تيكم؟)؛ بل تعودت أنه في حال مرضها يكون في غاية الحنان معها، فصار عندها إشكال، لكنها لا تعرف ما السبب. فيقول لها في هذا الحديث: (مالك يا عائش؟! حشا رابية، فقالت له: لاشيء، فقال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله. -ثم حكت له الحكاية- فقال لها: أنت السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم. قالت عائشة: فنهزني، -وفي الرواية الأخرى-: فلهزني في صدري لهزة أوجعتني -أي: ضربها بمجامع يده في صدرها- وقال لها: أظننت أن يحيف عليك الله ورسوله؟)، مع أن القسم لم يكن واجباً في حقه عليه الصلاة والسلام، أي: أن يبيت عند هذه ويترك تلك، بل هذا باختياره، ومع ذلك فقد كان يعدل؛ لأن هذا من تمام الإحسان، فقال: (إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فأجبته، فأخفيته منك وكرهت أن أوقظك فتستوحشي). لأن عادة النساء لاسيما إذا كانت صغيرة السن الاستيحاش والخوف، وقد قال لي أحدهم مرة: وجدت امرأتي حابسة نفسها في الغرفة. فسألتها: لماذا؟ فقالت: لأنه كان هناك صرصور يمشي في صالة البيت. والمرأة لو رأت فأراً ربما أصيبت بسكتة قلبية؛ لأنها تخاف وتستوحش لاسيما إذا كانت وحدها وفي هذا الوقت من الليل، فمن رحمته عليه الصلاة والسلام أنه لم يوقظها، وظن أنها نائمة، قال عليه الصلاة والسلام: (فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم)، فـ عائشة رضي الله عنها الذكية -وهذا أدب يجب على النساء أن يتعلمنه- غيرت دفة الحوار، وغيرت الكلام؛ لأن بعض النساء عندما تقول لها: غيري الموضوع، تقول: بل لابد أن نكمل. فقال: (إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: يا رسول الله! وما أقول لهم إذا دخلت عليهم؟ قال: قولي السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) إلى آخر هذا الدعاء، وهو دعاء زيارة المقابر. فالرسول صلى الله عليه وسلم قلما كان يضرب، كما قالت عائشة: (ما ضرب بيده أحداً إلا أن تنتهك حرمات الله). فهذا من المواضع القليلة التي ضرب عائشة وأوجعها فيه، لكن هذا ضرب غير مبرح. فهذا الزوج المذكور كان إذا ضرب يشج الرأس، أو يكسر العظم، أو يشج الرأس ويكسر العظم (عيايا، غيايا، طباقا، كل داء له داء، شجك، أو فلك، أو جمع كلاً لك).

خبر المرأة الثامنة

خبر المرأة الثامنة وقالت الثامنة: (زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب). وهي تمدحه (مس أرنب) أي: ناعم البشرة، ناعم الملمس، كجلد الأرنب، رفيق رقيق، (والريح ريح زرنب)، الزرنب: نبات طيب الرائحة، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فينبغي على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة، ومن الأشياء المنفرة التي هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـ عائشة: (بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك)، فأول ما يدخل البيت يستاك، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص على هذا، فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة.

خبر المرأة التاسعة

خبر المرأة التاسعة وقالت التاسعة: (زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد)، وهي أيضاً تمدحه (رفيع العماد) أي: طويل، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق، فهذا طويل وهذا طويل، لكن شتان بين طويل وطويل، فهذا رجل رفيع العماد، طويل، ذو هيئة حسنة، (طويل النجاد)، النجاد: هو جراب السيف، فهذا رجل عندما يلبس السيف يكون الجراب الخاص به طويلاً، وهذا أمر يمتدح به.

فضل الكرم وذم البخل

فضل الكرم وذم البخل (عظيم الرماد): إشارة إلى كرمه، أي: لكثرة ما يشوي للضيوف من اللحم ويطبخ لهم صار عنده رماد كثير، فهي تمدحه بالكرم، وهذه الصفة من الصفات التي كان يحرص العرب عليها كثيراً، والسخاء يغطي كل عيب، كما أن البخل لا يظهر حسنة، فالبخيل ليس له حسنة، والكريم ليس له عيب. وهناك آيات في ذم البخل؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، وفي القراءة المتواترة الأخرى: (ويأمرون الناس بالبَخَل)، والرسول عليه الصلاة والسلام تكلم في أحاديث شتى عن ذم البخلاء، وامتلأت الكتب بالإزراء على هؤلاء البخلاء، وصارت سيرتهم على كل لسان سيئة جداً، بخلاف الكرم، فمثلاً: حاتم الطائي، يضرب به المثل في الكرم، فيقولون مثلاً: هذا كرم حاتمي، هذا حاتم الطائي، وقد رأى ابنه مرة يضرب كلبة له، فقال له: (يا بني! لا تضربها، فإن لها علي يداً، إنها تدل الضيفان عليَّ)؛ لأن الضيف إما أن يرى النار أو يسمع نباح الكلب فيأتي.

من نوادر البخلاء

من نوادر البخلاء وهذا بخلاف البخلاء يذكر أن رجلين كانا يمشيان، وكان هناك بخيل يسبح، فأشرف على الغرق، فنادى: أدركوني، فقال أحد الرجلين: هات يدك، فلم يعطها له، وكان الثاني أذكاهما، فقال له: خذ يدي، ولم يقل: هات يدك؛ لأن الإعطاء ليس مذهبه، حتى لو يؤدي به ذلك إلى الموت؛ لأنه غير معتاد على كلمة (هات) أبداً. وهناك رجل آخر اسمه أبو نوح، وكان بخيلاً جداً، فاستضاف عنده رجلاً فاكتوى من شدة الجوع، فأنشد قائلاً: يجوع ضيف أبي نو ح بكرة وعشية أجاع بطني حتى وجدت طعم المنية وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية فقمت بالفأس كيما أدق منه شظية يريد أن يقطع لقمة، فلا يستطيع إلا بالفأس ثلم الفأس وانصاع مثل سهم الرمية أي: أن قطعة اللقمة التي خرجت، خرجت كأنها قذيفة. فشج رأسي ثلاثاً ودق مني ثنية هذا كله عملته لقمة!! والثنية هي مقدم الأسنان، فهذا رغيف أدرك الجاهلية، أي: مخضرم!! فضيف أبي نوح أكله في الإسلام، فهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، من إنتاج شركة الحديد والصلب!! ومصنوع في أفران الحديد والصلب!! ورجل آخر يقول: دخلوا على رجل بخيل فتأخر عليهم فقال أحدهم: يا ذاهباً في بيته جائياً من غير ما فائدة جن أضيافك من جوعهم فاقرأ عليهم سورة المائدة وهناك نوادر كثيرة للبخلاء، تقرؤها مثلاً في البخلاء للجاحظ، أو البخلاء للخطيب البغدادي، أو البخلاء لـ ابن الجوزي، فالبخل عار وشنار على أهله.

من أخبار الكرماء

من أخبار الكرماء يذكر عن رجل كريم اسمه معن بن زائدة، يضرب به المثل في الكرم، أن أحد الشعراء أراد أن يقابله، وكان معن بن زائدة في بستان، فأبى البواب على الشاعر أن يدخل، فنظر الشاعر فوجد جدول ماء يمر من تحت الجدار إلى داخل البستان، فكتب الشاعر بيت شعر ونقشه على خشبة ووضعه على الماء، فحمله الماء إلى معن بن زائدة الذي كان جالساً عند الماء، فوجد الخشبة طافية على الماء، فأخذها فقرأها، فأعجب بالبيت جداً، فطلب الرجل، فقال: أنت الذي كتبت هذا؟ قال: نعم. قال: كيف قلت؟ فأنشد له البيت، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم كان من الغد فأرسل إليه، فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار، ثم أرسل إليه في اليوم الثالث فقال له: كيف قلت؟ قال: قلت كذا وكذا، فأعطاه أربعة آلاف دينار. وعندما أخذ الشاعر الأربعة ألف دينار الثالثة هرب، فقد ظن أن هذا الرجل مجنون، وأنه سيفيق فيأخذ المال، فهرب من البلد كلها، فأرسل إليه في اليوم الرابع، فقيل له: إنه ولى الأدبار، فقال: (والله لقد أساء الظن، أما والله لو بقي لأعطيته مالي كله مقابل هذا البيت). فهناك أناس مطبوعون على الكرم، وعندهم سجية العطاء، لا يستريح إلا إذا أعطى، وقيمة الإنسان في العطاء وليست في الأخذ، وانظر إلى هذه الأبيات الجميلة التي تكتب بالذهب التي قالها أمية بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان، يقول: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء أبيات في غاية الجمال، وفي غاية الرقة! يقول له: (أأذكر حاجتي) أي: هل أذكر أنني محتاج، أم يكفيني أنك تفهمها، (إذا أثنى عليك المرء يوماً)، يعني أول ما يقابله ويقول له: الله يحفظك، وجزاك الله خيراً، فعندما يقول له يعطي له المال، فلم يحوجه أن يريق ماء وجهه في السؤال يقول له: أنت تريد شيئاً، أو يقول: يا أخي! كن صريحاً، تريد كذا، ليس عندي مانع وهكذا. فلا يحوجه إلى أن يريق ماء وجهه، فهذا الرجل أول ما يسمع الثناء فقط يعرف أنه رجل محتاج، فلا يحوجه إلى السؤال، فيقول له: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء وبهذا التخريج خرج الإمام الكبير العلم سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي، شيخ أحمد بن حنبل وشيخ الشافعي، حديث دعاء الكرب: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وما بينهما ورب العرش الكريم). فهذا ثناء، وليس دعاء، فلماذا سموه دعاء الكرب؟ عندما قيل لـ سفيان بن عيينة: إن هذا ليس دعاء، بل هو ثناء، قال: نعم، وأنشد هذين البيتين، وقال: إذا كان هذا مخلوق وكفاه الثناء فكيف بالخالق عز وجل. فعندما تقول: لا إله إلا اله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم هذا ثناء على الله، وإذا كان العبد فهمها وعرفها، فكيف بالخالق عز وجل. تقول هذه المرأة: (رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد)، ومن الأدلة على كرمه: أنه (قريب البيت من الناد)، الناد: هو منتدى الجلوس، فليس بيته في آخر البلد لأجل أن يفر من الضيفان؛ بل بيته بجانب النادي، وأي أحد يقصده على مدار الوقت، ومثل هذا عندما يكون البيت أقرب بيت للمسجد، ونريد أن نشرب ماء، فأقرب بيت هو الذي نقول له: هات لنا الماء، فهو يعرض نفسه لأقرب مكان لمنتدى الناس، كأنما قيل لها: ما دليل كرمه؟ فقالت: لأنه (قريب البيت من الناد).

خبر المرأة العاشرة

خبر المرأة العاشرة وقالت العاشرة: (زوجي مالك، وما مالك!)، أي: اسمه مالك، ثم قالت: (وما مالك!) أي: هل تعرفون شيئاً عن مالك؟ (مالك خير من ذلك)، مالك خير من كل ما يخطر ببالك، وهذا مدح عالٍ، (له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح)؛ لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف، فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل؛ لئلا يأتي الضيف فلا يجد شيئاً يذبحه، (له إبل كثيرات المبارك) باركة باستمرار، (قليلات المسارح) قلما يسرحها، (إذا سمعن صوت المزهر)، وهي الإبل التي في الزريبة، إذا سمعن صوت المزهر، (أيقن أنهن هوالك)، يعرفن أن إحداهن ستذبح، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل، والرجل يحيي الضيوف، ويستقبلهم بالطبل البلدي، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه سينحر؛ لأنه قد حل ضيف.

حرمة الغناء والموسيقى

حرمة الغناء والموسيقى والغريب: أن بعضهم استدل على جواز العزف على الموسيقى بهذا الحديث! ونحن فعلاً في زمان العجائب! ولو أن العلماء الذين قعدوا أصول الاستنباط، نظروا إلى عصرنا؛ لماتوا بالسكتة القلبية! إذ ليس في هذا دليل؛ لأن الحكاية هذه كلها حصلت في الجاهلية ولم تحصل في الإسلام، فهؤلاء ليسوا نسوة مسلمات، بل عائشة تحكي عن إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن، فهذا كان في الجاهلية. ويجيب هؤلاء فيقولون: نحن لم نحتج على المشروعية بمجرد الفعل، بل بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام. ويجاب: بأن المرأة التي تكلمت على زوجها بالسوء قد اغتابته، فهل نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم سكت عن الغيبة ورضي بها؟ فنقول: على هذا تجوز الغيبة والنميمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع كلام النسوان -والنسوان كلمة عربية فصيحة- على أزواجهن وسكت؟! فهذا أراد أن يبني مسألة جزئية فهدم أصلاً، وليس في هذا دليل لا من قريب ولا من بعيد على حل الموسيقى، لاسيما إذا علمنا أن هناك دليلاً قائم على حرمة الموسيقى كلها، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر) الحر: هو الفرج، وهو كناية عن الزنى، (يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فهذا دليل من أدلة أخرى يحتج بها أهل السنة والجماعة على تحريم الموسيقى كلها، أما الذين أباحوا الموسيقى فإنهم إذا أجمعوا لا ينعقد الإجماع بهم، فكيف يخرقون الإجماع؟ فليس في هذا دليل أصلاً على حل الموسيقى، إنما هذا كان من فعل هذا الرجل في الجاهلية، وهؤلاء أناس لا ندري أكانوا على التوحيد أم لا؟! وهذا الرجل كان من إكرامه لأضيافه أنه يعزف على المزهر، وهي آلة مثل العود أو نحو ذلك، فإذا سمعت الإبل صوت المزهر أيقن أنهن هوالك.

خبر أم زرع

خبر أم زرع والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها. قالت أم زرع: (زوجي أبو زرع فما أبو زرع!)، هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع؟. وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول: (أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي). هذا كله غزل، (أناس من حلي أذني): النوس يعني الاضطراب والحركة، ومنه الناس؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً. ومنه الحديث الذي في البخاري، قال ابن عمر: (دخلت على حفصة ونوساتها تنطف)، النوسات: هي الظفائر، تنطف: يعني تقطر ماء، فقد كانت مغتسلة، وإنما سميت الظفيرة بهذا الاسم لأنها تتحرك إذا حركت المرأة رأسها. (أناس من حلي أذني): أي: ألبسها ذهباً في آذانها، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية، فهي الآن تحمل ذهباً في كل أذن. (وملأ من شحم عضدي): بدأت المرأة بالذهب لأنه أهلك النساء الأحمران: الذهب والحرير، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب، (وملأ من شحم عضدي)، تريد أن تقول: إنه كريم يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت. (وبجحني فبجحت إلي نفسي)، يقول لها: يا سيدة الجميع! يا جميلة! يا جوهرة! حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها، (فبجحت إلى نفسي): أي: فصدقته، مع أنها قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، يعني: شق جبل، أي أنها كانت تعيش في حارة بشق، وفي بعض الروايات الأخرى (بشق): يعني كانت تعيش بشق الأنفس، فقيرة فقراً مدقعاً تقول: (وجدني في أهل غنيمة)، غنيمة: تصغير غنم، أي أن حالتهم كانت كلها كرب، حتى الغنم صار غنيمة، دلالة على حقارة المال. قالت: (وجدني في أهل غنيمة بشق)، فنقلها نقلة عظيمة، (فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق)، هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى (أهل صهيل): أصحاب خيل، (وأطيط): أصحاب إبل؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة: أط أط أط، خلال مشيه، فهذا يسمى أطيطاً، والإبل كانت من أشرف الأنعام عند العرب، (ودائس) أي: ما يداس، وهذا كناية عن أنهم أناس أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه الحب، فهو كناية عن أنهم أهل زرع. (ومنق): المنق: هو المنخل، فالعرب ما كانوا يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه)، فقال عروة: (فكيف كنتم تأكلون يا خالة؟ فقالت: كنا نذريه في الهواء)، فالتبن يطير في الهواء، والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما قالت عائشة: (مات ولم يشبع من خبز الشعير)، ليس من خبز القمح، فإن القمح هذا لم يأكلوه أبداً! تقول: وما أكل خبزاً مرققاً). فكلمة (منق) فيها دلالة على الترف، فعندهم من كل المال، فهم أغنياء، عندهم خيل وإبل وزرع، وعندما يأكلون عندهم منخل؛ لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين. (فعنده أقول فلا أقبح) تقول: مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي: قبحك الله فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة. (وأرقد فأتصبح): تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام؛ إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر، وهذا كسائر نسائنا؛ لأنه بعد صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس، وتريد أن تصنع الطعام لهم، والرجل سيخرج إلى العمل، فتعمل باستمرار، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة. (وأشرب فأتقمح): وفي رواية البخاري: (فأتقنح)، بالنون، وهناك فرق بين اللفظين، أما لفظ (فأتقمح) فإنه يقال: بعير قامح، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛ لأنها قد ارتوت، وأما (أتقنح) أي: تشرب وتأكل تغصباً، فتأكل حتى تشبع، فيقال لها: كلي، فتتغصب الزيادة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب. فقولها: فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته، فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.

وصف أم أبي زرع

وصف أم أبي زرع ثم قالت: (أم أبي زرع فما أم أبي زرع!) وهي عمتها، فلم تذكر عنها شيئاً من الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك، بل قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع هل تعلمون شيئاً عنها؟ هذه السيدة الفاضلة، وهذا على القاعدة: حبيب حبيبي حبيبي، فالمرأة عندما تحب زوجها، تدين لأمه بالفضل أنها أنجبته، وهذه منة في عنق الزوجة للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان. (عكومها رداح) الرداح: هو الواسع، يردح: أي: يطيل في الكلام، ويتوسع في المقالة، والعكوم: هي الأكياس التي تخزن فيها الأطعمة، فمثلاً: عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير، بل تخزنه في كيس قطن، فقولها: (عكومها رداح) فيه دلالة على أن البيت كله خير، وبيتها فسيح، ومن المعروف أن اتساع البيت أحد النعم.

وصف ابن أبي زرع

وصف ابن أبي زرع ثم قالت: (ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع!) يفهم من هذا أن أبا زرع كان متزوجاً، قبل ذلك (ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة)، مسل الشطبة: عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها سلخة للسكين، السلخة هذه هي السرير الخاص به، فهذا الولد نحيف، لكن عضلاته مفتولة، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح عند العرب؛ لأن هذا ينفع في الكر والفر، فهذا مدح تمدح به الولد، تقول: إنه مفتول العضلات وليس بديناً، ولا صاحب كرش عظيم؛ بل سريره كمسل شطبة، فتستدل على جسمه بسريره الذي ينام عليه، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً. (ويشبعه جراع الجفرة): الجفرة: هي أنثى الماعز الصغيرة، فلو أكل الرجل الأمامية للشاة فإنه يشبع، مع أن هذه لا تكفي الواحد، ومع ذلك فإن هذا الولد يشبع إذا أكل ذراع الجفرة، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال، بخلاف النساء.

وصف بنت أبي زرع

وصف بنت أبي زرع ولما جاءت تصف بنت أبي زرع قالت: (بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع!، طوع أبيها وطوع أمها)، أي: مؤدبة، (وملء كسائها) مالئة ملابسها، وهذا مستمدح في النساء بخلاف الرجال، (وغيظ جارتها): الجارة هي الضرة، فقد كان زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر (فغيظ جارتها) أي: من جمالها، وأنها ملء كسائها، وبذلك تغيظ جارتها.

تسمية الزوجة الثانية (جارة)

تسمية الزوجة الثانية (جارة) وهنا تعبير لطيف عن المرأة الأخرى، فلم تقل: وغيظ ضرتها، بل لفظ الجارة لفظ أجمل، وقد كان محمد بن سيرين يقول: (إنها ليست بضرة، ولا تضر ولا تنفع)، وكان يكره أن تسمى المرأة الثانية بالضُرة، إنما يقول: جارة، وهذا الأدب استخدمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث ابن عباس الطويل في البخاري ومسلم، يقول ابن عباس: (في أوله يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يـ ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة)، وساق حديثاً طويلاً، وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فراجعتني امرأتي ذات يوم فصخبت عليّ، وفي رواية خارج البخاري قال: (فتناولت قضيباً فضربتها، فقالت: أوفي هذا أنت يـ ابن الخطاب! لم تنكر علي أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح؟!). إذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الذين هن القدوة يهجرنه من الليل حتى الصبح، أفتنكر عليَّ أنني أكلمك وأراجعك؟! فقال: (أوتفعل حفصة ذلك؟) لم يقل: أوتفعل عائشة؟، أوتفعل أم سلمة؟ لأن الأب يسأل أولاً عن ابنته، ثم قال: (خابت وخسرت)، وذهب إلى حفصة فقال لها -من ضمن الكلام-: (لا يغرنك أن كانت جارتك -التي هي عائشة - أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني لا تقلديها؛ لأنها لها دلال، وهو يحترمها، فيمكن أن يسامحها، فأنت تحاولين أن تقلديها وليس لك عنده ما لـ عائشة، فيجب أن تعرفي قدرك ولا تقلدي عائشة، فقال: (لا يغرنك أن كانت جارتك)، ولم يقل: ضرتك؛ لأنه حتى لفظ الضرة لفظ قبيح؛ لأنه مشتق من الضر، بخلاف الجار، فإنه مشتق من الجوار، والجوار له حرمه، ونحو ذلك.

وصف جارية أم زرع

وصف جارية أم زرع قالت: (جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع!)، والمرأة من حبها للرجل تذكر كل شيء حتى الجارية، قالت: (لا تبث حديثنا تبثيثاً)، فأي شيء يحصل في البيت لا يعرف به أحد من الخارج، فهي أمينة لا تنقل الكلام، (ولا تنقث ميرتنا تنقيثاًَ)، أي: لا تبذر في الطعام، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى على الأرض، فهي امرأة مدبرة، تخاف على المال، (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي: البيت ليس فيه زبالة، كعش الطائر، فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش وقش وحطب، فتقول: بيتنا ليس كعش الطائر، إنما هو بيت نظيف. وفي بعض الروايات خارج الصحيحين: (وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع)، فالكلام هذا كله غزل، والغزل هنا مستحب، ولا أقول: غزل عفيف، إنما هذا غزل مستحب؛ إذ هي تتغزل في زوجها، وتعدد فضائل زوجها، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام المرأة. قالت: (فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض)، كان الوقت ربيعاً، واللبن كثير، والناس يحلبون لبنهم، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع (، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين)، معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة، (يلعبان من تحت خصرها برمانتين)، فأعجبه هذا المنظر، فقال: هذه المرأة لابد أن أضمها إلي، فضمها إليه، لكن ما الذي حصل؟ قالت: (فطلقني ونكحها)، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة، رجل يحب التوحيد!!

الزوج الثاني بعد أبي زرع

الزوج الثاني بعد أبي زرع قالت: (فنكحت بعده رجلاً ثرياً)، من ثراة الناس وأشرافهم، (ركب سرياً)، السري: نوع جيد من أنواع الخيل، كان الأغنياء يركبونه؛ لأنه كان مفخرة عندهم، وحتى تكتمل صورة الأبهة قالت: (وأخذ خطياً)، الخطّي: هو الرمح، فهو واضع تحت إبطه رمحاً وراكب على الخيل، متعجرفاً ومهيباً.

انتقال صفات المركوب للراكب

انتقال صفات المركوب للراكب والذي يركب الخيل ويدمن ركوبها، تنتقل صفات الخيل إليه، ومن تلك الصفات: الكبر، وقد ورد هذا في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالغنم تنزل رأسها، وتمشي في طريقها، فكل واحد يأخذ من صفات ما يعايشه من الحيوان، فهذا المنظر التعيس البريء الحزين -منظر الغنم- إذا ظلَّ طوال عمره فيه، فلابد أنه سيأخذ بعض هذه الصفات في الانكسار، والثاني الراكب على خيل، والخيل يقفز ويتراقص به وما إلى ذلك، فينتقل إليه هذا الشعور. وقد حدثني بعض الإخوان من الذين كانوا يركبون دائماً أحدث السيارات، حتى من الله عليه بالالتزام، أن الذي يركب سيارة فارهة يحس أنه انتقل إليه ثمن السيارة، فيتعامل مع الناس بثمن السيارة.

بدعة تسمية السيارات باسم الجالب لها ونحوه

بدعة تسمية السيارات باسم الجالب لها ونحوه ونحن عندنا في مصر بدعة قبيحة، هذه البدعة: أن تسمى السيارة باسم الذي جلبها وركبها، فمثلاً: ماركة المرسيدس، يقولون: هذا راكب بودرة، والألمان الذين يصنعون السيارة لا يعرفون التمساح والخنزير والضفدع والتسميات التي عندنا، بل كل هذا عندنا فقط، ولا تجده حتى في الدول العربية، فيسمونها البودرة؛ لأنه ما كان يركبها إلا تجار الهيروين؛ لغلو ثمنها الفاحش، وكذلك أيضاً يسمون بعض السيارات: الشبح، تيمناً بالطائرة الشبح التي ظهرت في حرب الخليج، التي كان يقول عنها المحللون العسكريون الذين عقولهم منضبطة: إن الطيارة الشبح يمكن أن يرى الطيار منها ماركة الثياب التي تلبسها!! وغير مستبعد أن يقولوا: إنه يمكن أن يأخذها وهو مار ويقرأ الماركة ثم يرجعها ثانية!! ومن العجب أن تجد من يصدق هذا الكلام، ويقول: هذه الطائرة الشبح وأنت جالس تجدها عندك!! وممكن أن الطيار يضرب القذيفة وينزل يتغدى ثم يأتي صوتها وراءه!! فسموا السيارة الجديدة السريعة هذه بالشبح، وكذلك السيارة المسطحة المدرعة اسمها: الفاجرة؛ لأن التي أدخلتها راقصة. والسيارات التي بهذا الثمن الباهظ تصل قيمتها إلى مليون وسبعمائة ألف ولو صدمت في شجرة لانتهى المليون والسبعمائة ألف، فالذي يركب السيارة هذه وهو يكلمك ويشعر أنه يلبس المال عندما يتكلم معك. يقول لي صاحب هذه السيارة: لما كنت أنزل من السيارة لأحضر موزاً من الفاكهي، كنت أشعر أن صدري ينتفخ مني لوحده، وأقفل الباب بقرصنة، يقول: كنت أحس هكذا، وهذا الإحساس عندي شعرت به زماناً طويلاً، وهذا مثل ركوب الخيل تماماً. وهناك دراسة لعلماء الأغذية، يقولون: إن الإنسان تنتقل إليه صفات المركوب الذي يركبه، وفي هذا البحث يقول الدكتور الزراعي: إن هذا حتى في الأكل، فلو أن الإنسان أدمن أكل لحم معين، فإنه ينتقل إليه بعض صفات المأكول، فمثلاً: لو داوم شخص على أكل لحم الضأن، فيمكن أن ينطح بمقتضى هذه الدراسة!! فهي تقول: (ركب سرياً) والسري: هو الخيل النفيس، (وأخذ خطياً) أي: وضع الرمح، وإنما سمي الرمح خطاً لأن هناك بلداً في البحرين كان اسمها الخط، وكانت الرماح تأتي من الهند إلى هذه البلد في البحرين وتوزع على سائر بلاد العرب، فنسب الرمح إلى هذا البلد.

وفاء أم زرع لأبي زرع

وفاء أم زرع لأبي زرع تقول: (وأراح علي نعماً ثرياً)، أي: أعطاها مالاً وفيراً، (وأعطاني من كل رائحة زوجاً)، وفي رواية: (وأعطاني من كل ذابحة -أي: ما يصلح أن يذبح- زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك)، أي: وأعطي أهلك أيضاً، فهذا الرجل ليس فيه أي عيب، إلا أن المرأة تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع). فانظر إلى هذا الوفاء! مع أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر في حقها، بل قال لها: (كلي أم زرع وميري أهلك)، أنفقي على أهلك، لكنها تقول: (فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع). فما هو الفرق بين هذا الرجل وبين أبي زرع؟ الفرق: هو الحنان، والحب، هذا هو الفرق، فلم تشعر المرأة مع الرجل الثاني بهذا الحنان والحب الذي شعرت به لما كانت زوجة لـ أبي زرع. لذلك فأنت لا تستطيع أن تشتري قلب المرأة بالمال أبداً، حتى لو كان عندك من الإبرة إلى الصاروخ في البيت، وكل الناس تتطلع إليك، ولا ينقصك شيء، فإن المرأة ينقصها قلبك، وهي لا تريد شيئاً غير ذلك، بل الكلمة الطيبة هي التي يعتد بها عندها، فلو أتى الرجل لأهله بكل غال ونفيس، وبطعام جيد الكل يتمناه، ودخل وهو يتكلم بقسوة، وفتح الباب، وقال: كلوا وانفجروا عسى أن ينفع هذا فيكم! فصرف خمسمائة جنيه في اللحم والفاكهة وما إلى ذلك، ثم قال هذه الكلمات، فستذهب هذه الأموال سدى دون أن يكون لها قيمة من أجل هذه الكلمات. إنما لو دخلت بطعام متواضع، وقلت مثلاً: والله لو استطعت أن أحضر لبن العصفور لما تأخرت، وأنتم تستحقون أكثر من هذا، لكن هذا جهد المقل، والحمد لله، أنتم صابرون علي، وربنا يعوضنا الجنة إذا قلت هذا الكلام ودخلت خالي اليدين كان هذا كافياً؛ لأن المرأة تريد دفء الحنان والحب، وهذا هو الفرق بين الرجل الأول والرجل الثاني.

فائدة نكاح الأبكار

فائدة نكاح الأبكار أضف إلى ذلك: أن الرجل الأول كان أول رجل في حياة المرأة، وهذا له تأثير وفرق كبير عند المرأة، فلو تزوجت رجلاً لأول مرة وأحبته، فإن حبه منقوش على الصخر، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بزواج الأبكار، فقال: (تزوجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً، وأرضى باليسير). وعندما رجع جابر بن عبد الله الأنصاري من غزوة مسرعاً، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أعجلك يا جابر؟ قال: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس، قال بمن تزوجت؟ قال: قلت: بأيم كانت في المدينة -أي: امرأة مات زوجها- قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك)، وفي رواية للطبراني: (وتعضها وتعضك)، وهي رواية ضعيفة، وأقول: ضعيفة لأن لها مفاسد، فلا يعتد بها، والرواية الصحيحة: (فتلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك، فقال: يا رسول الله! إن عبد الله) يعني أباه، وعبد الله بن حرام رضي الله عنه مات يوم أحد في أول من قتل، وفي ليلة أُحد عبد الله نادى ابنه جابراً وقال: (يا بني! إنني أرى أنني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً)، فقد كان هو الولد الوحيد، وعنده تسع بنات، وفعلاً أول ما دارت رحى الحرب كان أول من قتل هو عبد الله بن حرام رضي الله عنه، صدق الله فصدقه، فقال: يا رسول الله! (إن عبد الله ترك تسع نسوة خرق -يعني عقولهن صغيرة لأنهن بنات- فكرهت أن آتيهن بخرقاء مثلهن، فقلت: هذه أجمع لأمري وأرشد). فهذه امرأة زوجها مات، وصارت امرأة عاقلة، وتعودت على تربية الولد، ستكون بمثابة الأم لهؤلاء البنات. فالمهم الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (أصبت ورشدت). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

أيها العاصي أقبل!

أيها العاصي أقبل! ليس من العيب أن يذنب العبد، ثم يعترف بذنبه ويتوب إلى الله؛ ولكن العيب أن يتمادى الإنسان في معصيته ويصر على مقارفتها، ثم بعد ذلك يسوف في التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولعل الموت يباغته وهو على هذه الحال؛ فهذه دعوة لكل عاصٍ أن يقبل إلى ربه، ودعوة لكل مخطئ أن يقصد خالقه فهلم إلى رب يفرح بتوبتك هلم إلى رب وسعت رحمته كل شيء هلم إلى رب قبل توبة عبد قتل مائة نفس!! فلا إله إلا الله ما أرحمه بعباده!

حديث الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفسا وفوائده

حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً وفوائده إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. درسنا هذا المساء هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل فيمن كان قبلكم قتل تسعاً وتسعين نفساً، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض. فدلوه على راهب، فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً ألي توبة؟ فقال له: لا، فقتله. ثم أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب عالم، فقال: إني قتلت مائة نفس ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمر بها، فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله تبارك وتعالى إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها. ثم أمر الله تبارك وتعالى الأرض فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فقاسوا المسافة بين الأرضين، فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد؛ فغفر له فدخل الجنة).

من الأمور المعينة على التوبة هجر أرض السوء وأهلها

من الأمور المعينة على التوبة هجر أرض السوء وأهلها هذا الراهب العالم زاد هذا الرجل زيادة لابد منها حتى تتم توبته (قال: نعم) وبهذا تم الجواب، ثم قال له: (ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا) إذاً لابد لهذا القاتل من الخروج من أرض السوء وإلا سيعود إلى الإجرام مرة أخرى؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وإذا علم أن رجلاً يقتل مائة نفس في أرض لا يوجد فيها من يأخذ على يديه ويقول له: اتق الله! دل على أنه لا خير في هذه الأرض أبداً، بل لما تجبر هذا الرجل قطعاً وجد جماعة ممن يخافون منه يزينون له معصية القتل، وربما أنه يخشى منهم، فلابد أن يسيغ لنفسه القتل حتى يأمن من شرهم، وربما إذا رجع وتاب عيروه بالجبن والخور والخوف، فيمكن أن يعود مع وجود هذه البطانة السيئة، فلابد أن يخرج من هذه الأرض، حتى وإن حن إليها، لاسيما الأرض التي شهدت ملاعب صباه وعاش فيها، فإنه يحن دائماً. ولذلك كان جواب العلماء عن دواء العشق -وهو الرجل الذي ابتلي بعشق المرأة- فقالوا: (أن يفارق الأرض التي بها المرأة) لماذا؟ لأنه كلما رأى شيئاً ذكره بها، وما أبيات مجنون ليلى عنا ببعيد الذي قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار وهو ماش كان يقبل جدران المدينة كلها لماذا؟ لأن ليلى كانت ساكنة في هذه القرية، فمثل هذا يجب أن يخرج. وأذكر قصة وقعت: أن رجلاً تزوج على امرأته امرأة أخرى وأدخلها بيتاً بجانب بيت المرأة الأولى، وكان لكل امرأة منهن جارية، فخرجت جارية المرأة الجديدة في الصباح فوجدت جارية المرأة الأولى جالسة على الباب فقالت لها: وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت فأجابتها جارية المرأة الأولى إجابة مفحمة جداً وممتازة، قالت لها: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا حق، الإنسان يذهب إلى جميع بلاد العالم ويعيش في كل بلد عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين، ولا يشعر بحنينٍ إلا إلى المكان الأول الذي شهد ملاعب صباه، وقضى فيه أفضل فترات عمره الأولى، فالإنسان كثير الحنين إلى الأماكن التي قضى فيها معظم عمره. فهذا الرجل إن ظل في هذه الأرض فقد يجره هؤلاء القوم إلى الإجرام مرة أخرى؛ فكان من الأفضل له أن يفارق هذه الأرض، ولذلك قال له ذلك الراهب العالم: (اخرج من أرضك أرض السوء)، إذ ليس فيها رجل يأخذ على يده؛ فهي أرض سوء حقاً (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً صالحين فاعبد الله معهم) وهذه هي بركة معاشرة الصالحين ومخالطتهم أن الإنسان لا يستطيع أن يتظاهر بالمنكر بينهم أبداً حتى ولو كان سيئاً لماذا؟ لحرمة الدين وكثرة الصالحين، وفي بعض طرق الحديث: أن القرية التي كان فيها هذا الرجل القاتل اسمها: (كفرة)، والقرية التي أمره العالم أن يخرج إليها كان اسمها (نصرة)، والحقيقة أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة قوية جداً، وما من رجل يراعي مثل هذه المسألة إلا ويجد تناسقاً عجيباً بين الاسم والمسمى، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يدل أمته على اختيار أفضل الأسماء؛ لوجود علاقة بين الاسم والمسمى، لذلك يقول: (لا تسمين غلامك رباحاً ولا نجاحاً ولا يساراً ولا فلاحاً - لماذا؟ - قال: حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قالوا: لا) فيحصل نوع من النفرة في القلوب يأتي يسأل: يسار هنا؟ فيجيب: لا يوجد يسار، وكأنه نفى اليسار عن البيت، وكذلك الفلاح والنجاح، ويجري هذا المجرى تسمية (إسلام) فيقال: إسلام هنا؟ فيجيب لا يوجد إسلام، فهذه أيضاً تقرع القلب لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر وبينما هو يمشي مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه قابل بريدة بن الحصيب فقال له: (ما اسمك؟ قال: بريدة؟ فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح) فهناك تناسق بين الاسم والمسمى، فانظر هذه: (كفرة) فعلاً ظلمة كلها، رجل يقتل فيها مائة نفس ولا يجد من يأخذ على يديه، والثانية اسمها (نصرة) فالأرض قد توصف بأنها سيئة ثم توصف بأنها طيبة، كما حدث في مكة كانت دار كفر ثم آمن أهلها فصارت دار إسلام. ولذلك وصفها فقال: (أرض سوء) على اعتبار أنه لا يوجد فيها رجل واحد صالح، فهذه الأرض إن تبدلت وصار كل الذين فيها من أهل الصلاح إذاًَ الاسم يتبدل، الأرض لا تقدس نفسها إنما يقدس الأرض أهلها الصالحون.

وجوب التوبة الفورية وعدم التسويف

وجوب التوبة الفورية وعدم التسويف قال: (فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمُره أن يخرج إليها) فيه دلالة على أن الرجل بادر مباشرة إلى الخروج، وهذا يدل على وجوب التوبة الفورية، لا يحل لمسلم أن يسوف في التوبة، إن العبد يجب أن يتوب من الذنب على الفور لا على التراخي. ونحن نعلم أن من أخطر ما يصيب المسلم فيما يتعلق بهذا الباب تسويف التوبة يقول: سوف سوف لعله لا يدرك أمنيته، وذلك من أعظم الأبواب التي يدخل الشيطان إلى بني آدم منها -مسألة الأماني- كما قال إبليس عليه لعنة الله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء:119] وذكر ابن الجوزي في كتاب: أخبار الحمقى والمغفلين، قال: هبت ريح عاصف على قوم؛ فجأروا إلى الله، فقال رجل: يا قوم! لا تعجلوا بالتوبة إنما هي زوبعة وتسكن فهذا رجل فعلاً يمنيهم كما وصفه ابن الجوزي. فيجب على الإنسان أن يتوب فوراً، ولا يطيل الأمل، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رسم على الأرض مربعاً، ثم رسم خطاً طويلاً وسط المربع حتى خرج منه ثم قال: (هذا أجل ابن آدم -الذي هو المربع- محيط به وأشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله) أمله يتجاوز أجله كثيراً جداً، وهو الرجل الذي يقول لك: إن شاء الله بعد عشر سنين أحقق أرباح كذا وهو سيموت الليلة، فقضي أمره وهو مازال يخطط لأعوام طويلة، ولذلك يجب على الإنسان أن يبيت وهو تائب من المعاصي، ولا يجوز له أن يبيت وهو مسوف. فهذا الرجل كان من الأشياء الحسنة التي بادر إليها أنه ناء بصدره مجرد ما سمع الفتوى: (فناء بصدره إلى الأرض التي أمر بها). هذا الرجل ما فعل شيئاً من الصالحات بعد! نقول: (إن مجرد عقد القلب عمل) انعقد القلب على التوبة، ثم بادرت الجوارح بتنفيذ هذا العقد، فلذلك تاب الله تبارك وتعالى على هذا الرجل لانعقاد قلبه وفعل جوارحه. وليس من اللازم أنه يدرك ويفعل الصالحات، فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه قال: (إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة)، وهذا الرجل تركوه كافراً في المدينة، ثم أدركته عناية الله تبارك وتعالى فأسلم، فمضى على أثر الجيش، فذهب فقاتل حتى قتل، فهذا الرجل ما تسنى له أن يرجع حتى يصلي أو يزكي أو يفعل شيئاً من الخيرات، قال: (إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة)!!. فهذا الرجل بادر وناء بصدره إلى الأرض التي أمره العالم أن يخرج إليها.

رحمة الله وسعت كل شيء

رحمة الله وسعت كل شيء (فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: خرج إلى ربه تائباً، وملائكة العذاب يقولون: قتل مائة نفس، فأرسل الله إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها) ولما كان الرجل أقرب يقيناً إلى أرض العذاب: (أمر الله الأرض -أن تطوى من تحته- (فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي. فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة). إذاً: أي إنسان عاص مهما بلغت ذنوبه، إذا علم أن رحمة الله تبارك وتعالى شملت مثل هذا العاصي فهو أقرب منه، لا تستعظم ذنبك أبداً، واعلم أن من صفات الله تبارك وتعالى (الغفور الودود) وتأمل في هذه الصفة (ودود) أي: كثير الود، مع أنه غني عن العبد؛ ولكنه يتودد إليه ويفرح بتوبته، كما قال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين والسياق لمسلم-: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة معه راحلته وعليها طعامه وشرابه) يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام المثل بفرحة الله تبارك وتعالى إذا تاب العبد ورجع إلى ربه كيف تكون فرحة الله بتوبة العبد، مع غنائه التام عن العبيد جميعاً فقال: مثل فرحة الله تبارك وتعالى بالعبد العاصي كمثل رجل معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه (فوجد شجرة فاستظل بها فنام، فلما استيقظ لم يجد راحلته، ولم يجد طعامه وشرابه -ومعروف أن الإنسان إذا تاه في الصحراء مات إذا لم يكن عالماً بدروبها- بحث عن راحلته فلما يئس منها وعلم أنه هالك قال: أرجع إلى مكاني وأموت فيه، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك! قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح) فانظر هذا الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح لما وجد راحلته -فلله المثل الأعلى- فالله تبارك وتعالى يفرح بعودة العاصي إليه كفرح هذا الرجل براحلته لما وجدها. فكيف وربك تبارك وتعالى يتودد إليك بمثل هذه النعم، وبمثل هذه الرحمة وهو غني! أفلا تبادر وأنت أحوج إليه؟! كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). فإذا كنا نعلم أن معصية العبد إنما تضره ولا تضر ربه تبارك وتعالى، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى يفتح له الباب بمثل هذا الفتح فكيف لا يسارع إلى ربه تبارك وتعالى؟! فهذه فرصة يا إخواننا! أيها العاصي أقبل! مهما أسرفت فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] حتى الشرك يغفره تبارك وتعالى إذا رجع العبد إلى توحيد الله عز وجل وتاب منه. إذاً: الوعيد لا يتحقق إلا بترك التوبة، كل وعيد في القرآن يسقط بالتوبة، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه باباً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

جواز تكرار العامي السؤال على أكثر من عالم إذا حاك في صدره شيء

جواز تكرار العامي السؤال على أكثر من عالم إذا حاك في صدره شيء (ثم أذن الله تبارك وتعالى لهذا الرجل العاصي بتوبة فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض). وفي هذا دليل على استحباب أن يسأل العامي عالماً آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول؛ لأن العلماء الذين صنفوا في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي يقولون: (لا يجوز للعامي أن يعدد السؤال على أكثر من عالم) وهذا -في الحقيقة- آفة موجودة عند بعض الناس، كلما أتى إلى عالم يسأله سؤالاً معيناً، ثم يقارن بين أجوبة العلماء أو طلاب العلم أولاً: ما هو المقصود بالسؤال؟ أليس هو رفع الإشكال؟ إنما شرع السؤال لرفع الإشكال. فإذا كان هذا الإنسان من العوام لا يستطيع أن يرجح الحق بدليله، فسأل رجلاً سؤالاً فقال له: حرام، ثم سأل آخر نفس السؤال فقال له: حلال، فماذا يفعل وليس عنده الآلة التي يميز بها بين القولين؟ أيهما أحق أن يتبع المحرم أم المحلل؟ إما أنه سيسيء الظن بهؤلاء العلماء ويقول: لو كانوا علماء حقاً لاتفقت فتواهم، وإما أنه سيخرج من الأقوال كلها ويكون هو شيخ نفسه ويتبع هواه. إذاً: ليس هناك ثمرة على الإطلاق أن يعدد السؤال على أكثر من عالم، لاسيما إذا لم يكن له حاجة إلى مثل ذلك. إنما العلماء استحبوا للعامي أن يكرر السؤال على عالم آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول، فهذا الرجل لما قال له: (ألي توبة؟ قال له: لا) لجأ إلى عالم آخر يسأله عن هذه المسألة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فدل على راهب عالم). تجريد الأول من وصف العلم دلنا على أنه جاهل (راهب) أي: متعبد، ومن أعظم أبواب الخلل اختلاط الأزياء والسمت، دخول من لهم سمت العالم ووصف العلماء مصيبة عظيمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يميز بين العالم والمتشبه به، فإذا قيل: أين العالم الفلاني الذي في البلد؟ يشار إلى فلان، مع أنه ليس من أهل العلم، إنما تدين بزي أهل العلم فظنه الناس كذلك. أذكر قصة ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي: أن رجلاً كان يتزيا بزي العلماء ركب سفينة مع أناس، فهبت عليهم ريح عاصف، فجاءوا إليه فقالوا له: ماذا نفعل؟ قال: كل إنسان ينذر نذراً إن نجاه الله تبارك وتعالى من هذا ليوفين بنذره، فكل شخص نذر إن نجاه الله -مع أن هذا النذر المشروط متكلم فيه- ليوفين بنذره، فلما أنجاهم الله تبارك وتعالى كل منهم وفى بنذره، فلما جاء الدور على هذا الذي استفتوه، قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس عندي شيء أنذره، ولكن امرأتي طالق: من وجهك ثلاثاً!! هذا عجيب جداً! لذلك إذا كان هذا الرجل يرتدي جبة أو شيئاً من هذه الملابس وليس كهؤلاء -كما يقول الشوكاني - يعد في جملة المتعاقلين. أي: ليس بعاقل ولكنه متعاقل، فإذا قيل: عدوا لنا العقلاء دخل هذا معهم؛ لأن له سمت العقلاء فقط، ولكنه ليس كذلك.

جواب الحكيم وحاجة العالم إليه

جواب الحكيم وحاجة العالم إليه فلما لطف الله تبارك وتعالى بهذا الرجل، قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) فدل هذه المرة على راهب عالم، فقال له: (ألي توبة؟ قال له: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا). وهذه الإجابة يسميها العلماء بجواب الحكيم، جواب الحكيم: هو الزيادة في الجواب على سؤال السائل؛ لأن حاجة السائل لا تتم غالباً إلا بها. ولذلك يسمونه جواب الحكيم لماذا؟ لأن المفتي فقيه النفس، فلما سأله إنسان هذا السؤال راعى أنه قد يستشكل شيئاً ما، فزاده جواباً ليعالج هذا الاستشكال، لاحتمال أن يقابله بعد ذلك. ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الحكماء ضرب المثل الأعظم في هذا الجانب، ومنه أخذوا هذا التعريف، ففي السنن بسند قوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجال من بني عبد الدار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، وإنما سألوا عن طهورية ماء البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه) وكان يكفي هذا القدر بالنسبة للجواب عن سؤالهم، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) فلم أعطاهم هذه الزيادة؟ الذي يستشكل طهورية ماء البحر لأن يستشكل ميتته أولى، لاسيما إذا لم يكن عنده دليل بحل ميتة البحر، فهو حينئذٍ يأخذ بعموم الآية المحرمة للميتة في القرآن: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] (الميتة) أي: كل أنواع الميتة. وكيف لا يستشكل أمر الميتة على أمثال هؤلاء وقد استشكل على من هو أعظم منهم أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، كما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما في غزوة سيف البحر، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة في غزوة من الغزوات، وأعطانا جراب تمر، فكان يعطينا حفنة حفنة، ثم يعطينا تمرتين تمرتين، ثم يعطينا تمرة تمرة، فكنا نمصها ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر كنا نضرب ورق الشجر بقسينا فنأكله، حتى رفع لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر) حوت كبير جداً، يقول جابر بن عبد الله: (نزلنا ثلاثة عشر رجلاً في وقب عينه) وكانوا يأخذون الدهن بالقلال من عينه، قال: (وجاء أبو عبيدة فنصب عظماً من عظامه، فأتى بأعلى بعير وركبه أطول رجل فمر من تحته) يعني: دابة عظيمة جداً. حسناً: ما كان موقف أبي عبيدة وهو الأمير؟ أول ما رآه قال: ميتة لا تأكلوه. ليس عنده الحديث الذي يدل على حل ميتة البحر، وعنده النص القرآني فأعمله، وقد استدل العلماء بهذا فقالوا: إن الإنسان إذا وجد دليلاً عاماً لا يجوز له أن يتوقف في العمل به بحثاً عن الخاص) لا يقول: لعله مخصوص، أو يقول: لعله منسوخ، أو يقول: لعله مقيد؛ فيتوقف عن العمل به، بل يجب عليه أن يعمل بالعموم حتى يجد الخاص؛ ولا يتوقف عن العمل بالعموم بحثاً عن الخاص لأنه قد لا يوجد مخصص لمثل هذا العام. فـ أبو عبيدة بن الجراح ما توقف، وإنما عمل بالعام الذي عنده، وكما قال ابن عباس في صحيح مسلم: (أفلح من انتهى إلى ما سمعه). قال أبو عبيدة: (ميتة لا تأكلوه، ثم رجع إلى نفسه فقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا) فخرج هذا التأويل على الآية أيضاً: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]. فإذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح يستشكل هذا فلأن يستشكله بعض الأعراب الذين لم يخالطوا النبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى، إنما كان الواحد منهم يأتي لماماً إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام يسأله ثم ينصرف. أضف إلى ذلك أنهم في قولهم: (إنا نركب البحر) فهذا يدل على ديمومة ركوب البحر بالنسبة لهم، فقد ينفد زادهم، فإما أن يأكلوا من ميتة البحر وإما أن يموتوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام راعى هذا بالنسبة لهم لما رأى استشكالهم للشيء اليسير علم أن استشكالهم للأعظم أولى فدلهم على ذلك. إذاً: تتمة الجواب والنصح لا تكون إلا بذكر مثل هذه الزيادة. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما جاءته المرأة بصبي صغير فقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال لها: نعم، ولك أجر) مع أنها ما سألت عن الأجر، وكان الجواب يتم (بنعم) إنما قال لها: (ولك أجر) تحفيزاً؛ لأن البشر دائماً لا يعملون إلا لهدف ومقصد، ولو أن محض العمل بدون أجر ما وجدت أحداً يتكلف، ولذلك جعل الله الجنة والنار جزاءً، وهذا مع أنه يدرك بشيء من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها). الإنسان إذا غرس الفسيلة -وهي النخلة- إنما يغرسها لما يؤمل من أنه سيأكل من ثمرها أو أولاده أو أي إنسان آخر، فإذا علم أنه لن يأكل منها إنسان ضعفت همته وراح وازعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -لا يقول: لمن أغرسها؟ ومن الذي سيأكل منها وقد قامت الساعة؟ لا- فليغرسها) يعني: خالف نظرتك: أنك لا تفعل الشيء إلا لهدف. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (ولك أجر) فهو يحفز أي شخص معه صبي أن يأخذه بغية الأجر. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل منا يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس) فانظر زيادة الجواب عرفتنا بصفة من صفات الله تبارك وتعالى، ثم عرفتنا بتعريف الكبر. فجواب الحكيم هو: أن يزيد المفتي السائل شيئاً في الجواب لا تتم حاجة السائل من الجواب غالباً إلا به، فعندما تقرأ في الكتب التي صنفت في الآداب -آداب الفتوى والمفتي والمستفتي- تراهم يقولون: (لا يجوز للمفتي أن يزيد عن حاجة السائل في الجواب)، فبعض الناس قد يستشكل مثل هذه القاعدة مع ما ذكرناه من الأحاديث. نقول: لا إشكال؛ لأنهم قالوا: (لا يزيد عن حاجة السائل في الجواب)؛ لأن الزيادة عن حاجة السائل قد تشوش عليه أصل الجواب، كأن يقول لك إنسان: ما حكم القراءة خلف الإمام؟ فتقوم تسرد له مذاهب العلماء وأدلتهم وتناقشها، فتشوش على الرجل من جهة الفتوى، ولا يعرف ما الذي يخرج به، هذا هو المنهي عنه. لذا قلنا قبل ذلك: إن مشروعية السؤال إنما هي لرفع الإشكال، وليس أن يدخل السائل في هذه الدوامات. إذاً كلام العلماء في منع الزيادة في الجواب أي عن حاجة السائل، أما إذا كانت حاجة السائل لا تتم إلا بالزيادة على الجواب فمن فقه النفس -أي: للمفتي- أن يزيده ذلك.

العابد الجاهل ضحية لجهله

العابد الجاهل ضحية لجهله (فدلوه على راهب، فقال: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً ألي توبة؟ قال له: لا؛ فقتله). هذا الراهب صار ضحية لسانه لجهله، فإنه أخطأ مرتين: الخطأ الأول: أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي، (ألي توبة؟ قال: لا)، وما يدريك؟ التوبة هذه ما لأحد أبداً حق في أن يقحم نفسه فيها ولا أن يقول: تيب على فلان أو لم يتب، هذا ليس من اختصاص أحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول -كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه في البخاري وغيره-: (قال رجل لأخيه: والله لا يغفر الله لك. فقال تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ، قد غفرت له وأحبطت عملك) وما أدراه أيغفر له أم لا؟ أتخذ عند الله عهداً؟ وفي رواية الطبراني لهذا الحديث قال الله تبارك وتعالى لذلك النبي: (مره فليستأنف العمل) كل عمله الماضي أحبط فليبدأ من جديد؛ بسبب كلمة قالها. وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجد يقرع المقصر ويقول: تب إلى الله فإنه لا يحل لك ذلك، فقابله يوماً فوعظه فأكثر عليه، فقال له المقصر: خلني وربي، أبعثك الله عليَّ رقيباً أم جعلك عليَّ حسيباً؟ فقال له: والله لا يغفر الله لك! فقبضهما الله تبارك وتعالى ثم قال للمجد: أكنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً؟ خذوه إلى النار، ثم قال للمقصر: خذوه إلى الجنة برحمتي). هذا الباب لا يمكن أن يفتي فيه عالم، إنما الجاهل هو الذي يتجرأ، كيف لا والإنسان نفسه لا يدري أيقبل عمله أم لا؟! فإن كان عاجزاً عن معرفة مصيره فلأن يكون أعجز عن معرفة مصير غيره أولى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها لما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون مغبة الحساب أمام الله تبارك وتعالى، قالت: (يا رسول الله! أهذا الذي يزني ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق هؤلاء أقوام جاءوا بصلاة وصدقة وصيام، ثم يخشون ألا يتقبل منهم) يخشى ألا يتقبل منه رغم أنه يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يفعل الصالحات ولا يفعل المنكرات، ولكنه لا يدري أيقبل الله تبارك وتعالى منه عمله بفضله أم يرده عليه بعدله. فهذا الباب مغلق ولا يكون إلا لنبي الله تبارك وتعالى يطلعه على الغيب فيما يتعلق بفلان أو مصير فلان، أما بقية البشر فلا يجوز لأحد قط أن يلج هذا الباب؛ لذلك عرفنا أن الراهب هذا جاهل بسبب فتواه، فإن أهل الورع يستعظمون الإكثار من المباحات فكيف إذا جهر بالمحرمات؟! ولذلك الشيطان يسهل عليه أن يدخل على أهل الورع الذين ليس عندهم علم ويلبس عليهم بخلاف العلماء. أهل الورع هم الذين يكرهون الإكثار من المباحات فمثلاً: قرأت لبعضهم -وينسبونه لبعض الزهاد المتبوعين، ولا أدري بصحة ذلك-: أن رجلاً جاء إلى هذا العابد فقال: إن شاتي سرقت. فذهب هذا العابد إلى قصاص، وقال له: كم تعيش الشاة؟ قال مثلاً: خمس سنوات، فحرم على نفسه أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات لماذا؟ خشية أن يأكل من الشاة المسروقة. فالإنسان إذا عمل بهذا في خاصة نفسه -لا بأس به، والورع هذا ليس له حد، تنقطع فيه أعناق الإبل كما يقال، ولكن لا يأتي الإنسان فيفرضه على أخيه، ولا يفتي به، فهناك فرق بين أن يتبنى الإنسان الشيء في نفسه وبين أن يفتي الناس به. فمن جهة الفتوى لا يحل لأحد أن يقول: لا تأكل، لكنه قد يعمل به في خاصة نفسه، فتصور رجلاً قد يصل به الورع إلى هذه الدرجة وجاءه رجل فقال: إني قتلت مائة نفس، فالحمد لله أن روحه لم تخرج من بشاعة الذنب! لذلك أول ما قال: قتلت مائة نفس ألي توبة؟ قال له: لا. بادر وأغلق باب التوبة في وجهه. الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب: أنه ما كان عنده فقه النفس الذي هو: مراعاة مقتضى حال المخاطب، أو حالة الفتوى على حال المستفتي، أو وضع الأمور في مواضعها هذا هو معنى فقه النفس، والعلماء يشترطون في المفتي أن يكون فقيه النفس. فهذا العابد لم يكن عنده من فقه النفس شيء، بدليل أنه لم يراع حال المستفتي، فهو أمام رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً فما هو المانع أن يضيف على التسعة والتسعين واحداً آخر؟ إذا علم أنه إن أغلق في وجهه باب الأمل، فكان المفروض أن يداريه ولا يجيب، يقول: دعني أراجع اسأل فلاناً مر عليَّ بعد يوم أو بعد يومين إلخ، والمداراة هذه مسألة مطلوبة لاسيما إذا واجه الإنسان فتوى معينة ليس عنده عنها جواب أو هي مما عمت بها البلوى ولم يكن عنده فيها جواب حاسم، فله أن يخرج منها بطريقة ما. فهذا الرجل لم يكن عنده من فقه النفس شيء، فدلنا ذلك على أنه لم يكن عالماً حقاً، ولذلك راح ضحية جهله.

فاسألوا أهل الذكر

فاسألوا أهل الذكر فأذن الله تبارك وتعالى له بتوبة فقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض). قالوا قديماً: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا ما أحسن الإنسان السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، لأن الجواب كالصدى بالنسبة للصوت. فهذا الرجل قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) الإنسان إذا مرض لا يرضى بممرض عام أو طبيب لا زال متعلماً، يقول: أنا أريد رئيس القسم، لماذا رئيس القسم؟ يقول: لأنه أصبح ضليعاً، ولديه خبرة، فسبحان الله! الإنسان يعامل دينه معاملة بدنه، فعندما يريد أن يستفتي في مسائل الدين لا يرضى بأي إنسان يقابله، حتى وإن تزيا بزي أهل العلم، إنما يسأل عن أعلم الناس، وهذا هو الواجب على العامي أن يسأل عن أعلم الناس، يقول: أريد أعلم الناس، حتى لو دلوه على رجل لم يكن كذلك فقد فعل ما أمر به، كما قال تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] (أهل الذكر): هم العلماء الراسخون.

الحديث من الإسرائيليات الصحيحة

الحديث من الإسرائيليات الصحيحة هذا الحديث من الإسرائيليات الصحيحة التي حفظت لنا بالسند الصحيح، ويظن بعض الناس إذا أطلقت كلمة (الإسرائيليات) فإنها ترادف المكذوبات، والحقيقة أن الإسرائيليات على ثلاثة أقسام كما هو عند أهل العلم: القسم الأول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتج به في ديننا. القسم الثاني: ما صح عن بني إسرائيل أنفسهم، وهذا القسم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم بنوا إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) فهذا القسم نستأنس به في توضيح بعض النصوص الشرعية عندنا، ولكن لا يحتج به، وإنما يتخذ كعاضد فقط. فمثلاً: القصة التي رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة: أن داود عليه السلام اصطفى رجلاً من أهل مملكته، فكان الناس يغبطونه على مكانته من داود عليه السلام، فلما مات داود عليه السلام قال سليمان: من أصطفي؟ فقال: لا أجد مثل جليس أبي فقربه؛ فزادت غبطة الناس عليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الناس عياناً، فدخل على سليمان عليه السلام فلحظ الرجل - (لحظه) أي: نظر إليه بطرف عينه- فارتعد -أي: الجليس- فلما خرج ملك الموت قال الجليس لسليمان: من هذا الذي لحظني؟ قال: إنه ملك الموت. قال: وأنا أكون في بلدٍ فيها ملك الموت! قال: ماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتقذف بي في أرض الهند. ثم جاء ملك الموت عليه السلام فقال له سليمان: لماذا لحظت الرجل؟ قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته -أي: عندك- تعجبت! فلما ذهبت إليه في الموعد المعلوم وجدته هناك، فانتزعت روحه. فيمكن أن تذكر هذه القصة عند قوله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]. القسم الثالث: ما لم يصح عن بني إسرائيل أنفسهم، فهذا القسم لا يحتج به. فحديثنا من القسم الأول -القسم الصحيح- وهو: ما حفظ لنا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الحديث يقول: (إن رجلاً ممن كان قبلنا) وهذه القصة حدثت بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأن الرهبنة ما ظهرت إلا في أتباعه، كما قال تبارك وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].

هل لقاتل المؤمن توبة؟

هل لقاتل المؤمن توبة؟ هذا الرجل قتل تسعاً وتسعين نفساً، ارتكب أعظم الجرائم بعد الشرك وهو: قتل النفس، ولعظم هذه الجريمة يكون (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، ولعظم هذه الجريمة تنازع فيها الفقهاء: هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ والقاعدة المعروفة تقول: (إن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة) أي ذنب له توبة بدءاً من الشرك إلى أقل ذنب، ومع ثبوت هذا الأصل عند العلماء تنازعوا هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ هذا يشعرك بعظم هذه الجريمة الكبيرة، فكان ابن عباس رضي الله عنهما وزيد بن ثابت وإحدى الروايات عن أبي هريرة يقولون: (ليس لقاتل المؤمن توبة) كما جاء في البخاري قال سعيد بن جبير: تنازع أهل الكوفة هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ فرحلت إلى ابن عباس فقال لي: لا. ثم قال: إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان ولم ينسخها شيء. ولكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أفتى بأن قاتل المؤمن له توبة، كما في الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: (كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، ثم خطبت غيري فغرت عليها فقتلتها، ألي توبة؟ قال له: أمك حية؟ قال: لا. قال: اذهب وتب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت. قال: فلما مضى الرجل قلت لـ ابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟ قال: ما أعلم شيئاً يقرب إلى الله مثل بر الوالدة). فهذه الرواية صحيحة عن ابن عباس أنه يرى أن قاتل المؤمن له توبة، ويبدو لي أن ابن عباس رضي الله عنهما كانت فتواه تتغير على حسب الحالة، فقد صح بسند قوي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه: أولم تفتنا أن قاتل المؤمن له توبة؟ قال: نعم، ولكني رأيت في عينيه الشر)، فهو يريد أن يعلم أن له توبة، فيقتل، ثم يتوب، فلاحظ ابن عباس هذا فيه، ولذلك كان من الأصول التي ذكرها أهل العلم في الكتب وصنفوها في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي: (أنه يجوز للمفتي أن يفتي بالأشد إن كان له وجه في الدليل مراعاة لحال المستفتي): وليس هذا من التلاعب كما يظن بعض الناس، لأنه لابد أن يكون للفتوى وجه في الدليل. والمفتي العاقل هو الذي ينزل الفتوى على حال المستفتي، مثال هذا في العصر الحاضر: ما أفتى به فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين فيما يتعلق بالنقاب، فتوى الشيخ خرجت مجملة هكذا: (إن النقاب لا يجوز) النقاب: هو البرقع، وابن عثيمين يرى السدل من شعر الرأس إلى أخمص القدم، يقول: (وقد كان هذا البرقع موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكني اليوم لا أرى جوازه) فبعض الناس طار بها وقال: إن الشيخ يحرم النقاب. الحقيقة: أن الفتوى إنما تنزل على ما يفعله بعض النساء في المملكة، كانت تنزل من البرقع قليلاً وترفع الرأس قليلاً وإذا بنصف وجهها يظهر. فالمفتي إذا كانت الفتوى عنده مقيدة بشروط فعلم أنه إذا أطلق الجواز بالشروط أخذ الناس الفتوى بغير شروط جاز له أن يغلق الباب، وتكلم العلماء في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي على هذا بكلام طويل جداً ونفيس، لعلنا نتعرض له بشيء يسير عند مناسبته في هذا الحديث إن شاء الله تعالى. فالحاصل: أن أهل العلم لما اختلفوا في مسألة توبة القاتل فهذا يدل على عظمها، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] فجمع عليه خمس عقوبات. والصحيح عند أهل العلم أنه لا يوجد ناسخ ومنسوخ بين آية النساء وبين آية الفرقان: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * A=6002924> إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70] فقال العلماء: يحمل المطلق على المقيد هنا. إذاً الجمع بين الآيتين: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] إذاً تفهم الآيتان بهذا، وهذا هو الذي اختاره جماعة من أهل العلم منهم القرطبي وغيره. فهذا الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، كيف لا وذنبك مهما عظم شيء ورحمة الله وسعت كل شيء؟! ولذلك لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون حقاً، وجاء في الحديث الصحيح: (خلق الله الرحمة مائة جزء، فأنزل على الأرض جزءاً واحداً يتراحم منه الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بجزء واحد من الرحمة، فإذا يئس العبد من مائة جزء من الرحمة لا يكون مؤمناً أبداً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تحريك الإصبع في التشهد للصلاة

حكم تحريك الإصبع في التشهد للصلاة Q هذا سائل يسأل عن تحريك الإصبع في التشهد، هل هو شاذ أو ليس بشاذ؟ لأن هناك كتاباً جديداً اسمه (البشارة بنفي التحريك وثبوت الإشارة) قال فيه: (إن الصواب أن المصلي إذا تشهد أنه يشير بإصبعه إلى القبلة ولا يحركها) ذكر أحاديث وآثاراً في ذلك. والشيخ الألباني رحمه الله ذكر في كتابه (الصلاة) وفي غيره من الكتب -تمام المنة فيما أظن- أن تحريك الإصبع هو الراجح، فيقول: إن الذين صرحوا بالإشارة يقولون: إن التحريك شاذ، فهل دعوى الشذوذ صحيحة؟ A اعتقاد الشيء فرع عن تصوره، نعرف أولاً الشاذ كقاعدة، ثم نفرع على هذه القاعدة. التعريف المختار للحديث الشاذ هو ما عرفه الإمام الشافعي رحمه الله قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره، بل الشاذ: أن يخالف الراوي غيره) إذاً لابد في الشذوذ من ثبوت المخالفة. أي أنواع المخالفة التي يعنيها الإمام الشافعي؟ هي المخالفة التي يتعذر معها الجمع، فإذا أمكن الجمع بين الأدلة زال الخلاف وقلنا: لا يكون ذلك من الشاذ. إذاً: لا يكفي الفصل في الحديث الشاذ الاقتصار على أصول الحديث فقط، بل لابد من دراسة مبحث التعارض والترجيح على الأقل في أصول الفقه، ولا يتم التوفيق بين الروايات إلا إذا أتقنا مبحث التعارض والترجيح. نأتي على تحريك الإصبع أهو شاذ أم لا؟ الإمام الشافعي قال: (ليس الشاذ من الروايات أن يروي الراوي ما لم يروه غيره) قد تروي شيئاً لا يرويه غيرك ولا يكون شاذاً، تكون تلك زيادة ثقة، زيادة حفظ منك، فنأتي لنرى هذه المسألة الحديث الذي ورد في هذه المسألة في السنن حديث وائل بن حجر يرويه زائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه عن وائل بن حجر: فذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (وكان ينصب يده يحركها). قالوا: إن جمعاً من أصحاب عاصم بن كليب ذكروا هذا الحديث ولم يذكروا ما ذكره زائدة، وهم اثنا عشر راوياً -تقريباً- من الثقات اجتمعوا في الرواية عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر فقالوا: (يشير بإصبعه) وزائدة بن قدامة وحده قال: (يحرك) فقالوا: هذا شذوذ. نقول: لا، لابد من ثبوت المخالفة حتى نسمي الحديث شاذاً، فهل هناك مخالفة بين الحديثين أم لا؟ الجواب: لا مخالفة؛ لأن الإشارة تجامع التحريك غالباًَ، كأن يقال لك مثلاً: أين محمد؟ فتقول: هو ذاك، فأنت لم تحرك ولم تقل له: هو ذاك فقط، وإنما قلت: هو ذاك وأشرت، ولكن الإشارة تجامع التحريك غالباً، إذ لا تفهم الإشارة غالباً إلا بتحريك وإلا كانت الإشارة عارية، لا تستطيع أن تفهم ماذا يريد هذا الإنسان، فإذا كانت الإشارة تجامع التحريك غالباً فما هو المانع أن يحفظ زائدة بن قدامة صفة فهم حفظوا الإشارة وهو زاد التحريك. إذاً: زائدة بن قدامة -لاسيما وهو ثقة ثبت صاحب سنة، ليس عليه مظنة أبداً، قال ابن حبان: (كان من الثقات المتقنين، كان يعيد السماع ثلاث مرات) فإذا سمع حديثاً لا يسمعه مرة واحدة إنما يسمعه ثلاث مرات- إذا جاز أن تقول: هذه زيادة شاذة فأرني من الذي تقبل زيادته إن ردت زيادة زائدة؟!! ومثال هذا ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء رحراح -أرجو أن ينتبه الإخوة لكلمة (رحراح) - فوضع يده على فم الإناء، وقال: توضئوا باسم الله) إلى آخر الحديث المشهور. روى هذا الحديث جماعة من الثقات نحو ستة: عن حماد بن زيد، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك فقالوا: (بإناء رحراح)، وخالفهم أحمد بن عبدة الضبي في هذه الكلمة، فروى هذا الحديث عن حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء زجاج) إذاً الجماعة قالوا: (بإناء رحراح) وأحمد بن عبدة قال: (بإناء زجاج). ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: (حكم جماعة من الحذاق بأن أحمد بن عبدة صحفها) انقلب عليه: (رحراح) قلبها (زجاج). ابن خزيمة الذي روى رواية أحمد بن عبدة ما تبنى هذا، بل بنى فقه الباب على هذا الحرف، فقال رحمه الله: (باب إباحة الوضوء بآنية الزجاج، والرد على المتصوفة الذين يزعمون أن هذا إسراف، إذ الخزف أبقى وأصلب). أي: افرض أن هذا الإناء وقع منك وانكسر، ستشتري غيره، بينما لو كان حديداً سواء وقع أو لم يقع لا ينكسر، إنما هذا إسراف لأنه معرض للكسر، فالإمام ابن خزيمة رد عليهم بهذا الحرف، ثم روى الحديث ثم قال بعد ذكر الحديث: ورواه جماعة عن حماد بن زيد فقالوا: (رحراح) مكان (زجاج) ثم قال -وهذا هو الفقه، وابن خزيمة رحمه الله كان من الأئمة القلائل الجامعين بين الفقه والحديث؛ ولذلك كانوا يسمونه بإمام الأئمة-: و (الرحراح) هو الواسع من آنية الزجاج لا العميق منه. فوفق بين الروايتين، فهو إناء رحراح من زجاج، فـ أحمد بن عبدة ذكر جنسه وهم ذكروا صفته، فأين التعارض بين الروايتين؟! ومعلوم من أصول العلماء: أن حمل قول العالم أو روايته على ما لا يخالف الدليل أولى من رده، فإذا كان الجمع لائقاً فهو الواجب، ولا يلجأ إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع فيه. كذلك مسألة الإشارة والتحريك، هو ذكر صفة الإشارة وهي التحريك، وهذه زيادة منه فلابد أن تقبل. فالذين يقولون: إن رواية زائدة بن قدامة شاذة لم يصيبوا؛ لأنه لم تتحقق المخالفة، بل الجمع ممكن، والحقيقة هناك مدرسة موجودة تتبنى مثل هذا، وأحدثت شراً مستطيراً في الكتب، فلا يرون رجلاً خالف رجلين إلا حكموا على الرجل بالشذوذ مباشرةً! وهذا ليس من تصرف العلماء الجهابذة. ومبحث (الشاذ) من أدق المباحث في علم الحديث وأعرقها، لذلك قلما تعرض عالم بتصنيف للتفريق ما بين الشذوذ ومابين زيادة الثقة لماذا؟ لأنه ليس له قاعدة، إنما تعتمد على إتقان العالم للأصول، ثم كثرة ممارسته التي سماها علماء الحديث بالذوق. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، ونسأل الله عز وجل أن يتجاوز بها عنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

السنة في رفع اليدين في الصلاة

السنة في رفع اليدين في الصلاة Q نجد من الإخوة في الصلاة من يرفع يديه في كل ركعة، ومنهم من يرفعها في التكبيرة الأولى والثالثة فقط، فأيهما أرجح؟ وهل من يفعل هذا وهذا يكون قد أخطأ؟ A هذه من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، مثل رفع اليدين في تكبيرات الجنازة، وتكبيرات العيدين، كل هذا مما يسوغ الخلاف فيه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن المسألة كشيء أرجح وأفضل أن يرفع في تكبيرة الإحرام، ثم يرفع إذا أراد أن يركع، ثم يرفع إذا قام من الركوع، ثم يرفع عند القيام من التشهد الأوسط.

أفضل كتب الزهد

أفضل كتب الزهد Q ما هو أفضل كتاب في الزهد؟ A كتب الزهد المسندة عموماً من أفضل الكتب، فكلام السلف كله بركة ونور، هناك كتاب الزهد لـ هناد، والزهد لـ وكيع، والزهد للإمام أحمد رحمه الله، والزهد لـ ابن المبارك، خذ هذه الكتب وتجاوز السند إن لم تكن لك همة في الأسانيد، واقرأ فستقف على أقوال هؤلاء العلماء في الزهد تنفعك إن شاء الله، ومن أفضل الكتب وأمتعها كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله، فهذا الكتاب من أنفس الكتب فقد جمع فيه سير العلماء، وفرق فيه يما هو موجود في كتب الزهد في تراجم العلماء كل بما يخصه.

حكم التمذهب وطلب العلم على مذهب معين

حكم التمذهب وطلب العلم على مذهب معين Q هل يجوز لطالب العلم المبتدئ أن يتمذهب بمذهب معين من المذاهب الأربعة حيث تعرض له كثير من مسائل الخلاف، ولا يدري ما هو القول الراجح؟ نرجو الإفادة. A أما بالنسبة للتمذهب كوسيلة لتنظيم الدراسة فهذا جائز، وأنا سألت الشيخ الألباني رحمه الله؛ لأنهم نقلوا عنه أنه يهدم المذاهب الأربعة، والشيخ مظلوم وبريء من هذا القول، فسألته هذا السؤال بعينه: هل يجوز لطالب العلم أن يتمذهب من باب تنظيم الدراسة؟ لأنه لو درس الفقه على الراجح لن يصل إلى شيء، ويربى الطالب على صغار العلم وليس على كباره؛ لأنه إذا دخل في وسط العلماء الذين يرجحون ويرد بعضهم على بعض وليس عنده إدراك ولا تمييز فلن يحصل طائلاً من هذا الخلاف، لذلك هو يبدأ بالمتفق عليه، كأن يدرس -مثلاً- المتون من كتب أحد المذاهب كتنظيم للدراسة. وهناك شرط: ألا يجعل المذهب ديناً لا يتجاوزه، حتى وإن ظهر الدليل على خلاف المذهب؛ لأن أهل العلم جميعاً ينهون عن ذلك. فقلت للشيخ حفظه الله: بأي المذاهب تنصح؟ قال: بالمذهب الشافعي ثم المذهب الحنبلي. قال: هذان أفضل المذاهب الأربعة من حيث تفضيل إلى السنة، المذهب الشافعي لثرائه ولكثرة الكتب والعلماء، والمذهب الحنبلي لضبطه على الدليل. وبكل أسف هناك بعض المدارس الموجودة ترد المذاهب الأربعة جملة، وتحرم التقليد حتى على العامي الذي لا يدري شيئاً، وهذا غلوا جداً، ويقولون: لأن التقليد لا يجوز في دين الله. ولا يجوز للعالم أن يقلد. ولا يتصور أن عالماً يفتي في كل مسألة ببحث واستقراء واستفاضة فالأمر لا يتسع إلى مثل هذا، وقد وجدنا أكابر العلماء يذكرون فتاوى غيرهم، كالإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وهؤلاء كان أحدهم، يسأل عن فتوى فيقول: كان سعيد بن المسيب يقول كذا، وكان الزهري يقول كذا. فمسألة أنه لابد للإنسان أن يتحرى الحق، ويبحث المسألة، وينظر إلى أدلة المخالفين، ثم يمشي في مسألة التعارض والترجيح، وفي الآخر يرجح قولاً من الأقوال! ما أظن أن أحداً من العلماء يوجبه على كل إنسان، إنما كل إنسان بحسبه، وقد أسقط الله تبارك وتعالى الحرج عن هذه الأمة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهل يتصور أن آتي على رجل فلاح وأقول له: تعال نناقش التعارض والترجيح بين الأدلة، فإذا تعارض دليلان نترك كذا وندع كذا إلخ! هذا نوع من التعجيز، فالذي يقول: إن التقليد لا يجوز حتى على مثل هذا الرجل غال جداً، والذي يقول: لا يجوز تجاوز المذهب حتى وإن ظهر الدليل أيضاً هذا غلو شديد، نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي الأمة إلى الصراط المستقيم.

القيام من السجود على اليدين لا الركبتين

القيام من السجود على اليدين لا الركبتين Q القيام من السجود على اليدين أم على الركبتين؟ A هذا مبني على المسألة السالفة، فإذا قلنا في النزول إنما يكون باليدين يكون آخر شيء يمس الأرض منك في حالة القيام اليدان، أي: النزول يكون باليدين والقيام يكون أيضاً على اليد.

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع

حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع Q ما حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع؟ A لا نريد أن نخوض في هذه المسألة، ولكن كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (إن شاء فعل وإن شاء ترك) وعلماؤنا في الحجاز -جزاهم الله خيراً- الذين يفتون في هذه المسألة قالوا: إنه لا يلزم التشديد فيها ولا ينبغي الإنكار فيها، وإن كان الأقوى من جهة الدليل عدم وضع اليدين على الصدر، ولكن إذا وضعهما إنسان فلا ينكر عليه هذا الإنكار الشديد، والله أعلم.

حكم البيع بالتقسيط

حكم البيع بالتقسيط Q ما حكم بيع السلعة مؤجلاً بالتقسيط؟ A الذي عليه أكثر أهل العلم: جواز البيع المقسط، وهناك خلاف بين العلماء المانعين من جهة التخصيص والذين يرونه رباً، وبين الذين يجيزونه، والخلاف بينهم في فهم معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. القسم الأول: الذي يرى أنه ربا، وكان منهم سماك بن حرب راوي الحديث، ومنهم الإمام النسائي صاحب السنن فقد بوب على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، قال: وهو أن يقول: أبيعك هذه نقداً بكذا ونسيئة بكذا. فقالوا: إنه مجرد عرض سعرين للسلعة الواحدة يعتبر بيعتان في بيعة، لكن نحن لو نظرنا إلى لفظ البيع وهل تم بيعه بمجرد عرض السعر أم لابد من قبول وإيجاب ولابد من الخيار والافتراق وهذه الأشياء المعروفة، ولأنه في النهاية لا تتم إلا بيعة واحدة: إما بالنقد وإما بالتقسيط. والعلماء حملوا النهي عن بيعتين في بيعة كأن يبيع البائع السلعة بعشرة جنيهات، ويتم البيع على أساس أنه يعطيه كل شهر مبلغاً من المال، فيأتي صاحب السلعة (البائع) فيقول للمشتري: تبيعني السلعة بثمانية جنيهات نقداً فيقول له: خذ. فباعها له مرة أخرى (بثمانية) لكن نقداً، فهذا يسمي بيعتان للسلعة الواحدة، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء، ولذلك يجيزون بيع التقسيط، والله أعلم.

المحدثون هم الفقهاء لا العكس

المحدثون هم الفقهاء لا العكس Q كثيراً ما يقول الإخوة أن الشيخ الألباني -رحمه الله- محدث وليس بفقيه؟ A الذي قال هذه الكلمة إذا كان بمستوى الشيخ يستطيع أن يحكم عليه فله ذلك، ولكن لا أظن أن يكون قائل هذه الكلمة عادة في مستوى الشيخ، بل لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يساوي قلامة ظفر الشيخ. هذه دعوة قديمة التصقت بأهل الحديث من قوم يبغضونهم، فكيف يتصور في الذي يحمل الأدلة أنه لا يفقهها؟ أيفقهها الذي ليس عنده من الدليل شيء؟ ولذلك كانوا يشنعون على أهل الحديث، يقول بعض العلماء: دخلت الكوفة فإذا قاض لهم -أي: لأهل الرأي- يقول في حلقة: مساكين أهل الحديث لا يدرون الفقه. قال: وكانت بي علة فحبوت إليه، وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيء قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيء قال زيد بن ثابت؟ فسكت، فقلت: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا فأي شيء قال أبو بكر؟ وأي شيء قال عمر؟ وأي شيء قال أبو عبيدة؟ فسكت، فقلت له: أنا أخف أصحاب الحديث، سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ وكانوا دائماً يصفون أهل الحديث بذلك، ولذلك لما جاء الإمام الشافعي رحمه الله وقد جمع بين الفقه والحديث ناظر أهل العراق وأوقفهم، حتى سماه أهل مكة: ناصر الحديث، وهو شامة في جبين المحدثين، ولذلك إذا عد فقهاء المحدثين يذكر الشافعي رحمه الله في مقدمتهم لماذا؟ لأنه أوقف دعوى أهل الرأي أن أصحاب الحديث لا يفقهون، حتى إن الشافعي كان لا يعجبه كثير مما يقول أهل العراق، لكن أدبه حمله على ألا يناظر شيخه محمد بن حسن الشيباني، مع جزم العلماء بأن الشافعي أعلم من محمد بن حسن الشيباني، كيف لا وهو معدود من المجتهدين على الإطلاق، ومحمد بن حسن الشيباني معلوم أنه من شيوخ الناس ومن مجتهدي المذهب فكان مع رسوخه في العلم وتواضعه يترك هؤلاء حتى يقوم الشيخ ويبتدئ يناظر كل أهل المجلس، فلا يستطيعون معه جواباً لماذا؟ لأن عنده أحاديث، وعنده: قال حدثنا أخبرنا. فلما ضجوا منه ولا يجدون له جواباً، وكان حظهم من علم الحديث قليلاً شكوا ذلك إلى محمد بن الحسن وقالوا: إنك إذا قمت من المجلس ناظرنا الشافعي فما نستطيع معه جواباً، فقال له محمد بن الحسن: (إنه بلغني أنك تناظر أصحابي تناظرني؟ فقال له: إني أجلك عن المناظرة. قال: لابد. فتناظر معه في مسألة المياه، فلما تناظر معه طويلاً في مسألة المياه -وهذه المناظرة ملحقة بكتاب الأم- قال: إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: (تخاطأ) فقال بقولكم في الماء لكان قد أحسن التخاطؤ. ولما جاء إسحاق بن راهويه رحمه الله فكأنه استقل الشافعي، فرسم لمحدثه بالفارسية أن هذا الشافعي ليس بقوي، وكان الشافعي يعرف الفارسية، فعلم أنه يحط عليه، فكان الشافعي متكئاً فجلس وقال له: تناظر؟ فقال له إسحاق: ما جئت إلا لذلك، فتناظروا في المسألة المعروفة في (بيع وشراء بيوت مكة) فظهر عليه الشافعي ظهوراً بليغاً. فمسألة رمي المحدثين بقلة الفقه هذه مسألة قديمة، ما من سوء أن يكون هناك من المحدثين من لم يهتم إلا بفقه الرواية، وهذا كثير، فمن الناس من ينتسبون إلى أهل الطرائق وليسوا منهم، يعني: كثير من الناس يقول: أنا محدث. وتجده لا يعرف شيئاً عن علم الحديث، فهل يجرح أهل الحديث به؟ لا، الشيخ ناصر الدين رحمه الله رجل أحيا الله تبارك وتعالى به السنة، وأحيا به فقه الحديث، وهو يخالف في مسائل كما يُخالف العلماء، له مسائل تفرد بها كما تفرد غيره، فلا يعني ذلك أنهم يطعنون عليه في هذه المسائل التي خالف فيها أنه ليس بفقيه، فما من إنسان إلا وقد خولف. الشيخ حفظه الله لا يعرف قدره إلا من جالسه ورآه، هذا الرجل لو رأيته لقلت: سقط من القرون الثلاثة الأولى، على محياه نضرة السنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها) وأشهد والله العظيم كأن نضرة الحديث على وجهه، رجل إذا اعتقد شيئاً لا يحابي فيه، حتى وإن أدى ذلك إلى ضرره، فحسبه أنه رجل طريد ليست هناك دولة في الدنيا تتبناه، مع الفضل الذي أجراه الله تبارك وتعالى على يديه، وما من رجل ينسب إلى الحديث والسنة في هذا العصر -لا أقول: هذا مبالغة في مدح الشيخ حفظه الله تعالى، وإلا فهو مستغن عن مدح أمثالي- إلا وللشيخ عليه منة وفضل، وكتبه يشهد بها القاصي والداني. وقد سئل سماحة الشيخ العلامة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تبارك وتعالى، قيل له: (أقلت ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ الألباني؟ قال: ما قلت ذلك، لكني أوافق عليه) وكان الشيخ رحمه الله في مجلس عند رجل ممن يعادون الشيخ الألباني، فسأل هذا الرجل الشيخ ابن باز رحمه الله، قال له: ما تقول في حديث كذا وكذا أصحيح؟ قال: عندك كتاب إرواء الغليل؟ الشيخ كان يعلم أن هذا الرجل ممن يعاند الألباني، قال له: عندك إرواء الغليل؟ فقال له: نعم. قال: هات الجزء الفلاني، فصعد الرجل إلى مكتبته وأتى بالجزء وفتحه وقال: اقرأ علينا ما كتب الشيخ. المهم قرأ الرجل وفي الأخير قال: يا شيخ! ما تفعل بهذا الألباني؟ فقال: إن مصنفات الألباني لا يستغني عنها عالم ولا طالب علم. وهذه حقيقة، قد رأينا الذين يكرهونه عيالاً عليه، ويسرقون عمله؛ ولكنهم كاللص الماكر. نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحمه رحمة الأبرار، وأن يهدي هؤلاء إلى معرفة قدر العلماء.

النزول إلى السجود في الصلاة يكون باليدين

النزول إلى السجود في الصلاة يكون باليدين Q أشكلت علينا أمور في الصلاة فأجبنا يرحمكم الله. الأمر الأول: ما هيئة النزول إلى الأرض للسجود؟ A بالنسبة لمسألة النزول إلى الأرض أهي باليدين أم على الركبتين؟ الصحيح في هذا الباب بما لا يدع مجالاً للشك: أن النزول إنما يكون على اليد وليس على الركبة؛ يدل على ذلك الأثر والعقل: أما بالنسبة للأثر: فحديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو صحيح لا علة فيه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) هذا لفظ قاطع في المسألة وفي غاية الوضوح، وأعظم ما أعل به هذا الحديث بقول الإمام البخاري رحمه الله في محمد بن عبد الله بن الحسن - أحد رواة الحديث؛ لأن هذا الحديث رواه الترمذي وغيره من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه- فقال الإمام البخاري: (ومحمد بن عبد الله بن الحسن ما أدري أسمع من أبي الزناد أم لا) هذا ما أعل به. فالإمام البخاري رحمه الله نفى معرفته ولم ينف معرفة غيره، وهناك فرق بين أن يقول: لم يسمع، وبين أن يقول: لا أدري أسمع أم لا. ولو جئنا فنظرنا في ترجمة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بـ النفس الزكية، لوجدنا أنه مدني كان يعيش في المدينة، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان عالم المدينة الأشهر في زمانه، وكان له حلقة مشهورة جداً في المسجد النبوي، فعاصر محمد بن عبد الله بن الحسن أبا الزناد خمسة وأربعين سنة في المدينة أفما التقيا ولو مرة، وهذا مدني وهذا مدني؟! محمد بن عبد الله بن الحسن يعاصره خمسة وأربعين سنة ولا يحضر مجالس أبي الزناد! فالمعاصرة محققة يقيناً. ثم إنه لم يتهمه أحد قط بالتدليس، فإذا أمنا من تدليسه فعنعنته محمولة على الاتصال، ثم المعاصرة يقيناً موجودة -كما قلت- فيقيناً لا هناك سبيل إلى القول: لا أدري أسمع أم لا. وهو على شرط مسلم صحيح، وفهذا غاية ما علل به. أما حديث شريك بن عبد الله النخعي فقد جاء -وهو من حديث وائل بن حجر وأبي هريرة وغيرهم- من طريق يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا هوى إلى السجود انحط، فكان أول ما وصل إلى الأرض منه ركبتاه) قال الدارقطني رحمه الله بعد ما روى هذا الحديث: (تفرد به شريك، وليس بالقوي فيما يتفرد به) وهذا كلام من الدارقطني له وزنه: أنه لم يتابع أحد شريك بن عبد الله النخعي وهو سيء الحفظ، فمعلوم أن سيء الحفظ إذا تفرد لا يقبل منه فكيف إذا خالف؟ فهو أولى وأحرى أن يرد إليه. وقال بعض الناس: إن رواية شريك بن عبد الله النخعي نعم ترد، لكن إذا روى عنه يزيد بن هارون فروايته صحيحة؛ لأن شريكاً ما ساء حفظه إلا بعد ما ولي القضاء في الكوفة، ويزيد بن هارون سمع منه قبل ذلك، وقد نص أهل العلم كـ ابن حبان وغيره أن رواية يزيد بن هارون عن شريك النخعي سالمة من الخلل. ولكن يجاب عن هذا بما رواه الخطيب البغدادي عن يزيد بن هارون في الكفاية قال: (دخلت الكوفة فما رأيت بها أحداً إلا يدلس غير شريك وهشيم بن بشير) فدل على أن يزيد بن هارون دخل الكوفة وأخذ عن شريك بن عبد الله في الكوفة أيضاً. إذاً: فله روايتان: رواية قبل الاختلاط ورواية بعده، فمذهب أهل العلم فيمن حاله هكذا أن يتوقف عن قبول خبره جملة حتى يميز أكانت روايته عنه قبل الاختلاط أم بعده. أضف إلى ذلك أنه صح عن ابن عمر -وقد علقه البخاري بصيغة الجزم في صحيحه-: (أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه). وقد روى الحاكم في مستدركه هذا عن ابن عمر ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الحاكم: (وقد قال به جماعة من الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل). فهذه هي الآثار، وكل حديث فيه الابتداء بالركبتين فهو إما منكر وإما ضعيف جداً، وأحسنها حديث شريك، وقد قلنا: إنه ضعيف ومعارض لحديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأما من جهة العقل: فالبعير أول شيء يصل إلى الأرض منه ركبتاه؛ إذ أن يداه موضوعتان يمشي عليهما، وذكر أهل المعاجم -معاجم اللغة- أن المقدمان من ذوات الأربع يدان، والمؤخران الرجلان. فلما علم بعض الذين يتولون القول بتقديم الركبة ذلك قالوا: إن ركبة البعير ليست في يده! وهذا كلام لا يعرفه أهل اللغة، وقد ذكر أهل المعاجم جميعاً في مادة (ركب) قالوا: (وركبة كل ذي أربعٍ في يديه، وعرقوباه في رجليه)، واستدلوا على ذلك بثلاثة أحاديث: الحديث الأول: وهو صريح جداً في الدلالة على المطلوب -وهو في البخاري وأحمد- عندما طارد سراقة بن مالك النبي عليه الصلاة والسلام، قال سراقة بن مالك: (فدعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين) فدل على أن الركبة في اليد. الحديث الثاني: حديث أنس في الصحيحين عندما صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر ثم قال: (سلوني سلوني! حتى قال عبد الله بن حذافة: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. ورجل قال: أين أبي؟ قال: أبي وأبوك في النار، فضج الناس حتى أكثروا، قال: فجثا عمر على ركبتيه) وفي الرواية الأخرى: (فبرك عمر على ركبتيه) وبوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب البروك على الركب)، فدل هذا على أن البروك لا يكون إلا على الركبة. الحديث الثالث: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت خواتيم البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] قال: (جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبركوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! جاءت التي لا نستطيع) إلى آخر الحديث، فدل على أن البروك إنما يكون على الركبة، والركبة في كلام أهل اللغة لذوات الآربع إنما هي في اليد. إذاً: ما هو أول شيء يصل من البعير إلى الأرض؟ أول شيء ركبتاه وهما في يديه، فإذا كان أول شيء يصل إلى الأرض من البعير ركبتاه فلا يكون أول شيء يصل من المصلي إلى الأرض ركبتاه، وهذا بدهي جداً، والمسألة طويلة، وأرجو أن يكون النزاع قد فصل.

جيل الصحابة [1]

جيل الصحابة [1] إن جيل الصحابة الكرام هو الجيل الذي اختاره الله واصطفاه لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر الدين والدعوة. وقد تميز هذا الجيل الفريد بأنه تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربيته، وظهرت آثار تلك التربية واضحة جلية في مواقفهم وجميع شئون حياتهم، ومن تدبر حياتهم، وتأمل في حالهم علم أنهم خير أمة أخرجت للناس، وخير جيل أبصرته البشرية، بهم نفاخر أهل الأرض -بل وأهل السماء- وعلى منهاجهم نسير وبخطاهم نقتدي، ومن يتبع غير سبيلهم فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن انتقصهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقة، وحارب الله ورسوله والمؤمنين.

مواقف من حياة الصحابة رضوان الله عليهم

مواقف من حياة الصحابة رضوان الله عليهم إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. قال جماعة من أهل العلم -من المحققين منهم-: إن هذه الآية خاصة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا تتعداهم إلى غيرهم. وقال آخرون: بل تتعدى إلى غيرهم إذا كانوا على نهج الصحابة. وعلى أي حال، فإن الآية نزلت فيهم، فهم المقصودون أولاً بها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وأنت إذا تدبرت حياة الصحابة ومواقفهم، وهجرتهم، وتركهم الأموال والضياع والأولاد والبيوت لله عز وجل، علمت أنهم كذلك، فليس هناك جيل على الإطلاق يساويهم، لا رجالهم ولا نساءهم. وهذه مواقف من مواقفهم حتى تعلم أن هذا الجيل ينبغي أن لا يمس بسوء وفينا عين تطرف، فليس لنا جيل مشرق في حياتنا نفاخر الدنيا به إلا هذا الجيل.

قتل كعب بن الأشرف

قتل كعب بن الأشرف محمد بن مسلمة وأبو نائلة فـ أبو نائلة أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخت كعب، فلما كثر إيذاء كعب للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه أذى الله ورسوله؟)، فقام محمد بن مسلمة قال: أنا له. وقال أبو نائلة: وأنا كذلك. قال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! أتأذن أن نقول له شيئاً -نكذب عليه، نغرر به- قال: نعم) فجاء محمد بن مسلمة إلى كعب وقال: إن هذا الرجل -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد عنانا -كل يوم يطلب صدقة، ونحن تعبنا من هذا الموضوع- وجئنا نستسلفك صاعاً أو صاعين من شعير. فقال كعب: -والله لتملنه أي: هذه البداية فقط، لكن أيضاً ستملونه- قال محمد بن مسلمة: إنا لا نريد أن نخالفه حتى نرى إلى أي شيء ينتهي أمره، لكن جئت أستسلفك وسقاً أو وسقين. فقال كعب: ارهنوني نساءكم. فقال محمد بن مسلمة: أنعطيك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! إذاً: يفتنَّ بك، فقال: ارهنوني أبناءكم. قال: هذا عار علينا، يسب أحدهم يوماً فيقال: رهن بوسق من شعير أو وسقين، ولكن نعطيك اللأمة. اللأمة: هي الدرع والسيف، وهذه كانت مبادرة ذكية من محمد بن مسلمة؛ لأنه لو جاء بالسيف لخاف كعب ولظن أن في الأمر شيئاً، فتواعدوا إلى اليوم الثاني، وكان كعب قد تزوج حديثاً من امرأة من العرب، يقال أنها أعطر العرب، أحسن امرأة تصنع العطر، وفي اليوم الموعود جاء محمد بن مسلمة وأبو نائلة في منتصف الليل، فناداه أبو نائلة: يا كعب! قال: من؟ قال: أبو نائلة انزل -هناك موعد-. فقالت امرأة كعب: إني أسمع صوتاً يقطر منه الدم -امرأة ذكية، صوت أبي نائلة وهو ينادي كأنه يقطر دماً، كيف تنزل في هذه الساعة؟ - فقال لها: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب، لو أن إنساناً يستغيث في الشارع أنجده، فكيف وهذا رضيعي أبو نائلة؟! وكانوا قد جهزوا الخطة أن محمد بن مسلمة يمسك رأسه والبقية يضربون بالسيوف، فنزل كعب ينفح منه ريح الطيب؟! فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم عطراً! فقال كعب متبجحاً: كيف لا وعندي أعطر العرب. فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم. فأعطاه رأسه فشمه وتركه، ولم يهجم من البداية. لكي يعطيه الأمان، وكل واحد من الموجودين جعل يشم رأسه ويتركه أيضاً، فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك مرة أخرى؛ فحينئذ أمسك محمد برأسه ثم قال: دونكم عدو الله فاضربوه، فضربوه فقتلوه، ومحمد بن مسلمة هو ابن أخته وأبو نائلة أخوه من الرضاعة، لكن إذا كان الأمر يقتضي ذلك والآمر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فلا يتخلفون. فالصحابة رضوان الله عليهم استطاعوا في عشر سنوات أن يكونوا دولة، والعرب جنس لا يصلح إلا بدين، كانوا قبل الإسلام أمة على هامش الدنيا، لا قيمة لها على الإطلاق، لم يكن لها دين، وإنما كانت الأرض آنذاك لفارس والروم، وكان العرب بدواً رحلاً، رعاة شاء، فجاء الإسلام فرفعهم إلى منزلة سامية، قادة أمم. واليوم العرب أمة لا قيمة لها تعيش على ضفاف نهر الحياة، لأنها تخلت عن دينها، فلو رجع المسلمون اليوم إلى دينهم؛ لغزوا فارس والروم، وأخذوا أمريكا، وسيطروا على الفرس، لكنهم تركوا دينهم وحكموا القوانين الوضعية التي صنعها الغرب وأصبح الرجل لا يمشي في بلد من بلاد المسلمين بأمان الإسلام كما يمشي بأمان القانون، فالإسلام في المساجد فقط، تدخل المسجد الكتاب يحكمك، تخرج من المسجد القانون يحكمك وليس الإسلام، وشريعة الله عز وجل لا تحكم. فهم الآن مثل أجدادهم الأوائل لا يتمسكون بدين؛ فلا قيمة لهم، لكن الصحابة تمسكوا بالدين، ففي عشر سنوات صارت لهم دولة! أخبروني عن أي جيل من بني آدم عليه السلام إلى الآن استطاع أن يكون له دولة في عشر سنوات، وهي المدة من بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة إلى وفاته، لماذا؟ لأنه كان عندهم مثل هذا الصنف النفيس من الصحابة الكرام. وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قامت الفتن في عصره، فقال له قائل: لم ثارت الفتن في عصرك ولم تثر في عصر عمر؟! قال: لأن عمر كان والياً على مثلي، وأنا وال على مثلك! اختلفت نوعية الرجال، وأزمتنا في الحقيقة أزمة رجال، لذلك نذكر الجماهير بحياة الصحابة، فهم الأسوة العملية، والذين يطعنون الآن في الصحابة قد طعنوا في الإسلام كله، ولله در الإمام النسائي رحمه الله لما جاءه رجل فقال: إن رجلاً يتكلم في معاوية بن أبي سفيان، فقال الإمام النسائي رحمه: إنما الإسلام دار والصحابة الباب، فمن نقر على الباب إنما أراد الدخول، ومن أراد الصحابة إنما أراد الإسلام. ولما قيل لـ أبي زرعة الرازي رحمه الله: إنهم يتكلمون في الصحابة. قال: (يريدون أن يطعنوا في شهودنا، وهم أولى بالطعن، وهم زنادقة). يريدون أن يطعنوا في الصحابة وهم الذين نقلوا إلينا الدين، إذا سلمنا بالمقدمة سلمنا بالنتيجة، الصحابي نقل دين الله، فإذا قلت: هذا الصحابي ليس بعدل، قلت: الذي نقله كذب، فالذين يتكلمون على الصحابة يريدون الطعن في الدين؛ لأجل هذا كان ينبغي علينا أن ننظر في حياة الصحابة، فليس لهم نظير في الابتلاء والحب والقول، كما سأعرض عليكم نماذج من ذلك إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

حديث سلمة بن الأكوع

حديث سلمة بن الأكوع موقف آخر لصحابي لا تعرفه الجماهير، لكنه بطل مغوار وفارس شجاع، روى الإمام مسلم في صحيحه خبره العجيب، وهو سلمة بن الأكوع، وسلمة كان رجلاً شجاعاً، وعداءً سريعاً لا يلحق. يقول إياس بن سلمة: حدثني أبي قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحن أربع عشرة مائة -ألف وأربعمائة- وعليها خمسون شاة لا ترويها. قال: فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبا الركية -على شاطئ البئر- فإما دعا وإما بصق، فجاشت فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس قال: بايع يا سلمة؟ قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس. قال: وأيضاً، قال: ورآني عزلاً -أي ليس معه سلاح- فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة، ثم بايع. حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة؟ قال: قلت: يا رسول الله! قد بايعتك في أول الناس وفي أوسط الناس! قال: وأيضاً، قال: فبايعته الثالثة. ثم قال لي: يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كما قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)، ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحثه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة، فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم على الشجرة، قال: فبينما هم كذلك، إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم. قال: فاخترطت سيفي -أخرجته من جرابه- ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سيوفهم فجعلتها ضغثاً في يدي. قال: ثم قلت: والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحدكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه)، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان -وهم المشركون- فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً، ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه -الظهر: الإبل والبغال والحمير- وخرجت معه بفرس طلحة، فلما أصبحنا إذ عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقه أجمع وقتل راعيه. قال: وقلت: يا رباح: خذ هذا الفرس، فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه، قال: ثم قمت على أكمة، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع - الرضع هم اللئام، يقال: لئيم راضع: لأن اللئيم إذا أراد أن يشرب من لبن الشاة يرضع ويمص لبنها من ثدي الشاة حتى لا يسمع الناس أنه يشرب ويشاركونه في اللبن، فيقال: لئيم راضع، فاليوم يوم الرضع أي: هذا هو يوم اللئام- قال: فألحق رجلاً منهم، فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه، قال: قلت: خذها: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع فرس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل -دخلوا في تضايقه- علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة. قال: فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم تبعتهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يستخف نفسه لكي يفر، فأي شيء يسبب ثقل الحركة والمشي يتركونه- قال: ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون (أي: يتغدون) وجلست على رأس قرن. قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح والله ما فارقنا منذ غلس، يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم، فصعد إلي أربعة منهم. فلما أمكنوني من الكلام قلت: ألا تعرفوني؟ قالوا: لا. قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني. قال أحدهم: أنا أظن -يعني: لا يستطيعون ذلك- فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت غبار فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر. فإذا أولهم الأخرم الأسدي على أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي. قال: فأخذت بعنان الأخرم. قال: فولوا مدبرين. وقلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن الفزاري. قال: فعقر بـ عبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق به أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم -بـ عبد الرحمن - فطعنه فقتله، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم اتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئاً -كان عداءً سريعاً جداً- حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش، قال: فنظروا إلي أعدو وراءهم، فحليتهم عنه (أي: أجليتهم عنه) فما ذاقوا منه قطرة. قال: فيخرجون فيشتدون في ثنية. قال: فأعدو فألحق رجلاً منهم، فأصكه بسهم في نغص كتفه. قال: قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلة أمه! أكوع بكرة؟! قال: قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة قال: وإذا بلال قد ذبح ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها. قال: قلت: رسول الله! خلني أنتخب مائة رجل، فنتبع القوم -نفسه طويل- فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو كنت تفعل ذلك يا سلمة؟ قال: نعم والذي كرمك. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه في ضوء النهار، فقال عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان إلى آخر الحديث. قال سلمة: فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليالٍ حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعل عمي عامر يرتجز: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال عليه الصلاة والسلام: من هذا المرتجز؟ قال: أنا عامر قال: يرحمك ربك أو قال: يغفر لك ربك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استغفر لرجل يخصه بذلك استشهد، فقال عمر بن الخطاب لما سمع ذلك: يا رسول الله: ألا متعتنا بـ عامر؟ علم أنه سيموت، لما استغفر له علموا أنه سيقتل في المعركة. فلما وصلوا إلى خيبر خرج مرحب -وكان ملكهم- يقول مرتجزاً: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فخرج عامر بن الأكوع وقال: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فمات. فقال جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: بطل عمل عامر! قتل نفسه! قال سلمة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي، فقال: ما يبكيك يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! قال جماعة من أصحابك: بطل عمل عامر. قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين. قال: ثم أرسلني إلى علي بن أبي طالب وهو أرمد فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله. قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله فبصق النبي صلى الله عليه وسلم على عينيه فبرأ وأعطاه الراية، وخرج مرحب وقال: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي بن أبي طالب: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة ثم تبارزوا فقتله علي ب

قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه

قصة سعد بن أبي وقاص مع أمه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة- قالت له أمه: إنك تقول: إن دينك جاء بمكارم الأخلاق وصلة الأرحام -وكان سعد من أبر الناس بأمه- فوالله ما أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بدينك، فإذا مِتُّ عُيِّرت بي؛ فيقال: يا قاتل أمه! وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها فتحوا فمها بالعصا، لأنها تأبى أن تأكل وتشرب، حتى يعير سعد بها طيلة العمر، وكما قلت لكم كان من أبر الناس، فقال لها: يا أم! كلي أو دعي، فوالله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني؛ فأنزل الله عز وجل قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]. فطاعة الوالدين لها حدود، إلا طاعة الله ورسوله، فطاعتهما مطلقة، وكل إنسان في الدنيا طاعته مقيدة بقيدين: القيد الأول: الاستطاعة. والقيد الثاني: المعروف، فإذا أُمرت بما لا تستطيع سقط الأمر وسقط وجوبه، وإذا كان مستطاعاً، لكنه حرام، سقط وجوبه، لكن طاعة الله ورسوله مطلقة لا حد لها. مثلاً: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية، فجاء الوالد، فقال: احلق لحيتك، فحينئذ تعارض أمران، تعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع أمر الوالد، لماذا يثور الوالد على أمر النبي عليه الصلاة والسلام؟! حينئذ يأتي إنسان ليستفتي، فنفتيه بالفتوى الآتية، الأب هذا يقول له: إذا لم تحلق فاخرج من البيت، فنقول له: أطع ربك وأطع أباك، لا تحلق لحيتك واخرج من البيت، لا تجلس في البيت على رغم والدك، لأنك خروجك من البيت مستطاع ويطاق، فلا تخالف أمره إذ أمرك بالخروج. إذاً: أطع أمر والدك واخرج من البيت، وأطع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحلق! لكن كثيراً من الناس يجور على حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز، بعض الذين يدركهم الخور والضعف يعصون النبي صلى الله عليه وسلم ويطيعون آباءهم، وهذا ليس له نظير عند الصحابة، فالصحابة ما كانوا يفعلون ذلك ولا قليلاً من ذلك، وهذا سعد بن أبي وقاص يضرب لنا المثل ويضرب لنا الأسوة، يقول لأمه التي هو أبر الناس بها: (والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بديني) هناك حدود فاصلة لا يتعداها الإنسان على الإطلاق.

من مواقف الصحابة في الزهد والصبر على المشاق

من مواقف الصحابة في الزهد والصبر على المشاق الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

حديث جابر بن عبد الله في سرية سيف البحر

حديث جابر بن عبد الله في سرية سيف البحر كان صلى الله عليه وسلم يرسل الجيش وأحياناً يأكلون ورق الشجر، ولم يتضجر واحد منهم، أو يقل: كيف نأكل ورق الشجر؟! فمثلاً: يروي جابر بن عبد الله -كما في الصحيحين- فيقول: (أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح وأعطاه جراباً من تمر، فكان أبو عبيدة يعطيهم تمرتين تمرتين، وبعد ذلك يعطيهم تمرة تمرة، -أي: لما بدأ التمر ينفد أصبح يعطيهم تمرة تمرة- قال جابر: فكنا نمصها ونشرب عليها الماء حتى نفد التمر، فكنا نأكل ورق الشجر، قال: فرمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر -وهو حوت عظيم ألقاه البحر على الشاطئ- فلما رآه أبو عبيدة قال: ميتة لا تأكلوه -لم يكن يعلم حل ميتة البحر- ثم قال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في سبيل الله، ونحن مضطرون، كلوا، قال جابر: فكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في عينه، قال: وجاء أبو عبيدة بضلع من أضلاع العنبر فنصبه، وجاء بأعلى جمل وركبه أطول رجل فمر من تحته، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هل معكم منه شيء؟.

أبو هريرة وصبره على الجوع

أبو هريرة وصبره على الجوع في صحيح البخاري قال أبو هريرة رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد كنت أصرع بجانب المنبر، فيجيء الجائي، فيظن أن بي جنوناً، فيضع قدمه على عنقي يظن أن بي جنوناً، وما بي إلا الجوع)، جائع وكان رضي الله عنه إنساناً عفيفاً قال رضي الله عنه: فصليت الفرض ثم خرجت وجلست على الطريق، فمر بي أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي -أنا أعرفها، لكنه يسأله حتى يقول له: تعال نتغدى وأكلمك، فيكون قد حصل على مراده- قال: فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي، وما سألته إلا رجاء أن يستتبعني -يقول لي: اتبعني. تعال معي، وإنما أغراه بذلك أن جعفر بن أبي طالب كان من أكرم الناس، وكان أبو هريرة دائماً حين يسأله سؤالاً يقول له: تعال نتغد أولاً ثم نتكلم على الغداء، فظن أن كل الناس مثل جعفر، وأنه حين يسأله سؤالاً سيقول له: تعال نتغد وسوف أجيبك- قال: ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني. قال: فأجابني ومضى، قال: فجاء عمر فسألته عن آية في كتاب الله وإنها لمعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني، قال: فأجابني ومضى، قال: ثم جاء أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى وجهي، فعرف ما بي، فتبسم، فقال: أبا هر! الحق بنا، قال: فانطلقت خلفه، فدخلنا البيت، فإذا إناء من لبن، قال: من أين هذا؟ قالوا: أهداه لك فلان -بدأ أبو هريرة يتبسم، سيشرب لبناً- قال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبا هر! الحق بأهل الصفة فادعهم يشركوننا في هذا اللبن، قال: فأحزنني ذلك -وماذا يفعل هذا اللبن لأهل الصفة، لأنه لو كل واحد شرب شربة سينتهي- إنما كنت أريد أن أظفر منه بشربة تقيم صلبي -ثم أمرٌ آخر أحزنه أنه سيسقيهم، وساقي القوم آخرهم شرباً. إذاً: لن يجد لبناً- قال: ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بد. (وأهل الصفة -كما ذكر أبو نعيم الأصفهاني - كانوا أربعمائة وخمسة عشر أربعمائة وخمسة عشر وإناء لبن!!) قال: فدعوتهم فجاءوا فجلسوا، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم الإناء ووضع يده عليه وقال: باسم الله خذ يا أبا هريرة قال: فكنت آخذ الإناء، فأعطيه للأول، فيشرب حتى يدعه، فآخذه منه فأعطيه للثاني والثالث والرابع إلى تمام أهل الصفة، واللبن في الإناء كما هو -بركة- فجاء أبو هريرة بالإناء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تبسم -فهو يعلم ما به- فلما رآه تبسم قال: يا أبا هر! لم يبق إلا أنا وأنت. ! فقلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد يا أبا هريرة فقعدت. قال: اشرب فشربت قال: اشرب، اشرب، اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مكاناً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الإناء وكان فيه شربة، فسمى الله وشربها). انظر كان يصرع بجانب المنبر، وما به من داء إلا الجوع، كل هذا في سبيل الله وحباً في رسوله، وكان منهم ألوف تركوا أموالهم وتركوا ديارهم فداءً لله ورسوله.

خطر الطعن في الصحابة

خطر الطعن في الصحابة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في الناس اليوم لوجد فيهم من يقاتله، أمثال هؤلاء الذين يسبون أصحابه، ويدعون التشيع لأهل بيته. قال الإمام مالك رحمه الله عندما قيل له: أرأيت الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: هو رجل سوء وله صحابة سوء). ما معنى أن الصحابة سيئين؟ معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عليهم وما قومهم وهذه تربيته! فكأنه مثلهم!! فهؤلاء يطعنون على النبي عليه الصلاة والسلام، ولو خرج النبي عليه الصلاة والسلام فيهم لقاتلوه. فنحن في محنة عظيمة، نحتاج أن نعلم أولادنا حب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ونغرسه في صدورهم، حتى ترتفع الهمة ويصير لنا قيمة، فإننا لن ننتصر إلا بدين، وسنظل على هذه الدنيا، يتهمنا الأعداء بالإرهاب العالمي، وهم الإرهابيون حقاً. اليهود يقتلون المصلين السجد في المسجد الأقصى، ليس بإرهاب، ولم تسمع للعالم أجمع همسة وعندما حصل تفجير ومات ستون يهودياً ضج العالم منددين بالإرهاب، وجاء الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي ليعزوا اليهود، لكن عندما يراق دم مائة مسلم ساجد فهذا ليس بإرهاب، فأصبح دم المسلمين أرخص الدماء. فينبغي أن ننهض بهممنا لنعيد للإسلام مجده، فنربي أبناءنا على دين الله تعالى، ليحذروا المرحلة القادمة، فهي مرحلة خطيرة، مرحلة الأقمار الصناعية والفضائيات وشبكة الانترنت التي تستخدم لإفساد شباب المسلمين، فالجيل القادم ينبغي أن يكون على مستوى المسئولية؛ لأن الفتن عظيمة وجسيمة. فيا أيها المسلم: لا تلق الله خائناً، رب ولدك؛ لأن الأيام القادمة أيام عجاف تحتاج إلى جيل مثل جيل الصحابة. إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر صاحب القامة الطويلة هو الذي يناله البلاء، والبلاء قادم بلا شك، وبيننا وبين اليهود حرب فاصلة نحتاج فيها إلى الرجال. أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. اللهم ثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

جيل الصحابة [2]

جيل الصحابة [2] لقد سطر لنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عبر التاريخ أنصع الصفحات وأروع المواقف في الاتباع لله ورسوله، وفي العزة والشجاعة، وبذل المهج والأرواح في سبيل الله، وفي التوكل على الله والثقة به، ولقد كانوا أخوف الناس من الله وأعظمهم رغبة فيما عنده، وأشدهم حرصاً على مرضاته، يغضبون لما يغضب منه الله ورسوله، ويرضون بما يرضى به الله ورسوله، ولا يوادون أحداً يحاد الله ورسوله ولو كان أقرب الأقربين.

وجوب الاقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وجوب الاقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. ما زلنا -أيها الإخوة الكرام- نسرد بعضاً من مواقف هذا الجيل الفريد، فإن الله تبارك وتعالى خلق خُلق التأسي في بني آدم، كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فالذي جعلها تصبر أنها رأت غيرها مصاباً بهذه المصيبة، فكلما رأيت غيرك مصاباً في مصيبة هانت عليك مصيبتك، وقد قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. كذلك حياة الصحابة، فإنك حين تطالع سيرتهم في الجهاد، والبذل والفداء، سواء كان ببذل النفس والمهج أو ببذل المال؛ تعلم أن صاحب هذا الخلق -حتى ولو لم يكن مؤيداً بدين- سينتصر؛ لأن فيه من جميل الخلال وخصال الكمال ما يجعله أهلاً أن يحكم هذه الأرض.

ظاهرة عمل الشباب المسلم في المحلات الغربية التي تبيع المحرمات

ظاهرة عمل الشباب المسلم في المحلات الغربية التي تبيع المحرمات شبابنا الآن يسافرون إلى البلاد الأوروبية ليعملوا في المطاعم، ليقدموا للآكلين الخنزير والخمر، وكل ذلك بدعوى تحصيل المال والحصول على لقمة العيش، وهذا نوع من دناءة النفس، أن يأتي المرء ما حرم الله تبارك وتعالى، ويظن أنه بمعصية الله ليس يخسر، وهذا خطأ في التصور. ودعونا نضرب هذا المثال: لو أن رجلاً من أكرم الناس لا يسأله سائل إلا أعطاه، ولا يطلبه مبلغاً إلا أعطاه مثله وربما أكثر، فأكبر مصيبة تصاب بها أن يموت هذا الرجل، لأنه لا يحوجك إلى أحد، كلما طلبت شيئاً أعطاك، فأكبر مصيبة أن يموت هذا الرجل، فالله تبارك وتعالى قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] مع أن الذي لا يموت هو الحي وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ إذاً: هذا الذي ذهب إلى بلاد الغرب واشتغل فيما حرم الله لم يتوكل على الله الحي الذي لا يموت. فمهما كان الرقم كبيراً فإن له نهاية، لكن عطاء الله تبارك وتعالى وحده هو الذي لا ينقطع وليس له نهاية، كما يقول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]. والحديث المشهور في صحيح مسلم وهو أجل حديث لأهل الشام، حديث أبي ذر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) من ضمن هذا الحديث قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد -وقفوا في طابور من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة- وسأل كل واحد مسألته، فأعطيته مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر). كل واحد يتمنى أي أمنية تخطر على باله من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وربنا تبارك وتعالى يعطيه ما يتمناه، والذي ينقص من خزائن الله مثل أن تدخل إبرة في البحر المحيط وتخرجها، وهذه الإبرة لم تأخذ من البحر المحيط شيئاً، وهذا على سبيل التمثيل، وإلا فلا ينقص من خزائنه شيء، كما قال الخضر لموسى عليه السلام لما التقى به في مجمع البحرين، وكانت هذه الرحلة كلها بسبب كلمة قالها موسى عليه السلام كما في الصحيحين، فقد كان موسى عليه السلام في مجلس من مجالس بني إسرائيل، فقال كلاماً مؤثراً بكى له الناس ورقت قلوبهم. فقال قائل لموسى عليه السلام: يا كليم الله! هل هناك أحد هو أعلم منك؟ فقال: لا أعلم في الأرض من هو أعلم مني، فعتب الله عليه، لأنه لم يرجع العلم إليه، ما أدراك؟ سبحان من لا يعلم أسرار خلقه إلا هو، كم في الزوايا خبايا، وكم في الناس بقايا، فعتب الله عليه لأنه لم يقل: الله أعلم. فقال الله له: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. وأمره أن يذهب إلى مجمع البحرين والتقى موسى عليه السلام بالخضر، فجاء عصفور، فنقر في ماء البحر، فأخذ قطرة، فقال الخضر لموسى: يا موسى! مثل علمي وعلمك إلى علم الله كمثل ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر. إذاً: المسألة تقريبية فقط، وإلا لا ينقص من خزائن الله شيء لماذا تركب معصية الله لتحصل على المال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بأربع كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن -أول كلمة من هذه الكلمات-: إن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من حر ماله، وقال له: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إليّ، فكان يبيع ويعطي غيره -يأخذ حصيلة البيع كل يوم ويذهب إلى جاره ويعطيه حصيلة البيع- قال عليه الصلاة والسلام: فأيّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟) من فيكم يرضى بهذا؟! المال مالك، والمحل محلك، ويبيع عبدك ويعطي المال لجارك هذا العبد أتبقيه يوماً واحداً؟! ما أظنك تبقيه يوماً واحداً، فلماذا قبلت أن تفعل هذا مع الله، وأنت لا تفعله مع نفسك، وتأنف أن يكون عبدك كذلك؟! فإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، يقول الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] والتوكل: هو اعتماد القلب على الله، وهذا الذي كان يميز الصحابة رضي الله عنهم عن غيرهم، كان الواحد منهم تزهق نفسه ولا يقترب من محرمات الله، وكان الواحد يترك باباً من الحلال إذا اقترب من باب شبهة؛ خشية أن يقع في الشبهة لماذا؟ لأن لديه توكلاً كاملاً على الله أنه لن يضيعه. فأنت عبده وأنت صنعته، فلن يضيعك. ثم سوء الظن بالله أن تظن أنك إذا ركبت معاصيه أعطاك، وإذا أطعته حرمك، هذا سوء ظن بالله تبارك وتعالى. أنت إذا كنت فقيراً فلذ بغني، ولا أغنى من الله؛ قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40]. انتبه إلى كلمة (نحن) مع أن الكلام يمكن أن يفهم بدونها: (إنا نرث الأرض من وعليها) لكنه قال {إِنَّا نَحْنُ} [مريم:40] ضمير العوض: {إِنَّا نَحْنُ}، يعني: هذا كله إليه؛ فالله سبحانه وتعالى له الملك وحده، وهو القادر على شيء. وأصحاب النظام العالمي الجديد لو أحبوا أن يصنعوا مكيفاً مركزياً للعالم، يدفئ العالم في الشتاء، ويجعله برداً في الصيف فوالله لن يستطيعوا ذلك أبداً، ولو أنفقوا أموال الدنيا كلها. فالقادر هو الله، والرازق هو الله، بيده خزائن السموات والأرض.

هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه

هجرة صهيب الرومي رضي الله عنه بعض الشباب يذهبون إلى الخارج -بلاد أوروبا- يبحثون عن عمل، فيرتكبون المعاصي والمنكرات في سبيل جمع المال، وهذا لا يجوز، ولم يكن هذا دأب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق. فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه خطر بباله أن يأخذ جميع ماله الذي جمعه طول عمره، ويهرب في الليل من مكة إلى المدينة فاراً بدينه، فعلم المشركون أنه سيهرب، فلحقوه بالخيول، فقبضوا عليه في منتصف الطريق، فقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تأخذ المال وتذهب؟! فقال: أرأيتم إن خليت بينكم وبين المال -أعطيتكم المال- أتخلون بيني وبين وجهي؟ أي: بيني وبين الجهة التي أريد أن أذهب إليها؟ قالوا: نعم. فأعطاهم المال غير نادم ولا آسف، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال له: (ربح البيع يا أبا يحيى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]) فهذه صيغة عقد، وهذا العقد ينقصه توقعيك أنت فقط، لأن المشتري مضمون، وهو الله تبارك وتعالى، فهذا عقد بينك وبينه، هل توقع على هذا العقد أم لا؟ {إن الله اشترى} هو ذا العقد، ينقصه توقيعك أنت، ولكن أكثر الناس يهاب أن يوقع.

نعمة الابتلاء

نعمة الابتلاء اعلم أن كل إنسان على وجه هذه الأرض مبتلى، فليكن بلاؤك في ذات الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يُرْزَقْها بعمله، ابتلاه حتى يبلغها). أي أن البلاء ليس شرطاً أن يكون في الله تعالى، كرجل مؤمن ولكنه لا يحافظ على النوافل والقربات المستحبة، وقد كتب الله له منزلة، فإنه إن لم يبلغ المنزلة التي سبقت من الله له بعبادته، ابتلاه الله عز وجل ليرفعه إليها. فإذا ابتليت في ذات الله كان أشرف لك لماذا؟ لأن سلفك في ذلك هم الأنبياء، وحين تلتفت في الطريق، تجد أن أسلافك هم الأنبياء تطمئن نفسك. وأنت عندما تسجن (مثلاً) من أجل دينك تختلف اختلافاً كلياً مع ذلك الذي يسجن من أجل الحشيش أو القتل أو غير ذلك فلا بد أن يصيبك بلاء، فاقبل أن يكون في الآخرة عند ربك لماذا؟ لأن سلفك هم الأنبياء، والصحابة والتابعين، والأئمة المتبوعين، وهم أتباع الصادق صلى الله عليه وسلم. يقول عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه).

في الابتلاء سلامة للقلوب من أمراضها

في الابتلاء سلامة للقلوب من أمراضها إن المرء يوم القيامة يوزن بقلبه، وسلامة هذا القلب فيه سلامة العقل، وكثير من الناس يظن أن العقل في الدماغ، وهذا غلط، فالعقل في القلب وليس في الدماغ، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] فالعقل في القلب وليس في الدماغ، فسلامة القلب معناها سلامة عقلك. وهذا يعني: سلامة تفكيرك. وهناك قصة مشهورة نشرت في الجرائد بمناسبة أن الدكتور مجدي يعقوب الجراح المصري الذي يقطن في لندن، قد أجرى عملية نقل قلب لشاب إنجليزي عمره تسع عشر سنة، ونجحت العملية عشرة على عشرة إلا أنها دمرت خلايا مخ الشاب، فرفع والد الشاب قضية على هذا الدكتور يطالبه بتعويض. فبمناسبة هذا الخبر نشرت الجرائد قصة الدكتور برنر -أول طبيب نقل قلباً في الدنيا، وكان هذا سنة (1963م أو 1965م) - نقل قلباً لمريض في سويسرا، وبعد أن نقل هذا القلب بطريقة ميكانيكية جيدة، بدأ المريض يخلط بين الأمور؛ وظن في البداية أن ذلك من تأثير البنج، لكن المريض لم يفق وظل يخلط دائماً. وبعد ذلك نقل هذا الطبيب برنر قلباً لرجل آخر، فبدأ هذا الرجل أيضاً يخلط بين الأمور، ويأتي بكلام لا يفهم معناه، فأرسل الدكتور مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي؛ مع أنه لا لقاء بينهما ولا يعرف أحدهما الآخر؛ لكنه يهذي بقصص وحكايات لصاحب القلب الأصلي حينئذ أسقط في يد هذا الدكتور، وعقد مؤتمراً صحفياً، وأعلن بأسى بالغ اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: ما قيمة إنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته؟! واعتزل الطب بسبب هذه المسألة، وهناك بعض الأطباء ينسون الفوط وأجهزة التليفونات في بطن المريض أحياناً، ويعتبرونه أمراً عادياً، وهذا فيه جناية على المريض. واعلم أن العبد يوم القيامة يوزن عند الله بقلبه: (يأتي الرجل السمين البدين لا يزن عند الله جناح بعوضة) لماذا؟ قال ابن القيم رحمه الله: لأن العبد يوزن عند الله بقلبه: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]. وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب، وأول ما تريحه يموت، فالقلب بخلاف الجوارح، فعندما تأكل وتشرب جيداً تنمو الجوارح، وتكبر العضلات، وينتفخ صدرك، وتصير بحالة جيدة، فإذا قطعت الأكل لمدة أسبوع، تجد أنك قد نحفت، وأن العضلات بدأت تتفسخ تضمر؛ فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن، ففيها سلامة القلب، فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن، ولذلك اختار الله عز وجل البلاء، فجعله من نصيب أوليائه؛ لا لهوانهم عليه، ولكن ليحصن قلوبهم؛ لأن أحدهم لو استراح، وركن إلى الدنيا، ضعف قلبه، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً وأدناهم الناس همة هم أهل الترف، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]. (أمرنا مترفيها) يعني: بالطاعة: {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، وفي قراءة أخرى (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها) أو (أمّرنا مترفيها) لكنها قراءة شاذة -أعني: (أمّرنا) - لكن العلماء يقولون: إن القراءات الشاذة تستخدم للتأنيس، كقراءة: (أمّرنا مترفيها) أي: جعلناهم أمراء، تخيل إنساناً أميراً وجاهلاً، فلا يشتهي شهوةً إلا وجدها عند أطراف أصابعه. إذاً: حين ابتلاك الله عز وجل ليس لهوانك عليه، ولكن ليضمن سلامة قلبك له تبارك وتعالى، فلا تبتئس. إن المؤمن مصاب ومبتلى، لكن مصيبته ومبتلاه في ذات الله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وسلامة قلبك تقتضي إذا شعرت بأي تغير في هذا القلب أن تتصل بالخالق سبحانه وتعالى مصرف القلوب. سأضرب لكم مثلاً: لو أن شخصاً أحب أن يقتل ملكاً أو رئيساً، فهل يستطيع بمجرد أن يفكر بذلك أن يقتله؟ لا. لا يستطيع ذلك، فلابد من أن يظل شهوراً أو سنين، يراقبه ويخطط لمصرعه، ولابد أن يعمل دراسة طويلة عريضة لماذا؟ لأن قتل الملوك ليس سهلاً، ومن الصعب جداً أن يقتل الإنسان ملكاً. كذلك القلب -ملك البدن- لا يستطيع الشيطان أن يغتاله بسهم يصوبه إليه ابتداءً، فالقلب عليه حراسة شديدة؛ لأنه مِلْك الرب تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا القلب آية من آيات الملك تبارك وتعالى. وإذا مات قلب الإنسان، فقد سبقته ذنوب كثيرة وسنوات من الغفلة، فسهل على الشيطان إصابة قلبه. فالإنسان الذي يريد أن يلقى ربه بقلب سليم -أول ما يشعر أن هناك تغيراً في هذا القلب؛ وفيه قسوة شديدة وعينه لا تتأثر بالقرآن- ينبغي له أن يبحث عن طبيب رباني يداويه. ولو أنك أصبت -والعياذ بالله- بتصلب شرايين أو جلطة أو غير ذلك من الأمراض، فإنك تسارع إلى الطبيب لتعالج جسدك قبل فوات أوان نفع الطب، فلماذا حين يكون الأمر متعلقاً بروحك وقلبك لا تسارع إلى علاجه؟!

الصحابة أطهر الناس قلوبا

الصحابة أطهر الناس قلوباً إن الله تبارك وتعالى ما اختار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن نظر إليهم فوجدهم أطهر الناس قلوباً. فهذا أبو الدحداح رضي الله عنه مرة -كما في مسند البزار- كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] وكان لـ أبي الدحداح بستان به ستمائة نخلة، وهذه بضاعة رائجة عند العرب. والأسودان التمر والماء كانت أساس حياة العرب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بيت لا تمر فيه جياع أهله). إنسان يقول: نحن ليس لدينا تمر ولا نأكل تمراً، ونحن -والحمد لله- في نعمة وشبع؟! نقول له: إن الجوع هنا ليس معناه أن تكون جائعاً دائماً، فأنت لو أكلت جبنة أو زبدة، فما هي إلا نصف ساعة أو ربع ساعة، وإذا بك جائع، لكن التمر بخلاف ذلك، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (جياع أهله) ليس شرطاً أن يظل جائعاً دائماً، ربما يكون جائعاً ربع ساعة، وربما يكون جائعاً خمس دقائق، ثم ينتهي جوعه. وكانت التمور هي البضاعة الرائجة عند العرب، فـ أبو الدحداح رضي الله عنه حين سمع الآية قال: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟! قال: نعم. قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ -ستمائة نخلة إن أعطيته إياها فماذا لي؟ - قال: لك الجنة. قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي) وقام من المجلس وحاله ليس مثل حالنا؛ بمجرد أن نخشع وترق قلوبنا يقول أحدنا: خذوا روحي! وبعد قليل يأسف. ما الذي جعلني أقول ذلك؟! ما الذي ورطني هذه الورطة؟! أما هؤلاء الصحابة فقد كانت حرارة الإيمان عندهم دائمة، فلما أقرض الحائط هذا كله لله تبارك وتعالى، قام من المجلس، والحائط هذا كان سوراً على الستمائة نخلة، وكانت بيته بداخل هذا السور، فوقف على الباب ولم يدخل؛ لأنه لم يعد ملكه، فقد أقرضه ربه، ونادى على امرأته: يا أم الدحداح! اخرجي بأولادك؛ فإني أقرضت حائطي هذا ربي. انظر إلى جواب المرأة! ما قالت: ما هذا الذي فعلت يا رجل؟! لماذا لم تكلمنا؟! أنت ماذا جرى لك؟! والأولاد أما تركت شيئاً للأولاد؟! قالت له: (ربح البيع يا أبا الدحداح، ربح البيع يا أبا الدحداح) أنعم بتلك النساء! والله إننا بحاجة إلى أن تتعلم نساؤنا من نساء الصحابة. انظر إلى طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة- في ليلة من الليالي قعد يتقلب في سريره وما استطاع أن ينام، يتقلب يميناً ويتقلب شمالاً وعيناه مفتوحتان، تقول له امرأته: ما بك يا طلحة؟! انظر إلى ما قالت له: (هل بدر منا شيء فنعجبك؟!) يعني: حصل مني شيء أسترضيك، طول الليل سهران ولا تستطيع النوم، هل فعلنا بك شيئاً؟ فقال لها: (نعم حبيبة المرء المسلم أنت! -أنت لا أحد مثلك- لكن جاءني مال ولا أدري كيف أفعل به). انظر! جاءه مال ولا يدري أين يصرفه، هل تعرف ماذا قالت له؟ قالت له: (أنفق على أرحامك وفرقه فيهم) أرسله لأقاربك ووزعه عليهم. قال الراوي: (فأنفق ثلاثمائة ألف) ثلاثمائة ألف فرقها في أقاربه فانظر إلى المرأة وهي تقول: (ربح البيع يا أبا الدحداح!) فخرج أبو الدحداح من كل ماله. وهذه تقول: (أنفق على أرحامك) فأنفق ثلاثمائة ألف، فهذا هو الذي كان يميز جيل الصحابة. وفي الصحيحين من حديث أنس أن عبد الله كانوا ينسبونه إلى غير أبيه -هو عبد الله بن حذافة - أبوه اسمه حذافة، فكانوا يقولون له: أبوك ليس حذافة؛ لأن أمك في الجاهلية فعلت وفعلت وجاءت بك من حرام، فـ عبد الله لم يتحمل هذه الكلمة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسألوني في مقامي هذا شيئاً إلا أخبرتكم، فقام عبد الله بن حذافة وقال: يا رسول الله! من أبي؟ -أمام الناس جميعاً حتى يسمعوا رده- قال: أبوك حذافة) فـ عبد الله بن حذافة بعد أن ذهب إلى البيت ماذا قالت له أمه؟ قالت: يا عبد الله! ما رأيت أعق منك! أوأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارفه أهل الجاهلية، فتفضحها على رءوس الأشهاد؟!) افترض أنني كنت في الجاهلية فعلت شيئاً وأن أباك ليس حذافة، فتكون بسؤالك قد فضحتني!!

غضب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

غضب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن مواقف الصحابة الكرام: موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول عندما سمع أباه يقول: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) وأبو كبشة هذا جد أم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو غير معروف، لكن جد النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب وكان له شرف وسمعه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرتجز يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب لماذا عبد المطلب؟ لأنه كان له نباهة في قريش. وكان المشركون إذا أرادوا أن يشتموا الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينسبونه إلى عبد المطلب؛ بل ينسبونه إلى أبي كبشة؛ فـ عبد الله بن أبي ابن سلول ما أحب أن ينسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جده، فقال: (لقد غبر علينا ابن أبي كبشة) غبر علينا: أي سحب السيادة منا، وسوى بيننا وبين العبيد والفقراء. فسمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة، وسمعها عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فقام وقال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، والذي أكرمك، لئن شئت لآتينك بعنقه؛ أي: مرني الآن آت لك برأسه لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم أغلى من النبي عليه الصلاة السلام أبداًَ، فلم يكونوا يتحملون أي شيء يقال عليه: (لئن شئت لآتينك بعنقه) انظر إلى الانفعال- ويغضب للرسول عليه الصلاة والسلام كل هذا الغضب والقائل هو أبوه! - فقال عليه الصلاة والسلام: لا، وولكن بر أباك، وأحسن صحبته. أنعم بهذا الخلق! الخلق الجميل والخلق النبيل الذي ليس له مثيل! انظر إلى حكمته عليه الصلاة السلام في التعامل مع عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان يسبه صلى الله عليه وسلم ويشتمه، ومع ذلك قال: (معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). : عبد الله بن أبي ابن سلول هو رجل واحد فقط، فلماذا قال: أصحابه؟ لأن الناس حين تنقل خبراً تضاعفه، فإن قتل واحداً قال الناس: قتل اليوم خمسة، وغداً يقولون: قتل عشرة، وبعد غد: قتل خمسة عشر، وما إن يصل الخبر إلى آخر شخص في الجزيرة العربية حتى يقولوا: محمد يقتل أصحابه! فيقول: -وقد كان عازماً على الذهاب- يقول: الحمد لله أني لم أذهب، فمحمد يقتل أصحابه! مع أنه لم يقتل إلا واحداً فقط! ولو أن شخصاً دخل القاهرة، فسرقت محفظته، وهو أول مرة يدخل القاهرة، فأول ما يرجع يسألونه: كيف أهل القاهرة؟ يقول: كلهم سَرَقَة! هل كلهم سرقوه؟ شخص واحد هو الذي سرقه، لكن هذا التعميم من مبالغة الناس. انظر إلى شعبة بن الحجاج رحمه الله! قيل له: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! القصاص يفترون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعون الأحاديث، ويأتون بالغرائب، ويخترعون القصص، ويسمعونها العوام ليأخذوا أموالهم. ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً لقي قاصاً فقال له: ألا تستحيي من هؤلاء الذين تقص عليهم هذه القصص؟! فقال له: أرأيت إن كان في بيتك بقر أكنت تستحيي أن تأكل أمامها؟! يعني: لو أن لك حظيرة وفيها بقر، فهل تستحيي أن تأكل أمامها؟! قال له: لا. قال: أملهني حتى أعلمك، فقام وأخرج قصة، وبدأ يقطعها على الناس، وبعد أن انتهى من القصة، قال: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مس لسانه أرنبة أنفه فله الجنة) قال: فما بقي واحد إلا أخرج لسانه يريد أن يصل إلى أرنبة أنفه، فالتفت إلى صاحبه وقال: أقل لك: إنهم بقر؟! وقد أثر أن عبد الملك بن مروان قال للشعبي: حدثني بأعجب شيء مر بك. فقال له: دخلت مرة الكوفة، فوجدت رجلاً من القصاص يتكلم ويكذب، ومن ضمن الكلام الذي قاله: إن الله تعالى خلق صورين، وفي كل صور نفختان. يقول الشعبي: فبمجرد أن سمعته قلت: يا شيخ! اتق الله ولا تكذب، إنما هو صور واحد ونفختان. قال: فأخذ نعله وضربني به، فتتابع الناس كل واحد يضربني بنعله، قال: والله ما تركوني حتى أقسمت لهم أن الله خلق سبعين صوراً، في كل صور نفختان! فلذلك قيل لـ شعبة بن الحجاج: لم لا تحدث القصاص؟ قال: لأنهم يأخذون الحديث منا شبراً فيجعلونه ذراعاً! طبيعة الناس عدم الصدق في نقل القول، فأبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل هذا المنافق؛ لأن المفسدة في قتله أعظم من تركه حياً حتى مع الأذى. والشاهد: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لما سمع أباه يسب النبي عليه الصلاة والسلام انفعل وغضب، والصحابة كلهم كانوا هكذا، والذي كان يميزهم أنهم كان لهم التزام كبير بالنص سواءٌ كان قرآناً أو سنة. من أجل هذا: ينبغي لنا أن نعتني بقلوبنا، وألا نتساهل في أي شيء يطرأ على هذا القلب مهما كان دقيقاً. وليس بكبير أن ترحل إلى محافظة أخرى أو إلى بلد آخر لتسأل عالماً من علماء القلوب عن شيء يقض مضجعك؛ فأنت لو أصبت بمرض عضوي فإنك تطوف الدنيا لكي تتعالج، فقلبك أولى أن تهتم به: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] لا يستطيع المرء أن يتوكل على الله حق توكله إلا إذا كان سليم القلب. أسال الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا وإياكم قلوبنا، وأن يجعل حبه أحبّ إلينا من الماء البارد. والحمد لله رب العالمين.

احذروا خطوات الشيطان [2]

احذروا خطوات الشيطان [2] لا يزال الشيطان يدأب على كيد الإنسان واستدراجه لإيقاعه في المنكر والشر، والمطلب الأساسي للشيطان هو أن ينتهي بهذا الإنسان إلى أن يكفر بالله ويشرك به، لذلك فيجب على الإنسان أن يتعلم التوحيد ليتحصن به من كيد عدوه، وأن يعرف الله تعالى فهو ملجؤه وملاذة، وأن يجتنب مكائد الشيطان ويحذره.

ذكر أجناس الشر الستة

ذكر أجناس الشر الستة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فقد لخصت الآية عمل الشيطان ومراده، وأنه إنما يدعو الناس ليدخلوا النار، وهكذا كل من في قلبه غل إنما يتمنى أن يقع الناس في السوء، كما قال عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89]. فكل من في قلبه غل يتمنى النار للناس، ولقد رأينا هذا في الذين انتحلوا فكر الخوارج من أهل التكفير، لا تقر عينه إلا إذا حكم بالكفر على كل الناس، ومن ارتكب أدنى مخالفة فهو من أهل النار عنده، عنده غل، كلما غضب تمنى أن يهلك غيره، وهذا التصرف في الحب والبغض، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أسلم مولاه، قال: (يا أسلم لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً، إذا أحببت كلفت كما يكلف الصبي، وإذا أبغضت تمنيت التلف لمن أبغضته). فالشيطان يدعو الناس إلى النار، هذا هو مراده، مفردات شره التي وضعها في الأرض على مذهبه لا تدخل تحت الحصر، لكننا حصرناها في الجمعة الماضية في ستة أجناس من الشر، هي كالأعمدة والطرق، كل فرد من مفردات عمل الشيطان إنما تندرج تحت جنس من هذه الستة. الجنس الأول من الشر: أن يدعو الناس إلى الكفر، فإن أنجى الله العبد من الكفر دعاه إلى البدعة، فإن نجا من البدعة ولزم طريق السنة أوقعه في الكبائر، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، فإن نجا من الصغيرة شغله بالمباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب عن الأهم، فإن نجا من هذه شغله بالمفضول عن الفاضل، وإن كان المفضول خيراً أيضاً. لابد أن يضع أمامه عقبة من العقبات، فإذا كان الشر مستطيراً إلى هذا الحد، فكيف غفل الناس عن تتبع مذهب الشيطان، حتى يجتنبوه. عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه

التحذير من كيد الشيطان واستدراجه

التحذير من كيد الشيطان واستدراجه وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول كما رواه البخاري في صحيحه: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فقه الشر أن تكون عالماً بكل شَرَك ينصبه الشيطان لك، لكي لا يقع المرء فيه من حيث لا يدري، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] فهو يجرك خطوة خطوة، لا يجرك عنوة، ولا يجرك صراحاً، إنما يجرك خطوة خطوة، حتى في عبادتك. عثمان بن أبي العاص كما رواه مسلم في صحيحه قال: (يا رسول الله إن الشيطان أتاني ليلبس عليَّ صلاتي، فقال: ذاك شيطان اسمه خنزب، فإذا جاءك فانفث عن يسارك ثلاثاً، قال عثمان: فلما جاءني نفثت عن يساري ثلاثاً فلم يأتني بعد) هذا الشيطان اللعين عمله الإضلال. لقد رأيت أناساً نحلت جسومهم، وصاروا جلداً على عظم من الوسواس القهري الذي يغزو قلوبهم وعقولهم على غير إرادة منهم، وهم يخافون أن يموتوا على الكفر. يأتي الشيطان فيوسوس له في ذات الله وسواساً قهرياً لا حيلة له في دفعه، فينسب الله إلى كل نقيصة عنده، وهو خائف أن يعتقد قلبه هذا اللفظ في الله فيموت على الكفر، فيأتي وقد ضاعت حياته؛ إذا كان عاملاً لا يعمل، أو كان موظفاً لا يعمل، لا ينام، لا يأكل، لا يشرب وهو خائف أن يموت على الكفر، فإن كان الوسواس أدنى من ذلك، وسوس له في الطهارة، فربما توضأ عشرين مرة وثلاثين ومائة، وبعض الناس يظل يتوضأ من أذان الظهر حتى يدخل العصر، وبعضهم لا يستطيع أن يأتي بتكبيرة الإحرام أبداً؛ لأنه يوسوس له، يقول له: أنت ما نويت، وما جئت بالنية. لا يدعك على الإطلاق. فإن كان الوسواس أدنى من ذلك قال له: لماذا تذهب إلى المسجد، ألا تقصد بعملك وجه الله؟ أجل. يعني: ذهابك إلى المسجد هذا فيه رياء، داخل المسجد وخارج من المسجد تريد أن تقول للناس أنك لا تترك الصلاة!! فإن كان ضعيف العلم تأثر به، والوسواس أكثر فتكاً في العبَّاد، ولا يتمكن من العلماء أبداً، إنما يُهلك العبَّاد. مثلاً: رجل عالم مقبل على ربه، خائف على ورعه وإخلاصه فجاء الشيطان وقال له: صلِّ في بيتك!! لا تصل في المسجد وراء إمام، فربما لا تدرك التسبيحات كما تريد وتقرأ كما تريد، بينما أنت في بيتك حر، تسبح عشرين تسبيحة أو مائة تسبيحة أنت إمامُ نفسك، وفي نفس الوقت أنت حريص على ورعك وتقواك ولا أحد يراك!! أول ما ينادي المؤذن فلتكن أول الخلق يصلي، بينما هم لا يزالون يصلون ركعتين بين الأذان والإقامة وينتظرون حتى تقام الصلاة، فأنت أول من بادر إلى ربه وصلى، وطوِّل في صلاتك. هذه خطوة! الخطوة الثانية: الأذان، لماذا أنت مستعجل؟! هي كلها خمس دقائق، توضأ على راحتك وإن تأخرت عشر دقائق ثم بعد ذلك ربع ساعة، ثم نصف ساعة ثم يجمع الصلاة إلى بعضها، ثم يترك الصلاة. الشيطان نَفسه طويل، لو كان عندنا من الجد في العمل جد الشياطين لكنا من أولياء الله، سئل الحسن البصري: أينام إبليس؟ قال: (لو نام لوجدنا راحة)، إنه لا ينام على الإطلاق، يعمل الليل والنهار، وكل يوم له خطة، ومذهبه واسع جداً، مفرداته -كما قلت- لا حصر لها. الذي فرط في معرفة مذهب الشيطان ووقع في حبائله، ينبغي أن يبكي على نفسه طويلاً، وأن يكون كما قال الشاعر: نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للبكاء تعار العالم الذي لا يجد الوقت إذا مر على أصحاب المقاهي -وهم يلعبون- قال في نفسه: لو كان الوقت يباع لاشتريت أوقات هؤلاء المخبولين، الذين ضيعوا أعمارهم، فهكذا لو كانت عيون الناس تعار ليبكي المرء بها على ما قصر وفرط في معرفة مذهب الشيطان؛ لاشترى المرء عيناً يبكي بها.

أنواع التوحيد وأهميته

أنواع التوحيد وأهميته والشيطان يريد أن يوقعك في شر الأمرين، ولذلك نحن ذكرنا أجناس الشر على حسب خطورتها: الشرك، البدعة، الكبيرة، الصغيرة، المباح، المفضول، ستة أجناس، آخرها أهونها، وأولها أعظمها. فهو لا يرضى عن كفرك بديلاً، هذا مراده الأول والأصلي، فإذا عجز عن إيقاعك في الكفر أوقعك في أي جنس، والله تبارك وتعالى لما خلق الناس خلقهم جميعاً على التوحيد، كما رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطبة، فكان مما قال فيها: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون -أو ما جهلتم- كل مال نحلته عبداً فهو حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرموا عليهم ما أحللته لهم، وأمروهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإني أنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، فاقرأه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشاً قلت: ربي! إذاً: يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وأرسل جيشاً نرسل معه خمساً). وفي هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى قال إنه خلق الناس على الإسلام جميعاً: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. فأول مأمور به: التوحيد، وهو الذي ينجيك من الخطر الأول -الشَرَك الأول- الذي ينصبه الشيطان لك، التوحيد الذي أهملته كثير من الجماعات الإسلامية التي تدعو الناس إلى الله؛ لكن ليس على طريق الرسل، التوحيد نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في القصد والطلب. أنا لا أتصور أن تطلب من لا تَعرف، إذاً: لابد أن تعرف حتى تطلب، فأول نوعي التوحيد: توحيد الإثبات والمعرفة، وهذا متضمن لذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وأنت إذا قرأت خواتيم سورة الحشر رأيت الأسماء الحسنى كأنها منظومة لؤلؤ، تهز القلب هزاً: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:22 - 24]، وكذلك إذا تأملت كثيراً من الآيات تجدها مختومة بصفات لله تبارك وتعالى. وهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) هو المذكور في قوله تبارك تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، هذا هو توحيد الإثبات والمعرفة، عرفناه وأثبتنا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأثبتنا له الكمال المطلق. النوع الثاني من التوحيد: هو توحيد الألوهية، توحيد العبادة أنك تقصده ولا تقصد أحداً غيره: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] والقرآن مليء بهذا الجنس. وسورة (الكافرون) في توحيد الطلب والقصد، إذاً: تعرف ربك أولاً حتى تحبه، وتمثل قول القائل: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي أي: اختر أي قتلة تُقتلها، وإنما يختار المرء على قدر نبله وشرفه وتوحيد قصده. أحببت ربك تقتل فيه، أحببت نبيك تقتل فيه، أحببت المال أحببت النساء أحببت الجاه تقتل فيه.

قصة برطيطا العابد

قصة برطيطا العابد وهناك مثل آخر أعجب: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17] علماء التفسير ذكروا قصة طويلة في سبب نزول هذه الآية، وهي لا تصح عن ابن عباس وإن ثبتت إلى مثل السدي وغيره. خلاصة القصة: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يسمى برطيطا عَبَدَ الله في صومعة سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين، وكان إبليس الكبير يرسل لكل مؤمن شيطاناً على قدره، فإذا كان المؤمن كبير القلب لا يرسل إليه شيطاناً صغيراً، بل يرسل شيطاناً مدرباً عنده خطط كبرى، فإبليس نفسه له جولات مع برطيطا ولكن عجز، فجمع المردة يوماً فقال لهم: لقد أعياني أمر هذا الرجل، ألا يكفيني واحد منكم أمره؟ فقام الأبيض وهو شيطان مارد والأبيض اسمه، وهو الذي يتعرض للأنبياء، وهو أخطرهم، قال: أنا له. قال: انطلق! فانطلق ليدعو الغلام، وحلق رأسه على هيئة الرهبان، وجاء صومعة برطيطا ونادى عليه فلم يجبه، كان برطيطا بدأ يتعبد يدخل في الصلاة عشرة أيام كاملة، لا ينتهي إلا بعد عشرة أيام، ويصوم فلا يأكل إلا بعد عشرة أيام، فالأبيض هذا جاءه وهو في أول العشرة أيام فتركه عشرة أيام في أسفل الصومعة لا يجيبه، فلما وجد الأبيض أن برطيطا لا يجيبه قام هو أيضاً فكبر وصلى، فلما انتهى برطيطا من الصلاة نظر من الصومعة فوجد رجلاً على هيئة حسنة وعلى وجهه خشوع وخضوع وإخبات، فندم على أنه لم يجبه، فأجابه: ماذا تريد؟ قال: أن ترفعني إلى منزلتك فأخدمك وأعبد الله معك، قال: إني عنك مشغول، وكبر ودخل في الصلاة، وتركه عشرة أيام أخرى في أسفل الصومعة، فبعد أن انتهى من الصلاة نظر من الصومعة إليه فوجده في غاية الجد والإخبات في العبادة، فقال له: ماذا تريد؟ قال: ارفعني معك أخدمك وأعبد الله معك، قال له: اطلع. فطلع، فصارا في اجتماع. برطيطا آخر جهده عشرة أيام، وإذا بالأبيض يصلي أربعين يوماً كاملة، فنظر برطيطا إلى عبادته واستقلها، قال: هذا تقصير مني! أنا فعلاً مخطئ لأني لم أجبه. ثم بدأا يعبدان الله جميعاً، فقال له الأبيض: علمني! فقال له: لا. أنت الأستاذ! أنت تعبد ربنا أربعين يوماً مرة واحدة، قال له: أنا سأعلمك ذلك، سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، قال له: ما هو؟ فقال: الاسم كذا، ثم نزل الأبيض يمشي في الأسواق، فذهب إلى رجل وصرعه، فأهله يبحثون عن طبيب، فعمل نفسه طبيباً وذهب، قال: ما حكاية هذا الولد؟ قالوا: مصروع، فأخذ يقلبه، فقال: هذا الرجل مصاب بعلة قوية، ليس له دواء إلا عند برطيطا، اذهبوا إليه، فذهبوا إلى برطيطا، وهو متلبس بهذا الولد معه، فأول ما قرأ كلمتين أو ثلاثاً برئ وفاق الرجل، بعد أن رقاه برطيطا بالاسم الأعظم بزعمه. نزل الأبيض من صومعة برطيطا وذهب إلى إبليس وقال له: والله! لقد أهلكت الرجل! أي رجل يطيع الشيطان في أقل شيء طمَّع الشيطان فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لا يأتيك خير من قبله على الإطلاق. بعد ذلك بدأ الأبيض يعمل في الناس مثلاً يصرع هذا ويصيب هذا بعلة، وكثر المرض في الناس جداً، وصار المنحوسون يتدافعون إليه ليشفيهم كما زعموا، فذهب الأبيض إلى فتاة من بنات الملوك وصرعها -عمها ملك وأخوتها ملوك- خنقها وجاء في زي طبيب، وقال لهم: لا يوجد حل غير برطيطا، فذهبوا إليه فأبى، قالوا: سنبني لها صومعة بجانبك وتعاهدها، فبينما هو يلتفت ذات يوم إذ رآها سافرة فوقع حبها في قلبه، فبدأ الشيطان يسول له، ما عليك إذا اقتربت منها وإذا فعلت وفعلت ثم تتوب، ما علموا أنك أذنبت ذنباً، وما على المرء إذا أذنب ذنباً واحداً وسعى وراء رحمة رب العالمين؟ فظل به حتى واقعها، فلما حملت قال له: قد فضحت نفسك وفضحت أشباهك!! فكل عابد سيشكون فيه. وهذه الخطة إبليسية، حيث ينصبون لك رجلاً شبهك، وبعد فترة تكتشف أن هذا جاسوس كان يسعى للتفرقة بين الناس، والإيقاع بالدعاة. الشيخ عبد الحميد رحمه الله سمعته مرة يقول: إن نسيت فلن أنسى رجلاً خدمني، وقرأ لي ثلاث سنين حتى اعتبرته ولداً من أولادي، وإذا بي أجده يدق بابي ذات يوم في الفجر، وجاء بالجند يقبض عليَّ. فقال الشيطان للراهب برطيطا: فضحت نفسك وفضحت أشباهك، لأن الناس كلما رأوا عابداً سيقولون: وما أدرانا لعله يكون مثل برطيطا! لم يكن هناك أحسن من برطيطا، إذاً: ما الحل؟ فبعد أن اتضحت المسألة وعلم أنهم قاتلوه، جاءه وقال: هل تعرفني؟ قال له: لا. قال: أنا صاحبك، وقد -والله- أحيط بك، المطلوب منك حتى أنجدك أن تسجد لي سجدة واحدة وأنجيك، فلما سجد قال: والله يا برطيطا هذا الذي طلبته منك! منذ خمس عشرة سنة وهو يتدرج به ليصل إلى هذه السجدة. إذاً: ما هي آخر خطوات الشيطان؟ ما هو الذي يريده الشيطان بهذه الخطوات التي لا تبدو خطيرة؛ لكن إذا جمعت بعضها إلى بعض صارت جبلاً؟ لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى قال: والله يا برطيطا هذا الذي أردته منك! لكن لو جاءه أول مرة وقال: اسجد للشيطان لأبى عليه، ولكن تدرج به حتى إذا سجد قال: هذا الذي أردته منك، فأنزل الله عز وجل الآية على مقتضى هذه الحادثة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم

فائدة ضرب المثل للكفر والكافرين

فائدة ضرب المثل للكفر والكافرين وقد ضرب الله عز وجل لنا مثل الكفر والكافرين، وهذا تمثيل. وبضدها تتميز الأشياء فقال تبارك وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فأنت أيها الرجل تأمل هذا المثل: لو لم يكن في التمثيل من الكفر إلا هذا المثال لكان كافياً أن تترفع عن أن تقترب من أهله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] تعرف الراعي الذي ينعق -يعني: يرفع صوته إلى آخر حد- ينادي الأنعام: البهائم والبقر والخرفان. الحيوانات سمعت؛ لكن هل عقلت؟ لا. والكافر هكذا: يسمع لكن لا يعقل، وهذا السمع الذي حُرمه الكافر هو سمع القلب، لا سمع الجارحة، فكلٌ يسمع، قال الله عز وجل في بيان جزاء هؤلاء: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] مع أن الكافرين قالوا: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] فقولهم: (قَدْ سَمِعْنَا) فهل سمعوا فعلاً؟ الله عز وجل قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] إذاً: سمعت الأذن ولم يسمع القلب. فالسمع المفيد لصاحبه هو سمع القلب، فهذه الحيوانات كما أنها لا تعقل ما يقال لها وإن كانت تسمع صوتاً، فالكافرون كذلك، يسمعون آيات الله تتلى عليهم فيلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26]، مع أن الأمثال -كما يقول العلماء- من باب المبين، يعني: لا يوجد أوضح من هذا، إذا طلبت توضيح الواضح. وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل أنا أفهم أنه قد يلتبس عليك المجمل مثل: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، صوموا رمضان، فأنت لا تفهم -من هذا وحده- كيف تقيم الصلاة ولا كيف تصوم ولا كيف تزكي؛ لأنه كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، لكن إذا فصلنا فهل تأتي -أيضاً- وتسأل في المفصل؟! فالمثال الآنف الذكر من باب المبين. وفيه يضرب الله عز وجل المثل بشيء واقعي ملموس أنت تعرفه لفكرة يجب اعتقادها. فالكافر الذي ختم الله عز وجل على قلبه يسمع المثل الواضح فيستغرب ويسأل ويقول: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26] ماذا يريد أن يقول بالضبط؟ إذ ثبت عليه البيان، هذا من الضلال البعيد كما قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، فتخيل الصورة! ذرات رماد لا تكاد ترى إلا لمدقق، فتصور هذا الرماد في يوم عاصف شديد الريح، هل تستطيع أن تجمع ذرة إلى ذرة، هذا إشارة إلى بعثرة أعمالهم، فلا ينتفعون بذرة منها، ولذلك ختم الآية وقال: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18]، وفي هذا المعنى يقول القائل الذي نعى حظه في الدنيا. إن حظي كرماد فوق شوكٍ نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه عسر الأمر عليهم، فقال بعض اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه فضرب ربنا عز وجل المثل في إهدار أعمال الذين كفروا بمثل هذه الصورة.

أهمية توحيد الإثبات والمعرفة بالنسبة لتوحيد القصد

أهمية توحيد الإثبات والمعرفة بالنسبة لتوحيد القصد فهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) ضروري لتوحيد القصد والإرادة، كلما عرفته أحببته، واعلم أنه لا يغيثك إلا هو، وليس لك منجى ولا ملجأ منه إلا هو أيضاً، فكلما عرفته اطمأن قلبك؛ لأن كل شر نفسي على وجه الأرض سببه اضطراب القلب وخوفه. ما عمل الطب النفسي على وجه الأرض؟ عمل الطبيب النفسي أن يطمئن قلب المريض، ويعيد الثقة إليه، ويبين له أنه إنسان يحظى باحترام الآخرين وتقديرهم، فعمل الطب النفسي كله لأجل طمأنة القلب من ناحية المستقبل، فالطب النفسي كله وقف على عتبة آية من كتاب الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. ونحن نعلم أن المحب مولع بذكر من يحب، ولذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار الموفقة؛ حتى تكون ذاكراً لربك في كل وقت، فما بال الناس لا يذكرون الله في الصباح ولا المساء، ولا يسبحونه وهم يتفكرون في مظاهر الكون؟! ولا يحبونه. ولو أحبوه لشغفوا بذكره رغماً عنهم. أحياناً الإنسان وهو نائم يهتف باسم من يحب، وإذا ابتلي بحب إنسان يراه كثيراً في المنام، واسألوا المحبين، يتمثل له المحب في اليقظة، ومن شدة ولعه يصطحبه في المنام أيضاً، والشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشيطان ذئب الإنسان)، لا يترك المرء لا في اليقظة ولا في المنام، فيجيئه في المنام بالكوابيس، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الرؤى ثلاثة) قسم منها تهاويل الشيطان، وحتى تردع هذا الشيطان الذي جاءك في المنام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أحدكم يتحدث بتلاعب الشيطان به). شخص يقوم من النوم فيقول لك: يا أخي! البارحة طوال الليل أرى في منامي أني أطير والعفاريت تطير ورائي، إذ نزلت تنزل ورائي، وإذا طلعت تطلع ورائي، وأحياناً يرى نفسه يتردى من قمة جبل، فيستيقظ من منامه فجأة فيجد نفسه على السرير، فيقول: الحمد لله، ما زلت أعيش، أو أن هذا الذي أراه ليس حقيقة. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لِمَ يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به؟)، عندما يتحدث الإنسان بهذه الرؤى ينتفخ الشيطان ويقول: بقوتي صرعته، أما إذا تفل على يساره ثلاثاً فإن الرؤى لا تضره، والشيطان يتصاغر ويتصاغر حتى يكون كالذباب والذر من الحقارة، فهذا الشيطان لا يدعك حتى في المنام؛ لأنك أنت فريسته وغاية مطلوبه. والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا الذكر؛ لأنه أولاً يشفي غليل القلب ويريح أعصابه، هذه فائدة الذكر الأولى. الفائدة الثانية: أنه يحصنك من الشيطان، كما رواه الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري الذي أوله: (إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، وأمره أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن) الكلمة الخامسة في هذا الحديث، (قال يحيى عليه السلام: وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فاحترز في حصن حصين، وإن العبد يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله). يعني هذه فائدة الذكر، حتى شرع الله لنا أن نذكره في أشد المواقف وهو لقاء العدو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، أول ما تذكر أنك مع الملك وفي معية الملك يستمد قلبك قوة، وفي حديث عياض بن حمار الذي ذكرناه آنفاً، قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وأرسل جيشاً نرسل معك خمسة) يعني من الملائكة.

حكم الجهل بالتوحيد

حكم الجهل بالتوحيد لابد أن تعرف ربك أولاً، ومن العجيب أن المرء قد يمارس مهنة من أدق المهن التي تحتاج إلى تركيز، وتحتاج إلى ذكاء عالٍ، فإذا هو في خلال سنة يأخذ دورة أو دورتين أو عشراً أو عشرين، وإذا به أحد المرموقين في هذا الفن مع شدة تعقيده، فإذا سألته عن ربه وجدته أجهل الناس به، مع أن معرفة الله أسهل من ذلك بكثير، فهل ذلك لأن معرفة الله صعبة؟ لا. ولكن أهملوا، ولذلك المرء لا يغفر له جهله إذا لم يسع إلى إزالته. نحن معاشر أهل السنة وإن كنا نَعذر بالجهل في أصول التوحيد أي: نقول لا يكفر؛ لكننا لا نرفع المؤاخذة عن الجاهل، إذا كان بإمكانه أن يرفع جهله، لماذا عرف أعقد من ذلك وترك معرفة الله وهي أسهل وأيسر؟! قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فمن أراد الوصول إلى الله وصل، لكن لا يصل إليه ويوحده إلا إذا عرفه وأحبه. القرآن كله قائم على التوحيد وجزاؤه وواجباته، والشرك وجزاء أهله، فمن أول الفاتحة إلى الناس لا تخرج عن هذا الموضوع على الإطلاق: التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وحقوق التوحيد من الأمر والنهي. فكل الأوامر والنواهي من حقوق التوحيد بمقتضى أنك رضيت بالله رباً، أي: تسمع وتطيع فيما أمرت به، وتنتهي عما نهيت عنه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يوسف:40] أي: لا يحكم فيك إلا الله. وذكر جزاء الموحدين مسألة ضرورية، حتى يحفز العاملين إلى العمل، فنصب الجزاء سنة قررها القرآن وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهو يتكلم عن الجنة، تكلم كثيراً عن جزاء المطيعين لربهم تبارك وتعالى، وفصل هذا الجزاء وفصل نعيم الجنان، وكلما زاد التفصيل زاد التصور؛ لدرجة أنه فصل مرة بعض نعيم الجنان، فسأله رجل: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة أننسجها بأيدينا أم تفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الناس، فقال: مم تضحكون، من جاهل يسأل عالماً؟ نعم يا أعرابي! تفتق عنها ثمار الجنة). ويسأله في أدق التفاصيل، فيقول: أنت في عليين، في المقام العالي، ونحن دونك، فهل نراك؟ يسأله في مثل هذه الدقائق، وما أغراه في هذا إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فصَّل، وهذا كله دافع للعمل. فأول ما ينبغي عليك أن تعلمه حتى تنجو من الشَرَك الأول الذي ينصبه الشيطان: أن توحد ربك، توحيد الإثبات والمعرفة، تحبه أولاً، فإذا أحببته جاء توحيد الطلب والقصد تلقائياً، لا تشعر بكلفة الأوامر ولا النواهي على الإطلاق.

خطر الشرك في إحباط العمل

خطر الشرك في إحباط العمل إن الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الشرك -أيها الإخوة الكرام- هو السيئة الوحيدة التي لا تبقي بعدها حسنة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ولا توجد سيئة تحيط بالعبد كل الإحاطة إلا الشرك، ولذلك لا يقبله الله عز وجل من أي إنسان كائناً من كان. قال الله تبارك وتعالى لأشرف خلقه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. ذكر الله عز وجل ثمانية عشر نبياً أولهم إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وأسوة الحنفاء: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]. وليس هؤلاء فقط، وإنما ذكر بهؤلاء لشرفهم، وإلا المسألة عامة، قال تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:87 - 88]. لو أشركوا مع نزاهتهم وجلالتهم لحبط عنهم ما كانوا يعملون، فكيف أهمل المسلمون معرفة هذا الباب الخطير، وصار المرء إذا قال: يا جماعة! ابدءوا بالتوحيد، قالوا له: التوحيد موضوع طويل! إسرائيل أخذت الأرض، ونحن لا قيمة لنا، إنما نعيش على الهامش. ويندب حظه! وهكم هتفنا بإخواننا: يا جماعة! ابدءوا بالتوحيد قبل توحيد الكلمة، يجيبك قائلاً: الطريق طويل! فاستعجلوا؛ ولذلك ما جنوا شيئاً، ولن يجنوا شيئاً، كل دعوة لا تبدأ بالتوحيد فهي فاشلة. فهذا باب خطير، ينبغي أن يعتني المرء به، أولاً: لسلامة قلبه، وليستمتع بالدنيا، لا يستمتع بالدنيا إلا أهل الله، وهم الذين يرون الدنيا جميلة، فمن أجل أن تستمتع بالدنيا عليك أن تعبد ربك، ووحد الاتجاه، فإن الله تبارك وتعالى ضرب مثلاً للمشرك -مهما كان عنده من الجاه والمال والسلطان- وأنه لا يشعر بسعادة على الإطلاق: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]. هذا هو مثل المشرك، رجل له عشرة مالكين، وليتهم على قلب رجل واحد، بل متشاكسون، إذا قال واحد منهم: شرِّق يقول الآخر: غرِّب، حتى ولو لم يكن في الغرب فائدة، لكن يريد أن يعانده فقط، وهذا معنى (متشاكسون) وهم كلهم أسياده، وكل واحد منهم عنده القدرة أن يوقع العقاب بهذا العبد؛ لأنه سيده، يقول أحدهم: يا ولد! اذهب إلى الشرق، الثاني قال: بل إلى الغرب، الثالث قال: بل إلى الشمال، الرابع قال: إلى الجنوب، وقال الخامس: اجلس مكانك، فإذا لم يطع الأول ضربه، وإذا لم يطع الثاني ضربه، والثالث والرابع فهو مضروب منهم جميعاً. أشقى إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان لا يجد السعادة على الإطلاق. إذا احتاج شيئاً يوماً من الأيام فيذهب إلى أحد أسياده فيقول له: أريد كذا، فيقول له سيده: هل طاوعتني؟ لماذا أعطيك وأنت لم تطاوعني، قلت لك: اذهب شرقاً؛ فسمعت كلام الثاني وذهبت غرباً، لا حسنة لك عندي، ويذهب إلى الآخر فيقول له: لا جميل لك عندي! فالرجل لا يستطيع أن يقوم بمطلوب ملاكه، فهو مضروب وملام ومهان، ولا يحفظون له جميلاً ولا حسناً. هذا جزاء من لم يوحد الجهة، وحِّد الجهة تسترح وتنجُ من أول شَرَك ينصبه الشيطان لك وهو الشرك، أعاذنا الله وإياكم من الشرك ظاهره وباطنه. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا

أسئلة وأجوبة [1]

أسئلة وأجوبة [1]

معنى (جواب الحكيم) في عبارات الفقهاء

معنى (جواب الحكيم) في عبارات الفقهاء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. Q قرأت في بعض الكتب عن (جواب الحكيم) فما معنى هذه العبارة؟ A معنى (جواب الحكيم) أن يزيد المفتي في جوابه على سؤال السائل زيادة لا تتم الفائدة من الجواب إلا بها، مثال ذلك: قال صلى الله عليه وسلم -وقد سألته امرأة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما-: (أنها حملت صبياً صغيراً ورفعته، وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر)، فجواب السؤال تم بقوله صلى الله عليه وسلم: (نعم). وما سألت المرأة: هل لها أجر أم لا، إنما زادها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة؛ لأن الإنسان لا يعمل إلا إذا أُجر، هكذا خلق الله عز وجل الإنسان، لذلك خلق له الجنة والنار كترغيب وترهيب، على خلاف ما ينسبونه إلى بعض الصوفية كـ رابعة العدوية وغيرها، التي كانت تقول: لو كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، ولو كنت أعبدك طمعاً في جنتك فأحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك فلا تحرمني من وجهك! ويقولون: إن الذين يعبدون الله عز وجل طمعاً في الجنة وخوفاً من النار إنما يعبدونه عبادة التجار، ويقولون: إن عبادتهم مدخولة؛ لأنهم يقولون: إن الذي يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار لم يخلص في عمله. وهذا قول مخالف للآيات القرآنية، ومخالف لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فذكر ربنا عز وجل أن الذي يدخل الجنة قد فاز. ولا يتصور أن يعبد الرجل ربه بغير أجر وجزاء (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود- وقال له: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن). أي: حول سؤال الله الجنة والاستعاذة به من النار ندندن. فالإنسان إذا لم يعمل لحافز فترت همته، ولذلك فأنت ترى في الدنيا القطاع العام نظامه فاشل، والقطاع الخاص نظامه ناجح، لأن القطاع الخاص يربط الأجر بالإنتاج، لكن القطاع العام مثل الدواوين، هذا الرجل له مرتب سواء عمل أو لم يعمل سيأخذ مرتبه. القطاع الخاص يقول صاحبه مثلاً: القطعة بدرهم، فحينها يقول: وأنا لماذا أجلس فارغاً؟ أستكثر من القطع لأجل أن أستكثر من الدراهم هذا كله بسبب الحافز. والصحابي الذي قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة. فكان يأكل تمرات، فرمى بالتمرات، وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، فقاتل حتى قتل). فتصور الحوار الآتي: هل كان هذا الرجل يبادر فيلقي بالتمرات ويدخل في غمرات القتال؟ لا. وفي أيام قتال ابن الزبير مع عبد الملك بن مروان، جاء رجل إلى ابن الزبير وقال له: أقاتل معك -وأنا فارس مشهور- فكم تعطيني إذا أبليت بلاءً في القتال يعني؟ قال: أعطيك كذا وكذا. فقال: أعطني المال؟ قال: حتى نرجع، نقاتل ونرجع. فتولى عنه الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي ديناً وتعطيني دراهمك نسيئة. أي: ما يضمن لي أن أرجع، فالرجل لأنه لم يعطه ابن الزبير ترك القتال معه، فكذلك الإنسان. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قالت المرأة: (ألهذا حج؟ قال: نعم. -ثم حفزها لما يعرفه من طبيعة الإنسان أنه إذا عمل أجر- قال: ولك أجر). لأن الإنسان قد يقول: هذا صبي صغير، وأنا أؤخر الحج حتى يبلغ وتكتب له الحجة، فكان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حافزاً للمرأة، وللرجال الذين يسمعون هذا الحكم حتى يأخذوا أولادهم إلى الحج. ومنه أيضاً ما رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن حل الميتة، إنما سألوا عن طهورية ماء البحر أهو طاهر؟ فكان يكفي الشطر الأول في الجواب: (هو الطهور ماؤه) لكن زادهم الرسول عليه الصلاة والسلام حكماً لم يسألوا عنه، وهذا من تمام شفقته عليه الصلاة والسلام بهؤلاء السائلين. فإذا كان هؤلاء الأعراب استشكلوا طهورية ماء البحر، فلأن يستشكلوا ميتة البحر أولى، إذا كان استشكلوا الشيء المشهور المعروف، فلأن يستشكلوا ما هو أغمض منه أولى، وهؤلاء أعراب يركبون البحر، فقد يغيب الرجل خمسة عشر يوماً في البحر وينفد زاده، وقد يضطر إلى أكل السمك أو أكل حيتان البحر، وليس عنده أي معلومة هل ميتة البحر حلال أم حرام؛ فأشفق عليهم فأفتاهم. ولو قال شخص: لم يكونوا صيادين. فنقول: لا؛ لأنه ورد في بعض طرق الحديث أنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، ولو كانوا يصطادون السمك لكان هذا ظاهراً جداً بالنسبة لهم. لكنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، فربما نفد زاد هؤلاء فظنوا أن ميتة البحر تدخل في عموم الميتة في القرآن، فلا يأكلون، قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] و (الميتة): اسم جنس محلى بالألف واللام، يفيد العموم، أي: حرمت عليكم كل أنواع الميتة. وقد يقول شخص: السمك والجراد معروف للناس جميعاً أنه مستثنى من الميتة؟ نقول: لا، هذا معروف لنا، لكن بالنسبة لهؤلاء الأعراب لم يكن معروفاً، فأنت إذا عرفت أن أحد كبار الصحابة المجتهدين لم يكن يعرف هذا الحكم سهل عليك أن تعرف أن هؤلاء الأعراب لا يعرفون الحكم. فهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد روى خبره هذا البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطاهم جراباً فيه تمر، فكان يعطينا الحفنة من التمر فنأكلها. فلما كاد التمر أن ينفد كان يعطينا تمرة تمره، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر أكلنا ورق الشجر -يضربونه بالعصي ثم يطحنونه، ثم يأكلونه، فسمي هذا الجيش جيش الخبط، الذي هو نسبة إلى ورق الشجر الناشف- فظلوا يأكلون ورق الشجر شهراً حتى قرحت أشداقهم. قال: ثم قذف البحر لنا دابة عظيمة يقال لها العنبر -دابة عظيمة: حوت من حيتان البحر، لكنه عظيم الخلق- قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في وقب عينه -مكان العين هذه مكث فيه ثلاثة عشر واحداً من الصحابة- قال: وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال. فأول ما رمى البحر هذا العنبر على الشاطئ قال أبو عبيدة: ميتة! لا تأكلوه -لم يكن عند أبي عبيدة خبر أن ميتة البحر مستثناة من عموم الميتة في كتاب الله عز وجل-. ثم قال لنفسه: نحن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون، فكلوه -إذاً أبو عبيدة أيضاً لما أكل لم يخالف النص القرآني: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فحمل هذا الأمر على الضرورة، وأكلوا- وأخذوا من لحمه وشائق -أي: وضعوا عليها ملحاً وقددوها-. فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك قال: (هذا رزق رزقكموه الله عز وجل، فهل معكم منه شيء؟). فإذا كان أبو عبيدة بن الجراح وهو من هو في العلم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقع طاعون عمواس وأراد أن يخرج قبل أن يعرف الحكم، فقال له أبو عبيدة: أتفر من قدر الله يا أبا حفص؟ قال: يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها -يعني: كان أدبه، لكن أبا عبيدة كانت له مكانة عند عمر وكان جليل القدر والعلم، وكأنما يقول: أفمثلك في علمه يقول مثل هذا الكلام؟ - نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. فإذا كان هذا الحكم يخفى على مثل أبي عبيدة بن الجراح فله أن يخفى على مجموعة من الأعراب أولى وأولى، والرسول عليه الصلاة والسلام علم استشكال هؤلاء عن ماء البحر، فأعطاهم هذا الحكم الزائد الذي لم يسألوا عنه؛ رحمة بهم. ومن هذا الباب أيضاً: قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما ذهب يبحث عن راهب يفتيه: هل له توبة؟ فدل على راهب فأتى إليه، فقال: هل لي من توبة؟ قال: لا؟ فقتله فأتم به المائة، ثم أذن الله له بالتوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض. فدلوه على راهب عالم، فقال له: إني قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات. قال: (ألي توبة؟ قال: نعم) وهنا تم الجواب. كل الزيادة القادمة هذه من تمام (جواب الحكيم) لا تتم الفائدة، ولا ينتفع هذا الرجل إلا بتمام الفتوى. (ألي توبة؟ قال: نعم. -الزيادة- (ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوم يعملون الصالحات). أول زيادة: فيها أمانة العا

حكم إطلاق اللحية في الشرع

حكم إطلاق اللحية في الشرع Q أنا شاب التزمت قريباً، وأطلقت لحيتي، وطال جدال بيني وبين والدي وإخوتي، فهم يقولون: اللحية لا ضرورة لها الآن، وأهم شيء القلب، ويقولون لي: ليست اللحية واجبة، وليس عندي من المعلومات الشيء الكثير لمناقشتهم، فأرجو أن تفصل هذا الأمر؛ لأنه مهم جداً بالنسبة لي حتى أقنعهم؟ A الحقيقية أن الذي يزعجني قول بعض الناس للذي يطلق لحيته، مثلاً: هل صنعت كل شيء من الواجبات فما بقي إلا اللحية؟! فيهونون عليه هذا الحكم. إذا نظرنا إلى الدين بهذه الصورة فلن يفعل أحد قط شيئاً من الخير، فمثلاً: سرت في الشارع ووجدت زجاجة مكسورة يمكن أن تجرح إنساناً ما، فأخذتها ووضعتها بجانب الطريق، فيأتيني رجل يقول لي: هل فعلت كل شيء إلا حمل الزجاجة من على الأرض؟ هل يستقيم هذا الكلام؟! وهل العبادات بعضها مترتب على بعض بحيث إذا لم تفعل هذه لا يحل لك أن تفعل الأخرى؟! بل الرسول عليه الصلاة والسلام يقول -كما في الصحيحين -: (إن امرأة بغياً من بني إسرائيل -بغياً: أي: تتاجر بعرضها- رأت غصن شوك من على الأرض فحملته فنحته جانباً، فشكر الله لها؛ فغفر لها). أنت لا تدري ما يقبل من عملك؛ لذلك لا تكف عن فعل الخير أبداً، الزجاجة التي تحملها عن الأرض لعل الله عز وجل يكفر عنك ذنوبك كلها بهذه الزجاجة، فهذه الزجاجة قد تكون عند الله عز وجل أفضل من قيامك وصيامك، وأنت لا تدري، وهذا ليس تهويناً للصيام والقيام، هل أنت تتصور أنه ورد لك في النصوص -إذا لم تكن تعلم هذا النص- أن غصن شوك يسقط ذنب امرأة تاجرت بعرضها، وزنت وغصن شوك يسقط كل هذه الجرائم من على أكتافها؟! أنت لا علم عندك علم بالذي يتقبل من أعمالك، أحياناً قد تعمل عملاً وتتصور أنه أجل عمل عملته ولا تؤجر عليه، وتعمل عملاً آخر وليس عندك اهتمام كبير به فالله عز وجل يغفر لك به. اللحية ليست كما يظن كثير من الناس أنها مستحبة، بل هي واجبة، والفرض والواجب عند جماهير العلماء واحد. لماذا هو فرض؟ نقول: إن الأوامر ثلاثة أقسام: الواجب، والمستحب، والمباح. والمباح: يعتبر أمراً من جهة الصيغة -وهناك خلاف بين العلماء هل المباح أمر أم لا- كأن أتكلم على جهة الصيغة الآن، فالأوامر إما أن تكون من الأعلى للأسفل، أو من الأسفل للأعلى، أو من النظير للنظير. فالأوامر من الأعلى للأسفل تفيد الإلزام، ومن الأسفل للأعلى تفيد التوسل والرجاء، والنظير للنظير تفيد الطلب، فإذا قال الله عز وجل لنا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. (تب): فعل أمر من أعلى، أي: لا خيار لك في الترك، لابد أن تفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيث ما كنت) فعل أمر، يبقى هذا يفيد الإلزام. مثال الأمر من أسفل للأعلى: أنت تقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي (اغفر): فعل أمر، لكن هل أنت تأمره؟ لا، أنت تتوسل إليه. والأمر من النظير للنظير: أقران أنداد فأحدهم يقول للآخر: افعل كذا هذا على سبيل الطلب وليس على سبيل الإلزام. هذه حقيقة الأمر! فالعلماء يقولون: الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب إلا أن تأتي قرينة تصرفه عن الوجوب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (اعفوا اللحى) (ارخوا اللحى) (وفروا اللحى) وفي لفظ آخر: (ارجوا اللحى). أما (اعفوا) فهو من تمام الترك، تترك اللحية حتى تكثر، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، (حتى عفوا): أي كثروا. و (ارجوا اللحى): من قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]، أي: متروكون، أي: أتركوها. و (فروا اللحى): من التوفير. فكل هذه الأوامر معناها: تمام الترك. القرينة التي تصرف هذه الأوامر مثل أن يأتي رجل قد حلق لحيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرحب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وهذه قرينة تدل على أن الأمر لا يفيد الوجوب؛ لأنه لو كان واجباً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، وقال له: لماذا حلقت لحيتك، فإن اللحية فرض؟ أما إذا لم ينكر عليه وهو لا يقر على الباطل، إذاً: هذا يدل على أن اللحية ليست واجبة، وإنما هي مستحبة، إذا فعلتها تثاب عليها وإذا لم تفعلها لا تعاقب. فهل ثبت أن أحداً من الصحابة حلق لحيته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؟ الجواب: لا، أبداً. هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق لحيته؟ لا. لم يثبت شيء من هذا إطلاقاً. والعلماء يقولون: يبقى الأمر على حالته الأولى، وهو أنه يفيد الوجوب. فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما يقول: (اعفوا اللحى وقصوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى) ولكن هنا شبهة سمعتها من أستاذ في قسم الحديث، عندما كانوا يستقدمونه في ندوة عن الرأي التي كان يرد فيها على الشباب، فقال: بل لو قلت: إن حلق اللحية هو السنة لما أبعدت. لماذا يا فلان؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خالفوا اليهود والنصارى) والقساوسة والحاخامات ملتحون مربون لحاهم، فالمفروض أنا حتى أخالف هؤلاء أحلق لحيتي. فهل هذا الكلام صحيح؟ لا؛ لأن لفظ اليهود والنصارى اسم جنس محلى بالألف واللام يشمل جميع اليهود والنصارى، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: وخالفوا القساوسة والحاخامات، إنما قال: (خالفوا اليهود والنصارى). فالنصارى الموجودون أكثر من مليار مثلاً، واليهود الموجودون افترض أن عددهم خمسة عشر مليون يهودي على وجه الأرض. كم واحد ملتحٍ في النصارى؟ لا تكاد تجد نصرانياً يعفي لحيته إلا القسيسون الكبار، فأنت لو وجدت قساً شاباً أعفى لحيته اعرف أن هذا متعصب لدينه جداً، لأن اللحية غير معروفة في القسيسين أنفسهم إلا في كبار السن. ولو سلمنا أن كل القسيسين أعفوا لحاهم كم تكون نسبتهم إلى العدد الكلي؟ لا يشكلون أية نسبة مئوية مذكورة، يبقى هل لا يزال النصارى يحلقون لحاهم أم لا؟ الجواب: نعم لازالوا. لازال اليهود يحلقون لحاهم أم لا؟ نعم لازالوا؛ لأن هذا اسم جنس يشمل كل يهودي على وجه الأرض، ويشمل كل نصراني على وجه الأرض. ولو سلمنا أن كل النصارى على وجه الأرض أعفوا لحاهم، وكذلك كل اليهود أعفوا لحاهم، فما موقفنا؟ هل نحلق لحانا مخالفة لهم عندما أجمعوا جميعاً على إعفاء اللحية؟ الجواب: لا، لأن إعفاء اللحية من سنن الفطرة، التي هي القدر المشترك في كل دين لا يتغير: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، فالفطرة هي جملة من الأوامر الثابتة التي لا تتغير من شريعة إلى شريعة، ولا من قول إلى قول. فهم إذا تركوا لحاهم فلم يحلقوها فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية، ونحن أيضاً مأمورون أن لا نحلق لحانا لماذا؟ لأنها من سنن الفطرة كما في صحيح مسلم رحمه الله. إذاً: على أي محور لا يحل لمسلم أن يحلق لحيته، أضف إلى ذلك أن اللحية هي شعار المسلم الظاهر، فأنت عندما تمشي في الشارع هل تستطيع أن تميز بين المسلم وغير المسلم؟ لا تستطيع، اختلطت الأزياء والأشكال، حتى ذاب المسلم في وسط الكافر. فهذا كمال أتاتورك ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا، ومن جملة ما فرضه على الناس (القبعة) وهي خاصة بالإنجليز وشعارهم، فأول ما فرض القبعة قام علماء الدين جمعياً وقالوا: لا يجوز، فبدءوا يقبضون عليهم ويحاكمونهم ويعدمونهم، فكان ممن أعدم في هذه الآونة رجل عالم، أصدروا عليه حكم الإعدام، لكن قالوا: لكي نبين أننا أناس ديمقراطيون، فسنرتب له محاكمة هزلية وندينه، ثم نقرأ عليه حكم الإعدام، لأننا لو أعدمناه مباشرة سيبقى بطلاً، فنحن لكي نفوت عليه البطولة ولا يبقى رمزاً ندينه أولاً ثم بعد ذلك نعدمه. جاء القاضي وقال له: عجباً لكم يا علماء الدين! ما أتفهكم! هذه العمامة التي تلبسها إذا جعلتها على رأسك قلتم: مشروعة، وإذا استبدلتها (برنيطة) قلتم: غير مشروعة، ما هو الفرق بينهما وهذا قماش وهذا قماش؟ قال العالم: أيها القاضي! إنك تحكم علي وخلفك علم تركيا، فهل تستطيع أن تستبدله بعلم إنجلترا وهذا قماش وهذا قماش؟ فبهت، لكنه نفذ عليه حكم الإعدام أيضاً. عندما يلبس الشخص (القبعة) القضية أن هذا شعار لا ينبغي أن يرتديه المسلم، فعندما يجد الشخص أولاداً يلبسون ملابس رياضية عليها علم أمريكا، وأحياناً عليه علم إسرائيل، نجمة داود على صدر الولد، فالولد هو يرفع شعاراً لعدوه على صدره يحمله، وهو لا يدري بل هو غافل! فاختلطت أزياء المسلمين بالكافرين، تمشي في الشارع لا تستطيع أن تقول: هذا مسلم وهذا كافر أبداً، لكن إذا رأيت رجلاً أعفى لحيته ويمشي في الشارع أنت تقول: هذا مسلم. اللحية إعلان للهوية، أضف إلى ذلك أن غياب اللحية أضاع علينا أحكاماً أخرى مرتبطة باللحية، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا، فقال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام) والحديث الأول يقول: إن إفشاء السلام مستلزم لوجود المحبة المستلزمة للإيمان، قال: (أفشوا السلام بينكم) فكيف أفشي السلام وأنا لا أستطيع أن أميز المسلم من غير المسلم؟ وأنا منهي أن ألقي السلام على الكافر -اليهود والنصارى-؟ فبهذه الطريقة أنا لا أستطيع أن ألقي السلام، فضاع علينا شيء عظيم. كذلك المسلم له حقوق على المسلم لا يأخذها الكافر، فمثلاً: تشميت العاطس، ففي سنن أبي داود أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم النبي صلى الله علي

تعريف بأبي حمزة السكري

تعريف بأبي حمزة السكري Q وقفت في بعض الأسانيد على راو اسمه أبو حمزة السكري، فمن هو؟ A أبو حمزة السكري هو أحد الرواة من طبقة سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، وهو من الرواة عن الأعمش رحمه الله، وهو راوٍ ثقة، وإنما قيل له: السكري لحلاوة كلامه، كان كلامه كالسكر. فمن ضمن كلام أبي حمزة رحمة الله عليه، ونحن أمة مليئة بالعظماء، فهذا أبو حمزة لا يعرفه أحد، كثير من الناس لا يعرفون أبا حمزة السكري، وقلامة ظفر أبي حمزة بكل العظماء الذين يلمعونهم في الغرب لنا، في علم الاجتماع، وعلم الفلسفة، وعلم النفس، يريدون أن يقنعونا أن هؤلاء الناس عظماء. هؤلاء العظماء الذين يلمعونهم في الغرب عندما تأتي تبحث عن سيرتهم تجد الذي كان شاذاً جنسياً، والذي كان يلاط به ويلوط، والذي يريد أن يرفعه لأجل أن يجعل له قيمة، نحن أمة كلها عظماء، عندنا ألوف مؤلفة من العظماء. فهذا أبو حمزة السكري كان يقول: (ما مرض جار لي قط إلا قومت نفقته في مرضه، وتصدقت بها أن عافاني الله مما ابتلاه به) أي: إذا مرض جاره، وذهب للطبيب فأعطاه أدوية بقيمة أربعة آلاف درهم أو خمسة آلاف درهم تصدق بهذا القدر. انظر العظمة! كان ممكن إذا مرض أن ينفق هذه العشرة آلاف درهم على المرض، طيب! ما رأيك أنه قد لا يؤجر على العشرة آلاف درهم لماذا؟ لأن التداوي ليس بواجب، بل هو مباح، فلو أن رجلاً مرض فأبى أن يتداوى، لا أثم عليه، وليس واجباً. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما مرض قالوا: (نأتيك بطبيب؟ قال: الطبيب نظر إلي، فقال: إني فعال لما أريد) فترك التداوي جائز. فأنت إذا أنفقت على رفع العلة تنفق على شيء جائز، فلا يكون التداوي واجباً إلا إذا انضاف شيء آخر كأن يكون مرضك يؤثر في القيام بواجب معين، فحينئذ قد يرت قي التداوي إلى درجة الوجوب، ليس لذاته ولكن لغيره. فيقوم هو يتصدق، فالصدقة هذه مقبولة، فيها شكر لله عز وجل مع أن فيه هذا المرض. وذات مرة أراد جار أبي حمزة أن يبيع داره، فجاءه المشتري، فقال له: بكم تبيع هذه الدار؟ قال: أبيعها بألفين لثمن الدار، وبألفين لجوار أبي حمزة. فبلغ ذلك أبا حمزة فأرسل إليه أربعة آلاف درهم، وقال له: لا تبع الدار. انظر علماءنا! كان كلامهم جميلاً، عندما تقرأ ترجمة أبي حمزة السكري تستمتع، وهذا رجل غير معروف، فكيف بعلمائنا العظام الكبار الذين هم مشهورون بيننا؟ تجد سيرتهم أطيب وأطيب؛ لأن الكل كان يحرص على نقل سيرتهم، فمثلاً: الرواة الذين لا تعرفهم الجماهير الحسن بن صالح بن حي، وله أخ كان اسمه علي بن صالح بن حي، وكلاهما ثقة، وعلي هو أوثق الرجلين، والاثنان توأم، فهذا علي لم يكن يمشي أمام أخيه أبداً، ولا يتقدمه، ولا يجلس قبله، فسئل: فقال: هو أكبر مني، أتى الدنيا قبلي. انظر إلى الاحترام! هو جاء إلى الدنيا قبله بدقيقة واحدة، فما كان يمشي أمامه، ولا يجلس قبله، وهو الذي كان يخدمه، وكان علي بن صالح والحسن هؤلاء لهم أم، فكانوا يقسمون الليل أثلاثاً: الحسن يقوم الثلث الأول، وعلي يقوم الثلث الثاني، وأمهم تقوم الثلث الآخر، ماتت أمهم فقسما الليل بينهم، ثم مات الحسن فقام علي بالليل كله. وكان لهم جارية -وهذا الخبر رواه العجلي في كتاب الثقات في ترجمة الحسن بن صالح - ثم باعوها، فاشتراها رجل، وفي الليلة التي اشتراها الرجل فيها قامت قبل الفجر وجعلت تقول: يا أهل الدار! الصلاة الصلاة! فقالوا لها: أذن للفجر؟ قالت لهم: لا تصلون إلا الفجر. قالوا: نعم. قالت لهم: لا تقومون الليل؟ قالوا: لا. فلما أصبح الصباح ذهبت إلى الحسن، وقالت: ردني إليك، فإنك بعتني لقوم سوء لا يقومون الليل. نعم، حُق لها أن تكون عابدة، زاهدة، قوامة لليل؛ لأن البيت كله بيت عبادة، لا يعرف الكسل. نحن لا نعرف شيئاً عن الحسن بن صالح بن حي ولا عن أمه، لذلك أنا أحض على قراءة سير الأسلاف، اقرأ سير العلماء يرق قلبك وتجد الأسوة الطيبة في الاقتداء، لاسيما في زمان الغربة الذي كل شيء فيه يقول لك: هلم إلى النار! ولله در أبي سليمان الخطابي لما كان يقول: وليس غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين (بست) وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي ليست غربة الإنسان في شقة النوى، أن تترك بلدك وتذهب إلى أي بلد آخر أبداً، لكن غربة الإنسان في عدم الشكل، أن لا يكون لك نظير، الإنسان يعيش في وسط أهله وإخوانه وهو غريب، لا يجد له إلفاً ولا نظيراً، يتجرع الغربة وحده. أنت بحاجة إلى أن تقرأ سير هؤلاء الأسلاف ليصبروك، وليطول نفسك على السير في هجير الحياة والله أعلم.

حكم نتف الإبط وحلق العانة أثناء الصيام وحلق العانة

حكم نتف الإبط وحلق العانة أثناء الصيام وحلق العانة Q هل يجوز نتف الشعر أثناء الصيام؟ وهل حلق العانة يكون بإزالة الشعر تماماً أم يكفي قصه؟ وهل هو واجب أم مستحب؟ A أما نتف الشعر فلا يضر بالصيام، يجوز للصائم أن يزيل شعره، كأن ينتف الإبط مثلاً. وأما العانة فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر بنتف الإبط وحلق العانة، ولم يقل: ونتف العانة. وسئل أبو سليمان الخطابي عن عادة النساء في نتف العانة فنهى عن ذلك، وقال: (إن هذا يخالف النص، ثم إنه يرخي الفرج ويؤذيه) إنما السنة في العانة الحلق، والحلق لا يعني الإزالة، ولا النتف، فالسنة في العانة الحلق، والنتف يكون للإبط. ومعلوم عند جماعة العلماء أن حلق العانة، ونتف الإبط للاستحباب والله أعلم.

حكم زكاة الحلي

حكم زكاة الحلي Q عندي ذهب أستخدمه كحلي، ولكن لا أرتديه كثيراً، وأزكي عنه، فهل أعتبر ممن يكنزون الذهب والفضة، وهل قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهب الذي يستخدم كحلي: إنه سوار من نار؟ A أما إذا كان المرء يزكي عن هذا الذهب فلا جناح عليه، إذا زكى عن ذهبه فقد زال عنه شره، ولا يكون كنزاً، إنما الكنز المذموم: أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، ومعلوم أنه لا يجب في مال المرء المسلم إلا الزكاة، فإذا زكى عنه فلا جناح عليه. وأما بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام هل قال للذي يستخدم الذهب والفضة أنه يرتدي سواراً من نار؟ فهذا الحديث صح، لكن حمله العلماء على المرأة التي تتفاخر به، أو على المرأة التي لا تخرج زكاته. وبهذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين، والله أعلم.

أسئلة وأجوبة [2]

أسئلة وأجوبة [2]

معنى تنبيه المحدثين على إرسال الراوي

معنى تنبيه المحدثين على إرسال الراوي إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. Q الراوي إذا ذُكر في ترجمته أنه يرسل أو يرسل كثيراً، ما معنى ذلك؟ A المحدثون ينبهون على الإرسال، ويقصدون به عادة الإرسال الخفي، لأن هناك بعض الناس لا يفرقون بين التدليس وبين الإرسال الخفي فيخلطون بينهما؛ فلذلك إذا كان الراوي ممن يرسل فلا يجوز إطلاق التدليس عليه، وعلى سبيل المثال قتادة، كان يرسل كثيراً، ويدلس أحياناً، يقولون في ترجمته: (يرسل) صيانة له من الوصف بالتدليس؛ لأن بينهما فرقاً، فالمدلس لابد أن يصرح بالتحديث كي يقبل منه، أما إذا عنعن فعند إذٍ تجرى عليه قواعد عنعنة المدلس، بخلاف المرسل.

حكم تعليق التمائم

حكم تعليق التمائم Q بعض الناس يعلقون التمائم وفيها ألفاظ غير معروفة وأسماء جن؟ A النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا بأس بالرقية ما لم تكن شركاً) فمن الشرك أن يستعين الإنسان بالجن، فبعضهم يكتب تمائم وكلمات معينة يستعين فيها بالجن، لكن الإنسان إذا رقى إنما تجوز له الرقية بفاتحة الكتاب أو شيء من القرآن، أو بدعاء معروف لا يكون فيه شيء من الشرك، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا بأس بالرقية ما لم تكن شركاً) ففيه جواز الرقية بشرط ألا يكون فيها شرك، ولا يشترط في الرقية أن تكون بالمأثور المعروف، بل بأي دعاء؛ بشرط ألا يكون فيها شرك، لأن الشرك مضاد للتوحيد. والذي يرقي لابد أن يكون رجلاً مخلصاً؛ لأن كما قيل: كان عمر بن الخطاب يرقي بالفاتحة، فاستدعوا رجلاً يرقي، فقال: هذه الفاتحة وليس عمر، يعني: كل إنسان يمكنه أن يرقي بالفاتحة ويحصل المقصود، لكن تجد أن الله سبحانه وتعالى يجعل الشفاء على يدي شخص ولا يجعله على يد الآخر، وهذا يختلف من شخص لآخر باختلاف الإخلاص والخشية.

فضائل معاوية رضي الله عنه

فضائل معاوية رضي الله عنه Q يقولون: إن معاوية بن أبي سفيان لم يصح في فضله دليل مخصوص، فهل هذا صحيح؟ A نعم، صحيح، لم يصح في فضل معاوية بن أبي سفيان عند أكثر المحدثين شيء خاص به، لكن استظهر الإمام البخاري وغيره لـ معاوية فضل الصحبة، وإن فاته الفضل الخاص، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث ابن عباس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمره أن يستدعي له معاوية ليكتب شيئاً من الوحي أو نحو ذلك، فوافاه وهو يأكل، فقال: بعدما آكل. فأرسل لـ معاوية مرة بعد مرة وهو يقول: حتى آكل، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه) فقال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ: لعل هذه منقبة لـ معاوية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أم سليم: (أوما تدرين ما اشترطت على ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعل ذلك له زكاة وأجراً) فإذاً: ثبت لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في هذا الأمر ما ثبت بدلالة الحديث. وقد أطبق جميع أهل السنة على فضله ومدحه، وقد ولي الخلافة عشرين سنة ما اشتكى منه أحد، وكان حليماً، وله مناقب كثيرة شهد له بها الصحابة أنفسهم.

تكفير الحاكم ونتائج الخروج عليه

تكفير الحاكم ونتائج الخروج عليه Q قضية تكفير الحاكم أصبحت منتشرة وخاصة عند الشباب المبتدئين أو قليلي العلم، فما توجيهاتكم نحو هذا الأمر؟ A المسألة فيها تفصيل نظري أكثر من العملي وهي من المسائل المهمة، لكن المسلم المعاصر لا يستطيع أن يفعل شيئاً، نفترض أنه يوجد حاكم مستبد وظالم في بلدة من البلدان، ما عسى المسلم المعاصر أن يفعل؟ قد يأخذ حكم المسألة نظرياً فقط كالذين يكفرون الحكام، ثم ماذا بعد ذلك؟ لا يعمل شيئاً، فلذلك البحث في هذه المسائل سيكون بحثاً نظرياً أكثر منه عملياً. وأنا أعتقد أن كل الناس يعرفون الآن أن الحكام ما بين كافر وفاسق، لا تكاد تجد رجلاً يمكن أن ينجو من واحدة منهما: إما كافر، وإما فاسق. فإذا كان كافراً أو فاسقاً ما هي النتيجة؟ هل سيخرج عليهم؟ إذا كان هذا الرجل كافراً فلا بيعة له في أعناقنا -مع أنك ترى أنه لا بيعة في الأصل- فما يبقى إلا مسألة وجوب الخروج عليه. فهذا الوجوب يسقط بعدم الاستطاعة، فمسألة الخروج على الحاكم هذه مسألة صعبة جداً، يقول ابن كثير: كل الويلات التي وقعت في هذه الأمة بسبب محاولة الخروج على الحكام، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، فالخروج على الحكام هو أصل البلاء الذي أصاب الأمة من لدن عثمان بن عفان عندما خرجوا عليه رضي الله عنه حتى هذه الساعة. فإذا كان الإنسان لا يستطيع الخروج على الحاكم، فإن الواجب يسقط بعدم الاستطاعة، والمهم في المسألة أن مؤدى الباحث في النهاية أنه لا يستطيع أحد أن يخرج على أي حاكم في الظروف الحالية؛ لأنه ما عندهم ما يستطيعون أن يخرجوا به، فلذلك الكلام ليس له كبير جدوى. مداخلة: ما حكم التحاكم إلى هذا الحاكم الطاغوت؟ الشيخ: كفرنا بالطاغوت على اختلاف أشكاله، وليس المقصود بالحاكم نفسه هو الطاغوت لا، كل ما يتحاكم إليه من دون الله تبارك وتعالى فهو طاغوت، وأنت لابد أن تعلم أن هذه المسألة طويلة جداً، وذيلها طويل، والحقيقة أحياناً يكون فتح هذه المسائل على سبيل الإجمال فيه خلل كبير، لأن أغلب الخلل يأتي بسبب إجمال القول في هذه المسائل، فعندما يسمع أي إنسان قولاً مجملاً يحتمل أكثر من وجهة فممكن أن يوجهه على ما يريد؛ فلذلك فهذه المسائل أظن أن الإجمال فيها لا ينبغي، وأن الأولى والأصوب القول المفصل، ويوضع للبحث محاور وعناوين، وكل عنوان يتكلم فيه بإسهاب، ويرد على المعارضات والشبهات الواردة على هذا الباب. وهذه المسألة جديرة بتصنيف كتاب يستوعب الكلام عليها من كتب أهل العلم، ويجيب على الشبهات جواباً وافياً، وإن كانت هذه الردود منثورة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنها تحتاج إلى من يجمعها.

تقديم اليدين حال الهوي إلى السجود

تقديم اليدين حال الهوي إلى السجود Q ما هي السنة في الهوي إلى السجود: على اليدين أم على الركبتين؟ A الصواب أن النزول على اليدين، وحديث النزول على الركبتين ضعيف، قال الدارقطني رحمه الله: (تفرد به شريك بن عبد الله النخعي، وليس بقوي فيما تفرد به). والصواب: النزول على اليدين لحديث أبي هريرة في الصحيح الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) فهذا نص واضح جداً وصريح، وما أُعلَّ به ليس بعلة في الحقيقة، وسنده جيد يحتج به. بالإضافة إلى أنه عضد بأثر ابن عمر الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه معلقاً وهو صحيح عن ابن عمر أيضاً: أنه كان ينزل بيديه قبل ركبتيه وقال الأوزاعي: أدركت الناس ينزلون بأيديهم قبل ركبهم. وإذا نظرنا إلى العلة وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى المسلم أن يتشبه بالبعير، علمنا يقيناً أن النزول بالركبة هو التشبه بالبعير دون النزول باليدين، بعض الناس يقول: إن البعير ينزل بيديه، كل ذي أربع، يداه الأماميتان ورجلاه الخلفيتان، فيقول صاحبنا: إن أول ما ينزل البعير على الأرض ينزل بيديه اللتين هما الأماميتان، فالمفروض أن المسلم ينزل بركبتيه ولا ينزل بيديه؛ لأنه لو نزل بيديه يكون قد تشبه بالبعير، وهذا الكلام عجيب أن يقوله عربي! لأن البعير ركبتاه في يديه، هو أصلاً لا يمشي على رجليه مثلنا حتى يكون أول ما يُنزل يديه لا، بل هو يمشي على يديه ورجليه أصلاً، فعندما تقول أنت: إنه يضع يديه أولاً. هما موضعتان في الأرض دائماً على أصل خلقته، ويمشي بهما على الأرض، لكن أول شيء يصل من البعير إلى الأرض حال البروك ركبتاه، فيبقى أن مناط المسألة الركبة وليست اليد لاختلاف خلقة الإنسان عن البعير. فإذا كان أول شيء يصل إلى الأرض من البعير ركبتاه فلا ينبغي أن يكون أول ما يصل من المسلم إلى الأرض -حال الهوي إلى السجود- ركبتاه أيضاً، والمسألة تنحل بهذا، وأما قول ابن القيم رحمه الله: وركبتا البعير ليستا بيديه، فهذا كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة، افتح كل كتب المعاجم العربية تجد في مادة (ركب) أنه يقول: وكل ذي أربع ركبتاه في يديه وعرقوباه في رجليه، وهم متفقون على ذلك. ومما يدل على ذلك أيضاً الحديث الذي رواه البخاري وأحمد: لما طارد سراقة بن مالك النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر الصديق لما خرجا من الغار قال سراقة بن مالك: (فدعا عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين). هذا نص من صحابي أيضاً أن الركبة إنما تكون في اليد، فإذا كانت الركبة في يد البعير، وأنه إذا أراد أن ينزل نزل عليها، فلا ينبغي للمسلم أن يكون أول ما يصل إلى الأرض منه ركبتاه. فلذلك الصواب في المسألة: هو النزول باليدين وليس الركبتين، والمسألة فيها كلام طويل.

رواية من ساء حفظه وكتابه صحيح

رواية من ساء حفظه وكتابه صحيح Q كيف يميز بين رواية الراوي الذي صحت كتابته وساء حفظه؟ A بالنسبة للراوي الذي صحت كتبه وساء حفظه، فإذا روى حديثاً يكون هناك قرائن تدل على أنه روى هذا من حفظه أو من كتابه، ويكون مذكوراً في ترجمته، وأحياناً قد يخص بعض الرواة، فيقال: إذا روى فلان عن هذا الراوي فإنما يكون من كتابه، فإذا كان الراوي مختلفاً تماماً، فيقال: إن هذا سمع منه قبل الاختلاط أو بعده. أما إذا لم نجد أي إشارة إلى أنه روى هذا الحديث من حفظه أو رواه من كتابه فالأصل التوقف حتى نجد له متابعاً، فإذا وجدنا له متابعاً جيداً روى نفس ما روى، يدل على أنه حفظه، ويرتفع الوهم؛ لأن الوهم أقرب من الواحد وأبعد عن الاثنين، كـ عبد الله بن نافع كان صحيح الكتاب، ولكنه كان إذا حدث من حفظه وهم.

رواية يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله

رواية يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله السائل: هل تقبل رواية يزيد بن هارون عن شريك بن عبد الله؟ A نعم إذا كان قبل توليه القضاء. السائل: فتكون روايته عن شريك قبل القضاء أجود؟ الشيخ: هذا يكون أجود، يعني: لعلك تريد أن تشير إلى رواية يزيد بن هارون عن شريك في ما يتعلق بحديث الركبتين. لكن حديث الركبتين هذا لم يروه إلا يزيد بن هارون، وقد نص ابن حبان وغيره أن يزيد سمع من شريك قبل أن يسوء حفظه، لكن ذكر الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية: أنه إنما ساء حفظه لما ولي القضاء في الكوفة، فهو في الكوفة سيء الحفظ، وقد نسلك رواية يزيد بن هارون عن شريك لولا ما رواه الخطيب في الكفاية عن يزيد بن هارون قال: دخلت الكوفة فرأيت كل أهلها يدلسون غير شريك وهشيم، فهذا يدل على أن يزيد بن هارون دخل الكوفة وأخذ من شريك بن عبد الله النخعي في وقت سوء حفظه. فحينئذ يلزمنا أن نعلم إذا كان يزيد أخذ هذا الحديث عن شريك قبل أن يدخل الكوفة أم لا، فنحن نتوقف في روايته مثل حماد بن سلمة سمع من عطاء بن السائب قبل الاختلاط وبعد الاختلاط، فصار المحققون يتوقفون في حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب؛ لأنهم لا يدرون أهذا مما تحمله حماد عن عطاء قبل الاختلاط أم بعد الاختلاط، فإذا ثبت أن يزيد بن هارون دخل الكوفة، وأخذ عن شريك بن عبد الله النخعي يبقى أنه لا يتأتى القول: إن يزيد ممن سمع قبل الاختلاط فقط، بل سمع قبل وبعد، فحينئذ نتوقف في روايته ولا نعطيها حكم الثبوت إلا إذا علمنا أنه رواها عنه قبل سوء حفظه، وروايته عنه قبل سوء حفظه عند توليه القضاء أجود. أنا أقول: (أجود) لأنه ثبت أن شريك بن عبد الله النخعي له أوهام وأحاديث خالف فيها الثقات المتقنين، برغم أنها كانت رواية الذين سمعوا منه قبل الاختلاط، فكأن حفظه لم يكن بذاك حتى قبل الاختلاط. مداخلة: هل من الممكن أن نقول: إنه حسن الحديث قبل اختلاطه؟ الشيخ: نعم. مداخلة: فرواية من روى عنه قبل اختلاطه تعد صحيحة؟ الشيخ: نعم، صحيحة. مداخلة: وهل يشمل هذا الحكم بعض تلاميذه؟ الشيخ: من ثبت أنه سمع قبله فقط. مداخلة: هل سمع منه وكيع قبل اختلاطه؟ الشيخ: نعم، ويبقى أن رواية وكيع عن شريك أقوى. مداخلة: وهل تقبل روايته قبل الاختلاط مطلقاً حتى حال التفرد؟ الشيخ: نعم، ولذلك فقد قلت: يضعفونه مطلقاً لأنه كان كثيراً ما يروي أحاديث رواها عنه أناس قبل الاختلاط، وكان يقع فيها مخالفات للثقات الأثبات، مثل ابن لهيعة، فإن بعض العلماء كـ ابن حبان يقول: إنه قبل أن يختلط كان عنده لا مبالاة في الرواية أصلاً، لكن لما اختلط ساء حفظه جداً، يعني: أن حفظه كان قبل الاختلاط بنسبة (70%)، فلما احترقت كتبه كان نسبة حفظه (50%) أو (40%)، وهذا الوضع من تصرفات العلماء بالنسبة لرواية شريك، وانظر رواية الدارقطني رغم أن أحاديث النزول بالركبة من رواية يزيد بن هارون وتفرد بها عن شريك إلا أن الدارقطني لم يعبأ بهذا القيد الذي ذكروه، قال: وشريك بن عبد الله النخعي ليس بقوي فيما تفرد به، وقد تفرد بهذا الحديث، فلم يلتفت إلى رواية يزيد وأنه سمع قبل أو بعد.

رؤيا النبي في المنام

رؤيا النبي في المنام Q شخص يدعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره أنه المهدي وأنه سيلي أمر الأمة! فماذا يقال في شأنه؟! A هذا حسبه سقوطاً أن يدعي لنفسه.

اشتراط القرشية في ولي الأمر

اشتراط القرشية في ولي الأمر Q هل يشترط في ولي الأمر أن يكون قرشياً؟! A أغلب أهل العلم يشترطونها، لكن على التسليم بهذا الشرط: إذا اختلطت الأنساب ولا يعلم أن هناك قرشياً فليتول أفضلهم وأعلمهم وأقواهم ورعاً وديناً، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبداً حبشياً) أي: ليس قرشياً، لكن أغلب أهل العلم على اشتراط أن يكون الأئمة من قريش، وذلك إذا عُلم. أما أن يبني دعوته على قوله: أنا رأيت رؤيا وتحققت إذا قابلت هذا الرجل فاسأله عن صفة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن كثيراً من الناس يقول لك: أنا رأيت الرسول في المنام، لكن عندما تقول له: صف لي الرسول عليه الصلاة والسلام: لا يستطيع أن يصفه. كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا جاء شخص إليه وقال له: أنا رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: صفه لي. فإن لم يوفق في وصف النبي عليه الصلاة والسلام كما رآه الصحابة يقول له: لم تر شيئاً. مداخلة: هل يسبق ظهور المهدي أمارات وعلامات وأشراط؟ الشيخ: نعم، وآخر الزمان لابد من علامات وأشراط تأتي قبل المهدي وقد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

خروج الحسين رضي الله عنه على يزيد

خروج الحسين رضي الله عنه على يزيد Q ما حكم خروج الحسين رضي الله عنه على يزيد؟ A { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134]. مداخلة: هناك خلاف في يزيد؟! الشيخ: إي نعم، مختلف فيه، ومنهم من وصل به الحال إلى تفسيقه، ولا شك أنه لم يكن كأبيه ولا يقاربه، وكان جائراً، لكننا نكف اللسان عنه؛ لأنه لا يترتب عليه كبير شيء إلا مجرد السب.

خروج بعض الصحابة والعلماء على الحكام

خروج بعض الصحابة والعلماء على الحكام Q إجماع الصحابة -أو حتى بعضهم- على الخروج على الحاكم الجائر هل يعد ناسخاً للأحاديث الآمرة بالصبر على الولاة الظلمة؟ A أحاديث الصبر على الولاة الظالمين ليست بمنسوخة بطبيعة الحال؛ لأنه لا ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا الحديث نفسه، ولا يمكن أن يفتي أحد على خلاف الحديث -ولا يصلح- حتى وإن كان صحابياً، ثم هل هذا إجماع؟ لا، ليس عمل واحد أو اثنين أو ثلاثة من الصحابة يسمى إجماعاً؛ لأن أهل المدينة إذا أجمعوا على شيء وقد خالفهم أهل البصرة والكوفة والحجاز ومكة ومصر فلا يسمى هذا إجماعاً، والحسين رضي الله عنه خطأه ابن عباس وابن عمر، وخرج وراءه في الطريق، وحاول أنه يثنيه عن الخروج، وابن الأشعث لما حاول أنه يخرج خطأه العلماء بالخروج، ولـ ابن كثير كلام ممتاز في البداية والنهاية في فتنة ابن الأشعث مع الحجاج، وقال: إن كل شر أصاب هذه الأمة بسبب الخروج؛ وإنه يجب عليهم أن يصبروا؛ لأن هذه الأحاديث محكمة، وليس هناك إجماع أصلاً. مداخلة: وهل خروج بعض الصحابة والتابعين يعتبر دليلاً شرعياً؟ الشيخ: لو قلنا: إن هذا دليل فلن يصل إلى أن يكون دليلاً شرعياً، إذا قلنا: فعله الصحابي أو قد ثبت عنه، فمثلاً أبو هريرة رضي الله عنه لما رآه أبو رافع وغيره وهو يتوضأ في الميضأة وحده فكان يوصل الماء إلى كتفه، وهم كانوا ينظرون إليه ويستغربون، فقال: هل أنتم هنا؟! لو علمت مكانكم ما توضأت هذا الوضوء، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ وضوءه) هذا تفسير من دلالة النص، وكذلك ابن عمر عندما كان يروي أحاديث كثيرة في الوضوء كان يرفع أشفار عينيه ويغسل أشفار عينيه -أي: جفونه- من الداخل حتى عمي، وقال مالك: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر -ويشير إلى قبره عليه الصلاة والسلام- فمن الممكن أن يجتهد الصحابي، ومن الممكن أن يخطئ في اجتهاده، لكن أحاديث الصبر على الولاة -وهي كثيرة- ولا تنسخ بالإجماع أبداً؛ لأنه ليس هناك إجماع أصلاً، والإجماع لا ينسخ حديثاً صحيحاً فضلاً عن حديث مشهور، فتبقى الأحاديث على دلالتها كما هي. مداخلة: الخروج على الحاكم هل تراعى فيه المصالح والمفاسد؟ الشيخ: مسألة تقدير المصالح والمفاسد لابد من اعتبارها، ولابد أن نعرف: هل صح ذلك عن الصحابة أم لا؟ وما هي الملابسات التي جعلتهم يقولون بذلك؟ المسألة لا تفهم هكذا، فقد كانوا من أحوط الناس، ومن أشدهم حرصاً على وحدة المسلمين، مهما كان من هذا الظالم الجائر، وصلاة ابن عمر خلف الحجاج معروفة، وصلاة الصحابة خلف ولاة الجور معروفة، كان يصلي هذا وهذا وهذا، ويقول: أنا عنهم غير راض، وإذا أذن للصلاة في أي مكان يصلي خلفهم. ونحن لم نجرب في الخروج إلا كل شر، فالمسألة ترتبط -تبعاً لذلك- بالمصالح والمفاسد، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الخروج حفاظاً على المسلمين من الفتن التي عصفت بالأمة وصارت نتائجها تفوق الحصر بل تفوق الخيال!!

عدم مشروعية وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع

عدم مشروعية وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع Q هل يعد من باب الاجتهاد وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الركوع في الصلاة؟! A الصحيح عدم الوضع، إذ أن هذه هيئة، والهيئة لابد لها من دليل خاص، ولا يدخل الاجتهاد في الهيئة، وواضح أن ما أخذ عن طريق العموم يعد اجتهاداً، والإنسان إذا تدبر وتأمل النقل عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنهم ما تركوا شيئاً إلا نقلوه حتى ثني أصابع القدمين، والتفريج في أثناء القبض على الركبة، وضم الأصابع أثناء تكبيرة الإحرام، وأثناء السجود على الأرض، ينقلون هذا بهذه الدقة، ثم لا يهتم أحد منهم قط أنه كان إذا قال: (سمع الله لمن حمده) قبض اليمنى على اليسرى؟! هذه هيئة، ومعروف أن الهيئات لا اجتهاد فيها، لا تؤخذ بدلالة العموم كما تؤخذ بقية الأحكام الشرعية، فلذلك يبقى هذا الإثبات مفتقراً إلى دليل خاص. مداخلة: ما هو الدليل على العموم؟ الشيخ: العموم في أنه كان يضع اليمنى على اليسرى في القيام، فهذا عموم يشمل القيامين معاً، فأخذت هذه الهيئة بدلالة الاجتهاد بالدليل العام، وهذه هيئة، والهيئة لا يدخلها الاجتهاد كبقية الأحكام الشرعية، فلابد لهذه الهيئة من نص مثل أية هيئة في الصلاة، إذ كل هيئة لها نص إلا هذه، ما أخذت إلا بطريق العموم. وأيضاً هذه الهيئة -مع أنها مشهورة- غير مذكورة في كتب الفقه، ولا يدندن عليها ولا يعول عليها، إنما ذكرها بعض العلماء. مداخلة: على هذا هل يعد وضع اليمنى على اليسرى بعد الركوع بدعة؟! الشيخ: لا، الأمر أهون من ذلك، يعني: افترض أني من العوام، وأئمتي الذين أتلقى عنهم الفتوى هم شيوخنا في الحجاز، فلا ينبغي التشديد ولا النكير في هذه المسائل ولا الظن بها أنها بدعة.

أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية

أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية Q هل يجب أخذ ما زاد من اللحية عن القبضة؟ A لا، الحقيقة أن فتوى وجوب الأخذ من اللحية مما يجب تركه من فتاوى الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ كان قبل ذلك يفتي بجواز الأخذ، وهذا مستقيم مع الآثار والأحاديث، لكن الإفتاء بوجوب الأخذ من اللحية، وجعل إسبال اللحية كإسبال الإزار هذا بعيد جداً، فكان ينبغي على الشيخ رحمه الله أن لا يتبنى فتوى إلا إن كان له فيها سلف، وهذه الفتيا بالوجوب ليس له فيها سلف يقيناً، إنما الاقتصار على القول بأن ابن عمر كان يأخذ وهذا فعل لا قول. وأيضاً لو افترضنا أن ابن عمر قال: خذوا من اللحية هل قول الصحابي يفيد الوجوب؟ لا يفيد الوجوب، فإذا قلنا: إن ابن عمر جاءت عنه روايات مطلقة بالأخذ بغير حج أو عمرة، ورواية البخاري مقيدة بالأخذ في الحج والعمرة، فالصواب في هذه المسألة حمل المطلق على المقيد، فيبقى الرواية المقيدة في البخاري هي المقدمة على غيرها مطلقاً، فيبقى القول بجواز الأخذ في الحج والعمرة. لكن -في الحقيقة- القول بوجوب الأخذ وتأثيم الذي لا يأخذ من اللحية هذه الفتوى لا أعلم أحداً قد أفتى بها، فسبحان الله! كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك. مداخلة: هل صح ذلك عن أحد من الصحابة غير ابن عمر؟ الشيخ: ليس هناك شيء يصح عن الصحابة بالأخذ من اللحية إلا عن ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنه، وأما عن أبي الدرداء وغيره فالأسانيد كلها ضعيفة، وكان هناك أثر ذكرته للشيخ قديماً -ولكن قبل أن يقول في هذه المسألة بجواز الأخذ فقط- وهو أن علي بن أبي طالب كان له لحية سابغة تصل إلى سرته، ولم أكن أعلم تخريجه آنذاك حتى وقفت في التمهيد لابن عبد البر أنه صح عن علي بن أبي طالب أنه كانت له لحية سابغة تملأ ما بين المنكبين، وكان يخضبها. فهذا فعل علي بن أبي طالب، وهو صحابي من الأربعة الخلفاء، ولحيته تصل إلى سرته وتملأ ما بين المنكبين، ويتعارض مع ما فعل ابن عمر، فإما أن نقدم واحداً منها، وإما أن نسقط الاستدلال بهما معاً، ولا نقول بذلك، ولا شك في تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند التنازع، بالإضافة إلى أن النظر إلى السنة العملية لفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام يكون إذا اشتهرت وأجمع عليها الصحابة أو أفتى بها أكثرهم، لكن نحن ما عندنا إلا ابن عمر والروايات مختلفة عنه، وكما قلنا: الرواية المطلقة تحمل على المقيدة، إذا كان في حج أو عمرة، أما الروايات الأخرى التي تقول: إنه كان يأخذ بإطلاق، فنحن نحملها على معنى الرواية المقيدة اتباعاً للأصول. إذاً: عندنا قيدان: قيد زماني في الحج والعمرة، وقيد موضعي أنه يأخذ ما زاد عن القبضة؛ لكن الأمر لا يتجاوز أبداً حدود الجواز، ولا أعلم قائلاً بجواز الأخذ من اللحية من العلماء فضلاً عن الوجوب؛ لأن وجوب الأخذ من اللحية فيه تأثيم للذي يترك لحيته. وهذا الحديث والفتوى كان من سلبياتها أن الذين يريدون حلق اللحى -المتضجرين من اللحية- صارت لحاهم أقل من حبة الأرز! لماذا؟ بدعوى أن الأخذ من اللحية واجب، وصاروا يتهكمون على الملتحي ويقولون: يؤخذ من عمل المرء بقدر ما تطول لحيته، ويتكلمون كلاماً طويلاً بناء على فتوى الشيخ. وأنا -وهذا مبلغ علمي- أرى أن هذه الفتوى شاذة، وأنه لم يقل بها أحد قط قبل الشيخ -أي: القول بالوجوب- هذه الحقيقة، ومن مذهب الشيخ رحمه الله تعالى أنه لا يتبنى حكماً إلا إذا كان مسبوقاً إليه، فمن الذي قال من العلماء بأن تطويل اللحية فيما يزيد عن القبضة لا يجوز؟ مداخلة: ذُكر ذلك في فتح الباري؟ الشيخ: لا، الفتح ذُكر فيه الأخذ، ولم يذكر وجوب الأخذ. وتأثيم من لم يأخذ لا أعلم أحداً من العلماء قال به بهذه الصورة، نعم بعضهم قد يكره، لكن هل الكراهية تقتضي التحريم؟ مداخلة: هل إعفاء اللحية وعدم حلقها عادة؟ الشيخ: هذه ليست عادة. وكونها من سنن الفطرة مما يدل على وجوبها، إذاً: سنن الفطرة دالة على الوجوب لوحدها، فإذا كانت الفطرة هذه لا تتغير من نبي إلى نبي، بل يفطر كل العباد عليها، فمتى كانت عادة إذا كانت من سنن الفطرة أصلاً كالاختتان وغيره؟! فإذا كانت هي من سنن الفطرة، والأصل في سنن الفطرة الوجوب وليس الإباحة، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام فحض على إحيائها بأحاديث متكاثرة؛ إذاً: الأصل فيها أنها عبادة، نسأل الله أن يغفر لنا وللشيخ.

الوضوء لقراءة القرآن

الوضوء لقراءة القرآن Q ما حكم الوضوء لقراءة القرآن؟ A أكثر العلماء على استحبابه، إلا إذا كان الإنسان يحفظ أو يدرس أو نحو ذلك، فمن العلماء من رخص بالترك للمشقة، والشوكاني وغيره من العلماء قالوا بإباحة قراءة المصحف على غير وضوء، معتمدين على أن الضمير في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79] يعود على أقرب متعلق وهو الكتاب المكنون، وليس على القرآن الكريم، أي: لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون، فيقول الشوكاني: ليس هناك دليل أصلاً على منع قراءة المصحف بدون وضوء، وحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) قال: إن لفظ (طاهر) لفظ مشترك، وحقيقة اللفظ المشترك أنه لا يصل إلى معنى من معانيه إلا بدليل مستقل، فيطلق على المسلم، ويطلق على الماء الطاهر، ويطلق على الماء المطهر إلخ، ثم قال: إنَّ جعْل المقصود به هنا الطهارة من الحدث لابد له من دليل آخر حتى يعين هذا المعنى الذي أراده، وله كلام معروف. مداخلة: فلو أن شخصاً تبنى قول الجمهور؟ الشيخ: إذا تبنيت قول الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات: عليك بسنن الجمهور في الخلاف، إلا أن يكون لديك بحث خاص وأقمت الحجج على أن هذا هو الصواب، وأنت خالفت الجمهور فلك ذلك إن كنت أهلاً له هذا من حيث الإجمال. مداخلة: إذاً: فنبقى على قول الجمهور حتى يبحث أحدنا بدقة في المسألة؟ الشيخ: كما قلت، وكما تكلمنا الآن وقلنا: عليك بسنن الجمهور.

الصلاة جماعة خارج المسجد

الصلاة جماعة خارج المسجد Q ما حكم الجماعة في غير المسجد؟ A جماعة؛ لأنه لا يشترط أن تكون الجماعة في المسجد. ولا يأثمون؛ لأن المقصود إقامة الجماعة، في أي مكان، وليس المسجد شرطاً لإقامة الجماعة، بمعنى: لا تقام الجماعة إلا في المسجد لا، المقصود إقامة الجماعة في أي مكان.

معنى حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)

معنى حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) Q ما معنى (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن سنة سيئة)؟ A ( من سن سنة سيئة) مثلاً: في بلد من البلدان أراد رجل أن يسن سنة الجاهلية الأولى بالنسبة للسارق، فقال: الشريف إذا سرق سنتركه، والوضيع إذا سرق سنقطع يده، وأعاد هذه المسألة كرة أخرى في هذا البلد، ومات ومضى الناس على هذا الذي سنه. والمقصود بالسن في قوله: (من سن سنة سيئة) (السنة) بالمعنى الاصطلاحي: ما ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا ما ينسب إلى الناس، ولذلك قال (من سن في الإسلام). إذاً: كل رجل يأتي فيقطع يد الوضيع ويترك الشريف عليه إثم كل رجل يفعل ذلك من بعده، وكذلك لو جاء رجل -مثلاً- فوجد الناس يحلقون لحاهم، والنساء يمشين سافرات، فجاء فأحيا فيهم سنة اللحية، وأحيا فيهم سنة النقاب، فهذا ينسب النقاب إليه وينسب اللحية إليه، وإن لم يكن جاء بذلك من عنده؛ لأنه هو الذي أحياها فنسبت إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس تقتل إلا وكان على ابن آدم الأول كفل منها) لأنه أول من سن القتل.

حكم الكلام أثناء قضاء الحاجة

حكم الكلام أثناء قضاء الحاجة Q ما حكم الكلام أثناء قضاء الحاجة؟! A يجوز الكلام أثناء قضاء الحاجة، وعادة الإنسان أنه لا يتكلم إلا إذا كان محتاجاً، ولا يوجد شخص بكامل قواه العقلية يدخل الخلاء ولا يحلو له الكلام إلا وهو يقضي الحاجة. مداخلة: ألا يدخل في ذلك النهي عن الكلام على الغائط؟! الشيخ: ربما؛ لأن كلمة (على الغائط) إما أن تكون في وقت قضاء الحاجة، وإما إذا انتهى المرء من قضاء الحاجة ووقف، فهذا أحد المعنيين، لكن يحمل على ذلك بقرائن أخرى لا شك. وهنا مسألة: التسمية للوضوء داخل الخلاء إذا سمى الله تبارك وتعالى في قلبه فقد تم المراد، يعني: ليس ضرورياً أن يجهر بها، ويرفع صوته.

حكم صيام يوم السبت

حكم صيام يوم السبت Q هل صحيح أنه لا يجوز صيام يوم السبت إلا أن يكون فرضاً؟! A هذا صحيح؛ لأن الحديث صحيح، والذي يتبنى صحة الحديث لا يسعه إلا أن يقول بما قال الشيخ في مسألة صيام السبت، والذين يرون عدم النهي عن صيام السبت يضعفون الحديث أصلاً، لكن لو قلنا للذين لا يقولون بتحريم صيام السبت إلا في الفرض: هبوا أن الحديث صحيح من باب الجدل؛ لا يدعه إلا أن يفتي بالفتوى: أنه لا يجوز صيام السبت، لكنهم أصلاً يقولون بجواز صيام السبت؛ لأن الحديث ضعيف لديهم. مداخلة: هل هذا على سبيل إفراد السبت؟! الشيخ: لا يوجد لفظ: (إفراد) في الحديث، بل الحديث يقول: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم). مداخلة: وهل هذا مثل إفراد الجمعة؟ الشيخ: لا، الجمعة فيها نص (نهى عن إفراد الجمعة). مداخلة: ألا يعارض حديث النهي عن صيام السبت حديث آخر؟! الجواب: لا تعارض؛ لأن حديث النهي مقدم عند التعارض، إذ لو كان عندنا حديثان: حديث يمنع وحديث يبيح، ولم نستطع الجمع يقدم دليل المنع؛ لأن الأصل في العبادات المنع، ومتى كان الجمع ممكناً فذاك، ولو كان الحديث هكذا: (لا تصوموا يوم السبت) كان ممكناً أن نقول: لا تصوموا يوم السبت إلا أن يكون يوماً قبله، أو يوماً بعده، لكن لا يوجد أي وجه للجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث الأخرى التي تبيح صيام السبت؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فصارت المسألة واضحة جداً؛ لأن لفظ الحديث يساوي: (لا تصوموا يوم العيد). فصارت المسألة واضحة جداً, لأن: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) مثله أيضاً: (لا تصوموا يوم العيد) , والعيد لا يصام عند المسلمين. مداخلة: هل يمكن الجمع بين الحديثين؟ الشيخ: لا تستطيع أن تجمع أصلاً, يعني: كيف تجمع بين قوله: (لا تصوموا يوم العيد) وبين استحباب صيام الإثنين أو الخميس, إذا جاء العيد يوم الإثنين أو يوم الخميس هل يشرع للإنسان أن يصوم يوم العيد؟ لا يشرع له أن يصوم. إذاً فقوله: (إلا فيما افترض عليكم) قيد صوم السبت بالفريضة, فالترجيح إذا تعارض الحديث المانع مع الحديث المبيح الآذن فإن المنع يقدم, لأن الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل بالإباحة. مداخلة: هل يصوم الحاج يوم عرفة إذا كان يوم إثنين أو خميس؟ الشيخ: يترك صيام عرفة, لأن يوم عرفة ليس فرضاً بل هو مستحب, ولذلك لا يصوم الحاج يوم عرفة. مداخلة: هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين صوم السبت والأحد؟ الشيخ: هذا صحيح, ولكن كل هذا حكمه حكم الصورة الأولى, كان أكثر صيامه عليه الصلاة والسلام السبت والأحد, ومن الممكن أن نقول: إن هذا كان في الأول, ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا يوم السبت). وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لماذا لا نحب الله؟!

لماذا لا نحب الله؟! إن العبد قد يحب مخلوقاً فيتعلق به، ويصير ذكره على لسانه، فإذا به يدمن ذكر المخلوق وينسى الخالق الكبير! ألا وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك أمرنا الله عز وجل بذكره والتعلق به في أحلك الظروف عند اشتداد الكروب وتتابع المحن، وأمرنا كذلك بذكره عند طول الغربة، فالإنسان عندما يفارق الأهل والأوطان ويغيب عنهم طويلاً يستوحش فيصير ذكرهم على لسانه، وبالمقابل فهو لا يشعر بالوحشة إذا غفل عن ذكر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

توطيد دعائم الدين في بناء المساجد والحب في الله

توطيد دعائم الدين في بناء المساجد والحب في الله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد أخبر العارفون بالإسلام من الكلام عن أدواء المسلمين، والبحث عن العلاج لها. وفي ظني أن أمراض المسلمين لا تخرج عن شيئين، ومن تدبر صنيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة لاح له هذا الأمر، فمِن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة فعل شيئين: الشيء الأول: أنه بنى المسجد. الشيء الثاني: أنه آخى بين المهاجرين والأنصار. لا تستقيم الدنيا -فضلاً عن الآخرة- للناس إلا بهما؛ بنى المسجد لتوطيد العلاقة بين الناس وربهم، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار لتوطيد العلاقة بينهم. فالعلاقة تكون بين العبد وربه أولاً. ثم بين العبد وأخيه. جاء في صحيحي البخاري ومسلم: من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عمرو بن عوف، فمكث فيهم أربع عشرة ليلة، ثم نادى بالأنصار، فجاء بنو النجار مدججين بالسلاح، فأتى حتى وصل إلى فناء دار أبي أيوب الأنصاري -وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حيث أدركته الصلاة- فنظر فرأى حائطاً لبعض بني النجار، فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا -أي: أعطوني هذا الحائط بالثمن لنبني المسجد عليه-، فقالوا: والله لا نأخذ عنه ثمناً ولا نطلبه إلا إلى الله عز وجل، وكان في هذا الحائط نخل، فأُمِر به فقُطِع، وكان فيه خرب فسويت، وقبور للمشركين فنبشت، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قَبْل أصحابه يحمل اللَّبِن، وهو يبني المسجد ويرتجز: اللهم لا عيش إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان الصحابة رضي الله عنهم يحملون اللَّبِن، حتى إن عمار بن ياسر إذ ذاك مريضاً، وكان ناقهاً: -أي: في فترة النقاهة بعد مرضه- فكان يحمل لَبِنَتين لَبِنَتين، والناس يحملون لَبِنةً لَبِنة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن ظهره، ويقول: يا ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية). وكان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. فتمتين العلاقة بالله عز وجل هي الأصل. وتمتين العلاقة بين الناس بعضهِم ببعض فرعٌ على هذا الأصل. فإذا اتقى المرء ربه، لم يظلم أخاه. إذاً: الأصل هو تمتين علاقتك بالله، وهذا هو الذي ندندن عليه، لو استقام العود لاعتدل الظل، وكيف يعتدل ظل والعود أعوج؟! وجرب أن تعبد ربك بالحب، فلو عبدته بالحب لرأيت فرقاً عظيماً جداً بين أدائك للعبادة به، وبين أدائك للعبادة بدونه.

كثرة نعم الله علينا وضعف محبتنا له

كثرة نعم الله علينا وضعف محبتنا له لماذا لا نحب الله؟! هذا سؤالٌ مر! لكنه واقع ما له من دافع! لماذا لا نحب الله عز وجل وقد تحبب إلينا بسائر نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]؟! وإنما قال: نعمة على الإفراد ولم يقل: نِعَم؛ لأنه إذا جاز لي أن أعجز عن عد نعمةٍ واحدة، فلأن أعجز عن عد نعمه من باب أولى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم:34]. وربنا عز وجل يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] أي: لا يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه، لا يرد الصنيعة إلا لئيم، وكثير من العباد لئام، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أقل الناس هو الذي يشكر، والاعتراف بالنعمة أول بوابة الحب. ولذلك لما شمخ إبليس لعنه الله بأنفه، وحاج ربه تبارك وتعالى، وأقسم أنه سيقف على الطريق لعباده يصدهم عن الله عز وجل قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] أكثرُ شيء مُرُّ: أن تُسْدِي الصنيعةَ ثم تتهم بأنك أسأت، البريء المظلوم: هو أشد الناس تجرعاً للمرارة. فلو نظرت إلى موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، لعلمت مدى المرارة التي تجرعتها العفيفة، الغافلة المؤمنة، لما اتهمت في عرضها بالزنا. ومع ذلك فيا لَحِلْمَ الله! ما أحلمه على عباده! كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أحدٌ أصبر على أذى يسمعه من الله! إنهم ليدَّعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم، ولو أن العبد ملأ طباق الأرض ذنوباً ثم تاب مسح ذنبه واجتباه، وجعله من أوليائه، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى). فأكثر شيء وأثقل على النفس: رد الجميل، ولذلك قال إبليس: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]. فلماذا لا نحب الله عز وجل، وهو الذي يتحبب بالنعم؟! من أهم العلامات في محبة الله تبارك وتعالى أنك تؤثر عليه ولا يضرك لوم اللائمين، بل تستعذب الأمر كلما ضيقوا عليك، هذه هي الثمرة العظيمة من المحبة في حال إقبالك عليه تبارك وتعالى، إقبال قلبك فإن الإقبال لا يكون إلا بالقلب، ثم تنفعل الجوارح بالقلب، ففي حال إقبالك على الله تبارك وتعالى تشعر بذاك السمو، كما حدث بذلك الأنصاري، كما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسندٍ قوي: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، فدخل الصحابةُ دار رجلٍ من المشركين، فأصابوا امرأته -أي: أسروها- فلما جاء المشرك وعلم بالأمر أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً، ثم قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً، وهم في بعض الطريق عرسوا -أي: ضربوا بخيامهم وباتوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن رجلان يكلآنا في نومنا؟ فقام رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، فقالا: إنا نكلؤك يا رسول الله! فنام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وانتصب هذان، فقال الأنصاري للمهاجري: تكفيني أول الليل أم آخره؟ قال: بل أكفيك آخره، فنام المهاجري ووقف الأنصاري وصف قدميه لله عز وجل ودخل في الصلاة، فجاء الرجل المشرك يبحث عن المسلمين -لأنه أقسم أن يريق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دماً- فرأى هذا واقفاً، فعَلِم أنه طليعة المسلمين، وأنه هو الذي يحرسهم، فجاء بسهم وضربه، فلم يتحرك، فذهب المشرك وانتزع السهم منه، ثم عاود فضربه وهو لا يتحرك، فعاود المشرك فانتزع السهم منه، ثم جاء الثالثة فضربه، والمسلم لا يتحرك -الأنصاري- ثم ركع، ففر المشرك، وإذا بالأنصاري يموت دماً، فأيقظ المهاجري فلما رآه كذلك فزع، وقال: ما هذا؟ فأخبره بالأمر، فقال له: رحمك الله فهلا أيقظتني؟ قال: والله لولا أنني على ثغرٍ من ثغور المسلمين ما قطعت صلاتي حتى أتم قرآتي ولو تقطعت نفسي). فأين إحساس هذا الإنسان؟! ثلاث مرات يُضْرَب بالسهم ويُنْزَع السهم منه، ومع ذلك لا يتحرك، هذا هو الإقبال على الله تبارك وتعالى. إن آباءنا ما ربونا على محبة الله عز وجل، ولا على تعظيم حرمات الله عز وجل؛ لأنهم عاشوا في أيام الاشتراكية ومسخ الهوية الإسلامية، وشربوا كل الهزائم، فورثوا هذا الضعف، آباؤنا يطلبون منا تحصين حياتنا، ويطلبون منا أن نكون في حالنا، ويطلبون منا أن نأكل عيشاً كالأنعام، هذه مطالب الآباء حتى الساعة.

من مقتضيات الشهادتين

من مقتضيات الشهادتين

من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله استشعار عظمة الله

من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله استشعار عظمة الله من مقتضيات (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) أنه إذا وصلك الأمر من الله عز وجل أن تعتقد أنك ترى هذا الأمر، وإذا وصلك الأمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتقد أنه هو الذي يأمرك، وهذا معنى قولك: أشهد، أي: أرى بعيني: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد:9] الغيب ضد الشهادة، فعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: كأنك تقول: أنا أشاهد الله، فإذا علمت أنك بنظر الله عز وجل لم يقف قلبك على مشهد العصيان أبداً، ولا تستطيع. وجاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أوصني، قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك) فهل يستطيع رجلٌ مهما كان فاجراً جريئاً أن يأتي على أصلح الناس في قومه فيفجر أمامه؟! لا أظنه يجرؤ على ذلك، يقول: (أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك). فإذا قلت: (أشهد أن لا إله إلا الله) كأنك تراه، وإذا قلت: (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه وهو يأمرك. وللأسف الشديد أن المشركين الأوائل كانوا يفقهون هذه الكلمة أكثر من بعض المنتسبين إلى العلم الآن من المسلمين، كان أبو جهل أفقه لمعنى (لا إله إلا الله) من هذا الذي ينسب إلى العلم ويقول: إن الطواف بالقبور ليس شركاً! لماذا قامت الحروب؟! ولماذا صَبَر العرب على حشد الغلاصم، وقطع الحلاقم، ونفذ الأراقم، ومتون الصوارم؟ لا إله إلا الله! يا أخي! قل: لا إله إلا الله وانته. لماذا تقوم الحروب؟! لماذا تسبى النساء؟! لماذا نضحي بالأموال الكثيرة؟! كان يمكنهم أن يقولوها وينتهوا؛ لكنهم أبوا أن يقولوها، ورضوا أن يدخلوا في حروب متوالية ولا يقولوها، لأنهم كانوا يفهمون أن معنى لا إله إلا الله أن الحكم لله، وليس لأحدهم بعد ذلك أن يأخذ أو يتسلط بالبغي والعدوان.

من لوازم شهادة أن محمدا رسول الله استشعاره بأنه الآمر

من لوازم شهادة أن محمداً رسول الله استشعاره بأنه الآمر ومن لوازم (أشهد أن محمداً رسول الله) أن تتخيل النبي عليه الصلاة والسلام في كل أمرٍ يصلك على لسان رجلٍ ثقةٍ عالم إذا قال لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا تعتقد أنه هو الذي يأمرك، ورأيت مرة في مسجد خاتم ذهب في يد رجل، فقلت وأنا أتكلم: مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصحابة يوماً وهو آخذ الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ، وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فإن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (حرام على ذكور أمتي). يا أخي! تخيل أنك صحابي، وأنك جالس الآن وأمامك النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى ذلك الذهب، فقال لك: اخلع الذهب؛ لأن هذا لا يحل لك، ما هو الرد؟ فسكتَ. فقلت: لا. أنا أريد أن أسمع الرد منكم جميعاً، الرسول عليه الصلاة والسلام واقف الآن ومعنا في هذا المسجد، ورأى بعض المسلمين يلبس الذهب، فقال: اخلع عنك الذهب، فقالوا جميعاً: نسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام ونخلع الذهب، وأنا أنتظر أن يخلع الرجل الذهب، فلم يخلع! هذا هو الفرق بين هذه الأجيال المتعاقبة وجيل الصحابة.

كيف مكن للصحابة ولم يمكن لنا؟

كيف مكن للصحابة ولم يمكن لنا؟ الآن في باكستان عندما قالوا: إنهم أجروا ست تجارب نووية، خرج الناس يضربون بالرصاص في الشوارع فرحين، لا يصدقون أنفسهم، وبعض المسلمين انتشوا وشعروا بشيء من العز، رغم أن هذا لا قيمة له في الحقيقة، كل هذا ذر للرماد في العيون. أمة ضعيفة مستضعفة، تعيش على هامش الدنيا. قال لي أحد الإخوة: إن أهم خطر يواجهنا الآن هم اليهود، يجب أن نعلم أولادنا ورجالنا ونساءنا طبيعة اليهود. فقلت لمحدثي: وما الفائدة؟! عرفناهم أنهم جبناء، كما قال الله عز وجل، وأنهم لا يحبون بعضهم، بأسهم بينهم شديد؛ لكن بعد كل هذا أنت تعرِّف مَنْ؟ تعرِّف رجالاً لم يحققوا عبودية الله في أنفسهم وأولادهم؟! ما هي الفائدة؟! إن حقيقة دائنا أننا لسنا عبيداً لله كما أمر الله، في بيوتنا كثيرٌ من المخالفات ليس للدولة فيها دخل، لماذا لا تزيل هذا التلفاز من بيتك؟! لماذا لا تحجب امرأتك؟! لماذا لا تحجب ابنتك؟! لماذا تصلي في البيت أنت وأولادك والأذان على رأسك؟! مخالفات كثيرة يجب على ولي الأمر ورب البيت أن يزيلها ومع ذلك لا يزيلها! هذا الذي ما نزع خاتم الذهب من يده رغم سماعه للكلام، في مقابله صحابي آخر روى قصته الإمام مسلم في صحيحه، أنه كان يلبس خاتم الذهب، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فنزع منه الخاتم، وقال: (أيعمد أحدكم على جمرةٍ من نارٍ فيضعها في يده، فلما هم الصحابي أن يقوم من مجلسه وقد ترك الخاتم على الأرض، قال له بعضُ الصحابة: خُذ خاتمك فانتفع به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى لا ينتفع به، ولا يأخذه عنده، هذا هو الفرق. فالعبادة تكون بالحب، وهذا الحب ثمرته الإقبال على الله، فرق كبيرٌ بين هذا وبين الذي يعبد الله عز وجل كالموظف الذي يذهب إلى الديوان ليوقع. فالذي يحب الله تبارك وتعالى يستعذب اللوم فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. ويرحم الله أحد الشعراء المجيدين لما قال: وقف الهوى فيَّ حيث أنت فليس لي متأخرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ وأهنتني فأهنتُ نفسي جاهداً ما مَن يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم إن كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذةً حباً لذكرك فليلمني اللوَّمُ وقال الآخر: يخط الشوقُ شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زور ويوهن لي طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنوري إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني مِن سرورك في سرور ويرحم الله أبا الطيب المتنبي حيث يقول أيضاً في هذا المعنى: يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم طالما أن هذا يرضيك رب فزده؛ لأن المسارعة إلى مرضاة الله تبارك وتعالى من ثمرتها الصبر، كما قال الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83 - 84] كلما عجلتَ إلى الله عز وجل رضي عنك.

من علامات حب الله الإكثار من ذكره

من علامات حب الله الإكثار من ذكره أيها الإخوة الكرام: هل يعجل ويمد الخطا إلى الله غافلٌ عن ذكره؟! إننا نرى في سير المحبين: أن الرجل إذا تعلق قلبه بحب آخر أكْثَرَ من ذكره، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نكثر من ذكره وهذا علامةُ الحب. وسن لنا النبي صلى الله عليه وسلم الأذكار الموظفة في الصباح والمساء وما بينهما إقامةً لذكر الله، وإعلاناً لحبه، فأول مذكورٍ إذا فتحت عينيك هو الله، وآخر مذكورٍ إذا أغمضت جفنك هو الله، هكذا فليكن الحب! إذا فتح المرء عينيه أول شيءٍ يقرع لسانه هو ذكر الله عز وجل، شرع لنا الأذكار، إذا استيقظ المرء يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله -أول كلمة ينطق بها- والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أول ما تستيقظ ترفع راية العبودية أن المُلْك لله، وأنك عبد ليس لك ملك، كله عاريةٌ مستردة، فلماذا يستطيل على الخلق؟! وأعجب ما يكون أن يقطع رجلٌ رحم أخيه للمال! الذي يقطع رحم أخيه للمال فبِعه بيعاً رخيصاً بثمن بخس، ليس لأحدٍ ملكٌ على الحقيقة، إنما هو ملك اعتباري وله آثار مترتبةٌ في الدنيا، إذا سرقه أحد قُطعت يده؛ لكن إذا نظرنا بصورة أوسع وجدنا أنه ملك اعتباري بالنسبة لملك الله عز وجل. فالإنسان إذا أصبح يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فهذا دليل على الافتقار، وأنه ليس بيده شيء، وأنه محتاج للذي بيده الملك، فأول شيء يعلنه: (الملك لله) مع فقرك إليه: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله). إذا أصبح عليك الصباح، وفتحت عينك، وحركت لسانك، وذكرت ربك أنك أفضل من الذي حصل الدنيا جميعها، فكونك تذكر الله عز وجل، هذا شكرٌ يحتاج إلى حب، فإذا عجزت أن تؤدي شكر الحب فمتى تؤدي الشكر؟! (والحمد لله، ولا إله إلا الله). وهذا أيضاً إعلامٌ منه أنه عبدٌ، وأن له إلهاً يعبده. ثم في قوله: (الحمد لله) إشارةٌ دقيقة بعد ذكر الملك في (أصبحنا وأصبح الملك لله) والحمد لله أي: أن الملك له لا لغيره، لو كان الملك لغيره لشقينا {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100] بل يد الله ملأى، لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار. قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم ما أنفق منذُ خلق السماوات والأرض) كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟! لو أرادت الدول كلها أن تعمل تكييفاً مركزياً للكون -حرارة في أيام الشتاء، وبرودة في أيام الصيف- فسيعجزون عن ذلك ولا يستطيعون، انظر إليه كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض! لما قرأتُ هذا الحديث خطر ببالي أن أقدر النفقة التي أنفقها ساكنو الشارع الذي أسكن فيه -وهو شارع طوله: خمسون متراً فقط- فحسبت بالآلة الحاسبة واعتقدت أن مسكني مقياس في البناء والتشطيب والديكورات، وهو مسكن متواضع جداً جداً بالنسبة للناس الذي يشتري أحدهم الشقة بسبعين مليون جنيه. أحد أصدقائي له صديق سعودي عنده شقة من دورين في عمارة وهذا السعودي أراد أن يبيع هذه (الفيلا) الصغيرة، ووكل صديقي أن يبيعها، وأعلن إعلاناً في الصحف أن هناك (فيلا) للبيع، في ميدان لبنان، والمواصفات مع صاحب الإعلانات، يقول: كاد قلبي أن يقف عندما اتصل لي أحدهم وقال: بكم تبيع هذه (الفيلا)؟ قال: بمليون وسبعمائة ألف. قال له: أكيد تشطيبها سيء. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنه ثمن بخس، مليون وسبعمائة ألف! فخطر ببالي أن أعمل حساباً للشارع الذي نسكن فيه ثلاثين عمارة، في كل عمارة خمسة أدوار، كل دور يكلف كذا، والتشطيب كذا. ثم خطر ببالي أن آخذ الشارع الذي بجانبي، والشارع الذي بجانبي، فإذا بي أجد خلال ثلاثة أو أربعة شوارع فقط أن النتيجة معي: ستين مليون جنيه، فوزع تلك النتيجة على المدينة كلها، ثم وزعها على الجمهورية كلها، ثم وزعها على العالم، وانظر هذا العالم كله الذي هو مبني على الأرض كم نتيجته؟ ثم تدبر قوله صلى الله عليه وسلم فانظر كم أنفق منذُ خلق السماوات والأرض؟! لتعلم غناه، ومع ذلك وحتى تقوم الساعة يقول الله عز وجل: (لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم قاموا في صعيدٍ واحد فسأل كل واحدٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) إذا أخذتَ إبرة وأدخلتها في البحر المحيط، فانظر كم أخذَتْ هذه الإبرة من البحر، فهذا الذي ينقص مما عند الله تبارك وتعالى، فالحمد لله أن الملك له، تبارك وتعالى: (يدُه ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل ولا النهار). أولاً: تقول: الحمد لله بعد ذكر الملك، أي: الحمد لله أن الملك له. ثانياً: أن الله عز وجل {وَلَو يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]. وتدبر يا أخي الكريم إذا وقعت في مظلمة فإنك تتمنى تَلَفَ ظالمك وتتمنى له الشر، ومن غيض قلبك تتمنى لو أنه أمامك وأنه عُرِّض لأفتك الأمراض، وأنه ذليل وأنك تتشفى فيه. الله عز وجل ليس كعباده، يملأ الإنسانُ الأرضَ ظلماً وبغياً وعدواناً ويستجيب الله له ويتوب عليه، ويجعله من أفضل أوليائه، وهذا هو الفرق بين صفات الله وصفات عباده، صفات الله عز وجل كلها حسنى. فالحمد لله أن الملك له، هذا أول ذكرٍ تذكره أيها الأخ الكريم عندما تفتح عينك في الصباح، فكم عدد المسلمين الذين يفتتحون يومَهم بغير الذكر؟! إذا علمت أن عددهم أقل من القليل، علمت أن أكثر أهل الأرض أدعياء للمحبة، ولا يحب أحدٌ أحداً إلا أكثر من ذكره، كما ذكر سفيان الثوري على رابعة العدوية، فذكر شيئاً من الدنيا، فقالت: يا سفيان من أحب شيئاً أكثر من ذكره! فقال لها: صدقتِ. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام

جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام: جيل الصحابة هو الترجمة العملية للإسلام في النصوص، قرآناً وسنةً. فإذا أرسل المرء طرفه في حياة هؤلاء يتعجب منهم، أنهم يؤدون العبادة بكل الحب، ومن أراد أن يقلدهم عجز وتعب، قال لي قائلٌ يوماً: كلما قرأتُ سير العلماء أو سير الصحابة، فأردت أن أجتهد كاجتهادهم عجزتُ، فما هو السبب؟ قلت له: السبب أن الأمر يمر بمراحل، فالأمر على ثلاثة أقسام: - أمر وجوب. - أمر استحباب. - أمر إباحة. والنهي على قمسين: - نهي تحريم. - نهي كراهية. فإذا أمرت بأمر فهو أحد هؤلاء الثلاثة، ولا أتصور أنك تفعل الأمر المستحب وأنت مقصر في الواجب؛ لذلك فإن من درب نفسه على الواجب سهُل عليه فعل المستحب؛ لأن باب المستحب واسع جداً، لا يأتي على فعل كل المستحبات إلا نبي. لكن الواجب يستطيع كل مكلفٍ أن يفعله، لماذا؟ لأنه مأمورٌ به على سبيل الحث والإلزام، ويؤاخذ إذا قصَّر فيه، وإذا علمنا أن من أصول الشريعة أن الله رفع الحرج عن الناس، فلا يُتَصَوَّر أن يأمرهم أمر إيجابٍ يعجزون عن فعله. إذاً: كل أمرٍ دل على الوجوب فبإمكان المكلف أن يفعله، فإذا عجز عن فعله عجزاً حقيقياً سقط الواجب عنه وصار معذوراً عند الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنْب). وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). إذاً: الواجب كله بإمكان العبد أن يفعله. أما المستحب: فلا يستطيع الإحاطة بالمستحب كله إلا نبي. ولذلك جُعل الاستحباب علامة الالتزام.

من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب

من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ في شيء أنا فاعله كترددي بقبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته). إذاً: هناك حبان: 1 - حبٌ يأتي بعد الفريضة. 2 - حبٌ يأتي بعد المستحب. قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الحب الأول (ولا يزال) تأمل هذا الفعل الأول: فَعَل ما افترضه الله فأحبه الله، ثم لا يزال، أي: باستمرار (يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وهي حرفٌ لانتهاء الغاية، تقول: أكلتُ حتى شبعت، مشيتُ حتى تعبت، فكلمة (حتى) حرف لانتهاء الغاية، ولم يذكر هذا اللفظ إلا في النوافل (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه) لكن هذا يدل على أن شوط المحبة لم ينته بعد، هو أحرز المحبة لكنه ما أنهى الشوط (ولا يزال يتقرب حتى) إذاً: لا يصل إلى آخر شوط المحبة حتى يتقرب إليه بالنوافل، فإذا وصل إلى آخر شوط المحبة، استحق الثمرة: (كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)، إلى آخر الحديث. ونحن نقيس التزام الإنسان عادةً بالنوافل، فهل تتخيل أن رجلاً يصوم يوم الإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر أو يوماً دون يوم فيأتي عليه رمضان فيفطر؟! أنا أعلم يقيناً أنه لا يفطر رمضان لما أراه يصوم الإثنين والخميس؛ لكن يمكنه أن يصوم رمضان ويقصر في النوافل، هل رأيتم رجلاً قام الليل وضيع الفريضة؟ لكن يمكن أن يصلي الفريضة ويضيع قيام الليل. إذاً: أي العلامتين أدل على التزام هذا الإنسان؟ متابعة النوافل لا الفرائض. فأنت يا من تسأل! لماذا تعجز إذا أردت أن تقلد الصحابة؟ لو نظرت في نفسك لوجدت أنك قصرت في كثير من الواجبات، فأنى لك إحراز المستحبات؟ لا تستطيع الصبر على المستحب إلا إذا أديت الواجب كما أُمِرت، وكان الصحابة كذلك، فعلوا الواجب؛ لأنهم كانوا يحبون الله.

الصحابة يتسابقون على الموت

الصحابة يتسابقون على الموت يا أخي الكريم! أمرنا الله عز وجل بشيء فيه لمسةٌ جميلة، رأيتها واضحةً جليةً في حياة الصحابة، أنهم كانوا يذكرون الله عز وجل في أحلك الظروف. والإنسان إذا وقع في شر يفقد عقله، ولا يستحضر في هذا المجال إلا من يؤمِّن نصره، ومن يحب، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. وأنت مقبل على عدوك وخائف نتيجة الحرب، اذكر الله عز وجل يثبت قلبك: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] وكان ذكرُ المحبوب في وقت الخوف من علامة الحب عند بني آدم انظر إلى عنترة بن شداد يقول: ولقد ذكرتكِ والرماح كأنها أشطان بئر في لَبان الأدهمِ فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المتبسمِ هذا فائق جداً! الرجل في الحرب والكر والفر، وينظر إلى الرقاب وهي تطير. الحرب قائمة على قدم وساق، يقول: إن الرماح كأنها أشطان بئر، أنت عارف عندما يكون ثَمَّ بئر ويريد الإنسان أن يستسقي الماء من البئر فيرسل الدلو بحبل، فالرمح عندما يدخل في صدر الفرس مثل هذا الدلو عندما ينزل البئر. في لَبان الأدهم: أي في صدر الأدهم وهو الجواد الذي يركبه. فـ (وددت تقبيل السيوف): من كثرة حبه لـ عبلة، فإن السيوف ذكَّرته بها وهي تلمع فأحب أن يصل إلى السيوف ويقبلها، ويرى أن هذا من علامة الفخار، أن يذكر محبوبه في مثل هذا الوقت! والله عز وجل أمرنا أن نذكره في وقت الخوف، فتن ظاهرة جداً، ومن قرأ غزوات المسلمين وجد هذا واضحاً جلياً، كانوا يتسابقون على الموت. أنس بن النضر قَلَّ مَن يعرفه إلا الدارسون، وهو عم أنس بن مالك: في ليلة أحد وجد أنه سيموت في أول من يموت، ثم لما اشتدت الحرب وصرخ الشيطان: مات محمد، وانقسم المسلمون وجلس بعضهم يبكي فمر أنس بن النضر على جماعةٍ من المسلمين قد ألقَوا أسلحتهم وجلسوا يبكون قال: ما يبكيكم؟ قالوا: مات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وقاتل حتى قُتِل. وهذا عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله في صبيحة أحد قال لابنه جابر: يا بني! إني أراني سأقتل في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستوص بأخواتك خيراً، وكان مِن أول مَن قُتِل. وعبد الله بن جحش كان يقول: اللهم لقني عدواً عظيماً حرثُه -سلطان- عظيماً كيده، فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فتسألني: فيم قتلت يا عبد الله؟ أقول: فيك يا رب. وهذا عمرو بن الجموح كان شديد العرج، وكان له ستة أولاد كلهم من الفرسان يقاتلون في سبيل الله، فأراد في غزوة أحد أن يخرج فيقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أولاده: يا أبانا! إنك ممن عَذَر الله عز وجل؛ فبكى وقال: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، وشكاهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: دعوه لعل الله أن يرزقه شهادة، وماذا يفعل أعرجٌ في حرب فيها كر وفر؟ فقُتل أيضاً مع الذين قتلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطأ بعرجته في الجنة وما بها من عوج). فعندما تنظر إلى هؤلاء الصحابة الذين كانوا يتسابقون على الموت: أفتظن هؤلاء ينافس بعضُهم بعضاً على حُطام الدنيا؟ أبداً! فقضية العبادة بالحب كانت موجودة جداً عند الصحابة؛ لأنهم حافظوا على الفرائض التي هي على سبيل الوجوب، فهان عليهم المستحب، كالصبر على المظالم مثلاً: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كذلك فكأنما تسفهم المل -الذي هو الرماد الحار- ولا يزال معك عليهم من الله ظهير ما دمت على ذلك). فأي الناس يصبر على مثل هذا الذي قاله هذا الصحابي؟ قليل. فالمستحب دائرته واسعة جداً جداً، لا يحيط بها إلا نبي. فهذه هي الأوامر، فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يراعون مثل هذا، فكان عندهم ذوق عالٍ جداً. انظر ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عن أكل الغراب، فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، قال: (مَن يأكل الغراب وقد سماهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!) فمجرد أن يسميه فاسقاً لا يؤكل. انظر! يستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، لو كان في الغراب خير ما سماه فاسقاً؛ فيستدل بالتسمية على تحريمه، وهذه حجةٌ عجيبة تدلك على ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الفطنة العالية. وكذلك مثله ما رواه الطبراني في الأوسط بسندٍ فيه لين، أن عبد الله بن عمر وابنه سالم بن عبد الله، كانا عند الحجاج بن يوسف الثقفي؛ فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا الرجل وخذ معك سيفاً فاضرب عنقه على الباب. فأخذه سالم وأخذ السيف معه وانطلق به من الباب، فقال له سالم: أصليت الصبح؟ قال: نعم. فقال له سالم: خذ أي طريق شئت. ثم رجع والسيف في يده. فقال له الحجاج: أقتلت الرجل؟ قال له: لا. قال له: لِمَ؟ قال: لأن أبي هذا -وأشار إلى أبيه عبد الله بن عمر - حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن صلى الصبح فهو في ذمة الله). شخص في ذمة الله كيف أقتله وأجور على حمى الملك، أأقتل مَن هو في ذمة الملك؟! فأطرق الحجاج وسكت. فقال عبد الله بن عمر لابنه: إنك مسالم، إنما سميتك سالماً لتسلم! فكان له من تسمية أبيه نصيب. هذه أشياء تعد في غاية البساطة بالنسبة لمواقفهم الكبيرة، وإنما تلقوا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بآذانٍ مفتوحة، وبقلوب مفعمة بالإيمان، وهذا سمت المحب، لا أن يسمع وهو متضايق كاره، فيذهب عليه نصف الكلام، أو ثلث الكلام أو ربع الكلام أو كل الكلام، إنما كانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيرمقونه، تكون أعينهم مثل (الكاميرا) المسجلة، ما يفعل هذا إلا محب. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

أبو سفيان وهرقل [1، 2]

أبو سفيان وهرقل [1، 2] ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه قصة أبي سفيان مع هرقل، والتي ألقى فيها هرقل على أبي سفيان عدداً من الأسئلة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أسئلة دقيقة ومختصرة، وبعد أن أكمل أسئلته بدأ يطابق إجابات أبي سفيان بما عنده من علم بصفات الأنبياء، فوجدها تنطق بنبوة محمد ورسالته.

قصة أبي سفيان مع هرقل

قصة أبي سفيان مع هرقل إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فدرسنا في هذا المساء حديث من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، واخترت هذا الحديث؛ لأن الإمام البخاري في تبويبه لمعاني الأحاديث عادةً ما يسلك كثيراً سبيل الإشارة؛ حتى يمرن ذهن القارئ ويعلمه استنباط الأحكام أو المعاني من الأحاديث. هذا الحديث حديث جليل، وهو آخر حديث في أول كتاب في صحيح البخاري، وقد قسم البخاري رحمه الله صحيحه إلى كتب؛ كتاب بدء الوحي، كتاب الإيمان، كتاب العلم، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة إلى آخره. فأول كتاب بدأ به الإمام البخاري رحمه الله صحيحه: كتاب بدء الوحي، فذكر في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، أول حديث هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) الحديث وآخر حديث هو الذي سنشرحه في هذا المساء. قلت: إن هذا الحديث طويل، ويشتمل على كثير من المعاني، ولكننا لا نستطيع أن نأتي على كل المعاني التي يزخر بها هذا الحديث، لكن سنقف على أهم هذه المعاني وأوضحها. قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال: أخبرنا شعيب وهو: ابن أبي حمزة، ومن الرواة عن الزهري، وأكثر من الرواية عنه، وهو إمام ثقة- عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء -مدينة- فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال -يعني أبو سفيان -: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، -قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64]. قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت. ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).

الاختلاف في إسلام هرقل

الاختلاف في إسلام هرقل هل هرقل مسلم أم كافر؟ نحن لا نعلم هل كل كلامه عن الرسول صلى الله عليه وسلم كلام مصدق، وهو يقول: لو كنت عنده لغسلت عن قدمه، واستدعائه البطارقة والعلماء والأساقفة وقوله لهم: ألا تريدون أن يثبت الله ملككم فتؤمنوا بهذا النبي؟ يعني كل كلام هرقل يدل على أنه مؤمن، لكن لما رأى نفرتهم، ويئس من أن يؤمنوا قال: ردوهم علي، وقال: إنما قلت مقالتي لأختبر شدتكم على دينكم، فقد رأيت أنكم أشداء على دينكم، فرضوا عنه وسجدوا له، فكان ذلك آخر أمر هرقل. ووردت بعض الروايات الضعيفة والتي جاء فيها أن هرقل كان كافراً، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كفره، والتي تخالف قول ابن عباس أو قول الراوي: (فكان ذلك آخر أمر هرقل) فنقول: إن كان الرجل آمن وأراد الاحتفاظ بملكه فله -يعني أمره إلى الله عز وجل- ولا نقطع فيه بكفر ولا إيمان إلا بدليل واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات). الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتب إلى الآفاق، عامل كل ملك أرسل إليه الكتاب بجنس احترامه أو إهانته لكتاب النبي عليه الصلاة والسلام. فهرقل لما عظم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وعظم الخطاب حفظ الله له ملكه، وكسرى لما مزق الخطاب دعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام فمزق الله ملكه وقتله ابنه.

حكم رواية الكافر بعد إسلامه

حكم رواية الكافر بعد إسلامه كان أبو سفيان رئس في قريش رغم أنه لم يكن مؤهلاً لهذه الرئاسة، لكنه رئس بسبب ذهاب أكابر قريش بموقعة بدر، فقد قتلوا جميعاً، وقد رئس مبكراً. فـ أبو سفيان هو من قص هذه القصة التي حدثت له وهو كافر، وهنا قاعدة حديثية وهي: الكافر إذا أسلم فحدثنا بعد إسلامه بشيء فعله أو شاهده قبل أن يسلم -أي: وهو كافر- هل يقبل منه أم لا؟ قال العلماء: العبرة في حال الأداء، أن يكون مسلماً، ليس هناك مانع أن يسمع الحديث وهو كافر، لكن لو قص علينا القصة وهو كافر نردها عليه؛ لأننا لا نأمن أن يزيد أو ينقص أو يحرف. لكن بعد أن دخل في الإسلام وعلم أن الكذب على الله ورسوله من أعظم الجنايات، وثبتت عدالته عندنا يقتضي أن نقبل خبره حتى وإن كان هذا الخبر حدث أيام ما كان كافراً. ومن الأمثلة على ذلك: قول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (دخلت المدينة فوافيتها -قبل أن يسلم- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بسورة الطور) فالإمام البخاري روى هذا الحديث في صحيحه وقال: باب القراءة في المغرب. رغم أن جبير بن مطعم لما سمع الحديث كان كافراً، لكن العبرة في وقت الأداء -أي: وقت ذكر الحديث- أن يكون العبد مسلماً أدى أحد فرائض العدالة. فـ أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه يحكي القصة التي حصلت له أيام ما كان كافراً؛ لأن القصة هذه حدثت -كما قال أبو سفيان - في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش في صلح الحديبية والذي كان سنة (6) هجرية. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتفق مع قريش أن يضع الحرب عشر سنوات، لكن كفار قريش نقضوا هذه المدة، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (8) وفتح مكة كما هو معروف.

بداية الحوار بين أبي سفيان وهرقل

بداية الحوار بين أبي سفيان وهرقل قال أبو سفيان: (إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام) كانت قريش قد عضها الفقر بنابه، وكان عندهم شيء شبيه بالمجاعة، حتى قال أبو سفيان كما في بعض الروايات الأخرى: (فما بقي من رجل أو امرأة في قريش إلا أعطاني شيئاً أبيعه) بسبب أن الحرب حصبت قريشاً؛ لأنهم ظلوا يقاتلون النبي عليه الصلاة والسلام مدة طويلة. فلما علم هرقل أنهم في الشام أرسل في طلبهم، وفي بعض الروايات أن أبا سفيان قال: فبينما أنا مع رفقائي إذ جاء جنود هرقل فساقونا إليه. فدعاهم في مجلسه ثم قال لترجمانه: قل لهم: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ هرقل رجل ذكي جداً، وقد قال عنه أبو سفيان: ما رأيت أدهى من هذا الأقلف. الذي هو هرقل. الأقلف: غير المختتن، وعدم الاختتان كان -بالذات في النساء- يترتب عليه فواحش كثيرة، وقد كانت العرب تعير الرجل فتقول له: يا بن القلساء. والقلساء: التي لم تختتن. والعوام يسمون الاختتان: طهارة؛ لأن المرأة إذا لم تختتن فإنها تكون كثيرة الحنين إلى الرجال، ولذلك تجد الفواحش تقع في أوروبا بسبب عدم الاختتان، والذين ينادون بعدم الاختتان فإنهم يعتدون على أنوثة المرأة؛ لأنهم يريدون أن تكثر الفواحش عندنا مثل ما كثرت الفواحش في بلاد الغرب بسبب عدم الاختتان. وقد اختلف العلماء في كتب الفقه فقالوا: هل تجوز إمامة الأقلف أم لا، بل هل تجوز صلاته أم لا؟ لأنه يكون به بول مستمر.

بيان ذكاء هرقل في طرح الأسئلة

بيان ذكاء هرقل في طرح الأسئلة فهرقل هذا داهية، دلنا على ذلك تصرفه، ونوعية الأسئلة التي سألها لـ أبي سفيان، وسوف نتعلم من أسئلة هرقل عدة دروس: الدرس الأول: قال: أيكم أقرب نسباً من هذا الذي يزعم أنه نبي؟ نستفيد من هذا السؤال شيئين: الشيء الأول: لماذا طلب أقرب النسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لأن الرجل إذا كان يربطه نسب بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه لن يكذب عليه، لاسيما إذا كان النسب شريفاً، بخلاف لو لم يكن من أقاربه؛ لأن الغريب يطعن في النسب، ومسألة الطعن في الأنساب كانت منتشرة في الجاهلية، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام الطعن في الأنساب من خصال الجاهلية، بل جعلها من خصال الكفر، فقال: (صنفان في أمتي هما بهما كفر: النياحة، والطعن في الأنساب)، والعرب كانوا يعظمون الأنساب غاية التعظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام دندن كثيراً على أن النسب لا ينفع عند الله، فقال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال: (يا فاطمة! اعملي فإني لا أملك لكِ من الله شيئاً). ثانياً: قوله: هذا الذي يزعم. نحن نعلم أن كلمة (زعم) أغلب ما تستخدم في الكذب؛ قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، و {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بئس مطية الرجل (زعموا)) لأن زعموا تدل على أنك لست متأكداً من كلامك، والأخبار يدخلها الصدق والكذب، طالما أنه لا يوجد تأكد من الكلام إذاً (زعم) مطية للكذب، فأكثر ما تستخدم هذه الكلمة في الكذب، لكن تستخدم أحياناً في الصدق، وهذا كقول ضمام بن ثعلبة لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟) إلى آخر القصة المعروفة. قوله: (إن رسولك يزعم أنك تزعم) ولو كان ضمام بن ثعلبة يكذبه ما جاءه، فالزعم هنا محمول على الصدق، وكذلك بعض العلماء يستخدم الزعم في الصدق، كقول سيبويه في كتابه الشهير: زعم الخليل كذا وكذا. والخليل بن أحمد الفراهيدي هو شيخ سيبويه، وصاحب كتاب: العين، وهو أول معجم في اللغة العربية. وما قصد سيبويه أن يرد كلام الخليل، إنما قصد أن يحتج بكلام الخليل، فأورد كلام الخليل مورد الاحتجاج ومع ذلك يقول: زعم الخليل كذا وكذا؛ زعم: أي قال قولاً صحيحاً. فهرقل لما قال: هذا الذي يزعم أنه نبي؟ فهذا نوع من التمويه والاستدراج لـ أبي سفيان؛ لأن أبا سفيان إذا علم أن هرقل منحاز للنبي عليه الصلاة والسلام انحيازاً كاملاً لعله يكذب، لا يصدقه، لكن إذا علم أنه يشكك في نبوته فهذا يجرئه على أن يقول كل ما عنده. وهذا نوع من الاستدراج الذكي، فأنت عندما تتهم شخصاً فلا تباشره بالاتهام؛ لأنه يمكن أن ينكر كما حدث في قصة الساحر والراهب، لما علم الملك أن هناك بذرة إيمان بدأت تنبت في المملكة، ثم علم أن جليسه قد آمن بسبب الغلام؛ فعلم أن الغلام يدعو الناس للإيمان، فالملك استدرجه، ولم يتهمه مباشرة، لذلك هرقل كان يعلم أن أبا سفيان عدو للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم يرد أن يستفزه، لكي يأخذ منه الخبر اليقين، ولذلك أفلح فعلاً في استدراجه وحاصره بالأسئلة.

تحريم الكذب وبيان أنه من أعظم الذنوب

تحريم الكذب وبيان أنه من أعظم الذنوب ماذا فعل هرقل ذلك الداهية -كما وصفه أبو سفيان - قبل أن يسأل أبا سفيان؟ قال له: اجلس. وأجلس أصحابه خلف ظهره، وقال للترجمان: قل لهم إني سائله، فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: ولولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه. انظر إلى الترفع عن الدنايا، مع أن الذي منعه عن الكذب ليس هو الإيمان، وليس هو الخوف من الله عز وجل، وإنما الخوف من أن يتهم بالكذب، والكذب ما أباحه الله قط إلا أنواعاً معينة أباحها بضوابط معينة، لكن مطلق الكذب ما كان مباحاً أبداً. ولذلك يقول سفيان بن عيينة -وهذا الكلام صحيح، رواه الإمام النسائي، ليس في السنن ولكن في جزء له، جزء حديثي- قال سفيان: كل ذنب جعلت فيه الكفارة فهو من أيسر الذنوب، وكل ذنب لم تجعل فيه الكفارة فهو من أعظم الذنوب؛ لذلك لم يجعل الله للكذب كفارة؛ لأنه إذا أمرك بكفارة وأديتها يسقط الذنب. ومن الأدلة على ذلك: قصة الغامدية التي زنت ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يصلي عليها، فامتنع عمر، ووقف أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تنح عني يا عمر، فوالله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم). كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟ والرجم إنما هو كفارة لهذا الذنب، فالمرأة لقيت الله عز وجل ولا شيء عليها، بل إن توبتها تسع سبعين من أهل المدينة ونحن نعلم أن أهل المدينة كانوا كلهم صحابة، فلو قسمت توبتها على سبعين صحابي لوسعتهم. أما إذا كان الذنب عظيماً فالله تبارك وتعالى لا يجعل فيه كفارة، كقتل المؤمن، فإن الله ما جعل في قتل المؤمن عمداً كفارة، لذلك احتج بعض العلماء بترك الكفارة في قتل المؤمن -قتل العمد- على أن القاتل -قاتل المؤمن عمداً- لا توبة له، قال: لأنه لو كانت له توبة لأذن له بكفارة كما أذن لقاتل المؤمن خطأً. فالكذب هذا لم تجعل فيه الكفارة؛ لأنه من أعظم الذنوب، وهو قبيح في ذاته، لذلك فالكذب عند العلماء من المحرمات لذاتها. المحرمات قسمان: قسم محرم لذاته، وقسم محرم لغيره. المحرم لذاته: أي لما يشتمل عليه من القبح في ذاته، كالقتل، وكالشرك بالله، والكذب، والزنا؛ لأنها قبيحة في ذاتها، فهي حرام. حرام لغيره: أي أنه في الأصل مباح، لكن اقترن به صفة نقلته من الحل إلى الحرمة، فمثلاً: الصلاة فريضة، لكن الصلاة على الأرض المغصوبة باطلة على رأي الحنابلة، ومكروه على رأي الباقين. فنقول: إذا رأيت شخصاً يصلي على أرض غصبها من إنسان حتى لو أخذ أرض الإنسان وبنى عليها مسجداً، فإن الصلاة فيه تكون كالصلاة على الأرض المغصوبة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول: كيف تكون الصلاة باطلة وهو إنما صلى في المسجد؟ فنقول: لا. المسألة ليست كذلك، فالصلاة صحيحة في نفسها سواء كانت فريضة أو مستحبة، لكن لما اقترنت صلاته بالصلاة على الأرض المغصوبة كانت حراماً. ومثل ذلك: الذي يبيع العنب لمن يجعلونه خمراً، فيكون هذا البيع حراماً، مع أن بيع العنب في الأصل حلال، لكن لما باعه لمن يجعلونه خمراً أصبح هذا البيع محرماً. وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب، كأن يسرق أحد ثياباً ثم يلبسها ويصلي بها، فهذه حكمها حكم الأرض المغصوبة، ومن الفقهاء من يقول: لا يجوز له أن يصلي في الثوب المغصوب، وإنما يصلي عرياناً. لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهو لا يستطيع أن يواري عورته، فيصلي حسب ظروفه، أما أن يسرق الثوب أو يغصبه حتى يصلي فيه فهذا لا يجوز. إذاً: فالكذب لا سيما على الله ورسوله محرم لذاته، ومع ذلك فالذي جعل أبا سفيان لا يكذب إنما هو الترفع، وفي رواية ابن إسحاق قال أبو سفيان: (قد كنت سيداً مطاعاً في قومي، فأنفت أن أُنسب إلى كذب). هي هذه مقتضى الرئاسة، ولذلك كان من أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: ملك كذاب. لماذا يكذب وهو ملك؟ ما كذب إلا لأنه في نفسه كذاب، مستمرئ للكذب حتى أن الكذب أصبح كالصفة الجبلية فيه، لذلك كان من أشد الناس عذاباً يوم القيامة. فأنفة أبي سفيان وترفعه عن الدنايا جعله لا يكذب. وفي بعض الروايات أنه قال: ولو كذبت ما كذبوني، لماذا؟ لسببين: السبب الأول: أن أبا سفيان هو الملك المطاع فيهم، ولا يعقل أن يُرد عليه في مثل هذا المجلس العلني. السبب الثاني وهو الأهم: لأنهم يريدونه أن يكذب؛ لأنهم هم أيضاً يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن مصلحة هؤلاء أنهم أيضاً يكذبوه، ولذلك قال أبو سفيان: لو كذبت ما كذبوني.

هرقل يسأل أبا سفيان

هرقل يسأل أبا سفيان جاء في بعض الروايات الأخرى أن أبا سفيان أول ما جلس وسأله هرقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هو ساحر هو كذاب. فقال له هرقل: ما سألتك عنه لتكتمه. فخجل الرجل من نفسه، فبدأت المحاكمة، وبدأت الأسئلة التي حاصر بها هرقل أبا سفيان، وأسئلته ذكية جداً ومرتبة، وهي كذلك مختصرة، و (خير الكلام ما قل ودل). بدأ هرقل يسأل أبا سفيان فقال: أيكم أقرب نسباً؟ قال أبو سفيان: أنا أقرب إليه نسباً. وجاء في بعض الروايات الأخر -أظنها في البخاري - أنه قال: هو ابن عمي. لأنهما -أي أبو سفيان والرسول عليه الصلاة والسلام- يشتركان معاً في الأب الرابع وهو عبد مناف، ولذلك قال أبو سفيان كما في الروايات الأخرى قال: ولم يكن في الركب أحد من عبد مناف غيري. فالرسول اسمه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وأبو سفيان: أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. فاشتركوا في الأب الرابع، فلهذا قال: هو ابن عمي. ثم قال له: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ يعني: هل ادعى أحد النبوة قبله؟ قال: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملِك؟ قال: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. أسئلة قوية جداً ومركزة، وفي صلب الموضوع، ولذلك أي إنسان يستجوب أحداً فلابد أن يدرس القضية أولاً، ويجعل كل الأسئلة في محور القضية، ويكون السؤال دقيقاً بحيث لا تجعل المسئول يفكر كثيراً في الجواب أو يدخل في تفاصيل لا حاجة لذكرها. فكانت أسئلة هرقل محدودة بحيث لم تسمح لـ أبي سفيان أن يدخل في تفاصيل لا حاجة لها، وقد استثمر هرقل الإجابات المختصرة لـ أبي سفيان بعد ذلك، وأقام عليه الحجة بأن النبي عليه الصلاة والسلام رسول، ورسالته حقة من جنس إنكاره للرسالة. وقد كانت إجابات أبي سفيان هي نفس الدليل الذي أثبت به هرقل صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وصدق رسالته؛ فقد قال لـ أبي سفيان: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

بيان أن الرسل تبعث في نسب قومها

بيان أن الرسل تبعث في نسب قومها قوله: (فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها) أي: في أفضل نسب؛ لأن الخلق دائماً يهتمون بالأنساب، وهذه من خصال الجاهلية الموجودة في الخلق إلى أن تقوم الساعة. فقريش بعد ما أقيمت عليهم الحجة من كل صوب، ماذا قالوا؟ قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. القرآن جميل! وكلام طيب! لكن لو أنزل على رجل عظيم من أهل الأنفة، والشرف! فقال سبحانه وتعالى راداً عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. لذلك لم تزنِ امرأة نبي قط، ولا جاء نبي أبداً من سفاح؛ لأن هذا قدح مباشر في رسالته، كما أنه ممكن أن يكون أبو النبي كافراً لكن لا يكون زانياً. الزنا قبيح جداً، ولذلك كما يقول ابن عباس: (ما زنت امرأة نبي قط) لكن ممكن تكفر. يعير بالزنا أشد مما يعير بالكفر، وإن كان الكفر هو رأس الخبائث كلها، وكأنه لهذا -لهذا المعنى- برأ الله تبارك وتعالى موسى من قذف بني إسرائيل إياه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنوا إسرائيل يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يذهب إلى مكان بعيد في النهر ويخلع ملابسه وينزل يسبح. وفي أحد الأيام شك بنو إسرائيل في موسى عليه السلام فقال بعضهم لبعض: لماذا لا يستحم معنا؟ إنه آدر -آدر يعني: عظيم الخصية؛ عنده عيب في الخصية- فاتهموه بهذه التهمة- وبينما كان موسى عليه السلامة يستحم وقد كان وضع كل ملابسه على حجر، فإذا بالحجر يأخذ ملابسه ويذهب، فخرج موسى يجري وراء الحجر عرياناً، فمر الحجر على بني إسرائيل وهم في النهر، وموسى عليه السلام يجري وراء الحجر فمر عليهم عرياناً، وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر!) يعني: أعطني ثوبي أيها الحجر! فوقف الحجر، فموسى عليه السلام من غضبه أمسك العصا وظل يضرب الحجر، قال عليه الصلاة والسلام: (لو شئت لأريتكم ندبات العصا على الحجر) أي: أن العصا تركت آثاراً على الحجر. فقال بعضهم لبعض بعد أن رأوا موسى عليه السلام مستوي الخلق، قالوا: ما بالرجل من بأس. قال بعض العلماء: إنما أراهم الله تبارك وتعالى ذلك؛ لأنه يمكن أن يرتقي إلى الشك في ذرية موسى عليه السلام، ونحن نعلم أن الحيوانات المنوية تخرج من الخصية، فإذا كانت الخصية فيها عيب أو ما شابهه فيكون هذا سلم للطعن في ذرية موسى عليه السلام. فأنزل الله تبارك وتعالى قوله في ذلك في هذه القصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]. فقد كان الناس يهتمون بمسألة الحرص على الأنساب؛ لذلك كل الرسل أرسلت في نسب قومها، فالقدح في النسب مشكلة كبيرة جداً ممكن تقوض الرسالة.

موافقة هرقل لأقوال أبي سفيان في النبي صلى الله عليه وسلم

موافقة هرقل لأقوال أبي سفيان في النبي صلى الله عليه وسلم قال هرقل: وسألتك: هل أحد منكم قال هذا القول؟ يعني: زعم أنه نبي. فذكرت: أن لا، يعني: لا. ليس هناك أحد ادعى هذه الدعوة. قال: فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، لكن ما قال قبله أحد قط هذه الدعوى، فمن أين يأتي بها؟ قال: وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. يعني: شخص أبوه كان ملكاً، وهو الآن قاعد في المنفى، وجعل له حكومة مؤقتة، ويريد أن يرجع البلد مرة أخرى، مثل ابن فاروق، فهؤلاء متطلعون لحكم أبيهم. المملكة مثل الأرض الخاصة، ولذلك لا يسمح بالحريات في المملكات، إنما يسمح بالحرية ولو كاذبة في النظام الجمهوري. أصل النظام الجمهوري: أن لا يكون هناك حاكم دائم، لكن المملكة هذه ملك للحاكم فإذا مات سيأخذها من بعده ابنه أو أخوه فقال له: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.

اعتراف أبي سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاذبا

اعتراف أبي سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاذباً قال: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا. فقلت: أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. إجابة ملزمة! يعني: رجل لم تجربوا عليه كذباً، ويتعفف عن الكذب عنكم في قضاياكم العادية، فهل هذا الرجل يكذب على الله؟! هذا الذي يسميه العلماء: القياس الجلي، أو القياس الأولوي. القياس الأولوي صورته: أن يستدل بنفي الأقل على نفي الأكثر، كقوله تبارك وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] إذاً هذا من باب أولى يحرم الضرب، لكن لو قال: ولا تضربهما، فكان يجوز أن تقول: أف. هذا هو القياس الجلي أو القياس الأولوي، فهو عندما ينهاك عن الأقل فقد حرم عليك الأكثر، فقوله: (لا تقل لهما أف)، يعني: من باب أولى الضرب، لكن لو قال لك: لا تضرب، فجائز أن تشتم؛ لأن النهي عن الضرب ليس فيه النهي عن الشتم، لكن النهي عن التأفف فيه نهي عن الشتم وعن الضرب. فإذا كان لا يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لا يكذب على الله، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. بعد أن سأله عن الكذب سأله عن الغدر. لماذا أخر الغدر عن الكذب؟ هذا من باب تقديم الخاص على العام، وهنا قاعدة مهمة جداً، يقول العلماء: تقديم الخاص على العام يفيد الاهتمام. مثلاً لو قلت لك: لا تأكل الضأن ولا اللحم لا فرق بين الضأن واللحم، كان ممكن أن أقول لك: لا تأكل اللحم. فذكري لتحريم الضأن قبل اللحم يدل على أن الضأن بالذات محرم تحريماً مؤكداً، فتخصيصي لذكر هذا النوع من اللحم قبل ذكر سائر اللحوم دلالة على تأكيد منع هذا اللحم، إذاً هذا فيه اهتمام بالشيء الذي أفردته، الذي هو الخصوص. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي بدأ به البخاري صحيحه: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث في آخره: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) الخاص هنا ذكر بعد العام ولا فرق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرت عيني في الصلاة) وبعضهم يرويه: (حبب إلي من دنياكم ثلاث) لفظ (ثلاث) باطلة، لا أصل لها في الحديث، والحديث نفسه يؤكد أنها باطلة؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، إنما (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب) وبعد ذلك تبدأ بكلام جديد (وجعلت قرت عيني الصلاة) فالنساء من الدنيا بنص الحديث، فكان من الممكن أنه لا ينبه عن المرأة وهي داخلة في الدنيا، لكن طالما أنه أفردها بالذكر رغم أنها داخلة في الدنيا فيكون تأكيداً على فتنتها، كأن يقال: انتبه من الدنيا وبالذات المرأة. فعندما تفرد هذا الجزء من العام بالذكر فإنك تهتم به، وذلك كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] خصص الصلاة والنسك بالذكر، ثم جمعهما في قوله: {وَمَحْيَايَ} والمحيا منه الصلاة والنسك، لو أن الآية تقول: (قل إن محياي ومماتي) لعلمنا يقيناً أن الصلاة داخلة في الموضوع، لكن كونه يذكر الصلاة والنسك على سبيل الخصوص وبعدها يعمم الكلام، فهذا يدل على تأكيد الاهتمام بهذين: النسك الذي هو الذبح، سواءً كان يقصد به ذبح الحج أو غيره، والصلاة.

الغدر أعم من الكذب

الغدر أعم من الكذب أيهما أعم الكذب أم الغدر؟ الغدر أعم من الكذب؛ لأن الغدر يمكن أن يتم بأشياء كثيرة غير القول، فقد يكون بالفعل، يعني: بالجوارح وهي كثيرة، أذكر منها حديثاً رواه أصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين -يعني قال: كل الناس آمنون، إلا أربعة رجال وامرأتين- قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا إهدار عام لدم هذا الإنسان، أي واحد يقابله يقتله، يعني: أنه لم يندب أحداً لقتله: (ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) لأنه كان فيما مضى أي إنسان يتعلق بأستار الكعبة مهما كانت جريمته حتى وإن قتل فهو في أمان، فكان كل من قتل تعلق بأستار الكعبة. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا تأكيد على إهدار دمائهم. وهؤلاء هم: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح، وعبد الله بن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، والمرأتان لم تذكر أسماؤهما. أما مقيس بن صبابة فأدركوه في السوق فقتلوه، وكذلك قتلوا عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة. أما عكرمة فهرب، وركب البحر، ولما أوشكت السفينة على الغرق، قال صاحب السفينة: إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، فلا ينفعكم إلا الإخلاص، فأخلصوا في الدعاء، ولذلك عند الشدة لا تجد أحداً منافقاً أو مرائياً بل يخلص أشد الإخلاص. فقال عكرمة: (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلن ينجني في البر غيره، والله لئن سلمني الله لآتين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم بين يديه فقبل منه. بقي عبد الله بن أبي السرح، والذي كان أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، فأول ما علم أن دمه مباح هرب عند عثمان، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فلما علم عثمان بن عفان بذلك، أخذ عبد الله بن أبي السرح وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تعلمون مكانة عثمان رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان عزيزاً غالياً، فجاء عثمان رضي الله عنه ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله وراءه، فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يبايعه، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فلم يبايعه -ثلاثاً- فبايعه بعد الثالثة، ثم قال لأصحابه -وهنا الشاهد-: أليس منكم رجل رشيد، إذ يراني كففت بيعتي -كففت يدي عن بيعة هذا- فيقوم إليه فيضرب عنقه؟ فقالوا: يا رسول الله! هلاّ أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)؛ لأن خيانة العين من الغدر، وسميت كذلك؛ لأنك تظهر شيئاً وتبطن آخر. فخيانة العين من الغدر، والغدر يمكن أن يكون باليد، وبالعين واللسان، لذلك كان الغدر أعم من الكذب، والكذب أخص من الغدر، فالكذب جنس من أجناس الغدر. ولذلك سأل أولاً عن الكذب ثم سأل عن الغدر. وجد أبو سفيان فرصة ذهبية يغمز فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حين سأل هرقل أبا سفيان فقال: (هل يغدر؟ قال: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها) الله أعلم، جائز يغدر. قال: (ولم تمكني كلمة أقول فيها شيئاً إلا هذه)؛) لأن هرقل كان يحاصره بالأسئلة، فلم يستطع أن يجد أي فرصة إلا هذه، فقوله هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يغدر، أما الكذب فلا. حقيقة أنا لم أعلم أحداً في المناظرة يطبق هذا المنهج إلا شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو يناظر تحس أنه أسد خرج من القفص، وهو يناقش في القفص يقول له عندما يتقابل سؤالان: قل: نعم أو لا، أو فيه تفصيل؟ وبعد ذلك يقول للسائل: قل الذي تريده، يعني مثلاً: شخص سأل عن مسألة في أصول التوحيد هل يعذر قائلها أم لا؟ فيقول: قال تبارك وتعالى كذا وكذا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وقال العلماء كذا فيدخلك في متاهة، فكان يحاصرهم فيقول: هل يعذر أم لا؟ ويقول له: قل نعم أولا؟ ما الفوائد من هذه الطريقة؟ فوائد هذه الطريقة: أنك إذا سألته عن تفصيل فقال: لا، فلو قال بعد ذلك: نعم، فقل له: ألم تقل: لا، فلماذا غيرت كلامك، لكن لو أنك تركته من البداية ولم تناقشه، فإنه يقول لك: أنت لم تفهمني جيداً، ولم يكن قصدي هذا ويدخلك في متاهات أنت في غنى عنها.

بيان أن الضعفاء هم أتباع الرسل

بيان أن الضعفاء هم أتباع الرسل يقول هرقل: (وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هذا التقليد الجاهلي بدأ يعود بصورة موسعة في هذا العصر، شخص من كبار العلمانيين عندنا، والله سبحانه وتعالى ابتلاه بمرض عضال، ونذكر هذا لنُذكِّر أنه ما انتصب رجل لحرب الله ورسوله إلا رجع مدحوراً، وكان هذا الرجل قد كتب مقالاً في أحد الجرائد، وقد أغلقت هذه الجريدة بعد هذا المقال، قال: إن الذين يظهرون التدين تدينهم غير حقيقي؛ لأن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي، يعني: وجد نفسه فقيراً ففزع إلى الله، فنقول: هل هذا خطأ؟ لا، شخص وجد نفسه فقيراً، وعرف أن كل الأغنياء لا يملكون لأنفسهم غنى، فرجع إلى الغني الكبير، فهل هذا يعيبه؟ قال: هذا التدين لابد أن يكون منبعثاً من القلب، يعني: يتدين بدون هدف، ولا يكون مصلحياً، هكذا قال! ثم ذكر قول رابعة العدوية: (اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك الكريم فلا تحرمني من وجهك). هذا كلام خاطئ! فهل الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسأل الله الجنة ويعوذ به من النار كان يعبده عبادة التجار؟!! كل الأنبياء كانوا يسألون الله عز وجل الجنة ويعوذون به من النار، ويسألونه العافية، ويعوذون به من المرض. فيقول: إن التدين الحقيقي أن يقبل الإنسان على الله دون أن يكون له غرض، فالإنسان إذا لم يكن له حافز لم يعمل، وهذه طبيعة الإنسان، فنحن مثلاً على المستوى الدنيوي عندما نأتي بشخص ونقول له: اعمل كذا وكذا، وسوف نعطيك مائة جنيه، فإنه سيعمل ليل نهار حتى ينجز هذا العمل ويحصل على المائة جنيه، ولو لم يكن هناك مقابل فإنه لن يقوم بأي عمل؛ لأن هذه مربوطة بتلك وهي طبيعة الإنسان، لذلك الله تبارك وتعالى جعل الجنة للمطيعين، وجعل النار للعصاة، لماذا؟ لأن الإنسان لا يتحرك إلا بحافز، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) عندما تتأمل هذا الحديث تجده يؤكد الكلام الذي قلناه، فالإنسان إذا قامت الساعة وفي يده فسيلة، فإنه سيتركها ولن يغرسها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (فاغرسها)، فلماذا أمره أن يغرسها؟ لأن الإنسان يتصرف بما جبل عليه، فهو عندما يزرع نخلة فإنه إنما يزرعها ليأكل منها هو وأولاده، لكن لو علم أنه لن يأكل منها أحد ولن ينتفع منها أحد ما غرسها، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: خالف طبعك، خالف جبلتك واغرسها. لما جاء صحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (يا رسول الله! -وكان يأكل تمراً- مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) لماذا؟ لأن الذي سوف يحبسه عن الجنة أنه يأكل التمرة هذه، فألقى التمرة وقاتل حتى قتل. لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك شيء، فهل من الممكن أن يرمي التمر ويذهب يقاتل؟ بل سيقول: آكل وأستريح، ولذلك لما جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير أيام فتنته مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وقال له: أنا فارس مغوار! ومقاتل شجاع! يمكن أكون في المقدمة، لكن كم تعطيني؟ قال له: أعطيك كذا وكذا، قال له: زدني، فقال له: بعد أن نرجع، فتولى الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي نقداً وتعطيني دراهمك نسيئة. الإنسان معروف أنه لا بد أن يعمل لشيء، لذلك خلق الله الجنة والنار، وجعل الجنة درجات، وقد كان من الممكن أن تكون درجة واحدة، لكن كل إنسان يجتهد أن يكون في أعلى الدرجات في الجنة. والنار -عياذاً بالله- جعلها دركات من أجل أن العبد إذا اقترف المعصية يخاف، فيستقل من المعاصي بقدر ما يمكن. فعندما يأتي هذا العلماني ويقول: التدين الحقيقي يجب أن يكون إلى الله بدون دافع، فهو جاهل، لا يعرف شيئاً، ولم يقرأ شيئاً من الوحي، ولا حتى يعرف طبائع الناس، يقول: إن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي العام! هل هذا يعاب الإنسان به؟ لا يعاب الإنسان به، لذلك دائماً تجد كل أتباع الرسل في كل زمان هم الضعفاء، لا تجد منهم السادة، ولا تجد منهم أصحاب المناصب، بل تجد دائماً أصحاب المناصب والأشراف هم أصحاب الهوى، وهم أعداء الأنبياء، ولذلك النظام الجديد الذي يجتاح العالم الآن وبكل أسف دخل على العالم الإسلامي، والذي هو تقليص دخل الفقراء، فأنت عندما تنظر الآن شروط التقديم في الكليات العسكرية تجدها تغيرت عن قديم، فقد كانوا قديماً يقولون عندما تذهب إلى النظام الاشتراكي: إن الكل يتساوون في الطابور هذا جنب هذا، الآن أصبح في استمارة التقديم لا بد من معرفة إذا كان هناك أحد قد سبقك في هذا المجال فقالوا: لأن القلاقل التي حدثت في مثل هذه الأجهزة حدثت بسبب المتدينين، الذين هم الفقراء، ولا يمكن أن يبيع أحد منهم دينه من أجل شقة أو سيارة، فغيروا النظام إلى النظام الملكي، فتكون هذه المناصب للأعيان وأولاد الأعيان، لماذا؟ لأنهم أصحاب دنيا، وكل آمالهم من الدنيا شقة وسيارة، ورصيد في البنك، فإذا عملت كل هذه الأشياء فسيوافقون على أي قرار أو عمل. فأتباع الأنبياء دائماً ضعفاء، وهذا لا يعيبهم، لماذا؟ لأن الحق لا ينتصر بقوة العدة ولا العدد فقط، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالنصر من الله تبارك وتعالى، ونحن لا نملك تأثير الأسباب، العدة والعدد لهما دور في الانتصار لكن ليست هي السبب الرئيس في النصر؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم انتصروا في بدر وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أمام ألف رجل من قريش خرجوا مدججين بالسلاح، ومع ذلك نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم لما جمعهم على غير ميعاد.

قوة الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب

قوة الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب (قال: وسألتك يزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: وكذلك أمر الإيمان حتى يتم) يزيد الإيمان كالقمر، فيبدأ كالهلال ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يصير بدراً. قال: (وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطةً على دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا) هذا شيء طبيعي، فإذا كانوا يزيدون فإنهم لا ينقصون، ولا يرتد أحد منهم. (قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب) يعني: كأنها استقرت في نفس أنسجة القلب، ويكون مثاله كمثال اللون إذا اختلط بالماء فلم يترك جزئيات الماء، فإنك عندما تأتي بالشاي وتضعه في الماء، وتتركه لمدة سنة، فإنه لا يمكن أن يتغير لون الشاي؛ لأن الشاي اختلط بجزئيات الماء، بخلاف التراب؛ فإنك لو أتيت بالماء وخلطته به، وتركته خمس دقائق فإنك ستلاحظ أن التراب نزل تحت الماء، هذا هو الفرق بين مخالطة البشاشة والمخالطة العامة، فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلب كان كمثل ذلك الشاي، لذلك لا يرتد الإنسان أبداً مهما عذب وأوذي، وأعظم دليل على ذلك: أبو جندل بن سهيل بن عمرو فإن أباه سهيل بن عمرو عندما علم أنه أسلم قيده بالحديد، فلم يصبر على ذلك، فقرر أن يهرب، وذهب ماشياً وهو مقيد بالحديد من مكة إلى الحديبية، وكان من ضمن الاتفاق بين المشركين والمسلمين أنه إذا جاء أحد من مكة مسلماً فإنهم يردونه، ولما وصل أبو جندل إلى الحديبية إذا به يفاجأ بأبيه وهو جالس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: هذا أول ما أطالبك به، فطلب منه الرسول أن يتركه، لكن سهيلاً لم يوافق على ذلك، وأصر على أخذ ابنه معه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي جندل: (ارجع)، فحزن المسلمون لذلك أشد الحزن، ومع ذلك كله لم ييأس أبو جندل، ورجع وهو راضٍ بأمر الرسول رغم كل التعب الذي عاناه في سفره من مكة إلى الحديبية وهو مقيد بالحديد. ولذلك عندما سأل هرقل: (أيرتد أحدٌ منهم سخطةً على دينه؟)، كان ذلك نوع من التأكيد؛ لأنه عندما سأله: (أيزيدون، أم ينقصون؟ قال له: بل يزيدون) كان هذا دلالة على أنه لن يرتد أحد؛ لأنه لو كان أحد يرتد فإنهم سينقصون، لكنه قال هذا ليؤكد أن هذه الزيادة ليست أي زيادة، فالرجل إذا دخل في الإسلام وأشرب قلبه بالإيمان فلا يمكن أن يرتد عن دينه. قال: (فكذلك أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب).

ضرورة ترك ما كان عليه الآباء من الجهل والضلال

ضرورة ترك ما كان عليه الآباء من الجهل والضلال قال: (بم يأمركم؟ قال يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم). ثم قال هرقل: (سألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان). فقرن بين عبادة الأوثان وقول الآباء؛ لأن اتباع الآباء وثن، وكان هذا قول الكفار، فقد كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فاتباعهم لهذا الوثن صدهم عن الحق. وضع هرقل كلمة عبادة الأوثان مكان كلمة الآباء، ولم ينكر عليه أبو سفيان ويقول: أنا لم أقل هذا، أنا قلت أنه قال واتركوا ما يقوله آباؤكم، فإقرار أبي سفيان وسكوته عن الاعتراض على هرقل غيَّر كلامه دلالة على أنه موافق ومقر. اتباع الآباء في غير الحق وثن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهم: (اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم) إذا كان أبو سفيان يذكره على أنه رد للرسول عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى ذكر كلامهم هذا في معنى الربوبية، فقد كانوا يقرون بأن الله يسلمون تبارك وتعالى وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] لكنهم لا يقرون به في باب الألوهية، من ذلك {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] لماذا؟ إذا كان الرب واحد وأنتم تقرون بذلك، فما المانع أن يكون هو الإله الواحد أيضاً الذي يستحق أن يعبد دون غيره؟ فـ أبو سفيان يقول هذا على سبيل القدح في رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هرقل لأنه كان قد قرأ الكتاب العبراني، وكانت عنده خلفية بالشرائع السابقة، وعنده خلفية بدين المسيح عليه السلام؛ فكل ذلك أتاح له الفرصة أن يرد على أبي سفيان، فقال له: (قال: فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف) هذه أشياء لا يمكن للإنسان كامل العقل أن يعترض عليها، ولذلك قريش بعدما رأت أن كل شيء مدموغ بالحجة، قالت المقالة التي ذكرها الله تبارك وتعالى عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].

ملك القلوب هو الطريق إلى الملك الحقيقي

ملك القلوب هو الطريق إلى الملك الحقيقي قال هرقل: (فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين) وهذا دليل على أنه لا يمكّن في الأرض إلا لمن استأثر بقلوب من عليها، ولا يكون بقلة الأدب، ولا بالعنف. وهنا نكتة في منتهى اللطف، وهي في قصة يوسف عليه السلام، وذلك عندما ألقوه في الجب، وبعدها أخرجوه، ثم ذهب إلى العزيز، وكان لا يزال صغيراً، والله سبحانه وتعالى بعدما ذكر أنهم استقبلوه وأحبوه قال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:56] يوسف عليه السلام لم يمكن له في الأرض إلا بعدما خرج من السجن وصار وزيراً، فأين التمكين؟ طالما دخل قلب هذا الرجل، فهذا هو الملك الحقيقي، ابن آدم لا يمكن أن يتنازل بما يملك إلا إذا كسب أحد قلبه، فإذا ملكت قلوب الناس فهذا هو الملك الحقيقي، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:56]. لذلك نقول: يا من ترغب بالملك، املك قلوب الناس تضمن الملك الذي تحت أرجلهم، ولذلك هرقل جزم وقال: (إن كان حقاً ما تقول فسيملك موضع قدمي هاتين)، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام قال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]. الآن بعض الجماعات الإسلامية منذ خمسين سنة تحاول أن تقيم -لا أقول دولة حرة- بل حياً في بلد، ومع ذلك لم يستطيعوا، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام خلال عشر سنين أقام دولة كانت تخاف منها معسكرات فارس والروم، بماذا أقامها؟ أقامها بتأليف القلوب. ومن الأمثلة على ذلك: لما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، جاء سعد وقال: اختر أجمل نسائي فأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها، وخذ شطر مالي، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق. ما الذي حدث للعرب؟!! كان العرب إذا نظر أحد إلى امرأته قام فقتلها، بينما سعد بن الربيع يقول الآن: أتنازل لك عن أجمل نسائي؟! ما الذي حدث؟! الله عز وجل غيَّر قلوب هؤلاء، وكل فساد على الأرض بسبب تحول القلوب. جاء في رواية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قرأ قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يبكي حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك فقال: كان لي بنت في السادسة من عمرها، وعندما أخذتها لأضعها في التراب كانت تزيل التراب عن لحيتي. لكن بعد الإسلام أصبح الصحابة رقيقي القلوب، فكانوا كثيري البكاء، وكان الواحد منهم إذا سمع شيئاً من الوعيد، أو آيات من القرآن يسيل دمعه مباشرة، والعين كلما كانت كثيرة البكاء دل ذلك على زكاء النفس. أبو بكر الصديق كما في صحيح البخاري: (همَّ أن يخرج من مكة مهاجراً إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال له: أين تذهب يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي -فماذا قال له زيد؟ وكان زيد رجلاً كافراً آنذاك- قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) خروجك خسارة! خروج المصلحين والأتقياء من أي بلد أكبر خسارة! مكارم الأخلاق هي الطريق الطبيعي لكسب قلوب العباد، ولذلك كانوا يبحثون عن أي وسيلة لغزو القلوب فيحاولون إيقافها. فمثلاً: حصل زلزال في مكان ما، فقامت بعض الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة وأتت ببعض المعونة وقامت بالمساعدة، هذا معناه أن الناس سوف يقولون: إن أصحاب الجماعة الإسلامية هم الذين أتوا بهذه المعونة، فقالوا: من أراد أن يساعد فلا يذكر اسمه ولا اسم جماعته؛ لأنهم يعلمون أن غزو القلوب مسألة خطيرة. لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما طعن عبد الله بن أبي في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الصحابة: (يا رسول الله! دعنا نضرب عنقه، قال: أخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لأن الذي هو في البادية لا يعلم شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا يقتل أصحابه، أين الوفاء والإخلاص؟ فيصده ذلك أن يدخل في الإسلام، فالمصلحة الراجحة تقتضي أن أعامله بالمعروف. غزو القلوب هو الملك الحقيقي، لذلك أنصحكم أن تعملوا على كسب القلوب، فإنك إذا استطعت إن تكسب قلب إنسان فتكون كأنك ملكته، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كان يدعو إلى التصدق، استغل عمر هذه الفرصة وقال: (اليوم أسبق أبا بكر) فتصدق بنصف ماله، وأبو بكر عندما تصدق أخذ كل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت مثله، وقال لـ أبي بكر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك بعد اليوم). صهيب الرومي خرج من مكة إلى المدينة بالليل، وعلم كفار قريش بخروجه فلحقوا به وأمسكوه قبل أن يصل، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال، والله لا يكون أبداً، فقال لهم: إن تركت لكم المال تخلون بيني وبين الهجرة؟ قالوا: نعم، فأخبرهم بمكانه، فلما وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقص عليه ذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى)، فهؤلاء ما ضحوا إلا بعد ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم. فلذلك هرقل استدل بهذه الصفات الحميدة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيملك موضع قدميه، وفعلاً ملك الرسول عليه الصلاة والسلام موضع قدمي هرقل.

الأمر بإنزال الناس منازلهم واللطف بهم في الدعوة

الأمر بإنزال الناس منازلهم واللطف بهم في الدعوة قوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب الذي أرسله إلى هرقل: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) لما ذكر نفسه نسبها إلى العبودية، ولما ذكر هرقل نسبه إلى العظمة؛ لأن هرقل رجل كافر، وهو يدعوه ويتألف قلبه، فلهذا لابد أن ينزله منزلته: (أنزلوا الناس منازلهم). يا أيها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى! إننا خسرنا كثيراً بإهمالنا لهذا الأصل، فقد يذهب أحدنا إلى قرية أو قبيلة للدعوة، فيعترض عليه رجل من كبار القبيلة، وهو أجهل من أبي جهل، فالواجب عليك ألا تحمل عليه بالكلام، لأن خسارتك لهذا الرجل خسارة كبيرة؛ لأنه قد يمنعك من دخول القبيلة أو القرية، فتحرم من دعوة أهل هذه القرية، أنا لا أقول لك: أقره على باطله، وليس هذا هو لازم القول، لكن أقول لك: استخدم القول اللين في توصيل الحق ولا تسكت عن باطل. يعني مثلاً: جاء رجل إلى محمد بن سيرين، وقال له: رأيت أن أسناني سقطت، فذهبت إلى فلان فقال لي: إن أولادك سيموتون، فأحزنني ذلك، قال له: بل سيبارك الله لك في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، فالتعبير نفس التعبير لكن اختلفت الصيغة؛ لأنه إذا كان آخر أهله موتاً، فهذا يعني أن أولاده سيموتون قبله. وبعض الناس يرتاح عندما تخبره بأشياء تسره حتى وإن لم تكن صحيحة لكنه يرتاح لمثل هذا الكلام. رجل عظيم في بلد من البلدان، وهو رجل فاسق، وأنا أريد أن أدخل هذا البلد، ما المانع أن أقول له: سمعتك سبقتك، والحقيقة أنت مشهور جداً، وكنت أتمنى أن أراك، وأنت أقررت باطلاً في المسألة هذه؟ وأدخلت في الدين ما ليس منه؟ وأخرجت من الدين ما هو منه؟ فسيتصور الرجل أن هذا كله مدح. وكان أحدهم في أيام التعذيب قد عذبه الجلاد أشد التعذيب -نسأل الله العافية- وبعد أن أكمل تعذيبه قال له: ادع لي، فقال له: الله يعينك ويحميك. (يعينك) يعني: يطردك، و (يحميك) يعني: يحميك بالنار، فالجلاد اعتقد أن معنى (يحميك) من الحماية، يعني: يحرسك. وسمعت شخصاً يقول لرجل: أنت من الأكابر، فأنكر عليه أحدهم، وقال له: الأكابر هم المجرمون، فقال له: ليس الأكابر الذين نعرفهم؟ فالإنسان يتلطف في هؤلاء الناس. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل بالرسالة، ما قال: إلى الكافر بن الكافر هرقل؛ لأن هذا نوع استعداء، لكن قال: (إلى هرقل عظيم الروم) وهو فعلاً عظيم الروم، وقد نسب نفسه عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عنده من الإيمان للعبودية؛ لأنها أشرف صفة يوصف بها العبد، كما قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] قالوا: لو كانت هناك صفة أشرف من صفة العبودية لنسبه إليها؛ لأن هذه من أشرف الليالي، فوضع نفسه تواضعاً لله تبارك وتعالى، كما ثبت في مسند مالك وأحمد وغيرهما: (أن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا صوت باب يفتح من السماء، فقال جبريل: يا رسول الله! أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا، قال: هذا باب ما فتح قبل اليوم، ولا يفتح بعد اليوم) نزل منه ملك، هذا الملك نزل لتخيير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربك يخيرك، ملكاً رسولاً أجعلك، أم عبداً رسولاً؟ قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه: أن تواضع لربك، فقال: بل عبداً رسولاً) هذا هو الشرف؛ فالإنسان الذي ينسب نفسه للعبودية يعلو: (كفى شرفاً أن أكون لك عبداً، وكفى لي عزاً أن تكون لي رباً).

معنى قول أبي سفيان: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة)

معنى قول أبي سفيان: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) الفائدة الأخيرة وهي: بعدما ارتفعت الأصوات في الجلسة، وكثر الصخب، قال أبو سفيان: (فخرجت وقلت: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة) أمِر: يعني زاد، من قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] أمرنا هنا ليس من الأمر؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، وهذه لها تأويلات؛ منها: أمرنا بمعنى: كثرنا، (أمرنا مترفيها) أي: كثرناهم، وزدنا في عذابهم، وهذا كقوله تبارك وتعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام، لما قتل الخضر الغلام قام موسى فقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، ولما خرق السفينة قال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] (إمراً) أي: كثير الفساد، فما قال (إمراً) في الغلام، وإنما قال في السفينة؛ لأن كلمة (إمراً) يعني: كثير الفساد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد وغيره: (خير المال سكة مأبورة -النخل عندما تؤبره- ومهرة مأمورة) مأمورة يعني: كثيرة النتاج؛ تولد كثيراً. فكلمة: (أمِر) أي: لقد كثر وانتشر وشاع. قال: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أبو كبشة هو الجد الأعلى لأم الرسول عليه الصلاة والسلام، لماذا لم يقل: لقد أمِر أمر ابن عبد المطلب؟! فلماذا نسبه إلى جد غامض غير معروف؟! تحقيراً له؛ لأن العرب كانت إذا حقرت إنساناً نسبته إلى جدٍ غامض غير معروف في الناس. وفي حديث رواه ابن حبان والبزار بسندٍ حسن: (أن عبد الله بن أبي ابن سلول مر على النبي عليه الصلاة والسلام فرآه في أجمة، فقال: لقد غبَّر علينا ابن أبي كبشة) غبَّر علينا، أي: أخذ مننا السلطان فبلغت هذه الكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (والذي بعثك بالحق، لو أمرتني لآتينك برأسه، قال له: لا، برَّ أباك، وأحسن صحبته). النسبة إلى الجد المشهور شرف، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). ما كان يقول: أنا ابن عبد الله إلا في الرسائل التي كان يرسلها، فقد كان يقول فيها، (من محمد بن عبد الله)، لكن في قريش كان ينسب نفسه إلى جده عبد المطلب؛ لأنه كان أكثرهم نباهة في قريش. نسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم علماً، وأن يغفر لنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الرؤيا والغيبة

الرؤيا والغيبة تنقسم الرؤيا إلى ثلاثة أقسام: رؤيا صالحة من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه، فكل ما يراه الإنسان في منامه لا يخرج عن واحدة مما سبق. والرؤيا سواء كانت صالحة أو مكروهة لها أحكام وآداب ينبغي مراعاتها، وعلى معبر الأحلام أن ينتقي أحسن الألفاظ عند تعبيره للرؤى والأحلام. واختلاق الرؤى والكذب على الناس في ذلك ولو بغرض الخير محرم شرعاً.

صور وأنواع الرؤيا

صور وأنواع الرؤيا إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:4 - 5]. هاتان الآيتان اشتملتا على جملة من الفوائد، وأعظم هذه الفوائد أو أظهرها هي الرؤيا، والرؤيا من المبشرات كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يبق شيء من النبوة إلا المبشرات)، فأثبت بهذا القول: بأن الرؤيا بشرى، وكما في حديث أبي قتادة في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)، وكذلك في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه)، فكل ما يراه الإنسان في منامه لا يخرج عن واحدةٍ من هذه، الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا تحزين -أي: تهويل- من الشيطان، ورؤيا يحدث المرء بها نفسه.

الفرق بين رؤيا الصالح والكافر

الفرق بين رؤيا الصالح والكافر في صحيح البخاري: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وفي هذا الحديث: الرؤيا الحسنة، وفي بعض الروايات الأخرى: (الرؤيا الصالحة)، وفي رواية: (الرؤيا الصادقة)، وكلها بمعنى الرؤيا الحسنة. (من الرجل الصالح) قيد الصلاح هنا مهم؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث: (الرؤيا جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، فهل رؤيا الكافر إذا صحت تكون جزءاً من النبوة؟ A لا. لماذا؟ لدلالة هذا الحديث، لذلك كان هذا القيد مهماً. بعض الكافرين رؤياهم صحيحة، كالملك: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف:43] وهو كافر صحت رؤياه، ورؤيا هرقل، لما رأى له صاحبه ظفر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وأخذ ممالكهم، وهذا صح في صحيح البخاري، وكان ذلك صحيحاً، فيقال: الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، ويراها الرجل الصالح، فإذا رآها الكافر، لا تكون جزءاً من النبوة؛ لأن النبوة تشريف، فكيف يشرف الذي كفر بها أصلاً؟! وهذا القيد ومثله في الأحاديث ينبغي اعتباره؛ لأننا إذا أهملنا مثل هذا القيد، دخل تحته مثل هذه الجزئيات التي لا تقررها الشريعة، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له)، فذكر الصلاح هنا دل على أن الولد الفاسد لا يستجاب له، ولا ينتفع الوالد بالولد الفاسد لا في الدنيا ولا في الآخرة، فمجيء هذا الولد وبال عليه في الدنيا والآخرة، فإذا دعا الولد الفاسد لأبيه لا يستجاب له. فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الولد الصالح، وقيد الولد بالصلاح، ووصفه بالصلاح، دل هذا على أن الفاسد ليس كذلك.

بشارة الرؤيا الصالحة

بشارة الرؤيا الصالحة فقوله عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الحسنة -أو: الصالحة، أو: الصادقة- من الرجل الصالح، جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وإنما كانت الرؤيا الصادقة جزءاً من النبوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما بشر بالوحي بشر بالرؤيا الصادقة، كما قالت عائشة رضي الله عنه: (كان أول ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني من مبشرات النبوة- الرؤيا الصالحة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح) لذلك صارت جزءاً من النبوة. قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)؛ فأثبت أن الرؤيا بشرى؛ لكن بعض الرؤيا لا تكون بشرى: إنما تكون نذارة لصاحبها، فهل تدخل هذه في البشرى؟ نعم. مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (كنت شاباً عزباً، أبيت في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الناس يرون رؤى، فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤولها لهم، فقلت في نفسي ذات ليلة: لو كان فيَّ خيرٌ لرأيت رؤيا، قال: فنمت في هذه الليلة، فرأيت -لكن يا لهول ما رأى- ملكين يجراني إلى النار، وأنا أقول: أعوذ بالله من النار، فأخذاني فأوقفاني على شفيرها -أي: على حافتي النار- فإذا فيها أناسٌ معلقون من أرجلهم عرفتهم، وإذا ملكٌ أخذني منهم، وقال لي: لم ترع، أي لا تخاف، فاستيقظتُ وأنا أقول: أعوذ بالله من النار)، وكأنما هاب أن يقصها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وفي الرواية الأخرى قال: (عبد الله رجلٌ صالح لو كان يقوم الليل)، قال راوي هذا الحديث، سالم ابنه: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا. فهذه الرؤيا وإن كان ظاهرها مفزعاً كما أفزعت ابن عمر رضي الله عنهما، إلا أنها كانت من أوائل المبشرات؛ إذ دله النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينجيه من النار. وقد يكون الإنذار من جملة البشرى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] يبشرون الذين آمنوا، وينذرون الذين كفروا، فإن الكافر إذا أنذر فأسلم كانت النذارة بمنزلة البشرى للمؤمن، إذاً فالنذارة تختلف: فقد تكون نذارةً محضة أو بشارة على حسب الأثر المترتب، فرؤيا ابن عمر وإن كان ظاهرها مؤلماً إلا أن عاقبتها كانت حسنة، استفاد منها ابن عمر، فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً.

قص الرؤيا على العالم الناصح

قص الرؤيا على العالم الناصح لكن ينبغي أن لا يقص الرجل رؤياه إلا على عالمٍ أو ناصح؛ فإنه إذا فعل غير ذلك خسر. ويستفاد هذا من قوله تبارك وتعالى، قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فدل هذا على أنه لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على ناصحٍ محق، أو على عالمٍ بها، وقد ورد هذا صريحاً في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فليحمد لله وليستبشر بها)، هذا القدر أيضاً في صحيح البخاري، لكن زاد مسلم: (ولا يقصها إلا على من يحب). فإن الرؤيا إذا كانت بشرى فصادفت سامعاً ماكراً قلبها عليه، فلا تكون في حقك رؤيا إنما تكون تحزيناً حينئذٍ: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، فقد علم يعقوب عليه السلام حسد إخوته له، فإذا قال لهم: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، حسدوه، وقلبوا له التأويل، لذلك لا ينبغي أن تقص الرؤيا إلا على عالم، فإن الرؤيا لها ضوابط في التفسير، وليس كما يقول الناس: الرؤيا بالعكس، هذا غير صحيح، فقد يرى الإنسان في الرؤيا شيئاً سيئاً ويقع كما رأى، وسأذكر نماذج لذلك الآن، لكن إذا قصها على عالم -وعنده ضوابط التأويل- استفاد الرائي.

استخدام الألفاظ الحسنة لتعبير الرؤيا

استخدام الألفاظ الحسنة لتعبير الرؤيا جاء رجلٌ إلى بعض المعبرين في زمان ابن سيرين رحمه الله، وقال: إني رأيت أن أسناني سقطت، فقال له: يموت أولادك، فحزن الرجل، ولم يقتنع بهذا التأويل فذهب إلى ابن سيرين، وابن سيرين كما يقول الإمام الذهبي: كان له تأييد إلهي في تأويل الرؤيا، وصار علماً على المعبرين، فقال يـ ابن سيرين: رأيت أن أسناني سقطت فقال لي فلان: سيموت أولادك، فقال له: أبداً، بل سيبارك الله في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، مضمون التفسيرين واحد، إذا طال عمره حتى يكون آخرهم موتاً قطعاً سيموت أولاده قبله، لكن انظر إلى حسن الإلقاء، حسن التعبير عن الرؤيا، حتى وإن كانت مؤلمة، وهذه لا يفعلها إلا عالم أو ناصح.

الرؤيا قد تتحقق في الواقع

الرؤيا قد تتحقق في الواقع قد تقع الرؤيا كما رئيت وتتحقق في الواقع، كرؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل غزوة أحد، قال: (رأيتُ أنني في درعٍ حصينة، هززت سيفي فانقطع رأسه، ورأيت بقراً تنحر والله خير)، فاقترح عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يهاجمهم، قال: نبقى في المدينة، فإن هاجمونا صددناهم، فقالوا: والله يا رسول الله ما دخلوها علينا في جاهلية، أفيدخلونها علينا في الإسلام؟! قال: فشأنكم إذاً؛ فلما خرجوا من عنده لام بعضهم بعضاً وقالوا: رددنا على النبي صلى الله عليه وسلم رأيه، فرجعوا إليه، قالوا: يا رسول الله ما ترى؟ وكان قد لبس اللأمة، واللأمة هي درع الحديد يلبسها المقاتل في القتال يتقي بها ضربات السيف، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه أن يضعها حتى يقاتل). فأول النبي صلى الله عليه وسلم سيفه الذي انقطع بمقتل رجلٍ من أهله، فكان حمزة، وأول البقرة التي تنحر: بنفرٍ من أصحابه يقتلون، فقتل سبعون. لذلك قال: والله خير. فرأى هذه الرؤيا فوقعت كما رأى فليس قلب الرؤيا بالعكس ضابطاً من ضوابط التأويل، لا. لكنها تحتاج إلى عالمٍ ناصح.

آداب الرؤيا الصالحة والمكروهة

آداب الرؤيا الصالحة والمكروهة الرؤيا الصادقة لها آداب، والرؤيا المكروهة لها آداب إذا رأيت الرؤيا تحبها فاحمد الله وبشر بها من تحب، وإذا رأيت الرؤيا تكرهها، فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها منه، ثم ابصق عن يسارك ثلاثاً إذا انتبهت من نومك، ولا تحدث بها أحداً أصلاً؛ فإنها لا تضرك، ثم قم فصل وتحول عن جنبك الذي كنت نائماً عليه، وقد ورد هذا في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم: (وإذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليبصق حين يفزع من نومه عن يساره ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً؛ فإنها لا تضره) وفي صحيح البخاري قال: (ثم يصلي ويتحول عن جنبه الذي كان عليه). ما هو الضابط بين الحلم وبين الرؤيا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (الرؤيا الصالحة من الله) وقال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها)، ولا شك أن ما يراه الإنسان من تلاعب الشيطان به من جملة ما يكره، فإن كان الأمر كذلك، فكيف قص ابن عمر رؤياه التي يكرهها على الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يكتمها، ولم يبصق عن يساره ثلاثاً؟ الضابط ما بين الرؤيا التي تدخل في جملة الرؤيا الصالحة وتكون في النذارة، وما بين الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: أن الرؤيا التي لا ينبغي أن يقصها المرء أصلاً: هي التي لا منفعة منها، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت رأسي قطعت وأنا أتبعها، رأسه قطعت وتطير أمامه، وهو وراءها يريد أن يأخذها- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به). ترى مثلاً أنك تهبط من جبل عالٍ أو أنت تطير وهناك شيطان يطير وراءك، أو نسر يطير خلفك، وبعد أن ينتبه الإنسان من نومه ويجد نفسه على السرير يحمد الله، فهذه الرؤيا من الشيطان، ولذا قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تقصها إذا أصبحت؛ لأنها من تلاعب الشيطان. إذا رأى الرجل شيئاً من النار، عذاب النار، أو مشتقات النار، وألقي في روعه أن هذا من حيات النار مثلاً أو من ثعابين النار فعليه أن يطلب التأويل، أما إذا رأى رأسه تطير وهو يطير وراءها، فأي شيء في ذلك؟! وضابطٌ آخر ذكره العلماء وهو إذا كان المرء يعلم أنه من الصالحين، بأن يقوم بما افترض الله عليه ظاهراً، ويجتهد في تصحيح نيته؛ فإذا رأى ما يكره فليقصها على عالمٍ أو ناصح، فإن هذه أيضاً تدخل من جملة النذارة؛ أما إذا علم المرء من نفسه تقصيراً فيما فرض الله عليه، وعدم تصحيح لنيته فهذا من تلاعب الشيطان به.

تأويل الرؤيا بما فيها من ألفاظ

تأويل الرؤيا بما فيها من ألفاظ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن رؤيا يأخذ تأويل الرؤيا من الأسماء أو من بعض الألفاظ الموجودة في الرؤى، كما قال له رجل: رأيت أنني أكل من رطب ابن طاب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرى أن ديننا طاب)، فحمل الرؤيا على المحمل الحسن من الاسم، وهذا أحد ضوابط التأويل. كما قابل النبي صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب في أول الإسلام، فقال له: ما اسمك؟ فقال: بريدة، فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح، فأخذه من اسمه، جاء قومٌ وكانوا قد أسلموا فقال: ممن القوم؟ قالوا: من غفار، قال: غفر الله لها، وأنتم؟ قالوا: من أسلم، قال: سلمها الله، فأخذها من الاسم أيضاً؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير الاسم القبيح لأجل هذا. (جاءته امرأةٌ قال لها: ما اسمك؟ قالت: عاصية، قال: بل أنت جميلة)، وسماها جميلة كما في صحيح مسلم، وجاءه رجلٌ قال له: ما اسمك؟ قال: غاوي بن ظالم، قال: بل راشد بن مقسط فغيره. وجاء رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما اسمك؟ قال: طارق بن شهاب، قال: ممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: قال: فالحق بيتك فإنه يحترق. فرجع الرجل إلى بيته فوجده احترق. فيأخذ مفسر الأحلام من الاسم أو من بعض مفردات الرؤى تأويل الرؤيا، فيذكر الذي يستحسنه السامع، ويكتم بعض الذي يكرهه، إن وقع في روعه ذلك لمصلحة الرائي. كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت شجرةً ينطف منها السمن والعسل، والناس يأخذون منها، فمن مقلٍ ومن مستكثر، ثم رأيت سبباً ممدوداً بين السماء والأرض -السبب هو الحبل يقول هذا الكلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فتعلقت به فعلوت، فتعلق به رجل بعدك فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فعلا، فتعلق به رجلٌ بعده فانقطع، ثم وصل له بسبب فعلا، فقال: أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله لأعبرنها، أي: دعني أؤولها، قال: نعم. قال: أما الشجرة: فهي الإسلام، وأما الشيء الذي ينطف منها: أي يقطر، فهو القرآن، والناس من مستقلٍ منه ومن مستكثر، وكلما استكثر أخذ حلاوة وشعر بها، وأما السبب فهو الحق الذي أنت عليه، يعليك الله به، ثم يأخذ به رجلٌ بعدك، فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فيعليه الله به، ثم يأخذ به رجل بعده فينقطع، ثم يعليه الله به، بأبي أنت يا رسول الله أصبت أم أخطأت؟ قال له: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فحلف عليه وقال: بالله عليك ما الذي أخطأت فيه، قال: لا تقسم، وفي رواية الدارمي، قال: فأبى أن يخبره. لذلك نحن لا ندري على وجه التحديد ما الذي أخطأ فيه أبو بكر في التأويل؛ لكن تأويلها جزءٌ منها ظاهر، وهو السبب الحبل المدود من السماء إلى الأرض، أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ثم أخذ به أبو بكر فعلاً، ثم أخذ به عمر فعلاً. ثم أخذ به عثمان فانقطع به، وتلك الفتنة التي جرت في أواخر عهد عثمان، وقتل بسببها، واقتتل المسلمون بسببها، ثم وصل له فعلا. ويمكن أن تعلم هذا أيضاً في حديث آخر في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستاناً وأمرني بحفظ الباب، وقال: لا يدخلن أحد؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وفي البستان بئرٌ، فكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فجاء أبو بكر، قلت: على رسلك، أي تمهل، ودخل، فقال: يا رسول الله أبو بكر في الباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، فأذن له بعدما بشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقال أبو موسى الأشعري يحدث نفسه: إن يرد الله بفلان خيراً وهو أخوه، فليأت به الساعة لماذا؟ لأنه يقول له: ائذن له وبشره بالجنة، إذاً استفاد من البشرى، قال: فجاء عمر، قلت: على رسلك، فدخل فقال عمر بالباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة، ودخل عمر، فجلس بجانب أبي بكر فكشف فخذيه، ودلى رجليه في البئر، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، ويقصد أخاه، قال: فجاء عثمان فقلت: على رسلك، فقلت: عثمان بالباب؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهذا هو السبب الذي انقطع، فانقطاع الحبل كان من هنا، ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال: عثمان الله المستعان! ودخل فلم يجد مكاناً، فجلس قبالتهم في الجانب الآخر من البئر.

ضابط في الغيبة

ضابط في الغيبة إذا كان الكلام على جهة التعريف بالأشخاص فلا مانع، أما إذا كان على جهة التنقيص فلا يجوز، ومن هنا نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل القوم الجعد القصار)، وبين قول عائشة رضي الله عنها: (حسبك منها أنها قصيرة)، السيدة عائشة رضي الله عنها خرجت الكلمة منها على جهة التنقيص، لذلك كانت حراماً وكانت غيبة، إذا لا مصلحة من ذكر أنها قصيرة، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل القوم الجعد القصار)، فإنه جرى مجرى التعريف لهم، كما لو قلت أنت: فلان الأعرج الذي يسكن بجانبنا، هل تعرفه؟ أو الأعمى أو الأحول، كل هذه العيوب، أنت أجريتها مجرى التعريف؛ لكن إذا خرجت من التعريف إلى التنقيص أو التحقير كان غيبة؛ كأن يأخذ المتكلم من نفس اسم الإنسان سباً، أو يجزئ الاسم إلى مقطعين فيصبح سباً أو لعناً أو نحو ذلك؛ فهذا كله محرم لا يجوز؛ إذ لا مصلحة في ذلك إلا الهجاء وهو محرم. مثل نفطويه - نفطويه أحد علماء النحو الكبار- ولقب بـ نفطويه، على مقياس سيبويه؛ لأنه جرى على طريقة سيبويه في النحو. كان بين نفطويه وبين ابن دريد، صاحب كتاب جمهرة اللغة، ما يكون بين الأقران من التنازع والتنافر، فقال نفطويه: ابن دريد بقرة فيه لؤم وشره قد ادعى بجهله وضع كتاب الجمهرة وهو كتاب العين إلا أنه قد غيره يقول: إن كتاب الجمهرة أصلاً ليس من تأليف ابن دريد، بل أخذ كتاب العين، وسطا عليه، وقدم فيه وأخر، ونسبه لنفسه، فـ ابن دريد هجاه وقال له: من سره أن لا يرى فاسقاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي نواحاً عليه نفطويه: نفط، أي: بترول، أحرقه الله بالنصف الأول من اسمه، يعني بالجاز، وجعل الباقي صراخاً عليه: ويه ويه، ويه. فهذا قطع اسمه نصفين على سبيل الهجاء وعلى سبيل الذم، وهذا لا يجوز. وقد اختلف العلماء في ضبط اسم نفطويه وكل من جرى هذا المجرى، هل هو نِفْطَوَيْه، أو نِفْطُويَه، فأهل اللغة يقولون: (نفطُويَة، سِيُبَوُيَة، زَنْجُوُيَة، مَنْجُوُيَة)، هذه كلها ألقاب لعلماء، وأهل الحديث يقولون: (سِيْبَوَيْه، نِفْطَوَيْه، زِنْجَوَيْه، مِنْجَوَيْه وهكذا)، وطبعاً واضح أن أهل الحديث أخف وألطف؛ لأن نطقهم نفسه لطيف، فهم يذكرون الضبطين في نفطويه، فـ ابن دريد على ضبط أهل الحديث: من سره أن لا يرى فاسقاً فليجتهد أن لا يرى نفطوَيْه إلى آخر ما قال. ابن بسام جرى على مجرى علماء اللغة، فقال: -وهذه الرؤيا ادعاها ابن بسام وسنذكر حكمها عند الكلام على الرؤى وأحكامها-: رأيت في النوم أبي آدماً صلى عليه الله ذو الفضل فقال أخبر ولدي كلهم من كان في حزنٍ وفي سهل بأن حوا أمهم طالقٌ إن كان نفطوية من نسلي فهو حين: رأيت في النوم أبي ويقص هذا الكلام، فهذا الفعل محرم؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (من أرى عينيه ما لم تريا، فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد شعيرة وليس بفاعل)، وهذا سنذكره عند الكلام على الرؤى وأحكامها، أن الإنسان لا يجوز له أنه يدعي أنه رأى حلماً، لكي يخيف شخصاً مثلاً، رجل عرف عنه بأنه يأكل أموال اليتامى ظلماً، فيقول شخص من أهل الخير -وهو كاذب في ذلك- لأبناء هذا المعتدي: رأيت أباكم في المنام موثقاً بالقيود، وإذا بشخص يضربه قائلاً له: أموال اليتامى يا مفتري أكلت مال النبي، وغايته من اختلاق هذه الرؤيا تخويف هذا الرجل الذي يأكل أموال اليتامى، فلا يجوز أن يفتري هذا الحلم بسبب الخير هذا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام منعنا أن نفتري في الأحلام؛ لأن الأحلام مبشرات، والأحلام لا يؤخذ منها أحكام شرعية؛ لأن الأحلام مبشرات، وهي جزء من النبوة، فلو ترك الناس هكذا، للعبوا بالنبوة، كما قال مالك: أيلعب بالنبوة؟!

الأمور التي لا تحرم فيها الغيبة

الأمور التي لا تحرم فيها الغيبة القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر

حكم من استفتى فذكر غيره بما يكره

حكم من استفتى فذكر غيره بما يكره (ومستفتٍ) إذا أراد رجل أن يستفتي حتى لو كشف بعض ما يتأذى منه خصمه أو جاره أو زوجه، فإنه لا جناح عليه، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح -الشح: أشد البخل- فهل عليَّ أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ (ووقع في بعض الطرق: بغير علمه) فقال لها عليه الصلاة والسلام: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فأذن لها أن تأخذ من مال زوجها الشحيح بغير إذنه، الشاهد من الحديث قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح)، ولو علم أبو سفيان: أنه وصف بالبخل في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام لتأذى من ذلك، لاسيما أن البخل يتأذى منه كل النبلاء، وأقول: النبلاء؛ لأن بعض الناس لؤماء، يرى أحدهم أن البخل حنكة وتدبير للمعاش، مع أن البخل من أدوأ الأدواء؛ كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، لما قال: (يا بني سلمة من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس، لكننا نبخله -وفي رواية- لكنه بخيل، قال: وهل هناك داء أدوأ من البخل؟!) يعني أقبح ما يوصف به شريف القوم البخل، إنما سيدكم هو عمرو بن الجموح، وكان فقيراً ضعيفاً متضعفاً. ولا شك أن أبا سفيان لو علم أنه نسب إليه الشح لانزعج، لكن المرأة ما قصدت أن تذهب وتفضح أبا سفيان، إنما ذهبت تستفتي -وهنا تنبيه: بعض النساء يجلسن مع بعض، وتقول: أنا لا أجد ما آكل، زوجي لا يطعمني، أو الولد يقول على أبيه كذا، أو الأب يقول كذا على ابنه، من باب الشكوى والتنفيس، ولكن أنت تقولين هذا الكلام لمن لا يستطيع رفع الظلم عنك، فإذا كانت شكواك لمجرد التنفيس، فهذه من الغيبة المحرمة، إلا إذا قلت هذا الكلام لمن تطلب منه المشورة التي هي قائمة مقام الفتوى أو مساوية للفتوى، فلان بخيل ولا يؤكلني، ماذا أفعل؟ إذا كانت المسألة هكذا، خرجت مخرج الفتوى، أما إذا كانت شكوى محضة، لا ينبني عليها فائدة، فهذا كله داخلٌ في باب الغيبة المحرمة.

حكم الغيبة لإزالة المنكر

حكم الغيبة لإزالة المنكر ومن طلب الإعانة في إزالة منكر؛ لأنه لا يمكنك إزالة المنكر إلا إذا وصفت المنكر للذي ترجو منه العون، ولا يصح أن تقول له: انهض معي لنزيل المنكر دون أن تخبره ما هو المنكر ومن الذي قام به، فإذا لم تخبره فإنه لن ينهض معك لتغيير هذا المنكر ولن يحرك ساكناً. كما روى الإمام أبو داود وابن الجارود في المنتقى: أن شخصاً ذهب إلى مسجد من المساجد، فسمع جماعة يقرءون قرآناً عجباً، ليس مثل القرآن الذي سمعه الجن {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2] فقد كان قرآناً عجباً بالنسبة لهم، وهو قرآن يهدي إلى الرشد، إنما سمع قرآناً عجباً يهدي إلى الفقر، سمعهم يقولون: واللاقمات لقماً والخابزات خبزاًً والعاجنات عجناً! فأول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى ابن مسعود، وقال له: سمعت الآن أقواماً يقرءون كذا وكذا، وكان أميراً على الكوفة، فأرسل صاحب الشرطة فجاء بهم؛ فكان أحدهم رسول مسيلمة الكذاب الذي أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ مسيلمة بعث رسولاً لكي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم آمن بي! فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك)، وأبى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقتله؛ لأنه رسول، فلما وجده ابن مسعود قال: والله لأقتلنك، وأمر به فقتله، لماذا؟ لأنه انتفت عنه الصفة التي من أجلها عُصِم دمه، امتنع الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لولا أنك رسول لقتلتك)، لكنه الآن ليس رسولاً. إذاً هذه الأوصاف الستة التي لا يكون فاعلها مغتاباً ولا يأخذ حكم المغتاب: القدح ليس بغيبةٍ في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهرٍ فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم على الخير. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.

حكم تعريف شخص ما بعيب فيه

حكم تعريف شخص ما بعيب فيه تعريف شخص ما بعيب فيه كالعمى والعرج وغيرها، لا يجوز إذا خرج مخرج التنقيص، وأما إذا خرج مخرج التعريف فهذا لا إشكال فيه، وهذا هو القسم الثاني: الذي لا تكون فيه الغيبة محرمة. القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلم ومعرفٍ ومحذر

التحذير لا يدخل في الغيبة المحرمة

التحذير لا يدخل في الغيبة المحرمة المحذر هو من يقول مثلاً: لا تكن كفلان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ كما في الحديث الصحيح: (لا تكن كفلان كان يقوم الليل فتركه). فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما ذكر فلاناً تنقيصاً له وذماً، أنه كان يقوم الليل فتركه؟ فحذره أن يكون مثله، وكما لو ذهب بعض الناس إلى القاضي أو إلى الحاكم، فقال: إن فلاناً يفعل كذا، وأخشى أن يفعل كذا وكذا، واحذر من فلان فإنه يفعل كذا وكذا، وذكرهم بالسوء، فهذا كله جائز.

حكم غيبة أهل البدع

حكم غيبة أهل البدع و (مجاهر فسقاً) فلو جاهر الرجل بالفسق؛ فإنه ليس لأهل المعاصي حرمة، وليس لأهل البدع من باب أولى حرمة، ولذلك لما سئل الحسن، أنه يوجد رجل فيه بدعة فهل أفضحه؟ قال: نعم، وقال: ليس لهم حرمة. وهذا ظاهر من الحديث الأول في صحيح مسلم، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي رواه يحيى بن يعمر، لما قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافق أن لقينا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً منه، فقلنا: أبا عبد الرحمن إنه ظهر أناس يتقفرون العلم، ويقرءون القرآن، وذكر من شأنهم -أي من عباداتهم ومن جدهم ومن اجتهادهم ونحو ذلك- وأنهم يقولون: إن الأمر أنف -بمعنى: أن الله لا يعلم بالأمر حتى يحدث- فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم، فأخبرهم أنني منهم براء، وهم بريئون مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم ساق الحديث. فـ عبد الله بن عمر تبرأ منهم، مع أن ولاية المؤمن للمؤمن من أعظم القربات، إلا أنه تبرأ منهم، ووقع فيهم وهم غائبون، فلا شك أن هؤلاء لو علموا أن ابن عمر تبرأ منهم لأحزنهم ذلك، ومع ذلك لم يأبه عبد الله بن عمر بذلك، ولولا ذلك ما عرف المسلمون أهل البدع من أهل السنة، ونحن نجد أن العلماء صنفوا في أهل البدع كتباً، وذكروهم بأسمائهم، وذكروا قبح مقالاتهم ليحذرهم المسلمون. ولذلك الإمام أحمد لما سئل عن تبيين بدعة المبتدع، قال: نعم هي أولى من جهاد الكفار، وهذا كلام كله فقه؛ لو قيل -وهذه هي الليلة الختامية لـ إبراهيم الدسوقي - لو قلنا لكم جميعاً وقلنا للمسلمين جميعاً في سرادق عظيم: كيف يسمح بهذا المحفل الشركي في ديار المسلمين؟! كيف يطوف بهذا القبر ألوف مؤلفة، يقصدونه كما نقصد نحن البيت العتيق؟! وجعلنا نستنفر الناس والهمم تجد أن الذي سيقف بجانبك قليل، وإذا دعوت الناس أن يقفوا معك ضد اليهود الكفار، الذين عداوتهم ظاهرة، فنحن لا نحتاج إلى جهد أننا نثير الجماهير حتى الغافلة في مقاومة الكافرين. لذلك كان القدح في المبتدع أولى من القدح في الكافر؛ لأن الكافر عداوته ظاهرة لكل أحد، والكل يستنفر ضده. لما عرضت مسرحية رسمت فيها الكعبة، وأتوا بامرأة عارية، ترقص على الكعبة من فوق، وبعد ذلك يخرج بئر بترول من تحت الكعبة؛ من أجل أن الذين عندهم البترول والكعبة في أرضهم هذا هو سلوكهم، ونتساءل: كيف هانت الكعبة حتى ولو بالكرتون على مثل هذا المخرج؟ وكيف أجيزت من الرقابة؟ وكيف طلعت هذه العارية على مسرح الجماهير؟ هذا العمل مثل ما كتب الشاعر في صحيفة الأهرام منذ أربع سنين، حين قال: (الله في مدينتي ينام على الرصيف)، تقول له: لماذا؟ يقول لك: يا أخي! الله المقصود به: الفضيلة، الخير، هذا التعليل العليل الذي تكلم به. نحن نعرف أن هذا اللفظ الجليل (الله) لم يسم به أحد إلا الله؛ عندما يقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) هذا كلام كفري صريح لا يحتاج إلى تأويل معنى آخر. فهناك أشياء معينة الجماهير كلها يمكن أن تتبناها، على رأس ذلك إذا كان معسكر العدو من الكافرين الذين يتربصون بالمسلمين وعداوتهم ظاهرة، بخلاف المبتدعة: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويأكلون من ذبائحنا ويستقبلون قبلتنا، لذلك كان هتك هؤلاء المبتدعة واجباً، وهذا داخل في جملة التحذير، أنا أقول: لا تقرءوا لفلان ولا تأخذوا الفتوى من فلان، فإنه جاهل أو أنه يلعب بدينه، أو أنه كذا وكذا، وأذكر فيه صفات، لو علم بها لانزعج مني. وسبق أن قلنا أن أهل المعاصي ليس لهم حرمة، وأن أهل البدع داخلون في ذلك من باب أولى.

الانتماء لله ورسوله

الانتماء لله ورسوله الانتماء لله ورسوله من أسباب انتصار السلف على أعدائهم وظهورهم عليهم؛ لأن الانتماء لله ورسوله يُشعر المرء بالعزة بدين الله وأنه منتمٍ إلى الله عز وجل، فيبذل كل ما يستطيع لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته، وقد كان في حياة السلف الكثير من الصور التي تدل على صدق انتمائهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ترك الانتماء لله ورسوله من أسباب الوقوع في المهالك

ترك الانتماء لله ورسوله من أسباب الوقوع في المهالك إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الانتماء لله ورسوله هو من أسباب انتصار السلف على أعدائهم وظهورهم عليهم، لذلك ينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم صدق الانتماء لله ورسوله، ونحن في زمان صار فيه ترك الانتماء قاعدة من قواعد البحث العلمي، وكتبت فيه رسائل دكتوراه وماجستير، وأطلقوا عليه اسم: الانحياز العلمي؛ حتى أصبحوا يحذرون منه ويقولون: لا تنحاز لفلان ولا علان. هذا الحياز العلمي المزعوم هو الذي جعل رجلاً مثل الدكتور طه حسين -الذي صار عميد الأدب العربي مع وجود الأدباء الأفاضل مثل الرافعي مثلاً- هو الذي جعله يذهب إلى القول بأن القرآن الكريم ينبغي أن نعرضه للنقد ككتاب أدبي من كتب الشعر والنثر، وطرد من الأزهر وفصل، وكفروه، لكنه تاب والله أعلم. الانتماء هو الذي رفع الغرب، فهم مع أنهم لا يعبدون الله لكن ينتمون إلى بلادهم محبون لها، لذلك صنعوا الأعاجيب لها. الانتماء لله ورسوله الركن الذي ميز الصحابة، ووجد في هذا العصر من يعتدي عليهم بكلام لا يليق بهم وهؤلاء لو ركب بعضهم بعضاً حتى بلغوا عنان السماء ما وصلوا إلى شسع نعل أحدهم، وقد وجدت لأحدهم كتاباً يتحدث فيه عن الصحابة والجنس، ولما قرأت بعض كلامه اقشعر جلدي والله؛ فقد تكلم عن عمر بن الخطاب كلاماً لا يقوله كافر، مع ما لـ عمر من المكانة عند جماهير المسلمين، فالذين يعتدون على الصحابة دمهم مباح. ما هي جريمة عمر التي عرضها هذا الكاتب؟ قال في كتابه: إن عمر بن الخطاب لم يكن رجلاً نبيلاً؛ لأنه لما أراد أن يتزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وكانت فتاة صغيرة، استخدم سلطته كأمير المؤمنين، وكان يقول لـ علي بن أبي طالب: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل نسب مقطوع إلا نسبي، وكل سبب مقطوع إلا سببي) وأنا أريد أن يكون لي سبب ونسب بآل البيت، فكأن هذا الكاتب يريد أن يقول: إن عمر كاذب؛ لأنه يريد المتعة، وإنما قال ذلك ذريعة للوصول إلى هدفه. يقول الكاتب: برغم معارضة الحسن وعقيل لهذا الزواج إلا أن جهود ابن الخطاب أثمرت، وهذه الأساليب المتباينة عهدناها من الحكام في كل زمان ومكان: أن أقوالهم تخالف أفعالهم؛ لأن ابن الخطاب قد وعظ الناس وأمرهم بتخفيف المهور، إلا أنه لما أراد أم كلثوم أمهرها أربعين ألفاً. وقصة الاعتراض (أصابت امرأة وأخطأ عمر) قصة منكرة كاذبة، ما كان لمثل عمر أن تخفى عليه الآية وتذكره امرأة وهو المعَلم، لا يصح سندها أبداً، لكن هذه هي مشكلتنا؛ وهي أننا نصدق كل ما يقال لنا، ويجب أن نعلم أنه ما من مبتدع ولا مبطل يحتج بحجة إلا تكون أحد شقين: إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة. يقول الكاتب: وبعد ذلك وافق علي بن أبي طالب؛ لأن عمر بيده مقاليد الأمور، ويعطي للصحابة باجتهاده، فطعن في علي بن أبي طالب أيضاً بأن زوجه ابنته لأجل المال؛ حتى لا يمنع عطاءه من بيت المال. وبعد ذلك يستمر الكاتب فيقول: وبعد ذلك جاءت أم كلثوم فلم يتحمل عمر على طول كشف عن ساقها -هذا الكلام يكتب عن عمر بن الخطاب - فقامت أم كلثوم، وقالت له: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك. هذا الجزء من القصة حدث فعلاً إلا أن لها تأويلاً وهو: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أن يصاهر علي بن أبي طالب للسبب المذكور، قال له علي بن أبي طالب: إن أعجبتك فهي امرأتك، فـ عمر لم يأتِ لخطبتها إلا وقد أعجبته، فصارت بذلك زوجة لـ عمر، لكن أم كلثوم لم تكن تعلم بذلك. كما أن هذا الكاتب يصور الصحابة الأجلاء على أنهم طائفة كان كل همهم النساء! يرمونهم بدائهم.

صور من الانتماء لله ورسوله في تاريخ السلف

صور من الانتماء لله ورسوله في تاريخ السلف

سلمة بن الأكوع وصدق الانتماء

سلمة بن الأكوع وصدق الانتماء أيها الإخوة الكرام! صدق الانتماء يطيل النَّفس في البذل والجهاد، قصرت أنفاس كثير من الناس بضعف الانتماء أو بعدم وجوده، وخذ هذا المثل الذي ما سمعته أذناك ولا رأته عيناك: صحابي جليل لا يعرفه أكثر الناس، وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قص قصة عجيبة وخبراً غريباً على شجاعته وبذله وقوة قلبه، وجرأة جنانه على الأحداث، وهذا الحديث حفظه لنا الإمام مسلم في صحيحه رحمة الله عليه، قال سلمة: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وكنا أربعة عشر مائة-ألف وأربعمائة- فجاءوا على البئر وقد عطش الناس وعطش الظهر -الحيوانات- قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم على جبل ركية -أي: على حافة البئر- فإما دعا وإما بصق، قال: فجاش الماء فسقينا واستقينا، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة، قال: ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة تحت الشجرة فكنت في أوائل من بايع، ثم دعا الناس إلى البيعة، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! قد بايعت في أوائل الناس، قال: وأيضاً، فبايعته فدعا الناس إلى البيعة ثالثاً، فقال لي: ألا تبايع يا سلمة؟ قلت: يا رسول الله! بايعتك في أوائل الناس وفي وسط الناس، قال: وأيضاً، فبايعته للمرة الثالثة، وكان قد أعطاني حجفة أو درقة -وهي تشبه الترس الذي يستخدمه الرجل في القتال- لما رآني عزلاًًً من السلاح، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين درقتك التي أعطيتك؟ قلت: يا رسول الله! لقيت عمي عامراً وهو عازل من السلاح فأعطيته إياها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليّ من نفسي) قال سلمة: وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله أخدمه وأسقي فرسه، وقد تركت مالي وأهلي مهاجراً إلى الله ورسوله. قال: وراسلنا المشركون في الصلح حتى اختلط بعضنا ببعض ومشى بعضنا في بعض -يعني: وضعت الحرب أوزارها- قال: فأتيت شجرة فكسحت الشوك التي تحتها -يعني: كنسته- واضطجعت، فجاء أربعة نفر من المشركين فوقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم -لا يستطيع أن يقتلهم؛ لأن الحرب وضعت أوزارها وهم في معاهدة- قال: وتحولت إلى شجرة أخرى، ونام المشركون الأربعة تحت الشجرة وعلقوا سيوفهم. قال: وبينما أنا مضطجع إذا بصارخ: قتل ابن جنيد -من المسلمين- قال: فحينئذٍ قمت فاخترطت سيفي وسللته، وأخذت سيوف المشركين فجعلتها ضغثاً في يدي -يعني: حزمة- ووقفت عليهم، فقلت: والذي كرم وجه محمد لو نظر إليّ منكم أحد لضربت الذي فيه عيناه، وأخذتهم أستاقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بعمي عامر أتى برجل من العبلات يقال له: مكرد، على فرس مجفف -مكسو- ومعه سبعون من المشركين -أتى بهم أسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوهم يكن عليهم بدء الفجور وثناه)، وعفا عنهم -يبدءون هم بالفجور ونقض العهد، ويثنون أيضاً فتكون لنا الحجة البالغة في قتلهم- وتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفلوا راجعين إلى المدينة، وهم راجعون إلى المدينة كان هناك جبل بين المسلمين وبين بني لحيان من المشركين؛ لأن هذا الجبل كانت عيون الرسول صلى الله عليه وسلم عليه يحرسون المسلمين، فكان الذي يرقى الجبل يستغفر له- قال سلمة: فرقيت الجبل في هذه الليلة مرتين أو ثلاث مرات، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره -والظهر هي: النوق التي تحمل الأثقال أرسله مع غلامه رباح، ومع سلمة بن الأكوع -. قال: فلما أصبحنا إذا بـ عبد الرحمن الفزاري -وكان رجلاً كافراً- يقتل راعي النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ كل الإبل، قال: فلما رأيت ذلك، أعطيت الفرس لـ رباح وقلت: أوصل هذا الفرس إلى طلحة بن عبيد الله، وقل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المشركين قتلوا غلامه وأخذوا سلاحه. ثم صعد على قمة الجبل ووجه صوته إلى المدينة وصرخ ثلاث مرات: واصباحاه قال: وانطلقت وراءهم وأنا أرميهم بالنبل -وكان سلمة أسرع من الخيل- قال: فجعلت أضرب رحالهم، فيسقط السهم بين أكتافهم فأقول لهم: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع -يقال عن اللئيم: راضع، وإنما سمي اللئيم راضعاً؛ لأن البخيل من العرب كان إذا أراد أن يشرب اللبن، يذهب إلى ثدي الناقة ويمصه حتى لا يسمع الجيران، فقيل: لئيم راضع-. قال: وانطلقت وراءهم أضربهم بالسهم، قال: فوالله ما خلق الله بعيراً من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: من النوق التي يملكها- إلا خلفته ورائي -تركوا كل شيء- قال: وتركوا ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً يستخفون -يتخففون رجاء الفرار- قال: حتى وصلوا إلى مضيق جبل واحترزوا مني ولم تصل سهامي إليهم، فصعدت قمة الجبل وجعلت أرديهم بالحجارة، حتى جاء ابن بدر الفزاري فقال: ما لكم؟ قالوا: نحن في هذا البرح من الغلس فقال: ماذا تفعلون؟ قالوا: هذا الرجل قال: ألا يقوم أربعة إليه -وسلمة على قمة تل صغير يستمع- قال: فلما أمكنوني من الكلام، قلت لهم: تعرفونني؟ قالوا: لا. من أنت؟ قال: أنا سلمة بن الأكوع، والله لا أريد منكم رجلاً إلا نلته، ولا تريدون مني شيئاً فتحصلوه مني. فقال رجل: أظن ذلك، فلا نقدر عليه، قال: وجلسوا يتغدون، قال: فما تركتهم يأكلون -ضربهم بالسهام والنبال- فتركوا الغداء وفروا، فجاء فرسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أو أربعة أولهم: الأخرم الأسدي، وثانيهم: أبو قتادة الأنصاري، وثالثهم: المقداد بن الأسود، قال: فلما جاء الأخرم أخذت بعنان فرسه، وقلت له: لا يقتطعونك، انتظر حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: فقال لي الأخرم: يا سلمة! إن كنت تعلم أن الله حق وأن النار حق وأن الجنة حق فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فتركته فتناجز هو وعبد الرحمن الفزاري الذي قتل راعي النبي عليه الصلاة والسلام، فقتل الأخرم فرس عبد الرحمن وقتل عبد الرحمن الأخرم، وأخذ الفزاري الكافر فرس الأخرم وركبه وفر، قال: فلحقه أبو قتادة الأنصاري فقتله، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقال: إنهم في بني غطفان، وبعد أن ظفر الرسول عليه الصلاة والسلام بظهره ذبح بلال له ناقة وجعل يشوي له من كبدها وسنامها -وكان كل هذا بالليل- فقال له سلمة: انتدبني مع مائة رجل نتبعهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في النار -في ضوء النار- وقال: أأنت تفعل ذلك؟ قلت: أجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رَجَّالتنا سلمة)، وقفلوا راجعين إلى المدينة. قال: وكان رجل لا يسبق شداً -يعني: سريع جداً- فجعل يقول: ألا من مسابق ويكررها، فقال له سلمة: إنك لا تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً، قال: نعم، إلا رسول الله، فقال: يا رسول الله! ائذن لي؟ قال: فاستبقنا، قال: فقفزت قفزتين ووقفت أستبقي نفسي إلخ. فيجب علينا أن نمسك ألسنتنا عن الطعن في الصحابة؛ لأنه ليس هناك جيل يضاهيهم أبداً، فقد اختارهم الله لصحبة نبيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: نظر الله عز وجل في قلوب العالمين، فاصطفى قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ونظر في قلوب العالمين فاصطفى أصحاب محمد له. هذه أمثلة قليلة يضيق عنها الحصر، وشجاعتهم أعظم، وبذلهم في الله عز وجل يضرب ببعضه المثل. الانتماء قضية مصيرية؛ لأنه يبنى على هذا الانتماء دين المرء، ونحن في هذا العصر أحوج ما نكون إلى هذا الانتماء؛ لأنه في وقت ظهور الإسلام كان الناس بين مؤمن وكافر، وكان الوضع في مكة برغم شدته أخف من المدينة؛ لأنه ظهر في المدينة منافقون، يظهرون الإسلام ويكيدون ويوقعون بين الأحباب، وهذا لم يكن موجوداً في مكة، فصار العبء جسيماً وثقيلاً. وفي عصرنا ظهر الكفر والنفاق معاً، ليس كفراً فقط، وليس نفاقاً فقط، إنما هو كفر ونفاق.

معاذ ومعوذ وصدق انتمائهما

معاذ ومعوذ وصدق انتمائهما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينما أنا في الصف يوم بدر إذ رأيت غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -ما بين الاثني عشر سنة والأربعة عشر سنة- قال: فجاءني أحدهما فغمزني، وقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: يا ابن أخي! وما تريد منه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن التقى سوادي بسواده -أي: جسمي بجسمه أو شخصي بشخصه- ما أتركه حتى يموت الأعجل منا، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا هو دليل الانتماء (أشد حباً لله) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل أخاه لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) هذا هو داعية الانتماء. قال: لئن التقى سوادي بسواده لا أتركه حتى يموت الأعجل منا، قال: وجاءني الغلام الآخر فغمزني وقال لي مثلما قال الأول، وكل منهما حريص على أن يقتل أبا جهل قبل أخيه؛ لأن عدو الله ورسوله لا يجوز له أن يحيا بيننا أبداً، ولا يحل لنا أن نلقي إليه بالود أبداً، هذا قادح في المحبة والانتماء. قال: فلم أنشب -أي: لم يمر إلا وقت قصير- حتى رأيت أبا جهل يجول في الناس -أي: يضطرب، قلق، يذهب ويأتي ليس له مكان ثابت- قال: فلما رأيته، قلت لهما: هذا صاحبكما، قال: فابتدراه فضربه كل بسيفه فقتلاه، ثم اختصما على سلبه -السلب: ما يكون عند الرجل المقتول من المغانم، والمجاهد إذا قتل الكافر فله سلبه؛ متاع ويكون ملكاً للمجاهد الذي قتله، فاختصم هذان الغلامان فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل يقول: أنا -لأن قتل عدو الله ورسوله شرف- فقال عليه الصلاة والسلام: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فقال: أرياني، فلما نظر إلى سيفهما، قال: كلاكما قتله). الغلام الأول: معاذ بن عمرو بن الجموح، والغلام الآخر: معاذ بن عفراء، وفي رواية أخرى أن اللذين قتلا أبا جهل: هما معاذ بن عفراء ومعوذ بن عفراء. فينبغي علينا أن نعلم أبناءنا صدق الانتماء لله ورسوله، وألا يأخذهم في الله لومة لائم؛ لأن الانتماء إنما هو موالاة الله ورسوله. ومن صور الانتماء لله ورسوله: ما حدث في غزوة أحد (لما كانت الدولة للمشركين وصعد أبو سفيان -قبل أن يسلم- على قمة الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أسفل الجبل، وقد أشاع الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فصعد أبو سفيان على قمة الجبل، وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، قال: أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه، فلما ظن أن هؤلاء ماتوا -لأن قوام الإسلام كان بهم- قال: أُعل هبل، فحينئذٍ قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم). هذا إظهار لعزة من عبده المسلمون، وإعلاء لجناب التوحيد، نهاهم أن يجيبوه أولاً، فأحسن جد الإحسان، وأمرهم أن يجيبوه ثانياً فأحسن جد الإحسان، إن ذواتنا ينبغي ألا يكون لها وزن في الله تبارك وتعالى، ذواتنا ينبغي أن تمحى، لأن هذا هو مقتضى تجريد الإخلاص لله عز وجل. فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم حب الله، وأن يظهروا نعمه التي أنعم بها عليهم، وقد قرأت آيات في سورة الفرقان يعدد الله فيها نعمه على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:47 - 54]. فانظر كيف يتحبب الله عز وجل إلى العباد بنعمه، ويرقق قلوبهم بها، ومع ذلك {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]. وهذه من ألطف الآيات في مدح المؤمنين؛ لأن الكافر ظهير على ربه، فلا يرى عدواً لله عز وجل إلا وضع يده في يده، بخلاف المؤمنين. وتأمل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ} [الفرقان:55]، فالذي يعبد ما لا ينفعه إنما هو مجنون؛ لأن الإنسان لا يعبد إلا من ينفعه ويضره، فما وجه ذكر الضرر في الآية: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55] فكأن إلحاق الضرر بالمعبود نعمة، لأن الإله لا يكون إلهاً حتى يضر وينفع، فيضر كل نفس فيها داعية الألوهية، ولو خلي بين الجبار وبين ما في صدره لقال: أنا ربكم الأعلى، كما تجرأ فرعون على قولها فأظهرها وجبن غيره فأضمرها. قال رجل مرة -وضرب بيده ضرباً شديداً على المنضدة وهو يخطب-: أنا الحاكم {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، هكذا قال وقد أهلكه الله {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20]، ما الذي جرأه على أن قال هذه المقولة التي تفرد بها الله تبارك وتعالى دون ملوك الأرض؟ فكل واحد منا عنده داعية الألوهية لأن يكون جباراً عنيداً، فحينئذٍ هذا لا ينفعه إلا إلحاق الضرر به، فيكون إلحاق الضرر به نعمة. وقد كان هناك غلام ابن تسع سنين وأصيب بشلل في أطرافه الأربعة، وكان لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً، ثم امتن الله عز وجل عليه بالشفاء بالأسباب التي خلقها، فاسترد عافيته، والعجيب أنه أصبح يعمل أشق الأعمال بعد ذلك؛ وذهب إلى العراق وفعل كل شيء: زنى، وشرب الخمر أليس المرض في حقه كان نعمة؟ لو أنه بقي طريح الفراش طيلة عمره، أليس هذا أفضل من أن ترتد إليه العافية، فإلحاق الضرر بمثله نعمة ينبغي أن يشكر العبد ربه عليها، هو ضرر بالنسبة لنا، لكنه رحمة في علم الله عز وجل، إذاً: لا يستقل بمعرفة ما يصلح العباد مما يضرهم إلا الله عز وجل ورسله بتعليم الله إياهم. القرآن مليء بهذه الآيات، قف على هذه الآيات واشرح لولدك نعم الله عز وجل وآلاءه، وإذا ذُكر الله عز وجل فينبغي أن يظهر ذلك على وجهك، وعلى طريقة جلستك، فإن كنت مضطجعاً فاعتدل في جلستك واجهر بتسبيح الله عز وجل، فالأولاد ليسوا أغبياء، فعيونهم كالكاميرات المسجلة تحفظ كل شيء تراه ثم يطبقونه فيما بعد، فهم في غاية الذكاء وإنما هم عاجزون عن التعبير. وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يظهر ذلك عليك، قال الإمام مالك رحمه الله: كان أيوب السختياني إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم يبكي حتى نرحمه محبة له، هذا أصل الانتماء وأسه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] والصحابة عندما تمكن حب الله من قلوبهم استرخصوا كل غالٍ ونفيس في سبيل الله عز وجل، واليوم أصبح ترك الانتماء قاعدة في البحث العلمي، وهو ما يعرف بالحياز العلمي، والكفار لا يحيزون، ولو حازوا فليس عندهم من يعظمونه فينحازون إليه، ونحن نعلم أن المرء بغير انتماء لا يعمل أبداً، لأن الله عز وجل خلق الناس لهدف، فلا يمكن أن يكون هناك شخص لا يعمل لهدف، فمتى ترك الكافرون انتماءهم فهم ينتمون إلى التراب، ونحن ننتمي إلى العزيز الوهاب، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، لا مساواة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فعلمهم أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم). روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -والفتى الحزور: هو الذي ناهز الاحتلام- فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) تعلموا الإيمان أولاً، لذلك لم يكذبوا الله ورسوله ولم يتوقفوا عند آية قط، ولم يقفوا عند حديث أبداً، ولا اعترضوا على الله بآرائهم، ولا ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بمحض أهوائهم؛ لأنهم آمنوا أولاً، فهان عليهم ما يجدونه بعد ذلك، فالانتماء هو البوابة إلى الإيمان.

الأسئلة

الأسئلة

شبه وردود

شبه وردود Q كيف يرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته إلى بيت رجل آخر، وهي لا تعلم أنها زوجته؟ A الحاصل يا أخي الكريم! أنها كانت ناهزت الحيض، فأنت عندما ترسل ابنتك إلى أخ لك في الله لتخبره أنك تريده أو نحو ذلك، كل هذا جائز لا شيء فيه، ولا أرى شبهة في المسألة. أما مسألة إذا عقد الرجل على امرأته فهل يجوز له الدخول عليها؟ فمن العلماء من يقول: لا يجوز للعاقد أن يجامع المعقود عليها إلا بإذن وليها، وأنا أتبنى هذا الرأي، والحجة في ذلك: سداً للذريعة، وهب أنه جامعها ثم طلقها، فإن هذه المرأة ستكون حاملاً، فيسوء ظن الناس في عرض الرجل وفي عرض المرأة، ولذلك شرع الإشهار حتى يعلم كل الناس أن هذه المرأة تزوجت، ويوم أن تطلق ويطلبها رجل آخر يقال: هذه ثيب، لكن رجل جامعها وطلقها وهي معقود عليها، فيسوء الظن بها، أضف إلى ذلك أنه قد يعقد الرجل عليها ويعجز عن توفير السكن، وقد يظل سنة أو سنتين وهو يبحث عن السكن فتحمل المرأة، وقد حصل أن بعض النساء حملت في العقد وأسقطت لماذا؟ ليس عنده شقة. فمنع العاقد أن يجامع المعقود عليها هو من باب سد الذريعة فقط وكفى. مداخلة: أين الولي والشهود؟ الجواب: ليس في القصة أنه لا يوجد ولي، لا سيما وأن الحسن بن علي وعقيل بن أبي طالب كانا يعلمان بذلك. لا تظنوا أن الصحابة تفوت عليهم هذه البدهيات التي خطرت لكم، تظن أنك فهمتها ولم تفت عليك وفاتت على علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. المهم أننا في هذا العصر نعاني من الكافرين والمنافقين على السواء؛ الكافرون يكفرون بالله، والمنافقون يحسنون كفرهم وينقلونه إلينا باسم العلم، والجماهير عاجزة عن الرد، فكلما تكلم أحد قالوا: هل أنت متخصص، الكلام هذا لأهل التخصص. ومثال ذلك: القضية الطارئة على الساحة الآن؛ وهي قضية الاستنساخ: وذلك عندما يقوم المنافقون بتمهيد الطريق لهذه القضية وتغطيتها، ويتهمون الله عز وجل، ويكتبون ذلك على صفحات الصحف، فيوهنون من عزم المؤمنين. فالمؤمنون يتمنون لو يقوم بعض العلماء بالرد على هؤلاء ليشفوا صدور المؤمنين، ويردوا كيد الكائدين، حتى لا تقم لهم قائمة، وحتى لا يفكر أمثال هؤلاء أن يكتبوا يوماً ما على صفحات الصحف والمجلات، بالطعن في الدين أو مخالفة رسول رب العالمين فعندها ينهزمون ويرتدون على أعقابهم خائبين خاسئين، وإلا فكم هي القضايا التي ينشرونها بين الفينة والأخرى وآخرها ما سمعتم بقضية الاستنساخ التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يخزي أعداء هذا الدين والمتربصين به ويجعل الدائرة عليهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أين العلماء الربانيون؟

أين العلماء الربانيون؟ إن مشكلة عصرنا الحاضر الذي طغى عليه الجهل هو غياب العلماء الربانيين؛ فبغيابهم غابت دعوة الحق، وبغيابهم رفع الأقزام رءوسهم لينشروا الباطل، ويسفهوا علم الكتاب والسنة، ويشككوا فيهما بإيراد الشبه والضلالات العقلية والكلامية، ولا مخرج من هذا إلا بعودة أمثال هؤلاء العلماء، فعلينا أن نسعى جاهدين في تربية أبنائنا التربية الصحيحة، وتعليمهم القرآن والسنة والأخلاق، لنرتفع بمستوى هذه الأمة إلى المكانة التي تستحقها إن شاء الله.

ظهور أقزام العلمانيين عند غياب العلماء الربانيين

ظهور أقزام العلمانيين عند غياب العلماء الربانيين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فقد اخترت عنوان هذه المحاضرة هذا Q أين ذهب العلماء الربانيون؟ وكيف السبيل إلى وجدانهم؟ ذلك أن العالم الرباني وحده هو الوقود الحقيقي لحركة هذه الأمة، والذي يتطلع إلى سير السالفين ويدمن الاطلاع عليها يرى عشرات المئات بل الألوف من هذه النماذج المشرفة، التي نفتقر عشرة منها أو نفتقر خمسة منها في عالمنا الإسلامي الكبير المنتشر الأرجاء، ولست مبالغاً إذا قلت: إن الرجل إذا أدمن الاطلاع على سير السالفين شعر بغربة عميقة جداً، بين هذا الواقع السلبي الذي يعيشه المسلمون الآن، وبين ماضيهم المشرق جد الإشراق، على حد قول شوقي فيما قال: بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات هنالك نوران: بيدك قرآن وسنة، ومع ذلك كلما وجدت حفرةً سقطت فيها! لا يجدي هذا النور العظيم مع رجل لا يرى! إن مشكلة هذه الأمة: عدم وجود العلماء الربانيين الذين يأخذون بنواصي أفرادها إلى الخير، ولو أن كل مسلم أمعن النظر في هذه المصيبة التي ابتلي المسلمون بها الآن أقل ما يمكن أن يفعله أن يريق الدموع، أما الأسى والحزن فهذا محله القلب، وإلا فهذه الرءوس الكثيرة جداً في عالم المسلمين اليوم الجاهلة، التي تأخذ بنواصيهم إلى كل شر، ولا أدري بأي قرآن أو بأي سنة أو فهم لأصول المسلمين ينظر هؤلاء إلى النصوص الشرعية! أنا عجبت أشد العجب -ولعلكم عجبتم لأن هذا أمراً كان مشهوراً في الجرائد الرسمية- من هذا الفاصل الهزلي الرديء الذي نشرته (صحيفة الأهرام) في شهر مارس الماضي عن النقاب. وهذا الصحفي - أحمد بهاء الدين - تاريخه معروف لدينا جميعاً، لم يعجبه حكم المحكمة الإدارية أن الطالبات لهن الحق في ارتداء النقاب؛ لأن هذا من الحرية الشخصية، فوقف على كلام رجل يوزع جهله يمنةً ويسرة، فلخص منه كلاماً يدل على أن هذا الرجل لم يعرف أين باب الإسلام. أبجدياته الإسلام يجهلها هذا الرجل الذي صنف كتاب (حجاب ونقاب في نظر الدين) وانتهى بحثه الراقي العلمي الدقيق إلى أن النقاب لا يوجد له أثر لا في القرآن ولا في صحيح السنة وأنه إنما دخل مصر مع المماليك. وأنا لا يعنيني هؤلاء، ولست أقف عندهم طويلاً، إنما أقف على فتوى الدكتور عبد الغني الراجحي الذي دبج اسمه بقوله: العميد الأسبق لكلية أصول الدين، وأستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر. لقد بعث ثلاث رسائل إلى هذا الرجل أحمد بهاء الدين يقول له: قرأت -وأنا أروي بالمعنى- بشغف مقالاتكم الرائعة عن نظر الإسلام في النقاب، وما أوردتموه من قول العلماء الثقات. أين هم العلماء الثقات؟! الفنجري؟! هذا الهنجري رجل واحد فكيف صار هو العلماء؟! وصار من الثقات؟! ثم قال: وقد أحسنتم الاستدلال! يقول عنه هذا القول مع أنه لم يأت بشيء، هل تتصورون أن النافي أتى بدليل؟ كلما سألته يقول: لا أدري، لا أدري، لا أدري، الذي يثبت شيئاً لابد أن يأتي عليه بالدليل، أما النافي فكما يقول بعض علماء الأصول: لا دليل على النافي خلافاً لـ ابن حزم. المهم أن هذا الرجل يقول: لم يثبت، لم يصح، لم يأت، لم لم. فأين قول الراجحي عنه: لقد أحسنتم الاستدلال؟ هذا يذكرني بقصة شاب محام أراد أن يجتهد فتبنى قضية رجل ضليع في إجرامه، التهمة عليه (100%) فوقف في ساحة المحكمة قال: يا سيادة القاضي! إن موكلي بريء، والدليل على أنه بريء: أولاً أما ثانياً: فهذا يدلنا إلى الدليل الدامغ لبراءة المتهم، وهذا ما سأشرحه في ثالثاً. سيدي القاضي! بعد الذي ذكرته من الأدلة الملزمة أطالب ببراءة موكلي. أين هذا الذي ذكره هذا المحامي الناشئ في الدفاع عن هذا الرجل الضليع في إجرامه؟! هذا العميد الأسبق لكلية أصول الدين يصل في نهاية البحث إلى أن النقاب نحكم عليه بالحرمة وأنه بدعة، وأنا استغرب جداً أن يجهل رجلٌ هذه الأبجديات المبثوثة في جميع دواوين المسلمين!! فيأتي هذا الرجل فيتكئ عليه كثير من الآباء لإرغام بناتهم لخلع النقاب ويقولون: هذا هو العميد الأسبق لكلية أصول الدين، وأستاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر! يقول: لم يصح لم يوجد بل أنا أفتي بأنه بدعة محرمة في ظل الظروف السياسية الموجودة!

نماذج مشرقة لعلماء ربانيين

نماذج مشرقة لعلماء ربانيين

العالم الرباني: محمد شاكر

العالم الرباني: محمد شاكر بل أنا لا أذهب بكم بعيداً وأسوق لكم حكاية حكاها لنا الشيخ العلامة، آخر أعيان المحدثين في الديار المصرية، وشيخ الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى وطيب ثراه، يقول وهو يخاطب أحد الأدباء الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمتين نابيتين، ولعلكم قرأتم القصة في (كلمة الحق) كتاب صدر لشيخ أحمد شاكر رحمه الله. يقول: إن السلطان فؤاد كان يصلي الجمعة في العابدين، فاستحضروا الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد عبدان؛ لأنه كان خطيباً مفوهاً، وكان السلطان يحب أن يصلي وراءه دائماً، دعته الأوقاف ونقلته إلى مسجد آخر حتى يخطب الجمعة، وصادف في هذه الفترة أن طه حسين عميد الأدب العربي، أتى بالدكتوراه في اللغة العربية من فرنسا، فشل في أن يأخذها في بلاد العرب فأخذها في بلاد الأعاجم. فأراد الخطيب محمد المهدي أن يثني على الملك فؤاد بمناسبة أنه قادم يصلي الجمعة، فقال يمتدح الملك فؤاد: ما عبس وما تولى لما جاءه الأعمى. الأعمى: هو طه حسين، ما عبس فيه ولا تولى، بل هش له وبش، وأرسله إلى فرنسا يحضر الدكتوراه. وبعد أن صلوا الجمعة قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر -وكان وكيل الجامع الأزهر- وقف وقال: أيها الناس! صلاتكم باطلة والخطيب كافر، فأعيدوا الصلاة؛ حدث هرج ومرج والسلطان واقف، وهو يقول: أيها الناس! صلاتكم باطلة وخطيبكم كافر. وبعد ذلك إمام مسجد عابدين رفع إلى السلطان الفتوى يأمره بصلاة الظهر، وكان هذا الرجل - محمد المهدي - له ظهر وله مستشارون، فأقنعوه أن يرفع شكوى ضد الشيخ محمد شاكر. الشيخ محمد شاكر أفتى بهذا لأن في قول الخطيب تعريض بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: أن الملك فؤاد صنع أفضل مما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لما جاء ابن أم مكتوم عبس وتولى، ولما جاء طه حسين إلى الملك فؤاد ما عبس ولا تولى، قال: هذا تعريض في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز وإن كان الخطيب يعتقد ذلك فهو كافر. وأرسل الشيخ محمد شاكر إلى مستشرقين أجانب ممن لهم خبرة بدلالات الألفاظ على المعاني، وأراد أن يستقدمهم ليقول لهم: هل استخدام الخطيب لهذه العبارة فيها تعريض بالمقام النبوي أم لا؟ ولم يرجع لشيخ من شيوخ الأزهر حتى لا يقال: انحازوا له. فلما علم أن القضية في النهاية ستحدث فتنة وخسراناً فيها محمد المهدي وقد أذله الله، قال الشيخ أحمد شاكر: وأقسم بالله لقد رأيت هذا بعينيّ، طال الزمان بالرجل محمد المهدي -والذي كان من أشهر خطباء مصر، حتى إن الملك فؤاد كان يحرص على الصلاة عنده- فلقد رأيته خانعاً ذليلاً فراشاً لأحد المساجد يتلقى نعال المصلين، فتواريت عنه وهو يعرفني وأنا أعرفه؛ حتى لا يراني، فلست مشفقاً عليه فلم يكن يوماً موضعاً للشفقة. الشيخ محمد شاكر رحمه الله لا يعرفه كثير من جيلنا؛ والسبب في هذا: انقراض علم التراجم، لم يعد هناك أناس يعتنون بتراجم العلماء العاملين كما اعتنى سلفنا كالحافظ ابن كثير والحافظ شمس الدين الذهبي، والحافظ المزي ثم أتى بعد ذلك الحافظ زين الدين العراقي، ثم أتى بعد ذلك الحافظ ابن حجر، وبعد ذلك الحافظ شمس الدين السخاوي والسيوطي إلخ، حتى وصل إلى الشوكاني فصنف البدر الطالع في العلماء، وكل قطر حسب همة علمائه ففقهاء اليمن لهم كتاب في مجلدين فيه تراجم فقهاء اليمن. أما هنا في مصر ففقراء جداً في فن التراجم، فالشيخ محمد شاكر لا يعرفه جيلنا إلا من خلال المطالعات الدقيقة، لاسيما إذا كان مثلاً الشيخ أحمد شاكر -وهو من أعيان المحدثين- هو الذي ذكر هذه الواقعة، ولولا أنه ذكرها لاندثرت، ولا يوجد كتاب في التراجم بالنسبة للمعاصرين إلا كتاب الزركلي الذي هو كتاب الأعلام، ولكنه كتاب مختصر جداً لا يروي غليلاً. فالحاصل: أن أمثال هؤلاء العلماء أين هم في الأمة المسلمة الآن، الذين يقودون المسلمين إلى صدع بالحق مهما كلفهم ذلك؟ كيف يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم إذا جاز للعالم الرباني -إن كان موجوداً- أن يخاطب بهذا الحماس هذا الجمع، وأضعاف أضعاف هذا الجمع، أمام جهاز التلفاز الذي ذكروا في آخر إحصائية أن المشاهدين الدائمين لهذا الجهاز يتجاوزون خمسة عشر مليوناً، من في البيوت النساء والأطفال ومن في المقاهي إلخ، فضلاً أنه في فترة المساء تزداد الكمية جداً، وكذلك في أيام الجمعات والإجازات يزداد عدد المتفرجين. إذا جاز للعالم الرباني أن يخاطب هذا الجمع، فيفاجئ أن هناك جهازاً لا يمكن منه العالم الرباني يهدم له كل هذا الذي يقوله، يخرج الرجل من هنا جذوة نار في منتهى الحماس، حتى إذا دخل البيت ولم يشم رائحة الإسلام ولا الآداب الإسلامية؛ انطفأت هذه الجذوة، ويظل ما بين الأخذ والرد حتى ييأس أو تموت نفسه اللوامة. قال لي بعض الناس -بعد أن ذكرت له استنكار العلماء واستنكار كل من له ذوق إسلامي على هؤلاء النسوة اللاتي يمشين في الشوارع عاريات-: أنا أنظر إليهن ولا أشعر بشيء من الشهوة، فأين الفتنة المزعومة التي تذكرها؟! فقلت له: أنا لا أكذبك، وأنت صادق حين تقول: إن نفسك لم تتحرك بشيء من الشهوة، ولكن أستطيع أن أجزم الآن بأن نفسك اللوامة قد ماتت، النفس اللوامة التي إذا رأت المنكر قرعت تلقائياً، الإنسان المفطور على هذا الدين أول ما يرى المنكر يقرع له ويحس به، قال بعض العلماء المعاصرين: كانوا قديماً يدورون بين سنة وبدعة، ونحن الآن ندور بين بدعة وردة! مبتدعنا إن تهاون قليلاً سقط في الردة، وكانوا قديماً إذا تهاون رجل في السنة سقط في البدعة؛ هذا كله المسئول عنه غياب العالم الرباني العامل بعلمه، فيأخذ كل هذه الجموع إلى طريق الله عز وجل وإلى طريق السعادة.

العالم الرباني: العز بن عبد السلام

العالم الرباني: العز بن عبد السلام يا أيها المسلمون! أين العالم الرباني؟ أين فيكم مثل العز بن عبد السلام هذا العالم القوي الشكيمة؟ لما جاء الملك أيوب -وكان ملكاً على مصر- في احتفال رسمي للدولة، وهو قاعد على الكرسي شامخاً، وحوله الناس يقبلون الأرض، ودخل العز فصرخ وقال: يا أيوب! تذكر إذا قال الله عز وجل لك: ألم أملكك الأرض ثم تبيح شرب الخمر في الحانة الفلانية، وتترك الدار الفلانية للدعارة والزنا؟! فغضب الذين حول الملك أيوب كيف يناديه بـ أيوب ولا يقول له: يا أمير المؤمنين! أو يا أيها الأمير! أو يناديه بالكنية؟ فقال أيوب: وأين ذاك يا سيدي -يقول للعز -؟ قال: في الحانة الفلانية والحانة الفلانية. قال: يا سيدي! هذا أنا لم أفعله، إنما هذا كان من زمان أبي. قال: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]؟ فأمر أيوب بإبطال هذه الحانات وما فيها من المنكرات. قال له أبو الحسن البادي -وقد انتشرت الواقعة في الديار المصرية-: ألم تهب الرجل؟! قال: يا بني! إني استحضرت هيبة الله عز وجل فرأيت السلطان قدامي كالقط. كيف يمكن أن يستحضر بهذه السرعة إلا إن كان هذا الرجل مدرباً على استحضار النية الصالحة من كثرة إدمانها، والعز بن عبد السلام هذا مثل قريب، ولو ضربت الأمثلة في القرون الفاضلة لرأيتم العجب.

وجود العلماء الربانيين ينشر الأدب والأخلاق في الأجيال

وجود العلماء الربانيين ينشر الأدب والأخلاق في الأجيال ومن أشد المصائب التي حلت بديار المسلمين بفقدان العالم الرباني: غياب الأدب. هذه النهضة العلمية التي يعيشها المسلمون اليوم لم تواكبها نهضة أخلاقية، بدليل أنك تجد الرجل منا يتبع كثيراً من النصوص النظرية، بينما يعجز عن تطبيق حديث واحد في حياته.

الإمام الشافعي وأدبه مع محمد بن الحسن الشيباني

الإمام الشافعي وأدبه مع محمد بن الحسن الشيباني عندنا مثل رفيع جداً للإمام الشافعي مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله على الجميع- مع أن الإمام الشافعي كان أرفع وأعلى قدراً من محمد بن الحسن، فقدره كقدر أبي حنيفة رحم الله الجميع، وكان محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف يمشيان على أصول أبي حنيفة، وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن دونه وعمن مثله). أي: لا يستنكف الإنسان النبيل أن يأخذ فائدة ممن هو أقل منه. فالإمام الشافعي ذهب إلى الإمام محمد بن الحسن الشيباني يتلقى عنه علم أبي حنيفة، فكان لا يعجبه بعض ما يقوله محمد بن الحسن ولكنه لا يعترض، كان يسكت، فإذا قام محمد بن الحسن ناظر الشافعي أصحابه فظهر عليهم، الشافعي يقول لهم: تقولون كذا؟ فيقولون: نعم. يقول: فما تقولون في كذا؟ وما تقولون في كذا؟ فيلزمهم الحجة فلا يستطيعون جواباً، فتكرر هذا الأمر مرات، فأبلغوا محمد بن الحسن وقالوا: إنك تقوم فيناظرنا الشافعي فلا نستطيع أن نرد عليه. فقال محمد بن الحسن: هلاّ ناظرتني. فقال الشافعي: إني أجلّك عن المناظرة. انظر إلى الأدب العالي! قال محمد: فلابد. فقال له: أنتم تقولون -وهذا نوع من أدب الشافعي في المناظرة مع أستاذه الذي هو من أقرانه محمد بن الحسن الشيباني أنتم تقولون بنقض الوضوء بالقهقهة؟ قال: نعم: أي: ولو أن رجلاً قهقه في الصلاة بطلت صلاته وفسد وضوءه. قال: فما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة، أي: بينما هو يصلي فمرت امرأة قال لها: أنت زانية. قال: صلاته باطلة. قال: فما حال طهارته؟ قال: كما هي. قال: سبحان الله! أقذف محصنة في الصلاة عندكم أهون من قهقهة؟! فألجمه. قال: فأخذ محمد نعله وانصرف. وهذا الشيخ العلامة النحرير ذهبي العصر الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في كتابه العظيم -أنا أنصحكم أن تشتروا هذا الكتاب- كتاب التنكيل بما في تأويل الكافرين من الأراجيف، هذا أعظم كتاب قرأته في باب الرد، فهو يلزم الخصم الحجة بمنتهى الأدب، فذكر مما ذكر في مناظرات الشافعي مع محمد بن الحسن الشيباني، وأن الشافعي لم يعجبه قول محمد بن الحسن في المياه، وفي نجاسة المياه، فقال له: إنكم لتقولون قولاً لعله لو قيل: تخطاطأ فقال قولكم لكان قد أحسن التخاطؤ. ! هذه عبارة راقية جداً، قال الشيخ العلامة عبد الرحمن اليماني رحمه الله: فكان الشافعي رحمه الله يستوفي حقه حتى في التشنيع، ولكن انظر كيف شنع! هذا القول رغم أنه شديد جداً إلا أنه رقيق، هذا كله ما ورثه الإمام الشافعي ولا ورثه محمد بن الحسن إلا بعد ذهاب الكبر، والقعود أمام الشيوخ، فمصيبتنا عدم وجود العلماء الربانيين الذين نرسل إليهم أبناءنا حتى يتلقون العلم منذ نعومة أظفارهم، وجيلنا هذا جيل حسبه أن يكون قنطرة للجيل القادم، ما منا من أحد إلا أدرك هذا الإسلام وهذا العلم على مشارف الجامعة، لكن بعدما ذهبت السنون الأولى الخطيرة في حياة الإنسان، وهي أيام الصغر: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وإني لأذكر قصةً فيها هذا المعنى: أن رجلاً أعرابياً تزوج امرأة على امرأته الأولى، وكان البيتان متجاورين، فصعدت جارية المرأة الجديدة على السطح، فوجدت جارية المرأة القديمة على الباب، فأنشدت وقالت: وما تفعل الرجلان رجلٌ صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت تعرض بالمرأة القديمة، وأن المرأة الجديدة هي سيدتها، فتكرر هذا الكلام من جارية المرأة الجديدة، فبينما هي تمر يوماً إذ قالت لها جارية القديمة: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا شيء واقع، أنت قد تكون ولدت هنا في الإسكندرية في منطقة معينة، ثم تذهب إلى بلاد الدنيا ويكون لك شأن عظيم، فإذا رجعت تشعر بحنين في قلبك وأنت تشاهد ملاعب صباك كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل يحن كل إنسان إلى جذره الأول، إلى حياته الأولى فلو كانت حياتنا تمشي على الفوضى كما كانت حياة كثير منا وأدركتنا عناية الله عز وجل، فهذا لا يتصور فيه الثبات مثل الذي ينشأ منذ نعومة أظفاره على محاسن هذا الدين.

خلق التابعين مع ابن مسعود

خلق التابعين مع ابن مسعود إن وجود الشيوخ بكثرة ينقل الأدب لطالب العلم مع العلم، وهذا ميراث متوارث وليس شيئاً جديداً، فقد روى الدارمي في سننه بسنده الصحيح إلى يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، قال: بينما نحن جلوس على باب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة، إذ جاء أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس فقال: أما خرج أبو عبد الرحمن؟ فقلنا: لا. فقعد معنا. انظر إلى هؤلاء الناس يقعدون على درج البيت! وهذا شيء يجب على إخواننا أن يتفطنوا له، لكن اليوم يكاد الجرس أن يتلف من كثرة الدق على الباب، وكأن أدب الاستئذان ثلاث مرات قد ذهب، وربما يطرق الباب مائة مرة، ولقد أحصيت مرةً أن رجلاً طرق الجرس علي ستاً وثلاثين مرة، أعدّها عداً، ومازال واقفاً، حتى إن الجرس تلف، وما أدري هل هو السبب أم تكاثرت عليه الدقات. فأين هذا من فعل هؤلاء السادة؟ يجلس بعد صلاة الغداة ولا يدق على عبد الله بن مسعود الباب، لأنه هو الذي يحتاج إليه، ويقعد على درج البيت ولا يراه من العيب، حتى إذا خرج عبد الله بن مسعود قال: فاكتنفناه. (اكتنفناه): يعني عن يمينه وعن شماله ووراءه وأمامه، وهذا هو فعل العالم الرباني حقاً، لا يفعل كما يفعل بعض الجبابرة يمشي في الأمام والكل وراءه، هذا ليس من الهدي، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (تقدموا وخلوا ظهري للملائكة) وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يتقدم الصفوف، وهذا من أعظم ما يكون أن يكون الرجل في أخريات الناس، يزجي الضعيف ويساعد المحتاج، هب أن رجلاً سقط لا يدري به أحد، من يكون المسئول عنه؟ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أخريات الناس.

النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الصحابة

النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه مع الصحابة وقد حفظ لنا جابر بن عبد الله الأنصاري قصةً رائعة جداً في صحيح البخاري قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة، فبينما نحن قافلون إذ أعيا ناضحي تحت الليل -الناضح: الجمل- وأرهقه السير، فجعل يضربه حتى يستنفره فلم ينفر الجمل، فجعل يقول: ما زال لنا ناضح سوء. قال: فإذا بي أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هذا؟ قال: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول جابر. قال: ما دهاك؟ قال: أعيا ناضحي تحت جنح الليل. أمعك عصا؟ فناوله العصا، فضربه فارتدت إليه العافية -إلى الجمل- فركب جابر جمله، وركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته، قال جابر: فجعل الجمل يسبق ناقته، هذا الجمل الذي أعيا يسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تلحق! وفي صحيح مسلم وغيره أن امرأةً أخذت ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام وفرت عليها -لعلمها أنه لا يلحقها شيء وكانت المرأة أسيرة- فنذرت إن نجاها الله لتنحرن هذه الناقة جميلاً لها! فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بئس ما جازتها!) يعني: أهذا جزاؤها أن الله عز وجل جعلها سبباً في نجاتها، وهي تريد أن تكرمها بأن تذبحها! فقال: (بئس ما جازتها، لا نذر فيما لا يملك المرء، ولا نذر في معصية الله عز وجل). المهم أن هذا الجمل يسبق الناقة وجابر يشد خطامه؛ لأنهم كانوا يرون أنه من سوء الأدب أن يتقدم أحد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في رواية البخاري ومسلم أن رجلاً أعرابياً صعد على قعيد -القعيد: ولد الناقة- وأطلقه، فسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ما رفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه) يريد أن يطيب من خاطرهم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتسامر مع جابر، ويتفقد أحواله إلى آخر القصة). فالحاصل أن من هدي العلماء والأمراء الربانيين أنهم لا يتقدمون في الأمام كما هو واقع في الجاهلية، وفعل الأوروبيين الكفرة الذي أخذه كثيرٌ من المسلمين اليوم، حيث يرون أن في التقدم شيء من الشرف، ويجعلون الكراسي في الأمام، ويكون عن اليمين فلان وعن الشمال فلان، إذا غاب فلان إذاً لابد أن يقعد على الكرسي، حتى أنا رأيت بنفسي أن الصف الأول في المسجد محجوز لجماعة معينة، وإذا أردت أن تأخذ لك محلاً في الصف الأول يمنعونك، وبالفعل منعوا رجلاً رأيته بنفسي، قالوا: هذا مكان الحاج فلان. والحاج فلان لا يدخل إلا في نصف الخطبة، حتى جعلوا الصفوف الأولى للكبراء بخلاف الهدي المعروف، الذي يجب على المسلمين أن يتوارثوه. (خرج عبد الله بن مسعود مع أبي موسى الأشعري قال: فاكتنفناه، فقال عبد الله بن قيس: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، وما رأيت إلا خيراً) ثم ساق بقية القصة. الحاصل: أن وجود المشايخ بكثرة كان سبباً مباشراً لأدب طالب العلم، أما أن يتعلم الإنسان من الكتب فقط، ولا يسعى أن يتلقى العلم عن الشيوخ، أو حتى على الأقران الذين سبقوك في هذا المضمار؛ فإن هذا يصيب الأمة -في الحقيقة- بأضرار كثيرةً جداً. أضرب لكم هذا المثل الخطأ: نحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية، فيأتي الرجل ويفسر القرآن والسنة بما يعرفه من الألفاظ المتوارثة الآن، وهذا لا يجوز أن يفسر بالألفاظ الحادثة بل لا بد أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي نزل بها القرآن على العرب، وباللسان الذي كان الصحابة يفهمونه لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فنحن أعاجم بالنسبة للغتنا العربية. فإذا دخل رجل المكتبة لكي يقرأ في كتاب فلعله لا يقرأ الجملة صحيحة، وأنا رأيت رجلاً في بعض المسائل كمسألة تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة، فيذكر الحاكم في مسنده أثراً عن ابن عمر في أنه يقدم يديه على ركبتيه، ثم قال الحاكم: والقلب إلى رواية ابن عمر أميل؛ لأن في ذلك روايات كثيرة عن الصحابة والتابعين. فهو يأتي ويقول: القلب أميل. أي: أن الحديث مقلوب! تصور! الحاكم يقول: القلب أميل إلى رواية ابن عمر لأن له شواهد عن الصحابة والتابعين. وهذا يقول: الحديث مقلوب ومعنى ذلك أن قلبه يميل إلى ترجيح رواية ابن عمر لأن لها شواهد كذا وكذا. وليس (القلب أميل) أي أن الحديث مقلوب. وما غر بعض إخواننا من الشباب إلى انتحال فكر الخوارج أو هذه الأفكار المبتدعة إلا لأنهم عكفوا على الكتب فقط، فأعملوا الكتب بعقولهم هم ولا يقبلون تراجعاً ولا يتنازلون عن فهمٍ فهموه، حتى أوصلتهم الجرأة أن تجرءوا على الأئمة الشافعي وأحمد وغيرهم، بل أنا بنفسي سمعت رجلاً منهم عندما قلت له: قول ابن عباس:) كفر دون كفر) فقال: نحن رجال وهم رجال. يعني: يجعل نفسه قرين ابن تيمية، وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، ولو ترقى قليلاً وجعل نفسه المزي، وابن مندة، وابن جرير، ثم ترقى قليلاً فجعله نفسه أحمد، والشافعي، ومالك، وهذا لن يعجزه فقد تجرأ على جيل الصحابة مباشرةً، وقال: نحن رجال وهم رجال! فقلنا: إن كنت تقصد الذكورة؛ فنحن لا ننازعك فيها فأنت ذكر، لكن إن كنت تقصد المقام والفهم فشتان! فقد توفرت لـ ابن عباس دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، فماذا توافر لك أنت؟! فإذا به يلقي هذه المفاجأة التي أنكرها عليه إخوانه أنفسهم، فقال: وما يدريك أن الله استجاب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟! تصل به هذه الجرأة إلى هذا الحد؛ لأنه لا يرى من يعقب عليه؛ والسبب إنه يأخذ من الكتب مباشرةً، فيفهم ويكتب ما يريد، ولو تعود أن يقعد لشيخ فإنه يهاب أن يتكلم في حضرته؛ لأنه قد يتكلم خطأً، وقد كان نظام الإجازات قديماً من أقوى الأشياء التي كانت تجعل طالب العلم لا يتكلم إلا بعد علم، وبعد أن يجيز له أستاذه وشيخه، حتى إذا رأى شيخه أخطأ ما كان يهجم عليه.

غياب العالم الرباني سبب في فقدان الأدب

غياب العالم الرباني سبب في فقدان الأدب وكيع بن الجراح وهو أحد الأئمة الثقات الحفاظ، شيخ أحمد وغيره، ولم يثبت أنه كان شيخ الشافعي، ولم يثبت له لقاء به الشافعي، وأنبه على هذا عرضاً؛ لأنهم ينسبون إلى الشافعي بيتين من الشعر، يقول: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي بل الإمام الشافعي كان من طبقة وكيع، فكيف يمكن أن يتتلمذ عليه أو أن يكون شيخاً له، إلا إن كان من باب رواية الأقران عن بعضهم، ولم يثبت هذا أيضاً، إنما هو شيخ للإمام أحمد، والإمام إسحاق بن راهويه. فكان وكيع يقول: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا عن كل مائة حديث بخمسة. أنا أرجو أن ينظر كل مسلم في محفوظاته من الأحاديث النبوية، ثم ينتقي خمسة أحاديث فيترجمها إلى الواقع العملي. فغياب العالم الرباني هو السبب في هذه النهضة العلمية التي لم تواكبها نهضة أخلاقية، وأنا هنا أبين لكم أن فقدان الشيوخ هو السبب المباشر لغياب الأدب، ولا يتصور أحدكم أن التلميذ كان يذهب إلى الشيخ يتلقى عنه علماً نظرياً فقط، إنما كان يتلقى عنه الأدب مع العلم، ومن أعظم ما استفاده التلامذة من الأساتذة الكبار: الذل وانكسار النفس وذهاب الكبر؛ لأن هذا العلم لا يصلح إلا بتواضع وإخلاص نية.

الأعمش يعلم طلابه الأخلاق والأدب

الأعمش يعلم طلابه الأخلاق والأدب لو أخذنا رجلاً عالماً جليلاً كبيراً وهو سليمان بن مهران الأعمش أحد الأئمة الكبار القراء الحفاظ -حفاظ أهل الكوفة- هو شيخ شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم من الأئمة الثقات الكبار. كان عنده من شدة الخلق على تلاميذه شيئاً يضرب به المثل، حتى حكى الخطيب في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أنه كان عسراً جداً في الرواية، ولا يكاد يحدث بحديث، مع أن طلاب العلم عندهم نهم، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) فكان طالب العلم لا يشبع، لاسيما عند الثقة الحافظ الإمام؛ فإنه شرف كبير أن يروي حديثاً عن الأعمش وأن يتسند له. فكانوا يتهافتون عليه تهافت الفَراش على النار، وكان هو شديد الامتناع في التحديث، فكل يوم يذهب أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم بالمئات يقرعون عليه الباب ويدخلون، فلما ضاق بهم ذرعاً اشترى لهم كلباً، فكلما سمع وقع أقدام أطلق الكلب لكي يفرق هذا الجمع، ونرجو أن تتصورا رجلاً كـ شعبة يجري أمام الكلب! أتظن أن شعبة زهد في الأعمش لا سيما أنه كان يماثله مئات في ديار المسلمين؟ أبداً، ما كانوا يزهدون في هؤلاء الأئمة؛ لأنهم ربوا على الأدب، يطلق عليهم الكلب، وبعد أن يؤدي الكلب مهمته يرجع والأعمش جذلان -مسرور- فيعودون مرة أخرى فيطلق عليهم الكلب. وذات يوم جاء أصحاب الحديث بكراريسهم ومحابرهم وقرعوا الباب، فإذا الكلب غير موجود، فدخلوا على الأعمش دخول المنتصر، فوجدوه يبكي! فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! فقال لهم: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اقعدوا أحدثكم، فحدثهم يومئذٍ بحديث -بحديث واحد- وخرجوا كأظفر ما يكون، كأنه رجل فتح حصناً؛ لأنه أخذ حديثاً من الأعمش. وذات مرة خرج الأعمش في جنازة رجل، وكان به عمش وكان يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليوناً بأرقام اليوم- بإسنادها ومتنها، لا يدخل إسناد في متن، ولا يختلط رجل بآخر، مع شدة في خلقه. وذات مرة وهو في مجلس التحديث -وكان يكره أن يجلس أحد إلى جواره- فجاء طالب علم جديد لا يعرف طريقة الأعمش، فجلس بجواره، والطلاب لا يستطيعون أن يقولوا للرجل: ابعد، لكن لو علم الأعمش أن الرجل قعد بجانبه سيفض المجلس؛ فسكتوا، فشعر به الأعمش؛ فظل يبصق عليه حتى انتهى المجلس، يقول: حدثني فلان -ويبصق عليه- حتى انتهى المجلس، والرجل ساكت خشية أن يقول شيئاً، فيقطع الأعمش المجلس. وقال له رجل مرةً: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولزقه بالحائط وقال: هذا إسناده! تصور رجل بهذه العسرة في التحديث كيف يتهافتون عليه، ولا يزهدون فيه!! اليوم لو أن أي طالب علم رأى من معلمه شيئاً يشينه اعتزله ولا يقابله في الطريق، ولا يسلم عليه، هذا إن كان من المتقين، وإلا ربما افترى عليه أيضاً، فأين هذا من ذاك؟! كان الأعمش بمثل هذا الخلق يكسر الكبر في نفوس تلاميذه، ويعلمهم التواضع الجم، وكان -فيما نحسب- حسن النية، جعل الله له لسان صدق في هذه الأمة، فلا يذكر إلا بالجميل. وورث أبو بكر بن عياش منه هذا العسر في الرواية، فقالوا له يوماً: حدثنا بحديث. قال لهم: لا، ولا بنصف حديث. فقالوا له: حدثنا بنصف حديث. قال: اختاروا: السند أو المتن؟! فقال له رجل يريد أن يمدحه إلى نفسه: أنت عندنا إسناد -يعني ينتظر أن يقول لهم متناً- فقال لهم: كان إبراهيم يدحرج الدلو. ! قال الخطيب: فانظر! ضن عليهم أن يحدثهم بحديث ينفعهم. ولا يتصورن أحد أن هذا الفعل من هؤلاء السادة فعل شائن، بل كان من أجل أفعالهم لتأديب طلاب العلم، وكان الأعمش يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، وما رفعني إلا الحديث لماذا؟ لأنه واضح من لقبه، فهو لقب بـ الأعمش لعمش كان في عينه، وليس من الغيبة: أن يذكر الرجل بالعيب الذي فيه على سبيل التعريف وليس على سبيل التنقيص، وهذا موجود بكثرة كـ الأعمش وكـ الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، أما غندر فهو لقب ليس بعيب، وغندر هو لقب محمد بن جعفر وهذا ليس من العيب الخَلقي، غندر أي: المشرد بلغة أهل الحجاز، وأطلقها ابن جريج على محمد بن جعفر عندما كان يشرد في مجلسه. ومثلاً كـ ابن علية ينسب لأمه إسماعيل بن علية، والأحول ونحو ذلك. فكل هذه الأوصاف إذا قيلت في جزء التعليم فقط لا تعد من الغيبة، وإن قيلت على سبيل التنقيص فهذه غيبة.

الفرق بين شباب السلف الصالح وأبنائنا

الفرق بين شباب السلف الصالح وأبنائنا هنا قصة طريفة جداً رواها الخطيب في كتابه (الكفاية في علوم الرواية) تبين لك الشعور بالمسئولية وكيف يصير هذا الشاب الطموح إماماً إذا تعاهدته، يروي هذه القصة من طريق أحمد بن النضر الهلالي، قال: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس سفيان بن عيينة -وهذا عالم في الرواية، وشيخ الشافعي، ومن أقران مالك، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز- إذ دخل صبي صغير؛ فضحك بعض من في المجلس، فتلا سفيان قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] ثم قال: لو رأيتني يا أبا نصر وأنا ابن عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي قصار، أكمامي صغار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار مثل الزهري وعمرو بن دينار، أقعد بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير. ثم ضحك سفيان بن عيينة، قال أحمد: ثم تبسم أبي وضحك، قال عمار بن علي: ثم تبسم أحمد وضحك، إلى آخر الإسناد، حتى وصلت البسمة إلى الخطيب البغدادي. فانظر إلى سفيان بن عيينة وله عشر سنين، ويختلف إلى من؟ إلى الزهري، وإلى عمرو بن دينار الذي أدرك جابراً، والزهري أدرك أنساً وسهل بن سعد، أي: أنهم من كبار التابعين، قال: (فأقعد بينهم كالمسمار) أي: أنه دائم الجلوس، لا يقوم حتى يقوموا. نحن الآن يقعد فينا مفت ولو كان عمره ستون سنة، فيصير كـ البخاري وهو ابن أحد عشر عاماً. كان مجلس البخاري مجلس يقعد فيه مائة ألف أو يزيدون وما في وجهه شعرة -أي: لم تنبت له لحية- بل إذا انحدرنا إلى التاريخ القريب نجد أن الحافظ ابن حجر العسقلاني مات وللسيوطي من العمر ثلاث سنين، ومع ذلك كان والد - السيوطي - يأخذه وهو ابن ثلاث سنين حتى يتشرف بمجالس أصحاب ابن حجر، مع كونه لا يدري وليس هناك تحمل ولا إجازة لأنه صغير، ومع ذلك كان يأخذه، ويمتن الحافظ السيوطي فيما بعد ويقول: كان أبي يأخذني إلى مجالس أصحاب ابن حجر وهو ابن ثلاث سنين فقط، لا يدري، والولد اليوم يكون عمره عشر سنين ولا يحضر الصلوات إلا بالضرب. بل هناك أعجب من ذلك: مات عبد الرزاق وللزبري من العمر ست سنوات فقط، وروى الزبري مصنفات عبد الرزاق كلها، ولم يطعن أحد من العلماء في سماع الزبري من عبد الرزاق بن همام الصنعاني علامة اليمن وإمامه، ودونك المعجم الصغير للطبراني، لا يروي الطبراني شيئاً عن عبد الرزاق إلا من طريق إسحاق بن إبراهيم الزبري! وهناك أحد الرواة روى سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي، أبو داود له رواه: كثيرون لسننه، فتجد في بعض الروايات ما ليس بمرضي، فأحياناً يقول: رواه أبو داود. وتبحث عنه في سنن أبي داود فلا تراه، فيكون هذا مثلاً من رواية أبي بكر ابن داسة، فإذا أردت أن تظفر برواية ابن داسة فعليك بسنن البيهقي، لأن البيهقي لا يروي حديثاً من سنن أبي داود إلا من طريق ابن داسة وليس من طريق اللؤلؤي. فيبقى عندنا روايتان لسنن أبي داود: رواية أبي علي اللؤلؤي وهي المطبوعة الآن بين أيدينا، ورواية ابن داسة: وهي الموجودة في سنن البيهقي، وفيها زيادة في الأحاديث على رواية اللؤلؤي. فأتى هذا الراوي شيخ شيخ الخطيب وكانت آخر عرضة سمعها من أبي علي اللؤلؤي وهو ابن خمس سنين، وروى كتاب أبي داود كله عن اللؤلؤي بسنده إلى أبي داود بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل السنن، ولم يطعن أحد في روايته وهو ابن خمس سنين أين هؤلاء؟!! كيف يتأتى للمسلمين أن يظفروا بمثل هذا إلا بعد أن توجد طبقة علماء ربّانيين، الذين لا يبيعون دينهم، والذي يصبرون على الحق المر، إذا زل العالم زل بزلته عَالمَ. عندما أنظر إلى شيخ الأزهر -وهو لابس أكبر عمامة موجودة في البلد- فأراه في جنازة أحد الوزراء يمشي في الصفوف الأمامية والموسيقى تدق، والنعش على مدفع، وهو لا ينكر، كيف يتأتى للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل بهذا الوضع؟! فإذا أنكرنا ذلك قالوا: شيخ الأزهر قد فعلها؟! يمشي في جنازة مخالفة لجنازة المسلمين لا يشك في هذا أحد أن هذا ليس من ريح الإسلام، إنما هذه جنازات أوروبا، ويذهب ويأخذ بيديه الشريفتين الورد ويضعه على قبر الجندي المجهول، قام ووضعه على نعش المتوفى. كيف يمكن للعوام أن يعرفوا الحق من الباطل وأكبر رأس فيهم يفعل هذه الأفاعيل؟ بل كيف يمكن للعوام أن يصلوا إلى الحق وهم يرون أن أحد الكبار فيهم يسأل: ما الذي يعجبك يا مولانا؟ قال: والله أنا يعجبني فريد شوقي، والأغاني القديمة التي كان يغنيها عبد الوهاب، وأغاني أم كلثوم بألحان رياض السنباطي، لأنه هادئ قليلاً! أسمع هذا الرجل وأتعجب في نفسي وأقول: كيف للدعاة إلى الكتاب والسنة أن يتقلدوا كل هذا حتى يصلوا إلى قلوب العوام؟!! متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

العالم الرباني ومهمته

العالم الرباني ومهمته مهمة العالم الرباني شاقة جداً؛ لأنها تتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن يأخذ الخرافة من نفوس الناس، وأن يرفع كل هذه الأشلاء. الأمر الثاني: أن يصب الإسلام الصحيح في هذه النفوس، وقد يموت وتموت بعده أجيال قبل أن ينتشلوا الخرافة من قلوب المسلمين، فضلاً عن أن يبذروا بذرة الإسلام الصحيح، هذا هو البناء الصحيح، ليس هناك إيمان إلا بعد كفر، أن تكفر بالطاغوت ثم تؤمن بالله عز وجل؛ لأنه لا يستقيم أن تؤمن بالله وهناك طاغوت في قلبك، ارفع الأشلاء والأنقاض ثم ارم الأساس الصحيح، فهذا الركام الذي يرمى على الساحة الإسلامية وتبتلعه اللصوص، فكيف لي بمعول أجتث به هذه الشجرة الملعونة في حياة المسلمين؟! وقد تتقطع الأعناق والرقاب دون اجتثاثها؛ لأن هناك أيد كثيرة جداً تحرص على أن تظل هذه الشجرة الملعونة. فمهمة العالم الرباني شاقة جداً، وهم مبتلون بتحريف النص عنهم أيضاً، وإشاعة الإشاعات أيضاً عنهم، فلا يكاد يسلم عالم رباني من إشاعات مغرضة تشوه تاريخه، وحسبنا بالشيخ ناصر الدين الألباني محدث العصر. هذا الرجل افترى عليه كثيرون جداً ما لم يقله، وبسبب هذه الافتراءات شرد في بلاد الأرض، فلا ترى له وطناً ولا سكناً، وحياته في الفترة الأخيرة مؤلمة جداً، عالم مثل هذا العالم يشرد في بلاد الأرض؛ ولأنه يرى حرمة السفر إلى بلاد الكفر فهو لم يتجه إلى أمريكا وفرنسا أو غيرها وإلا لوجد حرية كبيرة، فظل على حدود الإمارات ستة أشهر! ممنوع من دخولها! وممنوع من دخول الكويت! وممنوع من دخول السعودية! وممنوع من دخول سوريا كيف لهذا الرجل أن يعيش؟ وما دخَل الأردن إلا بتزكية خاصة من تلميذه الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة وكيل وزارة الأوقاف وإمام مسجد دار الصفوة، فدخل إلى الملك حسين بصفته الشخصية يطلب منه دخول الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن مع التعهد بألا يلتقي بأحد، وأجبروه أن يكتب على باب (الفيلا) (ممنوع مجيء أكثر من اثنين) لأنه تجمهر، ولا بد من موعد على الهاتف. وفي الأيام الأولى ضيقوا عليه بشدة، لكن في الأيام الأخيرة وبعدما أنسوا جانبه تركوا له هذا الأمر، حتى أنه -في زيارتي لعمان- دعا مجموعة للغداء وصادف أن كنت فيهم، وكنا خمسة وعشرين فرداً، فخرجوا فقلت للشيخ: هذه اللافتة تقول: ممنوع دخول أكثر من اثنين. قال: هم دخلوا اثنين اثنين! هو سريع البديهة جداً! فهذا العالم لا يوجد له مكان يستريح فيه، وقبل ذلك منعوا دروسه العامة في مسجد عمر في الزرقاء، حتى أنه لم يتمكن أن يلقي دروساً على طلاب العلم إلا في بيت أحدهم خلسة بعد صلاة العشاء. وعندما وقع مؤتمر السنة والسيرة النبوية في مصر لم يستدعوا الشيخ ناصر الدين الألباني -وهو أعظم الناس منة على المسلمين في هذا العصر للسنة والسيرة النبوية وما قالوا للشيخ ناصر: تعال وشرفنا حتى ولو عضواً، لا تتكلم. ومثل هؤلاء العلماء الربّانيين، انظر إلى معاملة الجهات الرسمية لهم! كيف يمكن أن ينتفع المسلمون بهم وهم مشردون في الأرض؟! بل الأغرب من ذلك: أنه حصلت مصادرة في بعض البلاد وهجوم الشرطة على المكتبات، كتاب تحذير الساجد، وكتاب (حرمة التصوير) للشيخ الألباني والشيخ ابن باز ولفيف من العلماء، وتحقيق شرح العقيدة الطحاوية لماذا يا إخواننا؟ قالوا: هذه الكتب ممنوعة، والأزهر نص على أنها ممنوعة! كيف ممنوعة؟! بالذات الشيخ ناصر الدين الألباني وتعليقاته. أهذه معاملة العلماء الربانيين العاملين؟! جحود شديد! إيجاد هؤلاء العلماء الربانيين يتمثل فيك أيها المسلم في معاملة ولدك، من منكم قال في نفسه: أنا نذرت ولدي هذا لله؟ وجد وسعى حثيثاً في تربيته على الهدف الذي يريد، من منكم فعل هذا وبدأ يقوم لولده الدعامة الأساسية، بأن يوصله إلى المشايخ لكي يتعلم، ويكون له مكتبة، ويزيح هذا الجهاز من البيت إن كان موجوداً، ويبدله بالكتب، فأول ما يشب الولد لا يرى إلا موضع الكتب، فينغرس في قلبه حب الكتب، وأنت لا تسمع عن أحد من العلماء النابغين إلا وأبوه كان عالماً، وجده كان عالماً إلخ. وإذا نظرت إلى شيخ الإسلام رأيت جده أبا البركات شيخ الحنابلة، ثم أباه عبد الحليم شيخ الحنابلة، فمن الطبيعي جداً أن يكون ابن تيمية شيخ الحنابلة، لأن جده وأباه أساس المذهب الحنبلي في دمشق، كذلك ابن مندة، أسرته بيت عريقٌ في العلم، وكلهم علماء، وكذلك والمقادسة كلهم علماء أيضاً، فلتكن أنت أول طالب علمٍ في أسرتك، فيأتي أولادك فتهتم بهم، وقل: هذا لله، أنا سأربيه حتى يكون عالماً، عندنا آلاف الأطباء والصيادلة والمهندسين! عندنا الآلاف في كل شيء، لكن ما عندنا علماء شرعيون، تحدث فتنة جديدة -هرج ومرج- ولا ندري من يفتي فيها الفتوى الصحيحة، أقرب مثال على ذلك اللحوم المستوردة، عندما كنا نقرأ الأخذ والرد نستغرب جداً؛ لأنه لا يوجد من يحكم هذه القضية لماذا؟ لأن المعطيات غير موجودة، تحدث فتوى جديدة يحتار فيها الشباب حتى يصلوا إلى عالم واحد مثلاً في آخر الأرض يصنع الفتوى، والله يعلم إن كان الجواب يصل الجواب صحيحاً، أو باطلاً، مشكلة كبيرة! وكان ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه يقول: وإني لأنظر إلى كل الصناعات فأجدها كفيت إلا هذه الصنعة، فكأنها التي عناها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا) قال ابن حبان: فكأن العلم -علم الحديث والفقه- هو العلم المعني بالانتزاع. كل يوم في مصر إذا راح عالم شغر مكانه سنين طويلة، أخبروني بعد الشيخ أحمد شاكر: كيف صارت الديار المصرية خالية ممن يفقهون بالحديث، أين الفقهاء من الطراز الكبير الموجودون في مصر؟! لعل المخلصون منهم لا يجدون وسائل الإعلام، هناك بلا شك طاقات كبيرة جداً في مصر، ولكنها متوارية، حتى يكاد أن يقال: إنه لا يوجد أحد، إذا مات الواحد منهم شغر مكانه فترة طويلة من الزمن، حتى يخلفه آخر، وهذه مشكلة كبيرة تدل على الشيء الذي يعاني المسلمون منه الآن.

مسئوليتنا نحو أبنائنا

مسئوليتنا نحو أبنائنا أقبل على الله عز وجل بنذر ولدك أن يكون أحد العلماء الشرعيين فيأخذون بيد الأمة، انظر كثير من الإخوان يعاني بأن ابنه ليس بنبيه، ويعلم ابنه اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية! ويخرج الولد صفر اليدين من اللغة العربية، حتى أن هذا الأمر واقع -بكل أسف- وموجود عند كثير من الإخوة الذين يتصور أن وسطهم أنقى من وسط العوام، فتجد الولد يجيد كل اللغات إلا اللغة العربية فهو أعجمي فيها، ولقد عايشت هذا بنفسي عندما درست اللغة العربية في الكلية فوصل بي الأمر أنني كنت آخذ الكتاب من أوله إلى آخره إعراباً لا أكاد أخطئ في لفظة ولا في كلمة ولا في تعليق، وقبل أن أجيد اللغة العربية كنت أسوق الكلام مكسوراً، وإن قلت الشعر قلته ملحوناً، فإن قال لي قائل: لم رفعت هذا أو كسرت هذا؟ وقفت لا أدري شيئاً، أهذا الذي يجب على المسلم؟ أهذا الذي يجب علينا تجاه لغتنا العربية؟! فأنا أدعوكم -وأرجو الله عز وجل إن كنت صادقاً في هذه الدعوة أن يجعل لها محلاً في قلوبكم- إن لم يكن هناك نية فاستحضر النية في أن تربي ولدك بأن يكون عالماً شرعياً ربانياً، يأخذ بيد هذه الأمة، بعد أن جروا وراء الطب والهندسة إلخ، فإن الناس لا يفتئون يجرون وراء هذه، ولا أحد يجري وراء العلم الشرعي إذ لا وظيفة له، وهذا بكل أسف لمحناه ظاهراً في القرن السابع الهجري وما بعده، لمحنا بُعد الناس عن علم الحديث، وإقبالهم إلى علم الفقه بسبب الرواتب، لأن الفقيه له وظيفة، ويمكن أن يعين -مثلاً- قاضياً في الفتوى، ويمكن أن يعين إماماً وخطيباً، يمكن أن يعين مدرساً، أما علم الحديث فما يجدي شيئاً ولا يجلب لصاحبه رزقاً؛ فأعرض كثير من الناس عنه. بل تجد الفقيه الكبير قد يُعرض عن الجهر برأيه في مخالفة مذهبه مثلاً أو في مخالفة الدولة حرصاً على الراتب، ونحن لا نعيبهم بهذا فهم بشر، وهذا حدث لـ تقي الدين السبكي -وكان أحد العلماء الذين اكتملت فيهم آلة الاجتهاد- فهو أحد الذين وقفوا ضد شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان له مساجلات كثيرة علمية ومناصحات علمية أيضاً. قال ولي الدين بن عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم ولي الدين هذا ابن الحافظ زين الدين العراقي - لشيخه سراج الدين البلقيني: ما الذي جعل تقي الدين السبكي لا يسلك سبيل الاجتهاد كما سبقه شيخ الإسلام ابن تيمية وقصر نفسه على المذهب الشافعي؟ فسكت سراج الدين البلقيني ولم يجب، قال ولي الدين: عيبه أن ذلك من الأعطيات؛ لأن تقي الدين إن خالف المذهب الشافعي واجتهد وأخذ بالدليل وإن كان يعارض المذهب فهو يعتبر رأس المذهب الشافعي؛ أقصوه عن رئاسة المذهب، فلذلك لم يفعل ليحوز الراتب. انظر هذا شيء من ضعف البشر، لكن هناك ألف حسنة في مقابل هذا عند تقي الدين السبكي رحمه الله. فكان من أول القرن الثامن وما بعده الحرص الشديد على تعلم العلم الذي يجلب الراتب ظاهراً جداً وملاحظاً، وقد ظهر عندنا الآن بصورة فاحشة جداً، إن قلت: علمه العلم الشرعي، ولا داعي أن تدخله المدارس، أو تدخله الأزهر، أو تعلمه أنت وتتعاهده. فيقول: ومن أين يعيش إذا كبر؟ فإنه لا بد من وظيفة، وعز العالم من عز الدولة، والدولة الآن لا تتبنى العلم الشرعي، إذا رأيت الدولة تهتم بالعلم الشرعي رأيت أعز رجلٍ فيها هو العالم، وإذا رأيتها تهتم بالفن، والرقص، وتهتم بكل هذه الأشياء المنكرة؛ فاعلم أن العالم الشرعي هو الذي يكون تحت الأقدام. وهذا واضح جداً كالشمس ولا يحتاج إلى دليل، ففي مسرحية قال لي محدثي: في أول المسرحية أتوا بهيئة التدريس مدرسين وطلاب لينشدوا نشيد المدرسة، وهي تتكون من مدرس اللغة العربية، ومدرس الإسلامية، ومدرس الرياضيات إلخ، فقلت له: وكيف عرفت أن فيهم مدرس الإسلامية؟! قال: لأنه كان يلبس جبة وعمامة -أزهري- ثم بعد أن درسوا حصصهم أخذوا دوراً في الرقص البلدي، فكان أفضل من يرقص فيهم صاحب الجبة والعمامة، لدرجة أن الذي حدثني قال: وقعت على قفاي من شدة الضحك ودمعت عيناي - وليس دمعة حزن- على منظر هذا الشيخ وهو يرقص هذا الرقص بحماس بالغ. هذا يدل على مهانة هؤلاء العلماء ونظرة الدولة للعلماء الشرعيين، يأتي فيرقص سبحان ربي!! والله إن آخر شيء يمكن أن أتوقعه أن يثور الناس، أو يتكلم العلماء الرسميون حتى ذراً للرماد في العيون، لكن أين العالم الرباني الذي يستنكر هذا ولو حتى على رقبته؟ ماذا يريد المرء إلا ذكراً خالداً؟ تصور لو أن رجلاً كان في منصبٍ، ثم ذهب إلى بعض صحف المعارضة وأدلى ببيان يستنكر فيه المخالفات الشرعية الموجودة، ويقول لهذا: أنا أقدم استقالتي. فيقدم استقالته ويذهب، ما هي المشكلة؟ لا يفيق الإنسان إلا بعد أن يترك الكرسي، وهذا دليل على أنه ليس بعالم أصلاً، وإنما نقول: عالماً تجوزاً، ولأن هذه هي تسمية العوام له. ولدينا مثال حي جداً: الدكتور زكريا البدوي، أنا لست أنسى له هذا الموقف في مسجد صلاح الدين -عذراً أنا أسمي لأن التسمية مهمة جداً في هذا العصر؛ لأنه لا يكفي أن نقول: ما بال أقوام، لأن الشر صار مستطيراً جداً من كل ناحية، حتى لا يدري المسلم أين الخير وأين منبعه؛ من كثرة الشرر المتطاير- في المنيل، وكان الشيخ عبد الرقيب صقر يجمع التبرعات لأفغانستان، وكانت هناك أشياء كثيرة، فأراد رئيس الدولة أن يصلي في هذا المسجد، وكان الدكتور هو وزير الأوقاف، فأمر بإخراج كل المعونات التي في المخازن -وهي لا تضر- ورماها في حديقة المسجد حتى تلفت أشياء كثيرة وهذا لماذا؟ من أجل أنه إذا مر لا تقع عينه على طبيخ، ولا يشم إلا أصل رائحة المسجد وما في البساط وما في الأدوية وما في الأحذية، وهذا شيء الدولة تتبناه ولا تمنعه: أن ترسل لأفغانستان المعونات، حتى جاءت الجمعة الثانية فقام الشيخ عبد الرقيب يدعو من قلبٍ حار والمسجد يكاد ينخلع من تأمين المصلين. مرت الأيام وأخرج الدكتور من الوزارة، وإذا به يشتعل ناراً ضد الحكومة، ولعل المتابعين في الصحف أدركوا لفحة النار والهجير تخرج من قلب هذا الرجل على الأزهر وعلى شيوخ الأزهر: المنافقون الممالقون إلخ، وأين كنت يوم كذا ويوم كذا؟ لا يفيق الإنسان حتى يترك هذا المنصب، هذا يدل على أنه ليس بعالم أصلاً، فضلاً عن أن يوصف بأنه عالم رباني. إن صلاح هذه الأمة لا يكون إلا بوجود العلماء الربانيين، ولئن كنا نعاني من عدم وجودهم فأنا أدعوكم إلى أن يجند كل واحد منكم ولداً من أولاده لدراسة العلم الشرعي، وحفظ القرآن الكريم، وأن يمشي على سير الصالحين حتى إذا وصل الولد إلى سن الخامسة عشر أجيز بالفتوى. لو ضمنّا في هذه الأمة عشرة أو عشرين من هذا الطراز نأمل إن شاء الله عز وجل أن يصلح الله الحال، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه قائداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم العرض عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والسلام عليكم ورحمة الله.

الأسئلة

الأسئلة

ذكر القدح في الأشخاص يكون حسب المصلحة

ذكر القدح في الأشخاص يكون حسب المصلحة Q هل يجوز أن يسمى الرجل بما فيه من العيب والقدح؟ A تسمية الرجل والإخبار بما فيه كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي المصلحة فيما يقول، فأحياناً يقول: (ما بال أقوم) في موضع، ويصرح في موضع آخر، إذا كان يستلزم النصيحة المحضة والتحذير لا مانع من التصريح، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -والحديث في الصحيحين- لما جاءته فاطمة بنت قيس تخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية بن أبي سفيان وأبي جهم أنهما خطباها فقال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) فإذا كان هذا في شأن امرأة، ولم يخفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلمه في معاوية بن أبي سفيان وفي أبي جهم، فمصلحة الأمة المسلمة لاسيما مع كثرة الشر يستدعي أن يصرح الإنسان بالتحذير من هؤلاء الناس، لاسيما والفتنة تأتينا من طريقهم، وهم يمكنون من الصحف الرسمية وغير الرسمية، ومن وسائل الإعلام، فإذا علم المسلم أن هذا إنما يأتيه من ورائه دخن كان على حذر منه.

الحديث الضعيف لا يفيد العلم

الحديث الضعيف لا يفيد العلم Q هل الحديث الضعيف يفيد العلم؟ A لا يفيد الحديث الضعيف بشيئاً من العلم، لا في فضائل الأعمال ولا في الأحكام الشرعية على المذهب الراجح. مداخلة: ابن حجر ذكر شروطاً للحديث الضعيف في إفادته العلم؟ الجواب: أنت لو قرأت شرح الشروط الثلاثة التي ذكرها الحافظ ابن حجر في العمل بالحديث الضعيف تجد أنه ذهب في النهاية إلى منع العمل بالحديث الضعيف، وأنا أحيلك على مقدمة تمام المنة للشيخ ناصر فقد تكفل بشرح هذه الثلاثة الشروط.

أين نحن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟!

أين نحن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟! إن علو الهمم شيء أساسي في بناء الأمم، فرجل ذو همة يحيي الله به أمة، وإن الناظر إلى حياة الصحابة رضوان الله عليهم ليجد في علو همتهم وعزمهم وقوة إيمانهم ما يدعو للعجب، فلذلك مكن الله لهم في الأرض وأيدهم بنصره، وما صارت الأمة الإسلامية اليوم إلى هذه الدرجة من الضعف والذل وتسلط الأعداء؛ إلا بسبب دناءة الهمم وخستها في جميع مجالات الحياة، فإذا أردنا أن نرفع هذا الذل عن أمتنا؛ فعلينا أن نرجع إلى سير أسلافنا وننشرها في مجتمعاتنا؛ لأن في نشر سير مثل هؤلاء الأبطال دعوة إلى علو الهمة ونشر الفضيلة.

الولاء والبراء

الولاء والبراء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام: إن الولاء والبراء روح الإيمان، وولاؤك لله ورسوله والمؤمنين فريضة، وبراءتك من أعداء الله ورسوله والمؤمنين فريضة أيضاً، فأهل الفساد هم أهل السلطان، وأهل الشوكة في غالب الأزمان يطارودنك ويضطهدونك، وهذه ضريبة معجلة يدفعها أهل الإيمان.

علو الهمة خلق أسلافنا

علو الهمة خلق أسلافنا سأل سائلٌ فقال: كلما قرأت في تراجم أسلافنا في جدهم وعزمهم وقوة إيمانهم، وأردت أن أقلدهم فيما يفعلون أفشل، وأنا صادق في الطلب، لست بمراءٍ، أريد أن أقتفي أثرهم، لكنني أرجع مثل موجٍ منكسرٍ أو جيش منهزم فما هو الفرق؟ ولماذا أرجع منهزماً، وهم يظفرون الجولة بعد الجولة؟! نقول: اعلم -أيها المحب- أن الفارق هو علو الهمة، فعلو الهمة يورثك طول النفس، وقد كان أسلافنا كلهم أصحاب همم عالية. كان الشيخ سعيد الحلبي -وهو قريب العهد منا- يلقي درسه في مسجدٍ بدمشق، فدخل عليه إبراهيم باشا الكبير وكان الشيخ ماداً رجله وهو يلقي الدرس، فدخل إبراهيم باشا فلم يغير الشيخ هيئته، فتألم إبراهيم وكظم غيظه وانصرف، ثم أرسل له بألف ليرة ذهبية، فرد الشيخ الحلبي هذه الدنانير الذهبية ومعها رساله قصيرة يقول فيها: (إن من يمد رجله لا يمد يده). إذاً: مد رجله كان مقصوداً، فهكذا عزتهم بالعلم، ما كانوا يطمحون لدنيا؛ فما فُل شيءٌ من عزمهم ولا كُسِرت شوكتهم. لكن خساسة الهمم غزت كل مجالات حياتنا، ولنضرب لذلك مثلاً: ما نشر في جرائدنا الرسمية وغير الرسمية: مأتم وعويل لماذا؟ لمصرع أشهر زانيةٍ في القرن العشرين! أهلكها الله عز وجل، فقامت الصحف وصدرت الصفحات الأولى عن حياتها ومآثرها. ومن المبكي حقاً: أنه في اليوم الثالث من ربيع الثاني، سنة ألف وأربعمائة وثمانية عشر هجرية، رحل عن دنيانا أحد الأفذاذ الكبار من أساتذتنا، كان نجماً من نجوم الأدب والدفاع عن الإسلام في مصر والعالم كله على مدار ستين عاماً: الشيخ الإمام الكبير العلم -طيب الله ثراه، وسقا جدثه- الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله. هذا الرجل الفذ مات ولم يحرك الإعلام ساكناً، برغم أنه كان نجم الأدب، وكانت له قناةٌ لا تلين، فقد ترك الجامعة، ليرد على أستاذه طه حسين في مزاعمه في الشعر الجاهلي، وكان طه حسين أستاذ محمود شاكر، فترك الجامعة ليرد عليه، ورد عليه وانتصف منه سنة ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، والرجل يكتب ويدافع، ووقف وقفةً بطولية ضد من سموه أستاذ الدين: أحمد صبحي السيد، وعبد العزيز فهمي وغيرهم. هؤلاء أرادوا أن يحولوا اللغة العربية إلى اللغة العامية، وأن يستبدلوا الحروف العربية بالحروف اللاتينية، فوقف ضد هؤلاء وقفة شامخة، وكان كالجبل الأشم، ورحل الشيخ محمود شاكر ولم يحرك الإعلام ساكناً حتى وزارة الثقافة -الذي هو يعتبر رأسها، وهو الذي زانها- لم تنع الرجل، وهو لا يحتاج إليها بطبيعة الحال. وزارة الثقافة لم تدفع له ثمن الكشف، بل وزارة الثقافة في الكويت هي التي دفعت تكاليف الكشف في غرفة الإنعاش وغرفة العناية المركزة لهذا العالم. عقوق مستمر وجحود للكبار. عش مجبراً أو غير مجبر فالخلق مربوطٌ مقدر والخير يهمس بينهم ويقام للسوءات منبر هكذا يقال: (للسوءات منبر)، أما الخير فيهمس به بينهم، فيموت الرجل ويرحل عن دنيانا، ولا أحد يذكره! هكذا فليكن العقوق، هكذا فليكن الجحود ونكران الجميل! لكن الرجل -أحسبه والله حسيبه- ما كان يرجو من هؤلاء مدحاً ولا جزاءً ولا شكوراً، لكن هذا نمط يغزو حياتنا كلها، عقوق لعلمائنا وجحود لفضلهم.

دناءة الهمم

دناءة الهمم امرأة تعترف بالخيانات، ويجري وراءها الذين أخلدوا إلى الأرض، وصرعهم الملك الذي لا يبقى إلا وجهه، وتصرمت عنهم الدنيا والشهرة التي أهلكتهم. كل حيّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خفوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها التاجر قل لي أين ذاك الجبروت كنت مطبوعاً على اللطـ ـف فما هذا الصموت ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت أين أملاك لهم في كل أفق ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك التخوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القو ل ولا حي يقوت عمرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت إنما الدنيا خيالٌ باطلٌ سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]. هذا الشاب الذي صرع خلف المرأة العاهرة أعطاها في حفل العزاء الأخير خاتم من الماس بمليون جنيه، والله أعلم هل خطر بباله أن يؤدي الزكاة المفروضة على المليارات أم لا، إنما البكاء على خساسة الهمم! إن أسلافنا ولدوا وهم ينظرون إلى السماء، فتعلقت أنظارهم بالثريا، وهؤلاء ولدوا وهم ينظرون إلى الأرض، لا يرون إلا شراك النعل وموضع القدم فتعلقت أنظارهم بالثرى: إن الهوان حمار الدار يألفه والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوطٌ برمته وذا يشج فما يأوي له أحد هذا هو الهوان، خساسة الهمم دخلت في حياتنا حتى في اختيار الزوجة، وهذا الكلام له صلةٌ متينة بموضوعنا في جيل التمكين، ومواصفات هذا الجيل التليد. فلو أن رجلاً ذهب إلى الصحراء، واشترى فيها الفدان الذي لا يزرع بمائة ألف، لقال الناس: مخبول ومجنون، يدفع مائة ألف في فدان لا يزرع؟ فهذا الذي ينكره الناس يقعون فيه إذا ذهبوا ليحضروا الحفل الأسطوري الاستفزازي في بلد أغلب أهله جياع، وينشر على صفحات الجرائد: قطعة الجبن بثلاثمائة دولار -يعني: بألف جنيه- قطعة جبن توضع في سندوتش، قطعة جبن بألف جنيه، وفي هذا الحفل يؤتى بمجموعة من البغال المستوردة بمبالغ باهظة تقدر بخمسة عشر ألف دولار؛ لترفع ذيل فستان العروس، وتغطى نوافذ الصالة بثمانية آلاف متر حرير طبيعي، وجعلوا يعددون أشياء لا تدخل تحت الحصر! المهم أن قيمة الحفل الإجمالية بلغت أربعة ملايين جنيه! فيا ترى هذه المرأة المخطوبة كم مهرها؟ وكم مؤخرها؟ وإذا كان الذي أُنفق على ذلك أربعة ملايين، فيا ترى بكم ذهبُ هذه المرأة. أليس هذا لدفع المال الكثير للأراضي البور، هذه المرأة أليست مثل الأرض البور، ما الذي سيخرج من صلبها؟! يدفع ألوفاً مؤلفة بصدد مثل هذا النمط من النساء الذي ورد في الحديث الصحيح أنه مثل الجرب، المرأة الفاسدة مثل الجرب، فهذا رجل يطلب معاشرة امرأة جرباء، ويدفع فيها كل هذا المال، وإنما هي خسة الهمة في الطلب! فإذا كان هذا مقياسه في طلب شريك حياته، فما بالك ببقية مجالات حياته. الذي ميز بين الجيل الأول العظيم وبين الأجيال المتعاقبة -كجيلنا مثلاً- هو علو الهمة، فعلو الهمة يطيل نفسك في البذل، وإذا طال نفسك لا يضرك الأذى في الله، ولا يضرك ما فاتك من الدنيا.

قصة أصحاب الكهف

قصة أصحاب الكهف تدبرت قصة أهل الكهف، وأرسلت طرفي فيها مرةً ومرة، فوقفت على بعض المعاني: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الكهف:13 - 14]. إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر الحشيش في الأرض ما يضيره الرياح والبروق والرعود، ولا يتأثر إلا الشجر العالي الطويل القامة، كذلك المحن لا يهتز لها الذين أخلدوا إلى الأرض؛ إنما تصيب القمم وأصحاب الهمم، تأمل في الآيات: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:13 - 14]، (إذ قاموا) بعد (ربطنا)؛ لأنه لا يقوم ولا يصبر إلا إذا استقام قلبه؛ فلذلك تقدم ذكر الربط على القلب قبل القيام، والمصائب التي تأتي زرافات ووحداناً لا يتحملها إلا قلبٌ جسور، يستوي معه التبر والتراب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما بيتي والسجن إلا واحد) فعلام ما يأسى؟! هذا من أثر الربط على القلب، ومن الذي ربط؟ الله هو الذي ربط، والذي يربطه ويكرمه لا يحله أحد، فتبارك الذي ربط {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] لا انفصام لهذا الربط. {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] والمدهش أن هؤلاء الفتية كانوا أولاد علية القوم! فسبحان الذي يخرج الحي من الميت، أولاد علية القوم، البيوت الراقية، تنحو وتركوا مظاهر الترف، وآوتهم الهمم إلى كهفٍ، لكن: قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرة بعين رضاك تجعل الكافر وليا {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، كهفٌ خشن لكن لا يحسون بذلك، تركوا الترف والدعة انحيازاً إلى جانب الله عز وجل. وقصة أهل الكهف قصةٌ فريدة؛ لأن هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مثل هؤلاء الفارين بدينهم دون الأنبياء، قصص القرآن تدور على الأنبياء؛ لأنهم الأسوة والقدوة والمثال، فضُرب المثل بأصحاب الكهف ليقال للناس: لكم فيهم أسوةٌ. لزوم الكهف معناه: الاعتزال. والعزلة في المجتمع الفاسد لا بد منها. والعزلة قسمان: عزلةٌ بالبدن، وعزلةٌ بالقلب، فإذا استطعت أن تخرج من بلدك إذا استعلى فيها العصيان فاخرج، فإن السلف كانوا يفعلون ذلك: خرج بعض العلماء من بلدٍ يسب فيه عثمان رضي الله عنه، وقال: لا أقعد في بلدٍ يسب فيه عثمان ورحل، ونحن نعلم أن انتقال الإنسان من دار إلى دار كم يكلف! لكن إذا عجزت فلا أقل من اعتزال هؤلاء بقلبك، فلا تشاركهم في اهتماماتهم، ولا تعينهم على باطلهم، ولذ بإخوان الصدق. واعلم أن العزلة لها ضوابط، حتى لا يئول الحال أن تعتزل الناس جميعاً فتأتي بأفكار هدامة مثلما حدث لبعض الجماعات المنحرفة: اعتزل ثم بمضي الزمان كفر الناس، وقال: هؤلاء ليسوا بمسلمين؛ لأنهم رضوا بالتحاكم إلى القوانين الجائرة، فأورثته العزلة تكفير المجتمع فهذه عزلة غير محمودة. فعدم فهم العزلة الشرعية أحد الأسباب المفضية إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء. وإن الجهل بمراتب الأحكام الشرعية له أثر في وهن عقيدة الولاء والبراء، فهذا الجهل الذي نراه -قد أطبق على المسلمين- هو أحد الأسباب الرئيسية في ضعف عقيدة الولاء والبراء. فالرسول عليه الصلاة والسلام يُسب ويُشتم، ويرسم بالصورة المهينة التي تعلمونها جميعاً، ومع ذلك -كما قلت- لم تصدر أي جهة رسمية أو أي صحيفة استنكاراً على ذلك، ولما ماتت الزانية تكلم ثلاثة رؤساء، ونددوا بالمخابرات البريطانية والفرنسية، وقالوا: إن هذا اعتداء على الحرية الشخصية. فهل الحرية الشخصية تعني الفجور؟! تكلم ثلاثة رؤساء، ونشر كلامهم في الجرائد الرسمية. ولكن عندما يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحركون ساكناً. فانظر إلى هذا التباين لتعلم إلى أي مدى ضعف الولاء والبراء عند المسلمين. علو الهمة في الحيوان يجعل له قيمة، فالأسد قالوا: إنه ملك الغابة لماذا؟ لأن الأسد لا يأكل الجيف أبداً، ولا يأكل الطعام البارد على الإطلاق، بخلاف الكلاب، والذباب، فكلما ذبّ الكلب وطرد آب ورجع، وقد جاء في قول القائل: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة دائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماءٍ إذا كان الكلاب ولغن فيه وتأمل في كلب أهل الكهف، كلبٌ تبع الصالحين فنبل ذكره وعلا قدره، وذكر في كتاب الله المجيد! وهذا كلب تعلق بآدمي يموت، فكيف إذا تعلقت بالحي الذي لا يموت؟! كم يكون قدرك، وكم يكون نبلك! فلماذا نرضى بالدون وخساسة الهمم. الولاء والبراء أن تتولى الله ورسوله، وتتبرأ من الكافرين والفاسقين والمنافقين. ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأن أصحاب الولاء والبراء يدفعون الضريبة عاجلة، ولكن الله وعدهم فقال: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

صور من حياة السلف في علو الهمة

صور من حياة السلف في علو الهمة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الإخوة الكرام: إنني إذا ضربت المثل أحياناً ببعض أهل الكفر، لا أقصد الاحتجاج بهذا المثل، إنما أقصد إثارة الهمم؛ فإن المرء إذا رأى الرجل الدون يرقى وهو خامل؛ عز عليه أن يظل في هذا الخمول، وما أورد مثل هذه القصص في موضع الحجة على الإطلاق، ولا أحتج بهؤلاء، ولا أرفع بهم رأساً على الإطلاق، إنما أرفع الرأس بالقرن الأول، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، القرون الثلاثة المفضلة، التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

سعد بن معاذ رضي الله عنه

سعد بن معاذ رضي الله عنه هناك القلوب لا قيمة لها، لأن كعبتها التي تدور حولها الشهوات، بخلاف الجيل الأول، فقلوبهم من القلوب التي تطوف حول العرش. ومن هذه القلوب: قلب الذكي الذاكي سعد بن معاذ رضي الله عنه. سعد بن معاذ كان رجلاً، بشراً من البشر يمشي على الأرض بقدميه، ولما مات اهتز له عرش الرحمن أتصدق؟! يا له من عبد! قيمة هذا العبد: يهتز له عرش الرحمن يوم يموت، له عند الله قدر: (إن العرش اهتز يوم مات سعد) وكان سيداً شريفاً مطاعاً نبيلاً من نبلاء الرجال، محبباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أنس بن النضر رضي الله عنه

أنس بن النضر رضي الله عنه ومن هذه القلوب: قلب أنس بن النضر رضي الله عنه. هذا السيد الذاكي صاحب هذا القلب لما كسرت الربيع بنت النضر ثنية جارةٍ لها وأردوا القصاص أبى عليهم أنس، وقال: (تكسرون ثنية الربيع! لا، والله لا تكسر أبداً، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والثنية: مقدمة من الأسنان- فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص. قال: يا رسول الله! تكسر ثنية الربيع! لا والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً، فليأخذوا الدية. وهم يرفضون ذلك -لا بد من القصاص، لابد أن تكسر سنها- فلا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أنس! كتاب الله القصاص. وهو يقول: لا، والذي بعثك بالحق لا تكسر أبداً؛ حتى رضي القوم بالدية. فحينئذٍ يقول صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) يا له من عبد! كم قدره وكم يساوي أن يقسم على الملك الجليل! أن يقسم عليه أن يفعل كذا! فيبر الله قسمه ويفعل. كم يكون قدر هذا العبد!! ولو أن رجلاً لاذ بأعظم أهل الدنيا، فإنه لا يستطيع فعل شيء، فهذا فرعون الجبار ما ملك لنفسه ضراً ولا نفعاً. وهذه الظاهرة ظاهرة التطوس. مثل أن يكون هناك ديك أو دجاجة فيجعل من نفسه طاووساً ومهما صنع فهو من الدجاج، وهذه الظاهرة تسمى ظاهرة التطوس. لكن الملك الجليل أقسم عليه عبدٌ من عباده فأبره، لأن هذا النمط من البشر قلوبهم تطوف حول العرش، لا يطوف القلب حول العرش إلا بعلو الهمة وصدق الإيمان؛ لذلك ندندن دائماً على علو الهمة. من علو الهمة: ألا تنظر حولك، فلو نظرت حولك لاستوحشت بقلة السالكين، ولذلك الله عز وجل منَّ على أهل الكهف لما قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] الضرب على الأذن نعمة من الله، لا تسمع الناس؛ لأن أكثر المصائب التي تفتك بالعزم سببها الناس، فالضرب على الأذن نعمة جليلة. فلو كنت ماض فصم أذنك إلا عن نداء الحق، واعلم أن كثرة مخالطة الناس تفتك بالعزم، وبالذات في هذا الزمان، الصدع بكلمة الحق مر وعواقبه وخيمة، لكن يبقى بعد ذلك جلالة الذكر عند الله سبحانه وتعالى. اليوم عندما يريدون أن يلمعوا الزعماء القوميين يعملون المسلسلات والأفلام، وأي إنسان ينظر إلى إنسان من هؤلاء يتمنى أن يكون مثله، بالرغم أنه لا وزن له على الإطلاق، لكنهم لمعوه فقط، وهو لا وزن له.

إبراهيم الحربي

إبراهيم الحربي ومن أعلام علو الهمة: أولئك الأفذاذ الذين عاصروا الإمام أحمد والإمام البخاري، وغيرهم من أئمة الإسلام الذين لا تعرفهم الجماهير. هل أحد منكم سمع بـ إبراهيم الحربي؟ إنه الإمام الكبير العلم، صاحب كتاب: (غريب الحديث)، وأحد تلاميذ الإمام أحمد، وأمتنا تمتاز بكثرة العمالقة! وإذا أردت أن تعد العمالقة الشوامخ في أمتنا تكل من كثرة العد. إبراهيم الحربي رحمه الله رجل صاحب همة عالية. قال: (اشتكيت ضرسي عشرين عاماً، فما شعرت بي أمي ولا امرأتي). مريض مريح، المريض في العادة يكون مزعجاً: تجده يتأوه آه آه آه ويجهد أهله، ولا يكف عن الأنين، يوجع قلب الذين من حوله. وهناك مريض لطيف خفيف، يمرض ولا يشعر به أحد، ما أخبارك؟ الحمد لله، أنا بخير، ويلهج بذكر الله والثناء على الله عز وجل. فـ إبراهيم الحربي من هذا النوع، مع أن هناك حديث موضوع، لا أقول عنه حديث، ولكن أقول: إنه كلمة مشهورة وهي حق فعلاً بين الناس: (لا ألم كألم الضرس، ولا وجع كوجع العين) أي إنسان لديه حس حديثي يعرف أن هذا الذي وضعه طبيب، يعني: هذا ليس عليه أنوار النبوة (لا ألم كألم الضرس -انظر إلى هذا الكلام! - ولا وجع كوجع العين) فعلاً: ألم الضرس من أشد الآلام؛ لأن مكانه الرأس، والرأس به السيطرة الكاملة على الجسم، حتى أن الشافعي رحمه الله، لما أراد أن يبين أن وقوف الشريف بباب اللئيم مسألة لا تطاق ولا يقدر عليها؛ جعل يعدد المحالات الممكنة، فذكر منها: وجع الضرس، فقال رحمه الله: لقلعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمسِ كل هذا مستحيل! وقرُّ بردٍّ وقود فرد ودبْغُ جِلدٍ بِغيرِ شَمسِ ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ بربعِ فلسِ كل هذا: أهونُ من وقفةٍ لحرٍّ يرجو نوالاً ببابِ نحسِ وقفة الحر على باب اللئيم أعظم من هذا الذي قاله الشافعي رحمه الله. انظر الهمة العالية في كظم الألم، برغم أنه لو قال: آه، واشتكى ونحو ذلك فهذا مباح، لا شيء فيه، وأن الإنسان إذا عاده عائد فشكا له علته من باب التنفيس، ليس من باب الشكوى، وجاز له ذلك، كما في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (مرضت بمكة مرضاً أشفيت فيه على الموت -والكلام هذا كان في حجة الوداع- قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يعودني. فقلت: يا رسول الله! إنه قد بلغ بي من الألم ما ترى -يشتكي له ويقول له: انظر ما حصل لي، وما وصلت إليه صحتي من التدهور- وعندي مال وأريد أن أوصي به) فذكر المرض ليس على سبيل التشكي والتسخط على قدر الله تبارك وتعالى جائز، ولكن كظمه من باب الندب.

محمد بن واسع

محمد بن واسع ومن علو الهمة أيضاً: ما قاله محمد بن واسع رحمهُ الله، محمد بن واسع هذا يعرفه الله، وقل من الناس من يعرفه، لما تقرأ سيرته تبكي على نفسك، هو صاحب الكلمة الشهيرة: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني)! وكان محمداً من العباد الزهاد. كان يقول: (إني لأعرف الرجل يبكي عشرين سنة، ورأسه بجانب امرأته ما تشعر امرأته به). يعني: يبكي من خشية الله فتدركه العبرة، فلا تشعر امرأته به، ورأسه بجانب رأسها! يا لعلو الهمة! ولذلك حق لمثله أن يكون في زمرة السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). أنت تعرف الدمع، إنما يسوقه قائدان، الدمع لا ينزل إلا إذا ساقهُ قائدان: القائد الأول: قائد الخوف. والقائد الثاني: قائد الشوق. الخائف باكٍ والمشتاق باك، كلاهما يبكي، فالخائف من الله عز وجل يبكي، والمشتاق إلى لقائه يبكي أيضاً، فالذي عمَّر قلبه بذكر الله عز وجل إذ قلبه يطوف حول العرش إنما يبكي: إما فرقاً وإما شوقاً، فلا يزال يبكي أبداً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). ومشكلتنا في هذا الزمن مشكلة همم، ولذلك نحن نحتاج إلى من يبرز، وأنا أهيب بالدعاة وطلاب العلم أن يعقدوا المجالس في سير السلف، وأن يقرءوا سير السلف، ويقفوا عند المثال التربوي في سير هؤلاء العظماء، ويعرضوها على الجماهير.

أبو بكر بن أبي داود

أبو بكر بن أبي داود أبو بكر بن أبي داود خرج يطلب أبا سعيد الأشج، ويكتب عنه الحديث، واشترى ثلاثين مداً باقلاء، وكان معه أرغفة فإذا أراد أن يأكل ذهب شطر الفرات، فينقع الرغيف في الماء ثم يأكل والله المستعان! وفي هذا قصة طريفة وهي تعرف برغيف أبي نوح، والشاعر يقول: يجوع ضيف أبي نو حٍ بكرةً وعشية فجاع بطني حتى وددت طعم المنية وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية الرغيف هذا مصنوع على حجر الطن وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية فقمت بالفأس كيما أدق منه شظية أي: يأكل، ولا يأتي باللقمة إلا بالفأس، فقام يأكل لقمة فثلم الفأس، طارت قطعة من الفأس، تثلم الفأس وانطاع مثل سهم الرمية خرجت اللقمة هذه كالقذيفة فشج رأسي ثلاثاً ودق مني ثنية أي: شج رأسه وكسر أسنانه، فهذا هو رغيف أبي نوح، أشهر من أبي نوح، وهو رغيف خالد الذكر! قلنا: إن ابن أبي داود خرج لطلب الحديث وكان معه أرغفة، فإذا أراد أن يأكل ذهب إلى شط الفرات فينقع الرغيف ساعة، ثم يأكل ويمضغ أربع حبات فول، وينطلق إلى أبي سعيد الأشج يطلب الحديث، فنفذ زاده، ولكنه كتب عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث. الله أكبر! ما هذه الهمم!! أبو بكر بن أبي داود هل تعلمون من أبوه؟ أبو داود صاحب السنن الشهيرة، وأحد الكتب الستة، والكتب الستة هي: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة. الصحيحان: هما البخاري ومسلم. السنن الأربعة: أول هذه السنن مرتبة عند أهل العلم: سنن أبي داود؛ للثناء والذكر، وحسن التبويب.

جليبيب رضي الله عنه

جليبيب رضي الله عنه أيها المسلمون: هل أحدٌ منكم يعرف جليبيباً؟ يعز علي أن يكون أغلب المسلمين لا يعرف من هو جليبيب!. روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوةً مع أصحابه، وبعد أن انقضت الغزوة، قال: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: نعم. نفقد فلاناً وفلاناً. ثم قال: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: نعم. نفقد فلاناً وفلاناً. ثم قال لهم: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا. قال: ولكني أفقد جليبيباً فالْتَمِسُوه في القتلى، فالتَمَسُوه فإذا هو قد قتل سبعة وقتلوه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف عليه وقال: قتل سبعةً وقتلوه، هذا مني وأنا منه (سبع مرات)) وكما ورد في صحيح ابن حبان، سبع مرات وهو يقول: (هذا مني وأنا منه)، هذا جليبيب من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منه، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! لكن في زمان الضعف ينبغي أن نظهر هؤلاء الذين يملكون الإعلام في العالم، وهم اليهود، والصحافة الضعيفة في البلاد التابعة لليهود تكون بوقاً وظلاً للصحافة القوية، فإعلام المسلمين إعلام يهودي يسير على نفس الخطة، والمهم -عندهم- رواج الصحيفة، لا يهم ما الذي ينشر فيها، فكل يومٍ يلمع جناة وشذاذ. وحتى في احتفالاتهم البدعية المنكرة يأتون بشخصيات فاسدة كما حدث في المعهد النموذجي لمدينة نصر -المعهد الأزهري- في يوم عيد الأم، والذي يحز في النفس أن يحتفل بها في المعاهد الأزهرية، في هذا اليوم أتوا بالأم المثالية في المعهد الأزهري، الأم المثالية، أما وجدوا أُماً محترمةً في هذا المجتمع يقدمونها للبنات والشباب إلا مثل هذه؟! أنا أذكر هذه النماذج لتحس بمعنى الغربة، فإلى متى هذا اللهو واللعب؟! وإلى متى هذا التغافل الذي نعيشه في بيوتنا وطوفان الفساد الكاسح يعلو أسرنا ومجتمعاتنا. إننا نحتاج إلى إظهار أمثال جليبيب رضي الله عنه، الرجل الذي كان نكرة في قومه؛ حتى أنه كما روى ابن حبان بنفس السند في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ: أريد أن أخطب ابنتك. قال: نعم، ونُعمى عين، فقال صلى الله عليه وسلم: ولكن ليست لي. قال: إذاً: حتى أستشير أمها. فجاء إلى الأم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ابنتك. فقالت: نعم، ونعمى عين، قال لها: لا، ولكن ليس له. قالت: لمن إذاً؟ قال: لـ جليبيب. قالت: لـ جليبيب! لا والله، قد جاءها فلانٌ وفلان، أنزوجها جليبيباً) رجل نكرة، لكنه عند الله معروف، وما يضر العبد أن يكون مجهولاً عند الناس لا يعرف إذا كان الله يعرفه، فمعرفته سبحانه هي التي تنفع العبد، وإذا نسي الله عبداً هلك ولو ذكره العالم أجمع. إن أويس القرني رحمه الله، وقد زكاه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال: (خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس). المهم أن أويس القرني لما جاء إلى عمر بن الخطاب وعرفه عمر، قال له: ادع لي -لأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى أن من قابل أويساً فليطلب منه الدعاء- فقال له: أنت أولى أن تدعو لي، إنك حديث عهدٍ بسفر صالح، فدعا له، فقال له عمر: إلى أين تتجه؟ قال: إلى مكان كذا. قال عمر: تحب أن أكتب لك إلى عاملها -أكتب له رسالة يهتم بك، وينزلك المنزل السهل الجميل- فقال له: لأن أكون في غبراء الناس أحب إلي. أي: دعني من الشهرة، أنا لو تهت في الناس هذا أحب إلي، فما زال في هذا البلد، ففطن الناس إليه فجاءوا جماعات يطلبون منه الدعوات كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام وأوصى، فلما علم أن الناس فطنوا له؛ هام على وجهه في الأرض! لا يضر أن يجهلك الناس وأن يجهلوا قدرك إذا كان الله عز وجل يعرفك. فـ جليبيب لم يكن له ذكر، ولم يكن معروفاً، فقالت المرأة: ومن جليبيب؟ قد طلبها فلانٌ وفلان، فتكلمت الفتاة المؤمنة من وراء الستر، وقالت: ويحكم! أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اسمعن يا معاشر النساء! ويحكم: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اجعلوا أمري لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجت جليبيباً، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء جميل رقيق جامع، قال: (اللهم صبّ عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً)؛ لكن جليبيباً خرج إلى الغزوة بعد وقتٍ قصير من الزواج ومات، قال ثابت: فما وجدنا امرأةً أنفق منها في المدينة. كل يريد الظفر، كلٌ يريد أن يتزوجها ويحظى بالعيش معها. هكذا إذا أردنا الاحتجاج أورثنا أمثال هؤلاء، فليس عندنا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نكرة على الإطلاق، فكلهم أعلام أفذاذ كالجبال الشامخة، إن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زياد بن أبيه وكان رجلاً غشوماً، فقال له: يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاة الحطمة، فلا تكن منهم) شر الرعاة الحطمة، عندما يكون راعي غنم، وليس عنده حلم، فكلما يصطاد غنمة يضربها، إذاً: سيموت الغنم ولن تبقى معه غنمة، فشر الرعاة الذي يحطم، الغشيم، الذي ليس عنده حلم، فيقول له: (إياك أن تكون منهم) فرد زياد بن أبيه عليه فقال له: اجلس، فإنك من نخالة أصحاب محمد. أي: أنت لست من الأكابر، أنت من الحثالة، من الذين لا يزنون شيئاً، فرد عليه عائد بن عمرو الصحابي الجليل رضي الله عنه فقال له: أوفيهم نخالة؟ لا. والله إنما كانت النخالة في غيرهم وبعدهم -أي: يعرض به- وأما هؤلاء فليس فيهم نخالة على الإطلاق. فهذا النمط هو الذي نحتج به؛ لكن أحياناً نذكر بعض نماذج من الكفرة؛ من باب استثارة الهمم، لما ترى الرجل الدون الحقير، الذي يقاتل للتراب يرتفع وأنت صاحب دعوة الحق، ما زلت ضعيف الهمة فهذا يحفزك. هناك ولاية من ولايات أمريكا اسمها ولاية هيوبتن، وهيوبتن اسم رجل، هذا الرجل خطب في البرلمان الأمريكي خطبة بليغة جداً خطف بها قلوب الأعضاء، وبعد انتهاء الخطبة قال له الرئيس الأمريكي: إن ولاية هيوبتن التابعة لكندا ولاية حيوية وخطيرة، ونحن نريد أن نضمها إلى أمريكا، وقد ابتعثتك لهذه المهمة. فقال له: اعطني مالاً ورجالاً وآتيك بها. قال له: لو كان عندي مالٌ ورجال ما انتدبتك، ولكن تذهب وحدك بلا دولار واحد سوى الرجل الذي سيعبر بك النهر إلى هناك. وذهب الرجل الذي عنده ولاء أرضي، وكان عظيم الخطابة، فالمتهم الذي لبسته كل أسباب الإدانة يخرجه بريئاً منها، ومضى على هذا، وأخذ الصيت العظيم العريق العالي في البلد، بعدما كان له هذا الصيت بدأ يخاطب الناس عن ضرورة الاستقلال عن كندا، واستطاع بعد فترة من الزمن وبعد قناعة السكان أن يحقق طموحه، فاستقل أهل الولاية عن الوطن الأم وانضموا إلى أمريكا، ورجع الرجل إلى بلده بهذه الولاية بغير رصاصة واحدة، فأبقوا اسمه على أشهر مدينة في أمريكا: ولاية النصر؛ تخليداً لذكراه. وهذا الرجل حقير، ليس له قيمة، لكنه استطاع أن يصل إلى مراده بالدجل والباطل، وفعل الذي يريد، ونحن معنا كتاب الحق، الكتاب المهيمن على كل الكتب، الكتاب الوحيد الذي ليس فيه نقطة واحدة ليست منه؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولى حفظه بنفسه، لو وكل حفظ الكتاب إلينا لبدلنا وحرفنا مثل اليهود والنصارى، لكنه حفظه تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] معنا هذا الكتاب العظيم وعجزنا عن استرداد بيت المقدس الذي اغتصبه اليهود. وهذا كله بسبب ضعف الهمم والعزائم. فعلو الهمة هو وقود استمرار في عقيدة الولاء والبراء، الضريبة التي تدفعها كل يوم لولائك لله ورسوله، وبراءتك من أعداء الله ورسوله، ولا يصبر عليها إلا ذو همة. قال بعض العلماء: إن القلوب جوالة: قلب يطوف حول العرش، وقلبٌ يطوف حول الحش. وأغلب أغنياء الأرض قلوبهم من النوع الثاني، قلوبهم تطوف حول الحُش، فكل حياتهم أكل وشرب، ونزه وفسح، وقضاء للشهوات، فهذا الشاب شبابه الذي ذهب ولا قيمة له حتى في الدنيا، وكانت هذه الجنازة المهيبة التي تذكرنا بجنازة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العظمى، والجنازة المهيبة هذه للمفاخرة، وهو لا قيمة له حتى في الدنيا، بل على العكس، خرجت الصحف تتكلم وتقول: أصحاب الدماء الزرقاء كيف لهم أن يمسوا بشرة الأميرات؟ وهم يقولون: إن العرب جرب. ما هي حياة هذا الشاب؟ يقولون: كان هوايته اقتناء النساء مثل الميدالية، كما أنك تحب أن تقتني ميدالية أو كتاباً، وتقتني شيئاً نفيساً، فهذا كانت حياته اقتناء النساء الجميلات، والسهر في الملاهي الليلية. أبوه ثري جداً، رجل في غناء فاحش إلى أبعد الحدود، له الطائرات الخاصة، وكراج كامل، كراج كبير جداً، كل الكراج هذا عبارة عن سيارات حديثة في العالم، سيارات لا يقدر أن يقتنيها أحد، يركب كل سيارة في السنة مرة، وهذا مثل أحذية العندليب الأسمر التي هي إلى حد الآن موجودة ومعروفة، وأنا لا أعلم لماذا احتفظوا بها حتى الآن! وكلما تأتي الذكرى السنوية يقومون بأخذ لقطة للأحذية، ما الأمر؟! الأحذية هينة أو ماذا؟ يقولون لك: الفقيد والمأسوف على شبابه كان يلبس سبعة عشر جزمة! أرأيت عقول هؤلاء الناس؟! فهذا لديه مليارات ما الذي خرج به وقد صار رهين قبر منبوذ في ضاحية من ضواحي لندن؟! ما قيمة دنياه كلها، وما قيمة ما فعل؟ لا قيمة لها على الإطلاق: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]، ما أحسن هذه الآية! تهز القلب هزاً: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى

أهمية نشر سير السلف في المجتمعات

أهمية نشر سير السلف في المجتمعات فنشر سير السلف الصالح في مجتمعات المسلمين عودة إلى الفضيلة، وعودة إلى علو الهمة مرةً أخرى؛ لأن بعض الناس قد يرى أن الناس الكبار بدءاً من الرسل والصحابة مستواهم عال، فنحن أين وهم أين! فيصده هذا البون الشاسع عن التأسي، وأنا لما أتيت بسير العلماء الذين هم أقل من القرون الأولى -أقل من الصحابة في المنزلة- وقد فعلوا مثل هذا، ليتحفز الإنسان على أن يكون أمثال هؤلاء. إذاً: أهم باب في علو الهمة: أن تطالع سير السلف بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم إلى العلماء العاملين. إذاً: علو الهمة لا بد أن تتسلح به وأنت ماضٍ في مسألة الولاء والبراء، وهذه مسألة خطيرة، نعم يطول الكلام بنا فيها، لكن حياتنا كلها مرهونة بها. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

تحطيم الرءوس وضرب الرموز [1]

تحطيم الرءوس وضرب الرموز [1] إن الطعن في الرموز والقيادات أسلوب موجود منذ القدم، فهذا رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول عندما أشاع حادثة الإفك لم يكن يقصد الطعن في عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يقصد الطعن في ذات النبي صلى الله عليه وسلم في المقام الأول، وها هي رايات المنافقين تخفق في عصرنا، فهذه الكتب التي تطبع وتباع على الأرصفة، وفيها من الطعن في رموزنا وأصولنا ما هو إلا امتداد لتلك الرايات القديمة، فالواجب على أمة الإسلام أن تدافع عن الرموز والأصول؛ وذلك بإيجاد الكوادر العلمية القادرة على مجابهة الأعداء، والمحافظة على رموزنا وأصولنا ومبادئنا وثوابتنا.

تلاعب العلمانيين في أصولنا سببه غياب دور العلماء

تلاعب العلمانيين في أصولنا سببه غياب دور العلماء إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! ذكرتُ في الجمعة الماضية تهجمَ بعض الكاتبين الجهلة على أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعواهم أنها مثلوبة، رغم أنها في أصح كتابين بعد كتاب الله عز وجل بإجماع الأمة، وهما صحيحا البخاري ومسلم. وذكرت من جملة الفوائد التي عددتها في حديث الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، وأن من أخطر ما يواجهه المسلم العامي هو اختلاط العالم بشبيه العالم. اختلاط العالم بشبيه العالم معناه: أن يذهب رجل مريض إلى رجل جاهل يظنه طبيباً ولا علم له بالطب فيقتله؛ لأنه جاهل. أرسل إلي بعض المسلمين كتاباً، هو امتداد لهذه الحلقة التي يريد العلمانيون أن يطوقوا المسلمين بها، وهو الطعن في أصول الإسلام، هم لا يستطيعون الآن أن يتكلموا في القرآن؛ لأن القرآن محفوظ لفظه، لكنهم يلعبون في معناه، ويحرفون الكلم عن مواضعه والعلماء يقولون: إن اللفظ المجمل لا ينتفع به إلا بوجود اللفظ المبيِّن: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] هل تستطيع أن تقيم الصلاة دون أن تعرف كيفيتها؟ هل تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة؟ لا. إذاً البيان في السنة كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. فالسنة هي البيان للقرآن، فلو جاز أن يُلعب في هذا البيان ضاع اللفظ القرآني ولم يُنتفع به، وصاحب الكتاب رجل مغمور غير معروف، وهذه من آفات غياب لجنة كبار العلماء، الأطباء لهم نقابة، حتى جمعية الرفق بالحيوان لها نقابة، وبإمكانها أن ترفع قضية على رجل ضرب حماراً، العلماء ليس لهم نقابة ولا رابطة، أين هيئة الأبحاث؟! أين الأزهر؟! تنشر هذه الكتب في مطابع، وتأخذ ترقيماً رسمياً في دار الكتب المصرية، وتجد فيها طعناً على البخاري، وأن البخاري لا يفقه شيئاً لا في الحديث ولا في الفقه! عندما يهملون العلماء الحقيقيين، ويهتمون بهؤلاء الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً ما الذي بقي لنا؟!

الطعن في الرموز هو دأب المنافقين في القديم والحديث

الطعن في الرموز هو دأب المنافقين في القديم والحديث الطعن على الرموز مقصود، ولا زال هذا دأب المنافقين منذ القديم فهذا عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لما أشاع عن عائشة رضي الله عنها حديث الإفك، إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد عائشة، إنما كانت سبباً فقط، أراد أن يقول: إن امرأة النبي صلى الله عليه وسلم زانية: أراد أن يقول هذا وقصده الطعن عليه صلى الله عليه وسلم، ولذلك كاد المسلمون أن يقتتلوا ليس لـ عائشة رضي الله عنها في حد ذاتها، إنما لما ألم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التجريح والطعن؛ وذلك باتهام امرأته بالزنا. ولا تزال حرب إسقاط الرموز حرباً خسيسةً خبيثةً، والآن هي تدور على أشدها، الطعن على صحيح البخاري، وعلى صحيح مسلم بشبهات تنطلي على كثير من الناس فيظن بعضهم أن كل من أمسك قلماً كان عالِماً. فدع عنك الكتابة لست منها ولو سوَّدت وجهك بالمدادِ العالِم لا يكون عالماً إلا بأصول؛ لكن الخطورة على العوام، الذين لا يفرقون بين العالم وشبيه العالم، وشتان بينهما استدلالاً واستنباطاً وفهماً. يُذَكِّرني هذا الخلط بين العالم وبين شبيه العالم بقصة رواها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب: الأغاني فيقول: إن الشاعر ثابت بن جابر المشهور بـ (تأبط شراً) لقيه رجل أحمق من ثقيف يكنى أبا وهب، فقال له أبو وهب: بم ترعب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميماً وضئيلاً؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد. فقال له أبو وهب: أبهذا فقط؟ قال: نعم. فقال له أبو وهب: فهل تبيع لي اسمك؟ فقال له تأبط شراً: بكم؟ قال: بحلتي -وكان يرتدي حلة جديدة جيدة-، وبكنيتي أي: أعطيك حلتي وكنيتي وأنت تبيعني اسمك. فقال له تأبط شراً: اتفقنا، هات الحلة، فأخذ حلته وقال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب. ثم أنفذ تأبط شراً أبياتاً ثلاثة يخاطب فيها زوجة هذا الثقفي الأحمق فقال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تكنى بي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس وبأسي وسورتي؟ وأين له في كل فادحة قلبي هو أخذ اسمي نعم؛ لكن هل أخذ قلبي؟ وهل أخذ جرأة جناني على الأحداث؟ وهل أخذ صبري عندما أخذ اسمي؟ فهكذا شبيه العالم يلبس أزياء العلماء؛ لكنه في الحقيقة ليس عنده شيء من العلم، فليس كل من أمسك قلماً كان عالماً.

شبه العلمانيين حول حديث الرجل الذي أمر أبناءه بحرقه وذره والرد عليها

شبه العلمانيين حول حديث الرجل الذي أمر أبناءه بحرقه وذره والرد عليها لقد قام العلماني وجمع أحاديث مختارة من صحيحي البخاري ومسلم، فهي متفق عليها، والعلماء يقولون: إن الأحاديث المتفق عليها التي رواها البخاري ومسلم هي أقوى الأحاديث، فيأتي فينتقي أقوى هذه الأحاديث ويضعفها، ويقول: هي مكذوبة! ويثير عليها شبهات لا تنطلي ولا تنفق في سوق أهل العلم، منها: الحديث الرائع الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري، وهو مروي أيضاً عن حذيفة بن اليمان، وعن عقبة بن عامر الجهني، وعن معاوية بن حيدة، هؤلاء جميعاً رووا هذه القصة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل فيمن كان قبلكم رزقه الله مالاً وولداً، وفي رواية: أغاثه الله مالاً وولداً لم يعمل خيراً قط -وفي مسند الإمام أحمد- إلا التوحيد) وفي سنن الدارمي من حديث معاوية بن حيدة: (أن هذا الرجل لم يكن يدين بدين، وقد انفرط من عمره زمان، وبقي من عمره شيء، ولم يعمل خيراً قط، وذكر عقبة بن عامر: أنه كان يعمل نباشاً للقبور) بعد ما تدفن الجثة يأتي ويسرق الكفن، وفي الصحيحين: (أن الرجل كان يسيء الظن بعمله، فجمع أولاده وقال لهم: أيُّ أب كنت لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فلن أعطيكم شيئاً من مالي، حتى تعطوني الميثاق أن تفعلوا ما آمركم به، قالوا، وما تأمرنا؟ قال: إنني لم أعمل خيراً قط ولئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. قالو له: ماذا تريد؟ قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قدر عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل صنعوا ما أمرهم أبوهم، قاموا فحرقوه حتى صار فحماً ودقوه وذروا نصفه في البحر، ونصفه في البر، فأمر الله عز وجل البحر أن يرد ما أخذ، وأمر البر أن يرد ما أخذ، وقال له: كن، فكان، فلما وقف بين يديه قال: عبدي ما حملك على أن فعلت ذلك؟ قال: خَشْيَتُك يا رب، قال: أما وقد خشيتني فقد غفرت لك). يا عباد الله! ما هو المعنى المستنكر في هذا الحديث؟! أدعوكم إلى أن تجتهدوا وفيكم من هو أعقل منه، وفيكم الأذكياء، فليقل لي واحد منكم ذكي عاقل فاهم لقن: أي معنى مستنكر في هذا الحديث حتى يقال: إن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم؟! العلة التي أوردها هذا الكاتب المغبون الخاسر، قليل الحظ من الفقه والفهم، هي: أن هذا الحديث فيه أن الرجل أنكر قدرة الله عز وجل، ومنكر القدرة كافر، ونحن نعلم أن الكافر لا يدخل الجنة، هكذا الأصول؛ الرجل إذا مات على الكفر لا يدخل الجنة هكذا أعلمنا ربنا عز وجل، فهذا الحديث يخالف الأصول قرآناً وسنةً في أن الكافر لا يدخل الجنة. العلماء يقولون: لا يجوز الاعتراض على ظاهر النص في بداءة الرأي، لا بد من إعمال النظر، والنظر هل هذا المعنى الذي أورده صحيحاً أم لا؟ وإذا كان لا يعلم فلماذا لم يطالع كتب أهل العلم، وقد قال أهل العلم في ذلك كلاماً في غاية الوضوح؟ أفما وسعه ما وسع أهل العلم جميعاً، وكلهم يصدق هذا الكلام؟! الرجل أسرف على نفسه، كان يعمل نباشاً، وكان مسرفاً في المعاصي، فأدركه الخوف من الله عز وجل، والخوف من الله عز وجل هو من المقامات العلية، لا يحققها إلا المؤمنون. وقال الله -عزَّ وجلَّ-: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فإن كان مؤمناً خاف ربه. وقال ربنا عز وجل عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]. وقال تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. فكلما عظم إيمان العبد عظم خوفه من الله عز وجل، وكيف لا وأنت امتثل واعتبر بكلام عمر رضي الله عنه لما كان يقول: ليت أم عمر كانت عقيماً! ليت أم عمر، لم تلد عمر! ليتني كنت قشة! لو كان لي قلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله يوم ألقاه، يقول هذا عمر؛ فالآمن من عذاب الله عز وجل، والآمن من مكر الله هو الأقل إيماناً، والذي يتحرك في الدنيا وهو آمن! مَن الذي أعطاه صكاً بالأمان؟! كيف لا يخاف على نفسه؟ ولذلك الإمام البخاري أورد هذا الحديث في كتاب الرقاق، قال: باب الخوف من الله، وأبرز هذا الحديث، وقد رواه في ثلاثة مواضع من صحيحه هذا أحدها. فالرجل غلب عليه الخوف من الله، ومعلوم أن الخوف إذا غلب على إنسان فقد جل عقله، وصواب تفكيره، وليس هذا مخصوص بالخوف فقط، بل بالفرح الشديد أيضاً. العبد إذا فرح فرحاً شديداً أذهله، وإذا خاف خوفاً شديداً أذهله. وفي ذلك أحاديث يظهر منها أن هناك إنكاراً لقدرة الله، أو إنكاراً لعلم الله، منها: الحديث الذي رواه مسلم، من حديث محمد بن قيس بن مخرمة، قال: قالت عائشة لي أو لنا: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى قالت: إنه لما كان في ليلتي التي هي لي، جاء ففتح الباب رويداً رويداً ومشى رويداً رويداً، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق، قالت: فانطلقت وراءه فإذا هو ذاهب إلى البقيع، فذهب إلى البقيع فرفع يديه ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً؛ فانحرفت، فأسرع؛ فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر- أي: مشى الهوين- فأحضرت، وسبقته فلما دخل عليها حجرتها إذا أنفاسها تتلاحق وتتردد، فقال: ما لك يا عائش؟ حشيا رابية؟ فقالت له: لا. فقال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم) فما يقولون في عائشة؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فها هي عائشة رضي الله عنها كانت تجهل أن الله أحاط علمه بكل شيء، فقالت: (يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ -أي: مهما كتمنا الله يعلم- قال لها: نعم) فهذا ظاهرٌ أنها تنكر إحاطة الله عز وجل بالعلم، فهل نكفرها، أو يقال: كيف سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولم يقل لها: اغتسلي وانطقي بالشهادتين؟! وأيضاً فقد روى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، رجل يمشي مرة ويكبو مرة، وتدفعه النار مرة، فلما خرج منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة تحتها ماء بارد، ولها ظل ظليل، فقال: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فقال الله عز وجل: عبدي! إن أدنيتك منها تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة فيشرب من مائها ويستظل بظلها، -رجل خارج من النار فوافَقَ ظل شجرة- فرفعت له شجرة هي أحسن من الأولى، فقال الرجل: رب! ادنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيقول له: ألا أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! فيقول: إي وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه منها، ثم تفتح له أبواب الجنان، فيرى المؤمنين يتنعمون ويتضاحكون على سرر متقابلين، فيسكت ما شاء الله له أن يسكت، ثم يقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أوَلم تعاهدني على أن لا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال له: ادخل الجنة -في بعض طرق الحديث:- يدخل الجنة ثم يقول: يا رب! وجدتها ملأى -ليس لي مكان فيها- فيقول له: ادخل الجنة ولك مثل الدنيا، فيقول العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه، ثم يقول: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: من ضحك رب العزة لما قال له العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله عز وجل ويقول: ألا إني لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر -وفي حديث أبي سعيد الخدري - قال: ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها). ما يقال في هذا الإنسان وهو يواجه ربه ويقول: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) وهل يجوز لعبد أن يخاطب ربه بمثل هذا المقال؟ لما غلب عليه الفرح الشديد فقد عقله. ولماذا نذهب بكم إلى الدار الآخرة، فهذا مثال حصل في الدنيا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم بأرض فلاة، كان معه راحلته وطعامه وشرابه، فنام فاستيقظ فلم يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فبحث عنها حتى يئس منها، فقال: أرجع إلى مكاني وأموت، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، قال صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح). إذا غلب الخوف على إنسان ذهب بعقله أو جله، وإذا غلب الفرح على إنسان كان كذلك. فهذا رجل -أي: الذي أمر أبناءه بإحراقه- يائس من النجاة، وهو جاهل بإحاطة الله عز وجل وتمام قدرته؛ لكنه كما في مسند الإمام أحمد جاء بالتوحيد، يعني: أن هذا الرجل مسلم لكنه يجهل كمال قدرة الله عز وجل، والذي بلغ به هذا المبلغ هو شدة خوفه، فقال لأولاده ذلك، فلما علم الله عز وجل أن الرجل خائف، وهو أعلم بعبده إذا كان دعياً أو صادقاً، قال: (ما حملك على أن فعلت ذلك) والعبد أراد أن يفلت من ربه، فابتكر هذه الطريقة فقال لأولده: (احرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في يوم عاص

شبه العلمانيين حول قول سليمان: لأطوفن الليلة على مائة امرأة والرد عليها

شبه العلمانيين حول قول سليمان: لأطوفن الليلة على مائة امرأة والرد عليها الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. من جملة الأحاديث التي أنكرها أيضاً حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيحي البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو قال على تسع وتسعين امرأة، كلهن تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه قل: إن شاء الله، فلم يقلها، فلم تلد واحدة منهن أحداً إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما لو استثنى -يعني لو قال: إن شاء الله- لولدت كلهن فارساً يقاتل في سبيل الله، وكان أدعى لحاجته) فيقول: إن هذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم بالحجج الآتية: أولاً: أنه ليس في مقدور أي إنسان أن يجد طاقةً ووقتاً أن يجامع مائة امرأة في ليلة واحدة، ثم قال: -وكتبها هكذا بالحرف الأسود كنوع من التنبيه- وأرجوا الالتفات إلى هذا؛ لأنه هام. ثانياً: قال: كيف يقول نبي من أنبياء الله هذا اللفظ غير المهذب في وسط الناس، إنني سأفعل كذا وكذا؟ ثالثاً: كيف لنبي من أنبياء الله أن يشترط على الله عز وجل، أن تلد النساء الذكور، يقول: (كلهن تلد فارساً يقاتل)؟ وما أدراه أنه سيخرج فارساً، قد تخرج امرأة؟ فكيف يشترط على الله تبارك وتعالى مثل هذا؟ أرأيتم كيف الاعتراض على حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالجهل؟! يجب على أهل العلم أن يوقفوا هذه المهزلة، الجهات الرسمية الذين يغطون في النوم، الذين يتقاضون مرتبات من الدولة، أين جهات الرقابة في الأزهر؟ تخرج كتب كل يوم وتجد من يقوم بطبعها، بعد أن يأخذوا ترقيمها دولياً من دار الكتب، أين هذه الجهات الرسمية؟ وما عملها؟ وهل يستحقون الراتب الذي يأخذونه إذا كان مثل هذه الكتب تباع على الأرصفة، ويُطْعَن فيها على كتاب الله عز وجل، وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلم الجهلة في دين الله عز وجل؟! متى يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ إذا جلس الأكابر في الزوايا وإن ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أشراط الساعة: التماس العلم عن الأصاغر) والعلماء لهم تأويلات في الأصاغر، فقال بعضهم: الأصاغر هم أهل البدع، وقال بعضهم: الأصاغر يعني في العلم، الذين ليس عندهم علم، وكاتب هذا الكتاب رجل له مسجد يخطب فيه، ويدرس هذا الكتاب وأمثاله على الطلبة، كيف لا يطرد مثل هذا الإنسان؟ وكيف يُعترض على مثل هذا الحديث الجميل بمثل هذه الاعتراضات التافهة؟ أولاً: قوله: هل يستطيع رجل أن يأتي مائة امرأة في ليلة؟ أو هل الليلة يستطيع فيها الرجل أن يجد وقتاً لمجامعة مائة امرأة؟ للرد على هذا أقول: إن القدرة على إتيان النساء من تمام الفحولة، وكمال الرجولة، ولا زال العجز عن إتيان النساء معرة عند بني آدم، وأنبياء الله عز وجل لهم تمام الكمالات، فكيف ينكر على من ملَّكه الله عز وجل رقاب الإنس والجن والطير أن يكون له شيء هو موجود عند بعض بني آدم؟! وآسف أنني أقول مثل هذه البدهيات، يضطرنا مثل هذا أن نقول مثل هذا الكلام لنبين هذا التهافت. ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فلا زال كل شيء في تناقص؛ الزمان والإنسان). قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم ستين ذراعاً فلا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة). تخيل إنساناً طوله ستون ذراعاً في الهواء: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة) كذلك الزمان، كان اليوم أطول. ومن علامات اقتراب الساعة قِصَر اليوم، وفي حديث الدجال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلبث فيكم الدجال أربعين يوماً، يوم كسنة -بعدِّكم-، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر الأيام كأيامكم) فهذا يوم في آخر الزمان كسنة، ومع هذا لو تنزلنا وقلنا: إن اليوم الذي كان في أيام سليمان عليه السلام بقصر يومنا، فإتيان المرأة كم يستغرق من الوقت؟ خمس دقائق؟ عشر دقائق؟ لديك أربع وعشرون ساعة، عشر ساعات يأتي كل عشر نساء في ساعة، أيُعْتَرض على هذا الحديث، بمثل هذا الاعتراض التافه الذي لا قيمة له؟ ثم إن الحديث يقول: (قال سليمان عليه السلام لأطوفن) فهل يرى أحد منكم رزقه الله الذوق والفهم أن لفظة: (لأطوفن) غير مهذبة؟! بل هي من ألطف الكنايات في الدلالة على هذا الفعل، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف:189] فانظر إلى الكناية الجميلة!: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189] فقوله: (لأطوفن) من ألطف الكنايات؛ لكن الرجل مصاب في ذوقه وفهمه، حتى يرى أن مثل هذه الكناية اللطيفة ليس فيها ذوق. ثم هل في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وقال: إني سأفعل كذا وكذا؟ لقد ورد في صحيح البخاري: أن صاحب سليمان الذي راجعه وقال له قل: إن شاء الله! ملك، الرواية تقول: (فقال له الملك) رفيقه وصاحبه الذي كان يجالسه قال له: قل: إن شاء الله، فإما أن يكون سليمان عليه السلام قال هذا الكلام بصوت مرتفع فسمعه الملك، فقال: قل: إن شاء الله، وإما أن يكون كالمحدث نفسه بصوت عالٍ وتراه وكأنه يحدث هذا أو ذاك، فأي عيب فيه؟ وهل ترون في هذا اشتراطاً على الله عز وجل؟ لو قال رجل منا: أنا ما تزوجت إلا ليرزقني الله عز وجل برجالاً يتفقهون في دين الله، ويدفعون عن كتاب الله، أيشترط على الله بهذا؟ أم أن سليمان عليه السلام قالها على سبيل الرجاء والتمني؟ وهل لو قلت: أتمنى أن يرزقني الله بعلماء، تكون قد اشترطت على ربك عز وجل أن يرزقك البنين دون البنات؟ أترون هذا أيها الإخوة الكرام في هذا الحديث الجميل الجليل؟ مع ذلك يعترضون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، وفي الكتاب أكثر من أربعين حديثاً رواه البخاري ومسلم كلها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب زعمه، ومع ذلك فالكتاب يطبع ويباع.

مكانة العلماء والدور العظيم الذي يقومون به

مكانة العلماء والدور العظيم الذي يقومون به قلت لكم في الجمعة الماضية: إن الآيات التي تتكلم عن اليهود رفعت من المناهج المدرسية، والآيات التي تتكلم عن كفر النصارى رفعت من الكتب المدرسية، فما يؤمننا أن يأتي جيل بعد ذلك يرفعها من المصحف؟! ولا زال الزمان يستدير، وكلما مات عالم لا يشغل مكانه عالم مثله في العلم، لا يزال العلم يتناقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرنا بزواله، فقال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن ينتزع العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً -وفي الرواية الأخرى:- حتى إذا لم يَبق عالمٌ، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا، فلا يزال العلم يتناقص إلى يوم القيامة). أيها الإخوة الكرام! أأتإن الدفاع عن أصولنا واجب، لا بقاء لنا على ظهر الأرض إذا لم تبقَ أصولنا قرآنٌ وسنةٌ. ودعوة التقريب الآن بين الشيعة وبين أهل السنة أيضاً هي إحدى الطامات التي تسعى إلى هدم أصولنا، والتشكيك فيها، فهؤلاء الشيعة يضحكون على السذج من أهل السنة بدعوتهم إلى التقريب، بينما تراهم يضربون رموزنا، ويحطمون رءوسنا وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوى التقريب دعوى باطلة؛ لأن الاختلاف معهم في الأصول. فاللعب في الأصول على أشُدِّه، وضرب الرءوس على أشُدِّه. فلا بد أن ينتبه المسلمون إلى ذلك. وأخيراً أؤكد على ضرورة إيجاد الكوادر العلمية، وهذا الأمر مسئولية في أعناق المسلمين. فتفريغ الطاقات والكوادر صار الآن ضرورةً؛ لكي نجابه هذه الهجمات الشرسة على كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ لنا ديننا. اللهم احفظ ديننا. اللهم قاتل الكفرة المارقين الذين يصدون عن سبيلك. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد. اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. ربِّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

تحطيم الرءوس وضرب الرموز [2]

تحطيم الرءوس وضرب الرموز [2] لقد قام العلماء الأوائل بواجبهم في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وفي مقدمة هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، فقد بذلوا أرواحهم وأموالهم من أجله صلى الله عليه وسلم، ثم تلاهم التابعون ومن بعدهم، فهذا يحيى بن معين يوقف حياته كلها في الذب عنه وعن سنته، وكذلك رفيقه الإمام أحمد، فما حصل له من بعض خلفاء بني العباس مشهور، وغيرهم. ولازال العلماء يذبون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن سنته، فسنة الدفع سنة ربانية لا يمكن اختفاؤها، فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وجوب الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. هناك عالم شهير معروف لدى أهل العلم -وإن كان جماهير المسلمين لا يعرفون عنه شيئاً- وهو الإمام أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله، لقد كان يحيى بن معين رفيق الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أحمد معروف عند العوام جميعاً بحكم انتشار مذهبه الفقهي، كان ابن معين رحمه الله أحد الحراس الأشداء الأقوياء لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولََكَمْ أضرَّ بالكذابين والمغفلين وتوجعوا منه كثيراً! ومع ذلك كان لا يفتأ أن يقذف بالسهام إليهم، ولا يعبأ بنكيرهم ولا بكلامهم. قيل له يوماً: ألا تخشى أن يكون هؤلاء الذين تكلمت فيهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال لهم: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبَّ إلي من أن يكون الرسول خصمي، يقول لي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكذِبَ عن سنتي؟ فالدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجب لأسباب منها: السبب الأول والأهم: هو حفظ الدين؛ لأنه إذا جاز لنا أن نترك الأدلة تفلتت منا دليلاً وراء دليل، سيأتي علينا زمان وليس عندنا دليل معتبر لا القرآن ولا السنة؛ فالمنافقون والعلمانيون يبدءون بالسنة، ثم يُثَنُّون بالقرآن، ونحن الآن في زمن الغربة، وقد سمعنا بآذاننا أن بعض رؤساء الدول العربية قال: إنه يريد أن يشطب بعض آيات المصحف، وقد صدرت فتوى في السعودية وفيها: أنه إذا لم يرجع عن هذا الكلام فهو كافر. وهذا الرئيس أصدر كتاباً اسمه: (الكتاب الأخضر)، شكله مثل البطيخة، من داخله أحمر، ومن خارجه أخضر، فهو شيوعي، الزحف الأحمر على ديار المسلمين، يقول: إن هناك آيات لابد أن تشطب منها كلمات، وهي قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] نشطب ماذا منها؟ قال نشطب: ((قُلْ)) [الإخلاص:1] لماذا؟ قال: لأن هذا الكلام كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن ثَمَّ نشطب هذا الكلام الموجه له، فعندما تأتي تقرأ سورة الإخلاص تقول: (هو الله أحد)، انظر إلى جرأة هذا الإنسان وإلى كلامه! هذا في وقتنا الحاضر فما بالك إذا مضت القرون وظهر الخبث أكثر من ذلك، ولم يوجد علماء، ما الذي يمكن أن يجري في بلاد المسلمين؟! فالآن الطعن على السنة واضح جداً، والمقصود به الطعن على كتاب الله عز وجل؛ والمسلمون لا يدرون ما المقصود من طعنهم بالسنة؟! إذاً ترك الأدلة تتفلت منا، مسألة خطيرة جداً! فلا يكون عندنا أي أدلة نستدل بها. فالدفع واجب لهذا. ومن الأسباب: حماية لجناب النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة له.

رد عقلي على من طعن في رواة صحيح البخاري

رد عقلي على من طعن في رواة صحيح البخاري نقول: مَن مكتشف الجاذبية الأرضية؟ يقولون: إسحاق نيوتن. أليس كذلك؟ لو أني قلت الآن: إن هذا غلط، ومن قال: إن إسحاق نيوتن هو مكتشف الجاذبية الأرضية، كل هذا كلام غلط؟! أترى أن الناس سيردون عليَّ أم لا؟ سيردون عليّ، نقول لهم: مَنْ يكون إسحاق نيوتن؟ والذين نقلوا عنه المذهب ماذا يساوون؟ نحن الذين نقول: نشترط في الناقل أن يكون ثقةً عدلاً، لكي نقبل كلامه؛ لأن الفاسق خبره مردود، كما قال الله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فاتفق العلماء: أن من رُمِي بالفسق أو ثبت عليه أن خبره مردود، لا يُقبل لا في الدين ولا في الدنيا، لو جاء رجل أمام القاضي وادعى دعوة، قال له القاضي: أين شهودك؟ فقال: شاهدي فلان. تعال يا فلان! أتشهد أن هذا الرجل له حق؟ قال: نعم. أشهد. وبينما هو يقول: نعم. أشهد، إذ دخل من باب المحكمة رجل، وقال: أيها القاضي! إن هذا الشاهد سب والديه، فإن القاضي مباشرةً يسقط شهادة الشاهد، أو أنه يتعاطى الخمر، أو يشرب حشيشاً، تسقط شهادة هذا الشاهد؛ لماذا؟ لأنه فاسق. وهذا في الدنيا، فالدين من باب أولى. فالذين نقلوا إلينا خبر أن إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية الأرضية، نقول لهم: سموا لنا رجالكم، أخرجوهم لنا، من يكونون؟ ماذا تظنونهم؟ إن أغلبهم كفرة، ومع ذلك هؤلاء العلمانيون يقطعون بنسبة هذا الاكتشاف إلى إسحاق نيوتن. حسناً! رواة صحيح البخاري لماذا طعنتم فيهم، وفي رواياتهم؟ على هذه الروايات وقد نقلها الإمام البخاري عن الثقات العدول إنهم أئمة، فهم نجوم الدجى فلماذا رددتم عليهم رواياتهم؟ بل ما يجري الآن في دنيا الناس يقولون: إن هناك أطباقاً طائرة، يوجد من الناس من يصدق بأن هناك أشياء اسمها: الأطباق الطائرة، ويأتي ناس من الكواكب، لا سيما من كوكب زحل، ويقولون: جاء أناسٌ على طائرة قَدْر هذا، ونزلوا في صحراء كذا، وعملوا كذا، ورآهم شهودُ عَيَانٍ، وليسوا عَيَاناًَ، وعَيَّاناً، وكلاماً من هذا، وبعض الناس يصدق مثل هذا الكلام! إذاً هل تصدقون أنتم هذا الكلام؟ ومن نقل إلينا هذا الكلام؟ إنها المخابرات الأمريكية، أفيهم عدل واحد؟! إن هؤلاء كلهم كفرة. إذاً عندما ينقلون هذا الكلام، لماذا يُصَدَّق نَقْلُ هؤلاء الكذبة، ويُرد على المسلمين العدول نَقْلُهُم؟! فالمسألة -إذَنْ- ليست مسألة تحاكمٍ علميٍ، المسألة مسألة أهواء.

مسألة الدفاع عن الدين وتحمل التبعات

مسألة الدفاع عن الدين وتحمل التبعات إن مسألة الدفع لها تبعات، فلا يضيرنا على الإطلاق أن يغضب هؤلاء، أو أن يشنوا علينا هجمات، أو أن يقول: الحياة الجنسية عند علماء الإسلام وأن يفتعلوا علينا قصة من القصص، وحكاية من الحكايات، وينشرونها في وقت ما: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وإذا خشي أهل العلم وطلابه من هجمات العلمانيين على أعراضهم بسبب الذود عن دين الله عز وجل فلن يحققوا التوحيد: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] ولذلك لا ينبغي أن يتعلق قلب العالم أو طالب العلم إلا بالله وهو يبلغ دعوة الله، فلا تتعلق بالعوام ولا بنصر العوام، فإنك قد تصبح غريباً فريداً فذاً منبوذاً وحدك، مثلما كان الإمام أحمد رحمه الله في فتنته الشهيرة، كان الإمام أحمد يحضر مجلسه مائة ألف محبرة، فلما أُخِذ ليُجْلَد لم يوجد بجانبه رجل واحد، أين ذهب هؤلاء؟! في حين أن الروايات تقول: إن المأمون سمع همهمة على باب القصر وتمتمة، فقال: ما الخطب؟ قيل: العوام يشتكون من قلة اللحم، نعم. اللحم يقل والخبز يقل والزيت يقل ومن الممكن أن يقوم الناس بالتخريب من أجل الدنيا، ويحْرِقوا (الأتوبيسات) والمنشآت العامة، هذه المسألة سهلة جداً؛ لكن أن يؤخذ واحد من أهل العلم، ويُجْلَد أو يُشْنَق أو يُعْدَم أو نحو ذلك فهذه مسألة لا تهم العوام كثيراً. لأجل هذا فإن العالم يجب أن يتعلق قلبه بالله عز وجل. وهذا الرجل الذي برأ نفسه وهو يتكلم عن بعض رواة هذا الحديث، ويقول: إن فلاناً قال: فلانٌ سيئ الحفظ، وفلاناً قال: فلانٌ هذا لا يُحْتَجُّ به، وهم رواة صحيح البخاري.

الضابط لرواية البخاري ومسلم عمن تكلم فيهم

الضابط لرواية البخاري ومسلم عمن تُكلِّم فيهم نحن يا إخواننا نضع ضابطاً عاماً بالنسبة لرواية المتكلَّم فيهم في الصحيحين. الإمام البخاري كان إماماً فذاً، له اختيار واجتهاد، وسيئُ الحفظ ليست كل رواياته ساقطة، وكذلك الثقة الثبت العدل ليست كل رواياته مقبولة. الإمام مالك وهو مَن هو ثقةً وإتقاناً وضبطاً، رد عليه علماء الحديث بعض أحاديثه. سفيان بن عيينة، سفيان الثوري، الزهري، شعبة بن الحجاج، منصور بن المعتمر، منصور بن زاذان، الأعمش هؤلاء الثُّلَّة، ما من واحد من هؤلاء إلا رد العلماء عليهم بعضَ أحاديثهم. كذلك مَن ابتُلِي بسوء حفظ فليس كل حديثه مردوداً. إذاً: إذا أخرج الإمام البخاري ومسلم حديثاً في الصحيحين لراوٍ تَكَلَّم فيه بعض أهل العلم، نقول: لماذا خَرَّج له البخاري وهو مُتَكَلَّمٌ فيه؟ A أن الإمام البخاري إذا تَكَلَّم العلماء في راوٍ فإنه ينتقي من أحاديث هذا الراوي ما لم يُنْكِرْه أهل العلم. هذا إمامٌ ليس سهلاً، فعندما يكون الراوي مُتَكَلَّماً فيه، وليس كلُّ ما روى باطلاً ولا خطأً، فـ البخاري كان ينتقي الأحاديث انتقاءً. فكل حديث أودعه البخاري في صحيحه وفيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه، إنما انتقاه البخاري على عين، فلا يُطْعَنُ عليه بدعوى أن الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه، هذا هو الضابط. عندما تجيء وتقول: الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه فكأنك تقول: إن البخاري مثل بائع اللُّب (الزعقاء) لا يميز، فأنت بهذا أهدرت اختيار البخاري، وألغيت اجتهاده، وهذا لا يجوز؛ لأن المَلَكَة في الاجتهاد في علم الحديث تشكل نصف العلم، فدراسة المصطلح والطرق: النصف، والمَلَكَة: النصف الآخر.

الرد على من زعم أن البخاري ليس عنده دراية بعلم الحديث والفقه

الرد على من زعم أن البخاري ليس عنده دراية بعلم الحديث والفقه إن البخاري مَن هو في العلم والفقه؟! لكن يأتي هذا المغبون الخاسر ويقول لك ماذا؟ بعد أن أورد حديث سليمان عليه السلام وقوله: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة) يقول: ويبدو أن البخاري كان رجلاً طيباً، عنده سذاجة وتلقائية، ولم يكن له كبير دراية بعلم الحديث ولا الفقه. الإمام البخاري ليس عنده دراية بعلم الحديث والفقه؟! البخاري ذروة في الفقه، دعنا من الفقه الآن. أيكون الإمام البخاري ليس له دراية بالحديث؟! إذاً: من الذي له دراية في الدنيا؟! يعني: لو قال رجلٌ: إن سيبويه لا يعرف النحو لحصبه أهل الأرض بالحجارة؛ لِمَا توافر عندهم جميعاً أن سيبويه المُبَرَّز العالِم الكبير الذي وضع أصول النحو، وأنه هو مقدم أهل البصرة، كما أن الكسائي مقدم أهل الكوفة. فعندما يأتي شخص ويقول: إن سيبويه لا يعرف شيئاً في النحو، أو يقول مثلاً: إن عاصم بن بهدلة لا يعرف شيئاً في القراءات، والقراءة المشهورة: حفص عن عاصم، أو يقول: إن نافعاً لم يكن يعرف قراءة القرآن! فانظر! عندما تبلغ الجرأة بهذا الشخص فيقول هذا الكلام! وبعد ذلك يقول: وهذه المحنة الكبرى في أمتنا؛ يأخذون الدين بحسب شهرة الرجال، ولتذهب المبادئ العقلية إلى الجحيم. لذلك -بسبب هذا وغيره- كان علينا عبء الدراسة المستفيضة للسنة حديثاً حديثاً: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. إن الذي يغيظني هو: احتجاجه بالآية، يعني: كلُّ الكلام الذي فات كَوْمٌ، واحتجاجُه بالآية: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] كَوْمٌ آخر. وهذا يذكرني بالرجل الذي يُحكى عنه: أن امرأة ذهبت لتستأجره لقتل قاتل زوجها، فلما أتت إليه قالت له: أنا فقيرة وراعية أيتام! قال لها: نقتله لوجه الله. {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، سيقتله لوجه الله! لا يأخذ منها نقوداً! فانظر! عندما يتكلم عن البخاري الإمامِ العَلَمِ الفرد! وماذا سيحدُث لو تكلموا عن أمثالنا، ممن ليس لهم حكمة البخاري، ولا مكانته ولا عظمته؟! شيء عجيبٌ أن لجنة الفتوى وكبار العلماء ما زالت تغط في نومها حتى الآن! اصحوا من النومَ، أنا عندي ثمانية عشر كتاباً، أشعلت حرباً على السنة في خلال سنتين، وأنا لا أجمع هذا الكتب ولا أشتريها إنما تصلني من مسلمين غيورين على دين الله عز وجل، يقولون: رُد، فأرسل نسخاً منها إلى إخواني وأقول لهم: رُدوا على هذا الخبث المنتشر، والإنسان إذا قرأ الكتاب يجد فيه أشياء غريبة جداً، وفيه أشياء من الشبهات، وفيه أشياء وردت في كتب أهل العلم، وأهل العلم ردوا عليها؛ ولكنهم يغضون الطرف عن رد أهل العلم.

عدم الحكم على المعين حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع

عدم الحكم على المعين حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع ففي الحديث الذي بدأتُ به في خطبة ماضية، حديث الرجل الذي أمر بحرقه بعد موته وذره في الريح، هذا أصل من الأصول التي يعتمد عليها أهل السنة في الرد على الخوارج. فالجماعة الذين يحاربون التطرف هذا حديث يرد على أهل التطرف بحق، وهم الذين يكفِّرون جماهير المسلمين ولا يعذرونهم كمثل الرجل الذي يطوف بقبر فهؤلاء يكفرونه، أما نحن فلا نكفره عيناً، الخوارج وجماعة الهجرة والتكفير والتوقف يكفرونه عيناً، ونحن لا نكفره حتى نقيم عليه الحجة الرسالية التي يكفر بها، وذلك بتوفر الشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو الاعتدال، مع اعتقادنا أن ما أتى به جُرْم من أعظم الجرائم، نحن لا نهون من جرمه؛ ولكن لا نكفره بعينه، وإن كان جرمه عظيماً، وعظَمة جرمه تتضح من حديث أبي واقد الليثي -الذي رواه الترمذي وصححه- قال: (كنا حديث عهد بإسلام وخرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا على شجرة للمشركين وقد علقوا عليها أسيافهم، وكانوا يسمونها: ذات أنواط، فقال بعض المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]). ألا ترون الفرق بين قول الصحابة حديثي العهد بالإسلام، وبين قول أصحاب موسى له؟ الفرق واضح، أصحاب موسى قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وهؤلاء قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) اجعل لنا شجرة، وليس من اتخاذ الشجرة قصد للعبادة، فمن الممكن أن يتخذوا الشجرة ليعلقوا عليها أسيافهم؛ لكن أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم مجرد المشابهة بكلام الكافرين، فالتشبه بالمشركين في الكلام مرفوض فكيف بفعلهم؟! فأنا أسوق هذا الكلام للجماعة الذين يعملون الأناشيد الإسلامية، ويأخذون بعض نغمات أهل الفجور في أغانيهم، فيَنْظِمُون أغاني يزعمون أنها إسلامية، مصحوبةً بدف على أوزان الأغاني الفاجرة، وشخص أخبرني أن ثمة شريطاً نازلاً: لُوْلا لُوْلا لُوْلا لُوْلاكِ لُوْلاكِ لُوْلا لُوْلا إسلامنا ولست أعرف من (لُوْلا) هذه؟! ولا ماذا يقصد بهذا الكلام؟! وقيل: إن ثمة أغنية فاجرة أيضاً على نفس الوزن، يقولون: نحن نستغل شهرة الأغنية والإيقاع، ونعمل أنشودة على وزنها؛ لأن الجماعة الذين تعودوا سماع النغمة المنحرفة هذه سيسمعون النغمة المعدلة، وأذنه لا تنكر الكلام. فانظر إليهم كيف تشبهوا بأهل الفجور! وما الذي ينطبع في أذهان المستمعين وقد حفظوا الأغنية الفاجرة عندما يسمعون الكلمات الجديدة؟! هذا مَثَلُهم كَمَثَل ممثلٍ فاجر كان ليلة أمس في أحضان امرأة لا تحل له في الفراش، واليوم يمثل عمر بن عبد العزيز في مسلسل، البارحة كان رجلاً فاجراً، والآن لابسٌ العمامةَ، ومعه لحية، ويعظ الناس، وتراه يسكب الدمع من عينيه، اتقِ الله يا مفتري! بالأمس في أحضان امرأة لا تحل لك، واليوم تمثل شخصية عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة العادل الورع. ما الذي يمكن أن يخطر ببالك عند مشاهدتك لهذا؟! أليس هذا طعناً على عمر بن عبد العزيز؟! أليس هذا نوعاً من الخلط في ذهن المستمع أو في ذهن المتفرج؟! وهكذا تبهت الشخصيات القوية الكبيرة! وعندما تبهت هذه الشخصيات بمثل هذا فما معنى هذا؟! الله عز وجل كرَّمنا كمسلمين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فنهانا في صلاتنا أن نتشبه بالكلاب، وبالثعالب، وبالديوك، نهى عن نقر الديك، وافتراش الكلب، واحتفاز الثعلب، ونهى عن بروكٍ كبروك البعير، كل هذا إكرام لك ألا تتشبه بحيوان على الإطلاق، فكيف تتشبه بالكافرين؟! مجرد موافقة الكافرين في أقوالهم ممنوعة. تجد بعض الجماعة يقولون: ( Mersi)! (Sorry)! (Pardon)! لماذا يا جماعة؟! أَعَقِمَتْ لغتُنا العربية أن تجد فيها ألفاظاً لطيفة وجميلة؟! أَعَقِمَتْ ألفاظُنا العربية؟! إخوانُنا أصحابُ المحلات الذي يكتبون أسماءً أجنبية على محلاتهم، والله إنني أرى أن أشرفَ منهم الرجل (الدَّغْل) صاحب الفول والطعمية الذي في المنصورة والمحلة، انظر! رغم الاسم العَكِر إلا أنه أشرف؛ لأن (الدَّغْل) لفظ عربي. فنحن نقول لإخواننا الذين عَقِمَت اللغة العربية عندهم أن يجدوا لفظاً عربياً مشرفاً: ارفعوا هذه الأسماء الأجنبية من على المحلات. عدوُّك الذي يقاتلُك والذي يهلكُك ها أنت ترفع عنوانَه، ولغتَه على باب محلك، أولادُك لابسون للفنائل التي عليها العلم الأمريكي، يرفعون العلم الأمريكي على صدورهم، مُعْظَمُ ملابس الأطفال عليها كتابات باللغة الأجنبية، فينطبع في أذهان الأولاد تقديس وتعظيم هذه اللغة. فمجرد المشابهة ممنوعة، فكيف بالفعل؟! وإن كان هناك فرق بين قول أصحاب موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138] وقول الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) إلا أنهم شابهوهم، فقد أنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، وقال: (إنها السنن، قلتم كما قالوا) فنَزَّلهم بمنزلة أصحاب موسى، مع أن قصدهم خلاف ذلك. هذا المعنى الأول. المعنى الثاني: أن هذه المشابهة بالقول مدعاة إلى المشابهة بالفعل. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم أن يعظموا شجرةً، مع أنهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، فكيف بدعاء الناس للأولياء في المقابر، واعتقاد الناس أنهم يضرون وينفعون! ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يكفرهم، ولو كان في هذا تكفير لهم، لأمرهم بالاغتسال ونطق الشهادتين. فهذا يدل على أن من نشأ ببادية أو ببلد ليس فيه علماء ينشرون الكتاب والسنة، فارتكب شيئاً من هذه المخالفات أنه يُعذَر، وليس معنى العذر بالجهل أنه يصير سليماً، لا. بل سيؤاخذ عند الله بتقصيره في طلب العلم، ولكن لا يكفَّر، هذا معنى العذر، لكنه يؤاخذ؛ لأنه قد عرف كل شيء بتفاصيله، فكيف لم يعرف دينه؟! لكن معنى قول أهل السنة: أنه يُعذر بالجهل أي: لا يكفَّر، وليس معناه رفع المؤاخذة بالكلية. وكذلك أيضاً من هذه الأصول: الحديث الشهير: أن معاذ بن جبل لما ذهب إلى الشام وجد الناس يسجدون للأساقفة، فقال: (لِمَ تسجدون لهم؟ قالوا: نسجد لهم تكريماً وتحيةً لهم، فقال: النبيُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بأن أسجدَ له، فلما رجع خرَّ بين يديه ساجداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟! فقلت: يا رسول الله! رأيت الناس يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن أسجد لك، فقال: يا معاذ! إنه لا ينبغي أن يُسْجَدَ إلا لله، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، أي: لِعِظَمِ حقه عليها) ولو كان السجود لغير الله يكْفُر فاعلُه مجرداً لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كفرتَ، اغتسل وانطق بالشهادتين، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل له ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عَذَرَه. وهذا كله داخلٌ تحت هذا الأصل العظيم. فتصوَّر عندما يضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل إذاً: ما الذي يبقى لنا مع هؤلاء المبتدعة، فضلاً عن الأعداء؟! فيا جماعة! لوذوا بعلمائكم، وارجعوا واعرفوا مَن هو العالِم الذي يُرْجَع إليه، فإن علماء الفتوى يقولون: إن العامي مقلد في كل شيء، إلا في اختيار من يقلده، فإنه مجتهد. إذاً: العامي مجتهد في اختيار مَن يقلده، ومن يتبعه في دين الله عز وجل، فإذا كنت مجتهداً فكيف لا تعرف الفرق بين العالِم وبين شبيه العالِم؟! متى يبلغ البنيان يوماً تمامَه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ ولله در من قال متوجعاً: لو كان سهماً واحداً لاتقيتُهُ ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ

الأسئلة

الأسئلة

حكم صيام النصف الأخير من شعبان

حكم صيام النصف الأخير من شعبان Q هذا يسأل عن صيام نصف شعبان؟ A إذا كان الصيام بدأ من نصف شعبان، فهناك حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) مع حديث: (لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين). فالجواب أولاً: إن حديث (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) طعن في صحته الإمام أحمد وغيره، وقال: هذا حديث منكر، وصححه بعض أهل العلم. وعلى التسليم بصحته فنحن نقول ما قال العلماء: إن هذا يكون في حق من ليس له صيام الراتب، فاستأنف الصيام من نصف شعبان. فالذي لم يتعود على صيام الراتب، إذا انتصف شعبان فلا يصُم. أما من كان له صيام راتب فهذا له الحق أن يصوم بعد نصف شعبان بشرط أن لا يصوم قبل رمضان بيوم أو يومين خشية أن يصوم يوم الشك. إذاً: الجمع بين الحديثين أن مَن كان له صيام راتب فله أن يصوم؛ لكن قبل رمضان بيوم أو يومين يقطع الصيام، والذي لم يكن له صيام راتب فإنه لا يصوم بعد النصف من شعبان.

حكم أخذ التعويضات من العراق والكويت

حكم أخذ التعويضات من العراق والكويت Q هناك أسئلة كثيرة عن أموال التعويضات التي تأتي من العراق ومن الكويت، هل هي حلال أم لا؟ A نعم. حلال. خُذْها.

الإسراء والمعراج وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إماما

الإسراء والمعراج وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء إماماً Q هل التقى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في المسجد الأقصى، وصلى إماماً بهم قبل أن يُعْرَج به إلى السماوات العُلى، وإن كان كذلك فلماذا كان يسأل عن كل نبي وعن اسمه عند دخوله إلى كل سماء، وكان الأنبياء يسألون عن اسمه أيضاً؟ A أما مسألة أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم: فهذا ثابت في الخبر. وأما مسألة الصلاة بهم وكيف كانت الصلاة فلم يرد في الأحاديث، أو على حد علمي لا أعلم حديثاً من هذه الأحاديث كيف كانت صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء. أما لماذا كان يسأل؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل بنفسه، وإنما جبريل كان يخبره، ولم يكن ليتقدم بين يدي جبريل عليه السلام بشيء، فهذه أول رحلة له صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف شيئاً، فكان يسكت حتى يعلمه جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم، وليس معنى أنه عُرِّف بهم أنه لا يعرفهم، أعني: أحياناً قد تعرف إنساناً ما ويأتي إنسانٌ فيقول لك: هذا فلان الفلاني، فتقول: نعم. أعرفه، فليس معنى أن فلاناً عرَّفك به أنك لا تعرفه، ولَمْ يرد في الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرفهم؛ لكن هذا داخل في أدبه صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

فضل حفظ القرآن وحقيقته

فضل حفظ القرآن وحقيقته Q أريد أن أعرف فضل حفظ القرآن مع أن الصحابة معظمهم كان لا يحفظ القرآن، ومع العلم أني حفظت جزءاً من القرآن؛ لكن الشيطان يسيطر عليَّ حتى لا أحفظ، أريد أن أعرف فضل الحفظ؟ A أحاديث فضل الحفظ ليس فيها معنى الحفظ المجرد، بل فضل الحفظ مع العمل كما في الحديث: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأْ وارقَ ورتلْ كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) هذا الحديث لا يشمل مَن حَفِظ القرآن وأكل به، أو لعب به، أو اشترى به ثمناً قليلاً بداهةً. فكل الأحاديث في فضل الحفظ: إنما هي في الحفظ مع العمل، وليست في الحفظ المجرد، ولذلك تدرك فضل الصحابة بهذا البيان. صحيحٌ أنه لم يكن أغلبهم يحفظ القرآن؛ لكن كانوا يقفون عند حدود ما أنزل الله عز وجل، كما روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن عثمان، وابن مسعود قالا: كنا إذا حفظنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نعمل بهن، فحفظنا العلم والعمل جميعاً. إذاً: الصحابة كان كل شغلهم أنهم يتعبدون، ويحولون هذا القرآن إلى واقع عملي، إذا وردت: (اتقوا الله) فإنهم يقفون عند الآية ليحققوا التقوى. إذاً: فضيلة الحفظ ليست في الحفظ المجرد العاري عن العمل، ولهذا صدق ابن عمر وصدق حذيفة لما قالا: (لمقام أحدهم في الصف ساعة خير من عمل أحدكم في الدنيا كلها).

حكم قراءة كتب أهل البدع

حكم قراءة كتب أهل البدع Q ما تقولون في كتاب: عرائس المجالس، للثعلبي؟ A كتاب: عرائس المجالس، لا يحل مطالعته، وكذلك كتاب: مكاشفة القلوب، للغزالي أبي حامد لا يحل مطالعته، وكذلك كتاب: إحياء علوم الدين، لا تطالعوه، لماذا؟ لأن فيه خبثاً كثيراً في باب السلوك والتصوف، وخروجاً عن الجادة، وعن مذهب السلف، وفي العقيدة أيضاً فيه خروج عن مذهب السلف، وهو في الفقه ليس له ميزة على بقية الكتب الأخرى، وكثير من العلماء حذروا من مطالعة كتاب: إحياء علوم الدين إلا للعالِم بما فيه. والحقيقة أن أبا حامد الغزالي نَدِم على كثير من هذه الأقوال التي أنفق عمرَه فيها، ومات وصحيح البخاري على صدره، وكان يقول: أنا قليل البضاعة في الحديث، يعني: أن بضاعته ضعيفة في الحديث. وأظن لو أن الله عز وجل مد في عمره لرجع عن كثير مما قال، واعتقد ما يعتقده أهل السنة في مثل هذه المعاني المهمة.

حال حديث: من أحب أن ينظر إلى قصور الجنة

حال حديث: من أحب أن ينظر إلى قصور الجنة Q ما صحة حديث: (من أحب أن ينظر إلى قصور الجنة، فلينظر إلى بيت المقدس، فإنه من قصور الجنة). A هذا حديث ضعيف.

ضابط الاحتجاج بالمصالح المرسلة

ضابط الاحتجاج بالمصالح المرسلة Q احتج بعض الناس بالمصالح المرسلة بالنسبة لوضع علامات في المسجد، ليسوي المصلون صفوفَهم، فما رأيكم في هذا؟ A هذه الفتوى قلتها قبل ذلك مطولة، وذكرتُ أدلتها؛ ولكن لا مانع أن أذكرها بشيء من الاختصار ما أعتقده في هذه الفتوى: وأن مد الخطوط على الأرض كما هو في كثير من المساجد لتسوية الصف، هو في اعتقادي بدعة. المصالح المرسلة من شروط الاحتجاج بها: أن لا يرد نص في الكتاب أو في السنة للدلالة على الفعل، ويشترط أن يكون له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بإمكانه أن يفعل. فنحن نقول: لماذا نضع الخط على الأرض؟ الجواب: لنصف الصفوف. السؤال: صف الصفوف مسئولية مَن؟ مسئولية الإمام. فالإمام قبل أن يصلي ينبغي عليه أن يصف الصفوف، أو يرسل من يصف الصفوف له، مثلما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان يفعل عمر بن الخطاب كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في مطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأرسل رجلاً فصف الصفوف حتى إذا لم يرَ خللاً كبر، فقال: الله أكبر، فما هو إلا ريثما أن قرأ حتى قال: طعنني الكلب أو قال كلمة نحو ذلك، ثم ساق حديث طعنه رضي الله عنه. فصَفُّ الصفوف مسئولية الإمام. السؤال: هل كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يشد خطاً على الأرض، أم أن هذا صعب بالنسبة له؟ سهلٌ بالنسبة له أن يشد خيطاً على الأرض. هل هذا الخط كان له داعٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعم. كان له داعٍ، وهو تسوية الصف. لَمَّا كان له داعٍ وكان باستطاعته أن يفعل ذلك ولم يفعل، دل ذلك على أنه لا يجوز لك أن تفعل، إذ لو كان مشروعاً لفعل. إذاً! هذه البدعة كم لها مِن السنين؟ كم سنة عمرها؟ أقصى مدة: خمس عشرة سنة، يعني: أنها بدعة جديدة ليس لها أثر في كتب الفقهاء، ولم يفتِ بها أحد من الفقهاء المتبوعين، بل هي بدعة حديثة. هذه البدعة كان من آثارها السيئة: أن الإمام يعطي قفاه للمصلين ويقول وقفاه لهم ووجهه إلى القبلة: استووا يرحمكم الله، فضيَّع واجبه الذي كان من المفروض أن يفعله، فهذه البدعة ما نجمت ولا ظهرت إلا بسبب تقصير الأئمة في القيام بواجبهم. إنما لو صح أن نقول: هذه من المصالح المرسلة: إذا لم يكن لها مقتضىً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد نص بمنعها، ثم إن المصالح المرسلة تحقق لنا مصلحة، مثل: تغريم الصُّنَّاع، ومثل: إشارة المرور، كما هو معلوم أن الصُّنَّاع يغلب عليهم الإهمال، فتذهب لتعطيه سيارتك ليفكها، فيضيِّع عليك نصف السيارة، فتشتري قطع الغيار كلها من جديد. فكان ينبغي أن يُغَرَّم الصانع هذا كله، وهذا مشروع، وحقق الشاطبي أنه مشروع، وأفتى به علي بن أبي طالب وغيره، واعتبر أن هذه من باب المصالح المرسلة، لِمَا غلب على هؤلاء الصُّنَّاع من الإهمال. فتضمينُهم هذا يعتبر هو المراد في الشريعة، وحزمٌ ضد فوضى هؤلاء. وكذلك مثل إشارة المرور، هل ثَمَّ نهي عنها؟ هل كان بإمكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يعملها قبل هذا؟ لم يكن هناك مقتضى، وليس هناك نهي عنها، وهي تحقق مصلحة للمسلمين، فهذه تكون داخلة في باب المصالح المرسلة. لكن الخط لا يدخل في هذا بسبيل، لاسيما أننا نشد الخط لعبادة؛ لأن تسوية الصف داخل في باب العبادة. والله أعلم.

حاجة الدعاة إلى طلب العلم الشرعي

حاجة الدعاة إلى طلب العلم الشرعي الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فهو أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون. ولقد ضرب علماؤنا الأولون أروع الأمثلة في طلبهم للعلم، وعلو همتهم، وذكائهم، وحرصهم على أوقاتهم، وتواضعهم عند الطلب، ورحلتهم إليه، وغربتهم للحصول عليه، وثنيهم الركب عند المشايخ، بل وفناء أعمارهم في سبيل تعلم العلم وتعليمه؛ فلذلك يجدر بناء الاقتداء بهم وشحذ الهمم في سبيل هذا العلم.

فضل العلم

فضل العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد. فإن أعظم شيء يورث -باتفاق أهل الأرض- هو العلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم). والمقصود بالعلم: هو العلم الشرعي الذي يقرب العبد من ربه تبارك وتعالى. والإمام البخاري رحمه الله لما ذكر كتاب العلم في صحيحه بدأ بذكر فضل العلم، فقال: (باب العلم قبل القول والعمل) ثم ذكر قوله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، فقدم العلم أولاً، إذ لا يتأتى قبول العمل إلا إذا كان على علم؛ فإن العبد لا يعلم الذي يحبه الله ويرضاه إلا عن طريق الرسل، فلذلك حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طلب العلم، فقال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وفي بعض الأحاديث المرفوعة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، وهذا من أعظم الشرف لطالب العلم، وفي بعض الأحاديث المرفوعة أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الحيتان في البحر لتستغفر لمعلم الناس الخير). فتحصيل العلم من أفضل ما يتنافس فيه المتنافسون، والذي يبحث عن العلم -لاسيما العلم الذي يقرب من الله تبارك وتعالى- رجلٌ عالي الهمة لا يرضى بالدون.

صفات يجب أن يتحلى بها طالب العلم

صفات يجب أن يتحلى بها طالب العلم إن طلب العلم لا يتأتى إلا إذا توفر في طالب العلم صفات جمعها الإمام الشافعي بقوله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ وتلقين أستاذ وطول زمان فهذه الستة الشروط إذا وضعها طالب العلم نصب عينيه وصل إلى مراده، ويكون الخلل في طلبه بقدر الخلل في تركه لصفة من هذه الصفات. وكل إنسان يريد أن يطلب العلم، وكثير منهم لا يصل إلى ذلك؛ لأنه لا يعرف الطرق التي تؤدي إليه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في قصة الذين أنكر عليهم التسبيح بالحصى، لما قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير. قال: (وكم من مريدٍ للخير لا يبلغه). لأنه لم يسلك السبيل التي أمر الله بها.

طول الزمان في أخذ العلم

طول الزمان في أخذ العلم (وتلقين أستاذٍ وطول زمان) فطول الزمان مهم، والإنسان يتعجب من بعض الذين لهم في العلم شهرين أو ثلاثة، ثم يقول لك: أنا علمت هذا بالاستقراء كم طلبت العلم؟! سنتين ثلاث عشر عشرين؟! أي استقراء عند المتأخرين الذين لو سرق السارق فهارس كتبهم لتوقفوا؟ الاستقراء يحتاج إلى طول الوقت في طلب العلم. لذلك أريد أن أنبه الآن على قضية انتشرت انتشار النار في الهشيم، ولها علاقة بطول الزمان: هناك جماعة خرجوا وقالوا: لا يُحتج بالحديث الحسن لغيره، وعلماؤنا المتقدمون ما كانوا يحتجون به. أقول: هذه القضية النقاش فيها قديم ومعروف، ولكن أخطر شيء على هذه القضية هو دخول الصغار فيها، ونحن نعرف أن الحديث الحسن لغيره فيه كلام عند العلماء في مسألة الاحتجاج به وترك الاحتجاج به، ولكن أن يأتي صغير ليس له فهم المحدثين، ولم يمارس هذا العلم، وليس له من الذكاء كمان كان للمتقدمين، ويقول: لا يحتج بالحديث الحسن لغيره؟ لو قرأت كتب المصطلح كلها، وحفظتها عن ظهر قلب؛ لا تصير محدثاً؛ لأن علم الحديث علم صعب، كما قال الذهبي: علم صرف، لا يسلم قياده لأحد، يحتاج إلى عمر طويل، ولابد من الذوق والملكة، وهذه لا تكون إلا بطول العمر، وانظر إلى العلماء في آخر أيامهم، وانظر إليهم في أوائل أيامهم ترى أن هناك فرقاً حتى في تنزيل الفتوى على مقتضى حال المخاطب، وما استفاد هذا إلا بطول العمر والزمان. فهذه بعض الإشارات للصفات التي ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها. أخي لن تنالَ العلمَ إِلا بستةٍ سأنبيكَ عن تفصيلِها ببيانِ ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ وتلقينُ أستاذٍ وطولُ زمانِ نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

الأخذ عن المشايخ وعدم الاقتصار على الكتب

الأخذ عن المشايخ وعدم الاقتصار على الكتب (وتلقين أستاذ) مسألة الطلب، والأخذ عن المشايخ مهمة جداً؛ لأن الاقتصار على الأخذ من الكتب ضرره أكثر من نفعه، والأخذ من المشايخ يعطيك ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: أنه يقصر لك العمر. الفائدة الثانية: أنه يسدد لك الفهم. الفائدة الثالثة: أنه يعطيك الأدب. (يقصر لك العمر) الكتاب يمكنك أن تقرأه في شهر، والشيخ قد يلخصه لك في درس واحد أو في درسين، فالإمام القرافي في بداية كتابه (الفروق) أول فرق بدأ به: الفرق بين الشاهد والراوي، قال: وإنما ابتدأت بهذا الفرق لأنني ظللت ثمان سنوات أسأل عنه كل من ألقاه من أهل العلم، فما شفاني أحد. كان له عشرات المشايخ، حتى وقف على كتاب (البرهان للجويني) فوجد فيه العبارة التي يريدها. فتقصير العمر بأن الشيخ يلخص لك الكتب. (تسديد الفهم): كانوا قديماً يكتبون، وكان الناسخ من العلماء، أما الآن فنسأل الله تبارك وتعالى السلامة، فتجار الحشيش أصبحوا أصحاب المطابع، وبسبب ذلك يخرج الكتاب وهو مليء بالتصحيفات، وقل أن تجد صفحة إلا وفيها عشرات التصحيفات، والتصحيف أكبر جناية على العلوم، كانوا يقولون: (لا تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي). وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله قصةً عجيبة: ذكر أن رجلاً كان يحفظ القرآن وحده، ولم يتلقاه عن شيخ، وأنتم تعلمون أن الخط قديماً كان ليس فيه إعجام، أي: النقط لم تكن موجودة. فهذا الرجل ليس له مشايخ في القرآن فكان يحفظ لوحده، ومن ضمن ما حفظ سورة الفاتحة، وحفظ منها آية خطأ، وهو إمام ويقرأ بالناس، فزارهم ذات يومٍ عالمٍ، فاستضافه الإمام وقال له: عندي بعض الأسئلة في القرآن، قال: في أي سورة؟ وظن أنه سيقول له: في البقرة، فقال: في الفاتحة (إياك نعبد وإياك تسعين أو ستين؟) و (نستعين) إذا كانت غير منقوطة فيمكن أن تكون (تسعين) أو (ستين) ثم رد على نفسه بسرعة قبل أن يرد الرجل عليه وقال: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط! ومثال آخر: وهذا الموقف حدث في السنوات الماضية، رجل كان يقرأ: ((إلهكم التكاثر)) قال له الشيخ: يا ابني ((ألهاكم)) قال: بل ((إلهكم)) وهي مكتوبة في المصحف ((ألهكم))، قال له: ((ألهاكم)) قال له: أنحن في البخاري؟ هذا قرآن!! هذا رجل يقرأ من المصحف. وقد سمعت رفيقاً لي في الجامعة يقرأ: (وقيل يا نوح اهبط بسلم) هي (بسلام)، والذي غره أنها (بسلم) لأنه لا يعلم أن الألف الصغيرة هذه تقرأ! وهذا إنسان في الجامعة، غداً سيتخرج أستاذ ولا يعرف كيف يقرأ القرآن الكريم!! إذا كان هذا وقع في القرآن الكريم وقد نقل بالتواتر بنقل الكافة عن الكافة ولا خفاء فيه، فما بالك بكتب الحديث، فلو درس الحديث لكانت جناية على العلم وأهله، وكيف إذا أخذ طالب العلم العلم من الكتب التي دخلها تصحيف كثير؟! مرة بعض المحدثين كانوا ينسخون وكانوا في منتهى الدقة في النسخ، وكان لـ ابن عباس صاحبان: أحدهم: كنيته أبو جمرة، والآخر: كنيته أبو حمزة. فلو أخذنا النقطة من (الزاي) والنقطة من (الجيم) فلن تستطيع أن تفرق بينهما، فكانوا إذا رووا حديثاً عن أبي حمزة يكتبون فوقه (حور عين) لكي يبين لك: أن هذه (ح) وليست (ج)، وكل هذا حتى لا يقع التصحيف. وذات مرة أحد الولاة أرسل للأمير، وقال له: إن المخنثين كثروا في البلد فما الحل؟ فقال الأمير لكاتبه: اكتب له: (احص من عندك من المخنثين). فكتب الكاتب: (اخص من عندك من المخنثين)؛ فدعاهم فخصاهم، وانظر ماذا فعلت هذه النقطة!! وتعلمون أن من القراء السبعة أصحاب القراءات المتواترة حمزة الزيات - حمزة بن حبيب - ولقب (الزيات) التصق به بسبب حكاية تقال عنه أنه قرأ القرآن وحده، فكان يقرأ ((ألم)) ((ذلك الكتاب لا زيت فيه))! فقال له أبوه: قم واطلب العلم على الشيوخ. فبدأ بطلب العلم من ذلك الوقت؛ فلقبوه (بـ الزيات). ووقع هذا قديما مع حرص علماء الحديث على ضبط الكتب، ومع ذلك كان يقع التصحيف، فما بالك الآن؟! تجد مطبعة كبيرة وليس عندها مصحح، وصاحبها على استعداد أن ينفق الملايين في نص الكتاب وتجده يبخل أن يعطي راتباً عالياً لمصحح؛ فلذلك المصححون هربوا من المطابع، فكم من الجناية ستدخل على طالب العلم لو اقتصر على قراءة العلم من الصحف! منذ -حوالي- خمس عشرة سنة كان هناك مسألة من المسائل التي لا يكون المرء سلفياً إلا إذا خاض فيها، وهي: مسألة النزول للسجود هل يكون على الركبتين أو على اليدين، وتذهب إلى أي مكان وتجد كل الشباب يستفتون فيها، فجمعني المجلس مرة برجل، يقول: إن النزول على الركبتين هو الصحيح، وقال لي: إن الحاكم روى في المستدرك عن ابن عمر حديثاً، وقال: إنه يميل إلى قول ابن عمر. قلت: أنا أعرف أن الحاكم يرى تقديم اليدين على الركبتين، وينقل هذا عن كثير من الصحابة والتابعين. قال: لا. قلت له: حسناً هات المستدرك. فأتى بالمستدرك فأخذنا نقرأ وبعد أن أتى بحديث ابن عمر أنه كان ينزل بيديه قبل ركبتيه، قال الحاكم: والقلب إليه أميل. فقال: انظر، هو يقول: الحديث مقلوب. وانظر إلى فهمه للكلام! فـ الحاكم يقول: أنا قلبي يميل إلى تقديم اليدين على الركبتين. لكنه فهمها؛ لأنه متعصب لرأي معين ويريد أن ينتصر له، والصواب: أن يبدأ بركبتيه قبل يديه. إذاً: الأخذ عن الشيوخ يسدد لك الفهم، ويقصر لك العمر، ويرزقك الأدب. وأفضل ما ينتفع به طالب العلم: هو الأدب، أما الذي يقرأ من الصحف فهو من أجرأ الناس على العلماء، وما تجرأ هؤلاء الذين يتكلمون على العلماء ويشتمونهم ولا يعرفون قدرهم؛ لأنهم لم يجالسوا العلماء. وقد كان العلماء قديماً لهم خطة في تأديب التلاميذ، وكانوا يقسون عليهم قسوة لا يكاد يتحملها أحد، وأخص بالذكر من هؤلاء؛ لأنه يكفينا مؤنة ضبط المثال الإمام الأعمش، أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش. فقد روى الخطيب البغدادي في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الأعمش؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فأراد أن يؤدبهم وأن يطردهم من البيت؛ فاشترى له كلباً، أول ما يسمع صوت الأقدام اقتربت من البيت يطلق عليهم الكلب، وكان ممن يذهب إليه شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري فيجرون أمام الكلب! والكلب يظل يجري وراءهم حتى يخرجهم إلى مسافة بعيدة ويرجع. وهكذا، حتى كان ذات يوم اقتربوا من البيت وهم على حذر أن يخرج الكلب، فاقتربوا ولم يخرج الكلب، فهجموا عليه ودخلوا الدار، فلما رآهم بكى. قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: مات الكلب. وجاءه رجلٌ غريب وقال: يا أبا محمد اكتريت هذه الدابة بدينار، ودفعت للرجل نصف دينار، وأريد أن تحدثني حديثاً. قال له: اكترِ بالنصف الآخر وارجع. وأبى أن يحدثه. وذات مرة كان يمشي في جنازة، وكانت الجنازة لا ترفع فيها الأصوات، وكان الأعمش كفيفاً، فأخذ أحد التلاميذ بيده وقال: آخذ بيدك يا أبا محمد، فأخذه وظل ينحرف به ولم يحس الأعمش بالأمر، وظل ينحرف به إلى أن بعد عن الجنازة، والأعمش ساكت مستأمن للرجل، فقال له الرجل: أتدري أين أنت يا أبا محمد؟ قال له: لا. قال: أنت في جبانة كذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً، فلما علم الأعمش أنه لا فائدة قال: اكتب حدثني فلان، حدثني فلان حتى ملأ الألواح، فلما رجع به وكان الأعمش متغيظاً منه، والطالب يعلم ماذا سيفعل به الأعمش إذا دخل البلد، قابله رفيق له فأعطاه الألواح، ومضى حتى أوصله إلى الدار، وقال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد. فأمسك بعنقه وقال: خذوا الألواح منه. قال: قد مضت الألواح يا أبا محمد. قال: كل ما حدثتك فهو كذب -حتى لا ينتفع به- فانظر إلى التلميذ المؤدب ماذا أجاب: أنت أعلم بالله من أن تكذب! وقد ورث هذه الخصلة في الشدة أبو بكر بن عياش. فذات مرة قال له أصحابه: حدثنا بحديث. قال: ولا بحديث. قالوا: حدثنا بنصف حديث. فقال لهم: اختاروا السند أو المتن. فقالوا له: أنت عندنا إسناد. قال لهم: كان إبراهيم يدحرج الدلو. قال الخطيب البغدادي: فانظر إليه ظن عليهم أن يحدثهم بما ينفعهم. وماذا يعني أن إبراهيم كان يدحرج الدلو؟ ماذا يستفيدون منه؟ أبى عليهم. فهل كان هؤلاء العلماء يمنعون العلم عن أهله؟ لا. فـ الأعمش أحاديثه تملأ دواوين الإسلام. بل هذه الطريقة كانت تكسر الشموخ الذي عند طلاب العلم، وبعض طلبة العلم يأتي حلقة الشيخ وقد استحضر نسبه وجاهه وماله، وهذا لا يصلح أن يطلب العلم، ولابد أن يكون عليه سمت طلبة العلم وإلا فإنه لن يفلح. والإمام الشافعي رحمه الله باتفاق العلماء كان أعلم وأعلى كعباً من محمد بن الحسن الشيباني، ويكفي أن الشافعي رحمه الله مجتهد مطلق، ومحمد بن الحسن رحمه الله مجتهد منتسب إلى المذهب، فلما أراد الشافعي أن يحصل علم أهل العراق ذهب يتتلمذ على محمد بن الحسن، ولم يذهب الشافعي إليه وقد وضع في ذهنه أنه الشافعي وأنه أعلم من محمد بن الحسن، وإنما ذهب إليه في سمت التلميذ. فكان يجلس في الحلقة يسمع فتاوى محمد بن الحسن ولا تعجبه، ويرى أن الدليل على خلافها، ولكن يمنعه أدبه أن يواجه الأستاذ بما يكره أمام التلاميذ، فكان محمد بن الحسن

الغربة والرحلة في طلب العلم

الغربة والرحلة في طلب العلم (ذكاءٌ وحرصٌ وافتقارٌ وغربةٌ) الغربة هنا لها معنيان: المعنى الأول ووهو المشهور: هو الرحلة لطلب العلم، أن تغترب وتترك أهلك ودارك لتطلب العلم. وهذه الرحلة من مفاخر العلماء، لاسيما علماء الحديث؛ لأننا لا نعلم من اشتهر بها أكثر من علماء الحديث، ولهم في الرحلة أشياء عجيبة! أنت الآن بين يديك مكتبة ضخمة جداً ولا تعرف منها إلا القليل، وصحيح البخاري -مثلاً- به قرابة ألفين وخمسمائة حديث وتزيد قليلاً بدون المكرر. فكم عانى البخاري في سبيل جمع هذه الأحاديث؟! وكم رحل وكم تعب في تصنيف هذا الكتاب! والواحد منا قد يجلس في ليلة يؤلف رسالة، ويجمع صفحة من هنا وصفحة من هناك، ثم يقول لك: راجعته في مجلسين وأخرج رسالة. والإمام البخاري، الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث صنف صحيحه في سبع عشرة سنة، ومرة دخل بغداد، وكان أهل بغداد ينتقصون الأفاضل، فقال رجل من أهل بغداد: إن البخاري لا يحسن أن يصلي. فسمعه رجل وأخبر الإمام البخاري وقال: إن رجلاً يقول: إنك لا تحسن أن تصلي. فقال البخاري: لو شئت لسردت لك عشرة آلاف حديث في الصلاة قبل أن أقوم من مجلسي هذا. عشرة آلاف حديث في الصلاة يسردها كما يقرأ أحدنا ((قل هو الله أحد)) ومع ذلك صنف كتابه في سبع عشرة سنة، وجمعه من كل الأمصار. الإمام شعبة بن الحجاج رحمه الله له قصة لطيفة جداً في الرحلة إلى طلب العلم، ذكرها الإمام ابن حبان في مقدمة كتابه: (المجروحين)، وذكرها أيضاً الخطيب البغدادي في كتابه (الكفاية) عن أبي الحارث نصر بن حماد، قال: كنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: أبو الحارث الوراق: فخرج شعبة من الدار فلطمني ودخل. فجلست أبكي، قال: وبعد قليل خرج شعبة، وكان مع عبد الله بن إدريس. -ولو أن الشيخ الآن فعل هذا بتلميذه فلطمه فإن التلميذ سيرد الكف مباشرةً- فلما خرج شعبة وجده يبكي، فقال: مازال يبكي؟ فقال عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل. قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، ثم استقبل شعبة الحديث يسوقه وهذا حديث واحد من ألف ألف حديث كان يحفظها شعبة، وشعبة أمير المؤمنين في الحديث! قال: إني سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، هل سمعته من عبد الله بن عطاء؟ وأبا إسحاق السبيعي كان يدلس؛ وكان شعبة شديد النكير على المدلسين، حتى إنه كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أدلس. ولا يتبادر إلى الذهن أنه لو خُيِّر بين التدليس والزنا أنه سيقدم الزنا لا. فهذا على سبيل المبالغة في التنفير من التدليس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور)، فلو ذهب إلى أبي بكر الصديق مثلاً، هل يجوز له أن يشهد؟ لا. وكقوله تبارك وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] مع قوله تبارك وتعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] والمقصود أنه كان شديد الإنكار على المدلسين. وكان يقول: لئن أشرب من بول حمارٍ حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس. وأبو إسحاق من المدلسين، فسأله شعبة هذا Q سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وهذا من أكبر الدلائل على أنه دلس، فقال: مسعر بن كدام -وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي - قال: يا شعبة! عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة. وكان شعبة؟ يسكن في البصرة. قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، قال: فدخلت مكة فأتيت عبد الله بن عطاء؛ فإذا رجلٌ شاب، فقلت له: حديث عقبة بن عامر في الوضوء، سمعته منه؟ قال: لا. حدثني سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال: شعبة فذهبت إلى مالك بن أنس -الإمام مالك - قلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: لم يحج هذا العام. -إذاً هذا سيكلفه رحلة إلى المدينة- قال: فقضيت نسكي وتحللت وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. من عندكم خرج -أي: من البصرة- قال له: من حدثك؟ فقال له: زياد بن مخراق. قال شعبة: حديثٌ مرة مكي، ومرة مدني، ومرة بصري! دمّر عليه، لا أصل له. قال شعبة: فانحدرت إلى البصرة وأنا كثير الشعر، وسخ الثياب، فلما دخلت على زياد بن مخراق، قلت له: حديث الوضوء، فقال: ليس من حاجتك، فقلت لا بد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك ثم تأتي. قال: فذهبت إلى الحمام فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، فقلت: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. حدثني شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب رواه: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر. كم رجلاً سقط من الإسناد؟ سقط سعد بن إبراهيم، وزياد بن مخراق، وشهر بن حوشب، وأبو ريحانة، أربعة سقطوا من الإسناد، وهذا حتى تعلم خطورة التدليس. قال شعبة: حديث صعد ثم نزل، دمّر عليه، لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلي من أهلي ومالي. ونحن الآن قد يكون هناك عالم في الكويت -مثلاً- وأنت تريد مسألة، فيدركك الكسل، ولا ترحل إليه، فهل أحدنا عنده الهمة التي كانت عند شعبة لما سمع حديثاً فيه فضل عظيم: (من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية) فرحل كل هذه الرحلة في سبيل التأكد من هذا الحديث!! ولكن لا يفوتني أن أقول: إن هذا الحديث صح عن عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب في صحيح مسلم. قال ابن الجوزي: إنما البكاء على خساسة الهمم، ليس البكاء على الفقر، فالفقر أبداً لا يفوت صاحب الهمة العالية. والإمام أبو حاتم الرازي -الذي قلامة ظفره تساوي عشرات المنتسبين إلى العلم اليوم- أراد أن يخرج من الري إلى بعض البلدان ليجمع الحديث، ولم يكن معه نفقة فأجّر نفسه عند بعض القوافل، وجد قافلة ذاهبة إلى البلد التي يريد، فأجر نفسه عندها، يغسل لهم الصحون ويقوم عليهم حارساً في الليل، ويقيد لهم الدواب، وهو أبو حاتم الرازي، الذي يبدأ بذكره إذا ذكر علماء الحديث وعلماء الجرح والتعديل، وما أنف من ذلك؛ لأنه سيوصله إلى محبوبه، والإنسان في سبيل الوصول إلى محبوبه يرضى بالذل، ويتجرع الهوان. الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان فقيراً والدنيا تحت قدميه، ومرة أرسل إليه المتوكل بأموال فردها ولم يقبلها، فأرسلها المتوكل إلى ابنه صالح، فلما قبلها صالح أغلق الإمام أحمد الباب الذي بينه وبين ابنه صالح، ولم يكن في بيته دقيق، فذهب إلى صاحبٍ له كان يثق به، فاستعار منه دقيقاً، وقال لامرأته: اخبزيه. وبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فقال: بهذه السرعة! فقالت له: كان فرن صالح موقداً، فخبزت فيه. فأبى أن يأكل الخبز؛ لأنه خبز في فرن صالح الذي قبل جوائز الأمراء، مع أن قبول الجوائز ليست ممنوعة، فـ ابن عمر كان إذا جاءه مال قبله، وقال: أنا لا أسألهم من دنياهم شيئاً ولا أرد رزق الله. ولما ذهب الإمام أحمد إلى عبد الرزاق بن همام في اليمن نفدت النفقة، فقالوا له: خذ هذه الأموال وأرجعها لنا في بغداد، فأبى ذلك وأجر نفسه عند القبائل، فالفقر ما كان يحول دون تحصيل العلم أبداً، وإنما البكاء على خساسة الهمم، ونحن عندنا الآن مراجع لم يحلم بها كبار العلماء. فالشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو لا يخفى عليكم- في حواشيه على المحلى لـ ابن حزم كان يتمنى أن يرى بعينيه مصنف عبد الرزاق، أو مصنف ابن أبي شيبة، ويقول: أين هي؟ وقد كانت بين يدي صغار الطلبة أنذاك. ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، ومصنف ابن أبي شيبة قلما تخلو مكتبة طالب العلم منهما الآن، وكذلك موارد الظمآن في زوائد ابن حبان، ما رآه الشيخ أحمد شاكر. إذاً: الغربة ضرورية لطالب العلم؛ لأن الرجل ما كان يعظم في نفوسهم إلا إذا اغترب ورحل؛ لأنه يأخذ ما عند علماء الأمصار من العلم ويضمه إلى علمه، فيعظم في نفوس الطلبة. وبسبب هذه المسألة نشأ تدليس اسمه (تدليس البلدان والأماكن) بسبب التبجح في ذكر الرحلة، فمثلاً هنا في هذا البلد -أي: في مصر- ربما تجد شارعاً يسمى بشارع دمشق فأقوم أنا وآتي بالشيخ وأجلسه في هذا الشارع: فيحدثني. فأقول: حدثني فلان بدمشق. فأنت أول ما تسمع (دمشق) تظن أني تركت البلد ورحلت وأنا أسافر وإنما هو في شارع دمشق، أو حي اسمه بغداد، فتقول: حدثني فلان

الحرص على الأوقات وعدم تضييعها

الحرص على الأوقات وعدم تضييعها (ذكاءٌ وحرصٌ) من أعظم ما يحرص عليه طالب العلم هو الوقت، فالوقت هو العمر، وطالب العلم لا يعرف المجالس التي تضاع فيها الأوقات بغير فائدة ولا يعرف الجدال العقيم، فهذا تضييع للوقت. ومن علامة حسن التحصيل: الحرص على الوقت، وكان علماؤنا -رحمة الله عليهم- من أحرص الناس على أوقاتهم، وأذكر لكم مثالاً على ذلك: ابن عقيل الحنبلي مؤلف كتاب: (الفنون) وهذا الكتاب في ثمانمائة مجلد، طبع منه مجلدان، ابن رجب الحنبلي في ذيل الطبقات يقول: حدثني رجل أنه رأى منه المجلد كذا بعد الأربعمائة. وابن عقيل هذا كان رجلٌ كالرجال. أي: له حياته الخاصة، وله زوج وأولاد، وكان عالماً في البلد، فكان يدرس الطلاب، ويقضي بين الناس إلخ، ومع ذلك صنف كتاباً يقع في ثمانمائة مجلد، وهذا الكتاب من الكتب المفقودة!! كيف تسنى له أن يكتب كتاباً في ثمانمائة مجلد؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار أكل الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. انظر كيف كان يلاحظ أن هناك تفاوتاً في المضغ، ويقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره. فكان رجلاً لا يضيع وقته حتى في وقت راحته. يقول ابن الجوزي في كلام ما معناه: إن كثيراً من الناس يأتي ليضيع الوقت بحجة أنه مشتاق، ويأتي فيقعد وليس له كلام. فيقول: ودفع الناس فيه إيغار للصدر -لا يستطيع أن يقول للناس: لا تأتوا. إذاً: ماذا يفعل؟ - قال: فأعددت لذلك الوقت حزم الدفاتر، وبري الأقلام. فإذا جاء الناس ينظرون إليه وهو مشغول؛ لأن حزم الدفاتر وبري الأقلام وقطع الورق أمر ضروري، يقول: إنما تركتها لأعملها في حال وجودهم، ويستثمر وقته إذا خلا بنفسه. والإمام الثقة أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، يقول: دخلنا مصر أنا ورفقة لي، فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فكنا في نهارنا ندور على الشيوخ، وفي ليلنا ننسخ، قال: فذهبنا إلى درس بعض المشايخ فوجدناه مريضاً، فقلنا: نأكل. قال: فاشترينا سمكة فلما ذهبنا بها إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر فتركناها وانطلقنا، قال: ولم نستطع أن نشويها فأكلناها نيئة. وهذا الإمام العلم الكبير عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنت أقرأ على أبي وهو قائم، وهو نائم، وهو يمشي، وهو في الخلاء. وقال بعض العلماء: أبصرت الخطيب البغدادي يطالع جزءاً وهو يمشي في الطريق، وكذلك الدارقطني كان كذلك، فما كانوا يضيعون شيئاً من أوقاتهم؛ لأن الوقت هو العمر، ولذلك كان العالم منهم عالم بحق. فإذا تكلم في فنٍ من الفنون تجده بحراً. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الرجل الذي يبهر العقول، تقرأ سيرته فلا تمل، قد كان حريصاً جداً على وقته، وقد بارك الله له في وقته، حتى قال ابن القيم في الوابل الصيب: لقد رأيت منه شيئاً عجيباً، كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة! مع أن الكتابة والتأليف تحتاج إلى استحضار ذهن وترتيب أدلة، وشطب وكتابة، وتقديم وتأخير، أما شيخ الإسلام فقد كان كالسيل الهادر إذا كتب أو ألف، ولم يكن كأحدنا: يبدأ يظلم الغرفة، ثم يستوحي، ويأكل قبلها، ويتناول الشاي وهذه الأشياء تضيع نصف الوقت في الإعداد لهذا الذي سيكتبه. فهذا الإمام العلم كان أصحاب المذاهب يأتون عنده ليستفيدوا في مذاهبهم ما لا يعلمونه واقرأ المناظرة التي كانت بينه وبين ابن المرحل في الحمد والشكر؛ ستستغرب جداً! إذا رأيت طالب علم يضيع أوقاته مع هذا وذاك وفي مجالس لا فائدة منها فاعلم أنه لن يفلح أبداً، حتى يضرب على نفسه حصاراً في مرحلة الطلب. ولا تنشغل في مرحلة الطلب بتحضير الدروس والمحاضرات، فإن العمر -إن شاء الله- طويل، وأهم شيء أن تغتنم أيام الطلب، ثم ستظل تدعو إلى أن تموت، فلا تضيع وقت الطلب في الدعوة أو في التدريس أو في المناظرات حتى تحكم أمرك.

الافتقار وعدم الاستغناء عن الغير

الافتقار وعدم الاستغناء عن الغير (ذكاء وحرصٌ وافتقار) الافتقار معناه: أنك مهما حصّلت من العلم فلا تظن نفسك على شيء، بل تظن أنك محتاج بصفة دائمة إلى غيرك، وأول ما تشعر بالاستغناء عن الغير تكون قد خسرت كثيراً، ولذلك ترى تكبر الناس بعضهم على بعض، واستهانة بعضهم ببعض بالجهل والبغي والعدوان؛ كل هذا بسبب أنهم لم يجربوا هذه الصفة (الافتقار). وقد كان المشايخ يذعنون لتلاميذهم، قال يونس بن عبد الأعلى رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة فاختلفنا، فجاءني إلى بيتي وطرق بابي ودخل، فأمسك بيدي وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟. وهذا الكلام نهديه إلى العشرات الذين تعج بهم الساحة الإسلامية الآن: (يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!) أي: لا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا (100%)؟! ومنذُ متى اتفق الناس؟! فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة اختلفوا، وعندما تنظر في اختلافهم تجده اختلافاً رفيعاً، فالذين إذا اختلفوا تفرقوا يدل ذلك على أنه لم يجمعهم أصل جامع، وإلا فقد تفرقني عنك مسألة وتجمعني بك ألف مسألة!. تعال أيها المختلف معي، وابسط مسائلك جميعاً، وانظر كم مسألة أنا متفق معك فيها، تجدني متفق معك في أكثر المسائل وأغلبها ولا أختلف معك إلا في الشيء القليل. إذاً: فلماذا نختلف؟! الإمام الترمذي روى في سننه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فاعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟! يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم -أي: الماء الساخن-؟ أي: إذا اغتسلت بماءٍ ساخن، فهل يلزمني أن أغتسل بعدها بماءٍ بارد! إذاً: فما فائدة تسخين الماء؟! فقبض أبو هريرة رضي الله عنه كفه بعد أن ملأها حصى وقال: (أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار. يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال). وما علمنا أن أبا هريرة خاصم ابن عباس، مع أن هناك مسائل أخرى اختلفوا فيها، وكذلك عندما منع عمر بن الخطاب أبا هريرة من التحديث لم يحقد عليه. فأولئك كانت تجمعهم أخوة الإيمان، وكل شيء يأتي بعد ذلك فأخوة الإيمان أقوى. لذلك افتقار طالب العلم مسألة مهمة جداً، أن يشعر دائماً أنه لم يصل إلى شيء، وأن يذعن لغيره، وهذا الإمام البخاري، وهو الإمام العلم الكبير، حدث عن تلميذه الإمام الترمذي، حتى إن الترمذي عندما كان يروي هذا الحديث كان يقول: أخذه عني محمد بن إسماعيل كنوع من التبجح والتفاخر أن أستاذه أخذ عنه. وما أجمل ما قاله سفيان الثوري رحمه الله: لا ينبل الرجل -أي: لا يكون نبيلاً- حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه؛ لأن الكتابة عن الإنسان الذي هو تحتك بدرجة العلم أو الفضل نوع من النبل. والافتقار مهم جداً لطالب العلم، وأساسه التواضع وعدم الاعتداد بالنفس.

الذكاء وأهميته في طلب العلم

الذكاء وأهميته في طلب العلم أول هذه الصفات: الذكاء. وهذا شيءٌ بدهي؛ لأن العلم لا يسلم قياده لبليد، والعلم واسع جداً، وليس له قرار وليس له قعر، والشيء الذي يموت الإنسان وهو مدين به الجهل، فقد يموت وهو أغنى الناس، وقد يموت وهو أعظم الناس سلطاناً، ولكن كل إنسان يموت وهو مدين بجهله، فلا يمكن لإنسان أن يصل إلى قعر العلم. الإمام ابن جرير الطبري -الإمام المفكر الكبير صاحب التاريخ المشهور- له مذهب -وإن كان هذا المذهب قد اندثر- وكان يطلق عليه: المذهب الجريري، وهذا اطراد أنه لم يكن شافعياً، لم ينتسب إلى الشافعي، وإنما كان صاحب مذهب مستقل، بلغ من محفوظاته أنه كان يحفظ الألوف المؤلفة من الأحاديث والمتون، حتى قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير؟ فقالوا: في كم ورقة يكون؟ قال لهم: في ثلاثين ألف ورقة. قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ من لدن آدم عليه السلام إلى الآن؟ قالوا: في كم ورقة يكون؟ فقال نحواً مما قال في التفسير. فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم. فأملاه في نحو قدر التفسير. هذا الإمام -مع سعة علمه- لما دخل عليه بعض أصحابه وهو يحتضر، تذكر مسألة في الفرائض، فدعا بصحاف ودواة وقلم ليكتب هذه المسألة، فقال له صاحبه: أفي هذه الحال -أي: وهو يعالج الموت-؟ قال: أموت وأنا عالم بها خير من أن أموت وأنا جاهلٌ بها، وهذا الإمام دونك البحر فاغترف، ومع ذلك يموت وهو يستزيد من العلم. والإمام مالك رحمه الله تعالى -مع خبرته وسعة علمه، وإطباق الجميع على توثيقه والثناء على سعة علمه- سمعه عبد الله بن وهب -كما في سنن البيهقي- يقول: بأنه ليس على الناس أن يخللوا البراجم في الوضوء -البراجم: هي ما بين الأصابع- قال ابن وهب: فلما خف المجلس -وهذا من أدبه- قال: فقلت له: كيف تفتي بذلك وعندنا فيه سنة؟ قال: وما ذاك؟ فقلت: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة وساق سنده إلى المستورد بن شداد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يخلل ما بين الأصابع) فقال مالك رحمه الله: هذا حديث حسن، وما سمعت به إلا الساعة. قال ابن وهب: فسمعته بعد ذلك إذا سئل عن تخليل الأصابع يفتي بذلك الحديث. فهذا الحديث ما عرفه الإمام مالك. إذاً: العلم ليس له قعر، فلا يمكن أن يناله البليد، ومن علامة ذكاء الإنسان أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره. وإني أستغرب عندما يأتي طالب العلم إلى رجل ويقول له: أخبرني بكتاب أبدأ به في الفقه؟ فيقول له: عليك بالمحلى لـ ابن حزم، أو يقول: عليك بنيل الأوطار للشوكاني، أو سبل السلام! وهذه الكتب إنما تعنى بذكر الخلاف، وهذا لا زال مبتدئاً ولا يعرف الراجح من المرجوح حتى تدخله في الخلاف، وعليك أن تصف له كتاباً مختصراً يبدأ بالمسائل المتفق عليها، أما أن يبدأ هذا الرجل الطلب في الكتب التي تعنى بذكر الاختلاف فهو لابد أن يصير إلى حالٍ من هذه الحالات الثلاث: إما أن يسوء ظنه بالعلماء، ويقول في نفسه: لو كان العلماء على حق لما اختلفوا والدليل واحد. أو أن يتخير من الأقوال ما يعجبه، فيكون بهذا أعمل هواه. أو يخرج من الكل. حتى قيل في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قيل: (الرباني) هو الذي يعلم بصغير العلم قبل كبيره. وهذا قول لم يذكر قائله الإمام البخاري، وقول ابن عباس: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]: أي كونوا فقهاء حكماء. قال الإمام البخاري: وقيل: (الرباني): هو الذي يبدأ بتعليم صغار العلم قبل كباره. وصدق من قال: (غذاء الكبار سم الصغار) أي: لو أن رضيعاً أعطيته قطعة من اللحم فإنه سيموت، وكذلك المبتدئ في العلم لو أعطيته مسألة كبيرة وضخمة فإنها تؤذيه. ولذلك يكون من ذكاء طالب العلم أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وأن يبدأ بما يجب عليه عيناً، من معرفة التوحيد حتى يتجنب الشرك، ومن معرفة تصحيح عبادته، ونحو ذلك. ولكنك قد تجد الرجل لا يستطيع أن يجود كتاب الله عز وجل، وأول ما يبدأ يبدأ بمصطلح الحديث أو بأصول الفقه! إذاً: هذا الرجل ليس بذكي، وهذا يهدر كثيراً من وقته، وأول شيء يجب على طالب العلم أن يمتاز به هو الذكاء.

طبقات الناس الأربع

طبقات الناس الأربع جاء مدح العلم وأهله في الكتاب والسنة وذلك تحفيزاً وتشجيعاً للسير في طريق طلب العلم، والانضمام إلى ركب العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ومن بين تلك الأحاديث التي مدحت العلم وأهله حديث: إنما الدنيا لأربعة نفر، فكان صاحب العلم والمال في صدارة الأصناف الأربعة، وبأرفع منزلة، ويليه صاحب العلم فقط، وكان صاحب المال فقط بأخبث المنازل، ويليه الذي ليس عنده مال ولا علم.

الصنف الأول: صاحب العلم والمال

الصنف الأول: صاحب العلم والمال إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. أيها الإخوة الكرام! جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: فرجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل. ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه؛ فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته؛ فهما في الوزر سواء). هذا الحديث قسم الناس إلى طبقات أربع، لا يخرج رجل على الإطلاق من واحدة منها، هناك طبقة أساسية وأخرى تابعة، فالناس في الحقيقة طبقتان رئيسيتان: الطبقة الأولى: هي أفضل المنازل، والطبقة الثانية: هي أخبث المنازل، والرجل الثاني والرابع كلاهما تابع. بأفضل المنازل على الإطلاق، فهو رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فما الذي رفع الرجل الأول؟ إنه العلم، والرجل الثالث: بأخب المنازل لقد آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فما الذي انحط بهذا الرجل؟ إنه الجهل. إذاً الممدوح في هذا الحديث هو العلم وليس المال، لذلك كان الرجل العالم الثاني الفقير بأفضل المنازل أيضاً، وهذا يدلك على أن صاحب المال غير ممدوح إلا إذا انضاف إلى هذا المال علم. لا يشترط أن يكون الغني عالماً، ولو كان عالماً فبها ونعمت، ولو لم يكن عالماً فليتعلق بعالم. إن المال وحده لا يمدح صاحبه بمجرده، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية: القرآن، وفي رواية: العلم- فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) إذاً الرجل الثاني: (رجل آتاه الله مالاً) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما ذكر صاحب المال بعد صاحب العلم؛ لأن المال لا يمدح إلا بعلم؛ ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر صاحب العلم لم يذكر معه شيئاً، قال: (رجل آتاه الله علماً) ولما ذكر صاحب المال قال: (ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) فذكر هذا القيد (في الحق)؛ لأن العبد إذا سلط ماله على هلكته في الباطل كان مذموماً، من أين للرجل الجاهل الغني أن يعلم أن هذا حق أو باطل إلا بعلم؟! فإما أن يكون عالماً أو يتعلق بعالم. إذاً الممدوح الأعظم في هذا الحديث هو العلم، ولله در علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه). لو رميت أي إنسان بالجهل احمر وجه من الغيظ حتى لو كان كذلك، عيره بأي شيء إلا الجهل، هذا مما يدلك على أن العلم ممدوح. ومن شرف العلم أن يخلد ذكر صاحبه عبر القرون، أين الأغنياء أيام الإمام مالك وأيام الإمام أحمد وأيام الإمام البخاري؟ هل لهم ذكر؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98]؟ إنما نحن الآن نذكر هؤلاء الأئمة أكثر من آبائنا وأمهاتنا، وكلما ذكرناهم ترضينا عنهم، هذه بركة العلم، لذلك قدمه الرسول عليه الصلاة والسلام. والعلم ممدوح في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، قال البخاري رحمه الله: قدم العلم على كلمه التوحيد؛ لأن الله عز وجل لا يعرف إلا بالعلم. والعلم بحر لا ساحل له، يرده الناس فكل يأخذ على قدر ما طاقته، كل إنسان معه إناء يغترف من البحر على قدر الإناء الذي معه، هناك إنسان يرد على القرآن فلا يكاد يأخذ منه شيئاً، وهناك رجل يرد فيغترف منه الكثير، لذلك هناك فرق بين الذي يقرأ القرآن وهو عالم به والذي يقرأه هذاً. مثلاً: من أوسع أبواب زيادة الإيمان، باب أسماء الله عز وجل وصفاته، كلما تدبرت هذا الباب كلما ارتقى إيمانك مع كل مرة تتدبر فيها، مثلاً اقرأ قوله عز وجل -وهذه الآية أولى الناس بها هم النساء-: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. الخشوع هو الذل سواءً كان في أهل النار، كما قال الله عز وجل: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، أو في المؤمنين المخبتين قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] خاشعون: أي ذليلون. وقال تعالى: {تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] وكذلك المرأة التي لا تحمل تراها خاشعة ذليلة منكسرة؛ لأن مهنتها الأولى في الحياة أن تلد، تحمل وتضع، هذا بعد عبادة الله عز وجل، إذا لم ترزق المرأة بالحمل فإنها تكون في غاية الذل والخشوع، كالأرض تماماً: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39] فإذا أنزلنا عليها الماء -أي: حملت- اهتزت وربت، ترى البشرى على وجهها، وتحس هذه المرأة وتشعر بطعم الحياة، مثل الأرض تماماً. وهذا مثل المرأة التي قالت لزوجها: مالِ أبي حمزة لا يأتينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذاك بأيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا نخرج ما قد يغرس فينا فالمرأة كالأرض تماماً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] وترى هذا المعنى جلياً واضحاً في أول سورة الحج، أي: الربط ما بين الأرض والمرأة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] هي هذه المرأة والحمل {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6]. فإذا قرأت المرأة هذه الآيات وتدبرتها على هذا النحو؛ ازداد إيمانها {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] أحياها بعد أن كانت تحتضر كل يوم، فأحياها الله عز وجل، وأحيا أملها، وجدد رغبتها في الحياة لما حملت ووضعت. فلما نقرأ القرآن على هذا النحو، تقرأه بقلب شاهد خاشع، فإننا سنخرج بمعان جديدة، وآلة ذلك: العلم؛ لذلك العلم ممدوح في ذاته، فأول رجل ممدوح على وجه الأرض بعد النبيين، وهو هذا الرجل الذي آتاه الله علماً ومالاً. أول بركات العلم أنه يحيي قلبك ويسددك. الرجل الثاني: الذي آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، وقد وصل إلى هذه المنزلة الرفيعة بالعلم. لذلك أحسن اختيار من يتأسى به، فهذه من بركة العلم، إما الرجل الرابع الجاهل الذي لم يحصل الدنيا ولا الآخرة، لا علم ولا مال، لما أراد أن يقلد بسبب جهله اختار أسوء رجل، فمثله كمثل الرجل الذي ورد ذكره في الحديث الضعيف الذي رواه أبو الشيخ في كتاب الأمثال، وأنا أذكره ليس كحديث: (مثل الذي يسمع الحكمة فيأخذ شر ما فيها، كمثل رجل أتى راعي غنم، فقال: يا راعي الغنم! أعطني شاة ناوية -أي: سمينة- فلما رآه الراعي طماعاً، اختار له، فقال له: لا، أريد الأخرى. قال: دونك الغنم، اختر ما شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم). لما وكله إلى اختيار نفسه اختار الكلب، استسمنه فاختاره؛ لأنه وكله إلى اختياره هو. فهذا الرجل الرابع لما أراد أن ينظر إلى من يتأسى اختار أشر رجل، أما صاحب العلم فقد اختار أفضل رجل؛ لذلك ما ضره أن يكون فقيراً؛ فقد رفعه الله بالعلم حتى صار بنيته مع صاحب العلم والمال. الرجل العالم إذا آتاه الله المال وضع المال في موضعه، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه: يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأفضل المنازل) فانظر كيف رتبها، قال: (يصل به رحم

الصنف الثاني: صاحب العلم فقط

الصنف الثاني: صاحب العلم فقط قال في الحديث: (ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو صادق النية -هكذا عند الترمذي - يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله؛ فهو ونيته). (هو ونيته) ترجمة هاتين الكلمتين في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فالنية عبادة مستقلة لا تفتقر إلى غيرها، وكل العبادات تفتقر إلى النية، وانظر إلى الرجل الثاني كيف وصل إلى مرتبة الأول! لتعلم جلالة النية وخطورتها. إنما ضيعنا على أنفسنا كثيراً من العبادات والأعمال المباحات بعدم عقد النية، انظر إلى ما يقول الحديث: (إنما الأعمال بالنيات -يعني: لا عمل إلا بنية- وإنما لكل امرئ ما نوى -ثم ذكر النيتين- فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله) التكرار علامة التعظيم والإكبار؛ هذه هي طبيعة التكرار. والتكرار إما أن يكون للتأسيس أو التوكيد، فهذا تعظيم وتفخيم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله -لم يقل: فهجرته إليهما، إنما قال:- فهجرته إلى الله ورسوله) كقول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] * {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] هذا أعظم من تعيين العقوبة، لو قالوا: جزاؤه من وجد في رحله أن يجلد؛ لكان أقل، إنما: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] يعني الذي يخطر على بالكم افعلوه، إذاً هذا أبلغ للعقوبة من أن يعين عقوبة. وكذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] هذا أعظم من تعيين الأجر كأن يقول: له الجنة، له الفردوس الأعلى، له كذا وكذا لا، طالما وقع أجره على الله، فتخيل أنت كيف يكون الأجر! فهنا تعظيم الهجرة إلى الله ورسوله، بخلاف الشطر الثاني: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) ما قال: فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، إنما أضمر وأجمل، والإجمال تحقير. وتأمل هنا: (فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة) والمرأة من الدنيا، فكان كافياً أن يقول: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه، فأفرد ذكر المرأة للاهتمام بها والإشعار بفتنتها وخطورتها. ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) (أضر: أفعل تفضيل، أعظم فتنة يبتلى بها الرجل المرأة، تجد الرجل الضخم يصير صغيراً جداً أمام المرأة! ربنا سبحانه وتعالى قال هكذا، قال يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] من الصبوة، أي: يصير كالصبي، وكم من أملاك الناس انتقلت إلى النساء في لحظات إقبال الرجل على شهوته، فبينما هو في أوج شهوته تقول له: وقّع، فيوقع على كل شيء، ويعمل أي شيء، وينفذ كل طلباتها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر النساء! ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن!). إذا رأيت الرجل خارج البيت وجلست معه تقول: هذا الرجل لو أن عقله وزع على أمة من المجانين لصاروا عقلاء، لكن هذا العقل الكبير يتوارى أمام المرأة! لذلك كانت فتنة النساء فتنة عظيمة ولا يعصمك منها إلا الله. يوسف عليه السلام نبي عريق النسب، النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن يوسف فقال: (هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) من مثله؟! فلو جاز لإنسان أن يعصم من الدنايا لعراقة نسبه لعصم يوسف عليه السلام، ومع ذلك قال لله عز وجل: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] إنها فتنة عظيمة! لذلك كل المؤتمرات التي تعقد باسم التنمية والبيئة المقصود بها النساء: مؤتمر السكان، مؤتمر الغذاء، مؤتمر الكساء، أي مؤتمر تجد المرأة لها نصف جدول الأعمال في ذلك المؤتمر. مؤتمر السكان كان المقصود به إفساد المرأة، لأنهم خرجوا من المؤتمر بثلاثة أشياء: الشيء الأول: الدعوة إلى الاختلاط في الدراسة. بعض المدارس هنا في القاهرة كانت تفصل بين الجنسين، والآن بدأت تفتح باب الاختلاط بدعوى أن الميزانية انتهت. لذلك نجد الاختلاط من الابتدائي إلى الجامعة، الوالد بجانب البنت، وهذا الاختلاط يكون نتيجته ظهور الفواحش. إن الزنا لا يكون إلا برضا المرأة، تسعمائة وتسعة وتسعين امرأة من الألف تجد المرأة هي المسئولة عن الزنا، وامرأة واحدة من الألف تغتصب، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى لما ذكر الزناة قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]. ممكن البنت تكون متربية في بيئة نظيفة، فحتى مع هذا الاختلاط لا يصل الولد إليها، فقالوا: لابد إذاً من عامل مساعد حتى تتم الفاحشة، ما هو العامل المساعد؟ تجريم الختان!! ظهر التقرير الرسمي في الصحف أنها عادة جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، كأنهم يخاطبون الصم البكم العمي، افتح أي كتاب فقه صغيراً أو كبيراً ففيه الحديث عن سنن الفطرة، تجد الختان مذكوراً، افتح أبواب الطهارات والغسل تجد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) وما زال إلى الآن في الأزهر ومناهجه تدرس الختان، كيف تأتي وتقول: عادة جاهلية؟!! هذا الرجل يتهم خمسة عشر قرناً بمن فيه من المسلمين بارتكاب العادة الجاهلية! إذاً: ما هي الأدلة؟ قال: بنات الرسول عليه الصلاة والسلام لم يختتن. فهل عندك دليل أنهن لم يختتن؟ لا لم يرد دليل. إذاً لم يختتن كيف؟!. أنت يا رجل تدعي دعوى، أين الدليل على أن بنات النبي صلى الله عليه وسلم لم يختتن؟ يعني بنت أبي جهل تختتن وابنة الرسول لا تختتن. وآخر يقول لي: وأنت ما أدراك أن بنت أبي جهل اختتنت؟ أقول لك: إن الختان كان عادة فاشية في العرب، هذا هو الأصل في البيئة العربية، فهل اليهود يختتنون والمسلمون لا يختتنون؟! كان العرب يختتنون، وكان العرب عندهم إذا أراد أحدهم أن يسب الآخر يقول له: يا ابن القلفاء. والقلفاء: هي المرأة التي لم تختتن. والمرأة إذا لم تختتن تكون كثيرة الحنين للرجال، فكأنه لما شتمه قال: يا ابن المرأة الكثيرة الحنين إلى الرجال، أي: غير عفيفة. فإذا كان هذا الخلق فاشياً عند العرب فلماذا بنات الرسول عليه الصلاة والسلام هن اللاتي يستثنين دون نساء العرب؟ انظر كيف يتهم الرسول!! ويهون عليهم أن يرموا بناته بمحاربة الاختتان، من أجل أن يصل إلى قضية! أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً! والراجح في المسألة: وجوب اختتان المرأة وليس استحباب ختان المرأة، ولا يوجد دليل صارف عن الوجوب إلا حديث منكر في مسند الإمام أحمد، ويتضح من لفظ الحديث وسياقه أن عليه صنعة الفقهاء، كأنه فتوى، والرجل المجرب لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: هذا ليس من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، والحديث يقول (الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء) هل هذا شكله حديث؟! وسند الحديث ضعيف، وهو منكر. وآخر يقول: إذاً ما دعواك على وجوب الختان، وأن المرأة إذا لم تختتن فهي آثمة؟ الدليل قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123]. حسناً! ما هو وجه الاستدلال في الآية؟ نقول: إن هذه الآية لما يضم لها قول النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (على قولين: قالوا: إنه اسم المكان الذي اختتن فيه. لكن الراجح أنه اسم الآلة التي قطع بها الجلدة التي تواري الحشفة. إذاً اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم، وقد أمرنا أن نتبع ملة إبراهيم وجوباً، إذاً يجب علينا أن نختتن. لكن يأتي آخر ويقول لك: الكلام هذا للرجال، ما الذي جعلك تدخل النساء فيه؟ نقول: إن كل الأدلة الشرعية إذا قيلت؛ فإنه يقصد بها الرجال والنساء معاً، حتى يأتي دليل على تخصيص فئة دون فئة، هذا هو الأصل في الأدلة (مثل قوله عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي) للرجال والنساء، (: خذوا عني مناسككم) للرجال والنساء، (: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) للرجال والنساء، كل دليل من القرآن والسنة فالأصل فيه قصد الرجال والنساء إلا أن يأتي دليل يخصص الرجال عن النساء. فهل ورد دليل يخصص الرجال عن النساء في هذا؟ أبداً، لم يرد دليل صارف، إذاً بقي الأمر على الوجوب، وهذه فتوى الشافعي، بل جماهير الشافعية على أن الختان واجب. فلما يأتي آتٍ فيقول: لا يوجد الختان في دين الله. ينبغي أن يعاقب؛ لأن إخرج الحق من الدين مثل إدخال الباطل فيه. والرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (إذا التقى الختانان) قال الإمام أحمد: لما قرأت هذا الحديث استدليت به على مشروعية ختان المرأة، أي: إذا التقى فرج الرجل مع فرج المرأة، هذا اختتن وهذا اختتن فقيل: الختانان. ثم إن الختان من سنن الفطرة، وسنن الفطرة هي القدر الثابت في كل الشرائع الذي لا يتبدل، ولهذا كانت اللحية على قول من صحح الحديث من سنن الفطرة. فقال: إذاً نحن لما نجرم الختان، فهذا يكون عاملاً مساعداً لتهيج المرأة حتى لو كانت عفيفة، فتطلب رجلاً، هذا ثانياً. ثالثاً: حسناً إذا هيجناهم ووقعوا في

الصنف الثالث: صاحب المال فقط

الصنف الثالث: صاحب المال فقط الرجل الثالث -الذي آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً- شيخ هذه الطائفة قارون، آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، وكل أغنياء الأرض الآن رأس مالهم كله هي الفكة التي كانت مع قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] رجل غني جداً. قارون يضرب به المثل في الغنى، والله تبارك وتعالى قد سجل قصته في آخر سورة القصص، قال عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] * {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] انظر إلى النصائح الجميلة! قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]. هنا نكتة لطيفة: كلمة: (ما)، في (فيما)، كان قارون معه مالاً، فقالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] أي: ما معك سخره للدار الآخرة. فـ (ما) هنا يقول العلماء: إنها من صيغ العموم، لكن المقصود بهذا العموم المال دون سواه؛ لأن الذي جاء به السياق هو المال، مع أن اللفظ جاء عاماً شاملاً لكل شيء. والعلماء يقولون: قد يكون الكلام على جهة العموم ومعناه على جهة الخصوص، كيف؟ مثلاً لفظة: (الناس) عموم، يدخل ضمنها اليهود والنصارى والمسلمين والمجوس وكل الناس، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، أي: كل الناس، وقد أكد ذلك بمؤكدين: كلمة (الناس) فيها الألف واللام إذا دخلت على النكرة تفيد العموم، وكلمة (جميعاً) في آخر الآية أفادت العموم أيضاً، فالمقصود بالناس هنا كل الخلق. ونقرأ قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] الناس هنا هم المسلمون فقط، مع أن هؤلاء ناس وهؤلاء فهذا لفظ عام لكن معناه الخصوص. إذاً: ما الذي يجعلنا نعرف أن (ما) في هذه الآية تفيد الخصوص؟ قلنا: السياق؛ لأن السياق من المقيدات، أنت مثلاً لو جاءك ضيف: وقلت له: تفضل، أنت عزيز علي وكريم، تفضل، وعزمته على العشاء. ماذا تفهم: هل أنا أهين أم أكرم؟ أُكرم. لكن عندما نقرأ قول الله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] إهانة أو إكرام؟ إهانة، دل على ذلك سياق الآيات. كذلك نحن نقول: السكوت علامة الرضا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تستأذن البكر. قالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي) يعني إذا قلت لها: يا ابنتي! جاء فلان الفلاني يريد أن يتقدم إليك ويخطبك، فإنها تستحيي وتخفض رأسها ولا تتكلم، إذاً سكوتها هذا علامة رضا، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذنها صماتها). لكن جاء عن ابن عباس في صحيح البخاري في حديث طويل جاء فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فبلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فقال: فلبست ثيابي وأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في الغداة، والرسول صلى الله عليه وسلم في مشربة -المشربة: مثل الحجرة عالية قليلاً- ولها باب. فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الغرفة ووكل بالغرفة رباح -غلام الرسول- وقال له: اجلس على باب الغرفة حتى لا يدخل أحد، قال عمر بن الخطاب: فجئت فاستأذنت رباحاً. فقلت له: ائذن لـ عمر. فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت. قال عمر: فجلست بجانب المنبر). ففهم عمر أن السكوت هنا ليس علامة رضا فلم يدخل، لأن السياق يفهم أن الرسول غضبان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه على حسب الإشاعة الشائعة التي ظهرت. قال: (ذكرتك له فصمت، فجلست بجانب المنبر، قال: غلبني ما أجد، ثم قلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست، ذكرتك له فصمت ثلات مرات، قال عمر: فلما هممت بالانصراف ووصلت إلى الباب؛ ناداني الغلام فقال: قد أذن لك). إذاً نحن نعرف أن السكوت علامة للرضا أو للغضب من خلال السياق. كذلك قصة كعب بن مالك في تخلفه عن غزوه تبوك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر -تبسم- استنار وجهه كأنه قطعة قمر، ولما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك، جاء المعذرون من الأعراب الذين تخلفوا عن غزوه تبوك يعتذرون، والرسول صلى الله عليه وسلم يقبل منهم. قال كعب بن مالك: (فدخلت عليه فلما رآني تبسم تبسم المغضب)) ابتسم ابتسامة صامتة، ابتسامة غضب. فالعلماء يقولون: إن السياق من المقيدات. إذاً كلام قوم موسى مع قارون هو بخصوص المال، و (ما) هنا وإن كان ظاهرها العموم لكن المراد بها المال، أي: ابتغ في مالك الدار الآخرة. {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] وهنا درس للدعاة إلى الله عز وجل: أن يراعي مقتضى الحال. عندما تقول لغني: اخرج من كل مالك، دعه وراء ظهرك وتعال ورائي، هذه ليست طريقة دعوة؛ لأنه لن يخرج، لكن إذا قلت له: استمتع بالمباح، كل واشرب على مزاجك، طالما أنه حلال فلا بأس. لكن هناك من العلماء من قال في تفسير: ((ولا تنس نصيبك من الدنيا)) أنه الكفن، وهذا التفسير فيه قسوة في الدعوة، والأصح أن نجري اللفظ على ظاهره: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: تمتع بالمباحات ما شئت، دون إسراف، ولا تجرده من المال كله. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] انظر إلى التذكير! يا إخوان! الغنى الطارئ يسوء به الخلق، لذلك تجد الطبيب الذي أبوه طبيب يعامل زملاءه معاملة رقيقة، وطالما أنه أستاذ في الجامعة، أول ما يرى زميله يقول: تعال، تفضل أنت زميلي، ويظهر له التودد والتلطف، هناك فرق بين معاملة هذا الطبيب الذي هو طبيب وأبوه طبيب وجده طبيب وبين الطبيب الذي هو الوحيد في أسرته طبيباً. كذلك الإنسان العريق في الغنى تجد في غناه طعماً، بخلاف الإنسان الذي طرأ عليه الغنى مثل قارون، يكون لئيماً خسيساً، لا يتذكر نعمة الله عليه. ولا أدل على ذلك من القصة الشهيرة التي رواها مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ثلاثة ممن كانوا قبلكم أراد الله أن يبتليهم: أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل، فأرسل إليهم ملكاً، جاء للأبرص وقال له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي لوناً حسناً وجلداً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله. قال له: أي المال تحب؟ قال له: الغنم. أعطاه الغنم وقال له: بارك الله لك فيه. ذهب للأقرع: ما تشتهي؟ قال: شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله. قال له: أي المال تحب؟ قال له: البقر. قال له: خذ البقر، بارك الله لك فيها. ذهب للأعمى: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله. قال له: أي المال تحب؟ قال: الإبل. قال: هذه ناقة عشراء، بارك الله لك فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فكان للأول وادي من الأغنام، وللثاني وادي من الأبقار، وللثالث وادي من الإبل) والوادي بمنتهى مد البصر. ثم جاءت ساعة الامتحان، فجاءهم نفس الملك، لكن أتى الأبرص بصورة رجل أبرص، لكي يحنن قلبه، عندما يراه يقول: سبحان الله! أنا كان شكلي هكذا، الحمد لله الذي جملني، فيتذكر. ربنا سبحانه وتعالى من لطفه يعطيه مقتضى يتذكر به البلاء فيشكر؛ لأن هناك من الناس من ينسى، فيذكره. فلما جاء في صورة الأبرص، قال له: (أنا عابر سبيل انقطعت بي الحبال، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني -ما قال له: نصف الغنم أو ثلثها أو ثلاثة أرباعها- غنمة واحدة فقط، أتبلغ بها في سفري، حيث أنني عابر سبيل انقطعت بي الحبال، وليس لدي أي حيلة؟ قال له الرجل (اللئيم): الحقوق كثيرة. (وهناك أناس يعاملون الله عز وجل بهذه المعاملة، يكون تاجراً كبيراً ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران، وتجده قد بنى عمارة وبدَّل السيارة. المعلوم أن التاجر الخسران يبيع، لا يسدد ولا يشتري. هذا التاجر يحسب من الألف مثلاً يكسب خمسين جنيهاً، إذا خسر عشرين يعتبر نفسه خسران، هو يحسبها هكذا، ويقول لك: والله هذه السنة أنا خسران. إن الله عز وجل يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وهل الله عز وجل يريد منك شيئاً؟! أنت ملكه! ولقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يد الله ملأى لا يغيضها شيء، سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء) انظر كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لما قرأت هذا الحديث اقشعر جلدي، ثم طلعت في دماغي فكرة: الشارع الذي أسكن فيه به حوالي خمسين بيتاً، فقلت: أنظر الخمسين بيتاً هذه كم تساوي مليوناً، وطبعاً افترضت تفصيل الشقق عندهم مثل شقتي، هناك طبعاً أناس تفصيلهم مختلف، مثلاً واحد هنا يملك (فيلا) في ميدان لبنان مكونة من شقتين فوق بعض، في عمارة بها سبع عشرة غرفة، يريد أن يبيعها بمليون وسبعمائة ألف، يقول لي الشخص الذي كان يستقبل مكالمات المشترين: أحدهم اتصل بي، يقول لي: الفيلا بكم؟ قلت له: بمليون وسبعمائة ألف. قال: الظاهر أن تفصيلها غير جيد. انظر يا أخي! هذه الدنيا كيف تمشي، سبحان الله! فأنا قلت: سأحسب تكلفة هذه المباني بعد أن حصرت البيوت، المهم عملت حسبة كانت نتيجة الخمسين بيتاً نحو خمسة وستين مليوناً، باع

الصنف الرابع: الذي ليس لديه مال ولا علم

الصنف الرابع: الذي ليس لديه مال ولا علم الصنف الرابع: (ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً) وهو هذا الذي: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. هذا الرجل ليس لديه مال ولا علم، لذلك أساء اختيار من يتأسى به، وأول ما أحب أن يختار اختار كلب الغنم الذي ذكرنا قصته من قبل. العالم لأنه عالم أول ما أراد أن يتأسى اختار أفضل رجل على وجه الأرض: رجل آتاه الله مالاً وعلماً. أما هذا الرجل الذي ما عنده علم فقد اختار أسوأ رجل على وجه الأرض، الذي هو: رجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فهذا بأخبث المنازل). الإنسان العامي ليس له مذهب، مذهبه مصلحته، ولذلك ممكن يبدل مذهبه كل يوم. العامي رجل سياسي، والسياسي لا دين له، والذين قالوا هذه العبارة هم السياسيون أنفسهم، قالوا: إن السياسة ليس لها مبادئ، ولا دين لها، ممكن يتخذ القرار الآن ويتراجع عنه غداً؛ لأن الوضع يستلزم هذا. العوام سياسيون، يقول لك: خذه بالسياسة. العوام هم الذين خذلوا علي بن أبي طالب رغم أنهم كانوا مثل الرمل كثرة. ولما سأل الحسين رضي الله عنه رجلاً عن أهل العراق: (ما أخبار أهل العراق؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك) هو يذبحك ومع ذلك يترحم عليك. مذهب العوام بالكيلو، وليس بالحصر، هل تعلم ما معنى بالكيلو؟ يأتي رجل مثلاً يقول للناس: إن السنة كذا وكذا. فيقول له: يعني كل هؤلاء لا يفهمون وأنت الذي تفهم. مذهب العوام كلما وجد أن العدد أكثر كلما كان هذا دلالة على أنه حق، مع أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام:116]. العامي يجد ويجتهد في طلب شهوته وهواه، فإذا لم يحصل رجع إلى العكس، أحدهم سافر إلى الخارج، فقيل له: ماذا تعمل يا أخي هناك؟! يقول لك: أغسل الصحون. حسناً: أنت عندما كنت تأكل في طبق الفول، وأبوك أو أمك يقول لك: ضعه في المطبخ. كنت تقول: هذا ليس عملي. فلماذا تذهب هناك تغسل أطباق الخنازير وكئوس الخمر؟! لماذا؟ لقد خرج ليجمع المال فرجع بخفي حنين. هل تعرف قصة خفي حنين؟ كان لدى حنين جمل سمين، وكان هناك لص ذكي، مثل قصة الخروف التي حصلت في القاهرة، حيث محاكم القاهرة الكبرى التي فيها العجائب! شخص سمع خروفاً يصيح على عمارة، فصعد العمارة وأخذ الخروف ووضعه على كتفيه ونزل، قابل شخصاً على السلم، فخاف أن يكون صاحب الخروف، فماذا قال اللص؟ قال له: إنتم بتعرفوا أكل اللحم؟ تريدون شراء فروق بستين جنيهاً؟! فالرجل قال له: خير، لماذا زعلان؟ ما الموضوع؟ قال: يطلعوني إلى الدور الخامس وينظرون إلى الخروف، ثم يقولون لي: هذا جلد على عظم، ويعطونني فيه ستين جنيهاً! قال له: يا أخي لا تغضب، هات الخروف وخذ ستين جنيهاً. قال: حلال عليك. أخذ اللص ستين جنيهاً وصعد الرجل بالخروف، الجيران كان لديهم خروف، والرجل من فرحته نزل ليشتري البرسيم ليأكل الخروف، وصاحب الخروف الأصلي أيضاً صاعد يطعم الخروف. قال له: إيه يا عم؟! متشكرين جداً، والله ما كنت أعرف أنك تعز الخروف، اشتريت له برسيماً على حسابك؟ قال له: لا، هذا خروفي. خروفك! كيف خروفك؟ أنا الآن اشتريته. وتشاجرا مع بعض، واللص أخذ القيمة وهرب بها! وهذا مثل لص حنين، رأى الناقة جميلة فقال: أنا أريد أن أسرق هذه الناقة، لكن كيف أسرقها وصاحبها راكب عليها؟ فقام ووضع فردة حذاء على شجرة في الطريق، وبعد نحو نصف كيلو متراً قام ووضع الفردة الثانية على فرع شجرة أخرى، فـ حنين كان يمشي فوجد الفردة الأولى، قال: يا سلام! لو كان لها أخت! وتركها. وهذا مثل الرجل المغترب الذي نزل إلى القاهرة، ولم يجد أي فندق ينام فيه، فوجد (لوكندة) للنوم، فقرأها لو كَنده للنوم -أي: لو كان هذا للنوم- هو قرأها هكذا وهذا كان يقول: لو أن أختها موجودة! المهم مشى نصف كيلو متراً فوجد أختها، قال: أنا سأربط الناقة وأذهب لكي آتي بالفردة الأولى. وكان اللص له بالمرصاد، أول ما ترك حنين الناقة؛ قام اللص وركب الناقة وهرب. رجع حنين بفردة الحذاء الأخرى أين الناقة؟ لم يجدها. فلما رجع إلى قومه قالوا: يا حنين! بم رجعت؟ قال: بالخفين. إذاً (رجع بخفي حنين) مثل يضرب للذي يرجع بالخيبة والخسران. فهذا سافر إلى الخارج وغسل الأطباق ورجع بدون مال، أول ما يعود، يقال له: يا فلان أين المال؟ يقول: والله يا أخي المال ليس كل شيء، يعني هؤلاء الذين لديهم المال ماذا صنعوا به؟! إذاً لماذا لم تقل هذا الكلام قبل أن تخرج؟ إذاً العامي على استعداد أن يرجع إلى الصفر إذا كان سيريح نفسه، أو إذا كان هذا يرضيه، فهذا هو مذهب العوام. وانظر إلى الجماعة الذين يقولون: نحن أكبر جماعة في العالم، نحن اليوم انضم إلينا خمسة آلاف، أربعة آلاف، ثلاثة آلاف. هذا الكلام لا قيمه له {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] أي: ليس كل المؤمنين رجال. يقول العلماء: هذا على مذهب العوام الطغام، ومن سار سيرتهم من أشباه الأنعام. العوام لا مذهب لهم، أخفقوا في الاختيار لمن يقلدونه ويتأسون به؛ لذلك نالوا الخزي والخسران بدون شيء. فالرجل الرابع لا معه دنيا ولا معه آخره، لذلك كان بأردأ المنازل وأخبثها. إن على كل شخص منا أن يسأل نفسه وليكن أميناً في A من أي الأصناف أنا؟ الإمام البخاري كان اسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، نحن كلنا نعرف البخاري، لكن لا نعرف والده. كان أبوه -رحمة الله عليه- تاجراً غنياً، لما حضرته الوفاة دعا ابنه الإمام البخاري، وقال له: يا بني! لقد تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة. يستحيل أن يقترب من الحرام. كيف تأتى لمثل هذا الرجل ألا يقع في كل ماله درهم فيه شبهة؟! إن ذلك بسبب الاتصال بالعلماء، كان يمشي معهم دائماً. الإمام البخاري لما ترجم لوالده، وأحب أن يذكر منقبة من مناقبه، ومعروف أن الإنسان إذا أوجز يذكر أفضل ما يجد، لو قلت لك: صف لي أباك في كلمة واحدة؟ فإنك ستذكر أفضل ما تتخيله في أبيك. فالإمام البخاري لما ترجم لوالده ترجمه ترجمة موجزة في سطر؛ لقد بحث عن أجل عمل عمله فقال: رأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه فقط. إذا قيل العمران: أبو بكر وعمر، الشيخان: البخاري ومسلم، الحمادان: حماد بن زيد وحماد بن سلمة، السفيانان: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري. قالوا في ترجمة حماد: لو قيل له: القيامة غداً؛ ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، انظر إلى الجلالة! أنا أذكر وأنا طفل صغير أنهم كانوا يقولون: القيامة ستقوم يوم الأحد، لا أنسى هذا اليوم أبداً، في هذا اليوم كان كل الناس في المسجد تبكي. المهم: هذا المنظر لا أنساه أبداً، وحماد لو قيل له: القيامة غداً لا يقدر أن يزيد في عمله شيئاً، هذا يستحق أن يُرى أم لا؟ لكن انظر اتصاله بأهل العلم، يأخذ الفتوى مجاناً. فلماذا قصرت في طلب الفتوى ودخلت في البيوع المحرمة والبيوع التي فيها شبهة؟! أنت رجل صاحب مال، ليس عندك وقت تتعلم، إذاً اتصل بعالم، اجعله مستشاراً لك، لا تقدم رجلاً ولا تؤخر أخرى، فأنت إذا قلت له: ما حكم الله في ذلك؟ هو إذا أخطأ؛ فلا جناح عليك. إذاً نحن يا إخواننا! ننظر بعد هذا الحديث من أي الأصناف الأربعة نحن؟! إذاً الصنف الثالث والرابع نعوذ بالله وإياكم أن نكون منهما، إذاً ما بقي إلا الصنف الأول والثاني، وإنما صار الصنف الأول والثاني ممدوحين بالعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

آداب طالب العلم [1 - 2]

آداب طالب العلم [1 - 2] العلم هو ميراث الأنبياء، لذلك كان طلبه والاشتغال به من أعظم أنواع العبادة وكفى به شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو واقع فيه لذلك كان بد على طالب العلم أن يتحلى بآدابه، وأن يجتنب كل ما يقدح فيه حال طلبه للعلم.

فضل العلم

فضل العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. أيها الإخوة الكرام! درسنا في أمور تتعلق بطلب العلم، وهي نبذٌ مختصرة، وإلا فالأمر طويل جداً، لكن السعيد ينفعه القليل، والمكابر لا ينفعه الكثير. أذكر بين يدي هذه المحاضرة أبياتاً أشرحها، وهذان البيتان نظمهما أحد العلماء نصيحة لطالب العلم؛ فقال: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان هذه الستة الأمور هي عماد طالب العلم، ومن أهدر واحدة منها كان الخلل في بنيانه بقدر ما أهدر، وهي مراتب متفاوتة بعضها أعلى من بعض، ولا يستقيم بنيان طالب العلم إلا بها جميعاً. والعلم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه). فإنك إذا قلت لرجل جاهل: يا جاهل! احمرّ أنفه من الغيظ؛ لأن الجهل عار وشنار، فالكل يتبرأ منه، ولو قلت له: يا عالم، لاغتبط؛ لأن العلم شرف؛ وكم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم! كان الأعمش رحمه الله يقول: (والله لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)؛ لأنه كان عنده عمش في عينيه، فلو كان بقالاً لاستقذره الناس، فرفعه الله بالعلم، وكان طلبة العلم يتهافتون عليه مع الإهانة الكبيرة التي كان يتعمد أن يفعلها بهم. فالمقصود: أن العلم يرفع صاحبه، وهذا شيءٌ ذاتيٌ في العلم، وأشرف العلم هو: معرفة الله ورسوله، ومعرفة ما افترضه الله عز وجل على العباد، وهو العلم الشرعي.

صفات وآداب طالب العلم

صفات وآداب طالب العلم أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان

طول الزمان

طول الزمان قوله: (وطول زمان)، وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى، فما أعجب اعتراض بعض طلاب العلم على المشايخ وهو ليس له في طلب العلم إلا سنة واحدة! نسأل الله السلامة! عمره سنة واحده في طلب العلم ومع ذلك ما ترك أحداً إلا وقال: أخطأ فلان وفلان وأنا أعرف طالباً في الجامعة كتب كتاباً يحكم فيه بين المتنازعين في الحديث، عالمان من العلماء الكبار متنازعان في تصحيح حديث. قال: فلما رأيت الشيخين الجليلين اختلفا أحببت أن أفصل بينهما. أهذا من الأدب؟ طالب يفصل النزاع بين البخاري ومسلم إن طول العمر يكسب الملكة في الاستنباط، وهي لا توجد في الكتب ولا تدرس، بل تحتاج إلى عمق وممارسة. مثلاً: مسألة الجمع بين الصلاتين في الحضر، ورد فيها هذا حديث صحيح وهو من حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر جمعاً في الحضر من غير سفر ولا مطر، فسئل ابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته)، مع أن الأصل أن الصلاة تقام في وقتها: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، لكن هذا الجمع في الحضر يحتاج إليه بعض الناس، كدكتور سيعمل عملية تستمر ست ساعات، وفتح بطن المريض قبل الظهر بساعة، فسيأخذ ست ساعات، بمعنى أن الظهر سيضيع عليه، فلو قلنا له: اترك المريض واذهب إلى الصلاة؛ لن يرجع إلا وقد مات المريض. لكن نقول له: لك رخصة في جمع التأخير، فاعمل العملية وأخر الظهر إلى وقت العصر لماذا؟ لأن هذا فيه حرج، فترك المريض وبطنه مفتوحة حرج شديد. كذلك مثلاً: إذا كان المريض أباً أو أماً أو أخاً، وهناك ضرورة ملحة لأن تقف بجانبه، فيجوز لك أن تترك صلاة الجماعة، وتجمع بين الصلوات، لكن إذا أتى رجل وقال: هل يمكن لي أن أجمع بين الصلاتين، وليس عنده عذر، وأجزت له؛ فسوف يتخذ هذا الحديث ذريعةً لإهماله، ويجمع الظهر مع العصر، ويقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجمع بين الظهر والعصر. فالواجب عليك لمثل هذا الصنف من الناس ألا تعطيه الفتوى بالجواز. وهذا مثال آخر يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله، فقال أبو حاتم: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش. لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم: ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين. ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين؟! لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي. وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر. (وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان. وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.

صور من تأديب العلماء لطلابهم

صور من تأديب العلماء لطلابهم فـ الأعمش -سليمان بن مهران- رحمه الله، كان يقول: (لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)، وهو أشهر من أذل علماء الحديث، كان كلما يأتي إليه طالب ويقول له: حدثني حديثاً، يأبى عليه. وفي ذات مرة خرج في جنازة، فعلم أحد طلاب الحديث بخروجه، فتبعه وأخذ بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد! وهم يمشون في الجنازة، فأخذ الطالب ينحرف به عن الطريق حتى وصل به إلى مكان خالٍ من الناس. فقال: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا. قال: أنت في جبانة كذا وكذا، ووالله لا أردك إلى البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً. فحدثه حتى ملأ الواحة، وعاد به إلى البلد، وفي الطريق أعطى هذا الطالب الألواح لزميل له، ومضى مع الشيخ ليرده إلى البلد، فلما سمع الأعمش الأصوات عرف أنه في البلد، فأمسك الطالب وجعل يصرخ: أخذ مني الألواح، فقال له الطالب: لقد أعطيتها فلاناً، فقال الأعمش: كل ما حدثتك كذب، فقال: أنت أعلم بالله من أن تكذب. فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه. ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر)، فالمستحي يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر. وجاء رجل إلى الأعمش، فقال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ الأعمش بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده. وجاء رجل من الغرباء إلى حلقة الأعمش، وكان الأعمش لا يحب أن يجلس أمامه أحد، فجاء والمجلس ممتلئ ولا يوجد مكان إلا بجانب الأعمش، فقعد بجانبه، فكان الأعمش يقول: حدثنا فلان، ويبصق عليه، فصبر الطالب على هذا البصاق حتى انتهى المجلس. ومما يروى في شدة الأعمش مع تلاميذه: أنه عندما أكثروا عليه، وكل يوم يأتون إلى منزله، اشترى كلباً، وكان الكلب عندما يسمع أقدام المحدثين يلحق بهم، فيهربون، وفي ذات مرة كان هناك ثلاثة تلاميذ وهم: أبو إسحاق السبيعي، وشعبة، وسفيان الثوري، فذهبوا إلى بيت الأعمش، وكانوا كلما أتوا إليه خرج عليهم الكلب، فيفرون ويرجعون مرة أخرى، فذات يوم اقتربوا من البيت بحذر خشية أن يخرج عليهم الكلب، وكانوا كلما اقتربوا لا يسمعون حسيساً للكلب، حتى وصلوا الدار ولم يخرج الكلب، فدخلوا على الأعمش، فلما أحس بهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟!! قال: لقد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أي: الكلب. وهل كان الأعمش شحيحاً بحديثه؟ لا. بل كان الأعمش من أكثر الناس حديثاً، وحديثه منتشر ومبثوث في الكتب. لكن لم هذه الشدة؟ لتأديب طلبة العلم، وقد ورث عنه هذه الشدة تلميذه: أبو بكر بن عياش، فقد كان شديداً، فجاءه تلاميذه يوماً فقالوا: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، فقال: ولا بنصف حديث، فقالوا له: رضينا منك بنصف حديث، فقال: اختاروا السند أو المتن؟ والسند: هو سلسلة الرجال، وسمي سنداً لأن كل راوٍ يسند ما سمعه إلى شيخه، وهذا يسنده إلى شيخه وهكذا، فقيل: مسند، أو قيل: سند، والمتن: هو الكلام نفسه، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: يا أبا بكر! أنت عندنا إسناد، فأعطنا المتن، فقال: (كان إبراهيم يدحرج الدلو). فقال الخطيب البغدادي: انظر إليه! شح عنهم بما ينفعهم. ومع ذلك كانوا يتهافتون عليه. والإمام يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل (أكبر موسوعة للرواة) أتى إليه رجل مستعجل، وقال له: حدثني بحديث أذكرك به. فقال له: (اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل). أي: إذا كنت تريد أي شيء للذكرى، فاذكر رفضي تحديثك، وأبى أن يحدثه. وعلماء الحديث كانوا يفعلون هذا تأديباً لطالب العلم. وهذا أبو يوسف كان معه حلقة تضم بعض طلبة العلم، وذلك في حياة أبي حنيفة، فبعث أبو حنيفة أحد تلامذته وأمره أن يسأل أبا يوسف بها، فحضر حلقته وبدأ يسأل، فسأل السؤال الأول فأجاب أبو يوسف، فقال السائل: أخطأت، وكذا في السؤال الثاني والثالث. فقال أبو يوسف: والله ليس هذا من قولك، هذا من قول أبي حنيفة، ومعنى ذلك أنه وصلت أبا يوسف الرسالة التي أرسلها أبو حنيفة، فكأنه قال له: لست شيخاً، ولا تصلح أن تكون شيخاً الآن، فرجع أبو يوسف فلزم مجلس أبي حنيفة إلى أن مات. وكذلك ما يروى عن الإمام الشافعي أنه عندما ذهب يتعلم ويأخذ العلم عن محمد بن الحسن الشيباني -والإمام الشافعي أرفع قدراً في العلم وأتبع للآثار من محمد بن الحسن، مع جلالة الكل رحمة الله عليهم- فذهب الشافعي إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس في مجلسه كالتلميذ، وكان لا يعجبه بعض ما يفتي به محمد بن الحسن، فكان لا يواجه محمد بن الحسن في المجلس، ويقول له: أنت أخطأت، لكن كان الشافعي بعدما يقوم محمد بن الحسن من المجلس يقوم ويناظر بعض طلابه فيظفر عليهم، ولا يستطيعون الإجابة، فلما أكثر الشافعي عليهم شكوه إلى محمد بن الحسن، وقالوا له: عندما تقوم من هنا يأتي والشافعي فيلزمنا بإلزامات لا نستطيع أن نرد عليه، فلما جاء محمد بن الحسن وجلس في المجلس قال للشافعي: بلغني أنك تجادل أصحابي وتناظرهم، فهلا ناظرتني، فقال له الشافعي: إني أجلك عن المناظرة. أي: لأنك شيخي، وأنت أرفع من أن يناظرك مثلي. فقال له محمد بن الحسن: لابد أن تناظر. فناظره الشافعي فظفر عليه، فرجع محمد بن الحسن إلى كثير من أقوال الشافعي، رحمة الله عليهم أجمعين. وقد استعمل الشافعي هذا الأدب وهو عند مالك، فقال: (كنت أقرأ الموطأ على مالك فأصفح الورق صفحاً رقيقاً لئلا يسمعه مالك). وهذا الأدب ورثه تلاميذ الشافعي، فهذا الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي، يقول: والله ما جرئت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ. وأنا والله لقد انتفعت بهذا غاية النفع، عندما رحلت إلى الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1406هـ) ووجدت أن الأدب هو الذي يجعل للتلميذ منزلة في قلب الشيخ. وكان الزهري الإمام العالم محمد بن مسلم يقول: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً حينما كان يماري ابن عباس)، وذلك أن أبا سلمة كان كلما أتى ابن عباس يدخل معه في جدال، وكان ابن عباس يحجب عنه علمه ولا يفيده. وأبو سلمة كان إذا علم علماً ظهر به. وقد سمعته عائشة رضي الله عنها يحدث بحديث: (الماء من الماء)، وهذا كان في أول الإسلام. (الماء الأول) هو الغسل -ماء الاغتسال- و (الماء الثاني) ماء المني. والمعنى: أ، الرجل إذا أمنى اغتسل، فقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ، فصار الاغتسال بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل)، وعند مسلم: (وإن لم ينزل)، على خلاف بين العلماء، فعندما سمع أبو سلمة حديث: (الماء من الماء) من بعض الصحابة؛ كان دائماً يردده، وفي ذات مرة كانت عائشة تسمعه، فقالت: (يا أبا سلمة! أتدري ما مثلك؟ إن مثلك كمثل الفرّوج يسمع الديك يصيح فيصيح) أي: لست بعالم، فهي تريد أن تقول: أنت لم تتحقق مما تقول، إنما سمعت رجلاً يصيح فصحت، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) أي: لقد قلت قولاً لم تتحققه. وأبو سلمة هذا بخلاف ابن جريج، فقد قال ابن جريج: (لقد استخرجت علم عطاء بالرفق). فقد لازمه عشرين سنة، فأخذ عنه كل علمه بالرفق. وابن حبان -صاحب الصحيح- تلميذ ابن خزيمة -صاحب الصحيح أيضاً- كان يرحل بعد ابن خزيمة في كل سفر، ويكتب عنه كل شيء، وذات مرة كان ابن حبان يسأله حتى تضجر منه ابن خزيمة، فقال له: تنح عني، فقام ابن حبان وأمسك القلم وكتب: تنح عني. وقال: لا أدع كلمةً للشيخ إلا كتبتها، فقد أستفيد منها يوماً ما. وأنا عندما ذهبت إلى الشيخ الألباني كنت آتيه فيتعذر بضيق وقته، فقلت له: أعطني خمس دقائق، لأنني ما رحلت إليه إلا لكي أسمع منه. فقلت في نفسي: إذا كنت خرجت من بلدي لطلب العلم فسيصلح الله أمري، وإذا كنت خرجت رياءً فجزاءً وفاقاً لي سأرجع خائباً، فجئنا في فجر اليوم التالي، فقال لي: سأعطيك عشر دقائق كل يوم، ومنَّ الله عليَّ، حتى أصبحت هذه العشر الدقائق ساعة، فكنا يوم نخرج معه بالسيارة، ونسأله أسئلة وهو يجيب عنها.

طلب العلم على أيدي المشايخ

طلب العلم على أيدي المشايخ قال: (وتلقين أستاذ) أي: الأخذ على المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب، وكانوا يقولون: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي. لأنك عندما تأخذ العلم من الصحف أو من الكتب فقد يخطئ الناسخ في نقطة واحدة فيتغير معنى الكلام، وعلماء الحديث لهم كتب في ذلك حصدوا بها الكتب المصحفة، مثل كتب التصحيف والغلط في الكتاب. فإن: القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته. ولنذكر لذلك بعض الأمثلة: كان هناك رجل في الكلية يسمعني وأنا أتكلم وأقول: لا يوجد حفظة، وهناك أناس لا يستطيعون قراءة القرآن فظن أنني أبالغ، فقال: إن كل الناس يقرءون القرآن، فقلت له: اقرأ، فقام وأخذ المصحف، وفتح على سورة هود، فقرأ قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} [هود:48]، فقال: (بسلَّم)، مع أن هذا هو رسم المصحف، لكنه ظنها (بسلَّ) وهي (بسلام)! وهناك إمام قام يؤم الناس فقرأ سورة التكاثر فقال: (إلهكم التكاثر)، -أي: ربكم- فقالوا له: إنما هي (ألهكم)! وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في أخبار الحمقاء والمغفلين: أن رجلاً عالماً دخل قرية من القرى، فاستضافه إمام هذه القرية وقال له: عندي بعض إشكالات في القرآن أريد أن أستشيرك فيها -وهو إمام الجماعة- فقال له العالم: تحدث، فقال: قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك ستين أم تسعين؟) وكانوا في الزمان الأول لا يعجمون الحروف -أي: لا يضعون عليها النقاط- فقد استحدثت هذه النقاط فيما بعد، فكانوا يكتبون بلا إعجام، فكلمة (نستعين) لو أهملت فقد تقرأ (تسعين)، فقال الإمام للعالم: وإياك تسعين أم ستين؟ ثم قال: وعلى أي حال فأنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!! فهذا يحصل في كتاب الله عز وجل، فكيف بكتب الحديث؟! ومن طريف ما يذكر في سبب تسمية الإمام حمزة بن حبيب (بـ الزيات) -وهو أحد القراء السبعة - قالوا: إن هذا اللقب التصق به لأنه كان يقرأ في أول سورة البقرة فقرأ: (الم، ذلك الكتاب لا زيت فيه) فقال له أبوه: قم واطلب العلم على أيدي الشيوخ، فسمي منذ ذلك بـ الزيات من أجل قراءته: (لا زيت فيه). وآخر من طلبة الحديث قرأ قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] فقال: (فضرب بينهم بسنور له ناب). فإذا كان التصحيف وقع في القرآن الكريم مع جلالته وعظمته وكثرة الحافظين له، فما بالك بكتب الحديث الذي لا يكاد يضبطها إلا أفذاذ أفراد بعد أفراد، فعلماء الحديث قد استحدثوا ضوابط في ضبط الكلام. مثلاً: عن ابن عباس يروي راويان، واحد كنيته أبو (حمزة) والثاني كنيته أبو (جمرة). فكانوا يكتبون فوق أبي حمزة: (حور عين)، حتى تعرف أنها حاء وليست جيماً، وعلماء الحديث ابتكروا أساليب لحفظ الكتب لم تتفتق أذهان البشرية عنها. وفي ذات مرة بعث أمير المؤمنين إلى أحد الولاة فقال له: إن المخنثين أفسدوا البلد فأحصهم أي: عدهم، وأجر عليهم التعزير. وقال للكاتب: اكتب إليه: أحصِ من عندك من المخنثين، فوضع الكاتب نقطة فوقها فصارت (اخصِ من عندك من المخنثين) فدعاهم الوالي فخصاهم، وهذا كله بسبب نقطة واحدة. وفي أيامنا هذه تعسرت القراءة الصحيحة لعدم وجود الضابطين المدققين، فتجد طالب العلم بعد ضياع المدققين يقرأ في الكتب، ويخطئ في فهم كثير من الأشياء. فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.

فوائد الأخذ عن المشايخ

فوائد الأخذ عن المشايخ والأخذ عن الشيوخ له ثلاثة فوائد: يقصر لك العمر، ويسدد لك الفهم، ويرزقك الأدب. الفائدة الأولى: يقصر لك العمر: فإنك تأتي على مسألةٍ ما فتسأله فيها؛ كالقراءة خلف الإمام -مثلاً- فيلخص لك هذا المبحث الذي وصل البحث فيه إلى مجلد أو مجلدين في بضع كلمات. ولو جلست تبحث في هذا الموضوع لمكثت عدة أشهر، لكن الشيخ يختصر لك الزمان. الفائدة الثانية: يسدد لك الفهم: كمسالة النزول بعد الركوع: هل يبدأ بالركبتين أم باليدين؟ فقد تناقشت أنا وأحد الإخوة فيها، فكان يقول: يبدأ بالركبتين، وأنا أقول: باليدين، وكان ممن قال بذلك: الإمام الحاكم النيسابوري. فقلت لصحابي: من قال بقولك؟ فذكر عدداً من العلماء حتى ذكر الحاكم، فقلت له: وأنا أقول بقول الحاكم، والحاكم يرى صحة أحاديث النزول باليدين، فقال لي: إن الحاكم قال: (إن أحاديث النزول باليدين مقلوبة)، والحديث المقلوب مثاله أن يروي الراوي حديث: (ورجل تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) هكذا: (ورجل تصدق بشماله حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله)، فيقلب الحديث، ويسمى هذا الحديث مقلوباً. فقلت له: أين ذكر الحاكم هذا الكلام؟ قال: في المستدرك. فقلت: هات المستدرك. فاتضح أن الحاكم بعدما روى أحاديث النزول بالدين، قال: وفي هذا آثارٌ عن الصحابة والتابعين، والقلب إليه أميل. ففهم أن قول الحاكم:) والقلب إليه أميل) أي أنه مقلوب. فقلت له: هذا قلب الحاكم أي: نفسه، فـ الحاكم يقول: وقلبي يميل إلى ما أثر عن الصحابة والتابعين. وهذا مثال على أن الطالب عندما يقرأ لوحده في الكتب يخطئ في فهم كثير من المسائل. وأذكر مثالاً آخر: رجل صنف رسالة، وهو ممن يذهب مذهب الخوارج، فقال حديث:: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذا الحديث إنما هو في أهل الصلاة والزكاة. وأهل الكبائر: أي: أهل كبائر الأعمال، فقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] قال: (وإنها لكبيرة) يعني: شفاعته لأهل الكبائر. مع أن العلماء يقولون: إن هذا الحديث في أهل كبائر الذنوب. فهذا ما تبنى هذا الرأي إلا لأنه لم يقرأ إلا من الكتب؛ فكان لابد من الأخذ عن المشايخ. - الفائدة الثالثة: الأدب: ومن أهم ما يزرقه طالب العلم من أخذه عن المشايخ: الأدب. وعلماء الحديث كانوا يقسون على تلاميذتهم ليؤدبوهم وليكسروا الغرور فيهم.

الغربة في طلب العلم

الغربة في طلب العلم قال: والغربة على نوعين، وولا ينبل طالب العلم إلا إذا حقق النوعين معاً: النوع الأول: أن يكون غريباً في وسط الناس، له اهتمامات غير اهتمامات الخلق هم يبحثون عن الضياع وعن المتع وعن الدنيا، وهو يباينهم تماماً، كما في الأبيات التي تنسب للشافعي: سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي يا من يحاول بالمنايا رتبتي كم بين مستقل وأخرواقي أبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي والإمام الخطابي رحمه الله له بيتان من الشعر فيهما يتوجع فيهما ويذكر هذا النوع من الغربة فيقول: وما غُرْبَةُ الإنسان في شقة النَّوَى ولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْلِ وإنى غريبٌ بين بُسْت وأهلها وإن كان فيها أُسْرَتِي وبها أهْلي يقول: ليست الغربة أن تغترب عن بلدك، لكنها في عدم الشكل: أي: ألا يكون لك شكل. أنت من أهل السنة وكل الموجودين مبتدعة أنت غريب أنت طالب علم نافع وكل الذين حولك من أرباب الدنيا فأنت غريب، لا يوجد لك شكل، ولا يوجد مثلك. و (بست) وهي اسم المدينة التي كان منها أبو سليمان. هذا هو النوع الأول من الغربة. النوع الثاني: وهو أنبل وأعظم، وهو الذي يسميه العلماء: الرحلة في طلب العلم، أن يغترب المرء عن بلده وأولاده لطلب العلم، وعلماء الحديث أعظم الناس منة على هذه الأمة بهذه الرحلة، فأكثر الناس رحلة هم علماء الحديث، فكم من ليالٍ افترشوا فيها الغبراء والتحفوا السماء! وفارقوا الأهل والأوطان والديار في سبيل تحرير لفظة واحدة أنت لا تقيم لها الآن وزناً!!

نماذج من رحلة أصحاب الحديث

نماذج من رحلة أصحاب الحديث ذكر ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق، وهو متروك، لكن القصة وردت من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة، وذكرها كذلك الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وكذلك أبو موسى المديني. يقول أبو الحارث الوراق: جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، فعندما انتهى من الحديث كان شعبة خارجاً من الدار، فلطمه، وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس، فقعد أبو الحارث الوراق نصر بن حماد يبكي، فقال: عبد الله بن إدريس: إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث. لقد سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث -وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، وكان شعبة يحفظ ألوفاً مؤلفة من الأحاديث، فلو كانت عشرة آلاف فقط لعلمت مدى ما بذله شعبة في طلب الحديث وفي تصحيحه - قال: سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، فقلت له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ وشعبة سأل أبا إسحاق هذا السؤال لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد، فخشي أن يكون أبو إسحاق قد دلس فيه. والتدليس معناه: عمل شيء بالخفاء، ويعرفه العلماء فيقولون: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، مثلاً: أنا في عصر الإمام أحمد وأقول: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس، فأنت عندما تريد أن تحدث بهذا الحديث فتقول: حدثنا فلان، قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس. فإذا حصل لك شيء وسافرت، وحدثت بعشرة أحاديث في حال غيابك، وعندما عدت من سفرك أخبرك بها بعض إخوانك ممن حضر المجلس، فإذا حدثت بهذه الأحاديث العشرة عني مباشرة فستكون قد دخلت الدائرة الحمراء، فإما أن تكون كذاباً أو تكون مدلساً، فيجب عليك إذا أردت أن تحدث بهذه الأحاديث العشرة أن تقول: حدثنا فلان -أي زميلك- عن فلان -أي أنا- عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وبهذا تكون قد نزلت درجة في السند، والعلو هو أن تقلل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يسمى: تدليس الإسناد وهو أكثر أنواع التدليس دوراناً في الأسانيد، والذي يدلس يحدث بلفظ (عن)؛ لأن (عن) لفظة تحتمل السماع وعدمه، وهذا معنى قول المحدثين: (وقد عنعنه) أي: رواه بلفظ (عن). المهم: أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة كان يكره التدليس جداً، وكان يقول: التدليس أخو الكذب. وكان يقول: لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس. وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أدلس. فلما سأل شعبة أبا إسحاق السبيعي وقال له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ غضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب، وكان يجلس مع أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، وهو أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، وكان أبو حاتم الرازي يقول عنه: مسعر المصحف، أي: أنه يحفظ الحديث كما يحفظ المصحف. فقال مسعر: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حيٌ بمكة. وهم حينئذ في البصرة، قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته: هل سمعت حديث الوضوء من عقبة بن عامر؟ فقال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم. وهو مدني، فلقيت مالكاً في الحج، فقلت له: حج سعد بن إبراهيم؟ قال: ما حج العام، قال: فقضيت نسكي وتحللت وتحركت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. ولكن حدثني زياد بن مخراق، من البصرة، فانحدرت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: ليس من حاجتك، فقلت: لابد، فقال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني، قال: فذهبت إلى الحمام فغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. حدثني شهر بن حوشب، فقلت له: شهر عمن؟ قال: عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر. هذا هو التدليس! فقد أصبح بين أبي إسحاق السبيعي وبين عقبة بن عامر أربعة رجال، فقال شعبة: حديثٌ صعد ثم نزل لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إليّ من أهلي ومالي. لله در علماء الحديث والجرح والتعديل! ولا أستطيع أن أجد عبارة توفي حق علماء الحديث. كان الإمام أبو زكريا يحيى بن معين يحدث يوماً، وعندما وصل في سند الحديث إلى الأعمش رأى أحد تلاميذه أخذ غفوة، فتابع ابن معين الحديث وأملى عشرة أحاديث، حتى وصل إلى الحديث العاشر وفي سنده ذكر الأعمش، فاستيقظ ذلك التلميذ وظن أنه لم يفته شيء من الحديث، فتابع كتابته من الأعمش، فاختلط عليه حديث في حديث آخر، وفاتته عشرة أحاديث، فعندما جاء هذا التلميذ يحدث قال له ابن معين: كذبت. هذا الحديث ليس هذا سنده؛ لأنك كنت نائماً، وإذا لم تكن مصدقاً لما أقول فانظر إلى أصحابك فليس عندهم هذا الحديث عن الأعمش. ومما يروى في ذلك: أن أبا نعيم الفضل بن دكين -وهو من الأئمة الحفاظ- كان من طريقته إذا جلس للتحديث: أن يقعد على كرسي يدور، وكان يجلس الإمام أحمد بن حنبل عن يمينه ويجلس يحيى بن معين عن يساره، فدفع يحيى بن معين مرة الفضول وقال: أريد أن أختبر الفضل هل هو حافظ ثبت أم لا؟ فقام يحيى بن معين فأتي بورقة وكتب فيها خمسين حديثاً، أربعون حديثاً من أحاديث الفضل وعشرة أحاديث ليست من أحاديثه. فإذا قرأ: الفضل رحمه الله هذه الأحاديث ولم يميز بين حديثه وحديث غيره، فدرجة الحافظ لا تنطبق عليه، أي: فهو (سيئ الحفظ). فعرض يحيى بن معين الفكرة هذه على أحمد بن حنبل، فقال له أحمد: لا تفعل، فإن الرجل ضابط حافظ، فقال له: لا بد أن أعملها، وأخذ يحيى بن معين الورقة وأعطاها لأحد العلماء واسمه أحمد بن منصور الرمادي، وكان أحمد بن منصور يجلس مع الطلبة، فلما خف المجلس قليلاً قام أحمد بن منصور الرمادي وأعطى الورقة للفضل، فنظر فيها الفضل وجعلت عيناه تدوران، ثم قال لـ أحمد بن منصور الرمادي بعد أن أعطاه الورقة، (أما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل هذا؛ وليس هذا إلا من عمل هذا)، قال: ثم أخرج رجله ورفس يحيى بن معين فألقاه على الأرض، وقال: تعمل هذا عليَّ؟ قال: فقام يحيى وقبل جبينه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، ووالله لرفستك أحب إليَّ من رحلتي. أي: لو لم يخرج من هذه الرحلة إلا بهذه الرفسة لكان قد حصّل شيئاً كثيراً. وشعبة بن الحجاج كان أشد رجل يعادي المدلسين، وكان يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس). وهذا الكلام خرج مخرج الزجر والتنفير، لأنه لو عرض عليه الزنا والتدليس فلن يزني. وقول الله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]، مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] وأنت عندما تقول لابنك محذراً: العب، أنت حر! فهل معنى هذا أنك أبحت له اللعب؟ لا. والرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء إليه النعمان بن بشير وأراد أن يخص أحد أولاده بعطية، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (أشهد على هذا غيري)، فلو ذهب إلى أبي بكر فهل ستنفعه تلك الشهادة؟ لا. إذاً هذا خرج مخرج الزجر. فهو يقول: (لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس). فـ شعبة يعلم أن أبا إسحاق يدلس، فقال له: أسمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق. ومن غضبه تعرف أنه دلس، فقد أسقط أربعة من السند وكان يجالس أبا إسحاق السبيعي. مسعر بن كدام فقال: (يا شعبة! عبد الله بن عطاء حي بمكة. أي: إذا أردت التأكد فارحل إليه. قال شعبة: فخرجت من بلدي إلى الحج لا أريد إلا الحديث. خرج شعبة إلى الحج يريد أن يلقى عبد الله بن عطاء من أجل أن يسأله، هل سمع الحديث من عقبة بن عامر أم لا؟ قال شعبة: فدخلت على عبد الله بن عطاء في مكة فإذا هو رجلٌ شاب، وقلت له: حديث الوضوء هل سمعته من عقبة

الافتقار والتواضع

الافتقار والتواضع قال:) وافتقار) الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين. وقد قرأت لبعض الذين صنفوا رسائل وطاولوا فيها جبال الحفظ والفقه بجهل عظيم، فلو كانت هيئة كبار العلماء لها قوة؛ لما انتشر كل هذا الفساد، وخير دليل على ذلك: نقابة الأطباء عندما أعلن وهو دكتور أحمد وهو دكتور الجهاز الهضمي، وهو رجل مشهود له بالكفاءة في جراحة الجهاز الهضمي على مستوى العالم -أعلن أنه اكتشف علاجاً للإيدز وبدأ يجربه على بعض المرضى؛ قامت الدنيا ولم تقعد كيف تجربه قبل أن يدخل المجالس الطبية العالمية، ويصرح لك به، أأرواح الناس لعبة؟! ومع نباهة الرجل ومع جلالة منصبه في الطب أوقفوه عن ممارسة المهنة. وهؤلاء الذين يلعبون بالدين بهذه الرسائل التي يؤلفونها، وينقضون ديننا عروة عروة باسم المنهجية العلمية والحياد العلمي، ولا أحد يقول لهم: لماذا تكتبون هذا؟ لا حساب؛ لأن الهيئة في غاية الضعف، لا تملك لساناً ولا يداً، فهناك من كتبوا باسم المنهجية العلمية ويردون على كبار العلماء وكبار الحفاظ ويتهمونهم بالجهل، وهذا كله من باب الكبر وعدم الاعتراف بالجميل والله الذي لا إله غيره، لو وُجد واحد من هؤلاء الذين يكتبون الآن في الزمن الأول لما صلح أحدهم أن يصب الماء على الشيخ ليتوضأ، فضلاً عن أن يؤصل في مسألة علمية! لقد لبسوا لبوس العلماء فضللوا العوام الذين لا يفرقون بين العالم وبين شبيه العالم! وهناك قصة طريفة في مسألة الخلط بسبب اللباس، ذكرها أهل الأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أحد الشعراء الصعاليك في الجاهلية وهو ثابت بن جابر، وله لقب مشهور به: تأبط شراً، قيل: أنه وجد الغول في الصحراء مثل الخروف، فوضعه تحت إبطه ودخل على أهله، فلما رأوه وعرفوا أنه الغول، قالوا: يا ثابت تأبطت شراً، فألقى به، فلقب تأبط شراً، وهو أحد أشهر ثلاثة شعراء صعاليك، وهم ثلاثة شعراء: ثابت بن جابر، والشنفرى، صاحب اللامية الرائقة التي منها هذا البيت الجميل: وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى وفيها لمن خاف القِلَى متحول والشاعر الثالث: عروة بن الورد هؤلاء هم أشهر الشعراء الصعاليك. فـ ثابت بن جابر - تأبط شراً - قابله ثقفي أحمق، فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ فقال: أذكر لعدوي أنني تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه أريد، قال: أبهذا فقط؟ قال له: فقط. فقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: بهذه الحُلة الجيدة -وكانت لديه حلة جديدة- وبكنيتي -وكان يكنى بأبي وهب فقال له: موافق، فقال الثقفي: لك حلتي ولك كنيتي، فقال له: وأنت تأبط شراً، فذهب الرجل مسروراً، فكتب تأبط شراً ثلاثة أبيات وبعثها لامرأة الثقفي الأحمق؛ قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسم اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبي أخذ اسمي لكن هل أخذ جراءة قلبي؟ هل أخذ بأسي وصبري وجلدي على الأحداث؟ لم يأخذ هذا كله، إنما أخذ الاسم فقط. فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه. ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.

الاهتمام بتدريس كتب الأدلة

الاهتمام بتدريس كتب الأدلة إذاً فهذا الحديث عندما ندرسه نأخذ منه فقهاً، ونأخذ منه علماً وأدباً، ولذلك ننصح الذين يتصدون لتدريس الفقه بتدريس كتب الأدلة، فإذا رأى الشيخ أن من المصلحة تدريس متن فقهي، ساغ له ذلك بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند الطلاب، وأنهم إذا ظهرت لهم الحجة فلا يقدمون عليها قول أحد كائناً من كان، وليكن هذا في حدود الأدب، فمثلاً: أحد الإخوة أعطاني رقعة لا أدري هل هي حاشية على كتاب ما أم ماذا؟ يقول المحشِّي: قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد بن منصور: (وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به)، فعلق المحشي قائلاً: (وهذا خطأ شديد كثيراً ما يقع فيه الحافظ ابن حجر). ! أما (كثيراً ما يقع فيه) فليس هذا أدباً مع الحافظ، لكنه يقع في بعضه، وهذا لا يكاد يسلم منه الإنسان، فلو جمع عشرون خطأً للحافظ ابن حجر لما كانت كثيرة. فالشيخ إذا رأى تدريس متن فقهي ساغ له ذلك، ولكن بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند التلاميذ، وأن يعلمهم أن يتعصبوا للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تعصبهم لأي إمام؛ لأن الأئمة الكبار أرشدونا إلى ذلك، وعباراتهم في تبرئة أنفسهم أحياءً وأمواتاً موجودة في الكتب، وهذا المعنى قد نظمه أحد العلماء المتأخرين نظماً رائعاً جداً، فقال في أرجوزة له طويلة -وسأذكر وجه الشاهد منها في أن العلماء رسخوا عند تلاميذهم تعظيم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى أن يُتعصب له من قول الإمام- فقال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذٌ بأقوالي حتى تعرضا على الحديث والكتاب المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر مقالة الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي وبعد ذلك ذكر أبياتاً في التقليد، وذكر القصة الخرافية الموجودة في بعض كتب المتأخرين من الأحناف أن عيسى بن مريم حنفي المذهب، وهذه القصة الخرافية تقول: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل إلى الأرض وقد دُرس القرآن ودرست السنة، والناس سوف يسألونه أسئلة وهو يريد أن يجيبهم، لكنه لا يعرف شيئاً، فيقول: يا رب! أريد أن أجيب على أسئلة الناس، فيقول الله عز وجل له: اذهب إلى نهر جيحون وستجد يداً مرفوعة من الأرض وبجوارها صندوق، فافتحه وستجد الفقه كله في ذلك الصندوق، فيقصد عيسى بن مريم نهر جيحون، فيجد يداً مرفوعة، وبجوارها صندوق، فيفتحه فيجد فقه أبي حنيفة، ويحمد الله عز وجل أنه وصل إلى فقه أبي حنيفة، ويبدأ يقضي به بين الناس. والعجيب أن الراجز صاحب هذه الأبيات التي ذكرت بعضها، هو حنفي المذهب، يقول: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب وهذا كله من مسائل التقليد التي جاءت في القرون المتأخرة. إذاً: نقول: إن الشيخ إذا درس متناً فقهياً، أو درس كتاباً من كتب الأدلة، لابد أن يرسخ تعظيم الدليل عند تلاميذه، وإذا رد على عالم أخطأ فلابد أن يتأدب مع هذا العالم؛ لأن هذا العالم أراد الحق فأخطأ، وهذا المنتقد له أيضاً أخطاء، فلو عاملناه بنفس المعاملة لخطأناه، والعلماء الكبار الفحول كان لهم من الذكاء والدربة والممارسة أضعاف أضعاف هذا المتأخر. ولعلنا نذكر نبذاً يسيرة، وهذا الاستطراد الطويل أردت به أن أبين تعظيم الدليل؛ لأن تدريس الأدلة من أعظم مميزاته: أنه يرسخ ملكة الاستنباط، ويجعل الطالب يأخذ من الدليل الواحد عشرة أو خمسة عشر حكماً فقهياًَ، فإذا جاءت مسألة من مسائل النوازل استطاع الفقيه أن يستخرج هذه الأحكام؛ لأنه مدرب على الدليل، بخلاف الذي يحفظ متناً فقهياً فقط، فإنه لا توجد عنده هذه الملكة، فإن هذه الملكة لا تكون إلا لرجل اهتم بدراسة الأدلة، لكن في حدود ما ذكرت من الأدب والتماس العذر. ولا أنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة كتاب: (المحلى) لـ ابن حزم، فإنه من أضر الكتب على طالب العلم المبتدئ، مع ما فيه من الفوائد والمسائل الفقهية؛ لأنه كتاب يحتاج إلى شخص ينقي فكر ابن حزم، ويأخذ من ابن حزم قوة اتباعه للدليل ثم يعطيه لطالب العلم خالصاً من الشوائب.

الحرص واستغلال الأوقات في الطلب

الحرص واستغلال الأوقات في الطلب قال: (وحرص): الحرص هو الوقت، فهو رأس مال طالب العلم. وبكل أسف تجد كثيراً من طلبة العلم يقضون الليالي الطويلة في المكتبة من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، ولو سألته: ماذا حصلت؟ لما استطاع أن يجيب عليك؛ لأنه يقرأ ورقتين في المحلى ثم يغلقه، وورقتين من كتاب المغني ويغلقه وهكذا؛ صحيح أنه يقرأ كل يوم، لكنه ما حصل شيئاً مذكوراً، وقد يقضي عشر ساعات أو خمس ساعات في نقاش عن مسألة واحدة. فمثلاً: قبل خمس عشرة سنة كانت هناك مسألة مشهورة بين طلاب العلم، وكانت هذه المسألة تعتبر جواز المرور إلى العلم، فالذي لا يعرفها يعتبر جاهلاً، وهي مسألة نزول المصلي بعد القيام من الركوع إلى السجود، بماذا ينزل أولاً إلى الأرض بيديه أم بركبتيه؟ وقد دفعني ذلك إلى تضييع شهر كامل أبحث عن كلام العلماء، وعن التصحيح والتضعيف، حتى أخرجت رسالة في هذه المسألة. فالوقت هو العمر، وانظر إلى العلماء الذين حصلوا كيف كانوا، فهذا ابن عقيل الحنبلي له كتاب يقع في ثمانمائة مجلد، وقد كان ابن عقيل رجلاً متزوجاً، ولديه أولاد، وهو يريد أن يوفر لهم لقمة العيش، وحاجياتهم وحاجيات زوجته، وكذلك كان يتصدر للإفتاء، ومع ذلك صنف كتباً كثيرة، وهذا الكتاب واحد منها، واسمه: كتاب الفنون. وقد طبع منه مجلدان. فكيف استطاع ابن عقيل أن يكتب كل هذه الكتب؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ فالرجل يراعي ويراقب الوقت الذي ما بين مضغ الخبز وسفَّ الكعك، يريد أن يستفيد من هذا الوقت لقد كان يضيع على نفسه متعة الطعام. والخطيب البغدادي كان يمشي وهو يطالع جزءاً. يقول: ابن أبي حاتم كنت أقرأ على أبي وهو جالس، وأقرأ عليه وهو قائم، وأقرأ عليه وهو يمشي، وأقرأ عليه وهو في الخلاء. ويقول: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فذهبنا ثلة في نهارنا ندور على الشيوخ، فذهبنا إلى بيت بعض الشيوخ فقالوا: إنه مريض، فقلنا: فرصة لنأكل، فدخلنا السوق فاشترينا سمكة، فلما وصلنا إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر، فتركناها، وانصرفنا، ومكثنا ندور على الشيوخ ثلاثة أيام حتى خشينا أن تفسد، فأكلناها نيئة!! لم يتفرغوا لشوائها.

من صفات طالب العلم: ألا يبدأ بالمناظرات والجدل

من صفات طالب العلم: ألا يبدأ بالمناظرات والجدل إن طالب العلم النبيه لا يبدأ بالمناظرات في بداية حياته العلمية، فلا تناظر مناظرة مكابر مجادل، لكن ناظر مناظرة مستفيد. قال أبو حاتم الرازي: كنت مع أبي زرعة ومحمد بن مسلم وكنا جماعة، فقلت لهم: من أغرب عليَّ حديثاً لـ مالك أعطيته كذا وكذا، والحديث الغروب الغريب الشاذ وكان علماء الحديث يحفظونه للمذاكرة، فيقول: كم تحفظ حديثاً غريباً لـ مالك؟ فيقول الآخر: أحفظ ثلاثين حديثاً، وهو يعتقد أنه أحفظ رجل فيهم، فيفاجأ أن صاحبه هذا يحفظ مائة حديث، فيشعر باحتقار لنفسه. هذه هي المناظرة الجميلة. وأبو نعيم الفضل بن دكين -أحد الآخذين عن الإمام الكبير العلم مسعر بن كدام - قال وهم في جنازة مسعر: (اليوم تفدون إلي وتأخذون مني حديث مسعر،) فجاءه محمد بن بشر، فقال: كم تحفظ عن مسعر؟ قال أبو نعيم فقلت: أحفظ كذا وكذا، فقال لي: أتحفظ كذا؟ قلت: لا. وكذا؟ قلت: لا. قال: وكذا؟ قلت: لا، قال: حتى جاءني بسبعين حديثاً ما سمعتها قط، فقمت مستخزياً. فلا تحتقر أحداً؛ لأنك لا تدري فقد يكون غيرك أعلم منك وأورع منك؛ بل لو ظننت أنك أقل خلق الله عز وجل لكان خيراً لك فلا توجه الاتهامات، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! إن الله وزّع الفضل على الخلق، ولم يجعل العلم محتكراً في أقوام؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن المتقدم، ويحييه بقول تالٍ يعتمد على ماضٍ، والتالي ليس كالماضي في العلم، بل السلف أعظم علماً جملةً وتفصيلاً، وليس معنى أنني انتقدت الإمام البخاري في جزئية أنني فقته، وإذا فقته في جزئية، فقد فاقني في مائة ألف، وليس معنى أن الخضر ادخر الله له ثلاث مسائل أنه أفضل من موسى لا والله فليس بأفضل منه، بل قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، ولا يقتضي هذا أن يكون المفضول أعظم من الفاضل؛ لأن الفاضل له أشياء كثيرة جداً يفوق المفضول فيها. فالإمام أبو حاتم الرازي يقول: من أغرب علي حديثاً لـ مالك فله كذا وكذا. قال: فاجتهدوا أن يردوا علي فلم يستطيعوا، ثم عقب أبو حاتم قائلاً: ووالله ما أردت إلا أن أستفيد. أي: هو تحداهم لكي يخرج ما عندهم؛ لأنه يريد أن يستفيد. ورحم الله ابن حبان حين قال: قال الشافعي ثلاث كلمات لم يتفوه بها أحد قبله: (وددت أن هذا العلم ينتشر ولا ينسب إلي) تجريداً للإخلاص، وقال: (ما ناظرت أحداً على الغلبة، بل ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه). لأن المقصود تحرير الحق، ولا يهم أن يجري على لساني أو يجري على لسانك، المهم أن يظهر الحق. فكون الإنسان يذهب ليناظر وهو حريص على أن يَغلب، لن يستفيد بحق أبداً، وهذا الفعل ضد الحرص النافع.

الذكاء والمنهجية في طلب العلم

الذكاء والمنهجية في طلب العلم أول صفات طالب العلم: الذكاء، وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟! ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه. فلو بدأ الطالب بدراسة كتاب: نيل الأوطار للشوكاني، أو بدأ بدراسة كتاب: سبل السلام للصنعاني، فـ الصنعاني والشوكاني -رحمة الله عليهما- وازنا بين الأدلة ورجحا؛ أما أنا كمبتدئ في طلب العلم فلا أدري أصاحب الكتاب أصاب في هذا الترجيح أم أخطأ؟ فهو قد يخطئ في الترجيح، فإذا وازن بين الأدلة وعرض المسائل وانتهى إلى حكم بالحل أو الحرمة أو بالتفصيل، وأنا ليس عندي ملكة أفهم بها إذا كان مصيباً أو مخطئاً، فحينئذ أصبح مقلداً لصاحب الكتاب، مع أنني ما درست الفقه المقارن إلا لأفر من التقليد، ثم وقعت فيه عندما اخترت الكتاب بغير بينة. ومن كان له خبرة بكتب الخلاف يجد أن مصنف الكتاب لا يُسْهب في عرض أدلة المخالفين مثلما يسهب في عرض حجته التي رجحها، وأنا أقول هذا الكلام بعد دراسة عشرين عاماً، وما عرفت ذلك إلا في أواخر هذه السنوات، حينما درست بعض المسائل المختلف فيها، فوجدت أن السمت العام للذين يرجحون أنهم لا يُعنون بعرض أدلة المخالفين مثلما يُعنون بعرض أدلتهم، فإنهم يذكرون أدلة المخالفين على سبيل الإجمال، ثم يذكرون أدلتهم على سبيل التفصيل، فيقع الطالب أسيراً لاجتهاده؛ لأنه عرض حجته واجتهد في عرضها، وقد يكون الحق في خلافها. فلو بدأ طالب العلم بدراسة كتب الفقه المقارن؛ فإنه سيقع في تقليد صاحب الكتاب أراد أن يفر من التقليد فوقع فيه. ولذلك كان أفضل العلم ما تتلقاه عن شيخ يعتني بتدريس الأدلة، مع الاستفادة من كتب العلماء الذين صنفوا في المذاهب الفقهية؛ لأن كتب المذاهب الفقهية فيها ثراء وفيها خير عظيم، ومن الظلم البيِّن إحراقها وإهمالها على اعتبار أنها كتب مذاهب، فكتب المذاهب قد بينت كثيراً من معاني أحاديث الأحكام واجتهد مؤلفوها في الجمع بينها، ولذلك نقول: الفرق بين تدريس الأدلة وبين تدريس كتب المذاهب فرق جوهري. فلو درست كتاباً في المذهب فإنك تستطيع أن تعلم الحكم الفقهي في كل واقعة وفي كل نازلة وفي كل جزئية، أما كتب الفقه المقارن فإنها لا توجد عند طالب العلم ملكة الاستنباط، ولا أخذ الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية، بخلاف ما لو درس الأدلة.

إجابة المفتي بأكثر من سؤال المستفتي

إجابة المفتي بأكثر من سؤال المستفتي ولو وجدت عالماً يدرّس كتب الأدلة، سواء كانت كتباً متقدمة مثل الكتب الستة وما جرى مجراها، أو الكتب التي عنيت بجمع هذه الكتب مع حذف الأسانيد، مثل منتقى الأخبار للجد ابن تيمية، أو بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، فإنك تجده يشرح الحديث ويستخرج منه عشرين حكماً في عدة أحكام مختلفة. مثال ذلك: أول حديث في بلوغ المرام حديث أبي هريرة: (أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر يُتوضأ به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقد ورد هذا الحديث في أبواب المياه، لكننا نستطيع أن نستخرج منه بعض الأحكام الأخرى التي لا تتعلق بالمياه، مثل: باب الصيد والذبائح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته)، ويدخل هذا الحديث في أدب المفتي والمستفتي، ويستفاد منه جواب الحكيم، وهو أن يجيب المفتي بأكثر من سؤال السائل؛ لأن مصلحة المستفتي لا تتم إلا بهذه الزيادة. فقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فسيكون A نعم. توضئوا. وهذا جواب كاف، لكن هل أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا؟ لا. بل قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، فلماذا زادهم هذه الزيادة في الجواب؟ عندما تقرأ في كتب أدب الفتوى والمفتي والمستفتي تجد هذا الكلام: (ولا ينبغي للمفتي أن يوسع الجواب على سؤال المستفتي لئلا يشوش عليه). والظاهر أن قولهم هذا فيه تعارض مع هذا الحديث، فإن الحديث فيه زيادة على السؤال، لكن الذي يحل الإشكال هو في تتبع طرق الحديث، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أن هؤلاء الذين سألوا كانوا يصطادون اللؤلؤ، فقد يغيبون أيام في البحر، وقد ينفد زادهم، وقد يستشكلون ميتة البحر إذا أعملوا كتاب الله عز وجل، ولماذا نستبعد هذا وقد استشكلت ميتة البحر على واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد فقهاء الصحابة وهو أبو عبيدة بن الجراح، والذين كانوا يركبون البحر معه؟ فقد قالوا: أنها ميتة، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة -وهي غزوة سيف البحر، أو غزوة جيش الخبط- وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطانا جراب تمر، قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرتين تمرتين، فلما أوشك التمر أن ينفد كان يعطينا التمرة فنمصها ونشرب عليها الماء، حتى نفد التمر، فكنا نأكل من ورق الشجر اليابس، قال: ثم رمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها العنبر، وجلس منا ثلاثة عشر رجلاً في عينه، وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، وأتى أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فأقامه، وجاء بأطول جمل، وركب عليه أطول رجل، فمر من تحته، فقال أبو عبيدة بن الجراح: ميتة لا تأكلوه -لم يكن مع أبي عبيدة إلا ظاهر كتاب الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، ولم يكن لديه دليل الخصوص، وهذا هو الواجب، فإذا وصلك دليل عام فلا تتوقف وتقول: سأبحث عن الخاص فربما خصص؛ لأن الأصل في الأدلة العموم، كما حرره الإمام الشاطبي في الموافقات، فإذا بلغك حديث عام أو دليل عام ولا تعرف له مخصصاً فلا تتوقف في الأخذ بالدليل العام؛ لاحتمال أن يكون ليس له مخصص، فتكون قد أهدرت العمل بالعام ولم تظفر بالخاص. ثم قال: ولكننا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا)، فعمل بآية أخرى وهي قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، فإذا كان مثل أبي عبيدة يستشكل ميتة البحر؛ أفلا يستشكلها أعرابي لا نعرف محله من العلم؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام بثاقب نظره -وهو سيد المفتين- نظر إلى هذا الرجل فرآه استشكل شيئاً لعله لا يُستشكل، فإذا استُشكل هذا الشيء اليسير عليه، فمن باب أولى أن يستشكل الشيء الأعظم منه، فلذلك أفاده بهذا الجواب مع أنه لم يسأله عنه، وهذا ما يسميه العلماء: جواب الحكيم. ولنأخذ مثالاً آخر: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وهو حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب)، كلمة (راهب) إذا أطلقت يستشف منها العبادة أكثر من العلم، وهناك استشكال من أعظم أبواب الضرر، وهو الخلط بين العالم وبين الشبيه بالعالم، فإن كثيراً من العوام إذا رأوا رجلاً ذا لحية عظيمة بادروا إلى سؤاله، وربما يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً قط، لكنه فعل ما افترضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن أطلق لحيته. وهناك رجل خباز من بلدنا، لا يعلم شيئاً إطلاقاً، فسافر إلى بلد آخر، فدخل المسجد ليصلي الجمعة، وكان الخطيب في ذلك اليوم غائباً، فنظر الناس إلى من في المسجد فلم يجدوا إلا هذا الرجل صاحب السمت الجميل واللحية الطويلة، فقالوا: هذا خطيبنا اليوم، فطلبوا منه أن يخطب بهم، فصعد المنبر وضل يفرك يديه ويقول: اتقوا الله اتقوا الله وتلعثم كثيراً، وهو يتصبب عرقاً، وبعد أن انتهى من الصلاة قرر قراراً، ويا ترى ما هو هذا القرار؟ هل قرر أن يتعلم؟ لا. بل قرر أن يحلق لحيته؛ حتى لا يقع في مثل هذه الورطة مرة أخرى!! فبدلاً من أن يقرر أن يتعلم، أو يحفظ خطبة واحدة في حياته يلقيها إذا وقع في مثل هذا الموقف، قرر أن يحلق لحيته!! فالناس يخلطون ويظنون أن كل صاحب لحية عالم صحيح أن اللحية فرض، ولا يجوز لمسلم أن يحلقها أبداً، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في هذا إلا الخالفون من المتأخرين الذين لا يخرقون إجماعاً ولا ينعقد بهم إجماع، والأئمة الأربعة على حرمة حلق اللحية، لكن اللحية ليست دليل العلم. فعندما سأل هذا الرجل عن أعلم أهل الأرض قالوا له: اذهب إلى فلان الذي لا يفارق صومعته، والرجل عابد وليس عنده علم، ولو استشكل شيئاً من المباح فإنه يتركه؛ لأنه رجل ورع. والأصل: أن تتورّع في نفسك ما شئت، لكن لا تنقل ورعك في الفتوى، فالفتوى إما أن يكون الأمر جائزاً أو غير جائز، وبعد أن تقول له: هذا جائز؛ قل له: وإن تورعت فهو أفضل، ولذلك فلا بد أن يكون المفتي عاقلاً ذكياً، مدركاً، صاحب فطنة، حتى يستطيع أن ينزل الفتوى على مقتضى حال المستفتي. فذهب هذا الرجل إلى الراهب فقال له: إنه قتلت مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: قتلت مائة نفس وتريد أن تتوب؟! لا توبة لك، أنت في جهنم وبئس المصير. وهذا العابد رجل جاهل؛ لأنه أمام رجل كان يذبح ضحاياه وليس في قلبه رحمة، ومع ذلك يجيبه بهذا الجواب، فعندما يكون الرجل بهذه المثابة يذبح ضحاياه، كان الأولى أن يقول له: تعال غداً حتى أبحث عن الجواب، حتى ينجو بنفسه؛ لأن الرجل سفاح ولا يتورع، فقد قتل تسعة وتسعين، فعندما أكمل به المائة فليس هناك أي غرابة، لاسيما وأنه قد أغلق عليه باب الأمل، فسيواصل إجرامه. إذاً الراهب لم يكن ذكياً حين قال: ليس لك توبة، ولذلك قتله، فراح ضحية لسانه، ثم منَّ الله عز وجل عليه بنفس السؤال وقال: دلوني على أعلم أهل الأرض. فدلوه على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟. الشاهد في الحديث قوله: (قال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم)، إلى هنا هذا جواب كافٍ، لكنه لا تتم توبته إلا بالزيادة التي لم يسأل عنها، وأخبره بها المفتي (قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة؟) هذه الزيادة الأولى، والزيادة الأخرى: (اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعبد الله معهم)، فهو لم يسأله عن الخروج من بلده، إنما سأله سؤالاً واحداً فقط وهو: هل لي من توبة؟ ودائماً الذي يعصي الله عز وجل في أرض فإن العلماء ينصحونه أن يفارق هذه الأرض؛ لأنه إذا رأى مسرح الجريمة فربما يعتريه الشوق للرجوع إليها، وبالذات الذي ابتلي بداء عشق النساء، فإن العلماء ينصحونه أن يفارق تلك الأرض؛ لأنها مليئة بالذكريات مع عشيقته. وهذا مثل ما كان يفعل قيس مجنون ليلى، كان إذا دخل القرية بعدما رحلت منها ليلى، يمشي مثل المجنون، ويقبل جدران القرية كلها، وهو يقول: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا فمثل هذا إذا أراد أن يبرأ من داء العشق فلابد أن يفارق أرض العصيان؛ لأن الإنسان عنده حنين دائماً إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه. فالعالم نصح ذلك العاصي نصيحة ذهبية؛ لأن العاصي لو بقي في أرض العصيان ربما يرجع إلى المعصية، ولذلك قال له: اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات. ومعنى هذا: أنه لا يوجد فيهم من يجاهر بالعصيان. إذاً: هذا الرجل لن يستطيع أن يمارس المعصية فيهم، لذا كان من تمام النصيحة أن يأمره بالخروج، مع أن السائل لم يسأله عن هذا الأمر، وهذا هو ما يسمونه بـ (جواب الحكيم)، وهو أن يراعي المفتي مصلحة المستفتي. ومنه أيضاً: (أن امرأة رفعت صبياً في الحج وقال: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر)، ولم تسأل المرأة: ألي أجر أم لا؟ وكان يكفي في الجواب أن يقول: نعم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من محبة الناس لتحصيل الأجر ذكر ذلك ليكون حافزاً لها، وهكذا

الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له

الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له وأختم هذا الدرس بفائدة ذكرها العلماء، يقولون: إن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. والكلام هذا موجه لأحد الجهلاء العابثين الذي نشر كتاباً بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب). وقد تكلم عن مفهوم المخالفة في هذا الكتاب ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى:. {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]؛ فمفهوم المخالفة: ولو جاءكم عدلٌ فلا تتبينوا، المفهوم عكس الكلام. إذاً: ضبط الكلام الذي هو مفهوم المخالفة، فأول الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)، قال العلماء: فيه دلالة على أن المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس القفازين؛ لأن الكلام إذا ورد مقيداً ثبت الحكم للمقيد وانتفى عما عداه، فإذا قلت: لا تنتقب المرأة المحرمة، فقد قيدت الحكم بإحرامها، إذاً عكس الإحرام أن تنتقب، فقال مؤلف هذا الكتاب: إن مفهوم المخالفة ليس بحجة، وإذا قلتم أن مفهوم المخالفة حجة، فأنا ألزمكم بأكل الربا، قال: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فعلى قولكم يجوز أن يؤكل مرة واحدة، هذا مفهوم المخالفة -حسب زعمه-: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، مفهوم المخالفة كلوا ضعفاً واحداً، فنقول: لو أننا قلنا بمفهوم المخالفة مثلكم لأحللنا الربا. وهذا رجل جاهل؛ لأن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له، ليس له مفهوم ولا يعتبر به، فلما كان العرب يضاعفون أكل الربا قال الله لهم: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فليس في ذلك حل لأكل الربا ضعفاً واحداً؛ إذ أن الكلام تنزل على الغالب من فعلهم، وإلا فأنا ألزم هذا الجاهل بإلزام لا انفكاك له منه، وهو: أن الله عز وجل حرم على الرجل أن يتزوج ابنة امرأته التي هي ربيبته، قال الله عز وجل: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23]، فنقول: الربيبة في الحجر، أي: التي ربيتها في حجرك، فربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تتزوج الربيبة التي ربيتها في حجرك، فهل يجوز أن تتزوج الربيبة التي لم تربها في حجرك؟ لا يجوز إذاً: هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأن المرأة إذا كان لها ابنة صغيرة وتزوجت، فإنها تأخذها إلى بيت زوجها، هذا هو الغالب من فعل النساء، وليس الغالب أن تترك المرأة بنتها الصغيرة تتربى عند زوجها الأول، بل الغالب من فعل النساء أن المرأة تصطحب ابنتها الصغيرة لتتربى عندها في حجر زوجها الجديد، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهومه هدر، ولا يعتبربه. ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، فلو كان زوجها غائباً وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها الصوم. فما معنى: (وزوجها شاهد)؟ قالوا: قيد الامتناع بالحضور، فهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الرجل لا يحتاج إلى زوجته إلا وهو شاهد معها، فعندما غاب عنها لا يحتاج إليها عادة، فخرج الكلام مخرج الغالب، وإلا فلو سافر وقال لها: لا تصومي، فلا يجوز لها أن تصوم، فلما خرج الكلام مخرج الغالب دل على أن مفهوم المخالفة خبر لا يعتبر به. وهذا الفهم لا يحصله الإنسان إلا بعد وقت في البحث، وبجميع الأمثلة؛ حتى يكون عنده تطور في القواعد، وملكة في الاستنباط، ولذلك فطول الزمان جزء مهمٌ في تنمية الملكة التي تكون عند العالم المتبحر، ولا تكون عند طالب العلم المبتدئ. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأمثال في الكتاب والسنة [1]

الأمثال في الكتاب والسنة [1] كثيرة هي الأمثال التي ضربها الله ورسوله في الكتاب والسنة، مما يوحي بأهمية تلك الأمثال في بيان ما يلتبس على الأذهان وإقامة الحجج والبراهين. وجل تلك الأمثال إنما تناقش أصول العقيدة وتجليها فينتفع بها المؤمنون، ويعقلها العالمون، وأما غلاظ القلوب وأغبياء العقول فيزدادون جهلاً.

الحكمة من ضرب الأمثال

الحكمة من ضرب الأمثال إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فالمثل إذا ضُرِبَ فالمقصود به: تبين فكرةٍ مجملة قد تلتبس على الأذهان. إذاً: المثل من باب المبيّنَ، فالذي يعجز عن فهم المثل ينبغي أن يبكي على نفسه؛ لأن المبيّنَ إذا لم يُفهم فلن يُتعقل شيء: فليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل إنما يتلبس على المرء ما أُجمِل، فإقامة الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] كلام مجمل، فلو سألت: كيف أقيم الصلاة؟ فأنا لا أدري كيفية إقامتها، كان معك الحق في هذا السؤال. لكن لو قلت لامرئ: الصبح ركعتان، والظهر والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات، فإذا لم يفهم عدد الركعات؛ فإنه ينبغي له أن يبكي على نفسه -إذا سأل: كيف ذلك؟ - بعد هذا البيان. وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] مجمل، فإذا سأل امرؤ: كيف نحج؟ قلتُ له: افعل كذا وكذا، وقف هنا، وادع هنا ولا تقف هنا؛ فإذا سأل: كيف ذلك؟ فينبغي له أن يبكي على نفسه. فالأمثال إنما تُضرب لتقريب الفكرة، والله تبارك وتعالى قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. ونقل ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عن بعض السلف أنه قال: إذا لم أفهم المثل في كتاب الله بكيت على نفسي. أما غلاظ الأكباد والعقول، فلا يفهمون المثل وإن كان واضحاً جلياً، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] يقولون: ماذا أراد بضرب هذا المثل؟ فالذين كفروا هم الذين لا يفهمون الأمثال وإن كانت واضحةً جلية. وقد أكثر الله عز وجل في كتابه من ضرب المثل، وكان قصده تعالى من ذلك أن يفهم خلقه كلامه.

أمثال قرآنية

أمثال قرآنية سوف نقف مع بعض الأمثال في القرآن:

ضرب المثل بالرجل الذي فيه شركاء متشاكسون

ضرب المثل بالرجل الذي فيه شركاء متشاكسون الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ثم نختتم الأمثال من القرآن بذكر رجلٍ هو أشقى رجل على وجه الأرض. قال تعالى في سورة الزمر: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} هذا الطرف الأول للمثل. الطرف الثاني: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29]. ((رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)) أشقى رجل على وجه الأرض هو هذا الإنسان، عبدٌ فيه شركاء متشاكسون، أي أن كل واحد منهم يعاند الآخر، ينتظر أن يأمر الآخر بأمرٍ حتى يأمر بضده، وهؤلاء المتشاكسون لهم عبدٌ واحد، إذا صادف العبد رجلاً منهم جره واستخدمه. فلنفترض مثلاً عشرة من المتشاكسين يكره بعضهم بعضاً، وكلما أمرَ أحدهم بأمر، أمر الآخر بضده، كنوع من العناد والمشاكسة، عناد، فقال الأول -مثلاً- لهذا العبد: اذهب إلى الجهة الفلانية وائتني بكذا، واعلم أنك إذا لم تطع أمري عاقبتك. فبينما هذا العبد الشقي ذاهبٌ إلى الجهة التي أمره أن يذهب إليها السيد الأول إذ قابله في الطريق المالك الثاني: - إلى أين يا غلام؟ - أمرني فلانٌ أن أذهب إلى جهة المشرق لآتي بكذا. - لا، اذهب إلى المغرب وائتني بكذا. ذهب إلى المغرب طبعاً لم يقض حاجة الأول. - يا غلام! لم لم تطع أمري؟! - والله يا لقد أمرني فلان. -أنا ما لي وماله! تعال هنا. ويوقع به العقوبة، فبينما هو متوجه إلى المغرب قابله المالك الثالث: - إلى أين؟ - إلى كذا. - لا، تعال اذهب إلى الجهة الفلانية. - فيسأله الثاني: لم لم تفعل؟ - جرني الثالث. - وأنا ما لي! تعال! فيعاقبه، فلا هو محمودٌ عندهم جميعاً ولا يقضي لهم شيئاً جميعاً، وإذا استجار بواحدٍ منهم قال له: وهل فعلت لي شيئاً حتى تستجير بي؟! أمرتك فلم تمتثل، فمهما يقدم من عذرٍ لا يقبل منه! تعلمون على وجه الأرض أشقى من هذا العبد! فالذين يعبدون آلهةً متكاثرة أمثال هذا الإنسان. {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] ليس له إلا مالك واحدٌ وآمر واحد، إذا أمره ابتدر أمره، ونفذ ما يريد، فيعرف له ذلك ويكافئه، وإذا اعتذر عذره. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء: ((ورجلاً سالماً لرجل)) فمن المستريح؟ أنه هذا الرجل السالم. حسناً: يا جماعة! يا معاشر العقلاء! هذان الاثنان هل يستويان مثلاً؟ فلما كان المثل واضحاً غاية الوضوح ومع ذلك ضل عنه الذين كفروا؛ قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29].

ضرب المثل ببيت العنكبوت

ضرب المثل ببيت العنكبوت مثلٌ آخر: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:41 - 43]. المثل هنا: مضروب ببيت العنكبوت، وأوهن البيوت هو بيت العنكبوت، وآية ذلك لو أن ابنك الرضيع الذي يحبو على الأرض صادف بيت عنكبوت، وجمعه بيده لكان قادراً على ذلك! طفل رضيع يجمع بيوت العناكب في يده، فالذي يحتمي بإلهٍ دون الله كالذي يحتمي ببيت العنكبوت. قال ابن نوح عليه السلام له لما قال له: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:42 - 43] جبل عالٍ سامق شامخ، أين الموج الذي يصل إلى الجبل؟! {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43] الجبل مخلوق وانظر! {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12]، انظر إلى الإحاطة والقدرة: ((فتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر)) ولم يقل: (وفجرنا عيون الأرض) إنما قال: ((وفجرنا الأرض)) صارت كلها عيوناً؛ لأن جملة (وفجرنا عيون الأرض) فيها إشعار أن هناك بعض مناطق الأرض لم يخرج منها ماء، إنما ((وفجرنا الأرض)) أي: صارت الأرض كلها عيوناً تخرج الماء. ماءٌ من فوق، وماء من تحت، {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]، {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]. فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله إذا جاء ضرٌّ لا يدفعون عنكم شيئاً، فلماذا عبدتموهم مع وهاء بنيانهم؟! وقال بعض علماء العصر: إن بيت العنكبوت بيتٌ واه ضعيف؛ لأن أنثى العنكبوت تقتل الذكر بعد التلقيح، قالوا: فكأن البيت الذي لا يحكمه رجلٌ وتحكمه امرأة من أوهى البيوت هذه محنة جسيمة عظيمة كبيرة! أوهى البيوت بيتٌ تحكمه امرأة، ويمشي بتدبير امرأة! {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]. ثم قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ضرب المثل بخلق الذباب

ضرب المثل بخلق الذباب مثلٌ آخر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74]. فانظر إلى هذا التعقيب! (قويٌ عزيز) بعد إثبات عجزهم أن يخلقوا أخس حشرة موجودة، سمي الذباب ذباباً؛ لأنه كلما ذبّ آب، كلما دفعته رجع إليك، فضرب الله عز وجل المثل بهذا الذباب الخسيس. ولذلك استنكف المشركون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت، فقالوا: أما يستحيي رب محمدٍ أن يضرب لنا المثل بالذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] (فما فوقها): كالذباب والعنكبوت فهذا مثل يفهمه العقلاء. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)): وأداة النداء من معانيها أو من فوائدها: التنبيه والإيقاظ، (يا) فأنت تعطي أذنك كل النداء، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) لما سمعوا النداء أصاخوا بآذانههم، {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] ودائماً تضرب الأمثال في التوحيد، وليس في الأحكام الشرعية. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] وأصل الخلق الإيجاد من العدم؛ لكن إذا بنيت على موجود لا يقال: خلقت؛ لأن هناك مغالطة حصلت في هذا العصر في مسألة الاستنساخ. أول ما استنسخوا النعجة (دوللي) قالوا: لقد استطاعوا أن يخلقوا نعجة! وكذبوا؛ لأنهم أتوا بخلية من كائنٍ حي، والخلية هي من خلق الله عز وجل، فبنوا عليها فأين الخلق؟ لكنهم لبسوا على ضعاف العقول، وما أكثرهم! حتى قال قائلهم -وكفر بهذه المقالة-: إن ميلاد النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح! فزعموا أن العباد فعلوا ما لم يفعله ربهم! ومع ذلك أفتى علماؤهم وأذكياؤهم: أن الاستنساخ تدمير للبشرية؛ لأن المستنسخ له نفس مواصفات الخلية، فلو أخذوا -مثلاً- خليةً من إنسان عمره -مثلاً- أربعون سنة، عنده مرض السكر والضغط والسل -أو أي مرض من هذه الأمراض- واستطاعوا أن ينموا إنساناً من هذه الخلية، فسوف يكون عمر هذا الولد الرضيع أربعين سنة، وسوف يكون وهو رضيع مريض بالسل والضغط وبكل الأمراض التي في الخلية، فتصور أن طفلاً رضيعاً به كل هذه الأمراض، وحين يصل إلى عمر عشر سنين سوف يمشي على عكاز! إذاً فنيت البشرية، أين طاقات الشباب وأين السواعد التي تبني الحضارات لما يكون ابن عشر سنين عنده كل هذه الأمراض؟! فالاستنساخ تهديد للبشرية كلها، فهل يستطيعون أن يخلقوا الخلية؟! هذا هو المذكور في هذا المثل ((لن يخلقوا ذباباً)) لا خلية الذباب ولا الذباب، ((ولو اجتمعوا له))، لا يوصف أحدٌ بأنه إله إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره على غيره ولا يغلب، فإذا غُلِب لم يكن إلهاً، وإذا أمر فلم يمض أمره لم يكن إلهاً. فلو سلمنا جدلاً أن آلهتكم -أيها المشركين- كلها اجتمعت بطاقاتها ومواهبها وقدراتها جميعاً لا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، وليس هذا فقط، بل هناك مسألة أحط من ذلك لا يستطيعونها أيضاً {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} وكأنه سبحانه وتعالى قال: لا يستطيعون، وأنا سأدلل لكم على أنهم أحقر من أن يخلقوا بأن أذكر شيئاً تافهاً لا يستطيعونه أيضاً. ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)) لا نكلفكم أكثر من طاقاتكم، ولن نقول: اخلقوا، عرفنا أنكم عجزة؛ لكن هذا ذبابٌ مخلوقٌ لله، وقع في إناء أحدكم وأخذ رشفةً من الشراب الذي يشربه، هل يستطيع أن يرجع هذا الشراب الذي أخذه الذباب من إنائه؟! هذه مرحلة أحط وأدنى من الأولى، ومع ذلك لا يستطيعونها {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] المطلوب: هو الذباب الضعيف، والطالب: هو هذا الكافر الذي ملأ الأرض فساداً، وقال بعضهم: (أنا ربكم الأعلى)؛ لكنه عاجز عن استنقاذ شيء من الذباب: (ضعف الطالب والمطلوب). فإذا كان هؤلاء الذين تعبدونهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فهم لا يستوون مع الله، فلماذا فعلتم هذا، وساويتم بين الله وبين الآلهة التي لا تستطيع أن تخلق ذباباً؟ يا حسرتاه {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] إذ سووا بينه وبين الذي لا يخلق ذباباً! {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74].

ضرب المثل بالرجل الأبكم الذي هو كل على مولاه

ضرب المثل بالرجل الأبكم الذي هو كَلّ على مولاه ثم ضرب مثلاً آخر عجيباً، أشد وضوحاً من الأول فقال عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [النحل:76] انظر إلى وضوح هذا المثل أكثر من الأول! {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] أربعة أوصاف لهذا العبد المخذول: أبكم لا يتكلم، والكلام نعمة؛ ولذلك شنّ علماء المسلمين الغارة على الجهمية حين زعموا أن الله لا يتكلم، فقال مفتريهم عند تفسير قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، قال: إن الله لا يتكلم. صفة الكلام صفة كمال، وعدمها صفة نقص عند المخلوقين، فكيفَ بالخالق عز وجل؟! فقال أهل السنة: هو متكلمٌ كان ولم يزل متكلماً؛ لأن عدم الكلام نقص. فهذا رجلٌ أبكم، عاجز لا يقدر على شيءٍ، ومن تمام عجزه أنه كلٌّ على مولاه. نحن نعبد الله لأسباب كثيرة: منها أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، ومنها: أن يوصل النفع إلي، ويدفع الضر عني، فأنا إذا احتجت أقول: يا رب. إذاً: أنا الذي أحتاج، وإلهي هو الذي يمدني. تصور العكس: أن إلهك الذي تعبده يحتاج إليك! هذا الرجل كلٌٌّ على مولاه، المفروض أن مولاه اشتراه لينتفع به، لكن مولاه هو الذي يخدمه، وهو الذي يشتغل له، فهذا العبد كلٌّ على مولاه. ولو قال له مولاه: مللت منك وليس منك أي فائدة: اذهب إلى الجهة الفلانية، ائتني بفلان، أو احضر لي كذا وكذا: (أينما يوجهه لا يأت بخير) إذا بعثه في معروف يأتي بمصيبة، لا ينطق، ولا يقدر على شيء، وأنا الذي أنفق عليه، فإذا أردت أن أستخدمه مرة جاءني بمصيبة! الطرف الأول من المثل. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]، أجيبوني أيها العقلاء! هل يستوون؟ مثل في غاية الوضوح. وهذان المثلان ضربهما الله عز وجل لنفسه مع الآلهة من دونه. هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟ لا يأمرُ إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، ولا يأمرُ إلا إذا كان متكلماً، إذاً يأمر هي ضد (أبكم لا يقدر على شيء) أبكم: يعني لا يتكلم، في مقابله يأمر، لأنه لا يأمر إلا إذا كان متكلماً، ثم لن يأمر إلا إذا كان قادراً على إمضاء أمره، فهذا في مقابل: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأن ذاك العبد الأبكم جاهل لا يعرف الخير من الضر. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، فهذا في مقابل: {أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ}. لكن هذه الكلمة المجملة {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] كانت كلها صفات في مقابل صفات النقص الأولى.

ضرب المثل بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء

ضرب المثل بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء في سورة النحل قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:73 - 74]، ثم ضرب سبحانه وتعالى مثلين؛ ليبين أنهم لا يعلمون؛ وأن واقعهم ينادي أنهم لا يعلمون حتى وإن ادعوا أنهم يعلمون، واقعهم ينادي بجهلهم، فهذا الجاهل الغبي كيف يضرب المثل لربه؟! وانظر إلى ترفق الله عز وجل بالعبد، وصبره على ضرب المثل له، وبسطه للعبارة! وهذا كله ينبئ بسعة حلمه على عبيده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: لا يستوون {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:75 - 76] أربع صفات: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76]. تأمل هذا المثل ما أجمله وما أعجبه وأقواه في إقامة الحجة! مفتتح الآيات {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} [النحل:73] الشيء العجيب كلمة (شيئاً) هذه! ما موقعها؟ مع أنها لو حذفت استقام السياق: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض ولا يستطيعون) الكلام مستقيم، لكن جاءت كلمة: (شَيْئًا)، هكذا منصوبة كأنها بدل، قال بعض النحاة: إنها بدل من (رزقاً)؛ أي أنك تستطيع أن تضع البدل مكان المبدل منه وتصح العبارة، كأن تقول: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئاً) والرزق داخل في الكلام، لكن جاءت (رزقاً) ثم قال: (شيئًا). الرزق شيء، فكأن تقديم الرزق على الشيء من باب تقديم الخاص على العام، وهو عند علماء الأصول يفيد الاهتمام؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فالصلاة والنسك أخص، والمحيا أعم، لو قلت: (إن محياي لله) دخل فيه الصلاة والنسك وكل شيء، لكن تقديم الصلاة والنسك فيه دلالة على الاهتمام بالصلاة والنسك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، مع أن المرأة من الدنيا، فكان يمكن حذف المرأة ويقال: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والمرأة من الدنيا، لكنه أفرد المرأة بالذكر بعد الدنيا إشعاراً بفتنتها وخطورتها. فبدأ الله عز وجل بذكر أن الآلهة من دونه لا يملكون للعباد رزقاً، وهذه قضية خطيرة وحيوية في حياة الناس. كم الذين داهنوا أعداء الله عز وجل، بل كانوا عوناً لهم بدعوى أكل العيش! كم الذين ارتكبوا المحرمات ولا يزالون يقول لك: أكل عيش! ماذا أفعل؟! المرتب الأولاد الأكل الشرب… فارتكبوا المحرمات بدعوى الأكل والشرب والرزق! فالله عز وجل ذكر هذه القضية الخطيرة الحيوية في حياة الخلق، بدأ بها: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73]. حسناً: هذا لا يملك لك رزقاً لماذا تعبده؟ واقعك في الدنيا يكشف أنك اتبعت كل جبارٍ عنيد من أجل الرزق ولقمة العيش، فلماذا خالفت هنا؟! ثم ضرب الله عز وجل مثلاً فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل:75]، وهذا واقع في حياة العرب، كان عندهم عبيد، وكانوا يعلمون أن العبد المملوك لا يقدر على شيء أبداً، لذلك من العلماء من لم يجز شهادة العبيد لماذا؟ قال: لأن العبد في ملك سيده، فقد يُدعى العبد للشهادة، فيقول له سيده: لا تذهب، فهو مسلوب الإرادة، ولا بد له أن يطيع سيده؛ فتضيع الشهادات وتضيع الحقوق؛ لذلك قال: هذا عبدٌ مملوك لا تناط به الشهادة، ولا يملك حل شيءٍ ولا ربطه. فيا أيها العرب: عندكم عبيد، وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون شيئاً، فنضرب المثل لكم بما تعلمون. وقال: (مملوكاً) حتى يظهر المعنى؛ لأنه لو قال: ((وضرب الله مثلاً عبداً)) فقد تتصور أن المراد مطلق العبودية، التي تشمل الحر والمملوك؛ لكنه أراد أن يخرج الحر من ضرب المثل، وأن المثل مضروبٌ للملوك. كلمة (عبد مملوك) معناها: أنه لا يقدر على شيء، لكنه أبان عن عجزه الكامل ودفع كل تأويلٍ يتأول به فقال: ((لا يقدر على شيء)) من باب التأكيد والبيان، كما قال تعالى في مفتتح هذا الربع في سورة النحل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]، مع أنه مستقرٌّ عند جميع الناس أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة، إلهان: مثنى، فهما اثنان، إنما جاء هذا للتأكيد، كما لو قلت: أنا رأيتك بعيني، مع أنك لا ترى إلا بعينيك، أو تقول: أنا سمعتك بأذني، مع أنك لا تسمع إلا بأذنيك. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا هو الشطر الأول من المثل، ثم قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}: أي وضرب الله بالرجل الحر المثل، وتأمل كلمة (منّا) هذه التي تفيد الإمداد الشخصي، ملك من الملوك يمد رجلاً يقول: أنا الذي أعطيتك. إمداد شخصي. فالله عز وجل يقول: أنا الذي أمده، وأنا الذي أرزقه، وفيه عناية بهذا العبد. {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}: رجلٌ حر، ينفق ماله سراً وجهراً، يميناً وشمالاً، وعنده رافد ومعين لا ينضب، وهو: أن ملك الملوك -تبارك اسمه- هو الذي يمده، فهو رجل لا يخشى الفقر ولا الفاقة، فهو ينفق ببذخ وسخاء بالله عليكم هل يستوون؟! انظر إلى وضوح المثل فهو واضح جداً جداً؛ ولذلك قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]، حمد الله عز وجل نفسه أنهم لا يستوون في عقل أي عاقل، وحمد الله عز وجل نفسه أن الذين كفروا لا يعلمون، إذ لو علموا لشغبوا على الذين آمنوا؛ فليظل هؤلاء في جهلهم يرتكسون. وهكذا يحمد الله عز وجل نفسه أنه لا يوصل الخير إلى الذين ظلموا، قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] فحمد نفسه بعد إهلاك الذين ظلموا؛ لأن في إهلاكهم نجاة للذين آمنوا. وفي غيابهم أيضاً نجاةٌ لحجج الذين آمنوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافقٌ عليم اللسان يجادل بالقرآن)؛ لأنه يضل الناس، منافق له لسانٌ عذب يستطيع أن يقيم الحجج ويزين الكلام، فمع نفاقه لا يخلو كلامه من آيةٍ وحديث. فمع حسن العرض وتزيين الكلام بالآية والحديث يظن الناس أنه من الحق؛ فيفتتنوا، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة: (منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن). فإضلال الذين كفروا عن موضع الحجة نعمة؛ لذلك حمد الله نفسه عليها: (هل يستوون)؟ أي إنسان عنده مسكة من عقل يقول: لا يستوون، فقال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.

ضرب المثل بالصراط المستقيم

ضرب المثل بالصراط المستقيم أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبوابٌ مفتحةٌ، وعليها ستورٌ مرخاة، وعلى رأس الصراط داعٍ، يقول: هلم -عباد الله- إلى الصراط ولا تتعوجوا، وفوق الصراط داع، كلما أراد الإنسان أن يفتح باباً قال: ويحك! لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله عز وجل، والأبواب: محارم الله تعالى، والداعي على الصراط: كتاب الله عز وجل، والداعي من فوق الصراط: هو داعي الله عز وجل في نفس كل مسلم). وهذا حديث صحيح، وهو من أجمل الأحاديث وأعذبها، وهو كثير الفوائد! والمقصود من ضرب المثل: تبيين الفكرة المجملة؛ لأن العمل بالشيء فرعٌ عن تصوره، فإذا تصورت الشيء عملته.

الصراط: معناه وأساليب وروده في القرآن

الصراط: معناه وأساليب وروده في القرآن الصراط هو الطريق، وكلما جاء الصراط في كتاب الله مفرداً غير مقيدٍ بوصف؛ فإنما يقصد به الصراط المستقيم، والمستقيم وصفٌ للصراط لكن لو قلت: لفظة (الصراط) بلا وصف لا مستقيم ولا أعوج، إذا جاء الصراط مفرداً غير موصوف في كتاب الله عز وجل فيقصد به الصراط المستقيم، وهذا يدلك على أن لفظة (الصراط) تحمل في معناها لفظة الاستقامة، كما قال عز وجل: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، ناكب: أي منحرف، ولم يقل: (عن الصراط المستقيم) والسياق أعلمنا أن الصراط هنا هو الصراط المستقيم؛ فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يمكن أن يمشوا على الصراط المستقيم. وقال شعيب عليه السلام لقومه: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86]، الصراط هنا المقصود به الصراط الحسي أو المعنوي أو كليهما معاً، {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} لا تقعدوا في كل طريق ((تُوعِدُونَ)) أي: تهددون الذين آمنوا؛ إذ سلكوا الصراط إلى الله {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، فكلمة (وتبغونها عوجاً) دليل على أن الصراط الذين يصدون عنه مستقيم؛ لذلك أرادوا أن يجروا الذين آمنوا إلى غيره من الطرق المعوجة. وكلما اعوج الطريق طال، وأنت إذا رسمت بين أي نقطتين خطّاً معوجاً، فالمسافة بين النقطتين إذا كان بينهما خط مستقيم مثلاً عشرة أمتار، لكنها على الخط المعوج صارت عشرين متراً. ولذلك لما وصفوا الخط المستقيم قالوا: هو الخط الفاصل بين أقرب نقطتين، هو هذا المستقيم. إذاً كلما استقام الطريق، قصر وقرب في إيصال سالكه إلى المقصود. ولذلك أمرنا الله عز وجل أن نقرأ في اليوم سبع عشرة مرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لماذا؟ لأن الصراط المستقيم هو أقصر طريق موصل إلى المقصود، كلما كان الطريق معوجاً كلما طال على سالكه، لذلك قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. الصراط: وصف بالاستقامة في آيات كثيرة جداً: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73]. {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53]. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175]. آيات كثيرة فيها ذكر الصراط المستقيم، أو ما يقوم مقام الاستقامة، كقول تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] فـ (السوي) هنا: بمعنى المستقيم أيضاً. وفي سورة (ص) في الآيات التي تذكر تسور الخصمين على داود: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:21 - 22]، فكلمة (سواء) هنا هي مثل السوي في قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} وهي مثل كلمة (المستقيم) في قوله تعالى: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].

أوصاف الصراط المستقيم

أوصاف الصراط المستقيم إن الله تبارك وتعالى أمرنا أن ندعوه، فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والصراط المستقيم له أوصاف وميزات: منها: أنه مستقيم. فتصور رجلاً أعمى لا يبصر، ووضعت قدميه على هذا الصراط، وقلت له: يا بني! امش، لا تنحرف. رغم أنه أعمى فسيصل فهذا هو الحق ليس به خفاءٌ فدعني من بنيات الطريق (بنيات الطريق) هي الطريق المعوجة، والبصير يتوه في الطريق المعوج، والأعمى لو صففت قدميه على طريق مستقيم لمضى وهو أعمى ووصل فكيف إذا كان مبصراً؟! فلا يضير أن يكون الطريق طويلاً ما دام مستقيماً. وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره -وهو حديث صحيحٌ أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض خطاً طويلاً، وخط حوله خطوطاً قصاراً، ثم قال: هذا صراط الله) طويل، لكنه مستقيم، من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة هو صراط واحد، قد فنيت فيه الأمم، ومات فيه ألوف النبلاء، بل ملايين النبلاء، ولا يزال في الطريق بقية، لا تسقط الراية منه، إنما يسلم بعضهم الراية لبعض، راية التوحيد. قال: (هذا صراط الله، وهذه صرط الشياطين، على كل صراط شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]). أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها، مولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

تحت كل محنة بشرى [1]

تحت كل محنة بشرى [1] من المحن تأتي المنح، وتحت كل مصيبة خير لصاحبها ولا أدل على ذلك من قصة أم موسى عليه السلام، فقد ابتلاها الله تعالى بأن أمرها أن تلقي ولدها في اليم، ثم انقلبت محنتها منحة وخيراً، ومثلها قصة الإفك؛ فقد كانت محنة ومصيبة في البداية على عائشة رضي الله عنها، ولكن الله تعالى جعل من بعدها خيراً كثيراً لها وللمسلمين، وغيرها من القصص.

فوائد من قصة موسى عليه السلام

فوائد من قصة موسى عليه السلام إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].

لا تستبعد جلاء المصيبة والمحنة

لا تستبعد جلاء المصيبة والمحنة أما أم موسى فإنها أمة من إماء الله عز وجل، شرفها الله تبارك وتعالى ورفع قدرها وأعلى كعبها مرتين: المرة الأولى: يوم ولدت موسى فاصطفاه الله عز وجل، والمرة الثانية: يوم أوحى إليها وربط على قلبها، واختصها من بين نساء العالمين بذلك. ففي قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كان مقتضى الأمر أن يقول: (إذا خفت عليه فأخفيه) أي: فأحرزيه بصندوق في مكان آمن، لكن أن يقال لها: إذا خفت عليه فألقيه إلى المجهول! وألقيه في البحر، وهي لا تدري أين يقذفه الموج، ولا من الذي يستلمه بيديه، فأي أمن في هذا؟! فمن أعظم الفوائد التي تستفاد من هذا الموضع: أنك لا تستصعب جلاء المصيبة، ومهما جاءك من محنة ظاهرها الألم الشديد، فأمِّل في الله خيراً أن يكون تحتها الخير العميم، وهكذا كل مصيبة يحتسبها العبد لا بد أن يجد تحتها خيراً.

عدم استحقار الناس

عدم استحقار الناس أول الفوائد في هذه الآية: في قول الله تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} والوحي إعلام بخفاء؛ وهو من الله إلى العبد شرف للعبد. فإياك أن تحقر أحداً، فإنك لا تعلم منازل الناس عند الله، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين -يعني: يلبس أسمالاً بالية- مدفوع بالأبواب - إذا فتحت بابك فرأيته أغلقت دونه الباب؛ لأنك استقذرته؛ ولم يملأ عينك- لو أقسم على الله لأبره)، والذهب أنفس المعادن، ومع ذلك فعندما تستخرجه من باطن الأرض، تستحقره بعينك وتمتهنه، ولا تراه يساوي شيئاً حتى يدخل النار. وكثير من العباد مثل الذهب، يداري أصله طمراه وثيابه، وبذاذة هيئته، فلا تحقرن عبداً.

قصة أنس بن النضر وإقسامه على الله

قصة أنس بن النضر وإقسامه على الله وهذا الحديث قيل في صحابي جليل لا يعرفه جماهير المسلمين، وهو أنس بن النضر، أحد الأوائل الذين قتلوا يوم أحد مع عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله. حدثت مشاجرة بين أخته الربيع بنت النضر وبين جارة لها، فاعتدت الربيع على جارتها فكسرت ثنيتها -والثنية مقدم الأسنان- فأراد الناس أن يقتصوا من الربيع، فأبى أنس، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون القصاص، فأبى أنس، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر أبداً). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أنس! كتاب الله القصاص). وهو يقول: (لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية الربيع أبداً) ولا زال النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا أنس! كتاب الله القصاص). وهو يأبى، حتى قبل الناس الدية، وتنازلوا عن القصاص، فحينئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فـ أنس كان يقول: (لا والذي بعثك بالحق لا تكسر) ويقسم بالله، حتى وفى الله ذمته، وقبل الناس الدية. أما أم موسى؟ فإنها أمة من إماء الله عز وجل، شرفها الله تبارك وتعالى ورفع قدرها وأعلى كعبها مرتين: المرة الأولى: يوم ولدت موسى فاصطفاه الله عز وجل، والمرة الثانية: يوم أوحى لها وربط على قلبها، واختصها من بين نساء العالمين بذلك. ففي قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] كان مقتضى الأمر أن يقول: (إذا خفت عليه فأخفيه) أي: فأحرزيه بصندوق في مكان آمن، لكن أن يقال لها: إذا خفت عليه فألقيه إلى المجهول! وألقيه في البحر، وهي لا تدري أين يقذفه الموج، ولا من الذي يستلمه بيديه فأي أمن في هذا؟ فمن أعظم الفوائد التي تستفاد من هذا الموضع: أنك لا تستصعب جلاء المصيبة، ومهما جاءك من محنة ظاهرها الألم الشديد، فأمِّل في الله خيراً أن يكون تحتها الخير العميم، وهكذا كل مصيبة يحتسبها العبد لا بد أن يجد تحتها خيراً.

عبر وعظات من قصة الإفك

عبر وعظات من قصة الإفك إن أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون في وجود النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات: هي مصيبة الإفك، هذه الحادثة التي هي أعظم المصائب التي أصابت ديار المسلمين، والتي نزل في شأنها مطلع سورة النور، وقد قصتها علينا صاحبة القصة عائشة رضي الله عنها، كما رواه البخاري ومسلم، وهي كلها محن، ومع ذلك قال الله عز وجل لنا: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]. وعندما نسوق القصة سيُعلم كيف يخرج الخير من الشر، وما هو ضابطه قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرجت معه، فصار السهم على عائشة رضي الله عنها فخرجت في تلك الغزوة -وهي غزوة المريسيع، أو غزوة بني المصطلق- فلما قضوا غزوتهم ورجعوا قافلين إلى المدينة، أرادت عائشة رضي الله عنها أن تقضي حاجتها، وكانت تركب الجمل داخل الهودج -والهودج: هو الغرفة التي كانت تزف فيه العروس قديماً أيام الحياء، فقد كانت توضع المرأة في هذا الصندوق الخشبي، ويوضع على ظهر بعير وتزف، فهذا هو الهودج-. فأرادت السيدة عائشة وهي راكبة في هذا الهودج، أن تقضي حاجتها، فأمرت الذين يرحلون بالبعير أن يسرعوا أمام الجيش، لتقضي حاجتها، حتى إذا جاء الجيش مشوا جميعاً، فاستحثوا الذين يرحلون البعير وتقدمت، وأنزلوا هذا الهودج على الأرض وأعطوها أقفيتهم حتى تنزل، فنزلت وأوغلت في الصحراء، حتى قضت حاجتها ورجعت، وبينما هي راجعة تحسست صدرها فإذا عقد لها قد انفرط، فرجعت من نفسها؛ لأنها كانت جارية حديثة السن، ليس لها خبرة، وكان من المفترض أن تقول للذين يرحلون بها: لقد انقطع عقدي، فانتظروني. لكن لحداثة سنها تصرفت من عند نفسها. فرجعت إلى مكان قضاء حاجتها تبحث عن عقدها، وبعد مدة قدرها الرجال الذين يصحبونها بمدة قضاء الحاجة فظنوا أنها قد جاءت ودخلت في الهودج، فحملوا الهودج يظنونها فيه، ووضعوه على البعير واستحثوه فنفر، ومضوا.

العالم لا يترخص في موضع الفتنة

العالم لا يترخص في موضع الفتنة لأجل هذا نهى العلماء أن يترخص العالم في موضع الفتنة؛ لأنه إذا ترخص في موضع الفتنة ظن العوام أن الرخصة هي الحكم الشرعي، يقول العلماء: إن العالم في زمان الفتنة ينبغي أن يأخذ بالعزيمة ولا يترخص. فهذه المحنة الجسيمة التي ابتلي بها المسلمون جميعاً، وابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه بها، انجلت عن هذا الخير العميم، وكشف الله عز وجل بها المنافقين للناس!

ضرب رءوس المجتمع ضرب للمجتمع

ضرب رءوس المجتمع ضرب للمجتمع ومن الفوائد العظيمة التي تستقى من حديث الإفك: أن ضرب الرأس هو أعظم مصيبة يصاب بها المجتمع. فالرأس مع بقية المجتمع مثل السهم، فإن الرأس المدبب في مقدمة السهم إذا كسر، لا يستفاد ببقية السهم في الاختراق، فحفاظ المجتمع على رأس السهم ضرورة، ولو ضاع رأس السهم لضاع الكل خلفه، وليست هناك لنا أي مصلحة في تدمير رءوس المسلمين، بل أعداؤنا يرون في تدمير الرءوس خفة مئونة. إذا أسيء الظن بالرأس فسدت المبادئ والقيم، ولذلك فأعداؤنا يحرصون على تشويه سمعة علمائنا، وعلماؤنا هم رءوسنا، بهم نمضي، وبغيرهم نحن ضائعون، وتعرف قيمة المجتمع بكثرة علمائه الذين يدلون على الله، لا بكثرة أطبائه ولا مهندسيه ولا فدائييه، إنما المجتمع يقاس بكثرة علمائه أو بقلتهم، بعزهم وشرفهم أو بمهانتهم. فهذا المنافق صوب السهم إلى عائشة رضي الله عنها ليتهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهكذا لو أن رجلاً رأساً أشيع عنه أنه زانٍ، أو أنه مرابٍ، أو أنه فاجر، فإنه إذا صعد على المنبر وأمر الناس بتقوى الله لا يكون لكلامه رصيد، فنكون قد ضيعنا كل هذا المجتمع بفساد واحد، وصدق من قال: إذا زل العالمِ زل بزلته عالَم.

نزول براءة عائشة رضي الله عنها

نزول براءة عائشة رضي الله عنها قالت: (وتحولت، فوالله ما قام أحد من البيت ولا قام أحد من المجلس إلا وقد أنزل الله براءتي، تقول: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بكلمة، إنما كنت أظن أن الله سيري نبيه رؤيا يبرئني بها، فلما نزل الوحي قامت أمي فجاءتني فقالت: قومي إليه واحمديه -اشكري الرسول عليه الصلاة والسلام- فقالت عائشة: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، الذي أنزل براءتي). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سُر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فجاء مستبشراً يضحك وهو يقول: (يا عائشة! أبشري فإن الله برأك).

موقف أبي بكر من مسطح بن أثاثة

موقف أبي بكر من مسطح بن أثاثة ثم أقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، وقد كان فقيراً ينفق عليه أبو بكر، فنهاه الله تبارك وتعالى عن ذلك فقال: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، فقال أبو بكر: (بلى، أحب أن يغفر لي، والله لا أنزعها منه أبداً)، وفرق الله عز وجل بين المنافقين والمؤمنين، وكان ذلك بالإفك كما قال الله عز وجل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].

حدوث الفتنة بين الأوس والخزرج في المسجد

حدوث الفتنة بين الأوس والخزرج في المسجد حينئذ قام سعد وقال: (والله لا تقدر ولا تستطيع)، مع أن عبارة سعد بن معاذ لطيفة، وفيها تحرز لطيف. فلما قال سعد بن عبادة ذلك، قام له أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال: (والله إنك لمنافق وتجادل عن المنافقين)، فقاموا لبعضهم في المسجد، وثار الحيان: الأوس والخزرج، والرسول عليه الصلاة والسلام واقف على المنبر، وأخرجوا السلاح، ووقفوا لبعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم بيديه، فلا زال يهدئهم ويخفضهم حتى سكتوا

عار الزنا أعظم من عار الكفر

عار الزنا أعظم من عار الكفر إنها محنة لم يمر المسلمون بمثلها قط زوجة نبيهم تتهم بالزنا! وهو عار، حتى إن الكفر برغم أنه أفدح المصائب كلها، إلا أنه ليس فيه من العار ما في الزنا! كان والد إبراهيم عليه السلام كافراً، ولم يعير إبراهيم بأبيه، وكان ابن نوح وامرأته كلاهما كافر، ولم يعير نوح أبداً بكفر ابنه ولا بكفر امرأته، وكانت امرأة لوط أيضاً كافرة، ولم يعير بها لوط عليه السلام، فالزنا فيه من العار ما ليس في الكفر، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنه: (لم تزن امرأة نبي قط)، قال ذلك في قول الله عز وجل: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، قال: ليست الخيانة خيانة عرض. فتتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا وهم أحياء!! فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وعائشة تبكي ليلها ونهارها، وأعظم شيء فت في عضدها هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبرئها، بل هو متردد، وقد استلبث الوحي شهراً كاملاً لا ينزل؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، فكان عليه الصلاة والسلام يدخل البيت، ويقول: (كيف تيكم؟) ثم يخرج.

اشتداد الأمر على عائشة

اشتداد الأمر على عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بعد شهر كامل، فجلس على طرف سريره، وكانت أول مرة يجلس فيها، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فاستغفري، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه). فحز ذلك جداً في نفسها، وكانت تنتظر أن يبرئها لتاريخها معه، ولا يتوقف في شأنها، بل يقول هي بريئة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتكلم عن هوى نفسه، وهوى نفسه أن تكون امرأته بريئة، بل ينتظر الوحي حتى ينزل، فلا يتقدم بين يدي ربه، ولذلك سكت ولم يتكلم، قالت عائشة: (فلما قال ذاك قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة). فذهب هذا النهر الفياض على مدار ثلاثة أيام، لم تجد قطرة دمع واحدة في عينها. ومن أصعب الأشياء: الانتظار، فإن الإنسان المحكوم عليه بالإعدام، وهو ينتظر الحكم، لا يأكل ولا يشرب، وجسمه ينحل؛ إذ أن أصعب شيء في حياة الإنسان انتظار نتيجة لا يدري ما هي! لكن لو عرف أنه ميت أو حي فإنه يستريح، وهكذا لو مات ابن رجل ودفنه بيده خير له من أن يضيع ويبحث عنه في المستشفيات وفي أقسام الشرطة، وفي بلاد الله، وهو لا يدري أحي ابنه أم ميت؟ بل إنه يقول: لو مات لكان خيراً لي، ولاسترحت؛ لأن الانتظار سيء للغاية. فقد كانت عائشة رضي الله عنها تبكي باستمرار وهي لا تدري ما الذي يكون، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبدئها، بل قال لها تلك الكلمة التي زادت من ألمها وحزنها، حتى قالت: (قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، وقلت: إنني إذا قلت لكم: إنني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، وإذا قلت لكم: إنني فعلت -والله يعلم أني بريئة- لتصدقنني بذلك، فوالله ما أجد لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. وجاء في بعض الروايات أنها قالت: (وتاه عني اسمه)، وأبو يوسف هو يعقوب عليه السلام، لكنها بحثت عن اسم يعقوب في ذهنها فلم تجده من الهم، والهم يضيع الملكات، ويضيع الذكاء والبديهة.

استخدام العبارات اللطيفة ومراعاة مشاعر الآخرين

استخدام العبارات اللطيفة ومراعاة مشاعر الآخرين حينئذ قام سعد بن معاذ سيد الأوس، الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات، فقال: (يا رسول الله! أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك). انظر إلى التحرز الجميل، ويا ليت إخواننا يتأدبون بهذا الأدب! قبل أن يأتي الإسلام كانت هناك حروب طاحنة بين الأوس والخزرج، فمن الله عليهم بالإسلام، وصاروا إخوة متحابين، لكن بقيت بقايا في النفوس، فـ سعد بن معاذ تحرز لنفسه وراعى التاريخ القديم -تاريخ العداوات والحروب- فأخرج هذه الجملة الدقيقة، قال: إن كان من الأوس ضربت عنقه، ولم يستثن ولم يتحرز؛ لأنه سيدهم، وإن كان من إخواننا من الخزرج، فقدم لفظ (الأخوة) ولم يقل: ضربت عنقه؛ لأنه خاف من حدوث فتنة، وبرغم لطافة العبارة فقد حدث الذي خاف منه. فلم ترض هذه الكلمة سعد بن عبادة زعيم الخزرج؛ لأن أراد أن ينال شرف الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فـ سعد بن معاذ تكلم عن الأوس، فيريد هو أن يتكلم عن الخزرج ويقول أيضاً: إن كان من الخزرج ضربت عنقه، فساءه أن سعد بن معاذ يتكلم عن الخزرج وهو حي.

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن عائشة رضي الله عنه

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن عائشة رضي الله عنه قالت: (وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شأني، فسأل أسامة بن زيد فأخبره بالذي يجد في نفسه له من الود، قال: يا رسول الله هم أهلك، لا نعلم إلا خيراً. أما علي بن أبي طالب فقال: (يا رسول الله! النساء غيرها كثير -لماذا تعني نفسك؟ طلق وتزوج، والنساء غيرها كثير، فلا تتعب نفسك- وإن تسأل الجارية تصدقك. فأرسل إلى بريرة فقال: (أي بريرة، هل رابك شيءٌ من عائشة؟ قالت: لا والذي بعثك بالحق، غير أنها كانت جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله)). هذا هو عيبها، تعجن العجين وتتركه بلا غطاء، فكان يأتي الدجاج ويأكل العجين. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك صعد المنبر وجمع الصحابة، وقال: (أيها الناس! من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما أعلم عن أهلي إلا خيراً، وقد ذكروا رجلاً ما أعلم عنه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).

خوض المنافقين وبعض المؤمنين في الإفك

خوض المنافقين وبعض المؤمنين في الإفك وكان الذي تولى كبره هو المنافق الأعظم عبد الله بن أبي ابن سلول، ومجمل ما أشاعه: أن صفواناً وقع على عائشة، فاتهمت العفيفة الشريفة الغافلة في عرضها، وهي لا تدري، وهذا المنافق يتكلم، واستجاب لكلامه بعض المسلمين الأخيار كـ حسان بن ثابت، فقد تكلم، وتكلمت أيضاً حمنة بنت جحش، أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها.

معرفة عائشة بحديث الإفك

معرفة عائشة بحديث الإفك ورجعت عائشة إلى بيتها مريضة، واشتكت من مرضها شهراً كاملاً، وهي ولا تعلم بالخبر، والمدينة تغلي، حتى خرجت ليلة مع أم مسطح قبل المناصع -وهو مكان يقضون فيه حاجتهم- وكانت العرب إذ ذاك تستنكف أن تتخذ الكنف في البيوت -أي: دورة المياه- إنما عندهم الصحراء، فأيما رجل أو امرأة أراد أن يقضي حاجته فإنه يذهب إلى الصحراء. فـ عائشة رضي الله عنها خرجت مع أم مسطح لتقضي حاجتها، وكانت قريبة لها في الرحم، فقضوا حاجتهم، ثم وهم راجعون عثرت أم مسطح في مرطها، أي: تعثرت في ثوبها، فقالت: (تعس مسطح!). تدعو على ابنها، وهذه كلمة كانت تخرج وتجري على لسان العرب، لا يقصد بها الدعاء، مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ!) أي: فقدتك، ومثل هذا في قصة الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه واحتلم، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تجدون لي رخصة أن أتيمم من الجنابة؟) لأنه إذا اغتسل دخل الماء في رأسه فربما يموت، فقالوا: (لا نجد لك رخصة) فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قتلوه قتلهم الله)، فليس المقصود بهذا حقيقة الدعاء بالقتل، وإنما همو يجري مجرى التوبيخ. فقالت أم مسطح: (تعس مسطح!) فقالت عائشة: (فأنكرت عليها ذلك، وقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟! فقالت: أي هنتاه! أولا تدرين ما يقول؟ قالت: وما يقول؟ فقصت عليها حديث الإفك، وما يخوض الناس فيه. قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وظللت ليلتي أبكي، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فلما أصبحت استأذنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتي أبوي، وذلك لأستوثق من الخبر، قالت: فجئت فدخلت على أمي - أم رومان - فقلت: أي أماه! ما الذي يتحدث الناس فيه؟ قالت: هوني عليك يا بنيتي، فوالله لقلما وجدت امرأة وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. فقالت عائشة: سبحان الله! أوقد تحدث الناس بذلك؟! قالت: فبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، قالت: ويريبني أني لا أجد اللطف الذي كنت أجده من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أشتكي). فلا يريبها شيء إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام يكون شديد اللطف معها إذا مرضت، وهي الآن مريضة ثلاثين يوماً، شهر كامل، ومع ذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقول لها غير كلمتين اثنتين فقط، طوال ثلاثين يوماً، يدخل وهي مريضة طريحة الفراش، وحولها أمها وبعض النساء وأبو بكر الصديق، فيدخل فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم؟) (تيكم): اسم إشارة، أي: كيف هذه؟ كيف حالها؟ هذا فقط هو ما كان يقوله طيلة شهر، وهي تستغرب أين اللطف المعتاد؟! ولا تجد سبباً، حتى وجدته بعد شهر كامل.

النوم في الفزع نعمة

النوم في الفزع نعمة والنوم في مواطن الفزع نعمة؛ لأن الخائف لا ينام بل يصاب بأرق، فإذا نام في موضع الخوف فالله هو الذي أمنه، كما قال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] وكيف ينام رجل يستعد للحرب وعدوه في مقابله؟ لكن هذا أمن من الله تعالى.

عثور صفوان على عائشة رضي الله عنهم

عثور صفوان على عائشة رضي الله عنهم فنامت حتى ينقضي عليها الليل، قالت: (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني في أخريات الجيش). صفوان بن المعطل السلمي الصحابي كان يتأخر بطبعه، وفي بعض الروايات أنه كان نئوماً، وكان إذا نام لا يستيقظ إلا بصعوبة، حتى يأخذ راحته في النوم. فهو عندما استراح الجيش نام، فتركوه نائماً ومضوا، وكان إذا أفاق من نومه بحث في المعسكر إذا خلف أحد شيئاً، أو نسي أحد شيئاً، فيصيب الإداوة أو يصيب القدح، ثم يذهب فيعرفه لهم، فجاء صفوان متأخراً كعادته، وكان يعرف عائشة؛ إذ كان يراها قبل الحجاب، قالت: (فلما رآني استرجع -قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- فاستيقظت لاسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، فوالله ما كلمني كلمة، سوى أنه أناخ بعيره فركبت عليه فاستنفره فمضى خلف الجيش، حتى أدركناهم موغلين في حر الظهيرة)، وخاض الناس في حديث الإفك.

التماس العذر للمسلم

التماس العذر للمسلم تقول عائشة رضي الله عنها: (وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يحملن اللحم، إنما كان يكفيهن العلقة من الطعام). وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه، فـ عائشة رضي الله عنها تلتمس لهم العذر الذي جعلهم يحملون الهودج ولا ينتظرونها، تقول: (كانت النساء خفافاً) أي: خفاف الوزن، لم يثقلهن اللحم، فظن الناس -لخفة النساء آنذاك- أنها في الهودج، لذلك فهي تلتمس العذر لهم ولا تلومهم، ولم تقل لهم: لماذا لم تنتظروا؟ وتلقي عليهم الملام. فمضوا وظفرت هي بعقدها، قالت: (وجئت ديارهم فلم أجد بها داعياً ولا مجيباً، فظللت مكاني، وعلمت أنهم إذا فقدوني رجعوا إلي)، وهي في صحراء شاسعة مترامية الأطراف وحدها، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه على امرأة حديثة السن وحدها في صحراء مقفرة قاحلة، قالت: (فألقى الله علي النوم فنمت).

محنة أخرى لعائشة رضي الله عنها

محنة أخرى لعائشة رضي الله عنها وأيضاً فقد كانت عائشة رضي الله عنها سبباً في خير آخر نحن حتى الآن نستمتع به، لكن ما جاء هذا الخير إلا ببلاء حدث لها رضي الله عنها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة -والعلماء يقولون هي غزوة ذات الرقاع، وغزوة ذات الرقاع كانت بعد غزوة بني المصطلق، فقد حدثت الحادثة بعد حديث الإفك- تقول: (كنا في غزاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فانقطع عقد لي، وبرك عليه الجمل، فقلت: يا رسول الله! انقطع عقدي، فحبس الناس علي يبحثون عن العقد، فحان وقت الصلاة وليس معهم ماء، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ عائشة -وقيل: في حجرها- وجاء الصحابة إلى أبي بكر يقولون: ألا ترى ما فعلت عائشة؟! حبستنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنا على ماء! قالت عائشة رضي الله عنها: فجاء أبو بكر فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول، وقال: حبست الناس وفعلت وفعلت، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي)، لأنها لا تريد أن تزعجه حتى يتم نومه.

أدب الزوجة مع زوجها

أدب الزوجة مع زوجها الكلام هذا نوجهه للزوجات الفاضلات المزعجات، التي لا تترك الزوج ينام، ودائماً تزعجه وتؤذيه، ولا ترعى له حقوق، فـ عائشة تقول: (ما يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي) وانظر إلى شدة موجدة عائشة على أبيها، فلم تقل: فجاء أبي وقال ما شاء الله أن يقول؛ بل قالت: (فجاء أبو بكر)؛ لأن لفظ الأبوة يشعر بالحنو، وهو قد جعل يؤنبها ويعاتبها، فلم يَحْنُ في هذا الموقف، فسمته باسمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سرقت المرأة المخزومية متاعاً، وجاء أسامة بن زيد يستشفع، قال: (يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد)، لم يقل: لو أن فاطمة ابنتي؛ لأن لفظ البنوة يشعر بالحنو، وهذا حد من حدود الله لا يجوز فيه المجاملة، فقال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فلم يقل: ابنتي، حتى لا تدركه الرحمة والحنو عليها بمقتضى البنوة.

نزول رخصة التيمم

نزول رخصة التيمم تقول: (فجاء أبو بكر فعاتبني وقال ما شاء الله له أن يقول، وقال: حبست الناس وفعلت وفعلت، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح والناس على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! واستنفروا الجمل فوجدوا العقد تحته)، فبسبب هذه المحنة نزلت رخصة من أعظم الرخص، وهي التيمم، وهو بدل عن الماء في الطهارة.

صفة التيمم

صفة التيمم والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وليس هناك مسح للساعد، والحديث الذي ورد في ذلك حديث منكر عند أهل الحديث، إنما التيمم ضربة واحدة، تضرب على الأرض، ثم تفرك يديك، ثم تمسح وجهك لا أكثر من ذلك. ومن نعمة الله علينا أن هذا التيمم أيضاً يرفع الجنابة، كما في الصحيحين أن عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما كانا في سفر فأجنبا، فأما عمار فقال: فتمرغت في التراب كما تتمرغ الدابة في الأرض، يريد أن يصل التراب إلى كل جسمه، أما عمر بن الخطاب فلم يعرف الحكم فلم يصلِّ، ورجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يكفيكما ضربة للوجه والكفين)، وهذه الضربة ترفع الجنابة وتثبت الوضوء، وليس كما يفعل بعض الناس حيث يتيمم لرفع الجنابة ثم يتيمم للوضوء. ففي الحديث الذي ذكرته لم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا ضربة واحدة للوجه والكفين؛ ترفع بها الجنابة ويثبت الوضوء. إنها رخصة عظيمة، لكنها ما جاءت إلا بعد محنة. وإذا كانت المحن تأتي منها المنح، فمن المحن مصائب لا تنجلي عن خير، فما هو الفرقان بين المصيبة التي تنجلي عن خير والتي تنجلي عن شر؟ إذا وقعت بك مصيبة فأردت أن تنجلي عن خير فعليك بأمرين: الأمر الأول: أن تسلم لله فيما قضى، وتعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تتسخط. الأمر الثاني: أن تحسن ظنك بالله، وأن الله عز وجل لا يقدر لك إلا الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. والحمد لله رب العالمين.

كتاب ضد الإسلام

كتاب ضد الإسلام أصيب المسلمون بذلة وصغار وضعف في الإيمان، وموت غيرة في القلوب مما أدى إلى تصدر أهل الكفر والنفاق من بني جلدتنا في ميادين التعبير والانتقاد، والرد والجواب، فكان أول ما بدءوا بانتقاده والطعن فيه هو ديننا الحنيف، وأئمتنا وقادتنا الذين سطر التاريخ ذكرهم، ولم يكتفوا بذلك حتى طعنوا في نبي الأمة، وخالق الكون سبحانه وتعالى، ومما يزيد الطين بلة سكوت أهل الحق عن أهل الباطل، وعدم الغيرة لحرمات الله سبحانه وتعالى؛ لذا يجب تحذير الناس من أمثال هؤلاء الزنادقة وكشف فضائحهم وعوارهم في الصحف والمجلات وعلى المنابر وفي الندوات؛ وإلا أصابنا الله عز وجل بالويل والعذاب.

سيطرة أهل الباطل وطعنهم في الدين في ظل ضعف المسلمين

سيطرة أهل الباطل وطعنهم في الدين في ظل ضعف المسلمين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن إحدى القواعد التي يعلمها المتصفح للتاريخ أن قوة المسلمين وضعفهم تقاس بقوة النفاق أو الكفر، فحيثما رأيت الكفر يعلو؛ فاعلم أن المسلمين ضعاف، وحيثما رأيت النفاق هو الغالب فاعلم أن دولة المسلمين هي الأقوى. لقد كانت الدور في مكة تعج بالكافرين مع قلة المؤمنين آنذاك، فلما صار للمسلمين دولة في المدينة ظهر النفاق لأول مرة، ولم يكن قبل ذلك إلا الكفر المحض، رجل لا يستطيع أن يكفر في ظل دولة قوية، فاضطر أن ينافق ليحفظ ماله ودمه؛ لأنه لو جهر بالكفر إما أن يقتل وإما أن تضرب عليه الجزية، لو كان من أهل الكتابين وظل على كفره تضرب عليه الجزية والصغار والذلة، فظهر المنافقون في المدينة لما صار للمسلمين دولة، بخلاف مكة لم يكن إلا الكفر المحض في مقابل الإسلام الضعيف. وأنت إذا اعتبرت هذه القاعدة -وهي ثابتة في كل الأزمان- حتى تصل بتصفحك إلى زماننا ترى أن الكفر هو الغالب؛ لضعف المسلمين وهوانهم على غيرهم، وما هانوا على غيرهم إلا بعد أن هانوا على أنفسهم، نبينا صلى الله عليه وسلم يشتم مرتين علناً، وليس له في الأرض نصيب، ليست هناك دولة في الأرض تتبنى هذا الرسول، كتاب: آيات شيطانية، ما تحرك إلا الخميني الرافضي، ومعروف ماذا فعلت بريطانيا، سحبت السفير، وقطعت العلاقات بمجرد التهديد بقتل مواطن، يزعمون أنه مواطن، والدولة يجب أن تدافع عن مواطنيها، مع أننا نعلم أنه منذ قامت هذه الثورة في إيران، وقد قتلوا من الإنجليز وفجروا في داخل بريطانيا كثيراً، ومات أناس كثيرون وما فكروا في قطع العلاقات، كأن الذين ماتوا في الانفجارات ليسوا مواطنين. ما صار سلمان رشدي مواطناً إلا بعد أن سب نبي الإسلام! ومنذ شهرين في جريدة العربي في لندن أيضاً يخرج رجل يصف النبي صلى الله عليه وسلم -قطع الله لسانه، وشلت يده- بأنه سيد الحمقى، وأجرى هذا الحكم على بعض أصحابه كـ أبي ذر، وعلى سبطه الحسين، يوصف رسولنا عليه الصلاة والسلام بهذا وليست هناك دولة تقطع العلاقات الدبلوماسية ذراً للرماد في العيون وانتصاراً لهذا النبي، كأنه ليس هناك أحد على دينه في الأرض! ومما يدل على ضعف هوان المسلمين أن الكاتب يكتب اسمه بمنتهى الصراحة؛ لأنه يعلم أنه لن يعاقب. قديماً كان الذي يريد أن يشتم حاكماً أو يشتم طريقةً، أو يسب مذهباً كان يكتب اسماً مستعاراً، كما تعلمون في بعض الكتب كغاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي -وهو من أنفع الكتب- كتب اسمه على الكتاب أول مرة باسم مستعار؛ لأن السلطان عبد الحميد آنذاك كان يقرب الصوفية، ومنهم النبهاني المغضوب عليه، فلو أنه كتب اسمه لقتل، ولو أن المطبعة التي طبعت الكتاب كتبت اسمها لأغلقت، فاضطر أن يكتب على لوحة الكتاب اسماً مستعاراً حتى لا يقع تحت طائلة العقاب، لكن هذا يكتب اسمه صريحاً، والجريدة معروفة، ومقر الجريدة معروف، وعنوانها. ثم يكتب هذه المقالة التي هي عظيمة ولا يتحرك المسلمون! ولا تكتب الجرائد الرسمية استنكاراً بالعناوين الكبيرة! هوان وضعف! يجعل الحر ذليلاً يتجرع الذل، أمرّ شيء على نفس الحر هو أن يظلم ولا يستطيع أن ينتصر، كما أنه أمر شيء أن يظلم رجل وهو بريء، ولا يستطيع أن يثبت أنه بريء، ومن كان بريئاً فظلم؛ سلوه عن المرارة التي يجدها في حلقه. ولكن لا عليكم {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] نزلت هذه الآية بعد ثمان سنوات من الهجرة، لما ظهرت بوادر من بعض المسلمين بالتخاذل عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فبكتهم الله تبارك وتعالى، قال: إن لم تنصروه في هذا الموضع {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] ما نحتاج إليكم، ولم يكن واحد منكم موجوداً آنذاك وانتصر وهو ثاني اثنين، هذا إن لم تنصروه، فنحن نعلم أن ضعف المسلمين بسبب الكفر الذي مد عنقه ويده، وهو مطمئن أنه لن يقطع له عنق، ولن تبتر له يد. هذا على المستوى العام الدولي، أما على مستوى المسلمين في خاصة أنفسهم فيوجد كُتَّاب الفتنة، ودعاة الضلال، الذين يوهنون عرى هذه الأمة، وكثير منهم لا أقول: منفسخ، لكن صلته بدينه ضعيفة، أي شبهة تنقله عن الحق الذي كان يعتقده؟! وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال في وصيته النافعة لـ كميل بن زياد: (ورجل تابع لأهل الحق ليس له بصيرة في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض). هناك من الناس من يمشي مع كتيبة أهل الحق، لكن لا يعلمون هذا الحق علم اليقين، ولم تتذوقه قلوبهم، فإذا قابلت الواحد منهم أية شبهة ترك كتيبة أهل الحق وزاغ، لذلك كان واجب العلماء الربانيين أن يذودوا عن حمى الإسلام لأجل هؤلاء العوام، وأن يحوطوهم ويدفعوا شبه أهل الضلال والزيغ؛ حفظاً للذين يمشون مع أهل الحق لكن لا بصيرة لهم بهذا الحق، فيزيغ عن طريق الحق لأية شبهة مهما كانت سقيمة.

الرد على شبهات زعيم الطرق الصوفية

الرد على شبهات زعيم الطرق الصوفية

الرد على استحباب المبتدعة تسييد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة

الرد على استحباب المبتدعة تسييد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة يقول: (ومضى جمهور المحققين) هكذا، من هم جمهور المحققين؟ هو وأمثاله (على أنه يستحب أن يسيد النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة والتشهد خلافاً لثالوث التكفير ابن تيمية: وابن القيم وابن عبد الوهاب) هكذا بالنص، يعني: وأنت ترفع الأذان تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؛ لأن تسييده أدب، وترك تسييده قلة أدب، ووضع صورته على عنوان المقال، صورة رجل حليق، كأنه يرى أنه من الأدب -وهذا على أصله الفاسد الذي قعده- أن يخالف. إذا أمرك الرسول بأمر ورأيت الأدب في خلاف ما أمر، اسلك سبيل الأدب، مع أنه يدحض باطله أيضاً -وهم جهلة بالسنة وبالأصول- يدحضه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي محذورة الصحيح الذي رواه النسائي وأبو داود وغيرهما (: الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة) فلو زدت (سيدنا) زاد عدد الأذان عن تسع عشرة كلمة، ومعلوم عند جماهير أهل الأصول أن الأرقام قطعية الدلالة، وليست ظنية؛ لأنه لا خلاف في مدلول الرقم. فإذا سمعت قوله تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] لا تقل: هو يقصد تسعين جلدة، أو يقصد مائة وعشرين جلدة، أو يقصد ما تقوم به العقوبة قل أو كثر؛ لأن لفظ مائة عدد، ولا يختلف أحد من العباد في تأويله، وهذا يدل على أنه قطعي الدلالة، إذ لا يجوز الخلاف على مدلوله، بخلاف بعض الألفاظ التي تحتمل قولاً أو أكثر فتكون ظنية الدلالة، كقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] فالمساجد هنا ظنية الدلالة؛ لأن معنى مسجد واقع بين معنيين كلاهما تحتمله أصول اللغة، فمن قال أن معنى المساجد هي مواضع الصلاة، يكون معنى (وأن المساجد) هنا جمع مسجد، ومن قال بأن المساجد هي أعضاء السجود؛ يكون المعنى أن هذه الأعضاء لا تسجد لغير الله، وأن السجود لغير الله لا يجوز. وعلى ذلك تكون الألفاظ ظنية الدلالة لا تقطع بقول فيها وتخطئ الآخر، بخلاف الأعداد إذ لا خلاف بين أحد على تأويل العدد، فيكون قطعي الدلالة، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأذان تسع عشرة كلمة) فلو قلت: (سيدنا) زاد العدد عن تسعة عشرة، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لمقطوع به دلالة، وليس في أذان بلال ولا في غيره، ولا استحب أحد من الذين تدور عليهم الفتيا بين المسلمين أن يقول الرجل: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، وإن كان هو سيد ولد آدم ولا فخر. لكن ما علاقة هذا بذاك؟ يقول: (من أذن فسلك سبيل الأولين في الأذان؛ لا مانع، لكن لا يجوز له أن ينكر على من زاد سيدنا في الأذان لأنه سلك سلوك الأدب) هذه شبهة إبليسية، تعلمون من أين أخذها هذا الرجل؟ وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] فما من شبهة وضعت في الأرض إلا أوحى بها إبليس.

الشبهة الأولى: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله

الشبهة الأولى: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله بعض المجلات التي هي على لسان حال بعض الطرق الصوفية كتب زعيم الطريقة الأولى مقالاً وافتتح به المجلة بعنوان (أيها القرنيون! هل فهمتم؟) والقرنيون نسبة إلى القرن، أي: أيها البهائم! أيها العجول! أيها الخرفان! هل فهمتم؟ ثم كتب عنواناً أصغر منه يقول فيه -فض الله فاه-: سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله ثم قال: (إن العلماء المحققين يقولون: إن سلوك الأدب راجح على امتثال أمر الله، وحجتهم في ذلك هو فعل الصديق الأكبر رضي الله عنه لما كان يصلي بالمسلمين (فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصفق الصحابة؛ فنظر أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم فرجع، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اثبت فرجع؛ فصلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: يا أبا بكر! ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهذا أبو بكر سلك سبيل الأدب وخالف الأمر. هذه المقالة التي نتجوز في تسميتها شبهة؛ لأنها أضعف من ذلك، لكن هذه كفيلة بنقل جماهير كبيرة من العوام؛ لأن ظاهرها يدل على ما قال هذا المخذول، كأن الرجل عندما كتب ما علم أن في الزوايا خبايا، وأن في الناس بقايا، والله الذي لا إله غيره ما وقف أحد لأهل الحق إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا صافحهم أحد ولو كان من خطباء إياد إلا فضحوه، ولا قاتلهم مقاتل ولو كان من بقية قوم عاد إلا أكبوه على وجهه وبطحوه؛ لما لهم من الحجج البالغات، والأدلة النيرات، حق موجود مع أهله، والحق له قوة كامنة في ذاته كما قال تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] الحق قذيفة، قوته، في كونه حقاً، مهما صرح به ضعيف. قد تجد أهل الباطل والضلال عندهم جميع الإمكانات التي ينشرون بها ضلالهم، وتجد أهل الحق ضعافاً لا يملكون شيئاً، ومع ذلك يصل الحق إلى الناس ولا يصل الباطل بالرغم من الإمكانات؛ لأن قوة الحق في كونه حقاً، (بل نقذف) كأن الحق قذيفة، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء:18] وأصل الدمغ: هو شد الرأس حتى الدماغ، فإذا وصل الشج حتى الدماغ مات المشجوج أو هلك أو فني أو تلف، فإذا ما سلط الحق على الباطل زهق الباطل كما قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] زاهق: أي تالف. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أرسل جيشه يقاتل، فجاءه الرسول بعد انقضاء النهار بالبشرى -بشرى الفتح- فقال له عمر: (متى بدأتم القتال؟ قال -مثلاً-: بدأناه في نحو الظهيرة. ومتى فتح لكم؟ قال -مثلاً-: فتحنا بعد العشاء. فبكى، وقال: باطل يقف أمام الحق هذه المدة! ما هذا إلا شيء أحدثته أو أحدثتموه) لأن الباطل زاهق، ليس له نفس؛ لأنه لا يملك مقومات الحياة، فكيف يقف باطل أمام حق نصف نهار، هذه عقوبة بشيء أحدثته أو أحدثتموه. يقول الصوفي: (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله). هذه مقالة كافرة، يعني: أيها المريب إذا أمرك الله بأمر فرأيت الأدب على خلاف ما أمرك الله؛ خالف الأمر واسلك سبيل الأدب، أستغفر الله فإن ناقل الكفر ليس بكافر، كأن أمر الله خال من الأدب، كأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أدب، ثم يحتج لهذه -ونحن نزهق باطله أيضاً- بفعل أبي بكر، ولكن نسوق الواقعتين لتروا الفرق بينهما، ولا يساوي بينهما إلا من طمس الله على بصيرته فأعماه. الواقعة التي احتج بها رواها الشيخان من حديث سهل بن سعد: (أنه كان خلاف أو قتال في بني عمرو بن عوف، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض أصحابه إليهم، فأذن بلال، فلما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أبي بكر وقال: أقيم الصلاة؟ قال: نعم. فأقام الصلاة، وتقدم أبو بكر وكبر تكبيرة الإحرام، وجعل يقول دعاء الاستفتاح، وفي أثناء قوله لدعاء الاستفتاح جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فصفق الصحابة، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته، فلما أكثروا من التصفيق؛ التفت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يخترق الصفوف إلى الأمام، فرفع يديه فحمد الله، ثم نكص -أي: رجع- فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة معناها: اثبت. لكنه رجع، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ثم قال له: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم). هذه هي الواقعة، نحن نزهق باطل هذا الكاتب بواقعة أخرى لـ أبي بكر رضي الله عنه رواها الشيخان أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فكان يصلي لهم إماماً، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة -وهذا في أواخر عمره عليه الصلاة والسلام- وجد في نفسه خفة، فأمر العباس وآخر أن يحملاه، فحملاه ورجلاه تخطان على الأرض، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد صلى ركعة، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية، فأراد أبو بكر أن يرجع، فقال له: اثبت؛ فثبت. فصلى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب أبي بكر) ما يقولون في هذه؟ كان أبو بكر سيئ الأدب عندما قال له: اثبت، فثبت؟ لو جاز أن نقول: ناسخ ومنسوخ؛ لقلنا: إن هذه الرواية ناسخة للأولى، لأن هذه كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أبو بكر وصلى إماماً، لكن ليس في المسألة ناسخ ولا منسوخ؛ لكن ما الذي جعل أبا بكر في المرة الأولى يرجع، وجعله في المرة الثانية يثبت ولا يرجع؟ في المرة الأولى لم يكن صلى شيئاً من الصلاة، فاستساغ أن يرجع، لكن في المرة الثانية كان قد أتى بركعة، فلم ير لنفسه جواز أن يرجع، إذ أنه قضى شطر الصلاة، هناك فرق بين الحالتين، بين هذه وتلك. ثم إن الصحابي قد يفعل الشيء على خلاف ما يأمره به، ربما يكون في الأمر شيء أو أمر أو نحو ذلك، وهذا قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، قال: فلذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رجع ولم يمتثل الأمر. كان أبو بكر يظن في ذلك الوقت -مثلاً- أنه لا يجوز لأحد أن يؤم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أن يرجع، فلهذا الظن لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربما كانت الأحكام لم تكن قد استقرت أو استقر كثير منها، يرى أن يرجع، ولم يكن عنده علم بأنه يجب أن يثبت، أو يستحب أن يثبت أو نحو ذلك؛ لذلك لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم. استمر الكاتب -وهو قد وضع هذه القاعدة ليتفلت من الإسلام كله؛ لأن الإسلام تكاليف، وأهل الزيغ والضلال لا يقدرون على تكاليف الإسلام، فيريد أن يفعل ما يمليه عليه هواه فيثبت هذه القاعدة- يقول: وعلى مقتضى القاعدة كذا. نحن لم نسلم لك القاعدة أولاً، بل هدمناها، فلا تناقشني في الفرع فإن الأصل أعوج.

كاتب عجوز يختم حياته بحوار مع الله بعنوان الشهيد إبليس

كاتب عجوز يختم حياته بحوار مع الله بعنوان الشهيد إبليس يعزون في بعض الكتب مناظرة لإبليس، رد عليها ابن القيم وغيره، أن إبليس قال: لم يعذبني ربي وأنا الذي وحدته؟ إن الملائكة أشركوا؛ لأنني أبيت أن أسجد إلا له -أمره أن يسجد لآدم، قال: أنا لا أسجد لآدم، أنا لا أسجد إلا لك- فأنا الذي وحدته، وهم سجدوا لآدم فأشركوا. وإبليس أمر، فرأى أن الأدب في مخالفة الأمر، فكيف يعاقب؟ كأنه على مقتضى أصول هؤلاء إبليس بريء، وهذا ما يدندن به أصحاب الجبر، الذين ينسبون للقضاء والقدر كل الذنوب، زنا الله كتب علي ذلك، وكيف أفر مما كتب علي، وهذا مدندن حتى وصل إلى الأدباء الذين لا علاقة بينهم وبين دينهم. كاتب عجوز كان قد ذهب إلى فرنسا وعمره آنذاك (83) عاماً، فلما رجع -وهذا نشر في جريدة الأهرام وقتها- سئل: ما الذي لفت نظرك في فرنسا؟ قال: الزواج الجماعي. يا عجوز! يا ابن الثمانين الزواج الجماعي! ما أعجبك (الميراج) أو (البيجوه) أو أعجبك التقدم، إنما أعجبك الزواج الجماعي! عشرة رجال بنسوتهم، كل رجل يطوف على امرأة، وكل امرأة تطوف على رجل هذا هو الذي أعجبك! ثم ختم حياته بحوار مع الله على صفحات صحيفة الأهرام، كتب قصة بعنوان (الشهيد) -يقصد إبليس- قال: أراد إبليس يوماً أن يتوب، فذهب إلى شيخ الأزهر وقال: أريد أن أتوب. فقال له شيخ الأزهر: حسناً، هذا شيء جميل، ولكن قال: ولكن ماذا؟ فحك شيخ الأزهر في لحيته، ثم قال في نفسه: ولكن إذا تاب هذا مم يستعيذ المؤمنون؟ يقولون: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يوجد شيطان! الآيات التي تسب الشيطان وتلعنه ماذا نفعل بها؟ إذاً توبة الشيطان يترتب عليها حذف بعض آيات القرآن الكريم لا. قال له: هذا الأمر ليس من اختصاصي، هناك جهات عليا. فقال له: قد أمرت أن آتي رجال الدين، وأنت أكبر رأس موجود. قال له: الأمر ليس من اختصاصي، أنا اختصاصي إعلاء مجد الأزهر. فخرج إبليس يائساً، وصعد إلى فوق، فقابل جبريل عليه السلام. انظر إلى الكذب والافتراء والقبح عندما يصوغ كلاماً على لسان جبريل عليه السلام! فيقول جبريل: ما نستطيع؛ لأنك إذا تبت هذه الأساطير التي يرددها الناس ماذا نفعل بها؟ فوصف ما قاله الله في قرآنه بلعن الشيطان بأنه أساطير! فلما حاور جبريل عليه السلام يئس من التوبة فنزل، وصرخ صرخةً وقال: إني شهيد. فتجاوبت له المجرات والفلك والأشجار والبحار، ورددت صدى صوته، فكأن هذه الأجرام تعلم أن إبليس بريء. فصور إبليس أنه بريء أراد أن يتوب فقالوا له: لا. لقد لعناك، ومعنى أن ترجع في توبتك أن نرجع في لعننا لا. فصور الله على أنه ظالم، وإبليس بريء أراد أن يتوب فأبوا أن يقبلوا توبته! كيف ينشر مثل هذا الكلام على مستوى المسلمين في بلدانهم وفي حياتهم، حتى على مستوى الأسرة؟! ما أخذوا هذه الشبهة إلا من إبليس (سلوك سبيل الأدب راجح على امتثال أمر الله) بل نقول كما قال العلماء المحققون: الامتثال هو الأدب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح قاعدة: مذهب العامي مذهب مفتيه

شرح قاعدة: مذهب العامي مذهب مفتيه الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ليس من الصواب أن يُسكت عن هؤلاء بدعوى أن هذا الكلام لا يستحق الرد، بعض الناس يقول: لا تشغلوا أنفسكم بالرد على مثل هذا؛ لأنه واضح البطلان، فلا ترد عليه. ويقال: إن نفوس بني آدم متنوعة، فمنهم النفس التي تقبل مثل هذا السقوط، بل أشد من هذا السقوط، هناك نفوس ضعيفة جداً تتمنى مثل هذا القول حتى تعلق عليه أخطاءها، كما يقول قائلهم: (اجعلها في رقبة عالم واطلع سالماً). مع أنه قد يعلم في قرارة نفسه أنه باطل. جادلني رجل في فوائد البنوك بعدما أفتى المفتي بجوازها خلافاً لجميع علماء المسلمين، فهناك من هو متأرجح، وهو يعلم في قرارة نفسه أن وضع الأموال في البنوك حرام، لكن يقول: أريد أن أحتفظ بها؛ لأني لو أخرجتها سأنفقها، وأنا أعيش على عائداتها، فأنا مضطر أن أضعها في البنك. وهو كاذب في دعوى الاضطرار، فلما وجد أن المفتي أفتى بذلك قال: الحمد لله، (مذهب العامي مذهب مفتيه) فأنا تبع لهذا المفتي. هذا لا يقبل منه مثل هذا الاعتذار عند الله عز وجل، فمتى يكون مذهب العامي مذهب مفتيه؟ إذا لم يكن للعامي رأي سابق يركن إلى هواه فيه، فالرجل يسأل عن مسألة يريد أن يعرف الجواب لينفذه، فحينئذ مذهبه مذهب مفتيه؛ لذلك قال العلماء: لا يجوز للعامي أن يدور بالسؤال على أكثر من مفتي؛ لأن العامي لا يستطيع أن يرجح هذا حق أو هذا باطل، فمعنى أنه يدور بالسؤال على أكثر من مفتي -وهذا يقول له: حلال، وهذا يقول له: حرام ماذا يفعل العامي؟ يخرج من القولين جميعاً- لو كان عنده أكثر من قول سيتبع هواه في بعض الأقوال، لذلك قالوا: (مذهبه مذهب مفتيه) ولا يكرر السؤال على أكثر من مفتي إلا إذا حاك في صدره شيء تجنباً للهوى. فبعض الناس ينتظر فتوى كهذه، وبعض الناس على أحر من الجمر ينتظر من يفتي بحل الزنا، يريد أن يتنفس، وهناك بعض الناس ينتظر حل السرقة، أو من يفتي بعدم جواز قطع يد السارق، وقد وجد من قال بذلك، فنفوس العباد متنوعة.

قصص وخرافات صوفية

قصص وخرافات صوفية هناك الكثير من القصص الخرافية التي يدندن حولها الصوفية بجميع طرقها والتي يتبعها ألوف العوام، وينسبون فيها أشياء من خصائص الله لمشايخهم، والله العظيم أنا قرأت كتاباً لوكيل كلية أصول الدين، وهو شيخ طريقة صوفية يقول: إن جده كان يحيي الموتى وقال: من أراد أن يتأكد فليذهب إلى قسم شرطة كذا بمحافظة الشرقية في الورقة الفلانية في الملف الفلاني، شخص قُتل، ثم عجزوا أن يعرفوا من القاتل، فجاء جدي رضي الله عنه فأحياه، فقال: قتلني فلان، ثم مات ما شاء الله! مكتوب في ملف للشرطة كأنه في الزبور قرآن نزل! نصدق نحن هؤلاء؟! لو أقسم على المصحف -وهو كلام الله عز وجل وصفة من صفاته- أنه رأى ذلك لأقسمت بالله عز وجل أنه كاذب، هذا شيء يقطع به. وقد أقسم لي جماعة -وهم عند علماء الحديث يبلغون حد التواتر، أكثر من عشرة، لكن لا قيمة لاجتماعهم؛ لأن الناقل لابد له من الثقة والضبط، وهؤلاء لا نعرف عنهم شيئاً، لكنهم عشرة أو ثلاثون أو أربعون -يقولون: إن فلاناً أوصى أن يدفن في بلده، وكان يعيش في غير بلده، فلما مات اجتمع أهل الرأي من أهل بيته وقالوا: ليس هناك داع أن نتجشم نقل جثمانه إلى بلده، ندفنه هنا. فخالفوا الأمر، فلما أرادوا أن يحملوا نعشه طار النعش، حتى إنهم جميعاً خلعوا أحذيتهم ليجروا خلفه، وذهب إلى قبر لم يكن فتحوه -هم فتحوه ليدفنوه هنا فحاولوا حمل النعش فتسمَّر في الأرض، وأبى هذا الميت أن يدفن إلا في هذا القبر، فلما لم يستطيعوا أن ينقلوه إلى آخر دفنوه في ذلك القبر، وأقسموا -جماعتهم- لي أنهم رأوه بعد العشاء يخرج من المقبرة في طبل وزمر يتجه إلى بلد أبيه نصدق هؤلاء وهم يقسمون بالله العظيم أنهم رأوا، ما أخبرهم أحد، ونحن نعلم أن الشياطين تلبس كثيراً، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قد تحمل الشياطين بعض نعش الموتى ليفتتن به بعض الناس كنوع من الفتنة). ولكن نقول: ضعوا أي نعش لأي ولي تزعمون في سيارة، فإن طار بها فأنتم صادقون، لماذا لا يطير إلا على أكتافكم؟ حدثني أخي -وكان قديماً أحد الذين يروجون مثل هذه الخرافات- قال: مات فلان وهو رجل مدفون وله قبة، فقال ابنه الخليفة: لا يحمل في المحمل فلان لماذا؟ لأن فلاناً هذا إذا حمل فإن النعش له يمشي، والذين كانوا يحملونه طبخوها بالليل، فقالوا: يا إخواننا! نحن عندما نمشي سنقع، لازم نجري، هو الذي يأخذنا. فأراد ذلك الرجل أن يثبت كذب هذه الدعوى، فحمل في محمل سابق، فكان يمشي هكذا، هم يشدونه وهو يرجع القهقرى. فقال ابنه الخليفة: لا يحمل في المحمل فلان. لأنهم طبخوها. هناك من يصدق هذه الترهات، بالله عليكم أهذه أقوى أم التي سقتها وأتيت لها بدليل من البخاري؟ كل باطل تقدر على أن ترده، فما اجتمع الباطل وصار كتلةً إلا نقطة بنقطة، وما السيل إلا من اجتماع القطر، ولا تستهن بصغيرة إن الجبال من الحصا. رجل أراد أن يفسر قول الله تبارك وتعالى بالتفسير العصري، فقال في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] قال: هذا للذي ينظر بشهوة، أما إذا نظر رجل إلى جمال امرأة ليقول: سبحان الخالق العظيم، فلا جناح عليه ما شاء الله! يتأمل في جمال امرأة! يا أعمى! {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] كيف عميت عن نفسك وأنت مثلها في الخلق حتى تقول: إذا نظر وقال: الله الله! فهذا يؤجر، فهذا لا يدخل في الآية، ولا نستبعد أن يكون هناك من ركنوا إلى هذه وقالوا: والله الرجل هذا عالم، مفسر، بخلاف أولئك الجامدين الذين يعنتوننا، كيف لا نستمتع بهذا الجمال؟ وما الفرق بين المرأة وبين زهرة في البستان؟ إذا كنتم تحرمون النظر إلى المرأة فحرموا النظر إلى الزهور انظروا إلى القياس الفاسد! كالذي قال: الموسيقى حلال كما أنك تستمتع بصوت العصافير والبلابل، وإذا جاءت الريح على الشجر سمعت موسيقى، وهذه ليست حرام، فهذه أيضاً ليست حرام. هذا قياس إبليس إذ قاس الطين على النار، وما علم أن الطين مادة الحياة، وأن النار أصل كل خراب، الطين هو النماء، وهو الخضرة، وهو الإنسان، والنار خراب ودمار وحر، فكيف يقيس هذا على ذاك؟! نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، اللهم ثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم آت هذه الأمة أمراً رشداً، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

نداء الغرباء

نداء الغرباء الاغتراب عن الأوطان من أصعب ما يعايشه المرء في حياته، فإنه يكاد يجد له صاحباً، ولا يركن إلى أنيس. ورغم قسوة هذه الغربة إلا أن غربة الدين أشد قسوة، فما بالك برجل غريب بين أهله لا يكاد يجد منهم موافقاً، ولا في طلب الحق مرافقاً، فليت شعري أي غربة يعيشها الدين وأهله في هذا الزمان. لكن على غريب الدين أن يتأسى بمن سبقوه في الغربة الأولى؛ ليتخذ من سبيلهم طريقاً ومنهجاً، ويجعل من سيرتهم معيناً ومنهلاً.

غربة الدين في انطلاقته الأولى

غربة الدين في انطلاقته الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وبلال وجابر، وجماعة من الصحابة تجاوزت عدتهم خمسة عشر صحابياً، فهو من الأحاديث المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن غربة المسلم تتجدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل وانقطاع، وقد عمت الأرض الوثنية والشرك، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد قال بعضهم لبعض: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]. أقوام تعودوا على تعدد الآلهة، وعلى تعدد الأنداد لرب العالمين، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد، وهو أرفق وأوفق قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] وكالوا له ولأصحابه العذاب والتهم التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده مع بعض المؤمنين به، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من أرسلك؟ قال: الله أرسلني. قلت: أرسلك بماذا؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان. قال: ومن معك؟ قال: حر وعبد) إشارة إلى أبي بكر وبلال، والنبي صلى الله عليه وسلم الثالث، وعمرو بن عبسة هو الرابع، لذلك قال: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام). وقال سعد بن أبي وقاص كما في البخاري: (لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام) وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: (لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وامرأة وخمسة أعبد وأبي بكر). كان الإسلام يعاني من قلة الأتباع؛ لأن المجتمع الجاهلي الذي تسود فيه الوثنية لا يأذن لمثل هذه الدعوة أن تنتشر؛ لأن فيها دعوة إلى إزالة الفوارق، وأن يصير أبو جهل كعبده الذي يبيعه في الأسواق سلعة، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكانوا يأنفون من ذلك، وكانوا إذا طافوا بالكعبة لا يأذنون للعبيد أن يطوفوا معهم، فكيف يقفون في صف واحد يدعون الله تبارك وتعالى، وما منعهم من قبول الإسلام إلا الكبر. بدأ الإسلام غريباً في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة، ولكن هناك فرق بين الغرباء، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب، فلم يفتنهم، وكانوا يحتسبون العذاب في الله تبارك وتعالى، بخلاف المتأخرين من الغرباء، فإن إيمانهم هش ضعيف، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار. فالغربة مظاهرها واحدة، لكن شتان بين الغرباء. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغرباء قال: (هم الذين يُصلحون إذا فسد الناس) وضبطها بعضهم (هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس). كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة، وأنه ساد؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق. ولذلك لم يظهر النفاق في مكة، لم يكن ثم إلا كفر وإيمان، إنما ظهر النفاق في المدينة بعدما عز الإسلام وصارت له دولة؛ فلم يزل يعامل المنافق على الظاهر، والمنافق يريد أن يحفظ دمه، ويحفظ ماله، فيظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر. أحد القضاة الذين أخذوا على أنفسهم أنهم لا يقضون في الحدود إلا بما شرع الله ورسوله، كان إذا جاءه زانٍ محصن حكم عليه بالرجم، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في كتاب الله تبارك وتعالى، لكن آية الرجم نسخت، والنسخ -هو: رفع الحكم المتقدم- عند العلماء على نوعين: الأول: رفع النص مع بقاء الحكم، والثاني: بقاء النص مع رفع الحكم. فمن النوع الأول: آية الرجم. ثبت في مستدرك الحاكم -وأصله في صحيح البخاري - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كنا نقرأ فيما نقرأ من القرآن (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، بما حظيا من اللذة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فهذه آية كانوا يقرءونها في القرآن الكريم، ثم رفعت الآية وبقي حكمها، وعلى هذا جميع أهل الإسلام، إلا من شذ من أهل البدعة، وأجمع جمهور الأصوليون على ذلك. ومن النوع الثاني: يبقى النص ويرفع الحكم كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فهذه الآية فيها إظهار لفائدة الخمر؛ لكنها لا تساوي شيئاً بجانب الضرر، فلا يجوز لأحد أن يحتج بهذه الآية ويقول: أنا سأشرب الخمر للفائدة التي فيها؛ لأنها نسخت بآية المائدة. فهذا القاضي جاءه مرة رجل زان، وكان المحامي الذي يدافع عنه حتى يخرجه ويحقق له البراءة يتمنى أن يحكم في القضية هذا القاضي؛ لأنه يعلم أنه إذا حكمت المحكمة عليه بالرجم -ولا أحد يطبق عليه حد الرجم- فمعنى حكمه هذا أنه سيخرج من السجن، فإذا حكمت المحكمة على فلان بالرجم، أي: بالقتل، مع عدم وجود سلطان شرعي يقيم حد الله تبارك وتعالى ويحفظ حدوده، فإن هذا الحكم بالموت يساوي البراءة في هذه الأزمان؛ لأننا نعيش غربة ثانية للدين. فلما أعلن القاضي حكمه، والذي يقضي عليه بالرجم. ضجت القاعة بالتصفيق، وعانقوا المجرم الأثيم لماذا؟ لأنه لا يوجد من يطبق حد الرجم، ولو حكم عليه بالسجن لسجن؛ لكنه لا يريد أن يبدل حكم الله، وهو إذا حكم بحكم الله كان الحكم بمثابة البراءة لهذا المجرم. يا للغربة! لا يوجد سلطان يحمي حدود الله في الأرض، من سب الله سجن ستة أشهر، ولم ينفذ هذا القانون ساعة، ولو سب الذات الملكية يسجن في الحال دون محاكمة.

غربة الدين في هذا الزمان

غربة الدين في هذا الزمان غربة أهل الدين في هذه الأزمنة المتأخرة، مع عدم وجود النصير، ومع قلة الأتباع، ومع قلة الصبر؛ يجعل الغربة مضاعفة. (الذين يُصلحون إذا فسد الناس) أو (الذين يَصلحون إذا فسد الناس) يدل على انتشار الفساد العريض، مع قلة الداعين إلى السنة، حتى يصير الواحد منهم أغرب من فرس دهماء في غلس، أرأيت إلى الفرس السوداء شديدة السواد إذا وقفت في ظلمة الليل البهيم أتستطيع أن تبصرها؟ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]. إن الغرباء الأولين كانوا يستعلون بإيمانهم لذلك كانوا يستهونون العذاب، تخلل الإيمان ووصل إلى شغاف قلوبهم، وما تساوي الدنيا إذا خرجت روحك إلى النعيم، كأنها حبيسة في زجاجة، فإذا خرجت من عنقها خرجت إلى الفضاء الواسع، فمن الذي يرضى بالسجن؟ فالدنيا سجن المؤمن، إذا خرج منها إلى اللذة والنعيم المقيم كان ذلك أعز أمانيه، لذلك كان يتمنى أن يخرج من الدنيا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اعلموا أنكم لا تلاقون ربكم إلا إذا متم) إذاً فالموت عند هؤلاء أمنية؛ لأنه لا يستطيع أن يلقى الله إلا إذا مات، فإذا قتله المشركون قال كما قال الأولون: (فزت ورب الكعبة) ما كانوا يرتعدون للموت؛ لذلك كانوا يقدمون على نصر هذا الدين بعد تحقيقه في الواقع. لماذا لا يشعر المسلمون الآن بلذة الدين؟ لأنه لا يراه حساً، لا يراه حقيقة واقعة، لا يمارسه، إنما هو نصوص نظرية نصوص صارت أثراً. إن أصول الإسلام حبيسة في دور الكتب، فما طبع من الكتب في تفسير القرآن وتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم يغطي الأرض، فلو أنك بسطت الكتب المطبوعة في تفسير كلام الله وكلام رسوله لملأت الأرض بالكتب، وأقول: إن ما لم يطبع من الكتب يساوي ما طبع مرتين أو أكثر، وهي حبيسة الخزانات العامة أو الخاصة، وكأنها تحف في متحف، وهذا كلام الله ورسوله، تفسيره وبيان مراده، نصوص انعزل المسلمون عنها، لم يشعروا بحلاوتها؛ لأنهم لم ينقلوها إلى الواقع، بخلاف الغرباء الأولين، كان الواحد منهم إذا قرأ الآية لم يتجاوزها حتى يعمل بها، لذلك قل فيهم من كان يحفظ القرآن كله، فكان من يحفظ القرآن كله من الصحابة قلة قليلة. ونحن فينا -بحمد الله- من يحفظ القرآن كله، ولكن أقلهم من يعمل به، يقرءونه ولا يدرون معانيه، وبعضهم يقرؤه ويحرف الكلم عن مواضعه، كالذي يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع ألف جنيه فيقال له: لم هذا السعر الغالي؟! يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] فماذا نفعل في هؤلاء؟! إن هؤلاء يحتاجون إلى عمر، فمثل هذا يقول: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] ولم ينزل الله الآية لذلك، فهو يحرف الكلم عن مواضعه، فضلاً عن الباطنية أعداء الدين، الذين يحرفون الكلام تحريفاً هشاً لا يقبله العقل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] يقولون: البقرة عائشة، وهل يوجد في أي قاموس من قواميس اللغة أن البقرة من معانيها عائشة؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] علي. ما هذا الجهل؟! لم يقفوا عند عدم فهم كلام الله فحسب، بل حرفوه. هذا أوان الغربة الثانية إن الغريب له استكانة مذنب وخضوع ذي دين وذل مريب يقف كأنه مذنب بلا ذنب، ويضع رأسه في الأرض، وحقه أن يعز، وحقه أن يرفع رأسه، لكن لضعف تربيته وتنشئته لا يستطيع أن يستعلي بالإيمان، بين قوم تسودهم بعض صفات الجاهلية، وليست الجاهلية فترة زمنية قبل الإسلام، إن الجاهلية مذهب وخلق، فتوجد بعض صفات أهل الجاهلية في أهل الإسلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية) وكان ذلك في أوج عز الإسلام، مما يدل على أن المرء قد يجتمع فيه جاهلية وإسلام، ويجتمع فيه كفر وإيمان، ونفاق وإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وباتفاق العلماء أن من يفعل ذلك ليس بكافر، بل هو مسلم. ليس من يخلف وعده يكون منافقاً في الدرك الأسفل من النار لا، إنما هو مسلم فيه شعبة من النفاق، فهذا إسلام ونفاق اجتمعا في عبد واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهناك العشرات من المسلمين بل الملايين يحلفون بالنبي والولي، ومن يحلف برأس أبيه، ومن يحلف بشرف فلان، وهذا كله شرك وكفر؛ لكنه كفر دون كفر ولا يخرج من الملة، فهذا كفر اجتمع مع إسلام في رجل واحد، فإن الجاهلية توجد في العبد المسلم؛ لأن الجاهلية خلق وليست فترة زمنية قبل الإسلام.

غربة الدين في الوقت الحاضر متمثلة في غربة أهل السنة

غربة الدين في الوقت الحاضر متمثلة في غربة أهل السنة إن غربة الإسلام غربة خاصة، والسني في هذه الأيام غريب في أهله، بل يقول بعض الأبناء -وكثيراً ما شكي إلينا ذلك، ونسأل في مناسبات متعددة-: - أبي حلف عليّ: إنك إذا صليت في مسجد سني فأمك طالق ماذا أفعل؟ - أبي حلف عليّ: إذا أطلقت لحيتك فأمك طالق، أو يخرجني من البيت ماذا أفعل؟ إن التطرف في الدين خير من التطرف في الدنيا، مع أن كلاهما مذموم، لكن الذي يتطرف في الدين أبعد عن الانحراف والفساد العريض من الذي يتطرف في الدنيا، فإذا خفت على ولدك أن يدمن (الهيروين) فدعه في أحضان أهل السنة والجماعة. إن من الغربة أنك إذا صدعت بكلمة الحق أوخذت على ذلك، وقيل لك: عندنا أوامر ألا تتكلم في هذا الأمر، هذا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام خذ مثلاً واحداً: وهو ما حدث في فرنسا في العام الماضي، فرنسا بلد المجون والدعارة التي اتسعت لكل شيء؛ للـ (ميني جيب) و (الميكروجيب) والعراة، لما لبست بنتان صغيرتان الحجاب قامت قيامة الفرنسيين، حتى اضطر رئيس الدولة وامرأته أن يتكلما في هذا الأمر شخصياً بنت تلبس الحجاب فتهتز دولة كفرنسا التي تعد بنت الكنيسة البكر، والداعية إلى النصرانية، تهتز كلها وهي دولة عظمى لحجاب فتاة؟! وقد اتسعت للـ (ميني جيب) و (الميكروجيب)، واضطر رئيس الدولة أن يدلي ببيان في ذلك. إنهم رأوا أن هذا الحجاب ليس مجرد قماش يوضع على الرأس، إن هذا رمز، كما أن هذه اللحية رمز، أما الذين يهونون من الهدي الظاهر فيقولون: (ربنا رب القلوب)، نعم هو رب القلوب، ولكن هو الذي أمرك بإصلاح ظاهرك كما أمرك بإصلاح باطنك، فلم فرقت؟ إن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن. ليس الحجاب قماشاً يوضع على الرأس، إنه رمز، والبنت التي لبست الحجاب مغربية، ومما يندى له الجبين وتدمع له العين أن ملك المغرب نفسه أيضاً يتدخل ويأمر والد هذه البنت أن يمنعها من لبس الحجاب، رئيس دولة عظمى يتدخل!! ورئيس الدولة التي منها هذه البنت يتدخل أيضاً!! لماذا رؤساء الدول يتدخلون في هذه المسائل؟ ما عهدناهم يتدخلون! إن سلمان رشدي الأفاك الأثيم الكافر -لأن توبة الزنديق لا تقبل عند جميع العلماء- الذي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم أمهات المؤمنين بالدعارة، وأفتى الخميني بقتله، فأول ما أفتت إيران باستباحة دمه غضبت إنجلترا، وسحبت السفير من إيران، رغم أنه يعتبر رجلاً عادياً لماذا سحبتم السفير؟ قالوا: هذا رجل ألف كتاباً مثلما يؤلف الكثيرون. أيسب رسول الإسلام، وتتهم نساؤه بالدعارة ولا صريخ؟! إن بابا روما لو سجن لقامت الدنيا. في (مدرسة المشاغبين) أتوا برجل له عمامة ويلبس الجبة والقفطان وهو يرقص، ولا يجرءون على أن يضعوا مكانه قسيساً هذه غربة ما لها من دافع! ماذا يفعل المسلمون الضعاف أمام هذه الغربة على المستوى العام على مستوى الدول، وعلى المستوى الخاص؟! (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أيها الغرباء في الغربة الثانية! طوبى لكم، طوبى لكم وحسن مآب، طوبى للغرباء (الذين يصلحون إذا فسد الناس) لا تيئس من روح الله، ولا يحملنك كثرة المخالفين على اليأس من إيصال الحق إلى القلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كانوا يدعون الواحد بعد الواحد، لكن الواحد منهم كان يزن أمة ونحن غثاء كغثاء السيل، (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت). نسأل الله تبارك وتعالى أن يلطف بهؤلاء الغرباء، وأن يمدهم بروح منه، وأن يعزهم، وأن يعز الحق بهم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

عدم تمكين المصلحين سبب في غربة الدين

عدم تمكين المصلحين سبب في غربة الدين إننا نعيش الآن غربة شديدة محكمة، والذي ضاعف منها ضعفنا أيها الغرباء، فنحن ضعاف لا نتحمل العذاب والفتن، لاسيما مع وجود الرءوس الجهلة الذين يفتون الناس بغير علم، ويسمع لهم، ويمكنون من أجهزة الإعلام. ماذا يفعل المخلصون؟ إن أكثر خطيب الآن في مصر يحضر له الناس في خطبة الجمعة لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف. فهب أن نصيحته المخلصة وصلت إليهم، كم يكون قد استمع لها؟ عشرة آلاف رجل وامرأة. أثبتت الإحصائيات الرسمية في أوائل الثمانينات أن العدد الثابت الذي يجلس لمشاهدة جهاز التلفزيون عشرة ملايين إنسان، ويزيد هذا العدد في المساء إلى ثلاثين أو أربعين مليوناً، لكن العدد الثابت عشرة ملايين إنسان، فإذا خرج عليهم جاهل يقول لهم: إن الموسيقى حلال؛ بدليل: أن الرياح إذا أتت على الشجر، واصطدمت بالفروع أصدرت أصواتاً تشبه العزف، وإن الطيور لتغرد، وإنك لتقرأ القرآن وقد أمرت بالتغني به، وهذا يدل على أن الموسيقى حلال وهذا يصادف هوى الجماهير التي تريد أن تثبت لنفسها أنها مسلمة من غير أن تخرج من أهوائها. رجل يأكل الربا وإذا قلت له: لا يجوز لك أن تأكل الربا وعليك أن تترك كل هذه الملايين، عز عليه ذلك، فإذا قلت له: فوائد البنوك حلال، ولا شيء في ذلك، شعر ببرد الرضا؛ لأنه صار مسلماً موحداً مع وجود عدة ملايين تدخل في جيبه، ليس مستعداً أن يضحي بها؛ لذلك إذا قلت لصاحب الغناء: أرح أعصابك بموسيقى كلاسيكية، أو بموسيقى رومانسية، وأنت بذلك لست مخالفاً لدينك؛ شعر بالرضا، فإذا سمع بعضنا يقول له: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف) ولم يصادف ذلك هوى نفسه قال: أنا آخذ بفتوى الأول، فعندما تناقش أولئك: ما الذي دعاكم إلى إصدار مثل هذه الفتوى؟ قالوا لك: إن الفقه يتطور إن الفقه يتجدد. فنعوذ بالله من أولئك الذين سماهم بعض الأذكياء بـ (المجددينات)! قال له سائله: وما المجددينات؟ وأي جمع هذا؟ ليس بجمع مذكر (مجددون)، ولا بجمع مؤنث (مجددات) أي جمع هذا؟! فأجابه إجابة أبدع من التسمية، وقال له: هذا (جمع مخنث سالم)، فأقسم له سائله أن اللغة العربية في أشد الحاجة لهذا الجمع، خصوصاً في هذه الأيام. ماذا نفعل في أولئك (المجددينات) الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (يحدثونكم بما لا تعرفون وآباؤكم) لا نعرف هذا في آبائنا الأولين، غربة استحكمت على الغرباء مع ضعف إيمانهم وجهلهم، وكثرة الفتن عليهم، فلا شك أنهم يختلفون عن الغرباء الأولين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

استغلال منابر الإعلام في نشر الفتاوى المتضاربة مما يفقد العامة الثقة في العلماء

استغلال منابر الإعلام في نشر الفتاوى المتضاربة مما يفقد العامة الثقة في العلماء الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الذي يفرق بين الغرباء الأولين وبيننا في الغربة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصدر الضوء بالنسبة للغرباء. لقد شكا كثير من العلماء من تولية منصب الإفتاء لرجل ليس ضليعاً في الفتوى؛ لأن الأمر -كما قال الأولون-: (إذا زل العالم زل بزلته عالَم)، فهذا المفتي لابد أن يكون عالماً متيناً، بمعنى أنه يجب عليه أن يغضب لله ورسوله، لكن يبقى يفتي الناس، ويرى المنكر ولا يتمعر وجهه؛ فهذا يفقد مصداقيته. وعندما يفتي -مثلاً- بأن فوائد البنوك حلال، وتقوم الصحف الرسمية والمجلات بنشر هذا الرأي، وبتمجيد المفتي، حتى إن مجلة (أكتوبر) جعلته الرجل الأول في استفتاء عام (89م) كلاعبي الكرة والممثلين، ولا يستغرب ذلك؛ لأن الجماهير العريضة كانت تنتظر فتوى تحليل الربا. وفي نفس الوقت يفتي -وقد أصاب في ذلك- أنه لا يجوز أن تقام مسابقات ملكات الجمال؛ لأن هذا يعتبر عهراً رسمياً، امرأة تأتي ليقيسون أردافها ووسطها ونهديها بالمقاس، ويعرضون العورات على مرأى ومسمع من الناس، وفي الفنادق الكبرى، ولها تصريح رسمي، وعندما يقولون لهم: هذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، فلا يستمعون لهم، ولا يقيمون لهم وزناً. يهللون للأولى ويتعامون عن الثانية إن المرء ليفقد ثقته في أمثال أولئك. وجاء آخر وأول ما تولى منصب الإفتاء قال: إن اتحاد المطالع هو الراجح، وإذا رأينا الهلال في بلد مجاور لنا يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم. وبعد ذلك جاء في رمضان الثاني وقال: اختلاف المطالع هو الأصل، ولا عبرة باتحاد المطالع، فإذا رئي في بلد يشترك معنا في جزء من الليل فلا يجب علينا أن نأخذ برؤيتهم، ونشر هذا القول في (الأهرام). فجاء هذا العام وقال: إن اتحاد المطالع هو الأفضل، وهو الراجح، فإذا رُئي الهلال في بلد يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم. فهل نبدل الفتاوى كما نبدل النعال؟! فهذا يدل على أنه لا يوجد تأصيل علمي؛ لأن المرء إذا اعتمد على اجتهاده في فتوى، فهو يفتي أولاً عن دليل راجح له بعد بحث طويل مقنع، فمثل هذا لا يتحول عن اجتهاده بسهولة، لاسيما والأدلة مبسوطة في مواضعها، فما الذي خفي عليه وعلمه حتى يبدل فتواه ثلاث مرات في سنتين؟! فما بالك بالذين يضلون الناس عن عمد أو عن جهل؟! مثال آخر: جماهير العلماء كـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري وابن وهب وغيرهم من العلماء: أنه لا يجوز اجتماع قبر ومسجد في دين الإسلام، ولا يجوز بناء المساجد على القبور. ومع ذلك يخرج علينا رجل مشبوه مجيباً على سؤال نصه: هل اتخاذ المساجد على القبور شرك؟ قال: ومن قال هذا؟ ليس بشرك. وحتى يثبت عملياً أنه ليس بشرك عقد مجلسه الدائم في مسجد الحسين، فانظر إلى هذه الغربة التي يعيشها الحق وأهله! إذ يرى الذين يدخلون ويقبلون الأعتاب، ويسألون المدد من غير الله تبارك وتعالى، ويرى شرطياً يقف حتى ينظم المرور من اليمين إلى الشمال، كما لو كانوا يطوفون بالبيت العتيق ولا ينكر، ولا تهتز له شعرة، وهذا دليل عند العوام والطغام أن القبر يجوز أن يجتمع مع المسجد، وأن دعاء الأموات ليس بشرك! فماذا يفعل الدعاة المصلحون؟ فهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لوكان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث تكسرت النصال على النصال، وضعفت أبدان الدعاة عن تحمل العذاب، وتحمل مخالفة الجماهير العريضة لهم؛ حتى صار الواحد منهم كالغريب في أهله.

التقيد بالمنهج واقتفاء هدي النبي سبب لتمكين الصالحين وانتشار الدين

التقيد بالمنهج واقتفاء هدي النبي سبب لتمكين الصالحين وانتشار الدين إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أشرنا إشارة عابرة إلى أن الغربة تنقسم إلى قسمين، وهي: غربة خاصة، وغربة عامة. فأما بالنسبة للغربة الخاصة فهي: أن يكون الرجل غريباً في خاصة أهله أو غريباً في قومه، ذلك أن الجماهير العريضة إذا ابتعدت عن قبس الضياء أوغلت في الظلام، وهذا أمر حسي مشاهد، ننقله إلى الأمر المعنوي الآخر لو أن هناك مصباحاً، وله ضوء قوي، وكلما اقتربت من المصباح كلما شعرت ببهاء ضوئه ولمعانه، وكلما ابتعدت عن هذا المصباح شعرت أن الضوء يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى تدخل في ظلام حالك لا يخالطه نور، هذا هو المثل الحسي الذي نشعر به جميعاً ونراه. الأمر المعنوي الذي يضرب له هذا المثل هو الهدى والضلال، فبقدر قربك من مصدر الضوء صلى الله عليه وآله وسلم بما أتانا من قرآن وسنة؛ بقدر ما يكون إحساسك بنور الإسلام وبهائه ولامع نوره، وبقدر بعدك عنه وانسلاخك منه؛ بقدر إيغالك في الظلام. لا تظن أن ذلك الظلام الدامس الذي يشكو منه الغرباء في المرحلة الثانية يدوم، لن يدوم إن شاء الله مع مراجعة الضوء الأول. إن ظلام الليل كلما اشتد آذن بمولد الفجر، ولذلك ترى أحلك فترات الليل سواداً وظلاماً هي التي تسبق نور الفجر، فإذا راجعت الضياء تخلصت من هذه الظلمات التي يعبر الله تبارك وتعالى عنها بلفظ الجمع في القرآن الكريم، ويعبر عن لفظ النور بالإفراد {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] لأن مصدر النور واحد، بخلاف مصادر الظلمات، فإنها متعددة: ظلمة الريبة، وظلمة الشك، وظلمة الكفر، وظلمة الأهواء، إلى آخر هذه الظلمات، فهي ظلمات تأتيك من أشياء متعددة. وقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وصححه الحاكم في المستدرك (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خط خطاً طويلاً على الأرض، وخط خطوطاً صغيرة عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا طريق الله -طريق واحد فقط- وهذه طرق الشياطين-ظلمات متعددة- على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فأنت تعترضك مصادر كثيرة من الظلمات، إن فاتك مصدر نهشك الآخر، وإن فاتك الثاني أدركك الثالث، ولا عصمة لك من هذه المصادر إلا بأن تعتصم بالأمر الأول. نحن نرى الآباء الآن لا يملكون التأثير على أولادهم جاءني سائل يقول: ابنتي لا تريد أن ترتدي الحجاب، وأنا لا أريد أن أضغط عليها، أريدها أن تلبس الحجاب عن اقتناع تقتنع بماذا أيها المسكين؟ تقتنع بفرض الله عليها، وليس لها خيار في أن تقبل أو أن ترد، إن كانت من الذين آمنوا، ومن الذين أسلموا لله؛ ليس لها خيار، وليس لك خيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فهو لا يريد إجبارها حتى تقتنع هب أنها لم تقتنع؟ أين يذهب حكم الله؟ إذا هي لم تقتنع بحكم الله تقتنع بمن؟ لقد خلعت نفسها من دينها بهذا القول وهي لا تدري. ويقول آخر: أنا لا أريد أن ألزم ابني كي يصلي؛ لأني لو ألزمته عليه حتى يصلي فسيصلي أمامي ولن يصلي من ورائي، ولو كانت المسألة بالإقناع فإنه لن يتركها. بمثل هذا القول عرَّضنا حقائق الدين الثابتة للضياع؛ لأننا أخضعناها للمناقشات. الغرباء الأولون كانوا يعتصمون بتنفيذ أمر الله لتجاوز مرحلة الغربة؛ لذلك مكن الله لهم. نسأل الله ألا يمكن للعصاة في بلادنا؛ لأنهم عباد شهواتهم، تصور لو أن رجلاً يصلي هل يمكن أن يصدر أمراً باعتقال المصلين في صلاة الفجر؟! وهل يمكن أن يصدر أمراً بإلقاء القنابل المسيلة للدموع في المساجد؟! لو أنه يعظم حرمات الله ويعظم شعائر الله لا، نعوذ بالله أن يتمكن أولئك، إننا نريد أن يتمكن المؤمنون، لذلك هؤلاء لن يمكنوا حتى يراجعوا الأمر الأول؛ ليكونوا بذلك خليقين بالخلافة، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] رأوا أن من استحقاقهم -وهم الملائكة- {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فرأوا أن استحقاق الخلافة تكون للمسبح والمقدس، وطالما ضاع التسبيح والتقديس لا تكون الخلافة. لذلك يجب على المسلمين أن يراجعوا الأمر الأول، ولا يكن بأسهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، إننا نرى جماعة يحاربون بعضهم في الخلاف الفرعي، ويمقتون بعضهم في الخلاف الفرعي أشد ما يمقتون اليهود والنصارى، والله العظيم! إن بعض المسلمين بسبب الخلاف في بعض المسائل الفرعية يكره أن يلقى أخاه، وإذا قابل النصراني قال له: صباح الخير، وبش في وجهه، وإذا رأى أخاه الذي اختلف معه في مسألة فرعية أخذ طريقاً آخر! وما ذاك إلا لضعف الولاء للإسلام والمسلمين؛ كل هذا فرع عن الإيغال في الظلمات؛ والبعد عن الأمر الأول. ترى مفتياً من المفتين يستحسن البدع لما يرى في مقابلها من الكفر الصريح، لو سئل عن رجل يذكر الله -مثلاً- أو يعبده بطريقة مبتدعة، يقول لك: أليس هذا أفضل ممن يسهر في شارع الهرم؟ صاروا يقارنون أهل البدعة بأهل الكفر؛ فرأوا أن أهل البدعة على خير عظيم، وصارت الجماهير تمشي في ركاب أهل البدعة، وضاع أهل السنة. ولا ننكر أن بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة وطرقها، فانظر -يرحمك الله- إلى البلاء يتكاثر حتى من الغرباء أنفسهم! بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة، لا يراعي حال المخاطب، نرى -مثلاً- رجلاً يسيد النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيدنا، وسيد ولد آدم- في الأذان، وفي الإقامة والتشهد، (أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله) فإذا قيل له: لا يجوز لك أن تسيده في هذه المواضع. قال: يكرهون النبي يكرهون النبي؟! وما سبب غربتنا إلا محبته، هذا هو بيت القصيد، لو أراد الغرباء الدنيا لحازوها أكثر من طلابها، لكن سبب غربتهم محبته؛ والدعاء إلى سنته. وهل يبغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كافر؟ واستدل بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الحديث المشهور بين الناس (من حج ولم يزرني فقد جفاني) كذب وموضوع، وبهت وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة ليست من مناسك الحج، ولو حج رجل ولم يزر النبي صلى الله عليه وسلم لعارض سفر أو مرض أو نحوه صح حجه بالاتفاق، قال: لأن الزيارة ليست فرضاً ولا ركناً ولا شرطاً في الحج، وجفوته صلى الله عليه وآله وسلم كفر فكيف يكفر من لا يفعل شيئاً مفروضاً عليه؟! فإذا قيل له: لا تقل سيدنا، قال: هؤلاء لا يحبون النبي؛ لأنهم وهابيون ونبزوهم بما يفتخر المرء به؛ لكن الأمر كما قال القائل الأول معاتباً معزياً لنفسه: إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر إذا لمتني على التوحيد فقل لي كيف أعتذر؟ إذا اتهمتني أنني مستقيم كيف أعتذر؟! إن المنحرف إذا اتهم بانحرافه يعتذر بأنه سوف يراجع الطهارة ويراجع الصلاة، لكن إذا قيل للصالحين: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ماذا يفعل آل لوط؟ وكيف يعتذرون؟ إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فالرجل الصالح عندما ينبز بأنه متبع لأمر النبي عليه الصلاة والسلام فعليه أن يفخر بذلك ولا يبحث له عن أعذار يعتذر بها؛ لأنه في نهاية الأمر على الحق، وخصومه على الباطل، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

الرحمن فاسأل به خبيرا

الرحمن فاسأل به خبيراً السمة الظاهرة للقرآن المكي أنه يخاطب القلب، ومحوره الأساسي تعريف الناس بربهم، وبنعمه عليهم، وأنه هو المستحق للعبادة دون غيره مما يعبدونه من أصنام وأوثان ومعبودات باطلة لا تملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وسورة الفرقان نموذج للقرآن المكي، ففي كثير من آياتها تذكير للعباد بنعم ربهم عليهم، وأنهم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر والعرفان وإنما قابلوها بالجحود والنكران.

من سمات القرآن المكي التذكير بالنعم

من سمات القرآن المكي التذكير بالنعم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سورة الفرقان سورة مكية، وللقرآن المكي سمة ظاهرة، وهي: أنه يخاطب القلب، روى البخاري في صحيحه من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (دخلت المدينة في فداء أسارى بدر -وكان جبير إذ ذاك كافراً- فوافى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة المغرب، فذهب جبير إلى المسجد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور. قال جبير: حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35 - 37]، قال: كاد قلبي أن يطير) لما سمع هذه الآيات. السمة الظاهرة للقرآن المكي أنه يخاطب القلب، يعرف الناس بالله عز وجل، وأنه المنعم والمتفضل، فهو أهل أن يعبد دون غيره. كما قال تبارك وتعالى في سورة النمل، وهي سورة مكية أيضاً: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:59 - 64] الذي فعل كل ذلك أولى أن يعبد ولا يعبد سواه. دخل هشام بن عبد الملك المسجد النبوي فوجد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما جالساً في المسجد. فقال له: (ألك حاجة؟ وهشام أمير المؤمنين، وهو الذي يقول لـ سالم بن عبد الله بن عمر في المسجد النبوي: ألك حاجة؟) فقال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: إني أستحيي أن أسأل غير الله وأنا في بيته، فلما خرج من المسجد تبعه هشام، وقال له: الآن خرجت من المسجد ألك حاجة؟ قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟! واعتز بالله عز وجل؛ فالذي يملك الدنيا والآخرة أولى أن يعبد.

أواخر سورة الفرقان نموذج للتذكير بالنعم

أواخر سورة الفرقان نموذج للتذكير بالنعم في أواخر سورة الفرقان هذا النمط من تذكير العباد بالنعم، ثم ذكر ما يفعله العباد في مقابل هذه النعم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:43 - 44]. هناك نمط من البشر الكلب أفضل منه؛ فهو لا يستحق الحياة، وهذه شهادة الله عز وجل عليهم، وإذا جرح الله عز وجل عبداً فلن تجد له معدلاً أبداً: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. إذا جرح الله عبداً وسخط عليه لا يرفعه أحد: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] أي: جعل هواه إلهاً، كلما أعجبه شيء فعله، لا يصدر إلا عن هوى نفسه، هذا هو الذي جعل إلهه هواه. إن الله عز وجل علمنا وأدبنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى تؤمروا، هذا هو معنى قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله). من فعل ما لم يؤمر به فقد تقدم بفعله بين يدي الله ورسوله، ومن امتثل أمراً غير أمر الله عز وجل، فقد تقدم بين يدي الله ورسوله. والذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله من المسلمين هم اليوم بالألوف المؤلفة يسمعون القول ولا يمتثلونه. ربا البنوك أجمع العلماء على أنه حرام، وهكذا اتفقت كلمة المجامع العلمية على أنه حرام، وشذ رجل اتهموه بالجهل في أصول الشريعة، وقالوا: إنه لا يفقه شيئاً في الأصول! وكتبهم موجودة. فقال: ربا البنوك حلال، فماذا كان رد فعل العامة تجاه هذه الفتوى؟ مذهب العامة أنه إذا قام رجل فقال قولاً يخالف المعهود عندهم يقولون له: أأنت أهدى أم كل هؤلاء؟ ويستدلون على الحق بالكثرة، وهذا ليس بدليل صحيح، فإن الله عز وجل وصم الكثرة بالضلال، قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]. والحق مع القلة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، فلا تستدل على الحق بالكثرة، فإن الكثرة لم تكن مظهراً من مظاهر الحق أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء). فيقولون للرجل المتفرد -ولو كان معه الحق-: أأنت على حق وكل هؤلاء على باطل؟! وأنا أدين هذا العامي بمذهبه في هذه المسألة، وأقول له: أكل المجامع العلمية على ضلال وهذا وحده على حق؟! أين مذهبك؟! مذهبك أن الحق مع الكثرة، فلماذا خالفت الكثرة هنا، واتبعت رأي الفرد الشاذ؟! إنه الهوى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فلأن البنك يأتي له بفائدة ومكسب اتبع قول من يبيحه له. فكلما هوي شيئاً اتخذه إلهاً، وعبده من دون الله عز وجل، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. لقد اتهموا الحمار بالغباء، والحمار ذكي! لو أن الحمار مشى في طريق مرتين ألفه ولم يضل، فهذا الحمار المجني عليه أذكى من كثير من بني آدم، فإن ثلثي الكرة الأرضية يكفرون بالله العظيم. {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]. ثم شرع الله عز وجل يعدد نعمه على العباد، ويعدد ما فعله لهم، ثم ذكر النتيجة المحزنة بعد إنهاء تعداد النعم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:45 - 54]. تأمل! (وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي، وهو الذي) أربع مرات، ضمير الرفع المنفصل هو يأتي لتأكيد التفرد، أي: هو الذي فعل لا غيره، لم يشاركه أحد في كل هذه النعم، فهو الذي فعل كذا وكذا وكذا وكذا، ما هي النتيجة؟ قال عز وجل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] فهذا هو رد الجميل، وهذه هي النتيجة؟ بعد تعداد كل تلك النعم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم! فهذا خطاب للقلب، وأي رجل عنده قلب يسمع هذا البيان، فإنه يرجع إلى الله عز وجل، ويخلع الأنداد من دون الله عز وجل؛ لأنه هو الذي تفرد بالعبادة، وهذه من طريقة القرآن الرائعة في إقامة الحجة على الناس. أقام الحجة على أنه الإله المتفرد بالعبادة، بالنعم التي أنعم بها على العباد، فالذي أوجد، والذي خلق، والذي رزق أولى أن يعبد من دون غيره الذي لم يخلق شيئاً. ثم تأمل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] نوع من الكفران بالله عز وجل سجله الله على العباد في هذه الآية: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:48 - 50] ما هو هذا الذي صرفه الله بينهم؟ المطر، الماء، وليس القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، أي: صرفنا الماء بينهم؛ لأن الضمير ينبغي أن يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الماء وليس للقرآن ذكر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:48 - 49] والمراد به الماء (مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50].

من مظاهر كفر العبد لنعم الله

من مظاهر كفر العبد لنعم الله ما هو وجه الكفران الذي عناه الله عز وجل؟ وجه الكفران ورد في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الشيخان أن الله عز وجل قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بي مؤمن بالكواكب). أنزل الله عز وجل الماء، لكنهم يقولون لك: الرياح الشمالية العكسية الغربية هي التي دفعت الماء، ثم أبرق السحاب وأرعد ونزل الماء. من الذي فعل كل ذلك؟ لا يذكرونه في كلامهم، لا يذكرونه في حديثهم، لا يقولون: أرسل الله الرياح وأرسل المطر وأرسل البرق، لا يقولون ذلك، إنما مطرنا بالرياح الشمالية الغربية العكسية، لا يذكرون الله، لماذا لا يذكرون الله وهو الذي فعل كل ذلك؟! (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب)، سنة من السنوات كتب عنوان في الجريدة الرسمية: "بحيرة ناصر أنقذتنا من الجفاف" عنوان! " {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] لو أن الله استرد هذا الماء، من الذي يرد الماء إليكم؟! لماذا لا تنسبون الفضل إليه تبارك وتعالى؟! هذا مظهر من مظاهر الجحود والكفران: أن تنسب الخير إلى غيره {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام)، كمية الماء التي قدرها الله عز وجل وتكفي العباد مقدرة، وتنزل كل سنة. لكن أين يذهب الماء عندما يصاب العباد بجفاف؟! قال صلى الله عليه وسلم: (ما عام بأكثر مطراً من عام، ولكن إذا عمل العباد بالمعاصي صرفه الله في البحر)، فكمية المطر هي هي، لكن لا تنزل عليهم، إنما تمطر على البحار، والعباد في أمس الحاجة إلى قطرة ماء: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]. {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] لولا إذ رأوا بأسنا استكانوا ورجعوا وأخبتوا واعترفوا بذنبهم! فإن الله عز وجل يحب العبد المعترف بذنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: أذنب عبدي ذنباً فقال: يا رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي. ثم أذنب عبدي ذنباً فقال: رب! إني أذنبت ذنباً فاغفر لي. فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به، غفرت لعبدي فليفعل عبدي ما شاء). فليفعل ما شاء ليس معناها: أن يرتكب المعاصي كما يشاء، لكن معناها: إذا عصيت الله فمتى رجعت تلقاك، لكن بشرط أن تلقاه لا تشرك به شيئاً، هذا هو الشرط الوحيد. قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، غفرت لك ما كان منك ولا أبالي). لذلك أخطر سيئة هي الشرك، فهي سيئة تأكل كل الحسنات، ولا تبقي منها حسنة، رغم أن الله عز وجل قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] لكن هناك سيئة واحدة لا تبقي حسنة وهي الشرك، الذي لا يقبل الله عز وجل من صاحبه صرفاً ولا عدلاً. فيرسل الماء الذي به قوام حياة كل حي على وجه الأرض، ومع ذلك لا ينسبون هذا الخير إليه: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:50 - 52]، جاهدهم به: أي بالقرآن.

المنهج القرآني لإقامة الحجة على الكافرين

المنهج القرآني لإقامة الحجة على الكافرين القرآن فيه مناظرات مع أهل الشرك والكفر، والقرآن فيه الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله عز وجل، القرآن يعلمك كيف تقيم الحجة على المعاند، فقال الله عز وجل: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]. (لا تطع الكافرين) فهي لفتة عظيمة أن الكافرين لا يتركون لك القرآن، والمنافقين أيضاً لا يتركون لك القرآن، بل يثيرون على آياته الشبهات، واستخدمت كلمة "الجهاد" هنا من الجهد، وتعني: جهاد الدعوة. لماذا صار جهاداً وجهداً؟ لأن هناك كفرة ومنافقين لا يتركون لك أدلة القرآن، يثيرون عليها الشبهات، فأنت مطالب أن تتحرك في أكثر من محور، تذود عن القرآن شبه الكافرين والمنافقين، والمحور الآخر: تقدم هدايات القرآن لمن يريد من المؤمنين؛ فأنت تعمل مرتين. المشركون حاجوا المسلمين فلم يستطع المسلمون أن يردوا عليهم حتى أنزل الله عز وجل الرد، قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3]، كل هذا حرام. المنخنقة: التي تموت خنقاً. والموقوذة: التي تضرب بآلة حادة على رأسها. والمتردية: التي تسقط من قمة جبل أو من مكان عالٍ. والنطيحة: التي نطحتها أختها فماتت. حسناً ما هو الحلال بالنسبة لنا؟ الحلال: أن نذبح، فقال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! فهم يقولون للمسلمين: ماذبحتموه أنتم فقتلتموه تجعلونه حلالاً وتأكلونه، أما التي ماتت -وهي التي قتلها الله فإنكم تحرمونها ولا تأكلونها؟! فإن المتردية والنطيحة والموقوذة كل ذلك الله عز وجل هو الذي قتله؟! فعجز المسلمون عن الرد، فأنزل الله عز وجل الرد على هؤلاء المشركين: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] هذه شبهة شيطانية يثيرها بين الحين والحين واحد من الكفرة أو المنافقين.

إقامة الحجة على من يحرف القرآن من أصحاب التفسير الإشاري

إقامة الحجة على من يحرف القرآن من أصحاب التفسير الإشاري بعض الناس يحرف آيات القرآن الكريم بدعوى التفسير، وكل هذا يحتاج إلى جهد الدعاة؛ ليدفعوا عن القرآن، وبعد أن يدفعوا عن القرآن عليهم أن يعلموا المؤمنين؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَجَاهِدْهُمْ} [الفرقان:52] جهاد قتال، تعمل على محورين. واحد من الذين يقولون: هناك تفسير إشاري للقرآن الكريم. التفسير الإشاري هو تفسير ليس على ظاهر الكلام، وهم يسمونه (روح النص) فيفسر أحدهم آيات القرآن الكريم تفسيراً لا علاقة له بالكلام: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أي واحد يسمع الآية هذه وهذه أعظم آيات القرآن آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما معنى الآية هذه؟ أي: من الذي يشفع عند الله إلا بعد إذن الله له بالشفاعة؟! و A لا أحد: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87] أبداً، إذا أذن الله له شفع، هذا معنى الآية. يأتي هذا الرجل ويفسرها كالآتي: يقول: (من ذل ذي يشفَ عِ) كلام جديد! (من ذل) من الذل، و (ذي) اسم إشارة إلى النفس، ذي وهذا وهذه وهذي أسماء إشارة، فـ (ذي) اختصار اسم الإشارة هذي، وحذف الهاء، فكلمة (ذي) إشارة إلى النفس. يعني: (من ذل نفسه يشف) من الشفاء. (عِ): فعل أمر من وعى، أي: احفظ هذا الكلام، وهذا المعنى. أي كلمة في الآية تدل عليه؟! أين لفظة (الذل) في الآية؟! لقد أدخل بعض الكلام على بعضه وعجنه، وخرج بعبارة جديدة! فهذا أشر من اليهود الذين كانوا يحرفون المعاني، أما هذا فيحرف لفظ القرآن ويسمي هذا التحريف تفسيراً. فعلى المجاهد الداعية إلى الله عز وجل أن يرد على هؤلاء، وهم بالألوف المؤلفة! ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ فلا جرم أن الله عز وجل ذكر الجهاد بالدعوة في القرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52] ولا يستميلوا قلبك، ولا يخطفوا قلبك بالشبه {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم)

تفسير قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) ثم قال الله عز وجل بعد تعداد هذه النعم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55] يعبدون ما لا ينفعهم: كلام سائب، رجل يعبد ما لا ينفعه! مجنون طبعاً، لكن رجل يعبد ما لا يضره، ومن الذي يرجو الضرر؟ يعبدون ما لا ينفعهم مجانين، (يعبدون ما لا يضرهم) من الذي يرجو من يضره؟! فما معنى (ولا يضرهم)؟ إن كل إنسان فيه داعية الألوهية، كل واحد فينا على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كل واحد عنده هذا الاستعداد، واعتبر بحال فرعون (قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر). لعل كثيراً منكم سمعوا خطاب ذلك المتكلم في ذلك الزمان لما قال: أنا لن أرحم، لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعباد! كيف ساغ له؟ وهو كان يعترف في أحاديثه المكتوبة والمسموعة أنه كان يشتغل في مطلع حياته حمالاً في المحطات، يرفع الشوال على ظهره، كيف آل به نهاية الأمر أن يقول: لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعباد؟! والذي لا يبدل القول لديه هو الله عز وجل، العليم بما تئول إليه عواقب الأمور، لكن أمثالنا يغير ويبدل لجهله بالعواقب. عمل خطة معينة اكتشف أن هذه الخطة ضعيفة، لماذا؟ لأن لها سلبيات فيما بعد، فغير، لكن الله عز وجل العليم، الذي لا تخفى عليه خافية لا يغير، إذا قال قولاً ثبته ولا يغيره؛ لأن علمه بلا حدود. فكيف ساغ لهذا الرجل أن يقول ذلك وهو الذي قال: أنا كنت أشتغل حمالاً؟! اعتبر بهذا في العصر الحديث، وكل رجل منا عنده داعية الألوهية، فلابد لهذا الإنسان من رجل يوقف طغيانه، ويوقف زحفه، ويضره بأن يمرضه، يظل رهين الفراش، لأنه لو ترك حياً طليقاً لكفر. إذاً إلحاق الضرر به نعمة، هو ضرر من وجه نظره، لكن إذا نظرت إلى عواقب الأمور ومآلها فهي النعمة بذاتها. فأنا أحتاج إلى من ينفعني ويلحق بي الضرر لنفعي أيضاً، ولأن هناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، هناك أناس لا يرجعون إلى الله إلا بعد أن تقرعهم المصائب، الجماد أفضل منهم، قال الله عز وجل للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فلماذا لا يعود هؤلاء إلى الله إلا كرهاً؟ لماذا لا يعودون طوعاً؟ والله عز وجل حقيق بأن يعبد، جدير بألا يعبد غيره تبارك وتعالى. ولذلك عاب الله عليهم أنهم يعبدون مالا ينفعهم، ومالا يوقف طغيانهم لنفعهم أيضاً. ثم قال أيضاً: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] إذا رأى عدواً لله انضم إليه على الله، يظاهر كل عدو لله على الله وعلى أولياء الله عز وجل: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55] أعاذنا الله وإياكم من الكفران به.

تفسير قوله تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت)

تفسير قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ثم قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] هذه الآية فيها لطائف لو قلت: (وتوكل على الحي وسبح بحمده) لا يتم المعنى الجميل إلا إذا ذكرت (الذي لا يموت)، مع أن الذي لا يموت هو الحي، الحي الذي لا يموت. فلماذا أكدت الحياة بنفي الضد؟ أكدت الحياة بنفي الضد لأكثر من معنى: المعنى الأول: تأكيد المثبت وهو الحياة؛ حتى لا يظن أحد أن حياته يلحقها نقص فهي حياة تامة، الحي الذي لا يموت جاء تأكيد المثبت بنفي الضد، كما لو قلت: (رأيت بعيني) مع أن الرؤية لا تكون إلا بالعين، وتقول: سمعت بأذني. والسمع والسماع لا يكون إلا بالأذن، وكما قال الله عز وجل: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] مع أن الإلهين لا يكونان ثلاثة ولا أربعة: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] كل هذا جاء تأكيداً. لو أن رجلاً سخياً كريماً -وليكن هذا الرجل أباك- كلما اشتهيت شيئاً أعطاك وأمدك، لا يخطر ببالك شيء مهما كان ثمنه غالياً إلا أعطاك وزيادة، فإن أعظم مصيبة تصيبك أليست هي موت هذا الرجل؟! لأنه إذا مات هذا الرجل فستحتاج، لن تجد أحداً في كرمه، لن تجد أحداً يسد فاقتك ولا فقرك؛ فموت هذا الرجل هي أعظم كارثة تصيب هذا الإنسان، فجاء قول الله عز وجل (الذي لا يموت) لطمأنة قلبك، اطمئن، فإن الذي توكلت عليه لا يموت، بل سيرثك. فممن تخاف؟! ولماذا تخاف من المستقبل؟! الجماعة الذين عندهم رعب دائم من المستقبل والغيب والمجهول، لماذا تخافون؟! {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] إن الله هو الحي الذي لا يموت، فلماذا تخاف؟! ولماذا يضطرب قلبك؟! ولذلك جاء هذا مصدراً بقوله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ} [الفرقان:58]. أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، التوكل يذكر في كل منحى من مناحي الحياة، لكن أكثر ما يذكر التوكل في الرزق، وأكثر ما يشغل العباد الرزق، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73] يعيب الله عليهم ذلك. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، خماصاً: جائعة، ليس في حوصلتها حبة واحدة، هذا الطائر لا يدري من أين يلتقط الحب، لكنه يمر ويرى الحبة من فوق وينزل، ولذلك قال الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} [النمل:25]، الخبء: هذا الذي يعاينه الهدهد مخبوء في الأرض، يخرج الخبء، فهذا الطائر يغدو في الصباح لا له دكان، ولا له حرفة ولا وظيفة، فيرزقه الله عز وجل. (بطاناً) أي: ملأى بالطعام. فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير). وفي مسألة الرزق لأنها أكثر شيء يشغل العباد، قال الله عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] يعني: ليس في الأرض. فلماذا ذكر أن الرزق في السماء؟ حتى لا تخشى من طغيان طاغية، إذ لو كان في الأرض لانتهبه منك، فقال لك: رزقك ورزقه في السماء، ليس هو في متناول يد واحد منكم {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ثم أقسم الله عز وجل بذاته العلية: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] جاءت المسألة في معرض التوكل، وحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، وهذه مسألة مهمة ضل فيها جِبلٌّ كثير.

التوكل والأخذ بالأسباب

التوكل والأخذ بالأسباب حقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله بغير البراءة من الأسباب، أي: أنه ليس معنى التوكل التواكل، وترك السبب لا، الرسول عليه الصلاة والسلام لما خرج من مكة إلى المدينة ماذا فعل؟ ألم يختبئ في الغار؟! لماذا اختبأ؟ كان يمكن أن يمشي، ويقول: أنا متوكل على الله، ولن يروني، ولن يستطيعوا إيصال الضر إلي، كان هذا ممكناً، ولكن لماذا اختبأ في الغار؟ هل هذا ينافي التوكل؟ لا ينافي التوكل، ولا ينافي اعتماد القلب على الله، انظر إلى اعتماد قلبه على الله وهو في الغار، حين قال له أبو بكر رضي الله عنه: (لو أن أحداً نظر تحت قدمه لرآنا -هنا ظهر التوكل- قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). هذا هو التوكل، الذي هو اعتماد القلب على الله، لكن لا يمنع من أخذ السبب. كما أنك تأكل لدفع الجوع، وهذا كله من الأسباب التي قدرها الله عز وجل، وأكلك لحفظ حياتك لا ينافي التوكل على الله عز وجل، بل العباد يعدون تارك الأسباب بدعوى التوكل مجنوناً. فلو قال رجل: أنا لن أتزوج، ولو أراد الله عز وجل أن يرزقني بالولد لرزقني بالولد، يقول الناس: مجنون! إذ كيف يرزق الولد بغير زوجة؟! لو قال: أنا لا آكل، ولو شاء الله لحفظ حياتي ولم يمتني بدون أكل؛ لعد العباد ذلك نقصاً. ولو جلس رجل في بيته وانتظر أن ينزل الرزق من السماء؛ لقال الناس: مجنون. إذاً التوكل ليس معناه نفض اليد من الأسباب، إنما معناه: اعتماد القلب على الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] لتمام حياته وقيوميته. ثم ختم الآية ختاماً في غاية العجب والروعة! {وَكَفَى بِهِ} [الفرقان:58] تأملوا في عجز الآية، إنها آية! {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] لماذا ذكر الذنب؟ هذا الآية تكررت مثيلاتها مرة واحدة في القرآن، في سورة الإسراء: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:17]، فلماذا ذكر الذنب؟ ذُكر الذنب -والله أعلم- لسببين: السبب الأول: لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب، يفعل أحدهم الذنب في الخفاء، فإذا كان يجتهد في إخفاء الذنب ويعلمه الله عز وجل؛ فهذا يدل على تمام حياته وقيوميته على عباده، تأكيد للحياة، أثر من آثار حياته تبارك وتعالى وأنه لا يموت {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد:33]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] تذكر القيومية مع الحياة، إذاً لما قام على كل نفس بما كسبت ذكر الذنب؛ لأن العباد يجتهدون في إخفاء الذنب بخلاف الطاعة، فإن العبد يظهرها أمام الناس، ويتبجح بها. المعنى الثاني: (كفى به) كلمة (كفى) أول ما تسمعها تتذكر معنى الكثرة والإحاطة: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31] {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الإسراء:96] فيها معنى الإحاطة والكثرة. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] فالآية لها تعلق بالرزق، فالله يرزقك وقد ضمن للعباد أن لا يجيعهم. فما هي النتيجة؟ {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] يدل على أن ذنوب العباد فاقت كل تصور مع إنعامه وتفضله، وأنه رغم ذنوبهم يقول: إلي! إلي! تعالوا! رغم ذنوبهم لا يتبرأ منهم، وهو أرحم بهم من الأم بولدها: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58] مع كثرة ذنوبهم يقول لهم: توكلوا علي؛ لأنهم لا يجدون له عدلاً ولا نظيراً.

وقفات مهمة في أسماء الله وصفاته

وقفات مهمة في أسماء الله وصفاته قال الله عز وجل: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58 - 59] أي: لا تسل جاهلاً عن الله، إذا أردت أن تسأل عن الرحمن فاسأل خبيراً به. وهذه الوقفة التي أردت أن أقفها في هذا الدرس، نحن فيما بيننا لا نذهب إلى طبيب جاهل ولا إلى عامل جاهل، وكلنا يبحث عن أمهر الأطباء وأمهر العمال، يقال: هذا خبير، هذا خبير بالمرض الفلاني، أو هذا خبير بالآلة الفلانية. ويعد العباد أن من الخسارة أن يذهب إلى رجل جاهل، فكيف جئت على أتم المطالب وأهمها -وهي معرفة الله- ولم تسأل أعلم الناس بالله؟! {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] وانظر لفظة (الرحمن) ما أجملها في هذا الموضع! انظر سياق الآيات: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:58 - 59] هي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استواءً حقيقياً بغير تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلاله تبارك وتعالى، واستواؤه على العرش مدح له عز وجل، ربنا سبحانه وتعالى لما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] مدح نفسه بهذا الاستواء. والعرش في السماء وليس في الأرض، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وذكر الجنة- قال: (سقفها عرش الرحمن) سقف الجنة عرش الرحمن، إذاً الرحمن تبارك وتعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] ليحببك فيه. لماذا أنت تسأل خبيراً بالله؟ حتى يحببك في الله عز وجل!

الرفق منهج رباني

الرفق منهج رباني إن الله عز وجل يتحبب إلينا بآلائه ونعمه، يعدد نعمه لنحبه؛ ولنشعر بالتقصير في حقه. افترض -ولله المثل الأعلى- أن عندك رجل ساكن في شقة مكونة من ثلاث غرف، وعندك ولد في الثانوية العامة أو ولد في امتحان شهادة، وأنت أفرغت له غرفة لوحده، وأنتم كلكم تكدستم في غرفتين، وأعلنت حالة الطوارئ، ممنوع الهمس! الولد يذاكر! ممنوع الصياح! الولد يذاكر! جعلت له ثلاجة لكي يأكل ويشرب المرطبات، وجعلت له مدفأة لكيلا يشعر بالبرد، هيأت له سريراً لوحده، كل هذا وأنت تقول له: يا بني! ذاكر وأنا أصرف عليك. لكن الولد في نهاية السنة رسب، فماذا ستقول له؟ ستقول له: ألم أجعل لك غرفة لوحدك وتكدسنا في غرفتين؟! ألم أجعل لك ثلاجة؟! ألم أعطك الذي نفسك فيه: تأكل وتشرب؟! ولطالما ضربت إخوتك ورميتهم في الشارع؛ لكيلا يزعجوك؛ حتى تنام جيداً أليس هذا ما ستقوله؟! لماذا؟! لأن ذكر النعم في موضع التقصير أشد من ضرب السيف، لكن لمن هذا؟ للذي عنده دم، للذي عنده إحساس، يفضل أن يضرب بالسيف ولا يلام هذا اللوم ولا هذا التقريع. فربنا سبحانه وتعالى يخاطب قلب الإنسان: عملت لك وعملت لك وعملت لك وعملت لك وعملت كذا وكذا وكذا ورزقتك وخلقتك ونجيتك ورفعت عنك الأمراض ودعوتني واستجبت لك لكن ما هي النتيجة؟! ولذلك تعداد النعم طريقة قرآنية فريدة تمس القلب، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) وهذه طريقة لو تدبرتها في التعامل مع العباد تجد أنها أنجع وأقوى من أي وسيلة أخرى. مثلاً اليهود أكثر منا بالحيلة واللين بمائة مرة من الذي كانوا يصفونه بالشدة؟ فاليهودي الذي اسمه شامير كانت طريقته قائمة على الشدة: سنبني مستوطنات، والذي لا يعجبه سأطلع قلبه فكان يستنفر الناس، وظهر أطفال الحجارة وانتفاضة الحجارة، وذلك كرد فعل طبيعي للعنف. فقال اليهود لبعضهم: هؤلاء المسلمون نفسهم طويل، وهم الذين يعرفون مصطلح الجهاد والفداء. وهؤلاء اليهود جبناء، لم يأخذوا قوتهم إلا من ضعفنا، هم ليس لديهم قوة، ربنا هو الذي قال هذا، فهو ليس حكمنا، إنما هو حكم اللطيف الخبير، العالم بالسرائر، قال الله عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]. وفي نفس الوقت اليهودي يحب الحياة، يتمنى أن يعيش ولو ذليلاً مهاناً ولا يموت؛ قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] (حياة) هكذا من غير ألف ولام، من غير ألف ولام لماذا؟ نكرة من أجل أن يدل تنكيرها على الرداءة، أي حياة، أهم شيء أن يعيش! وصاحب الفداء والجهاد الموت محبب إليه، والمسلمون فقط دون غيرهم هم أصحاب الجهاد والفداء، وأصحاب النفس الطويل، لو تحداك بدينه لا يغلب؛ ولذلك كان رجوع الأمة لدينها أمر في غاية الأهمية، لا تهزم إذا رجعت إلى دينها، لماذا؟ لأن عندهم فداء، وعندهم نفس، وعندهم تضحية. مثال: العرب المشركون في الجاهلية كان الواحد منهم يقول: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب. واحد يستنجد بك وأنت لا تعرفه، ويمكن أن يطعنك بخنجر أو يرميك برصاصة وأنت تعرف هذا جيداً، ومع ذلك إذا استنجد بك تجد روح الفداء عندك وتنزل: (إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب). فالفداء والتضحية هذه لا تجدها إلا عند المسلمين فقط. فقال اليهود: نحن سنظل نناوئهم، والصحوة الإسلامية مدها يعلو، والأطفال هؤلاء لن يستمروا بالضرب بالحجارة، رغم أنني رأيت منظراً لا أنساه أبداً: جنود من اليهود أمسكوا طفلاً وكسروا له عظم يديه الاثنين لكيلا ينتفع بيديه بعد ذلك، وكل من أمسكوه كسروا له عظم يديه وتركوه لكن هؤلاء المجاهدين استمروا يضربون بالحجارة سنوات طويلة! فقال اليهود: لا بد أن نغير الخطة، ما هي الخطة البديلة؟ لا نعمل مثل النجار الغشيم، يأتي على حائط صلب مثل هذا ومعه مسمار، ويضرب ضربة واحدة فإذا بالمسمار مكسور نصفين، أو رجع إلى عينه. أنت عندما ترى حائطاً صلباً مثل هذا، وتريد أن تدق فيه مسماراً، تظل تدق وتدق برفق! فلو ضربته بالعنف لا يمشي معك، تأتيه بالرفق يمشي معك. فقال اليهود: ولماذا نظل نحاربهم؟ نحن سنقول لهم: نحن أحبة، ونحن إخوان إلخ، وهيا بنا إذاً نتبادل الزراعة والصناعة والثقافة، ونحن مع ذلك نتلف لهم عقائدهم، ونؤكلهم أناناس وهو محقون بالهرمونات؛ فيحصل لهم فشل كبدي! وفشل كلوي! وسرطانات إلخ، وبهذا نكون انتهينا منهم، ونحن هكذا نظل أحبة ولا توجد مشاكل!

الرفق في التعامل مع الخصوم

الرفق في التعامل مع الخصوم طريقة الرفق هذه طريقة خطيرة جداً، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى شرعها لنا في مجال الدعوة مع الخصوم، قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] انظر إلى هذا الكلام! {الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يعني: بعد ما كان عدواً أصبح يحبك جداً، كل هذا بسبب ماذا؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. انظر إلى الحكمة لم يذكر فيها حسناً، والموعظة ذكر أنها حسنة، والجدال ذكر أنه أحسن؛ فهي ثلاث درجات وراء بعض: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ربنا سبحانه وتعالى خاطب قريشاً ثلاث عشرة سنة بالقرآن المكي، وكله تذكير بالنعم. فأحب من تدعوه وأشعره بالحب أولاً وحنن قلبه، وبعد ما تبذل جهدك في الترغيب، وتحنن قلبه، وتأتي له بكل وسيلة ولم يأت، فعندها ما بقي إلا الترهيب. ولا تبتدئ بالترهيب، فإن الله ما ابتدأ به، إنما بدأ بالترغيب، ودائماً يقدم رحمته تبارك وتعالى على غضبه {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. وفي الحديث الصحيح: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده: إن رحمتي تغلب غضبي). وقال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] فكل خير، وكل عدل نحن نبتدئ به.

التعرف على صفات الله بالنظر والتفكر

التعرف على صفات الله بالنظر والتفكر قال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] فإذا أردت أن تصل إلى الله عز وجل سل أخبر الناس بالله. وأخبر الناس بالله هم الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. نفي الصفات أكبر جريمة يرتكبها إنسان في حق نفسه لماذا؟ لأنها تضيع عليه باب زيادة الإيمان، ومحبة الرحمن تبارك وتعالى، ولذلك تجد معظم آيات القرآن تنتهي بصفة من صفات الله أو صفتين: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47] {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] دائماً تجد أغلب نهايات الآيات- صفات لله تبارك وتعالى، فأنت حين تتأمل هذه الصفات مع سياق الآيات تقوي بذلك إيمانك مباشرة. ولهذا الذي يدلك على الله لابد أن يكون أخبر الناس بالله، والذي لا معرفة عنده بالله يضلك؛ لأنه لا يعلم وأنت حين تتأمل صفة من صفات الله عز وجل، ولتكن صفة الرحمن التي نحن نقرؤها في كل صلاة: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1 - 3]، تتأمل صفة (الرحمن) هذه وترى أثرها في الكون؛ فإن إيمانك يزداد. إيمانك يزداد إذا ربطت الأسماء الحسنى بالكون، فاربطها بمظاهر الكون يزدد إيمانك كلما نظرت أمامك أو خلفك لماذا؟ لأن كل شيء في الكون مربوط بصفة من صفات الله عز وجل. مثلاً: المطر حين ينزل من السماء، الرسول عليه الصلاة والسلام -كما قالت عائشة -: (كان إذا رأى الغمام في السماء كرب له، وتغير وجهه، ولا يستقر على حال ويظل يدخل ويخرج، فتقول: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيث استبشروا، وأراك إذا رأيته كربت له -مع أنه إذا كان هناك مطر كان هناك خير، فلماذا أنت خائف كلما ترى هذا الخير- قال: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، إن قوماً قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:25] فقال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24 - 25] وما يؤمنني). فما كان يستريح إلا إذا أمطرت ماءً. يظل قلقاً؛ لأن هناك جماعة، ربنا سبحانه وتعالى قص علينا قصتهم في سورة الأحقاف، رأوا غماماً فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:25]، هذا سحاب وسينزل المطر، فكان هذا فيه الحجارة، والرجم والخسف. فيظل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلقاً حتى ينزل المطر، ولذلك كلمة (مطر) في القرآن لا تستخدم إلا في التدمير، إنما الذي يستخدم في الرحمة (الغيث)، أي كلمة (مطر) تجدها في القرآن فهي تدل على العذاب: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف:84] {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، فإذا وجدت كلمة (المطر) فهناك حتماً خسف وتدمير وعذاب. بخلاف لفظة الغيث؛ لأن (الغيث) فيه معنى الغياث والغوث والنجدة: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] فكلمة (غيث) فيها غياث وفيها نجدة. فحين تنظر إلى كلمة الرحمن وأثرها في الكون، وتربط كلمة الرحمن بمظاهر أنت رأيتها في حياتك ستنفعك لو وقعت في طامة أو في مصيبة. قص عليَّ أحدهم قصة فقال: إن حماه وهو يسكن في القاهرة كان قادماً من محافظة الإسكندرية، لكنه وهو في الطريق -وهو عند كفر الدوار- زجاج السيارة سرطن، فجأة لم ير ما أمامه، فحاول عمل أي شيء، لكنه صدم طالبات مدارس، ومات رجل سنه فوق الستين، وأصيبت بنتان أو ثلاث في هذه الحادثة. مباشرة أخذوه إلى القسم، وعملوا له محضراً وبعد ذلك اتصل بزوج ابنته -الذي يحكي لي هذه القصة- وذهب لكي يأتي به. هو كان مستعجلاً آتياً من محافظة الإسكندرية وذاهباً إلى القاهرة؛ لأن لديه ميعاداً مهماً جداً في الصباح الباكر. لكنه -طبعاً- لم يقدَّر له أن يذهب القاهرة، وزوج ابنته أتى به في بلده، وقعدوا، وفي صباح اليوم التالي ذهبوا إلى القاهرة، ودخلوا غرفة النوم ورأوا شيئاً عجيباً: العمارة التي يسكن فيها سقفها مكون من طبقتين، مفرغ من الداخل، وجدوا أن الطبقة السفلى التي لغرفة النوم كلها واقعة على السرير. دعنا نفرض أن هذا الرجل لم يحصل له هذا الذي حصل، وواصل طريقه، وذهب ونام على السرير لوحده؛ ونزل عليه هذا السقف! لطف الله به أو لا؟! لطف به، لكن لا يلزم أنه كل مرة يريك شيئاً لكي تعرف أنه لطف بك بل لا بد أن يظل ظنك بالله ملازماً لك أبداً. إذا وقعت ورطة فقل: الحمد لله، كان سيحصل لي أعظم منها. وأنت إذا تذكرت هذه الحكاية وقد وقعت في بلاء فقل: رحمته كما شملت فلاناً فإنها تشملني، وحين تربط ما تراه في الكون بصفة من صفات الله عز وجل، وكلما وقعت في بلاء تستصحب صفة الرحمة، وتتذكر الحادث وتعرف أن ربنا لطف بك، حينئذٍ تزداد لله حباً. شخص يقص عليَّ قصة يقول: كانوا يوزعون بطانيات في أيام الشتاء البارد، والساعة الثانية عشرة ليلاً، والسماء كأفواه القرب، مطر ورعد وبرق وريح، بعد ما ذهب ببطانية لامرأة مسكينة، رجع البيت فسمع غطيط نائم على الرصيف -واحد بيشخر على الرصيف- فاستلفت نظره أن واحداً ينام بهذا العمق في هذا الجو، فتتبع مصدر الصوت وإذا به يجد رجلاً متسولاً، وقد تدثر بملاءة مقطعة. ملاءة مقطعة، وهو ملتحف بها ويشخر! وشخيره يعني أنه مستغرق في النوم، ولن تسمع غطيطاًَ إلا لواحد مستريح، فإن النوم مع الأرق والقلق لا يأتي الغطيط معه، إنما الغطيط يأتي لإنسان نائم مستريح. وهناك شخص -مثلاً- له بيت يذهب إليه ويقول لهم قبل أن يصل: شغلوا الدفاية حتى أصل، وخذوا البطانية الأسباني والإيطالي وضعوها على بعضها، وأول ما يصل إلى البيت، يدخل فيها مباشرةً ويظل يرتعش خمس دقائق إلى ست إلى سبع حتى يدفئه الغطاء. هل أنتم تعتقدون أن الغطاء هو الذي يسخن من تلقاء نفسه؟ لا، الإنسان الذي هو يدفئه، الغطاء من أين يأتي بالحرارة. جسمك أنت هو الذي يشع حرارة فأنت الذي تدفئ الغطاء. وما هي مهمة الغطاء؟ أنه يحجز عليك الحرارة حتى لا تتسرب، فتشعر أنت بحرارة جسمك أنت هذه مهمة الغطاء، فتظل إذاً ترتعش لمدة عشر دقائق حتى تدفئ نفسك بنفسك. وهذا الرجل مغطى بملاءة مقطعة، وعلى الرصيف، وفي هذا الجو؛ ونائم! إذاً: هو سبحانه وتعالى رحمن أو لا. إن رحمته وسعت عباده حتى الفقير المعوز؛ لأنه عبده وهو خلقه، فلا يعذبه، يرحمه. فحين تذكر الرحمن، وتستحضر هذه الصفة معك، ويعرض لك بلاء في الدنيا تتذكر وتقول: مثلما أنجاه ورفع عنه ينجيني، فأنا عبده، فيحملك على اللجوء إليه والتعلق به ومحبته. نوظف هذا الكون كله لزيادة الإيمان بالله عز وجل. مثلاً: تأمل في الأرض والنبات. ونحن أيضاً نهدي هذا الكلام للنساء، اللاتي لم ينعم ربنا سبحانه وتعالى عليهن بنعمة الولد. امرأة عقيم، تتمنى أن ترزق بولد، أو رجل يتمنى أن يرزق بولد ونفسه ربنا يرزقه بولد. انظر قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] تأمل هذه الصورة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]! (خاشعة) أي: ذليلة، أرض جرداء، كذلك المرأة إذا لم تكن حاملاً أو يكن عندها قابلية للحمل تعتبر مثل الأرض البور، تلاقيها هكذا مكتئبة! وحزينة! ولا أمل لها في الدنيا؛ لأن الخشوع أحد علامات الذل، الخشوع أحد علامات الذل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] * {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] الخشوع علامة ذل. فأرض لم ينزل عليها الماء فهي بور، والناس يزهدون فيها، فيبقى فيها ذل وخشوع وإخبات: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} [فصلت:39] فالمرأة حين لا يكون لديها ولد، وحاولت مرة واثنتين وثلاثاً وأربعاً، وجاء الحمل، انظر إليها؟! تجدها اهتزت وربت، وتورد خداها، وشعرت أنها أهل للحياة، مثل الأرض بالضبط، والمرأة مثل الأرض تماماً. وفي كتب الأدب يذكرون قصة المرأة التي كانت تنجب البنات والرجل يريد ولداً، فتزوج امرأة أخرى، وفي باله أن يرزق منها الولد، وهذا خطأ، فإن ماء الرجل يخلق الله عز وجل منه الذكر والأنثى، المرأة ليس لها دخل في المسألة. فهذه المرأة التي لم تنجب إلا البنات، ثم ذهب الرجل يتزوج عليها لكي ينجب الولد -أبو السباع يرثه ويخلد ذكره في الأرض- فالمرأة الأولى ترى زوجها وهو يدخل دوماً للمرأة الثانية، فجعلت تدهده بنتها وهي تقول: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا إنما نحن كالأرض لزارعينا انظر إلى المرأة الذكية عرفت هذه القضية من زمان! {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيي الْمَوْتَى} [فصلت:39]. انظر إلى الإلزام القرآني! انظر المغزى! أصلاً هناك بعض الناس حين تدخل له مباشرةً ويفهمها يدافع عن رأيه ويعاند أول ما يفهمها يضيع عليك الذي أنت تريده، فلا بد أن تترفق به. بعد ما ذكر الشيء المُشاهد الذي يراه الناس قال: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] قضية مرتبطة ببعض.

من تطبيقات المنهج الدعوي (قصة واقعية)

من تطبيقات المنهج الدعوي (قصة واقعية) ذات مرة ذهبنا إلى أحدهم لنأخذ منه أموال الزكاة ونوزعها على الفقراء، وقلنا له: يا عم متى نأتي لك؟ قال: يوم (1) في الشهر، فاستمر معنا شهراً واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة؛ لأنه رجل غني وكان يدفع أيضاً مبلغاً لا بأس به. المهم بعد سبعة أو ثمانية شهور بدأ كأنه يمل، من ماذا؟ من النقد الذي يخرجه، فكلما أذهب ويراني أحس أنه متضجر قليلاً، أقول: ربما كان غاضباً من أمر ما زبون أتعبه أو أي شيء. المهم أحسست أنه متضجر، كلما يراني يعرف أنني قادم لآخذ مالاً، وأنا ما أضع المال في جيبي. نحن نريحه ونظل نطوف على الفقراء في عز الليل لكيلا يراك الناس، ونسهر ونذهب نؤدي عنك، وأنت جالس في أتم راحة ونحن نتعب بغير جزاء ولا شكور، ولا تعطينا أجرنا حتى في المسألة، ولا حتى (والعاملين عليها). فأحسست أنه متبرم. وبعد ذلك في الشهر الحادي عشر أو الثاني عشر -قال لي: آسف جداً جداً، المبلغ لا يكفي، هل يمكن أن تمر عليَّ بعد أسبوع؟! طالما ابتدأنا بهذه المسألة قلنا: نقطع منه الرجاء. ولكن قلت: أنا في نفسي حاجة تؤلمني، لا بد أن أعملها قبل أن أمشي، فأتيت في الشهر الذي بعده، وأول ما دخلت قلت له: أنا لم آت أريد مالاً، أنا أتيت لكي أشغل المال عندك. فطفق يقول: أبداً والله، أبداً، هذه خطوة عزيزة كريمة، العصير يا ولد! جلست وقلت له: أنت تشغل الألف بكم؟ قل لي: بخمسة عشر جنيهاً في الشهر لصاحب المال، وخمسة عشر لي، يعني الربح يطلع ثلاثين. قلت له: حسناً أنا لو أعطيتك أموال يتامى، وأنت تعرف حال اليتامى هل يمكن تشغل لهم الألف بخمسين؟ قال: بخمسين كيف؟! هذا مستحيل. قلت له: أنا كنت أطمع أن تقول لي: مائة! قال: كيف يا عم الشيخ، أنا لو أتاجر في المخدرات لن أكسبها. قلت له: حسناً لو كان هناك واحد يعطيك الألف بمائة؟ قال: يدي على كتفك! قلت له: حسناً لو الألف بسبعمائة؟!! قال لي: يا عم الشيخ لا تتمسخر علينا! قلت له: لا والله لا أتمسخر عليك، عندي واحد يشغل الألف بسبعمائة. فقال لي: قل لي: من؟! قلت له: الله، يعطي الألف بسبعمائة. لم يكن الرجل يتوقع ذلك أبداً، فانكسف جداً، وبقي كله أحمر. قلت له: يا أخي الكريم! وابتدأت أكلمه بالذي في نفسي قلت له: الشهر الفلاني كشرت في وجهي وكلحت، وأنا رجل لا أستفيد من ورائك شيئاً، ولا أضع (مليماً) في جيبي، فلماذا تفعل ذلك وهذا حق الله في المال؟! الله عز وجل لا يريد منك شيئاً، ربنا حين يرضى على أحد يعطيه من غير حساب، هذه الأرقام عندنا نحن، لكن ربنا سبحانه وتعالى حين يعطي يقول: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]. صاحب هذه الخزائن كلها لا ينفع معه رقم أبداً، الرقم يصبح عيباً، الرقم مهما زاد يبقى عيباً، في الدنيا يقول لك: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] وفي الآخرة يقول لك: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54] لا ينتهي. فهناك بعض الناس -وأنت ماض إلى الله عز وجل تدعو الناس- يحتاج أن تلف عليه، تلزمه بالقضية إلزاماً بدون ما تحسسه أنك ستصل لهذه النتيجة، حتى لا يفسد عليك دليلك، وهذا نوع من الجهاد.

من فضائل أم سليم

من فضائل أم سليم هذه أم سليم رضي الله عنها علمتنا هذا الأصل في الحديث المشهور كان لها ولد مريض، ثم ذهب أبو طلحة للتجارة، فمات الولد فقالت أم سليم: (لا أحد يخبره حتى أكون أنا أول من يخبره). لم تمزق ثوبها! ولا خمشت وجهها! ولا ناحت على ابنها! والبيت طبيعي جداً، دخل أبو طلحة البيت وجد كل مظاهر الحياة السعيدة! أول ما دخل -وكان معه جماعة من الضيوف- سأل عن الولد: ما أخبار الولد؟ قالت له: استراح ما عاد يشتكي. طبعاً الولد مات وهي صادقة، قالت: ما عاد يشتكي. قال لها: الحمد لله، جهزي لنا العشاء، أكلوا وشربوا والضيوف خرجوا، وهي امرأة ذكية، تنظفت وتعطرت، فدخل الغرفة معها، فكان منه ما يكون بين الرجل وأهله، وبعد ذلك جلست تتحدث معه، قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أن رجلاً أخذ عارية من جاره -استلف منه معونة، استلف منه فأساً، استلف منه سيارة، استلف منه أي شيء- وبعد ذلك قال له الرجل صاحب العارية: هات حقي، أكان له أن يمنعها إياه؟! هل يمكن أن يقول له: لن أعطيها لك؟ قال لها: لا! قالت له: فاحتسب ولدك. فهي لفت عليه وألزمته، جعلته يجيب على نفسه بلسانه، ولذلك أول ما قالت له: احتسب ولدك، لم يتكلم لماذا؟ لأنها ألجمته، انظر كيف لفت عليه لماذا؟ لأنها لو دخلت وقالت له: الولد مات. لقال لها: ماذا يا امرأة؟! وربما يبكي ولو كان البكاء يرجع عزيزاً ما كان أحد أوقف البكاء! لكن نفذ قضاء الله، وقضاء الله لا يقابل إلا بالتسليم والرضا. فهي امرأة ذكية، ألزمته الجواب وجعلته هو الذي يجاوب بلسانه، ولذلك لما رأى الحجة ركبته، ولم يعرف يتكلم، غضب منها، وقال لها ماذا؟ قال: تركتني حتى تلطخت بك ثم نعيت لي ولدي؟! لماذا لم تقولي لي لكي تأباه نفسي؟! وذهب يشكوها للرسول عليه الصلاة والسلام، وقال له: عملتْ في وصنعتْ يشكو هذه السيدة الكاملة. فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (هل كان منك ما يكون من الرجل إلى أهله؟ قال: نعم. فقال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما)، قال الراوي: فلقد رأيت عشرة من أولاد أبي طلحة كلهم يقرأ القرآن. ربنا أخلف عليه أو لا؟ لقد أخلف عليه. فهناك بعض الناس ينبغي ألا تدخل عليه مباشرة، تقعد تلف عليه؛ خصوصاً ذاك الذي يغتر بذكائه، فلا تحرق دليلك معي، أول ما تأتي إليه يقول لك: أنا أعرف أنك ستقول لي كذا. إذاً المفروض أن تلف على هذا النوع. القرآن كان يلزم المشركين هذا الإلزام، مثل هذه الآية التي نحن فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت:39]. ما رأيك في المنظر هذا؟! أنا أراه أمامي: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] تنكره لماذا إذاً البعث؟ {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] إذاً ألزمهم بما يرونه، وذلك بأن لف في إقامة البرهان. ولهذا ربنا سبحانه وتعالى حين يقول: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: لا يدل على الرحمن عز وجل، ويحبب الله إلى الناس إلا خبير بالله عز وجل. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من العالمين به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الإخلاص [1]

الإخلاص [1] لقد نسب ربنا عز وجل الصيام إلى نفسه؛ لأن الصيام عبادة خالصة لله تبتعد عنها شبهة الرياء، لذلك لم يعين على الصيام أجراً محدداً، بل جعل الجزاء موكلاً إليه، وفي هذا دلالة على مقام الإخلاص وعظيم منزلته، فإنه في العبادات شرط تحبط بدونه، وهو أمر يعرفه المرء من نفسه، ويمكن تحقيقه خلافاً لما زعمه الصوفية الذين جعلوا مناله عسيراً، وتوهموا الرغبة في الثواب والخوف من العقاب من عقبات وموانع تحقق الإخلاص.

الإخلاص والصوم

الإخلاص والصوم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) ولقد علمنا علماً أكيداً أن الصوم أيضاً لابن آدم، كالصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال البر، كلها لابن آدم، كما أن الصلاة أعظم من الصيام، ومع ذلك استثنى الله عز وجل هذه الشعيرة، فقال: (الصوم لي وأنا أجزي به). فلماذا خص الصوم دون سائر أعمال البر؟ إن الصيام تحقيق لمقام الإحسان، وهو أيضاً تحقيق لمقام الإخلاص، فإن المرء قد يرائي في كل أعمال البر، لكن لا يستطيع المراءاة في الصوم أبداً. ألم تر إلى نفسك وأنت وحدك في بيتك، لا أحد معك، وقد أغلقت عليك باب الغرفة، وفي الغرفة ماء بارد، ويكاد يقتلك العطش، ومع ذلك لا تستطيع أن تفطر أبداً؟ هذا هو تحقيق لمقام الإحسان! إن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فأجابه صلى الله عليه وسلم وقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا هو تحقيق مقام الإحسان، فإن الصائم لا يستطيع أن يرائي أبداً بصيامه، بل يستطيع أن ينال مراده وهو وحده، بخلاف بقية أعمال البر. إن طائفة من الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (ولا يشهدون الفجر والعشاء) وقال: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء) مع أن للفجر والعشاء شأناً عظيماً! قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل) وكان عبد الله بن عمر إذا فاتته صلاة العشاء جماعة قام الليل كله؛ ليعوض الأجر الذي فاته بشهود الجماعة وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح في جماعة فكأنه قام نصف الليل)، وفي رواية أخرى: (فكأنما قام الليل كله) وفي صلاة الصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تشهده ملائكة الليل والنهار). ومع هذا الأجر الجزيل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء، ولو أن أحدهم يعلم أنه يأخذ مرماتين حسنتين لأتاهما حبواً). لو تم إلحاق جمعية لتوزيع السكر والأرز وما شابه ذلك بالمسجد، فإن هذا المنافق يحبو على بطنه حتى لا تفوته هذه العطية المجانية، ويضيع ما هو أعظم، فهو بهذا قد راءى في أعظم الأركان العملية وهي الصلاة. وكذلك يمكن للمرء أن يرائي في الزكاة أو في الحج، بل إن بعض من يذهب إلى الحج إذا رجع منه ولم تناده بلقب: (يا حاج) يغضب. وهكذا تكون المراءاة في سائر أعمال البر إلا في الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (هو لي، وأنا أجزي به) ولم يعين على الصيام أجراً؛ لأنه إذا وقع الجزاء على كريم فلا تسأل عن العد، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] ولم يعين له أجراً؛ لأن هذا الوعد بهذه الكيفية أعظم أثراً من تعيين الأجر. ولما أراد إخوة يوسف عليه السلام أن يتخلصوا من الورطة التي وقعوا فيها، وقد اتهموا بسرقة صواع الملك، {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * A=6001670> قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:74 - 75] فأبهموا الجزاء، كأنهم قالوا: كل ما يخطر ببالكم من الجزاء هو حقيق به، فكان إبهام الجزاء أعظم في تقدير الجزاء من تعيينه. ولأن هذه الشعيرة فيها تحقيق مقام الإخلاص، قال الله: (هي لي) فلا يستطيع أن يجزي على الإخلاص إلا الله، والإخلاص في العبادات شرط وفرض تحبط العبادات بدونه.

إخلاص المشركين في دعائهم عند الشدائد

إخلاص المشركين في دعائهم عند الشدائد إن الإخلاص لا يستغني عنه كافر ولا مؤمن. لا يستغني الكافر عن الإخلاص، قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:22 - 23]. قوله: (مخلصين له الدين): أي: أنهم لا يكذبون في إخلاصهم إذا وقعوا في ورطة. وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32]. هذا حال المشركين، لا يخلصون إلا إذا وقعوا في ورطة. وفي سنن الترمذي -وقواه بعض أهل العلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حصين -والد عمران -: (كم تعبد إلهاً؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبك ورهبك؟ قال: الذي في السماء). ويوضح ذلك أيضاً ما رواه الإمام النسائي وأبو داود وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أمن الناس جميعاً غير أربعة رجال وامرأتين، فقال: (اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: عبد الله بن خطل، ومقيت بن فضالة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن أبي سرح) أما مقيت بن فضالة فأدركوه في السوق فقتلوه، وأما عبد الله بن خطل فذهب وتعلق بأستار الكعبة فأنزلوه وقتلوه، وأما عكرمة بن أبي جهل، ففر وركب البحر، وأما عبد الله بن أبي سرح فاختبأ عند أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان. ولما هرب عكرمة ركب إلى البحر، فبينما السفينة في لجة البحر إذ جاءتها ريح عاصف، وصارت السفينة كالريشة في مهب الريح -وجل الذين يركبون السفينة كانوا كفرة- فلما أزفت السفينة على الغرق قال لهم ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا في الدعاء، واعلموا أن آلهتكم لن تنفعكم هنا، فلما سمع عكرمة ذلك قال: (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره، لله عليَّ إن أنجاني لآتين محمداً، فلأجدنه عفواً كريماً) ونجا الرجل، ووفى، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط يده بالإسلام فقبل منه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فجاء كل الناس مسلماً، فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بأخيه من الرضاعة، وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فجاء خلفه يمشي والنبي لا يراه، حتى إذا وقف عثمان أمام النبي عليه الصلاة والسلام وخلفه عبد الله بن أبي سرح، قال عثمان: يا رسول الله! بايع عبد الله، فلما رآه سكت، ما بايعه، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله. فأبى وسكت، قال: بايع عبد الله، فبايعه بعد ثلاث مرات، ثم التفت إلى أصحابه يقول: (أليس منكم رجل رشيد إذ رآني كففت يدي عن بيعة هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟! فقالوا: يا رسول الله! وما أعلمنا ما في نفسك؟ (أي: وما يدرينا ما في نفسك؟) هلا أومأت بعينيك! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). الشاهد في الحديث هو قول عكرمة: (لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلا ينجيني في البر غيره).

الإخلاص يعظم العمل

الإخلاص يعظم العمل الإخلاص هو سر وضعه الله عز وجل في القلب، لا يعلمه إلا الله، فهو الذي يجزي به دون غيره، فلذا كان الإخلاص بهذه المنزلة العالية. ثم هو يختصر لنا العبادات، فقد جاء عن بعض سلفنا -وينسب هذا القول إلى بلال بن رباح رضي الله عنه- قال: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل) إذاً: الإخلاص مختصر طريق الجنة، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] توضع النعم في كفة والأعمال في كفة. وقد علمنا علماً أكيداً أيضاً أن أعبد رجل على وجه الأرض وهو الرسول عليه الصلاة والسلام -قال لنا: (إنه لن يدخل أحدكم منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فايئس، من هذا الباب، مهما فعلت، فلا تظن في يوم من الأيام أنك توفي نعم الله عليك، فهذا أعبد رجل، ما رأت البشرية ماشياً على الأرض بقدميه أعبد منه صلى الله عليه وسلم يقول هذه المقالة. بل أخبرك ما هو مثل ذلك أو أعلى من ذلك: ثبت بأسانيد صحيحة أن الملائكة يوم ينفخ في الصور، تقول: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، والملك إنما خلق ليعبد، لا يلهو ولا يلعب، خلق ليعبد، البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه إلى يوم القيامة، سبعون ألف ملك كل يوم! الذي يدخل مرة لا يدخل إلى يوم القيامة من كثرة الملائكة، كلهم يعبدون الله، لا يعرفون الأهواء ولا الشهوات، فإذا قامت فإنهم يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام:91] فمتى توفي؟! إلهامك الشكر على النعم نعمة تحتاج إلى شكر، فشكرك يحتاج إلى شكر، فمتى تؤدي الشكر؟! هدايتك نعمة من أجل النعم تستحق الشكر، فمتى تشكر على الشكر؟ ايئس من هذا الباب. فإن أهمك أن تنجو غداً فعليك بالإخلاص: (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل). وهناك حديث رواه الحاكم في المستدرك لا أورده محتجاً به لضعفه؛ إنما أورده لتوضيح المقام فقط، فقد ذكر أن رجلاً كان يعبد الله في جزيرة، فأنبت الله عز وجل له قحط رمان من الصخر، وأخرج له مثل الإصبع ماءً عذباً، فكان يأكل من الرمان، ويشرب من الماء العذب ويصلي، ليس له إلا ذلك، فسأل الله تعالى أن يقبض روحه وهو ساجد، فلبى له رغبته، وقُبض وهو ساجد، وكان عمر هذا الرجل في العبادة ستمائة عام، فلما قبض قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي. فقال الله له: اعلم أيها العبد أنه لا يظلم عندي اليوم أحد، انصبوا له الميزان، فنصبوا الميزان، ووضعوا نعمة البصر في كفة، وضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة فطاشت العبادة، ورجحت نعمة البصر. أين بقية النعم؟! ما جاء دورها! عبادة ستمائة عام ما وفت بنعمة البصر! قال: خذوه إلى النار، فلما جروه إلى النار جعل يصرخ ويقول: يا رب! بل برحمتك، أدخل الجنة برحمتك! قال: أرجِعُوه، فلما أرجَعُوه، قال: عبدي! من خلقك ولم تك شيئاً؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك قحط رمان من الصخر؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من أخرج لك الماء العذب من الماء المالح؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: من قواك على عبادة ستمائة عام؟! برحمتي أم بعملك؟! قال: برحمتك يا رب! قال: فادخل الجنة برحمتي يا عبدي، كنت نعم العبد! من ذا الذي يوفي؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. وإنما بدأ بنعمة البصر لأنها من أجل النعم على العبد؛ قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، لم أجد له جزاءً إلا الجنة) إنما سماها حبيبة؛ لأنه لا يحب الدنيا إلا بها، وعند الأعمى يستوي الثوب الغالي مع الأسمال البالية ويستوي الدر الثمين مع الخرز المهين؛ فالدنيا إنما تحب بالبصر، لذلك قال: (حبيبتيه) وفي اللفظ الآخر فقال الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي: (إذا ابتليت عبدي بكريمتيه) سماها كريمة؛ لأن العبد الذي يحتاج إلى الناس ذليل، ولا يستطيع أن يعبر الشارع إلا إذا نادى، فهي تكرمه، ولا تحوجه إلى أحد، فلعظم البلاء بها قال له ذلك. إذاً: الذي ينجينا من هذا المأزق: الإخلاص (أخلص دينك لله يكفك العمل القليل).

تحقيق الإخلاص بين يسر الدين وتنطع الصوفية

تحقيق الإخلاص بين يسر الدين وتنطع الصوفية إن تحقيق الإخلاص سهل، لكن علماء السلوك من الصوفية صعبوه، حتى أن من يقرأ كلامهم عن الإخلاص ييئس أن يكون مخلصاً يوماً من الأيام! وديننا هو دين الحنيفية السمحة، فكيف يعجز المرء عن تحقيق الشرط الذي لا يقبل العمل إلا به؟! لقد عسر علماء الصوفية الإخلاص. نقل السهروردي في عوارف المعارف عن بعض رءوسهم أنه قال: إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص! يعني: إذا عملت لله عز وجل، وكنت بقلبك تشعر أن هذا العمل لله حبط الإخلاص، فإخلاصك هذا إذن يحتاج إلى إخلاص. مع أن الإخلاص شيء يشعر به المرء من نفسه، فهو يعلم متى يكون مقبلاً على الله ليس لأحد في عمله شيء، لكن هذا الصوفي يشكك حتى في البدهيات! ونقلوا عن رويم بن أحمد -وهو أحد رءوسهم كما في تاريخ بغداد للخطيب - قال: (إخلاص المريدين رياء الموحدين) يريد أن يقول: إن أجل عبادة المريدين لعب عيال عند المقربين! والدين أيسر بكثير من ذلك، وإن أدنى رجل في الأرض لو أخلص قبل منه ذلك، وأعلى رجل في الأرض لو أشرك رد عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين (أي: له أسمال بالية، إذا رأيته سقط من عينيك وازدريته) مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) سبحان من لا يعرف أقدار خلقه إلا هو! تزدريه عينك، ويسقط من نظرك، ولو أقسم على الله عز وجل أن يقلب بلداً قلبها، لكرامته عليه. أدنى رجل لو أخلص لله قبل الله منه، وأعظم رجل لو أشرك رد عليه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. وذكر الله عز وجل في سورة الأنعام ثمانية عشر نبياً وزكاهم وأثنى عليهم، ثم ذيل هذه التزكية بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] لا محاباة، الرجل الكبير إذا أشرك بالله عز وجل أو لم يخلص رد عليه، فكيف يقول: (إخلاص المريدين رياء الموحدين)؟! مهما كان قصده بالعبارة، أو كما يقول الآخر: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) متى تنوب السيئة عن الحسنة؟ وهكذا عسر أولئك الصوفية سبيل الإخلاص: (إذا شهدت في إخلاصك الإخلاص فإن إخلاصك يحتاج إلى إخلاص). تعرفون بم نرد هذه الدعوى؟ نردها بحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا باب الغار نزلت صخرة من الجبل فسدت عليهم الباب، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ونزل الحجر، ولا حيلة لكم إلا بالله -وأنا أسرد القصة أذكر زيادات أخرى قد رويت خارج الصحيحين- ولا ينجيكم إلا صالح أعمالكم، فادعوا الله بها. فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أُرح عليهما، فلما رجعت وجدتهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، فوقفت بجانبهما والإناء على يدي، وأنا واقف والصبية يتضاغون تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب قبلهما أحد، حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة -أي: مجاعة وحاجة- فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً فراودتها عن نفسها فرضيت، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك، ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز، فأبى واحد منهم أن يأخذ أجره وتركه، فثمرته له -يعني: نماه له- فجاءني يطلب أجره، فقلت له: كل الذي ترى هو لك. فقال: يا عبد الله! أعطني حقي ولا تستهزئ بي. فقلت له: لا أستهزئ بك. فساق النعم كلها أمامه ولم يترك منها شيئاً، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه؛ فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون). قد علم هؤلاء صالح أعمالهم، فإنهم لن يكذبوا على الله وهم مضطرون، بل لو كانوا كفرة لأخلصوا، والظاهر أنهم كانوا من المؤمنين؛ لذلك ساق النبي صلى الله عليه وسلم لنا خبرهم مساق المدح لفعلهم، فالمؤمن يعرف من نفسه إذا كان قد أخلص أم لا، وقد قال بعض السلف: إني فعلت ذنباً منذ أربعين سنة أنتظر عقوبته. كيف لا يعرف المرء صالح عمله من فاسده إلا إذا كان مجنوناً لا يعقل، فتحقيق الإخلاص سهل، والله عز وجل لا يصعب عليك ما جعله شرطاً في قبول العمل، لو كان الإخلاص صعباً كما يقول الصوفية لما استطاع أحد أن يخلص. نسأل الله تبارك وتعالى أن يخلص نياتنا، وأن يتقبل منا سائر أعمالنا أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

عقبات في طريق الإخلاص

عقبات في طريق الإخلاص الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. إذا كان الإخلاص بهذه المثابة، فإن في طريق الإخلاص عقبات، ولا تستطيع أن تصل إلى أمر إلا بشيئين: بالقوة الدافعة وبضعف المانع، فإذا ازدادت القوة وضعف المانع وصلت، أما إذا زاد المانع وضعفت المنة، فعندها لا يكاد المرء يصل. في طريق الإخلاص عقبات: عقبات حقيقية، وعقبات موهومة يظنها الناس من العقبات، لكن ليست كذلك، وأخطر النوعين: العقبات الموهومة، أما العقبات الحقيقية فكل الناس يعرفها، لكن لا يعرف كيف يتخلص منها، لذلك سنركز على العقبات الموهومة، التي تنزل منزلة الشبه.

عقبة الشبهات

عقبة الشبهات إن جميع الأشياء لا تخلو من أحد ثلاثة أحكام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) فالأمر لا يخرج عن أن يكون حلالاً محضاً، أو حراماً محضاً، أو مشتبهاً: أما الحلال البين المحض فكل الناس يعرفه. وأما الحرام المحض فكل الناس يعرفه، وإن تذرع أحدهم أنه لا يعرفه، قال الله عز وجل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، يقول: أنا ما كنت أعرف أنه حرام، لكنه في قرارة نفسه يعرف أنه حرام، فهو يدعي كذباً أنه لا يعرف، فلو لقي الله عز وجل لفضحه، لأنه يعلم. إذا كان الحرام لا يلتبس على الحيوانات فهل يلتبس على الذي نزل الله عز وجل عليه الكتاب ليعمل به؟! فإن القط لو خطف قطعة اللحم من أمامك لا يمكن أن يأكلها بجانبك، بل يخطفها ويهرب، لكن لو أعطيته أنت القطعة أكلها بجانبك، فهو يعرف الحلال من الحرام. إذاً: الإنسان الذي ركب الله عز وجل فيه آلة العقل، وجعلها مناط التكليف لا يمكن أن يكون جاهلاً بالحرام المحض (100%). لكن المشكلة في الشبهات؛ فهن (لا يعلمهن كثير من الناس) إذاً: لا يعلم حقيقة الشبهة إلا أقل الناس. الشُبهة أو الشَبهة هي شيء يتجاذبه طرفان: من وجه تجدها حلالاً، ومن وجه آخر تجدها حراماً، فتسأل نفسك: هل تلتحق بالحلال أم بالحرام؟ رجل يقول: أنا أضع أموالي في حساب جار في البنك، الحساب الجاري ليس عليه فائدة، إذاًَ: أنا بهذا نجوت من الربا؛ لكنه وضع أمواله في بنك، وهذا هو الذي عكر عليه الموضوع، وجعله يسأل أي مفتٍ يلقاه، ولو كان يعتقد أنه حلال (100%) ما سأل أحداً، ما سأل إلا لأنه خائف، وعنده شك، ولو أنه أخذ المال وأعطاه لأحد التجار، ليضارب به فلن يذهب إلى مفت ليسأله: قل لي إذا أنا شغلت مالي عند أحد فهل هذا حلال أو حرام؟ ولا أحد يسأل هذا السؤال. إنما حين وضع المال في البنك، والعلماء تكلموا عن الربا في البنوك، وبعد أن وضع المال، قال لك: لا آخذ رباً، لكن بقيت مسألة البنك، فيأتي العالم، هل علي جناح؟ نقول: نعم؛ لأن أدنى ما في هذه قول الله عز وجل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] أنت تعطي البنك سيولة يصرف نفسه. أرأيت إلى رجل مرابٍ في بلد، ورجل عنده مال، فيذهب للمرابي يقول له: خذ عندك المائة ألف هذه إلى أن أرجع. فهل سيترك هذا المرابي المائة ألف أو يستغلها؟ ويقرض الناس منها بالربا؟ فهذا تعاون على الإثم والعدوان، وإن لم تأخذ من هذا المال فائدة. فهذا السائل يسأل عن هذا الأمر؛ لأن لهذا الأمر وجهين: وجه حلال ووجه حرام. فلذلك مفتي الشبهات: هو الورع؛ وهو مفتي من لا مفتي له، فإذا عرض لك عارض في عمل ما، ولم تجد مفتياً، فإن الحل هو في قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) فالورع هو المفتي الجاهز الذي هو ملازم لك، لا يفارقك سفراً ولا حضراً، فإن لم تجد مفتياً، وأنت تريد تسأل عن أمر: أحلال هو أم حرام؟ فإن الورع يفتيك بترك هذا الأمر الذي اشتبه عليك (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى). أي دولة في الدنيا لها حدود آمنة، لو حاول أي شخص أن يعتدي عليها يبذل أهل الدولة النفس والمال في سبيل الدفاع، ورئيس البلد يقول: هذه سيادة بلد، فكيف تخترقون الحدود؟ وتبقى مشكلة: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا دخل رجل على محارم الله، فكيف لا ينتقم وهو ملك الملوك؟! كيف لا ينتقم من الذي دخل الحمى؟! كيف تؤمن نفسك؟ هذا الحلال البين: منطقة، والشبهة، وبعدها الحرام، إذا بقيت في الحلال طول عمرك كيف تصل إلى الحرام، وبينك وبينه منطقة الشبهة، إذاً: بينك وبين الحرام منطقة آمنة هي منطقة الشبهة، لكن لو قفزت من المنطقة الحلال ونزلت في الشبهة اقتربت من الحرام، الذي سوغ لك أن تنتقل من الحلال إلى الشبهة سيجرك إلى الحرام، وطالما دخلت هذه الأرض المحايدة المنزوعة السلاح، فإنك لا تأمن أن تتقدم خطوة كل يوم حتى تصل إلى الجدار الفاصل ما بين الشبهة والحرام، ومن ثم تقع في الحرام. فإذا أردت أن تبقى دائماً بعيداً عن الحرام فلا تغادر منطقة الحلال أبداً، لا تنزل في منطقة الشبهة، وتورع عن كل شبهة (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه). اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الإخلاص [2]

الإخلاص [2] الإسلام دين السماحة واليسر، يتعامل مع الإنسان كما هو، غير متجاهل لفطرته ولا متنكر لغرائزه، لذلك لم يضع للإخلاص في العبادة شروطاً خارجة عن نطاق قدرته، بل إنه جعل الاستجابة لنداء هذه الفطرة وفق المنهج المرضي من عند الله شرطاً للاستقامة واتباع السنة، ووسم المتنطعين بتحريم ما أحل الله من الطيبات بميسم الخروج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطاع ما بينهم وبينه من الإيمان بدينه واتباع شرعته.

طلب الجنة والخوف من النار لا ينافي ابتغاء وجه الله

طلب الجنة والخوف من النار لا ينافي ابتغاء وجه الله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد. العقبات الموهومة التي يظنها بعض الناس عائقة لهم عن بلوغ منزلة الإخلاص هي أعظم بكثير -لمحل الاشتباه- من العقبات الحقيقية، وأقول: هي أعظم بكثير لمحل الاشتباه، فمن العقبات الموهومة: النعيم الأخروي والجزاء. يظن بعض الناس أن من عمل ليدخل الجنة، فإنه لم يخلص في عمله، وهذا متواتر معروف عند علماء السلوك من الصوفية، أنك إذا قصدت بعملك أن تدخل الجنة، فإن هذا قادح عندهم في الإخلاص، حتى ينسب إلى رابعة العدوية المقالة الشهيرة، قالت: (مثل العابد للجنة أو النار كمثل أجير السوء). أي: لا يعمل لله، إنما يعمل للجنة أو يعمل للنار، وينسب إليها أنها كانت تقول: (إن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فاحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في وجهك؛ فلا تحرمني من وجهك) وأنشدت شعراً تذكر فيه هذا المعنى: كلهم يعبدون من خوف نار ويظنون النجاة حظاً جزيلا أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا ويلتبس هذا المعنى على بعض طلاب الإخلاص. كيف يكون طلب الجنة والاستعاذة من النار من عبادة أجراء السوء، وها هم الأنبياء يدعون ربهم تبارك وتعالى أن يدخلهم في جنته، وسيدهم صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس طلباً للجنة واستعاذة من النار؟! في سنن أبي داود أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما إني في صلاتي أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) تتكلمون كلاماً كثيراً، وتسألون الله أشياء كثيرة، وأنا لا أحسن هذه الدندنة، أنا لا أقول غير شيء واحد: اللهم ارزقني الجنة وأعوذ بك من النار، أما دندنتك: الكلام الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فأنا لا أحسنه، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه والصلاة والسلام: (حولها ندندن) لا نسأل الله إلا الجنة، ولا نعوذ به إلا من النار، مهما تنوعت العبارات وطالت وقصرت، لكن حول هذا المعنى ندندن. أما الصوفية فإنهم يظنون أن هذا قادح في الإخلاص! وقد فهموا الجنة فهماً خاطئاً، إنهم يظنون الجنة رماناً وفاكهة ومتعة، ونسوا أعظم ما فيها، وهو رؤية الله تبارك وتعالى. رابعة تقول: (أنا لا أبتغي بحبي بديلاً)، وهي لن ترى الله عز وجل إلا إذا دخلت الجنة، وأعلى ما في نعيم الجنة أن يُرى الله تبارك وتعالى؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ قالوا: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير، وثقلت موازيننا؟! قال: فيكشف لهم الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً خيراً لهم من رؤية الله تبارك وتعالى). ولما تلا الإمام الشافعي رحمه الله قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال: (لو لم يكن من عقوبة إلا الحجاب لكان كافياً، فلما حجب أقواماً بالمعصية عرفنا أن أقواماً يرونه بالطاعة) فاستدل بالآية على رؤية الله تبارك وتعالى؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافاً للجهمية والمعتزلة الذين ينكرون هذه النعمة العظيمة. فطلب هذا النعيم الأخروي يظنه الصوفية معارضاً للإخلاص، وغفلوا وهم علماء السلوك عن طبيعة الإنسان. إن الإنسان لا يعمل إلا إذا أجر، لو نصبت له أجراً عمل، لو قلت له: اعمل ولا أجر لك؛ فترت همته؛ لذلك نصب الله الجنة والنار في باب الترغيب والترهيب، وأنتم ترون أن الدول التي تتعامل بالقطاع العام فاشلة؟ لأن الموظف يأخذ راتبه عمل أو لم يعمل، إنما القطاع الخاص قطاع ناجح؛ لأنه ربط الإنتاج بالأجر، يقول لك مثلاً: قطعة بدرهم، إذاً: أنت عملت قطعة في خمس دقائق، ستقول لنفسك: لم أقعدُ فارغاً، لم لا أعمل؟ وكل قطعة بدرهم؟! أما إذا قيل لك: سواء عملت قطعة واحدة أو عملت ألف قطعة، فليس لك إلا عشرة دراهم في الشهر، فإن المنة تضعف، وهذا شيء لا يمتري عليه اثنان. فكيف يزيل هؤلاء الصوفية مسائل الترغيب ومسائل الترهيب وبعد ذلك يقولون: اطلب وجه الله؟! إن الله عز وجل خلق الإنسان يرغب ويرهب بفطرته وهم يضادون فطرة الله وخلقه، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل في غزوة أحد -وكان يأكل التمرات- فقال: (يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة) فالرجل يأكل التمرات ثم تذكر الجنة ونعيم الجنة، وهذا الكدر والنكد الذي يعيش فيه الإنسان مهما كان ملكاً مطاعاً متوجاً، فالدنيا كلها نكد، إنما الجنة دار النقاء الخالص، فسقفها عرش الرحمن، وحصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك، وما من شجرة إلا ساقها من ذهب، وكذلك النساء، والرسول عليه والصلاة والسلام يقول: (لو خرج ظفر امرأة من الحور العين للدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب! وإن الرجل ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة)، تلبس سبعين حلة، لكن ساقها مثل الزجاجة، فلذلك يرى مخ ساقها من وراء تلك الحلل، من الحسن والجمال، وقد ذكر الله عز وجل لنساء أهل الجنة صفتين، قال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] (مقصورة)، والمرأة المنتقبة في زماننا متشبهة بنساء أهل الجنة لماذا؟ لأنها لما غطت نفسها قصرت حسنها على زوجها، فلا يراها إلا زوجها، حور مقصورات في الخيام، لا يخرجن من الخيام، ولو أنهن خرجن فإنهن كما وصفهن ربهن: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، تقصر طرفها على زوجها، لا تمد عينيها إلا إلى زوجها فقط. إذاً: المرأة المتعففة تتشبه بنساء أهل الجنة. وأنتم تعلمون أن التشبه بالمغضوب عليهم ممنوع، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أهل النار لم أُرهما قط نساء كاسيات عاريات -لابسة ملابس شفافة، فهي كاسية لكنها عارية في الحقيقة- رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) فحين تصفف شعرها تصففه فوق رأسها وتميله إلى ناحية اليمين أو الشمال، فالعلماء قالوا: إن تصفيف الشعر بهذه الصورة وإن لم يكن ممنوعاً لذاته، لكن لأن فيه تشبهاً بالمغضوبات عليهن، فإن المرأة المسلمة لا تفعله، فالتشبه بالمغضوب عليهم أو بالكافرين ممنوع على أي وجه، والتشبه بأهل الصلاح مطلوب فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح فانظر نساء أهل الجنة متعة، كلها الجنة متعة. وروى الإمام البزار رحمه الله حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) هذا الحديث تكلم فيه بعض العلماء، لكن أنا خطر لي عليه قصة لطيفة جداً، رواها أبو علي الأبار في معجم أصحاب الصفدي، يقول: بينما نحن نسمع هذا الحديث من شيخ من الشيوخ، ورجل كان أتى بابنه كان سنه حوالي أربع سنوات أو خمس، قال: ما أشك أنه دون السادسة، فهو قاعد مع والده في الجلسة، والشيخ ظل يقول: حدثني فلان عن فلان عن فلان ووصل بالتالي للبزار، وذكر سند البزار وللحديث، ثم ذكر متن الحديث: (إن من أهل الجنة من يشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) فالولد الصغير قال: على قرصه، قال: فضحكنا جميعاً، وتعجبنا من فطنة الولد؛ إذ أنه علم مع صغر سنه أن الإدام يحتاج إلى خبز. وفي الجنة لا يحوجك ربك إلى Q أنا أريد أن آكل رماناً، أريد أن آكل تفاحاً بل بمجرد ما تشتهي شيئاً تراه أمامك، فالسؤال علامة الذل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إليه بعض الصحابة قالوا: أوصنا، قال: (لا تسألوا الناس شيئاً)، فكان سوط أحدهم يقع منه -يسقط من يده- وهو راكب فرسه، فلا يقول: يا فلان ناولني، بل ينزل هو بنفسه ويأخذه، لأن السؤال ذل، يدل على حاجة، فلا أحد يسأل إلا وهو محتاج؛ شخص تاه عن العنوان يسأل عن العنوان شخص يريد شيئاً يحتاجه يسأل عنه. فحتى لا يحوجك في دار الخلود والنعيم المقيم، وحتى يزول عنك الذل الذي كان في الدنيا وانتهت الحاجة إلى الخلق، كان من تمام المتعة أنك ما اشتهيت شيئاً إلا وجدته أمامك، فهل يوجد عاقل يضحي بالجنة لشهوة ساعة؟!! إنه لمغبون من ترك الجنة وما فيها لشهوة ساعة! في الدنيا: رغيف الخبز حتى تأكله لا بد أن يمر بمراحل عدة: تحرث الأرض، تحط البذر، تروي، تنزع كل الأعشاب الضارة بالزرع، تظل تتعاهده، يكبر، تحصده، تجمعه وتحمله للأجران، تدرسه، تفصل التبن عن الحب، ومن ثم تأخذه بعد هذا فتطحنه لتجعله دقيقاً، ثم تعجنه، ثم تخبزه، ثم تأكله هذا رغيف خبز، ولكنه مر بكل هذه المراحل! مصداقاً لقول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فكيف تقبل فيها الحرام وهي ساعة؟! {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]. فالرسول عليه الصلاة والسلام حين سأله هذا الصحابي: (ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة. فرمى تمرات كن معه ثم قال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات)، هل سأنتظر في الدنيا دقيقتين، أو خمس دقائق لأ

التنعم بالمباحات لا ينافي الإخلاص

التنعم بالمباحات لا ينافي الإخلاص من العقبات الموهومة ما يظنه بعض طلاب الإخلاص من أن التنعم بالمباحات عقبة في طريق الإخلاص، فالرسول عليه الصلاة والسلام بين لنا أن طلب المباحات المشروعة لا يعرقل العبد، بالعكس، لو نظر العبد إلى ما أباحه الله له وجد أن هذا يسهل عليه طريق الوصول؛ فكل شيء حرمه الله عز وجل جعل في مقابله عوضاً حلالاً، حتى لا يقع العبد في الحرام، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي الرجل منا شهوته وله صدقة؟ -هذا شيء أستمتع به، إذاً تكفيه المتعة، لكن فلماذا يأخذ أجراً فوق المتعة؟! - قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قولوا: نعم. فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر) فهو لما حرم عليه الزنا أباح له الزواج وملك اليمين والتسري، هذا كله عوض مباح، فهذا المباح الأصل فيه أنه أبيح لك لتصل إلى الله بسرعة وبأمان بلا مشاق ولا متاعب. وقد روى مسلم في صحيحه أن حنظلة لقي أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الطريق فقال له: نافق حنظلة! ما الأخبار؟ ما الحكاية؟ قال له: (نكون عند النبي صلى الله عليه سلم فيذكرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي عين -يتكلم عن الجنة حتى كأنك تراها، والنار حتى كأنك تراها- فإذا تركناه ورجعنا إلى ديارنا وعافسنا النساء والضيعات، نسينا كثيراً مما يقول) يتهم نفسه بالنفاق يقول: أنا للتو قبل خمس دقائق كنت أبكي، وقلبي منفطر، وبعدها آتي آخذ الولد وأضمه إلى صدري، وألعب معه وأرقصه، ومن ثم أدخل على المرأة أمزح معها ماذا يعني هذا؟! ما هذا النفاق؟! المفترض ما دمت حزيناً أن أظل حزيناً هكذا دائماً، لكي أدوم على الإخلاص، لكني أحزن وبعد خمس دقائق أضحك! فظن أن هذا من النفاق، فقال: نافق حنظلة! فقال له أبو بكر الصديق: ما الحكاية؟ وبعد أن أخبره حنظلة بهذا الكلام قال له أبو بكر: والله وإني لأجد ذلك. يعني أنا أيضاً أعاني من نفس الموضوع، أيضاً أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النار ويتفطر قلبي، وأسمع عن الجنة يشتاق قلبي، وبعد ذلك بمجرد خمس دقائق أجلس فيها مع النساء أنسى الموضوع كله. فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أول ما حنظلة وصل قال: نافق حنظلة رفع الراية: نافق حنظلة، أول ما وصل رفع الراية: نافق حنظلة! ما الحكاية؟ قال له: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا الجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا تركناك رجعنا إلى النساء والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً مما تقول. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تكونون -أو: لو تدومون- كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرق، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة). الناس فهموا (ساعة وساعة) الساعة والساعة فهماً خاطئاً، فاحتجوا على باطلهم قائلين: ساعة لقلبك وساعة لربك! حسناً! أين ساعة قلبك؟ - أربع وعشرون ساعة! - وأين ساعة ربك؟! إن الله غفور رحيم! أهذا كلام يعقل؟! يظل أحدهم يضحك أربعاً وعشرين ساعة! ولكي يسلوا الناس عملوا برامج الخواجة ديجي وأبو لمعة، وهو شخص حياته كلها قائمة على الفشر. تصور حياته كلها قائمة على الفشر! والناس يضحكون! طول النهار يضحكون، فأين ساعة الله؟! إنها غير موجودة! فالنبي عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لـ حنظلة: إنك لا تستطيع أن تصل إلى الله إلا إذا أخذت المباح، هذا هو معنى قوله: (ساعة وساعة) يعني: ساعة لنفسك تتمتع فيها بالمباحات التي أباحها الله لك، وساعة للصلاة والذكر. وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل لهو باطل إلا ملاعبة الرجل لامرأته وفرسه وولده). والآن تسمع من يقول لك: ما رأيك في لعبة الأتاري والألعاب التي على الكمبيوتر؟! رصاصة وبرتقالة وعلى الذي يلعب أن يصطاد البرتقالة بالرصاصة، ومن ثم يظل يلف ساعة لكي يصطاد البرتقال كله! هل ستعلم ولدك هذا الكلام؟! تضيع عمره؟! وبعد هذا يا ويله إذا فات الوقت المحدد وبقي هناك برتقالة لم تنزل؛ يرجع له البرتقال مرة أخرى؛ لكي يظل يضرب طول النهار، إذا طاف ثلاث دورات أو أربع، وما استطاع أن يصطاد البرتقال كله يبكي على نفسه. يقال له: يا أحول، صار أحول، أحول ما يعرف يصيب الهدف. ويشغلون الأولاد بهذه المسائل ويضيعون أعمار الأولاد بهذه الأشياء. أصلاً: كل لهو باطل إلا هذه الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الرجل يلاعب امرأته لماذا؟ لأن المرأة شريكة الرجل، فلا يكن معها جاداً دائماً ولن يستطيع ذلك. هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه -الذي هو أبو الجد كله- يقول: (ينبغي للرجل أن يكون كالطفل في أهله، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً) لا يظل طفلاً دائماً. (ينبغي على الرجل أن يكون كالطفل في أهله) أي: يضحك ويلعب. عرضت علي مشكلة في الشهر الماضي: شخص في نزاع مع امرأته، وهو للتو ملتزم جديد، والملتزم الجديد عنده شوق لكل شيء، نفسه يعمل كل حاجة، أول ما يقرأ حديثاً يريد أن ينفذ هذا الحديث، لديه حرارة! لكن هذه الحرارة هذه تضيع عليه الحكمة في التعامل مع الخلق ومع النصوص؛ من شدة الحماس المهم: وقع سوء تفاهم بينه وبين امرأته فقالت المرأة بعد ساعة من المشكلة: سأذهب أصالحه. فذهبت وأخذت تطبطب عليه. قال لها: عندك دليل؟! دليل ماذا؟! قال: عندك دليل على هذه الطبطبة؟! وهل هذه تحتاج إلى دليل يا بني؟!! أنت ماذا تريد؟! أحل لكم الطبطاب، أو الطبطبة أو)! فهو حين يقول لها: "عندك دليل؟ " يسد نفسها ويكسر خاطرها، كانت ناوية هي تعمل المسلسل! لكنه بهذه العملية أقفل عليها الباب، يعني كانت ناوية بعد الطبطبة تقول له الكلام الذي يقال في مثل هذا الباب، لكنه أقفل عليها وضيع عليها بقية الموضوع. أنت رجل تتعب من أجل أهلك، فأحي إحسانك لأهلك بالمعروف، بالكلمة الطيبة الجميلة، بالكلمة الحسنة. أنت الآن تصرف عليها وتنفق عليها، وتكسوها وتكسو أولادها، كثير من الناس يضيع هذا المعروف كله بالكلمة السيئة، دائماً مكشر، لا يكاد يرضى. مثلاً: في شهر رمضان -والناس توسع على نفسها في شهر رمضان- يصعد أحدهم السلم ومعه عشرة أكياس أو خمسة عشرة كيساً: برتقال وفاكهة وأكل وكسوة، لكنه بمجرد أن يصل إلى الباب يدق بخشونة: افتحوا الباب -يغضب طبعاً- وحين يحط الأكياس: على الله يثمر فيكم! كلوا. "على الله يثمر فيكم! " أنت قد صرفت ألف درهم مثلا، لكنك بهذه الكلمة ضيعت الألف درهم تماماً، أو حين تقول لهم: اطفحوا! راح الألف درهم. لكن أنا لا أريدك أن تدخل بأي فاكهة ولا بأي كسوة، ادخل بلا شيء (لورا ويد لقدام)، وأول ما تدخل قل: السلام عليكم، أنا والله مقصر في حقكم، ونفسي أعمل لكم، وآتي لكم بلبن العصفور وتكلم هذا الكلام: الله يتولى جزاءكم، أنا لا أستطيع أن أجزيكم، أسأل الله أن يغفر لكم، أسأل الله أن يحسن خاتمتكم! أول ما يقول الرجل ذلك تقول له: تكفينا دخلتك علينا، أنت بالدنيا، سلامتك عندنا بالدنيا! فلوس؟! ما هذا الذي تقوله؟! وبذلك يحيي الرجل المعروف، ومن ثم يدفئ البيت بالكلام الجميل الطيب، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. فأن تقعد وتتكلم وتتسامر وتسامر مع امرأتك هو هذا من اللهو المباح: (اللهو كله باطل إلا ملاعبة الرجل لامرأته) فهذا من اللهو المباح، إذاً أنت تلهو وفي نفس الوقت مباح لك ذلك لماذا؟ لكي تستمر عجلة الحياة. كذلك ملاعبة الولد، وملاعبة الفرس، الذي أنت تجاهد به في سبيل الله عز وجل. فهكذا كل لهو باطل إلا هذه الأنواع الثلاثة لماذا؟ لأنها تعينك على الجد والسير إلى الله عز وجل، فالحياة التي لا تكون هكذا جافة. وفي الصحيحين من حديث أنس أنه جاء ثلاثة إلى أبيات النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن العبادة، فلما وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب النساء، ويضحك مع النساء، وكان له مع زوجاته مواقف جميلة، بالذات مع عائشة رضي الله عنها، كان له مواقف كثيرة جداً مع عائشة، وكان يتلطف معها. الحقيقة هم راحوا لـ عائشة، وعائشة هي التي بلغت النبي صلى الله عليه وسلم قول هؤلاء الثلاثة، دخلوا: ما هي الأخبار؟ كيف النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل؟ قالت: (يكون كأحدكم في مهنة أهله، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، فإذا أقيمت الصلاة قام للصلاة) مثلكم تماماً، ومن ثم تذكر أيضاً شيئاً من اللهو، وأن النبي صلى الله عليه سلم كان يلهو معها، وكان يباسطها، ويقول: (والله إني لأعرف غضبك من رضاك! قالت: كيف يا رسول الله؟ قال: إذا كنت علي غضبي تقولين: لا ورب إبراهيم! وإذا كنت عني راضية تقولين: لا ورب محمد! قالت: والله -يا رسول الله- ما أهجر إلا اسمك). وهناك شيء آخر أيضاً! أنا أكاد أقطع أن هذا الشيء الذي سأذكره لا يفعله منا أحد. في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما نحن في غزوة إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجال: تقدموا -يريد أن يمشي مع عائشة لوحده- فقال لها: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته، قالت: فتركني- مرت مدة: شهر أو شهران سنة أو سنتان- حتى إذا حملت اللحم (تعني أنها أصبحت بدينة) قال لي: تعالي أسابقك، قالت: فسابقني فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك) واحدة بواحدة (هذه بتلك). لكن: من الذي يعمل هذا؟! يقول لك أحدهم: أتركها تركب وتدلي رجليها؟! وأنا أجري معها، لو فعلت ذلك فلن أستطيع أن أكلمها بعد ذلك، وأنا سيد البيت، فلماذا

الطريق من هنا [1، 2]

الطريق من هنا [1، 2] بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم شرائع هذا الدين ومعالمه بكل وضوح وجلاء، وأخبر أن الأمة ستفترق من بعده صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا الفرقة التي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعلم يقيناً لكل طالب للحق والنجاة أن اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بصحابته الكرام واجب، وأنه الطريق المستقيم، والغاية المنشودة.

الاقتداء بالسلف الصالح والسير على طريقهم سبيل النجاة

الاقتداء بالسلف الصالح والسير على طريقهم سبيل النجاة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمدٍ على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. درسنا هذا بعنوان: (الطريق من هنا). إن الهدى هو خير ما يحتاجه الرجال، وشر بضاعة المرء الضلال، فالعبد المفلح الذي وقع ميثاق العبودية في عالم الأرواح ينبغي عليه أن يراجع نفسه: هل هو سائرٌ إلى الله عز وجل بسلام أم أضلته شياطين الإنس والجن؟ ميثاق العبودية الذي وقعه كل واحد منا في عالم الأرواح مذكورٌ في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فقال الله عز وجل {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ومع أن هذا الميثاق لا يذكره أحد منا فكان من رحمة الله عز وجل: أن أرسل الرسل ليذكروا العباد بهذا الميثاق. فهناك عقدٌ وقعته أنت وهو عقد العبودية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي). إذاً: يا طالب النجاة! عليك بمذهب القرن الأول، فنجاتك أن تتمذهب بمذهب القرن الأول: (كلها في النار إلا واحدة، من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي)، لأبين لك عظم المحنة التي تعيشها، وربما لا يشعر كثير منا بحجم المحنة. أصور لك هذه الفرق بأبواب: أمامك ثلاثة وسبعون باباً كلها مفتحة، وبابٌ واحد فقط هو باب السلامة، وبقية الأبواب إلى النار، وليس ذلك فحسب بل على كل باب من يدعو إليه، وعلى بعض الأبواب من يأخذ لبك ويسرق قلبك بحكم بيانه وعرضه وسمته! فإذا لم تكن متحققاً بمذهب القرن الأول ربما انطلى عليك عرض أحد هؤلاء الدعاة، وهذا الباب أول خطوة تخطوها فيه تقودك إلى النار، فهي محنة من أعظم المحن، وإذا زل المرء في الخطوة الأولى كان لها ما بعدها.

أساليب أهل الضلال في الدعوة إلى ضلالهم

أساليب أهل الضلال في الدعوة إلى ضلالهم إن أهل البدع والضلال يخطفون القلوب، ولهم في ذلك وسائل هي كالشباك ينصبونها للناس، نذكر بعض هذه الأساليب تحذيراً منهم:

من أساليب أهل الضلال: الغلو في العبادة

من أساليب أهل الضلال: الغلو في العبادة ومن الشباك التي ينصبها أهل البدع للناس: الغلو في العبادة، فعندما تأتي رجلاً عابداً زاهداً ضارعاً ثم يقول لك شيئاً يقع في روعك -وأنت خال من دعوة الحق- أن هذا الرجل محق. ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين فجاء رجل وقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!!) أو قال في اللفظ الآخر: (هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا هو الضبط الأشهر، فالفتح للمخاطب: (لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، والضبط الثاني: (لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)، فعلى الضبط الثاني المعنى واضح، أي: أنا إن لم أعدل خسرت، بسبب عدم العدل، لكن على الضبط الأول يكون المعنى: لقد خبت أنت أيها القائل وخسرت، فما ذنب القائل؟ إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل فما هي جناية الرجل الذي لم يكن له في الأمر شيء؟ قال العلماء: المعنى: لقد خبتَ وخسرتَ بسوء ظنك في نبيك؛ أي: متى ظننت أن نبيك لا يعدل وهو مرسلٌ من قبل الله عز وجل فهذا الظن هو الذي أرداك. فأراد خالد أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية). فهذا الكلام موجه لـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، والعبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، فهو موجه إلى هؤلاء الفطاحل، فمثلاً: خذ واحداً منهم وليكن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أحد العبَّاد وليس أفضلهم، فهو ليس أفضل من أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا أفضل من بقية الأربعة ولا بقية العشرة، بل العشرة أفضل، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان عابداً إلى درجة أنه جاء في مسند الإمام أحمد من حديث مجاهد عنه في قصته الطويلة وهي أن أباه زوجه امرأة ذات حسبٍ من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلاً يقوم الليل، ويقرأ القرآن كله كل ليلة، كما في صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو قال: (جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة). ولما دخل بها أحب عمرو بن العاص أن يطمئن على العروسين، فهو يقول في مسند أحمد: (زوجني أبي امرأة ذات حسب من قريش فلما أدخلوها عليّ -وانظر إلى التعبير!! فالعادة أن يقول الرجل: فلما دخلت بها، فكلمة (أدخلوها علي) توحي لك بأنهم أدخلوها غصباً- قمت أصلي) فظلَّ يصلي طوال الليل، وعمرو بن العاص يعرف أن ابنه من الممكن أن يعمل هذا، ففي الصباح ذهب إلى زوجة ابنه يسأل عن الأخبار؟ فالمرأة مؤدبة بالطبع وصاحبة دين وخلق فقالت كلاماً جميلاً: (عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، قال: فأقبل علي أبي فشتمني وعضني بلسانه، وقال لي: أنكحتك امرأة ذات حسبٍ من قريش فأعضلتها، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم). فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجوبه، وقال يا عبد الله: هل تقرأ القرآن كل ليلة؟ هل تصوم كل يوم؟ وبدأ يخفف عنه: اقرأ القرآن في أربعين، اقرأ القرآن في شهر حتى وصل إلى ثلاث، وقال: (لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)، وكذلك الصيام حتى وصل إلى صيام داود، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً. فـ عبد الله بن عمرو أحد العباد لكنه ليس أشهر عباد الصحابة، فهناك من هو أفضل منه. والحجاج بن يوسف الثقفي لما وقعت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير كان الحجاج يخطب على المنبر ويقول: عبد الله يعني ابن الزبير شر أمة محمد! فماذا كان يعمل عبد الله بن الزبير الذي كان يقول عنه الحجاج إنه شر هذه الأمة؟ كان صواماً قواماً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما ظفر به الحجاج قتله وصلبه، وكان لا يستطيع أي مار أن يقف ثانية أمام الجسد المصلوب إلا عبد الله بن عمر بن الخطاب وقال: السلام عليك يا أبا بكر أشهد أنك كنت صواماً قواماً، والله لأمة أنت شرها خير أمة، وهذا رد على الحجاج، فإذا كان شرها صواماً قواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فكيف بأفاضلها؟ لما كانت الحرب سجالاً بين علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في المدينة أيام أبي حنيفة ومالك كان أحد قضاة الرأي يتكلم على المحدثين ويقول: مساكين أهل الحديث لا يعرفون شيئاً في الفقه! فقال أحد المحدثين: وكانت بي علة فحبوت إليه وقلت له: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات: فأي شيءٍ قال علي؟ وأي شيء قال ابن مسعود؟ وأي شيءٍ قال زيد بن ثابت؟ فسكت ولم يعرف شيئاً، ثم قال له: أنا أخف أصحاب الحديث سألتك عن مسألة لم تحسنها، فكيف ترميني بما لا تحسنه؟ فلا تقف أمام فحولهم. فانظر كيف كانت عبادة عبد الله بن عمرو بن العاص، فعندما يرى عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من أتباع ذي الخويصرة التميمي يقول في نفسه: وهل أنا أصلي؟!! هل أنا أصوم؟!! أي صلاة وصيام هذا؟! إذاً إلى أين سيصل؟ فعندما يحتقر عبد الله بن عمرو صلاته إلى صلاة هذا الخارجي، فماذا يفعل هذا الخارجي؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام لعباد الصحابة: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم) فتخيل أنت عبادة هؤلاء الخوارج! هذا معناه أن عبادتهم فوق الوصف. إذاً: ليس من صفات أهل البدع أن يكون فاسقاً منحلاً، فهؤلاء عباد من الطراز الأول. سيقول شخص: أنت هكذا أشكلت علينا بهذا جداً، لأني أرى من أهل السنة من هم عباد فأخشى أن يكون هذا مثلهم، فتكون مشكلة. إذاً: ما هو الفارق بين أهل البدعة وأهل السنة، وهم يشتركون في العبادة والجد فيها، وفي قراءة القرآن وفي طلب العلم حتى القعر؟ فنقول: إن الفرق هو سلامة المنهج والوقوف على السنة. قيل للشافعي رحمه الله: (إن الليث بن سعد يقول: لو رأيت الرجل يمشي على الماء وهو يخالف السنة فاعلم أنه ضال. قال الشافعي: قصّر الليث رحمه الله، بل لو رأيتهم يطيرون في الهواء وهم مخالفون للسنة فاعلم أنهم ضلاَّل)، وهل هناك رجلٌ يعظم السنة ولا يعظم حملتها؟! لا بد أن يعظم الذي نقل إليه الدليل إذ لو زاد الطعن في الصحابة لزاد الطعن في المنقول إلينا من خلالهم.

من أساليب أهل الضلال: التنقص من الصحابة والتقليل من شأنهم

من أساليب أهل الضلال: التنقص من الصحابة والتقليل من شأنهم إن أول ما يضربه أهل البدع في جسد الأمة المسلمة هم الصحابة، فيحقّرونهم، ويقلّلون من شأنهم. فمثلاً: عمرو بن عبيد قال له رجل: ما تقول في حديث التحفتين في الصلاة، قال: عمن؟ قال له: عن جابر بن سمرة، قال: ما تفعل بـ جابر بن سمرة؟! قبّح الله جابر بن سمرة!! نقول: بل قبح الله عمرو ورضي عن جابر بن سمرة. فأهل البدع يحقرون الصحابة ولا يعتبرونهم مثالاً، وإنما يقولون: هم رجال ونحن رجال، ولذلك كان أول شيء وقعت فيه جماعة التكفير هو قولهم في الصحابة: هم رجالٌ ونحن رجال. ذات مرة في سنة (81) في سجن (أبي زعبل) كان قادة السجن يضعون أصحاب كل مذهب أو معتقد في زنزانة، مثلاً: السلفيون مع بعض في مكان واحد، والتبليغ كذلك، والتكفير كذلك، فجاءت أوامر بتصوير كل المساجين من الأمام والخلف والجنب فصدر من الفرماوي -وهو رئيس فرقة الفرماوية وكان سِنُّه تقريباً يوم رأيته يدل على أنه قد تجاوز التسعين- قوله: التصوير حرام. وكان يوجد في زنزانته قرابة أربعة وعشرين من أتباعه، فتجمعوا جميعاً في زنزانة واحدة وأصروا على عدم التصوير، فضربوهم بالقنابل المسيلة للدموع فأبوا، وعجز الحراس عن فتح الزنزانة، وعندما ضربوهم بالغاز المسيل للدموع سدوا الباب بالبطانيات، وكان الفرماوي رجلاً كبيراً مصاب بضعف في الجهاز التنفسي، فرفعوه إلى نافذة الزنزانة حتى يشم الهواء. ومن أجل أن يجبروهم على تسليم أنفسهم وتصويرهم منعوا عنهم الطعام، وكان الفرماوية في الدور الثاني، وتوجد زنزانة فوقهم في الدور الثالث، فاجتمع من فيها فقالوا: لا يمكن أن نتركهم هكذا بلا طعام، وأتوا بفكرة أن يدخلوا لهم الطعام من النافذة الخارجية للزنزانة، فأتوا بخبز وحلاوة وربطوها في بطانية وأنزلوها من الخارج، فبينما كان الرجل - الفرماوي - يشم الهواء وجد الخبز والحلاوة نازلاً من السماء، وبما أن جماعته لا يعرفون من أين الخبز والحلاوة قالوا مباشرة: هذه كرامة، وليس بعدها كرامة، وازدادت قناعة الناس بالرجل وآمنوا به أكثر، وأصروا على عدم التصوير، وقضوا على ذلك ثلاثة أو أربعة أيام يأكلون ويشربون ولا توجد مشاكل. فلما نقلوا هذه الجماعة من سجن (أبي زعبل) قال حراس السجن: ما دام أن كل جماعة ستتكاتف مع بعضها فلا بد أن نمزقهم ونفرقهم، فوضعوا في كل زنزانة اثنين من جماعة التكفير مع اثنين من السرق، مع اثنين من السلفيين، وأربعة من الإخوان وهكذا، فلا يمكن أن يتحدوا وكان هذا هو التقسيم الجديد الذي قسم به السجن فيما بعد. فكنا نقوم بالرياضة في الصبح. جماعة الفرماوية من مذهبهم أن الأخذ بالأسباب كفر، فلو مرض شخص فذهب إلى الطبيب فهو كافر -هذا هو مذهبهم- فكان واحد من الاثنين من جماعة الفرماوية اسمه: حمزة، فقلت له: يا حمزة ماذا تعمل؟ فقال لي: أعمل خياطاً، فقلت له: (بلدي أو إفرنجي؟) وكنت أستدرجه لأقول له إن هذا أخذ بالأسباب وإلا فلماذا تعمل، فقال: أنا خياط (بلدي)، وهذا الثوب الذي ألبسه أنا الذي فصلته، فقلت له: يا حمزة! ألا ترى أن هذا من الأخذ بالأسباب؟! فقال لي: ألا ترى ما ألبس؟ أنا ألبس ثوباً أخضر، قلت: وما معنى هذا؟ فقال: نحن على ثوبين، الذي يلبس الثوب الأبيض هو الواصل ولا يعمل أبداً، والذي يلبس الثوب الأخضر هو (المرمطون) الذي يصرف على صاحب الثوب الأبيض!! وقال أحد جماعة التكفير: نحن نرى أننا على الحق، وقد أمرنا الله عز وجل أن نبلغ عباده دين الله، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فسبحان الله شيء عجيب حقاً! فمنطلقهم أنهم مكلفون بدعوة الناس إلى دين الله عز وجل، ونحن في نظرهم كفار، وسيبدءون بدعوتنا. وكانت تحصل بيننا مناقشات كثيرة، حتى وصلنا إلى الصحابة، وما هو قدر الصحابة عندهم؟ وهل عمل الصحابي أو قوله حجة أم لا؟ ومتى يصير حجة ومتى لا يصير؟ وقول الصحابي في القرآن من باب المرفوع أم من باب الرأي؟ وبدأنا نتطرق إلى هذه المواضيع، فكان جوابهم: إن الصحابة مطالبون بالقرآن والسنة مثلنا فلا ميزة لهم علينا في ذلك، فهم مطالبون ونحن مطالبون، وليس فضلاً لهم أنهم سبقونا، كما أن الرجل الكبير لا يسبق الرجل الصغير، فكونك قبلي هذا ليس فضلاً لك، فهم وجدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لو كنا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكنا مثلهم سواء بسواء، إذاًَ فما الذي فضلهم؟! فهم رجال ونحن رجال، وهذه المناقشة الحارة كانت على إثر تحقيق قول ابن عباس: (كفر دون كفر)، فقالوا: لا نسلم. فقلت له: ابن عباس توفر له فيها ما لم يتوفر لك، فقال: وما هو؟ فقلت: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فدعك من قضية: (هم رجال ونحن رجال) فهذا رجل معه دعوة، وأنت رجل معك دعوى، فقال: وما أدراك أن الله استجاب دعاء نبيه؟! فأنكرنا عليه ذلك حتى أن أصحابه من أهل التكفير أنكروا عليه أيضاً، وهذا المجادل هو الآن من الداعين إلى مذهب السلف، بعد أن خرج من التكفير بحادثة مؤلمة، فهناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. فحينما نقلوهم إلى سجن (القناطر) وناقشوهم في كراسة شكري والتي تعتبر القرآن الثاني لجماعة التكفير، فقال الذي يناقشهم: كان المفروض على شكري أن يكتب هذه العبارة بالطريقة الفلانية لأنهم ينتقدونها علينا، فهذه العبارة أرى أنها تعدل لمصلحة الدعوة، فانبرى أحدهم وقال: أتعدل على شكري؟ فقال له: شكري ليس بمعصوم، فقال له: ليس بمعصوم ولكنك لا تعدل عليه، فحصلت مشادة وأمسك به أربعة عشر شخصاً وقتلوه ضرباً!! وقبل ذلك بزمن خرج شخص وفضح دعاة التكفير وقال: إنهم يخطفون البنات! وذكر كيف يتزوجون! ونذر وانتدب نفسه لفضح هذه الجماعة بعدما يخرج من السجن، فوفى بنذره وانتقل إلى رحمة الله عز وجل، والمقصود أنه انتقل إلى رحمة الله بتعديل منهجه. إن أول درجة في سلم الفوضى التي يعيش فيها أهل البدع والضلال هي احتقار الصحابة، ويقنعون الجماهير بأن الصحابة مجرد رجال، يقولون لك: هم رجال ونحن رجال، ويستخدمون المقولة -التي قالها بعض أهل الحق- في الباطل، ووضعوها في غير موضعها فكانت قبيحة، وهذه هي طبيعة الكلام الحق لو وضعته في غير موضعه لصار قبيحاً، فمثلاً قولهم: (لا أحد معصوم إلا الرسل)، هذه مقولة صحيحة، فلو أن رجلاً سرق وجاء أمام القاضي، فقال له القاضي: أسرقت؟ فقال له: يا سيادة القاضي وهل هناك أحدٌ معصوم؟!! إنه لص، أي: هذه غلطة ومن الذي لا يغلط؟! وانظر إلى العبارة، فنحن قلنا الآن إنها عبارة جميلة ومتفق عليها لكن لما وضعت في غير موضعها صارت اتهاماً له، فنقول له: أسرقت؟ فيقول: وهل هناك أحد معصوم؟! وهذا معناه أنه سرق، فكذلك كل كلامٍ حسنٍ يوضع في غير موضعه يكون قبيحاً، كما قال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى يعني: من رميته بوردة لا ترمه بالسيف، الكلام اللين في موضعه جميل، والكلام الغليظ في موضعه جميل، والكلام اللين في موضعه حكمة، والكلام الغليظ في موضعه حكمة، فهم أتوا على الكلمة التي تقول: (إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق)، وهذا كلامٌ جميل، ولكن (الرجال هم وثائق الحق)، فلو جاز أن تطعن على الواسطة جاز لك أن تطعن على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فهم الأدلاء على الحق، فلا بد من الاعتدال في فهم هذه الكلمة، فليس معنى أن الحق لا يعرف بالرجال أن ترمي الرجال. فمن الذي يبلغ الحق؟! فلو جاز لك أن تطعن عليهم لكان ذلك طعناً على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فالرجال هم وسائط الحق، والطعن عليهم يستلزم الطعن في الحق نفسه. كما ظهرت الدعوى القبيحة التي تقدح في أبي هريرة والتي يتكلمون فيها على الصحابة الأكابر، يقولون: إن أبا هريرة إذا أعطيته (سنتدوتش) يعطيك حديثاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أحمد منصور هذا الرجل الساقط الذي يتكلم على أبي هريرة كما لو كان لصاً أو قاطع طريق، وهذا الكلام منشور على صفحات المجلات أمثال مجلة (روزاليوسف). وقد كتب هذا الساقط مقالة عن أبي هريرة وعن الصحابة، وأن الصحابة كانوا رمماً!! إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة، ويقول عن أبي هريرة أنه اعترف بلسانه وقال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني) وقال: هو الذي يعترف، كان يمشي وكل همه أن يأكل، مع أن هذه الكلمة جاءت في حديث طويل وكان أبو هريرة يدافع عن نفسه، فـ عائشة رضي الله عنها اعترضت عليه في حديث نقله فنسي كلمةً أو دخل في نصف الكلام، وأن للكلام تتمة، فهو يدافع عن الحديث الذي سمعه، فقال: (يا أم! إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشط والمرآة، أما أنا فكنت رجلاً ملصقاً أمشي معه على ملء بطني). أي: لا أتركه أبداً. فأي طعن على أبي هريرة بهذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يفتح لكم فيقال: (أفيكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أفيكم من رأى من رأى رسول الله؟ أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله؟ فيفتح لهم) ونظر النبي صلى الله عليه وسلم نظرة في النجوم، فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، إذاً: الصحابة بوابة الأمان لهذه الأمة، وهؤلاء المبتدعة أتوا على هذا الباب وأرادوا كسره، فاتخذوا لذلك عدداً من الأساليب سواءً كانت صريحة أو غير صريحة، فالمسلسلات التي تتحدث عن الصحابة من هذا القبيل، وقد كان هناك مسلسل اسمه (على هامش السير) ويأتي لك ببداية ظهور الإسلام ويصور لك الصحابة، ويأتي لك بفتوى أنه لا يجوز إظهار العشرة المبشرين بالجنة ولكن يجوز أن يصور ما دون ذلك، وأين الدليل على

من أساليب أهل الضلال: التجافي عن الدنيا والزهد فيها

من أساليب أهل الضلال: التجافي عن الدنيا والزهد فيها فتجدهم أئمة زهاداً، والكثير من الناس يحب هذا الصنف ويعجب به، ومن أكثر ما يشوه صورة الداعية إلى الحق أن يكون رجلاً مادياً؛ ولذلك جاءت الرسل لتقول لأقوامهم: (ما نسألكم عليه أجراً)، حتى لا يظن ظان أن هؤلاء منتفعون، فقالوا: نحن نبذل الهدى مجاناً فخذوه بغير نوال، وكثير من الناس يستدلون على صدق الدجالين والسحرة بأنهم لا يأخذون مالاً ويعالجون الناس بلا مقابل. إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها. ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول: كلكم طالب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال. فـ أبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال. فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول: قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيئاً لهما كل امرئٍ يأكل زاده فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول: ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم. لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص. وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلا تذهب. وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!! ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة. (غير عمرو بن عبيد) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.

من أساليب أهل الضلال: التخشع عند سماع المواعظ

من أساليب أهل الضلال: التخشع عند سماع المواعظ إن لأهل البدع شباكاً ينصبونها لجذب الناس إليهم، مثل: البكاء عند سماع القرآن، أو عند سماع الموعظة، فنجد الواحد منهم يبكي ويرتجف، ومثل: طلب العلم والتبحر فيه، وليس عن أذهانكم ببعيد أن أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإيمان والإحسان والإسلام، وفي مطلع الحديث يقول: عن يحيى بن يعمر، قال: انطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -أو معتمرين- فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره عما أحدثه معبد الجهني في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً فاكتنفناه، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -وفي رواية أخرى- لأنني كنت أبسط منه لساناً، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم -أي: جعل يعدد من صفاتهم: قوامون صوامون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- غير أنهم يقولون -بعد كل هذا المدح والثناء- لا قدر وأن الأمر أنف. أي: أن الله عز وجل لا يعلم بالفعل إلا إذا وقع، فنفوا علم الله المتقدم على أفعال العباد. وفي كتاب الصلاة لـ محمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي: (إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر). فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر، وعمر، وعائشة، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-. وتقعر في العلم. أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين. فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها. ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين. فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون: (النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.

نماذج من سير الصحابة والتابعين

نماذج من سير الصحابة والتابعين وإليك سرد لبعض مواقف وأخلاق السلف ومتابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي أخوتهم، وعزمهم، وجميع شئون حياتهم.

التأسي والتسلي

التأسي والتسلي ما هي المتعة؟ المتعة سلطان أو مال، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207] هذه علاقات الأقران في ذلك الزمان الغابر، فعندما تقرأ سير هؤلاء ترتقي بمستواك، فلو كان بينك وبين أخيك خصومة فبادر بحلها، لأن رائدك وأسوتك ميمون بن مهران مثلاً أو الحسن البصري، والله عز وجل جعل التأسي والتسلي خلقاً في بني آدم، وهذا هو الذي يسهّل عليك طلب الأسوة، وهذا ظاهر من قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وأيضاً هو ظاهرٌ في قول الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ونحن في أمثالنا نقول: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته). وقد ترجمت الخنساء هذا في قولها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فلو كان في كل بيت حزن وعويل فإنك لا تحزن كثيراً على ميتك! بخلاف ما لو كنت أنت الوحيد المصاب، فعندما ترى المصيبة عند الكل تخف عليك المصيبة، هذا هو معنى: (خلق التسلي والتأسي). فربنا تبارك وتعالى في هذه الآية يخبرنا أن الأمر في الآخرة بخلاف الدنيا، ولكن إياك أن تقول: إذا دخلت النار فسنكون كلنا مع بعض وسوف نتحدث ونخوض في الكلام، لا: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، يعني: اشتراككم في العذاب لا ينفعكم، ولا يخفف عليكم المصيبة، فكل واحد سيُحاسب بمفرده، وكل إنسان يشعر بعذابه وحده. فخلق التسلي والتأسي موجود في الدنيا، والإنسان مستعد فطرياً وخلقةً له، وهذا أيضاً ظاهر في قول عائشة في حديث الإفك لمَّا قالت بعدما بلغها الكلام: (فظللت ثلاثة أيام بلياليهن أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت تبكي معي) فعندما تبكي معها يخف عليها الأمر، فالمريض يعذب عندما يمرض ولا يعوده أحد، لكن لو كان هناك مريض مصاب بأشد الأمراض وكان هناك من يدخل ويخرج عليه باستمرار فيمر عليه اليوم بسرعة ولا يشعر بالألم. ولذلك الليل أكثر ألماً من النهار بالنسبة للمريض، بالرغم من أن الألم واحد، لكنه في النهار مشغول، ويجد من يدخل ويتحدث معه. عندما تقرأ في سير الماضين والعلماء تهذب خلقك، فمثلاً: ما المانع من فضح نفسك على الملأ، ولا يعني هذا أن تذكر ذنوبك وتجاهر بها، لكن اذكر أنك رجل خطاء، كما كان يقول محمد بن واسع رحمه الله وهو أحد رياحين التابعين، وأحد الرواة عن أنس، كان يقول: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني) كان من العباد. وكذلك الأعمش عندما روى حديث ابن مسعود: (أن رجلاً بات فلم يصلِّ حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وبعد أن روى الأعمش الحديث قال: (أتعرفون لماذا عمشت؟ من كثرة بول الشيطان عليَّ) وعيسى بن يونس راوي الحديث عن الأعمش يعلق على كلام الأعمش فيقول: (وكان الأعمش صاحب ليل وتهجد). وهذا نوع من كسر حظ النفس، أن يغمط الإنسان حظ نفسه إجمالاً. عبد الله بن وهب الإمام المصري العلم الكبير كان يقول كما ذكر الذهبي في ترجمته في السير: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فأجهدني الصوم، فنذرت أني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، فلا ضير أن يعترف على نفسه هذا الاعتراف، وهذا نوع من تهذيب النفس وغمطها، ولا تزال تنبل إذا تأسيت بهؤلاء، وفعل التابعين ليس بحجة، وإنما ذلك في قول أو فعل الصحابي، ومع ذلك المسألة أبعد من هذا التقعيد الأصولي: حجة أو ليس بحجة، فنحن في باب الأدب نختلف عنه في باب العلم. والإمام أحمد رحمه الله أصابته علة، فدخل أحد أصحابه عليه فوجده يئن ويقول: آه آه! فقال صاحبه: حدثني فلان عن فلان أن مجاهداً كان يكره الأنين، فكف الإمام عن الأنين، هذا هو باب الأدب، فلا يأتي شخص أقول له: لا تئن، فيقول: وما الدليل؟ فأقول له: ما روي عن مجاهد فيقول: ليس هذا بحجة!! فباب الأدب مختلف عن التقعيد العلمي، فـ مجاهد حجة عند الإمام أحمد في الأدب، بل هو شيخه، لأنك كلما علوت زاد النُبل والفضل، فكان شيوخه حجة عنده في الأدب، فقد يخالفه في الفتوى ولكن لا يخالفه في الأدب، بل ظل الإمام أحمد يدعو للشافعي أربعين سنة في صلاته، فسمع ابنه عبد الله أباه يدعو للشافعي ويذكره كثيراً، فقال: يا أبت! سمعتك تدعو كثيراً للشافعي، فمن هو الشافعي؟ رغم أنه يعرف الشافعي، ولكنه يسأل عن الخفي في سيرة هذا الرجل التي جعلت الإمام أحمد يُكبِره كل هذا الإكبار، فقال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فهل بعدهما للناس من عِوض؟!) هذه هي نظرته لشيخه. فباب الأدب مختلف عن باب العلم، فقد أخالف شيخي في العلم، كأن يقع في وهم وأسدده، لكن في الأدب هو شيخي وأنا تحته، من الممكن في العلم أن أكون فوقه، لكن في الأدب لا، فهو شيخك وتعلمت الفضائل منه، فعليك أن تحفظ هذا الجميل ما حييت، هذا هو النبل، فالتلاميذ النجباء رزق، وإذا أحب الله شيخاً سخر له تلاميذ نجباء، وإلا هل مالك أفضل من الليث بن سعد في الفقه؟ وأنا لا أقول شهادة من عندي لأن المسألة أخطر من أن يدخل الإنسان بين هذين الكبشين النطاحين الكبيرين، وإنما أقول شهادة الإمام الشافعي، قال: (الليث أفقه من مالك) لكن أصحابه لم يقوموا بمذهبه. إذاً: رزق الله مالكاً بأصحاب ولم يرزق الليث، فالذين نشروا اسم مالك في الآفاق وصيروه في مشارق الأرض ومغاربها هم أصحابه، كذلك أصحاب أحمد والشافعي وأبو حنيفة. فالمسألة ليست مسألة علم فقط، وإلا فعندنا من الأئمة من كان لهم مذاهب فقهية وكانوا يجرون في مضمار هؤلاء الأربعة المشاهير، كان بعضهم أجل من بعض الأئمة الأربعة، مثل سفيان الثوري، كان إماماً جليلاً ضخماً، وإسحاق بن راهويه وهو من أقران أحمد، والأوزاعي وهو من أقران مالك، وكان يقول مالك: (ما زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي)، ولما قابل سفيان الثوري الأوزاعي في السوق أخذ سفيان الثوري بلجام بغلة الأوزاعي وهو يفل الأوزاعي من الزحام ويقول: أوسعوا لبغلة الشيخ، فهل يفعل ذلك أحد من الأقران؟ وكان سفيان الثوري أكبر سناً من الأوزاعي. فعندما تقرأ سير هؤلاء وتعيش معهم فتجدهم على منوال القرن الأول، ورجال القرن الأول هم الأساس، ثم في كل قرن تنتقي منه من كان على نفس نهج القرن الأول، وما بدأ المسلمون يتفرقون إلا بعد ظهور البدع في أواخر عهد الصحابة، مثل بدعة القدر، أو قبل ذلك بدعة الخوارج، وكبدعة الشيعة، فكلما ظهرت البدع كلما أخذت تفرق جمع المسلمين، ويصبح العدد الذي كان تبعاً لمنهج واحد تبعاً لعدة مناهج.

صدق الصحابة في النصح للمسلمين

صدق الصحابة في النصح للمسلمين ورد في معجم الطبراني أن جرير بن عبد الله البجلي أرسل غلامه ليشتري فرساً، والتجارة شطارة -كما يقال- فكلما ساومت صاحب البضاعة ورخّصت السعر كنت (شاطراً)، فغلام جرير كان هكذا، ذهب إلى السوق فوجد فرساً أعجبه، فأخذ يساوم صاحبه حتى وصل إلى ثلاثمائة درهم، وكان الفرس يستحق أكثر من ذلك، لكن الغلام (فطن)، فاتفقوا على السعر وذهب الرجل والغلام بالفرس إلى جرير، فقال له جرير: بكم اشتريت الفرس؟ قال: بثلاثمائة درهم، فقال جرير لصاحب الفرس: يا صاحب الفرس! فرسك يساوي خمسمائة، فاستاء الغلام جداً من هذه الكلمة، فقال الرجل: رضيت!، قال: يساوي ثمانمائة درهم، فقال له: رضيت!، وأعطاه الثمانمائة درهم وأخذ الفرس، فقال الغلام: ما هذا؟ فقال جرير: (يا بني! إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم!). فهل هذا المثل موجود في غير الصحابة -إلا من رحم الله وقليل ما هم-؟ لا يمكن له أن يفض البيعة بخمسمائة درهم! فأي وقت هذا، هناك رجل يفض عقده مع الله وهو عقد العبودية مثل منعم كارلس كان مسلماً فكفر لكي يصبح رئيس جمهورية، لأن من شروط رئيس الجمهورية أن يكون نصرانياً، فكفر ونقض العقد والبيعة؛ حتى يصبح رئيساً. كان الصحابة رجالاً، ولو كان الأمر بيدي لقطعتُ لسان من يقول: الصحابة رجال ونحن رجال، وهو يعني: التسوية، ولا تساوي، فهذا جيل لن يتكرر أبداً، قال له: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم)، فمن الغبن أن أفض هذه البيعة بخمسمائة درهم، فحين تنظر إلى هذه النماذج ترى نماذج عالية يتأسى بها فعلاً، فالجيل الأول كله مكاسب، وإذا اخترت في الأجيال التي تأتي بعد ذلك اختر من كان على منهج هؤلاء، فيلزمك حينئذٍ أن تبحث عن العلماء الربانيين في القرون التي جاءت بعد عصر الصحابة، وستجد عدداً وفيراً.

شكر النعمة والإحسان إلى الجار

شكر النعمة والإحسان إلى الجار أنتم تعرفون كثيراً من المشاهير لكنني أنبه على بعض الأئمة الكبار الجبال الذين لا تعرفهم العامة، ولعل أكثر المسلمين لا يعرفون رجلاً اسمه: محمد بن ميمون: ويكنى بـ أبي حمزة السكري، وهو أحد الرواة عن الأعمش، وإنما قيل له: السكري لحلاوة كلامه، كان يقول: ما مرض جارٌ لي إلا قوّمت نفقته في مرضه وتصدقت بها؛ لأن الله عافاني مما ابتلاه به. والتداوي جائز وليس بواجب، فلو مرض رجلٌ وترك التداوي جاز له ذلك، ولا يجب إلا إذا أضيف ما يرجح الوجوب، فقد ترك أبو بكر رضي الله عنه التداوي، فلو فرضنا أن العلة أصابت محمد بن ميمون وأنفق ثلاثة أو أربعة أو عشرة آلاف جنيه وعاد صحيحاً، فهو يقول: هب أني مكان الذي اعتل فسأنفق مثل هذا القدر من المال ولكن أتصدق به شكراً لله لأنه عافاني مما ابتلاه به. وبلغ محمد بن ميمون أن جاراً له أراد بيع داره، وكان الرجل سيبيع الدار بأربعة آلاف درهم، وقيمة الدار ألفا درهم فقط، فقال له: ألفان ثمن الدار، وألفان جوار أبي حمزة، فبلغ ذلك أبا حمزة، فأرسل إليه أربعة آلاف وقال: لا تبع الدار وابق في دارك!، هذه هي مكارم الأخلاق، عندما تنظر إلى هذه النماذج المشرقة فسوف ترتفع عن سير هؤلاء الذين تعاشرهم من أهل هذا الزمان، فهؤلاء نعمة وشرف، فكيف لو عكفت على مطالعة سير هؤلاء، ولا ترى الدنيا إلا من خلالهم؟ فهناك من هو أجل بألف درجة من أمثال هؤلاء، فقد كان السلف رءوساً في العلم والعمل.

طلب النصيحة من أهل العلم

طلب النصيحة من أهل العلم روى أبو علي القشيري في تاريخ الرقة في ترجمة ميمون بن مهران، وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز، قال ميمون بن مهران لابنه عمرو: انطلق بنا إلى دار الحسن البصري، قال ابنه -راوي القصة-: فانطلقت بالشيخ -يعني أباه- أقوده إلى الحسن، قال: وبينما نحن ذاهبون إلى دار الحسن اعترضنا جدول ماء -يعني قناة- ولم يستطع الشيخ أن يعبرها، فجعل الولد نفسه قنطرة فعبر والده على ظهره إلى الجانب الآخر، ثم قام وأخذ والده وانطلق حتى أتى بيت الحسن، وطرقوا الباب فخرجت الجارية وقالت: من؟ قال: ميمون بن مهران، فقالت له الجارية: يا شقي! ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى ميمون وعلا بكاؤه، فلما سمع الحسن بكاءه خرج إليه، فسلم عليه واعتنقه، فقال ميمون: يا أبا سعيد! شعرت أن في قلبي غلظة فاستلن لي، فقل لي شيئاً يرققه، خرج ميمون من بيته لأنه يشعر أن في قلبه غلظة، فمن منّا يتحرك لهذا المنطلق؟! لو أتاك طبيب وقال لك: عندك تصلب في الشرايين ولا بد أن تأتيني كل شهر، وتسافر إلى (لندن، وباريس، وفيننا) لسافرت!! من أجل أن تعيش بعض السنين، وكم أكلت الأرض من عافية الناس؟ ومع ذلك تجد بعض الناس يعمل لنفسه استشارياً لأمراض القلب وضغط الدم، وإذا حصل له أي تغير أو ألم بسيط سارع في الاتصال بمستشاره لإخباره بما حصل، ويقول: حصل لي كذا وكذا فكل رجل فينا يحتاج إلى استشاري أمراض القلب وضغط الهم! وليس ضغط الدم!! وعندما تشعر بقسوة تذهب إلى هذا الاستشاري كما ذهب ميمون إلى الحسن رحمة الله عليهم. ثم قال ميمون: يا أبا سعيد! أصوم له -أي لهذه القسوة في القلب-؟ فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، فأغشي على ميمون، أي: أغمي عليه، وجعل الحسن البصري يتفقد رِجله كما تتفقد رِجل الشاة المذبوحة يظن أنه قد مات، ثم تركه ودخل الدار، فأفاق ميمون، فقالت لهم الجارية: اخرجوا فقد أزعجتم الشيخ!! ويفهم من ذلك أن الآية زلزلت الحسن أيضاً فدخل يبكي هو الآخر؛ لأن الآية أثرت فيه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]. فخرج ميمون وابنه عمرو، وفي عودتهم قال عمرو لأبيه: يا أبت! هذا الحسن؟! قال: نعم. قال: ظننته أكبر من ذلك! يعني: ما الذي قاله؟ قرأ آيتين أو ثلاثاً من سورة الشعراء، أنا أحفظها، فضرب صدر ولده وقال: يا بني! لقد قرأ آية لو تدبرتها بقلبك لتصدع قلبك، ولكنه لؤم فيه، وهذه الآية لا تغادر سمعك إلا وتجرح قلبك.

أدب الخلاف عند السلف

أدب الخلاف عند السلف لقد كان الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون، لكن القرن الأول الخلاف فيهم قليل، وأدب الخلاف فيهم رفيع، بخلاف القرون التي جاءت بعد ذلك، فالخلاف فيها شديد والأدب فيها يقل، فإذا نظرت إلى الصحابة وهم يختلفون مع بعضهم، كخلاف أبي هريرة مع ابن عباس في الوضوء مما مسه النار، كما في سنن الترمذي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (توضئوا مما مست النار)، -وكان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ فكان الرجل إذا أكل طعاماً مطهياً يلزمه أن يتوضأ، فكان من مبطلات الوضوء أكل أي شيء مسته النار سواء أكان شراباً ساخناً أو أكلاً- فـ أبو هريرة رضي الله عنه لما قال هذا الحديث اعترض عليه ابن عباس، وقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعامٍ أجده في كتاب الله حلالاً؟ يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: هل يلزمني إذا توضأت بماء ساخن أن أتوضأ بماء بارد مرة أخرى؟ فـ ابن عباس ليس معه حديث، وإنما هو جدل عقلي -اجتهاد- أبو هريرة معه حديث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) فلم يأت ابن عباس بحديث فيه نسخ الوضوء مما مست النار، لكنه جادل أبا هريرة حسب اجتهاده، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه على حصا ثم قال لـ ابن عباس: (أشهد عدد هذا الحصا أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: توضئوا مما مست النار، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال). فما علمنا في خبر من الأخبار أن أبا هريرة اجتنب أو هجر ابن عباس أو أن ابن عباس اجتنب أبا هريرة؛ بل كانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً)، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، يختلفون مع بعضهم، لكنهم كانوا يعلمون الخلاف السائغ المقبول من الخلاف المردود غير المعتبر. فعندما ترى إلى هذه الصور المشرقة في حياة الصحابة، وتقلد هؤلاء الأكابر الفضلاء، يزول كثير من العنف والجفاء الذي نراه في علاقات الناس مع بعضهم البعض.

الاقتداء بالسلف الصالح في تمام المتابعة

الاقتداء بالسلف الصالح في تمام المتابعة إن الحل في هذه المحنة الكبيرة والداهية الدهياء هي البحث عن الباب الوحيد الذي من خلاله تنجو وهو مذهب القرن الأول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا الجيل الفريد نشر بكل أمانة كل شيء رآه بعينه أو سمعه بأذنه، فإذا قرأت عن الأنبياء من أولي العزم مثل موسى عليه السلام، هل عرفت اسم امرأته؟ وهل عرفت كيف كانت تصلي؟ هل عرفت ماذا كانت تعمل في البيت؟ وكيف كانت تربي الأولاد؟ وعندما تغضب أو ترضى، ماذا تفعل؟ لا نعرف هذه التفاصيل إطلاقاً عن أي نبي من الأنبياء، وإنما نعرف اسمه ودعوته، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الوحيد الذي نقل عنه كل شيء، وهذا ببركة أصحابه، وكما قلنا إن التلاميذ رزق للشيوخ، فكذلك الصحابة رزق للنبي، كما قال ابن مسعود: (نظر الله عز وجل في قلوب العالمين فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم لرسالته، ونظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحابه له). فهؤلاء كانوا مثل: (الكاميرات المسجلة) فيخرج من بيته مثلاً وهو يقول: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، وهو يصلي معه كل يوم، لكن في هذه المرة خرج ليعرف كيف يصلي! فينظر إلى رجله، وينظر كيف يشير مثلاً أو يحرك إصبعه، وكيف يرفع يديه في تكبيرة الإحرام؛ فينظر إلى الإصبع هل هو بمقابل الأذن وينقل نقلاً دقيقاً، ثم إذا جاء مقتضى لهذا الكلام يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى. يقول أحد الصحابة وهو جابر بن سمرة: خرجت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة، وكان البدر مكتملاً، فوالله إن وجه النبي صلى الله عليه وسلم كان في عيني أجمل من البدر. وقال: في عيني، وهذه طبيعة المحب، يرى من يحب في غاية البهاء والجمال، حتى وإن كان في عين الآخرين ليس كذلك، لكنه هنا ينقل إليك هذا الشعور. ثم يأتي أناس من جماعة التكفير ويقولون لك: لو كنا في تلك الأيام لكنا مكانهم، فهذه الدعوى رد عليها حذيفة، ورد عليها المقداد بن الأسود، فقد جاء في الأدب المفرد للإمام البخاري في مطلع الكتاب في باب: الولد قرة العين. أن رجلاً جاء إلى المقداد بن الأسود وقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب المقداد غضباً شديداً، قال: فتعجبت -لم يقل الرجل شيئاً يغضب عليه المقداد، لم يقل سوى: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت للمقداد: ما قال الرجل شيئاً يغضبك! فقال: (وما يدريه أنه لو كان لكان كأقوام أدركوه فأكبهم الله على وجوههم في النار)، فهل أنت ضامن إن كنت موجوداً أن تكون أبا لهب أو غيره، فقد رآه رجال بأعينهم وكفروا به، فالذي يقول: لو كنا موجودين لكنا أمثال هؤلاء، هذا بطر وقلة علم وأدب، وهذا هو الذي يفتات على الله عز وجل. فما أدراك؟ فربما كان هذا المتكلم من أكفر الكافرين؟ فما أدراه أنه لو كان موجوداً لكان من أولياء الله؟!! وحصل هذا مع حذيفة بن اليمان حيث كان جالساً مع بعض التابعين فقال له رجل: والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه على الرءوس ما تركناه يمشي على الأرض. فما معنى هذا الكلام؟ يعني: كأن الصحابة فرَّطوا وتركوه يمشي على الأرض، هذا هو مفهوم كلام الرجل، فـ حذيفة رد عليه، لأن هذا غمط للصحابة، فقال له: يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟ ثم حكى له حكاية واحدة فقط، قال: لو رأيتنا في يوم الأحزاب وكل رجل منا حفر لنفسه حفرة في الأرض -من البرد- فالصحابة كان عندهم جَلَد. بينما ذات مرة أحدهم حج يوم حادثة النفق وتلك الزحمة التي حصلت هناك وقتل فيها أناس كثيرون، وكان يومها الحر شديد، فهذا أول ما لقيني قال لي: هل الحج مرة واحدة أم أكثر؟ وكان يكلمني بحماس، فقلت له: مرة واحدة، فقال: أشهدك أن هذه المرة هي الأولى والأخيرة!! فقلت له: لماذا تقطع على نفسك؟ قال: إن دماغي كاد يغلي من الحر! فما رأيك في الصحابة الذين كانوا يعيشون في هذا الجو، وكان عندهم جلد، فلو أرسلت لعنانك التفكير وتخيلت أي ظروف تخطر على بالك، فالصحابة كانوا يعيشون في هذه الظروف أو أشد، ونصروا الله ورسوله في هذه الظروف، فلو حصلت غزوة تبوك فلا أدري ماذا كان سيفعل هذا الرجل؟! سيرجع على عقبه أم لا؛ لأنها كانت في حر شديد وفي مشقة طويلة. فالصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم جلد، فمن شدة البرد وقلة الغطاء يريد الواحد منهم أن يدفئ نفسه فيحفر حفرة ويدفن نفسه بداخلها، ويظهر منه نصفه الذي فوق، وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث عيناً على قريش، فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون معي في الجنة) فهذا حافز يجعل الصحابة يقفزون من الحفر، لأنه يقول: (معي في الجنة)، ولكن لم يقم أحد!! وقد قالها ثلاثاً، وكان حذيفة قد أحس فدخل في الحفرة قليلاً خوفاً من أن يقع عليه الأمر لصعوبته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (قم يا حذيفة! قال حذيفة: ولم يكن من طاعة الله ورسوله بد) -وهذه القصة موجودة في صحيح مسلم لكن هذه الرواية عند الطبراني وغيره- قال: (فقال يا حذيفة! ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علينا)، يعني: لا تحدث أي بلبلة فيهجمون علينا، قال: ثم دعا لي فمشيت كأنني في حمّام، أي: زال عنه ما كان يجد من البرد، فذهب إليهم ورأى ناراً عظيمة، ورأى رجلاً جالساً، فعلم أنه أبو سفيان وكانت تلك أول مرة يرى فيها أبا سفيان، قال حذيفة: فهممت أن أخرج سهماً وأضعه في القوس وأضربه، ولكني تذكرت وصية النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تذعرهم علينا). فدخل حذيفة خيمة أبي سفيان وأراد أبو سفيان أن يؤمن نفسه، فقال: أخشى أن يكون بينكم من غيركم فليعرف كل منكم صاحبه، فقال حذيفة للذي بجانبه: من أنت؟ وانظر هنا إلى الذكاء، فلم ينتظر حتى يقول له الذي بجانبه: من أنت؟ ولكن حذيفة بادره ب Q من أنت؟ فأخبره باسمه والآخر، وتخلص من هذا الموقف، وسجل لنا شيئاً عجيباً جداً، فالله عز وجل أرسل على الأحزاب في هذه الغزوة ريحاً شديدة، قال: فكانت حجارة الجبل يضرب بعضها بعضاً من الريح، قال: والله ما تجاوز الريح معسكرهم، أي: حين خرج من المعسكر كانت الأمور هادئة جداً، والريح داخل المعسكر فقط، فكان حذيفة بن اليمان يحكي هذا الموقف للذي يقول: (لو كنا موجودين لما تركناه يمشي على الأرض)، فهل تستطيع أن تقوم بموقف مثل هذا؟ وهذا موقف من مئات المواقف التي مررنا بها، فأعطاه مثلاً على أنه لا يستطيع. وكان ابن عمر يقول وثبت هذا عن حذيفة أيضاً: (لمقام أحدهم في الصف أفضل من عمل أحدكم ستين سنة)، فلا بد من تعظيم الصحابة بالنظر في أخلاقهم وسيرهم، وفي العمل الذي نقلوه إلينا، لنصل إلى الباب الوحيد في وسط ثلاث وسبعين باباً، إذ لو زلت قدم أحدنا في غير هذا الباب الوحيد لشقي. أليس جديراً بنا أن نعطي هذا الباب عناية أكثر، وأن نعطيه أولوية عن رجاله ومذهبه، لأن حياتك في الدار الآخرة كلها موقوفة على أول خطوة تخطوها، فهذه خطوة لها ما بعدها، وكما يقال: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، لكن تصحيح الخطوة الأولى أهم من كل الخطوات الأخرى، لأنها تبع لهذه الخطوة. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يجعل ما سمعناه وقلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

لا حسد إلا في اثنتين

لا حسد إلا في اثنتين من علامات محبة الله لعبده أن يرزقه مالاً وعلماً، فإنه بالعلم يستطيع أن يوجه هذا المال في وجوهه ويصرفه في مصارفه، فالمال بيد الجاهل نقمة ووبال، وهو بيد العالم نعمة ورحمة للعباد. كما أن من منافع العلم أن الله عز وجل يعطي الأجر لحامله عند انعقاد نيته على عمل معين، ولو لم يتمكن من إتيانه، فنعم المال الصالح بيد الرجل الصالح.

الحسد المحمود والحسد المذموم

الحسد المحمود والحسد المذموم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس). فهذا الحديث يرشدنا إلى فضل العلم وفضل المال، وهو نص باهر في التدليل على فضل العلم؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فإما أن يحمل الحسد هنا على الحسد الحقيقي فيقال: إن كان يجوز الحسد فإنما يجوز في حالتين، وهذا أحد المعاني. والمعنى الثاني والذي عليه أكثر العلماء: أن الحسد هنا بمعنى الغبطة، ومن هؤلاء العلماء الإمام البخاري رحمه الله، حيث بوب على هذا الحديث في صحيحة في كتاب العلم فقال: (باب الاغتباط في العلم والحكمة). والفرق بين الغبطة وبين الحسد: أن الغبطة: أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير، من غير أن يزول هذا الخير عن غيرك. بخلاف الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن الغير. فإذا كان الحسد بمعنى الغبطة فيشير إليه قوله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، هذا هو التنافس المحمود الذي هو بمعنى الغبطة. فإن كان في المعاصي أو كان بالمعنى الذي لا يجوز فهو يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنافسوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فهنا لا تنافسوا، أي: في الحسد المذموم، وهو أن تتمنى أن يزيل الله النعمة عن أخيك وأن يؤتيكها، بخلاف الغبطة والتي هي أن تتمنى مثل ما لغيرك من الخير.

إنفاق المال في وجوه الخير لا يتأتى إلا بالعلم

إنفاق المال في وجوه الخير لا يتأتى إلا بالعلم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا حسد إلا في اثنتين) فهذا يفيد أنه لا يحسد المرء إلا على حالتين فقط: (رجل آتاه الله الحكمة -وفي رواية- آتاه الله القرآن -وفي رواية- آتاه الله العلم -وكلها بمعنى واحد- فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) (سلطه) أي: سلطه الله على إهلاك المال، انظر التفاني في بذل المال يصل إلى حد أن صاحب المال يسلط على هذا المال فيهلكه. ثم ذكر قيداً آخر مهماً: (في الحق)، حتى يخرج عن حيز المبذرين؛ لأن إهلاك المال أو إتلافه وإنفاقه بشراهة في غير الحق مذمة، ولذلك كان هذا القيد مهماً، وكل القيود التي تدخل على هذه الإطلاقات يجب اعتبارها؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فسلطه على هلكته في الحق) فتخلص هذا الرجل من شح نفسه، فلم ينفق ماله ديناراً ديناراً إنما تسلط عليه، فتستشعر من لفظة (سلط) هذه التي وردت في الحديث أن الرجل عنده نهمٌ شديدٌ في الإنفاق، واستخدم أيضاً الإهلاك بديلاً عن الإنفاق ليدلك على مدى الشراهة في إنفاق المال. ولكن القاعدة التي يرتكز عليها من أراد أن يفلح في إنفاقه للمال لابد أن يكون عنده علم، وهذا واضح جداً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عند الترمذي وابن ماجة وأحمد قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه ويعلم أن لله فيه حقاً، فهذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاًً، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط به لا يرعى لله فيه حقاً ولا يؤدي ما عليه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يتمنى أن يكون مثله، فهما في الوزر سواء). ما الذي فرَّق بين المنزلتين؟ العلم، فالرجل الأول: آتاه الله مالاً وعلماً فهذا بأعلى المنازل. والرجل الثاني: آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا في ثاني المنازل. أما الثالث: فرجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط. والذي دونه يتمنى أن يكون كالثالث فهما في الوزر سواء، فالذي فرق بين هؤلاء الرجال هو العلم وليس المال. لأن الرجل العالم إذا رزقه الله تعالى المال علم أين يضع هذا المال، بخلاف الجاهل إذا آتاه الله المال يخبط ليس عنده نور، ما فلا يضعه فيما يريده الله، فلو فرضنا أنه صرفه في شيء مباح فقد يكون هناك مصرف أولى من هذا المصرف الذي وضع فيه المال. فمثلاً: عرض عليه رجل يحتاج إلى أكل وإلا مات، ومسجد يحتاج فرشاً، فتراه لجهله يتبرع أو يخرج المال للمسجد ويترك أخاه يموت من الجوع، فأنا أضرب الآن المثل بطاعتين يتقرب إلى الله عز وجل بهما: تنظيف المساجد، وإطعام الطعام، أيهما أعظم عند الله؟ بطبيعة الحال فإن الحفاظ على حياة المسلم أولى وأحب إلى الله، لكنه لأنه جاهل ظن أنه لو وضع ماله في أي مكان استوى كل ذلك، فالعلم هو الذي يميز في هذه المسائل، إنك لا تستطيع أن تبذل مالك لجميع الناس فتوخى به أهل الحق، ومصادر الحق. فالذي آتاه الله تبارك وتعالى المال بجانب العلم كركيزة رئيسية هذا هو السعيد، وهذا هو الذي تَبوَّأ أعلى المنازل، والرجل الثاني الذي آتاه الله تبارك وتعالى العلم دون المال، فيقول: لو أن عندي مثل ما عند فلان لفعلت مثل ما فعل فهما في الأجر سواء. ففائدة العلم هنا أنه صحح له النية، وتعلم من هذا العلم كيف يعقد النية؛ لذلك أصاب الأجر بغير أن يكون عنده مال، إنما الآخر جاهل؛ لأن الركيزة الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها غير موجودة وهي العلم، فلا يستطيع أن يعقد النية، بخلاف العالم فيعقد النية فيأخذ الأجر، حتى بغير أن يتمكن من الإنفاق الذي غبط صاحبه لأجله.

حصول الأجر بانعقاد النية ولو لم يصاحبها عمل

حصول الأجر بانعقاد النية ولو لم يصاحبها عمل ويرد هنا سؤال وهو: كيف نوفق بين هذا الحديث، وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي الذي رواه البخاري من حديث ابن عباس: (إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها عشراً، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإن عملها فاكتبوها سيئة واحدة)، فالرجل الرابع لم يؤته الله عز وجل مالاً ولا علماً، لكنه تمنى أن يكون بمنزلة الثالث فهما في الوزر سواء برغم أنه لم يعمل شيئاً، مجرد لكنه هَمَّ ولم يفعل، وتمنى أن يكون له مثل مال هذا الرجل فهما في الوزر سواء، إذاً كيف يستقيم هذا مع قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة له) كيف هذا؟ هنا مسألة مهمة جداً وهي التي تخرجنا من هذا الإشكال وهي: أن عقد القلب عمل، فالبعض يتصور أن الفعل لا يكون إلا بالجوارح كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به). فدل على أن العمل يكون باللسان أو بالجوارح، ولذلك يغفر الله تبارك وتعالى للعبد الهواجس التي تدور في صدره، كما في صحيح البخاري ومسلم أو في صحيح مسلم (أنهم قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يدور في صدره الكلمة لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتلفظ بها) أي: أشياء تتعلق بذات الله تبارك وتعالى، وفي الصحيحين: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق! فمن خلق الله؟!) أي: خلق الله كذا كذا وخلق السماوات وخلق الأرض وخلق الإنسان فيلقي الشيطان اللعين في نفوسهم -بعد هذا- فمن خلق الله؟! فبعض الناس قد يتردد في صدره أشياء لو تلفظ بها لأن يخر من السماء على أم رأسه أهون عليه من أن يتكلم بها، فقالوا هذا للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أوقد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان) أي أن هذا يدل على الإيمان؛ لأن الذي حجزك أن تتلفظ بهذا اللفظ إنما هو الإيمان، وفي بعض طرق هذا الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) فأنت لم تتكلم به إنما رد كيده إلى الوسوسة. فمثل هذه الهواجس التي قد تتوارد في صدر العبد بقتل إنسان أو بفعل فاحشة أو نحو ذلك -مجرد أنها تدور فقط في الصدر- من رحمة الله تبارك وتعالى أنه تجاوز لهذه الأمة عنها، فلا يؤاخذ العبد بها إلا إذا تكلم بها أو فعل إما بلسان أو بجارحة. فبعض الناس يتصور أن العمل لا يكون إلا باللسان أو بالجوارح، ونسي أن عقد القلب عمل، بمعنى أنه إذا انعقد القلب على شيء صار كالعمل. فأنتم ترون الكفر محله القلب، هل العبد لا يؤاخذ على الكفر؟ إنه لم يتكلم به ولم يفعل شيئاً بمقتضى هذا الكفر لكن انعقد قلبه عليه، فهل يقال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به، المقصود بالعمل يعني عمل الجوارح؟ لا. فليس هذا هو المقصود. وفي هذا الحديث قوله: (ما لم تعمل به) دخل فيه عقد القلب؛ لأن الرياء والسمعة والعجب وهذه الصفات محلها القلب وقد لا يظهر مقتضاها على الجوارح أو اللسان. لذلك لا نرى تعارضاً لهذا التفسير ما بين قوله: (فهما في الوزر سواء) في هذا الحديث ولا بين: (وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة) لأن هذا الحديث (ومن هم بسيئة فلم يعملها) دل على أنه يستطيع أن يعملها، والعبد قد يترك السيئة إما لخشية الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا صريحاً في بعض طرق الحديث عند أحمد قال: (وإذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة، فإنه تركها من أجلي) فدل على أنه تمكن من فعل السيئة ولكن تذكر الله تبارك وتعالى فخشيه ونزع عنها. كقصة أصحاب الغار والرجل الذي قعد من المرأة مقعد الرجل من زوجته، وهمَّ بها، لكنها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وهو قادر على أن يفعل ذلك، فهذا تكتب له حسنة كاملة. فأنت تلاحظ هنا: (إذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها؛ فاكتبوها حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة كاملة) رأيت المقارنة بين الفعلين: هذا همَّ بسيئة وذاك همَّ بحسنة، فهذا أخذ حسنة كاملة، وذاك أخذ حسنة كاملة، لأن الأول: الدافع له حسن، هم بحسنة، فالدافع الذي دفعه محمود فيجازى بجنس المحمود وإن لم يفعله، والثاني: الدافع الذي دفعه وهو دافع السيئة دافع شيطاني، لكن المانع الذي منعه مانع محمود متعلق بالخشية؛ لذلك قال الله عز وجل: (فاكتبوها له حسنة كاملة)، هذا الوجه الأول في ترك السيئة. الوجه الثاني: لو أنه ترك السيئة؛ لأنه لم يقدر عليها، فهذا لا يكتب له شيء، ولا يكتب عليه شيء. وبذلك نقول: الذي يدع السيئة لله تبارك وتعالى هذا يأخذ حسنة كاملة، كالذي يهم بالحسنة ولا يفعلها، فإن لم يفعلها لأنه لم يمكن من فعلها؛ فلا يكتب له شيء ولا يكتب عليه شيء؛ لأن الله تباك وتعالى لا يجازي العبد إلا بعد اقترافه السيئة. وانظر إلى البديع في قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى:40] جزاء سيئة سيئة، مع أنه قد يتبادر إلى الذهن أن جزاء السيئة عقوبة، لكن الجزاء يكون من جنس العمل، جزاء سيئة سيئة، أي: إذا وقعت منه السيئة فجزاؤه سيئة السيئة التي اقترفها. أما الذي تمنى في حديث أبي كبشة الأنماري: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله لا يتقي الله تبارك وتعالى فيه، ولا يؤدي الحق الذي عليه) ورجلٌ رابع لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فتمنى أن يكون له مثل هذا الذي يخبط فهما في الوزر سواء؛ لأن قلبه انعقد، والإرادة الجازمة إذا صادفت انعقاد القلب صارت كالعمل الفعلي، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هما في الوزر سواء) كما قال في سابقيه: (فهما في الأجر سواء)، وهذا من سماحة الشريعة. ففي أحاديث كثيرة يحصل العبد بنيته مثل ما يحصله صاحب العلم أو صاحب المال، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له من العمل ما كان يعمله مقيماً صحيحاً) وهذا من أجمل الأحاديث ومن أكثرها بشرى. فلو كنت مثلاً: تقوم الليل أو تصوم التطوع فمرضت ولم تستطع أن تفعل هذه الطاعات أو تصل رحمك أو تمشي في فعل الخيرات كل طاعة كنت تفعلها وأنت صحيح وأنت في الحضر فعرض لك عارض إما مرض أو سفر يعطيك الله تبارك وتعالى من الأجر كما لو كنت تفعله. إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر ما كان يعمله صحيحاً مقيماً، وهذا من تمام رحمة الله تبارك وتعالى لهذه الأمة ومضاعفة الثواب لها، برغم أنها لم تعمل، لكن هذا الحديث منوط بالذي يعمل، فلو أن رجلاً لم يكن من دأبه الحرص على هذه الطاعات ومرض، لا يكتب له أجر الذي كان يقوم ويصوم ثم يمرض؛ لأن الأول متكاسل فلا يؤجر في حال العجز عن كسله في حال القدرة، بخلاف الذي منعه مرض، وكان في حال القدرة يفعل، ففي حال العجز الله تبارك وتعالى أكرم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن) قالها لما أراد المشركون أن يقطعوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قتلوه في وقعة القراء المشهورة. فـ عاصم لما قالوا له: انزل على العهد والميثاق؛ قال: إنه لا ذمة لكافر، وأبى أن يسلم لهم، وأبى أن يضع يده في يد مشرك فقتلوه، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه ويأخذوه كبرهان أنهم ثأروا؛ لأن هذه الواقعة كانت بعد موقعة بدر، وقد قتل صناديد المشركين ورءوسهم، فأرادوا أن يأخذوا رأس عاصم بن ثابت الأنصاري برهاناً على الثأر والانتقام، فلما أبى أن يضع يده في أيديهم وقتلوه أرادوا أن يفصلوا رأسه عن بدنه، فأرسل الله عز وجل عليه الدبر -الذي هو النحل- فقالوا: نأتي بالليل؛ لأنه بالليل ينصرف النحل إلى بيوته، فقال بعض الذين رأوا عاصم بن ثابت: فلقد رأيت جثته ترتفع بين السماء والأرض، فعلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا فقال: (إن الله ليحفظ عبده المؤمن)؛ لأن عاصم بن ثابت الأنصاري أبى أن يضع يده في يد مشرك، وهو حي. فالله تبارك وتعالى لم يمكن المشركين أن يفعلوا به وهو ميت ما أبى أن يفعلوه معه وهو حي إكراماً له. فالله تبارك وتعالى إكراماً منه ولطفاً يعطي العبد وهو مريض أو مسافر ما كان يداوم عليه وهو صحيح في الحضر. وهناك عشرات الأحاديث التي تدل على أن المرء بالنية يستطيع أن يحصِّل الأجر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزا) برغم أن الغازي المجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى الذي يرى بارقة السيوف على رأسه لا يستوي مع القاعد، لكن القاعد حصَّل نفس الأجر، لماذا؟ لأن هذا الذي تخلف عن الغزو يقيناً له عذر، لعله من أولي الضرر مثلاً، فالذي حبسه هو العذر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً -قال هذا لأصحابه وهم يغزون في سبيل الله- إلا كان أقوام في المدينة يأخذون مثل أجوركم، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر). فهذا بنيته وبتطلعه إلى فعل هذا الخير يأخذ مثل أجر من فعله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أبي كبشة الأنماري عن هؤلاء الأربعة على الاثنين الأولين: (فهما في الأجر سواء) وعلى الاثنين الآخرين: (فهما في الوزر سواء) كلمه سواء: هذه تدل على المساواة، والفارق بين هذين الاثنين وبين الآخرين هو العلم.

ضرورة المبادرة إلى طلب العلم قبل الاشتغال بغيره

ضرورة المبادرة إلى طلب العلم قبل الاشتغال بغيره يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي شيبة والدارمي وغيرهما بسندٍ صحيح: (تفقهوا قبل أن تسودوا) وهذا الأثر ذكره البخاري بغير إسناد في صحيحه كمقدمة لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فقال أبو عبد الله البخاري: وبعد أن تسودوا. ما هي الحكمة من ذكر البخاري رحمه الله لهذه الجملة؟ حتى يبين أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا مفهوم له، ما هو معنى: لا مفهوم له؟ أي: حتى لا يتصور أحد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي: قَصَرَ الفقه على ما قبل السيادة، حتى لا يتوهم أحد أنه إذا صار سيداً لا يتفقه. وهذا ما يقول فيه العلماء في دلالة المفهوم: أنه خرج مخرج الغالب، فإذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، ما معنى هذا؟ ليتضح المقصود نضرب مثلاً بقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فهل يفهم أنه يجوز أن نأكل الربا ضعفاً واحداً؟ لا. وإن كان هناك من الناس من فهم هذا وصرح به ممن يدعون العلم، وصرح به على صفحات الصحف قال: إن الربا الذي نهى الله عنه هو الربا المركب، إنما الربا البسيط لم ينه عنه بدليل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فلم ينه الله أن يأكل المرء في الربا ضعفاً واحداً، إنما الذي نهى الله عنه في الربا المركب أضعافاً مضاعفة. فالعلماء يقولون: هذا خرج مخرج الغالب للوصف الذي كانت قريش تتعامل به، وهذا يشبه لو أنني قلت لك: إياك أن تفسق في الحرم! فهل يجوز لك إذا خرجت خارج الحرم أن تفسق؟ A لا. وأيضاً قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] أيجوز في غير الحج الرفث والفسوق والجدال؟ إنما خرجت هذه الآية لشيء غالب على تصرفاتهم، كما لو قلت لك: لا تقتل أخاك بالسكين، فهل يجوز أن تقتله بعصا أو بحجرٍ أو بصخرة؟ فالله تبارك وتعالى عندما قال: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يشير إلى ما كانت قريش تفعله حقيقة: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] ليس معنى هذا أنه أباح لهم أن يأكلوا الربا ضعفاً أو نصف ضعف، إنما نبه على شيء غالب كانوا يفعلونه. فإذا خرج الكلام مخرج الغالب على فعلهم فلا نستطيع أن نقول له: مفهوم، كذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، فهب أنهن لم يردن تحصناً؛ أيجوز أن نتركهن إن أردن البغاء؟ لا يجوز طبعاً، فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن كثير: خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]. فالذي يخرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم، من أجل ذلك خشي الإمام البخاري أن يتصور بعض الناس أن مقصود عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: (تفقهوا قبل أن تسودوا) أن يفهم منه أنه بعد أن يسود لا يتفقه؛ لذلك قال: وبعد أن تسودوا، حتى يبين أنها ليس لها هذا المفهوم الذي قد يتبادر إلى البعض. فالإمام البخاري قدم بأثر عمر رضي الله عنه لحديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) للدلالة على أن من ثمرات العلم السيادة؛ لذلك قال: تفقه قبل أن تصير سيداً؛ لأنك إذا صرت سيداً فغير ممكن أن تقعد في صفوف المتعلمين. لذلك قال الإمام الشافعي: إذا تصدر الحدث فاته علم كثير والحدث: الصغير الذي لم يجمع العلم، إذا تصدر وصار رئيساً فقد فاته علم كثير؛ لأن هذه الصدارة وهذه السيادة تمنعه كبراً أن يقعد في صفوف المتعلمين فيتعلم، فالإمام البخاري من وجهة نظر ابن المنير السكندري في كتابه العظيم (المتواري على تراجم أبواب البخاري) يربط ما بين الحديث وما بين الترجمة التي كتبها؛ لأنه أحياناً يكون في العلاقة بين الترجمة وبين الحديث خفاء وغموض. كجواز التمندل أي: أن تنشف أعضاء الوضوء بعد الوضوء، فالإمام البخاري أراد أن يحتج لجواز هذا الفعل بحديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (توضأ فدفعت إليه المنديل فرده) فالعلاقة هنا خفية؛ لأن الحديث واضح في أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المنديل لم يأخذه منها فلم يتنشف، فكيف يحتج البخاري على جواز التنشيف بحديث ظاهره عدم التنشيف، فهنا نجد خفاءً وغموضاً ما بين الترجمة التي كتبها البخاري وما بين الحديث الذي احتج به. فالعلماء يعملون أفكارهم، في وجه العلاقة بين هذه الترجمة وبين الحديث؟ فيقول مثلاً الإمام ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري يقول: في هذا دليل على جواز التنشيف كما أراده البخاري؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان من عادته عدم التنشيف لما دفعت إليه المنديل، فانظر إلى الذكاء، فكونها دفعت إليه المنديل دل على أنه يتنشف لكن الأفضل عدم التنشف، فدل على أن الأغلب من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتنشف بعد الوضوء، لكن في الحديث جواز التنشيف. فالأئمة ينظرون في ترجمة الإمام البخاري على الباب وينظرون ما العلاقة بين ما استنبطه الإمام البخاري وبين حديث الباب، فكتب ابن المنير السكندري هذا الكتاب الرائع والذي نقله الحافظ ابن حجر برمته في فتح الباري، وأحياناً كان بعض الأئمة يعترضون على ابن المنير في بعض استنباطاته، كما اعترضوا عليه في حديث ابن مسعود الذي نحن بصدده. فـ ابن المنير السكندري يرى أن الإمام البخاري وضع أثر عمر بن الخطاب قبل حديث ابن مسعود: (لا حسد إلا في اثنتين) فيقول: لأن السيادة من أثر العلم، فإذا رأى الناس رجلاً سيداً حسدوه، وإنما ساد في الناس بالعلم إذاً لا حسد إلا في العلم، هذا ما استنبطه ابن المنير السكندري. فالحافظ ابن حجر قال: كذا قال، وهذه العبارة يذكرها العلماء من باب الاعتراض، لكنه اعتراض مهذب، دون أن يهجم عليه بغير أدب، أو يقول: هذا خطأ وهذا جهل وهذا ضلال وهذا، فإذا قال العالم هذه العبارة -كذا قال- عُلم أنه معترض على ما قد قيل، وهو اصطلاح موجود عند أهل العلم، لكنه اصطلاح رقيق إما أن يكون غير موافق على قوله بجملته أو على بعض قوله. فالحافظ ابن حجر لم يرتض ما استظهره ابن المنير السكندري واستظهر شيئاً آخر وقال: إنما أراد أن المال إنما يحسد صاحبه، عندما يصير الرجل سيداً بالعلم والمال معاً، فالحافظ ابن حجر قال: إنما يصير سيداً بالعلم والمال معاً، ثم يرتكز على العلم. واستدل بحديث أبي كبشة الأنماري الذي ذكرت: رجل آتاه الله مالاً وعلماً هذا بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط. إذاً: المال وحده لا يؤدي إلى السيادة ما لم يقترن معه العلم، وهذا فهم رائع من الحافظ ابن حجر، دله عليه حديث أبي كبشة الأنماري فكيف يستطيع هذا الرجل صاحب المال أن يسلط ماله على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، على الأقل بموضع الإنفاق. لا نقول: يجب أن يكون عالماً بكل شيء، بل أن يكون عالماً بالموضع الذي ينفق فيه ماله، فلا يحسد صاحب المال إلا إذا سبقه علمه، بدلالة حديث أبي كبشة الأنماري؛ لأن الذي يؤتيه الله المال فقط بغير علم قال عليه الصلاة والسلام: (فهو يخبط) والرجل الثاني آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهذا بثاني المنازل يعني في الفضل، فدل على أن العلم يجب أن يكون ركيزة. فصاحب المال لا يحسد إلا إذا انضم العلم أيضاً إلى المال، وهذا فهم رائع جداً من الحافظ ابن حجر جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان في الصحيحين، لما خطب على المنبر وقال: (أيها الناس! أين علماؤكم؟! فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين). وبدلالة مفهوم المخالفة: ومن لم يرد به خيراً لا يفقه في الدين، وهذا مفهوم صحيح؛ لأن الرجل إذا علم علوم الأرض كلها وجهل العلم الذي يوصله إلى الله تبارك وتعالى يكون من أخسر الخلق.

آفة العلم عدم الاستفادة منه في عمل الآخرة

آفة العلم عدم الاستفادة منه في عمل الآخرة أما هؤلاء الذين صعدوا إلى القمر وصنعوا المركبات الفضائية واكتشفوا الجاذبية الأرضية واكتشفوا المصباح الكهربائي والتلفون والتلكس وهذه الأشياء كلها، الواحد منهم لو مات على كفره لا يساوي عند الله جناح بعوضة، يُذكر في الأرض كلها وهو من أهل النار، إذا مدحه جميع الخلق وكان من أهل النار ما يفيده مدح هؤلاء؛ لذلك فالعلم الذي يوصلك إلى الله تبارك وتعالى هو العلم، لو قابلت وجه ربك تبارك وتعالى وأنت تعلم الطريق إليه وصححت هذا الطريق بالعلم، وجهلت كل مناحي الحياة ما خسرت شيئاً، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين). فمن هداية العلم أنك تبصر موضع قدمك؛ لذلك كان عذاب الذي يؤتيه الله العلم فيصير به كالجاهل يخبط عذاباً أليماً؛ لأنه لم يستعمل أجل نعم الله على الخلق، كما قال القائل: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عيباً أن يتبرأ منه من هو فيه. لو مدحت أي إنسان بأنه عالم وفقيه ينتشي ويغتبط، بخلاف ما إذا وصفته بالجهل، فإنه لا يقبل مع أنه جاهل، لكنه لا يقبل، فكفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس منه أهله وكفى بالجهل ذلاً وعيباً أن يتنصل منه من هو فيه. فالذي يعطيه الله تبارك وتعالى هذه الآلة وهذه النعمة ولا يستعملها يعذب عذاباً أليماً، كما في البخاري: (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه من دبره -يعني: أمعاءه- فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ -في الدنيا-، قال: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). فمن يعطيه الله عز وجل أجل النعم؛ -وهو العلم- ولا يستعمله في حقه فهذا عقابه (تندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كحمار الرحى، فيقول له أهل النار: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). لذلك قال الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] كبر مقتاً: أي هذا من أعظم المقت عند الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، وفي الحديث الحسن المرفوع: (مثل الذي يأمر الناس بالمعروف ولا يأتمر به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) وهذا من أجمل التشبيهات وأقواها. فالذي يقدم المعروف ولا يتأسى به كمثل الشمعة أو السراج يضيء للناس الطريق لكنه يحرق نفسه وهو لا يدري، فالذي يؤتيه الله تبارك وتعالى العلم ثم يرزقه العمل بهذا العلم هو الذي يستحق الحسد، وهذا قيد مهم، ورد فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس) أي: يعمل بها، وفي نفس الوقت يعلمها الناس.

العلم شجرة والعمل ثمرة

العلم شجرة والعمل ثمرة إن الذي يستحق الحسد ليس هو الذي يتكلم فقط بل الذي يقرن إلى القول العمل، فهذا شرط، وإلا فالذي يتكلم بغير أن يعمل هذا لا يحسد، يحسد على ماذا؟ وقد رأينا أنه تندلق أقتابه من دبره، فهو متعرض لمقت الله عز وجل: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] فعلى أي شيء يحسد؟ إنما يحسد الذي يصبر على العمل، والذي يريد أن يجرب نفسه هل هو من الصابرين أم لا، فلينظر هل هو يصبر على طاعة الله عز وجل، فهذه أول منازل الصابرين، الذي يصبر على الطاعة كما قال الحسن البصري رحمه الله، الذي قال فيه بعض العلماء كلامه يشبه كلام الأنبياء من حلاوته وطلاوته، يقول: (يا ابن آدم تركك للمعصية أهون من طلب التوبة) انظر الكلام الجميل، إذا كنت تبحث عن الأهون، لماذا؟ لأنك عند طلبك للتوبة لا تدري أيتجاوز الله عنك أم يأخذك بهذه السيئة، فأنت محتار هل قَبِلَ الله عز وجل توبتك أم ردها عليك، في حين أنك لو تجنبت المعصية لم تدخل في هذه الحسبة. يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58] * {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] * {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا في الزاني يزني والسارق يسرق: أي: يفعل الفعل وهو خائف من الله؛ لأن مرده إلى الله (أنهم إلى الله راجعون) أي لأنهم سيرجعون إلى الله، قال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام يصلون ويزكون ويتصدقون، ويخشون أن لا يتقبل منهم) فإذا كان العبد الصالح وهو يقدم الإحسان ويفعل المعروف وجل وخائف أن ترد عليه طاعته، فما بالك بالذي ارتكب المعصية، ما يدري هل يأخذه الله تبارك وتعالى بهذه المعصية أم يتوب عليه، يضل دائماً قلقاً، لذلك فإن تَرْك المعصية أخف من طلب التوبة. فالذي يقرن العمل بالقول هذا هو الذي يحسد عليه صاحبه، وهذا القيد مهم؛ لأن في بعض الأحاديث لم يرد (يقضي بها)؛ لذلك كان العلماء يحضون الذي يريد أن يستخرج معنى من المعاني أن يجمع جميع طرق الحديث وجميع ألفاظ الحديث، فيضم بعضها إلى بعض ثم يخرج بالمعنى المتكامل، وإلا ففي بعض الأحاديث ترى التنبيه على جزئية، وفي الحديث الآخر يكون التنبيه على جزئية ثانية، فإذا ضممت الحديثين إلى بعض اكتمل لك المعنى. فالذي يستحق الحسد هو الذي يعمل بما يعلم، ومن أزكى الثمرات التي تعود على صاحب العلم الذي يستحق الحسد، أن يكون عالماً بموضع قدمه، فلا يضخم ما ليس بضخم، ولا يصغر ما هو ضخم، وهذه الحقيقة من أهم العوامل التي أدت إلى انقسام المسلمين في الفهم، فترى بعضهم يتعامل مع الفروع كما لو كان يتعامل مع الأصول الجسيمة، فإذا رأى أحداً يحرك إصبعه يصل به الحال إلى ما لا يخطر ببال، وهذا حدث في أفغانستان؛ لأن أغلب الأفغان أحناف في الفروع، وهناك فتوى عند الأحناف أن هذه الحركة تبطل الصلاة، فواحد صلى وحرك إصبعه، فبعد أن انتهى من الصلاة قام الذي يصلي بجانبه يقول له: السلام عليكم وكسر له إصبعه. وكأنه لا ندري ما معنى السلام عليكم، لأن السلام يعني أن لا تمسه بسوء هذه معنى السلام عليكم، ولكن صار التسليم تسليماً أجوف، بحيث أنه يخرج من الصلاة بغير أن يفقه معنى السلام عليكم. كما أن كثيراً من المسلمين لا يفقهون معنى الله أكبر إذا نادى بها المؤذن، فإن معنى هذه الكلمة العظيمة (الله أكبر) أي: أكبر مما في يديك، إن كنت تعمل فالله أكبر من عملك، إن كنت تكتب فالله أكبر من كتابتك، إن كنت تفعل أي شيء فالله أكبر من ذلك الشيء، فيجب عليك أن تتوجه إلى الأكبر. لذلك كان بعض الصحابة إذا سمع (الله أكبر) وهو يطرق الحديد، فإنه يرمي بالمطرقة وهفي في الهواء ولا ينزل بها على حديدته، مع أنه لا بد أن ينزلها، لكن هناك فرق بين أن ينزل فيطرق بها وهذا من جنس عمله، أو أن يرمي بها عندما يسمع الآذان. كذلك اجتماع المسلمين في الصلوات الخمس ما استفادوا بهذا الاجتماع شيئاً، وفي هذا المعسكر ربما نقعد أسبوعاً ونصلي الصلوات الخمس في جماعة، وأنا أؤكد أنه بعد الانصراف منه يوجد بعض الإخوة لا يعرف بعضاً لا اسماً ولا مسمىً، وتجد الواحد بجانب أخيه في المسجد منذ خمس سنوات، ومع ذلك لا يعرف اسمه ولا يعرف بيته، وإذا غاب سنة لا يسأل عنه. يوجد عندنا في مسجد الجامعة الشرعية رجل كان يصلي بل من أوتاد المسجد كما يقولون، وغاب فترة ثلاثة شهور أو أربعة، فجرى حديث مع بعض رواد المسجد فقال أحدهم: فلان الله يرحمه فقال له آخر: أوقد مات؟ قال له: نعم مات، ولا حول ولا قوه إلا بالله، فقال له: والله ما أعرف، وقد يكون صلى بجانبه أربع سنوات، ثم هو لا يعرف عنه إذا غاب ولماذا غاب؟ الصحابة لم يكونوا كذلك؛ وهذا هو الفرق في ثمرة العلم، ليس الفقيه هو الذي يجمع الفقه النظري، إنما الفقيه فقيه النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من فقيه)؛ لأن الفقه فقه النفس، ففي وقتنا الحاضر يظل الرجل بجانب أخيه تلتصق قدمه بقدمه وكتفه بكتفه في الصلوات الخمس وإذا غاب لا ينزعج أنه غاب، ولا يشعر أنه افتقد شيئاً، بخلاف الصحابة الذين كانوا إذا غاب أحدهم يسألون: لم غاب فلان؟ لأن هذا السؤال فرع عن المحبة القلبية الحقيقية، والتي هي أيضاً فرع عن العلم النافع، فإذا غاب أحدهم يسأل عنه إخوانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويقولون في الأمثال إذا الواحد انزعج فإنما يقول: أخ، وذلك لقرب الأخ منه، لكن لأننا لم نحقق هذا العلم على المستوى الواقعي ليس له ظل حقيقي، فصار هذا العلم وجوده كعدمه. لما اختلف عبادة بن الصامت رضي الله عنه مع معاوية بن أبي سفيان -وكان هو الأمير- في مسألة الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، فـ معاوية رضي الله عنه لم يكن بلغه الحديث فكان يقول: لا بأس، فنبهه عبادة بن الصامت أن هناك حديثاً بخلاف ما يقول، فلأمر ما أو لفهم ما خالف معاوية رضي الله عنه ظاهر الحديث وقال: لا أرى بأساً، فقال عبادة: أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: لا أرى بأساً، لا ساكنتك في أرض، وأخذ عياله ومتاعه وركب وخرج من الشام إلى المدينة المنورة. انظر حساسية الصحابة من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، يترك الدار والوطن غيرة لله، فذهب يصلي الفجر فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، وعمر آنذاك يعرف من في المدينة فرداً فرداً. فبمجرد ما رأى عبادة قال: ما جاء بك يا أبا محمد، فهو يعلم أين خرج عبادة وغيره من الصحابة رغم أنهم كانوا بالألوف، قال أبو زرعة الرازي: حج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائه ألف في حجة الوداع، فمن تفرق في الأمصار كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرفه، فإذا جاء أحدهم علم أن هذا قادم من سفر. قال عبادة لـ عمر بن الخطاب: قد كان بيني وبين معاوية كيت وكيت. فقال عمر: (قبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك يا أبا محمد، ارجع إلى معاوية فأحمله على هذا فإنه الأمر) أي: ما قلته هو الصواب، ورجع عبادة بن الصامت. ويؤثر أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتقد رجلاً فذهب فسأل عنه، فقالوا: هو مريض، فذهب إليه، فلما قرع الباب قال: من؟ قال: عمر بن الخطاب، فقفز الرجل وفتح له الباب. فقال له: عجبت لك يناديك الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات (الله أكبر) فلا تجيبه، ويناديك عمر بن الخطاب فتجيبه. ما يفوته أن يلفت نظره برفق إلى هذا المعنى، وإنما ورثوا مثل هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام معلم الإنسانية الخير، فإنه كما في الصحيحين افتقد ثابت بن قيس الأنصاري، قال: أين ثابت؟ فقال جارٌ له: ليس بمريض، يعني لفت نظره أن ثابتاً غير موجود، فأرسل من ينظر هل هو مريض أم لا، فلما ذهب إليه وجده في الدار يبكي، فلما سأله عن ذلك وكان رفيع الصوت، أي: إذا تكلم كان صوته عالياً، فكان يرفع صوته بطبيعته عندما يتكلم، فلما نزل قول الله عز وجل: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فظن أن عمله حبط لمجرد أنه كان يرفع صوته عند النبي عليه الصلاة والسلام، فاعتقد في نفسه أنه من أهل النار وأن عمله قد حبط، فقعد في داره يبكي. فلما رجع الرسول قال: (يا رسول الله! إنه في بيته يبكي، ويقول: إنه من أهل النار؛ لأنه كان يرفع صوته بين يديك، قال: لا، بل هو من أهل الجنة)، قال أنس راوي الحديث: فكان يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فمثل هذه الثمرة لا يستحق المرء أن يقطفها إلا إن كان فقيه النفس، وفقه النفس لا يحصله المرء إلا بعد أن يصل إلى العلم، وأعظم الثمار هي الثمار العملية، وآخر شيء في المسألة كلها أنك تقطف الثمرة. فهذا هو الذي يستحق الحسد، لا الذي يجمع العلم من أطرافه، وإذا تكلم لا يستطيع أحد أن يجادله؛ لما أوتي من البيان والجدل، ليس هذا بعالم، فمثل هذا الطراز تسجر به نار الجحيم. ذكر الذهبي في الميزان في ترجمة بعض العلماء ولا أحب ذكر اسم هذا العالم ستراً عليه، وهذا من أضلع العلماء في علم أصول الفقه، و

البدعة وأثرها في تأسيس محنة المسلمين

البدعة وأثرها في تأسيس محنة المسلمين الفتن والمصائب التي ألمت بالمسلمين هي بسبب بعد الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتبنيها منهج أهل البدع والخرافات مقابل المنهج السوي الذي لا يعتريه زيادة ولا نقصان؛ فقد نهج أهل البدع إلى تحكيم العقل وجعله قاضياً على الكتاب والسنة، فأدى ذلك إلى الطعن في آيات القرآن، والرد على أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فماذا بقي لنا بعد هذا؟!

محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للبدع قولا وعملا

محاربة النبي صلى الله عليه وسلم للبدع قولاً وعملاً إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. أيها الكرام! تعلمون أن الله عز وجل خصص اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقال تبارك وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. والاتباع دليل على الحب، لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. وأعظم مناقض للاتباع هو الابتداع. ولذلك قاومه الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته قولاً وعملاً. فأما قولاً: فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه كخطبة الحاجة، ويحذرهم من محدثات الأمور، ولما جاء نفرٌ إلى أبياته صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، وبعدما تقالوها، ووجدوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يصنع كبير شيءٍ، قال أحدهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك وقال: من رغب عن سنتي فليس مني). فالبدعة سببها الجهل، وكلما اقتربت من السلف الأول ابتعدت عن البدعة، وأنت تنظر إلى جميع المبتدعة ترى علمَهم بالسلف قليل، ولكن لهم سمتٌ عام وهو الجد في العبادة، ولذلك ينتفع بهم كثير من الذين لا يعلمون السنة، وأقرب مثلٍ أبدأ به حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث الإسلام والإيمان والإحسان. وفي هذا الحديث: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: خرجت أنا ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بما أحدثه معبد الجهني في القدر! فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن! لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم- يعني أفاض في صفاتهم وفي مزاياهم- ولكنهم يقولون: إن الأمر أُنُف وأن لا قدر. وعند ابن مندة في كتاب الإيمان: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: فقابلني عبد الله بن عمر وكان يعرفني، فسلم عليّ وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلنا ناسٌ يتقفرون العلم ويقرءون القرآن ويقولون: أن لا قدر، قال: فأرخى يده من يدي، وقال: (إذا لقيت هؤلاء فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم بُرَآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لئن جاء أحدكم بأحُدٍ ذهباً، فلا يُقْبَل منه حتى يؤمن بالقدر). فأنت تنظر أيها الأخ الكريم! يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك لم ينتفعوا بهذا العلم في درء البدعة والتمسك بالسنة. لم يغتر عبد الله بن عمر بما ذُكِرَ من أوصاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما في حديث الصحيحين: لما جاء ذو الخويصرة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، قال: ويحك، ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا الرواية في الصحيحين وهي الأشهر، (خبتَ وخسرتَ)، و (خبتُ وخسرتُ) ظاهرة المعنى، لكن خبتَ وخسرتَ قد يستشكل على بعضهم هذا الفتح، ويقول: إذا جاز على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل، فأي خيبة وخسران تعود على الرجل. قال العلماء: (خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) معناها: أنك خبتَ وخسرتَ إذ ظننتَ أن نبيك لا يعدل. وسوء الظن بالنبي كُفر، فخيبته وخسرانه لسوء ظنه في نبيه. فأراد خالد بن الوليد أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد). الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام للعُبَّاد، يقوله: لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويقوله لـ عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وابن مسعود وأبي عبيدة، هؤلاء السادة، تصوَّر عندما يحقر أبو بكر الصديق صلاته وقيامه في مقابل صلاة هؤلاء! إذاً: لك أن تتخيل كيف تكون صلاتهم؟! وكيف يكون صيامهم؟! وأعطيك مثلاً لبعض أكابر الصحابة وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد - قال: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من المجدين في العبادة، فـ عمرو بن العاص يعلم حال ابنه، فخشي أن يكون قام الليل في ليلة عرسه وترك امرأته، وفعلاً كما توقع، قال: فذهب يسأل امرأتي -أي زوجة ابنه-: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نِعْم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله: فجاءني أبي فعزمني، وأنبني بلسانه، وقال: زوجتك امرأةً ذات حسب من قريشٍ فأعظلتها؟ قال عبد الله: وذلك لما كان لي من الشَّرَهِ في العبادة) عنده شَرَهٌ كبير للصلاة وللصيام. وفي صحيح ابن حبان قال عبد الله بن عمرو: (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقوم به كل ليلة، فشكى عمرو بن العاص ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: يا رسول الله! أقرؤه كل ليلة. قال: كيف تصوم؟ قال: أصوم الدهر. فجعل ينزل به إلى التيسير. فقال له: صمْ يوماً وأفطرْ يوماً. قال: أقدر. قال له: اقرأ القرآن في أربعين. قال: أقدر. قال له: اقرأ القرآن في شهر. قال: أقدر. فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتدرج به). فهذا من الشَّرَه في العبادة! فتصور عندما يقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقرأ القرآن كل ليلة: إنك لا تقرأ! وهل هذه قراءة؟ لا تجتهد فهناك رجل من الخوارج هو أجد منك في العبادة والصوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام لهؤلاء الصحابة العُبَّاد: (يأتي أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم). فعندما تتأمل فهم الخوارج للقرآن تضرب بكفيك عجباً!

بعض المفاهيم السيئة للقرآن عند المبتدعة

بعض المفاهيم السيئة للقرآن عند المبتدعة

مبتدع يزعم أن الله أرسل رسلا إلى الصراصير والنمل والحشرات

مبتدع يزعم أن الله أرسل رسلاً إلى الصراصير والنمل والحشرات إن الإنسان كلما ابتعد عن هدي القرون الثلاثة الأولى، أتى بضلالات، فثمَّ رجل مبتدع نشر مقالاً: فزعم أن الله أرسل إلى الصراصير رسولاً، وإلى النمل رسولاً، وإلى الحشرات رسولاً، كل طائفة لها رسول، ويقول: إن الله أخبرنا بذلك في القرآن، حسناً! أين هذا في القرآن؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] فالنسور أمة، والصراصير أمة، والنمل أمة، والنحل أمة، ثم قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. انظر إلى الكلام: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] يعني: ما من أمةٍ إلا أرسلنا فيها نذيراً. فهذا يدل على أنه ما من أمة من الأمم التي خلقها الله عز وجل إلا أرسل فيها رسولاً. والعلماء يقولون: إن نزع الكلام من السياق جريمة في حق المعنى.

مبتدع يزعم أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان

مبتدع يزعم أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان هذا رجل قال: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، وقال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]! سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلاً؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذكر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبداً في هذا الكيد. فما الذي أوصل كيد المرأة أن يكون أعظم من كيد الشيطان؟! هناك أناسٌ لا ينظرون إلى المعنى ولا إلى السياق ولا السباق ولا اللحاق، والكلام لا بد له من سياق وسباق ولحاق. وهكذا عندما يبتعد الإنسان عن منهل السلف الصالح يقع في البدعة. ولذلك كانت أدلة أهل البدع مخالفة أدلة أهل السنة، فأنت تنظر إلى حال أهل البدع يجدون ويجتهدون في العبادة، ولذلك تجد أن أتباع المبتدع كثيرون، بسبب أنهم ينظرون إلى هيئته، يسمع القرآن يبكي وإذا صلى يطيل الصلاة وتجده زاهداً! انظر إلى حال عمرو بن عبيد رأس المعتزلة القدرية، كان المأمون يعجب من زهده ورغبته عن الدنيا، فكان إذا رآه قال: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد فكل واحد منكم يمشي رويداً، يريد أن يصطاد، فهو يمشي على مهله، وينظر يمنة ويسرة لعله يجد فريسة، فهو يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد وكان شديد الزهد، ومع ذلك لم ينفعه هذا الزهد. فأنت تنظر إلى الخوارج الذين يصلُّون حتى يحقر الصحابةُ صلاتَهم إلى صلاتِهم، وصيامَهم إلى صيامِهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ومع ذلك فإن أسرع الناس خروجاً من الدين هؤلاء. إذاً: ما نفعهم قراءةُ القرآن في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصلاة في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصيام في الثبات على الهدى. فالمبتدع التزامه هش جداً، وبالتالي كانت محنة طلب السنة والثبات عليها من أعظم المحن، وحتى لا يُظَنُّ أنني مبالغ في هذه الكلمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). إذاً: أنت أيها المسلم أمامك ثلاثةٌ وسبعون باباً، وهذه الأبواب اختلط بعضها ببعض، أنت قد تجد أحياناً باب الهدى لا منادي له، لغربة علماء السنة، وتجد على أبواب كثيرة من يدعو وينادي إليها، وعندما يأتي شخص جاهل خالي الذهن لا يدري أين باب الهدى في هذه الأبواب الثلاثة والسبعين، ولو سألت أي رجل: على أي باب؛ لقال لك: هذا هو باب الهدى ادخل، وأنت لا تدري، ادخل. فتصور محنتك أيها المسلم في أي بابٍ تدخل. وتجد أنه على كل باب شيطان يدعو إليه، فكلهم يحسنون البدعة، ويلبسونها لباس السنة، وكما قلت: الدعاة إلى البدعة زهاد وعُبَّاد. فيغتر الإنسان بمنظرهم وكم أهلكت هذه الصورة من رجالٍ، حتى بعض الأذكياء ممن كنتُ أعرفهم وقع في شر طريقتهم وقع في الطريقة البرهانية، حتى إنه قال لي يوماً: إن الشيخ البرهاني في السودان يعلم ماذا أصنع الآن! وهو مقتنع تماماً بما يقول.

أهل البدع يخالفون أهل السنة في منهج الاستدلال

أهل البدع يخالفون أهل السنة في منهج الاستدلال أيها الكرام! ينبغي أن نعرف أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم طريق واحد فقط، وهي من أيسر الطرق، لكن لا بد من تصحيحٍ لمعنى الكتاب والسنة، هذا أول سبيل لوقوفك على طريق الحق. أهل البدعة يباينوننا في منهج الاستدلال، بل يقدمون العقل على النقل، ويجعلونه قاضياً، بحيث أنه إذا لم يفهم النص يرده، وشخص واحد من هؤلاء أصدر كتاباً يزعم فيه أن أربعين حديثاً من أحاديث البخاري ومسلم كلها تباين العقل، ويذكر على ذلك أمثلة، وأنا أقولها حتى أبين لكم الفرق في الاستدلال بين أهل السنة وأهل البدعة.

طعن أهل البدع في حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)

طعن أهل البدع في حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) وهو أيضاً يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله). يقول: هذا مكذوب! لماذا مكذوب؟ يقول: لأن الإسلام دين اقتناع، ونحن ندل على ذلك بعقولنا جميعاً بأن الدين لم ينتصر بالسيف إنما انتصر بالحجة، فكيف نقول للناس: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)؟! افرض أنهم لا يريدون أن يقولوها، لمَ تقاتلهم وقد قال الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وقال الله عز وجل: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]؟ فلِمَ نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ندعهم وحريتهم؟! ولذلك يقول: هذا الحديث معارض للقرآن الكريم -والقرآن هو حجة المسلمين- فلذلك نرد الحديث. لا والله، نحن نقول: إن آيات القرآن يرد عليها نفس الاعتراض، إذا كان الاعتراض بهذه الصورة فلا يسلم منها حتى آيات القرآن الكريم، مع أن معنى الحديث تؤيده آيات من القرآن الكريم. (أمرت أن أقاتل الناس): الناس رجلان: - مؤمنٌ. - وكافر. فالمؤمن غير داخل تحت الحديث. يبقى الكافر وهو قسمان: - قسمٌ مداهن على استعداد أن يدفع الجزية، فلا يقاومنا، فهذا لا إشكال فيه. - قسم لا يريد أن يدفع الجزية، ولا يريد أن أنشر ديني. فهذا هو الذي عناه الحديث، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، إذا أعطوا الجزية فلا نقاتلهم، وإذا لم يعطوا الجزية نقاتلهم. إذاً: الصنف الذي عناه الحديث: الذين لا يعطون الجزية ومع ذلك يقفون حجر عثرة في طريق المسلمين. فالحديث موافق للآية؛ لكنه نظر بجهله إلى لفظ (الناس) فقال ما قال. ولفظ (الناس) هنا لفظٌ عام يفيد الخصوص، كقول الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]. والناس هنا: هم خصوص المسلمين، ومما يدل على ذلك ما رواه النسائي وأبو داود قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله). انظر! لا تعارض أبداً بين حديث صحيح وبين آيةٍ في كتاب الله عز وجل، إذ لا يتعارض البيان مع المبيَّن، الرسول عليه الصلاة والسلام كلامُه بمنزلة البيان للقرآن، فكيف يتعارض معه؟!

طعن أهل البدع في حديث موسى مع ملك الموت

طعن أهل البدع في حديث موسى مع ملك الموت فذكر حديث موسى عليه السلام مع ملك الموت، فهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وصححه كذلك الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت على موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، فصكَّه ففقأ عينه، فصعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، فقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: آلحياةَ تريد؟! ضَعْ يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مسَّتها يداك سنة. فقال موسى: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت! قال: فالآن). فيقول: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف بنبي من أولي العزم؟! يقول: إن هذه مجرد دعوى. يدل على ضد هذا حديثان: هو يقول: إن عباد الله الصالحين يحبون الموت. نحن نقول: لا. يدل على هذا الحديث الإلهي حديث: (مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، في هذا الحديث (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته). فهذا دليل على أن عباد الله المؤمنين يكرهون الموت. والحديث الآخر حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت). هكذا (كلنا)، وعند العلماء: الجملة الكلية الموجزة من أقوى الجمل في إفادة العموم؛ لأن لفظ (كل) تفيد العموم، فهي قالت: (كلنا يكره الموت) فلو كان عباد الله المؤمنون لا يكرهون الموت لقال: (لا يا عائشة! ليس كل الناس يكره الموت) أما وقد أقرها عليه الصلاة والسلام على ذكر هذه الكلية، فهذا يدل على أن عباد الله عز وجل يكرهون الموت، ولا عيب في ذاك؟ كما أن الخوف الجِبِلي لا عيب فيه، وقد تكرر ذكر الخوف على لسان موسى كثيراً: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]. فهذا الخوف الجبلي لا حرج فيه، ولا يعاتب به نبي ولا ولي ولا مؤمن. فمن أين أوتي هذا الإنسان؟! أوتي من جهله ببقية النصوص الأخرى، وكما قال القائل: (ليتك كمن لا يعلم لقل الخلاف) لكن كلامه يحسب عند المتأخرين قولاً. كم من أناسٍ لم يكن لهم في العلم أصلاً، ولكن كتبوا وبيَّنوا وتكلموا، فصار قولهم معدوداً في الخلاف لدى المتأخرين الذين جاءوا بعدهم بأزمانٍ متطاولة. فيقول: إن هذا الحديث يباين العقل السوي، الذي لا يختلف حكمه من رجلٍ إلى رجلٍ على وجه الأرض. وهذا كذب! لأنه لو كان العقل السوي ضابطاً ما اختلف الخلق؛ لكن تباينت أفهام الخلق لتباين عقولهم، فليس هناك حكم للعقل السوي حتى نقيس عقل المؤمن وعقل الكافر معاً؛ لكن هذا الرجل مشربه على خلاف مشرب أهل السنة وعلى خلاف تلقيهم للعلم.

العلمانيون والمنهجية الحيادية

العلمانيون والمنهجية الحيادية أيها الإخوة الكرام! العلمانيون لهم ضوابط خاصة يذكرونها دائماً، ويُلْبسونها لباس المنهجية، ولباس الحياد العلمي، فالحياد العلمي دائماً في كل كتاباتهم يقولون: لا بد من اتباع المنهجية والحياد والإنصاف. ما معنى الحياد عندهم؟ معناه: هو ترك الانتماء إلى السلف، وينبغي أن يكونوا في نظري أناساً عاديين لا فضيلة ولا ميزة لهم، لأنك لو اعتقدت أن لهم فضيلة فستنحاز إليهم، وهذا الانحياز سيفقدك المنهجية، فلذلك هم ينادون دائماً بالحياد العلمي، والحياد العلمي هو الذي جعل رجل مصر الدكتور طه حسين يقول: إن القرآن الكريم ينبغي أن نعامله ككتاب أدبي، ليس لأنه من عند الله! ولذلك أوردوا بعض الاعتراضات اللغوية عليه بجهلهم. فلو أن الإنسان اعتقد أن هذا القرآن كلام الله عز وجل سينحاز له إذا فقد المنهجية، ولذلك استحق أن يطرد من جملة العلماء، بل طُرد من الجامعة شر طردة، وذهب ليأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس، ومن عجبٍ أيها الإخوة الكرام أن هذا الرجل لما رجع من باريس وأرادوا أن يكرموه، واستقبله السلطان فؤاد الأول فعملوا مهرجان في مسجد من مساجد القاهرة، وجاء السلطان فؤاد، وجاء له رجلاً بخطيب بارع آنذاك، فهذا الخطيب أراد أن يمجد الملك، ويمجد صاحب طه حسين في نفس الوقت، فقال كلمةً كفَّره بها وكيل الجامع الأزهر آنذاك الشيخ محمد شاكر رحمه الله، قال: جاءه الأعمى فما عَبَسَ ولا تولى. فهذا تعريض لجانب المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعريض أن الملك فؤاد الأول أفضل من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عبس وتولى عندما جاءه الأعمى؛ لكن هذا قال: ما عبس ولا تولى، بل بعثه إلى باريس، فأخذ الدكتوراه وأتى، فالشيخ محمد شاكر لما سمع هذه الكلمة ما تحملها، فبعد الجمعة قال: (أيها الناس! أعيدوا الصلاة فإن الخطيب كَفَر). دعنا من حكم الشيخ محمد شاكر لا نناقشه، لكن هو قال: إن الخطيب كفر. وذهب إلى قصر عابدين، وأرسل رسالة إلى الملك فؤاد الأول: أن يعيد الصلاة؛ لأن الخطيب كفر. يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو ابن الشيخ محمد شاكر هذا البطل المغوار الذي جهر بهذا الحكم-: وقامت بين الوالد -بين أبيه- وبين هذا الرجل مرافعات، والعلمانيون أغروا الخطيب أن يقدم بلاغاً، ويرفع قضية على الشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد شاكر قال: أنا أطلب نخبةً من المستشرقين -لا أقول: من علماء الأزهر حتى لا يقال: انحازوا إليه- الذين لا يدينون بدين الإسلام، ولا يوالون الرسول عليه الصلاة والسلام، لأسألهم سؤالاً واحداً: أهذا الذي قاله الخطيب تعريض بالرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: فلما عَلِم ذاك الخطيب أن القضية ستمتد وسيخسر فيها؛ أسقط حقه فيها. يقول الشيخ أحمد شاكر: وكنت أعرف ذلك الخطيب، فدخلت مسجداً من المساجد فرأيت هذا الخطيب الشهير فرَّاشاً يتلقى نعال المصلين، قال: فانزويت عنه، فسبحان الله! من كان عدواً لله ورسوله فإنه لا يُعَزُّ أبداً. إن الأصل أن نقف على الألفاظ، (فاضربوا) تشمل الرجال والنساء، ولا نقول بغير ذلك إلا بدليل. قلت: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا حملتم الميت فأسرعوا) ما رأيك؟ النساء يحملن الجنازة؟ (فأسرعوا) مثل (اضربوا)، كله شيء واحد، فيدخل الرجال والنساء معاً. قال: لا. قلت له: لم؟ قال: لأننا ما رأينا نساءً يحملن النعش. قلت: هذا عين جوابي، هذا هو السنة العملية التي قضت بأن النساء لا يحملن نعش الميت، كذلك السنة العملية هي التي قضت أيضاً أنه لا يضرب إلا الرجل. فأهل البدع يخالفوننا في منهج الاستدلال، ويخالفوننا في الأدلة ذاتها.

لزوم تقليص البدع ومقاومة أهلها

لزوم تقليص البدع ومقاومة أهلها أيها الإخوة الكرام! لا بد من تقليص البدعة ومقاومة أهلها، لأن للبدعة أثراً سيئاً جداً في تأسيس محنة المسلمين، وما سقوط بغداد عنكم ببعيد، تعرفون أن بغداد سقطت بسبب ابن العلقمي الرجل الرافضي، فهو الذي أغرى ملك التتار بدخول بغداد، وأوهم الخليفة العباسي أن الرجل لا يريد بغداد، وإنما يريد أن يتزوج ابنته، وجعل يفتل له الحبل على الغارب -كما يقول الشوكاني - حتى دعا ملك التتار حاكم بغداد والحاشية جميعاً لكي يكتبوا الكتاب ويعقدوا العقد، فاجتهدوا في جلب كل مَن له شوكة وسلطان بدعوى حضور العقد، وعندما ذهبوا إلى هناك قتلهم ملك التتار جميعاً عن بكرة أبيهم، ودخلوا بغداد واستباحوها وقتلوا ألوفاً مؤلفة، وعندما تقرأ حوادث بغداد في تاريخ ابن خلكان تجد أن ابن خلكان يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً ولم أدوِّن هذا الخبر! لأنه ليس هناك محنةٌ أبداً تشبه هذه المحنة العظيمة التي كان بسببها ابن العلقمي الرافضي. فلذلك أهل البدع لا يستقرون في مكان حتى يكون أول من يحاربهم أهل السنة. أيها الإخوة الكرام! معرفة السنة واتباع النبي عليه الصلاة والسلام هي أول شوكة في ظهر المبتدعة، ونحن حياتنا كلها بدع، البدع في الأصول والعقائد، والبدع في الفروع، وتجد البدع في العبادات، ففي كثير من مساجد المسلمين في التراويح يقرءون بعد كل ركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلاث مرات، وهناك مساجد أخرى، يقول لك: بعد الركعتين أبو بكر، بعد الأربع الركعات: عمر، بعد الست ركعات عثمان، بعد الثمان ركعات: علي، المهم أنها جاءت بالضبط، هكذا فوزعوا الأربعة الخلفاء على الثمان ركعات. فعندما تقول: يا جماعة! ما هذا الذي تفعلونه؟ يقال لك: نحن نقرأ القرآن و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثلث القرآن. فإذا قلت: هذا بدعة. يقال لك: قراءة القرآن بدعة؟! أنا لا أقول لك: إن قراءة القرآن بدعة، إنما قراءة القرآن في هذا المكان هو البدعة. ولله در عبد الله بن عمر عندما عطس رجلٌ فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، فقال له عبد الله بن عمر: وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -أنا أيضاً أصلي مثلك- لكن ما هكذا عَلَّمنا رسول الله، إنما علمنا أن نقول: الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال. فانظر إلى فطنة عبد الله بن عمر! حتى لا يقول الرجل: ابن عمر هذا ينكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم! قال: أنا أقول مثلك: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنكر عليه. فأنت تنظر إلى هذا تستغرب. ومرةً كنت ألقي درساً في كتاب رياض الصالحين، وكان يحضر معنا ابن أكبر رجل في البلد، وكان أبوه يعده للخلافة في نشر البدع، المهم فجلس معنا نحو ثلاثة أشهر، ومع سماعه للأحاديث والأصول وللكلام النبوي يبدو أن مزاجه اعتدل، فذهب يجادل أباه في بعض المسائل، وكنا قبل رمضان بقليل، فهو يحضر معنا للتراويح وإذا هو يقول لأبيه في المسجد: لا داعي لـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لأن هذا بدعة، فيقول: يا بني! من أين جئت بهذا الكلام؟ قال: هناك أدلة تدل على هذا. وجاء الرجل إلى المسجد وبعد المحاضرة، قام وقال: أنتم تكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تكرهون القرآن! - يا والد! ما لك؟! - فقال: كيف تقول: إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بدعة؟ - أنا قلت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بدعة؟ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] توحيد. - فلماذا قلتَ لي أنها بدعة. - قلتُ له: أنا قلت: قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بين التراويح بدعة. - قال لي: يعني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] التي هي ثلث القرآن نعتبرها من البدع؟ - قلت له: لا. أنا أسألك سؤالاً، ثم أسألك سؤالاً -وأي رجل مبتدع أسأله هذين السؤالين-: هل النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي؟ - قال: لا. - السؤال الثاني: هل النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ؟ - قال: لا. - السؤال الثالث: هل ما تفعله فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهذا يجيب عليه بجوابين: إما أن يقول: لا. وهذا كافٍ في الرد عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك شيئاً إطلاقاً من الخير إلا دلنا عليه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] إذاً: كل الذي يفعله ما لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام كأنما قال: أنا أفعل شراً. وإما أن يقول: نعم. فتسأله الدليل، ولا دليل. - قلت: هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] بين التراويح؟ - قال: لا. اختصر عليَّ المسافة، فلو قال: نعم. لما عرفت أن أعمل معه شيئاً أبداً، وقد يكون قد ضيع عليَّ الأسئلة التي أنا عملتها، ولكنه قال: لا. - قلت له: طيب! إذاً: أنت تفعل شيئاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. فالرجل وكأنه لم يأخذ باله من الإجابة، فلما قلتُ هذا الكلام سكت طويلاً ثم قال: يعني: أنا منذ ستين سنة وأنا مغفل؟! قلت: سبحان الله! وماذا يضر أن يظل المرء أكثر من ستين سنة مغفلاً غافلاً عن الحق ثم يهديه الله عز وجل؟! إن ابن الجوزي -وهو العالم في علم الحديث- ذكر حديثاً موضوعاً ثم قال: ظللتُ أعمل بهذا الحديث ثلاثين سنة، لإحسان ظني بالرواة، فلما نضج في علم الحديث، وبدأ يسلك مسالك النقد اكتشف أنه ظل ثلاثين سنة يعمل بحديث موضوع.

البدعة الإضافية أكبر محنة على المسلمين

البدعة الإضافية أكبر محنة على المسلمين فالبدع يا إخواننا كثيرةٌ جداً وتحتاج إلى جيوش جرارة تقف في وجوه أهلها، لاسيما البدعة الإضافية التي هي أكبر محنة الآن؛ بسبب أن لها وجهين: - وجه يطل على الشرع. - ووجه آخر يطل على البدعة. مثل: الخط الذي يكون في المساجد، حيث يُعْمَلُ لصقٌ أو يُعْمَلُ خطٌّ من أجل الصفوف. فهذا بدعة. - لماذا خططتم الخط على الأرض؟ - قيل: لنسوي الصف. - تسوية الصفوف هذه مسئولية من؟ - مسئولية الإمام. - إذاً: ما خُطَّ الخط على الأرض إلا بعد ما ترك الأئمة مهمتهم. - السؤال الأول: هل وضع الخط أو شده كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أم غير مقدور؟ - كان مقدوراً. - هل كان له داعٍ؟ - نعم. كان له داعٍِ، وهو تسوية الصف. - السؤال الثالث: هل فعله؟ - ما فعله. وهذا قاعدة ذهبية في معرفة الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة. فشد الخيط على الأرض جاء بسبب إهمال الأئمة. ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال في يوم مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فكان بيني وبينه ابن عباس: فسوى الصفوف حتى إذا لم يجد خللاً تقدم فكبر). والرسول عليه الصلاة والسلام كان يسوي الصف، ويرسل من يسوي الصفوف، فإذا وجد الصفوف متساوية أقام فصلى. لكن نحن الآن كأئمة، يقول أحدنا للمصلين: استووا استووا وهو واقف ووجهه إلى القبلة، لأن هذا من مهمات الإمام؛ ولكن هذا تقصير، فبسبب تقصير الأئمة والمسلمين ظهرت هذه البدعة. ومدة ظهور هذه البدعة حوالي عشر سنوات فقط، وقبل ثلاث عشرة سنة ما كان أحد يرى هذا الخط على الأرض، يعني: أن هذه البدعة جديدة جداً، وكما قلنا سببها: إهمال الأئمة، حتى الصف الأول الذي من المفروض أن يكون أفضل صف في المسجد ترى الفضلاء يتخلفون عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل)، حتى إنك ترى أصحاب الصف الأول هم من لا يحسن نظام الصلاة، مع أن الصف الأول هو الخط الأساسي للإمام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (لِيَلِيَنِي منكم أولو الأحلام والنهى)، لماذا؟ حتى إذا حدث للإمام شيء في الصلاة، فيكون الذي وراءه فاهماً لنظام الصلاة، فإذا أحدث الإمام مثلاً، أو تذكر أنه غير متوضئ فأول ما يشد شخصاً من الصف الأول يكون هذا المشدود عالماً لماذا شده، لا أن يعمل كما قال ابن الجوزي في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين، من الأئمة قال: أحدث إمامٌ فشد واحداً من ورائه، فكان صاحبنا المشدود لا ينطق ولا يتكلم ولا يعمل أي شيء، فلما يئسوا منه أخذوه وأدخلوا غيره، فقيل له بعد الصلاة: لم وقفت ولم تتكلم؟ قال: أنا ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء. كأنه طابور جمعية! وهذا يذكرني أيام الجمعيات الاستهلاكية والاقتصادية: وقف شخص أمام محل ليربط -أعزكم الله- رباط جزمته، وبينما هو واقف وجده شخصٌ يربط، فظنه واقفاً أمام جمعية فوقف وراءه، وما إن انتهى الأول من رباط جزمته ونظر وراءه حتى رأى عشرة أو خمسة عشر شخصاً يقفون طابوراً، فقال: يبدو أن هذا المكان يُوَزَّعُ منه شيء، فما دمت الأول في الصف لماذا أبرح مكاني؟! وظل واقفاً، وظل مَن خلفه واقفون هم أيضاً، وقالوا: قد يكون هناك توزيع شيء. فهذا الذي يقول: احفظ مكاني حتى أجيء موجود في الصف الأول. وحصلت عندنا حكاية عجيبة جداً أن من الأشياء الغير لائقة أن الناس يعزمون على الإمامة، إذا غاب الإمام الأصل يقولون: لتتقدمنَّ يا فلان لا والله أنت مَن يتقدم، لا. والله لن يتقدم إلا أنت أليس هذا ما يفعلون؟! فقد عَمِلَها ناسٌ مع شيخ القبيلة، وهو لا يعرف أي شيء، ولا يعرف أنه سيُقدَّم للإمامة، وهو لم يكن محضِّراً؛ ولكنه كان يعرف أن الأئمة يقولون كلمتين أو ثلاث في البداية: استووا يرحمكم الله سدوا الفُرَج ولكن الرجل نسي هذا الكلام نهائياً، فوقف ينظر إلى أول الصف وآخره، وأخذ يفرك في يده، وقال لهم: جاهزون يا رجال؟! هذه حصلت، وليست فكاهة. فتصوَّر عندما يكون هذا الرجل هو وفدٌ إلى الله عز وجل؛ فنحن لا بد أن نختار دائماً الخيار: (اجعلوا أئمتكم خياركم) لأنهم وفدُنا إلى الله عز وجل. أيها الإخوة الكرام! الرأس -إذا لم يكن حكيماً- يشِين أو يزِين. ولما ولي عمر بن عبد العزيز إمارة المؤمنين وجاء مجموعةٌ من الناس العرب يهنئوه، أدخلوا شاباً صغيراً صاحب البضع والثلاثين سنة يهنئه، فقال: يا غلام! أما وجدوا من هو أسن منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو كانت المسألة بالسن، لكان غيرك أولى بالخلافة. يا أمير المؤمنين: تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهلُ وإن كبير القوم لا علم عنده صغيرٌ إذا التفت عليه المحافل فقال: أفلح قومٌ ولوك أمرهم يا غلام. فالمقصود: أن هذا الإهمال الذي حدث من المسلمين هو الذي أوجد هذه البدع. العلماء يقولون: كل حكمٍ كان له مقتضىً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فلا يجوز لنا أن نفعله، مثل: شد الخط: كان مقدوراً له أن يفعل؟ نعم. كان هناك مقتضى للفعل؟ نعم. وهو تسوية الصف. هل فعل؟ لا. إذاً: لا يجوز أن نفعل، إذ لو كان خيراً لفعله. وهذا أيضاً مثل الاحتفال بالمولد النبوي، والرسول عليه الصلاة والسلام مات عن ثلاث وستين سنة فقد أمضى حياته المباركة مع كل الصحابة، ومع ذلك فلم يحصل مرةً واحدة أن جمع أصحابه في يوم مولده، وخطب فيهم خطبة، أبداً. هل جمعهم في يوم مولده كان مقدوراً له أم لا؟ - كان مقدوراً. - هل هناك مقتضىً للجمع؟ نعم. وهو العظة. هل جمعهم؟ A لا. إذاً: هذه بدعة. فأنت تعرف أن هذا قيد في الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة. ما هي المصلحة المرسلة؟ هي: شيءٌ فيه مصلحة، وليس هناك نهي خاصٌ عنه، ولم يكن له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. نحن عندما نقف عند إشارة المرور، أو شرطي المرور: هل كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله؟ لا. هل كان هناك مقتضىً للفعل؟ لا. هل تحقق لنا مصلحة؟ نعم. هل هناك نهي عنها؟ لا. إذاًَ: هذه مصلحة مرسلة. فهذا هو الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة الإضافية. وسميت إضافية لأنها تضاف إلى الشرع بدليل عام، مثل أذان المؤذن الذي يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله! أنت لماذا تذكر السيادة؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فطالما أنه سيد ولد آدم ولا فخر، فأنا لا زلت أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فأكون بهذا قد مجدت الرسول عليه الصلاة والسلام وعظمته. ولذلك سميت بدعة إضافية، بمعنى: أنها تضاف للشرع بدليل عام، بخلاف البدعة الحقيقية التي لا أصل لها مثل صلاة الرغائب في رجب، ومثل صلاة حفظ القرآن الكريم، فهذه كلها من البدع الحقيقية التي لا أصل لها في الشرع. أيها الإخوة الكرام: الكلام عن البدعة وعن أهلها كلامٌ يطول؛ ولكن أردت أن ألمح تلميحاً سريعاً إلى المحنة التي يعيش فيها المسلمون الآن، ومحنةُ طلب الهدى في هذا الزمان أعظم من محنة عدم وجود رغيف الخبز، وكما صورتُ لكم أن المحنة تتمثل في ثلاثة وسبعين باباً، والأمرُّ خو ذهنه فعلاً من معرفة الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحق، الأمر الذي به تختلط عليه كل هذه الأبواب فلا يدريها، فيلج من باب لا سيما وعلى كل باب شيطان يدعو إليه. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا وإياكم من البدع، ومن أهلها، وأن يجعلنا من أعلام السنة وشبانها والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إلقاء موعظة بين التراويح

حكم إلقاء موعظة بين التراويح Q ما حكم من يقوم بإلقاء خطبة قصيرةٍ لمدة خمس دقائق يومياً بعد أربع ركعات من التراويح؟ A أظن أن هذا جائز؛ لأن هذا تذكير، فالذي يقول مثلاً: إن هذا بدعة يلزمه أن يقول: إن المجلس الذي نجلسه الآن بدعة، ويلزمه أن يقول: إن كتابة الأسئلة في أوراق بدعة، ويلزمه أن يقول: إن اجتماع الطلبة على الشيخ الحويني لتدريس الحديث مرة، وتدريس الفقه مرة، هذا كله بدعة. والأصل أن هذا كله من باب طلب العلم. والله أعلم.

جواز تنوع صيغ التشهد في الصلاة

جواز تنوع صيغ التشهد في الصلاة Q ما هي الصورة الصحيحة للتشهد؟ A المعروف أن التشهد له أكثر من صيغة، وكل هذه الصيغ التي يقرؤها المسلمون هي صيغٌ صحيحة، لكن ذكر العلماء: أن أصح صيغة هي التي في حديث ابن مسعود.

حكم التسوك في نهار رمضان بسواك له نكهة الليمون

حكم التسوك في نهار رمضان بسواك له نكهة الليمون Q ما حكم التسوك في نهار رمضان بسواك له نكهةٌ غير نكهته الأصلية؟ A تعني: طعم السواك؟ السائل: بعضُ الناس يضيف عليه نكهةَ الليمون! الشيخ: إذا أضاف مثلاً على السواك ليموناً أو نحو ذلك فلا بأس؛ لكن لا يخالط لعابَه، لا سيما وأنه قد ينزل من السواك بعض فتات أشياء لها طعم. والله أعلم.

حكم الذبح والتوسعة على الأهل في مواسم أهل البدع

حكم الذبح والتوسعة على الأهل في مواسم أهل البدع Q ابتليت بعائلةٍ شيعيةٍ، وأنا سلفي ولله الحمد والمنة، ولكنني أعيش معهم في البيت ولا زلت طالباً في المدرسة، ولا أستطيع الاستقلال عنهم، وفي مواسمهم يجبرونني على تناول أكلاتهم وذبائحهم التي ذُبِحت لأجل هذه المواسم، فهل يجوز لي الاستمرار في الأكل أو الكف عن ذلك؟ وبماذا تنصحني من خلال معرفة الشيعة؟ A طالما أنهم لا يجبرونه على هذه البدعة التي يفعلونها فلا بأس من معاشرتهم. وأما بالنسبة للأكلات التي يأكلونها في المواسم فهذه جائزة، حتى إنها موجودة في بيوت كثير من المسلمين، يعني مثلاً: ليلة النصف من شعبان يُذبح لها، ومثلاً في يوم السابع والعشرين من رجب يُذبح له، وهكذا في بقية المواسم، فهم لا يتعبدون الله عز وجل بهذا الأكل، إنما هو نوعٌ من التوسعة، ولا يدخل في نطاق البدع. السائل: وإذا ذبحوا للحسن أو للحسين؟ الشيخ: لا. إذا ذبحوا للحسن أو للحسين فهذا معروفٌ حكمُه، هذا أصلاً أنا لم أنبه عليه؛ لكن إذا ذبحوا لمجرد أن موسماً معيناً حلَّ أو نحو ذلك، فهذا جائز أن يأكل المرء منه. السائل: ولكنهم يذبحون للحسن والحسين في هذه المواسم! الشيخ: إذا كانوا يذبحون في هذه المواسم للحسن والحسين فهذا في حكم الميتة. السائل: المولد النبوي يذبحون فيه! الشيخ: نعم. يذبحون، فكل مولدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يذبحون فيه ابتهاجاً ونحو ذلك. هناك فرق -أيها الإخوة- ما بين شخص يذبح لأجل فلان، فهذا ميتة، لا يحل أكله، وبين رجل يبتهج بالمناسبة، فمن ضمن الابتهاج أنه يوسع على نفسه في الأكل والشرب، فهذا لا بأس به. والله أعلم.

الفرق بين الترجمة للمبتدع والتحذير منه

الفرق بين الترجمة للمبتدع والتحذير منه Q لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يتصدرون العلم ويقرءون القرآن، ولكنهم يقولون: يجب على أهل السنة إذا حذروا من صاحب بدعة وذكروه بما فيه، أن يذكروا ما له من الحسنات ومن جميل الأخلاق حتى لا يظلموا هذا المبتدع وينصفوه، واستدلوا على ذلك بفعل الذهبي رحمه الله، فما قول أهل الحديث والتاريخ؟ A نقول أيها الإخوة الكرام: هناك فرقٌ بين أن تترجم للمبتدع، أو أن تحذر منه. إذا كنا في باب الترجمة فإننا نذكر ما له وما عليه، ونترجم ترجمة محضة. لكن إذا أنا سُئِلتُ عن رجلٍ في بدعته فأنا لا أذكر محاسنه، فمثلاً: إذا اقترض رجلٌ منك مالاً فأكله، ليس فيه إلا هذا العيب؛ لكنه مُصَلِّ ورجلٌ صوَّام وقوَّام، ورجل حسنُ الأخلاق، ويساعد الملهوف، ورجل كريم؛ لكن الإشكال عنده أنه إذا اقترض منك مالاً فانْسَهُ. فإذا جاءني رجلٌ يقول لي: والله إن فلان الفلاني يريد قرضاً! فهل أقول له: هو ورعٌ زاهدٌ عابدٌ، وأذكر له هذه المسائل؟! هذا الكلام ليس له أي معنى ولا أي قيمة، إنما قال لي: هذا الرجل يريد أن يقترض مني مالاً أفأعطيه؟ فأقول له: إياك أن تعطيه! فهناك فرقٌ بين الترجمة: أن نترجم لفلانٍ من الناس فنذكر محاسنه ومساوئه كما هو عليه أهل السنة وأهل الحديث. وعندما تقرأ للإمام أبي عبد الله الذهبي في كتاب: سير أعلام النبلاء مثلاًَ، تجد أن الذهبي في الترجمة يعطي الرجل حقه من الفضائل التي فيه، وإذا كانت هناك بدعة تبرأ وحذَّر منها. والله أعلم.

وجوب التحذير من أهل البدع

وجوب التحذير من أهل البدع Q هل صحيح أن التكلم في أهل البدع يقسِّي القلب؟ A لا. التكلم في أهل البدع واجب؛ لكنه يحتاج إلى ذكاء، فهناك بعض الناس لا يراعون مصلحة الكلام في أهل البدع، وأئمةِ السنة مثل الإمام أحمد والإمام مالك وهؤلاء الثلة، كانوا يوجبون الكلام في أهل البدع، ويحذرون من أهل البدع. ولكن المسألة أن واقع الإمام أحمد يختلف عن واقعنا. فـ شعبة بن الحجاج رحمه الله قال لـ يزيد الرقاشي: لو حدثتَ بهذه الأحاديث لأستعدِيَن السلطان عليك. سأذهب إلى السلطان وأقول له: إن ثَمَّ رجلاً يروي حديثاً موضوعاً، فيسجنك. فكان بدلاً من الإمام أحمد ألف أحمد، وبدلاً من مالك ألف مالك. فالبيئة تختلف، فهناك في بعض الأماكن بيئةٌ المبتدعةُ لهم فيها ظهور، ولهم صولة كبيرة، ولو وقف هذا الرجل السني في مقابل هؤلاء وجابههم قطعوا لسانه، وضيعوا حلقته، وأخذوا منه مسجده، فهل هذه حكمة أن يقف في مقابلهم، فيأخذون منه المسجد ويمنعونه من الكلام، ويحظرون عليه؟! هذا ليس من الحكمة، بل الصواب: أن يستمر هذا الرجل ويحاول بلطف وذكاء أن يطيل عمر دعوته، لا سيما إذا كان فرداً واحداً، وكان له تأثير وكان مباركاً. وأنا أريد أن أقول شيئاً: الداعية الممارِس يختلف عن قارئ الكتب. قارئ الكتب هذا إنسان في وادٍ آخر؛ لكن الداعية الممارس رجلٌ لَمَس الواقع وعرف كيف ينزل الإسلام على الواقع. والمسألة كلها مربوطة بالمصلحة والمفسدة، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صارت له دولة في المدينة، وكان قادراً على الفعل قال لـ عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر؛ لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم) لكنه لما خشي أن يقول الناس: إن هدم البيت يخالف تعظيمه، ويقع هذا في روع آحاد الناس تَركه على ما هو عليه، حتى جاء ابن الزبير فاستشار الناس في هدم الكعبة، فأشار عليه ابن عباس ألا يهدمها، قال: دع الناس ودع أحجاراً أسلموا عليها، فقال ابن الزبير: إنهم قَصُرَت بهم النفقة، وأنا أجد النفقة، وإنهم كانوا يخافون أن يفتتن الناس وقد حدث الأمان، فإني مستخير ربي ثلاثاً، واستخار الله عز وجل ثلاثاً وقرر هدم الكعبة. فبدأ يهدم الكعبة، فقلع ثلاثة أحجار أو أربعة من فوق الكعبة، وإذا بالناس كلهم قد فزعوا وقالوا: ستنزل صاعقة الآن من السماء عليه، وجعلوا ينظرون والرجل يقلع الحجر ويرميه، فوجدوا أنه لم ينزل دمار ولم تنزل صاعقة، فقويت قلوب الناس على ذلك، وتتابعوا جميعاً على هدم الكعبة حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم فإذا هي أحجارٌ مثل سنام البعير. فمسألة مراعاة المصلحة والمفسدة في التحذير من البدعة مهم، ليس هذا -أيها الإخوة- تهوين من شأن البدعة، بل يجب إنكار البدع؛ ولكن هذا الوجوب يختلف من مكانٍ إلى مكان، ويختلف من رجلٍ إلى رجلٍ ونحو ذلك؛ لكن الكلام في أهل البدع واجب، بل سئل الإمام أحمد رحمه الله عز وجل عن رجلٍ يصلي ورجلٍ ينكر على أهل البدع أيهما أفضل؟ قال: الذي يصلي إنما يصلي لنفسه، والذي يجاهد أهل البدع، فإنما ينفع المسلمين.

الأمثال في الكتاب والسنة [2]

الأمثال في الكتاب والسنة [2] أمرنا الله عز وجل أن ندعوه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذا الصراط المستقيم يبين لنا به خصائصه وطبيعة السير فيه ومنهجه، ويحذرنا من شياطين الجن والإنس الذين يجتالون العباد عن هذا الصراط المستقيم، ويأخذون بهم ذات اليمين وذات الشمال في طرق الغواية والضلال، ويزخرفون لهم المعصية، ويزينون لهم الكفر والبدعة.

خصائص الصراط المستقيم

خصائص الصراط المستقيم إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أمرنا الله عز وجل أن ندعوه أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، ولا يكون مستقيماً إلا إذا كان أقصر الطرق، ولا يكون مستقيماً إلا إذا قربك من المقصود، ولا يكون مستقيماً إلا إذا وسع كل السالكين فيه… كل هذه من خصائص الصراط المستقيم. وفي هذا ردٌ على الذين يقولون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس البشر! فنقول لهم: كذبتم؛ لأن الطريق إلى الله واحد، وما ذُكِرَ السبيل ولا الصراط المستقيم إلا مفرداً؛ إنما طرق الذين ضلوا تذكر بالجمع، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]. فليس هناك طريق إلى الله إلا خلف النبي عليه الصلاة والسلام فقط، لو سلكوا إليه كل طريق، واستفتحوا كل بابٍ فهو موصد، إلا أن يأتوا خلف النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هدي محمد) عليه الصلاة والسلام. إذاً: الطريق إلى الله واحد لا يتعدد. إن الصوفية الذين لهم عدة طرق، ويبتكرون عدة مناهج يظنون أنها توصل العبد إلى الله، كذبوا على عباد الله، وضلوا الوصول إلى الله، الطريق واحد فقط ليس له ثان، وهو الذي أمرنا أن ندعو به.

السالكون للصراط المستقيم أقل عددا وأعظم قدرا

السالكون للصراط المستقيم أقل عدداً وأعظم قدراً إن هذا الصراط المستقيم عزيز سالكه؛ ولذلك لو سلكته وتلفتَّ حولك، فلن تجد فيه إلا الواحد بعد الواحد، والنفس تستوحش من قلة الناس، وتأنس بالكثرة، فإذا سلك هذا الطريق رجلٌ لم يتحقق بالعلم والإيمان، ونظر فلم يجد أحداً حوله فقد يستوحش، وقد يصده ذلك عن المضي قُدُماً إلى آخر الطريق؛ فلذلك قال من قال من السلف: (عليك بطريق الحق وإن كنت وحدك، ولا تستوحش بقلة السالكين، ولا تسلك طرق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين). الذين يسلكون الصراط المستقيم هم الأعلون قدراً وإن كانوا الأقلين عدداً، الذين يسلكون هذا الطريق هم الأعظمون قدراً وإن كانوا الأقلين عدداً. من الذين سلكوا هذا الطريق؟ إنهم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وأنت قد لا تكون واحداً من هؤلاء؛ لكنك رفيق، (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، لست على قدرهم لا في العلم ولا في الإيمان؛ لكن طالما كنت رفيقاً فلن تشقى بهم، لن تشقى معهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع من أحب)، قال أنس بن مالك -راوي هذا الحديث في الصحيحين-: (فما فرحنا بعد الإسلام كفرحنا بهذا الحديث، ثم قال: وأنا أحب أبا بكر وعمر وإن لم أعمل بأعمالهم) فهو يرجو أن يكون معهم في المنزلة بحبه لا بعمله. فالطريق المستقيم إذا مشيت فيه ولم تجد أحداً، فعليك أن تتذكر هؤلاء الرفقاء: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ حتى تعطي نفسك عزماً جديداً. ولله در الإمام أحمد! كان يقول: (عليك بهدي -أو بسنن- من مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة). رفيقك السابق مات وترك آثاراً صالحةً لم تمح، لا بارتداد ولا بترك التزام ولا بتفسخ مات وهو ملتزم. إذاً: أنت حين تعرف أن رفيقك السابق مضى إلى الله عز وجل على هذا الطريق فإن هذا يعطيك عزماً جديداً على أن تمضي قدماً على هذا الطريق.

الصراط المستقيم والطرق الأخرى

الصراط المستقيم والطرق الأخرى قال الله عز وجل: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]. سورة الفاتحة هي أم القرآن، (أم القرآن) بمعنى أن: كل المعاني التي وردت في القرآن هي في هذه السورة وإذا قلت: القرآن من أول البقرة إلى سورة الناس كلام كثير، وسورة الفاتحة سبع آيات؛ فكيف تشتمل على كل المعاني؟! فإن أئمة العلم يجيبون ويقولون: إن أم القرآن، ذكرت المعاني مجملة، والقرآن فصل معانيها. لكن ذكر الصراط وضحهُ الله وبينه مباشرة في هذه السورة (الفاتحة)، بينه مباشرةً في سياق السورة، نحن للتو في بداية المصحف: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فربنا سبحانه وتعالى عرفك أن الناس جميعاً لا يسلكون إلا ثلاث طرق لا رابع لها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) هو الطريق الأول. (صراط الذين غضب الله عليهم) هو الطريق الثاني. (صراط الضالين) هو الطريق الثالث. والناس أمام الحق قسمان: عالم به، وجاهل. والعالمون بالحق قسمان: عالمٌ عامل، وعالم جاحد، علم فعمل، أو علم فجحد: علم فعمل: هم هؤلاء {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. علم فجحد هم هؤلاء {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}. والقسم الثاني: الجاهلون، وهم الضالون. إذاً الطرق ثلاث. لكن أول طريق -وهو الصراط المستقيم- ميزه الله عز وجل بميزة لم تذكر في الطريقين الآخرين، وهي ميزة الإضافة إلى نفسه تبارك وتعالى، وأنت تعلم أن المضاف إلى عظيم يكون عظيماً؛ ولذلك نقول: الكعبة بيت الله، وشرع الله لنا أن نقول: ورب البيت، فأخذ البيت عظمة بإضافته إلى الرب، وأخذت النار عظمة وشدة بإضافتها إلى الرب: (نار الله). وأنت ترى في الدنيا: أي أرض فضاء، أحدهم يقول: أنا أريد أن أضع يدي على هذه الأرض وأبني بيتاً تقول له: إياك! لأن هذه أرض العمدة! فتأخذ الأرض قيمة ومهابة بإضافتها إلى العمدة، الذي هو رجل معه الشوكة والسلطان. لكن لو كانت أرض إنسان صعلوك وجاء هذا ليبني تقول له: لا تبن، يقول لك: يا أخي هذه أرض فلان! فأخذت الأرض حقارة بإضافتها إلى هذا الإنسان الذي لا يملك حولاً ولا طولاً، وأخذت الأرض قيمة ومهابة وعظمة حين أضيفت إلى رجلٍ له شوكةٌ وسلطان. فإضافة الطريق إلى الله فيه شرف، وإهمال الإضافة في الطريق الثاني والثالث فيه تحقير وإهانة هذا أولاً. ثانياً: أن النعمة من باب الإحسان، والانتقام والغضب من باب العدل، فنسب الله عز وجل نفسه إلى الأكمل والأحسن: (إن رحمتي تغلب غضبي). ولذلك أنت تجد هذا واضحاً في قوله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] مع أن كل شيء في الأرض بقدر الله، فالشر مقدور له تبارك وتعالى وإن كان ليس إليه، أي: لا ينسب إليه. وقد قال إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78 - 80]، ولم يقل: (والذي أمرضني) مع أن المرض من الله، لكنه -تأدباً مع الله- نسب المرض إلى نفسه كأنه هو الذي أمرض نفسه، فهو حين ذكر النعم والإحسان نسبه إلى الله، وحين ذكر العيب نسبه لنفسه. والعبد الصالح (الخضر) حين أقام الجدار قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، ولما خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أنه قال بعد هذا {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يعني: هو الذي قال لي: اخرق السفينة، ومع ذلك قال: أنا الذي أردت أن أعيبها، فنسب الفضل والخير إلى الله عز وجل، ونسب العيب إلى نفسه. يقول الله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] لأن هذا داخل في باب الإحسان، والإحسان من كمال أفعال الله عز وجل، والغضب والانتقام من العدل، فنسب نفسه إلى أكمل الأمرين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7].

الثناء قبل الدعاء

الثناء قبل الدعاء إن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] دعاء؛ فلكي يكون دعاؤك مستجاباً: اقرأ الآيات التي قبلها في سورة الفاتحة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2 - 5]. وهذا يوضحه حديث أبي هريرة - الذي رواه مسلم في صحيحه، وانفرد به عن البخاري - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: إني قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين -الصلاة هي الفاتحة- ولعبدي ما سأل؛ فإن قال: (الحمد لله رب العالمين)، قال الله: حمدني عبدي. (الرحمن الرحيم)، قال الله: أثنى عليّ عبدي. (مالك يوم الدين)، قال الله: مجدني عبدي. (إياك نعبد وإياك نستعين) قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين ولا الضالين) قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل). (حمدني عبدي، أثنى عليّ عبدي، مجدني عبدي) كل هذا ثناء. إذاً قبل أن تدعو ينبغي أن تثني على الله بما هو أهله. وأي إنسان يدخل على ملك من الملوك يخاطبه أولاً بقوله: يا أيها الملك المعظم الكريم، الذي عم كرمه الجميع وفعلت وفعلتَ، ويثني عليك الناس إلخ، فهو بهذا فخمه وعظمه من أجل نفسه. فمن الغيب في حقه ألا يعطيك شيئاً، وثناؤك عليه كتبت يغريه على العطاء. لكن إذا دخلت وقلت له: عمالك في الأرض مفسدون، وكذا وكذا، وتعمل كذا، وأنت نائم على آذانك، ونريد العدل ونريد الحقوق، وجئتك في رفع مظلمة، وفعل عاملك كذا وكذا، ولابد أن تفعل إلخ، يقول: خذوه إلى الحبس لماذا؟ لأنه لم يسلك الطريق الصحيح. (قمن أن يستجاب لك إذا أثنيت)؛ لذلك قبل أن تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أثن على ربك: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2 - 3]. وانظر إلى كلمة (الرحمن الرحيم) هذه، رحمته سبحانه وتعالى تقتضي أنه لا يترك عباده هملاً لا يدلهم على ما ينفعهم، وإن رحمته بإرسال الرسل أعظم -كما قال بعض العلماء- من الرحمة الشاملة العامة التي هي مثل كلأ الدواب وطعام البهائم إلخ. فأنت تقدمُ بين يدي دعائك ثناءً على الله، كما في الحديث الصحيح عند الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو، ويقول: اللهم إني أسألك بأنك الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي ما سأل به أحدٌ إلا أجيب)، فهذا كله ثناء على الله عز وجل، قدمه هذا الرجل بين يدي دعائه.

النبي صلى الله عليه وسلم يوضح الصراط بمثل مضروب

النبي صلى الله عليه وسلم يوضح الصراط بمثل مضروب إن الصراط المستقيم هو غاية المطلوب من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإنما بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليسلك الناس هذا الصراط المستقيم. هذا الصراط كيف شكله ووصفه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام وضح لنا في حديثه شكل الصراط، فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً) تخيل الطريق: هذا الصراط المستقيم، سنقول: الصراط المستقيم بعرض هذا المسجد، وهذا طوله. (وعلى جنبي الصراط سوران): هذا الجدار سور، وهذا الجدار سور. (وفي السور أبواب): هذه الشبابيك سنعتبرها أبواباً. (وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة): كالستائر التي توضع على الشبابيك، فعلى كل باب ستار. فربما يقول إنسان: لماذا ستائر؟! لماذا لم يقفل نهائياً؟! نقول: هذا من تمام البلاء؛ لأن الواحد لو حاول فتحها بيده فسيفتحها، وذلك: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] إذا أغلقت بقفل يجوز أن الضعيف المجرم لا يستطيع أن يفتحه، فيصده ضعفه أن يلجه، والحياة هذه هي حياة اختبار، والله يعطي لكل إنسان الحرية ويقول له: اعمل. فإذاً: كلمة (ستور مرخاة) دلالة على أن الإنسان يمكن له أن يلج المحارم ببساطة وسهولة، ما يصده عن ذلك إلا دينه وتقواه، وهذا من التشبيه الجميل: (على الأبواب ستورٌ مرخاة). الناس يمشون على طول الصراط، فهل يعرفون ما هذه الأبواب؟ نقول: نعم، لقد أوقف داع على أول الصراط -وليس في وسطه، لئلا تكون لأحد حجة، فيقول: أنا لم أدر، ولم يقل لي أحد- يقول هذا الدعي: (يا أيها الإنسان -ويشير إلى كل باب من هذه الأبواب- هذا من محارم الله، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه). كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويحك! لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه). (وفوق الصراط داعٍ آخر) كان الداعي الأول في أول الصراط، وهناك داعٍ آخر في أعلى الصراط، فوقه لا في آخره. و (فوق) هذه لها معنى جميل غاية في الجمال، (فوق الصراط داعٍ آخر) الكلام مجمل؛ فقام الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب مثلاً لكي يوضح المسألة فقال: (الصراط هو الإسلام)، ألسنا نقول: المثل كله بيان، من باب المبيَّن. (الصراط: هو الإسلام، والسوران: حدود الله) فهذه حدود الله كلها. (والأبواب: محارم الله) ولو فتحت الباب وذهبت خلف السور ستذهب إلى أين؟ انظر إلى المشكلة! أنت لو فتحت من هنا فستنزل مباشرةً. انظر (والأبواب: محارم الله) أنت تعلم أن هذا فيه تفسير لحديث النعمان بن بشير: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات). هذا المسجد أليس ثلاث مناطق: هذا الحلال، وهذا الحرام، وهنا الشبهة. وهي ثلاث مناطق: هذه المنطقة الأولى، وهذه المنطقة المنزوعة السلاح، وهذه المنطقة الثالثة. لو أن أحداً قعد في هذه المنطقة لا يعدوها أبداً، فهل من الممكن أن يصل إلى الحرام؟! مستحيل، كيف يصل؟! أما إذا قفز من فوق السور، ودخل إلى هنا -في منطقة الشبهة- فإنه يمكن أن يدخل الحرام؛ بأن يظل ينط وينط حتى يتجاوز السور فيدخل الحرام. إذاً: أنت كي تظل في الحلال، ولا تصل إلى الحرام في حياتك كلها، لابد أن تبتعد عن الشبهات: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه). إنسان عطشان يكاد يموت من العطش، وجد خمارة، فدخل إليها، وشرب ماء وخرج، ورأيناه، سنقول عليه: خمورجي، وسنقول: انظروا إلى هذا الرجل الفاسد الفاسق الذي كان للتو يشرب خمراً؛ مع أننا لم نره، لكن هذه شبهة؛ فلم دخل فيها؟! فأنت إذا ابتعدت عن الشبهة، فمن المستحيل أن تقع في الحرام، وستستفيد شيئاً آخر، وهو أن عرضك يظل موفوراً كريماً لا يثلم. إذاً: حديث النعمان بن بشير فيه توضيح لهذه الجزئية. هذان السوران: حدود الله، وهذه الأبواب: محارم الله، فمن يدخل من الباب ينفذ إلى خارج السور، ومن وقع في الشبهة، فقد يظل ينحرف حتى يقع في الحرام. (والداعي على أول الصراط: كتاب الله -فيه كل شيء- والداعي فوق الصراط: هو داعي الله عز وجل في نفس كل مسلم) الوازع الضمير التقوى في قلبك. وانظر إلى عظمة هذا الداعي! ولذلك كان من فوق لماذا؟ لأن نداءه علوي يتنزل على القلب، وكل ما يصدر عن العبد إنما هو انفعال لهذا القلب. الوازع هذا هو التقوى، وقد يقرأ الإنسان آيةً من كتاب الله فلا تؤثر فيه؛ لكن إذا كان عنده وازع من ضمير استفاد بكتاب الله. لا يستفيد بكتاب الله إلا الأخيار أصحاب القلوب الطاهرة، وكأن القلب هذا مظلة والقرآن تحتها، لا يستفيد المرء بالقرآن إلا إذا كان صاحب قلبٍ نقي.

الصراط المستقيم هو الإسلام

الصراط المستقيم هو الإسلام الصراط: هو الإسلام. إذاً: أي إنسان يسلك طريقاً غير الإسلام، فإنه قد سلك غير الطريق المستقيم. يدخل المرء في الإسلام إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت. بعض الناس يظن أنه لو قال الشهادة فقط يكون تم إسلامه، نعم تم إسلامه بمعنى أنه سيحفظ ماله ويحفظ دمه في الدنيا فقط، لكننا نتكلم الآن عن الإسلام الذي يوصل إلى الله. فأهل البدع لم يسلموا لله. ولا يفهم إنسان أنني حين أقول: إنه ليس مسلماً، أنه كفر لا، أنا قلت: إنه لم يسلم الإسلام هو الموصل إلى الله. هو قد أسلم، وصان دمه وماله في الدنيا، لكن أهل البدع عن الصراط ناكبون لماذا؟ لأننا قلنا: الطريق إلى الله طريقٌ واحد فقط.

مناقضة البدع للصراط المستقيم

مناقضة البدع للصراط المستقيم الإسلام: معناه الالتزام بأوامر الله عز وجل، وألا تسكن متحركاً ولا تحرك ساكناً إلا إذا كان مأذوناً لك فيه. ولله در سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، وشيخ الفقهاء، وسيد الزهاد والورعين في عصره كان رحمه الله يقول: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل). إن أحببت أن تحك رأسك فحبذا لو كان معك دليل الحك، يا ليتك تحك جسمك بدليل. والآن تجد من يعقد الصفقة بدون دليل، ويضع ماله في البنك بدون دليل، ويرتكب الموبقات بدون دليل، فإذا وقعت الواقعة قال: يا أيها المفتي! النجدة! شخص أتى يقول لي: اشتغلت في المكان الفلاني، وحصّلت أموال اختلاسات -ثلاثين أو أربعين ألف جنيه- بدأت أشتغل، كنت أعمل سبع عشرة ساعة في اليوم، جمعت هذا المال إلى أن أصبح كالهرم، اشتريت بيتاً، واشتريت أرضاً، وأكلت أنا وأولادي إلخ، وفي يومٍ من الأيام اشتكى بعلةٍ، فذهب إلى الطبيب، فإذا هو مريض بداء عضال فلما رأى خاتمته اقتربت، هرع إلى العلماء الذين اتخذهم وراءه ظهرياً طيلة عمره، يقول: أنا اقتربت من الموت، انظر لي حلاً! تقول له: ليس عندي حل، فيقول لك: (أبوس رجليك! شف لي حلاً!) لن أخرج من هنا حتى تأتيني بحل. - أنت يا أخي ستتعبني معك. - لماذا؟ - أأنا آخذ نارها وأنت تأخذ حلاوتها؟! لا، هو يريد حلاً الآن الآن! تقول له: اخرج من البيت. يقول لك: هل أقعد على الرصيف؟! حسناً: اترك الأملاك وتب. يقول لك: ماذا أفعل؟! أنا تورطت وكتبت هذه الأملاك بأسماء أولادي في الشهر العقاري، وسجلت البيت، ولو قلت لأولادي: تعالوا نرجع في البيع الآن، فلن يوافقوني ماذا أعمل؟! انظر أين السبب فهاهو سفيان الثوري رحمه الله يقول لك شيئاً ما قد تضحك منه: (إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل). يا أخي: أنت حين تكون تاجراً كبيراً، فإنك تتخذ لك مستشاراً قانونياً براتب شهري تستشيره، وتتخذ محامياً من أجل أن يسلك لك السكك شخص رفع لك قضية وشخص زور لك البضاعة وكل هؤلاء تدفع لهم مالاً، وحين يقسو قلبك، فإنك لم تفكر أن تستشير عالماً مجاناً: ترفع سماعة التلفون، تقول: أنا والله قسا قلبي وضاقت مذاهبي، فماذا أفعل؟ لا يخطر على باله أن يفعلها، مع أن سؤال العالم مجان! من تمام الصراط المستقيم: ألا تبتدع، أصحاب البدع ناكبون عن الصراط المستقيم؛ لأن الطريق إلى الله واحد، وهو خلف النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم).

معنى الإسلام

معنى الإسلام الإسلام: هو الاستسلام، {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] * {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة:131]، هذا هو الالتزام. لأن هناك جماعة من إخواننا يظنون أن إعفاء اللحية اسمه التزام لا، هذا من الالتزام. يقول أحدهم: أنا من يوم ما التزمت يقصد: من يوم ما التحيت. وليس مقصودي التصغير من شأن اللحية لا، اللحية واجبة، وحلقها حرام؛ لكن ليست هي كل الالتزام، إنما هي من الالتزام، إنما الالتزام معناه: ألا تحيد عن أوامر الله وألا تدخل في نواهيه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، وقال تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112].

الأولاد وتنشئتهم على الإسلام

الأولاد وتنشئتهم على الإسلام ومن أجل هذا نحن نوصي الآباء دائماً: أن يهتموا بأولادهم من وقت وضع النطفة؛ فمن كان يريد ولداً صالحاً فليسم على نطفته. تربية الولد لا تبدأ بعد أن يطر شاربه ويصير ثخيناً يفتله ويبرمه بل تبتدئ التربية من وقت وضع النطفة، وكلما ضربت الجذور إلى أسفل كانت الصلابة أقوى. مثلما يقول العلماء: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر. النقش على الحجر لا يذهب ولا يزول؛ بسبب أن الابتداء مبكر. إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلينُ إذا قومته الخشب الغصن الصغير هذا إذا أردت أن تعدله يعتدل، وأنت ترى الشجرة التي أنت زرعتها أمام بيتك، وهي لا تزال عوداً، وإذا طلعت مائلة، تقوم أنت فتشدها وتربطها بحبل لكي تطلع مستقيمة، لكن دعها إلى أن تثخن وتغلظ، ثم ائت بجرار زراعي وجنزير وشدها، وسيقال لك: هل أنت تريد أن تخلعها أو ماذا؟ تقول: أنا أريد فقط أن أعدلها؛ فيضحكون عليك لماذا يضحكون؟ لأنه لا يمكن أن تعتدل الشجرة أبداً! تركها حتى صارت ثخينة جداً ويريد أن يعدلها؟! لا يمكن ذلك: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب إذاً: إذا أردت أن تكون الصفة أثبت، فلابد أن تبتدئ من الصغر. وأذكر مرة أن بعض علماء العربية سئل عن مسألة دقيقة جداً في العربية -والسائل أيضاً من العلماء- فظن السائل أن الشيخ سيقول له كلمة واحدة فحسب، وإذا بهذا العالم ينفتح، ما انتهى من الكلام، وقعد يجول يميناً وشمالاً، والسائل منبهر. أنت تعلم أن الكافيجي أحد مشايخ السيوطي، يقول عنه السيوطي: ما دخلت عليه مرة إلا استفدت منه سمي الكافيجي لأنه كان يحفظ كافية ابن الحاجب، فمرة دخل السيوطي عليه فقال له: أعرب: زيدٌ قائم. فـ السيوطي قال: يا أستاذ أنت رجعتنا إلى أيام الكتاتيب (زيد قائم)؟! هذه أي طفل صغير يعربها، قال له: فيها مائة وسبعة عشر وجهاً! فقال: لا أقوم حتى تمليها عليّ. فهذا العالم -مثل الكافيجي - انفتح ولم ينته من الكلام، فتعجب منه السائل وقال له: قل لي كيف حصلت هذا العلم! هكذا العلماء لطاف ظراف خفاف، إجابتهم حلوة تحتاج إلى إنسان ذكي، إنما الغبي هو الذي لا يفهم شيئاً أبداً. أنت حصلت هذا العلم من أين؟ قل لي كيف ومن أين أتيت به بالضبط. فقال له: تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم هل فهمتم؟ إذالم تفهموا فهذه مشكلة كبيرة! فإن إجابته من أعذب الإجابات. (تعلقتُ ليلى): أي أحببتها، وأخذت علقة قلبي أنت تعلم حين يكون الواحد جائعاً جداً جداً، يقول: أنا عليقة قلبي ستسقط فهذه العليقة هي التي تحمل القلب في الصدر. (تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ): أحببتها وهي صغيرة جداً. (ولم يبد للأتراب من ثديها حجم): يريد أنه لم يكن لها ثدي. (صغيرين): تعلقتها ونحن صغيران. (نرعى البهم): البهم: صغار الماعز والضأن والوحوش والبهائم. وفي حديث أنس يقول: (كنا نأوي -أي: نشفق- على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد باعد ما بين منكبيه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر من تحته لمرت). إياك أن تقول: البهمة هي هنا الجاموسة الكبيرة!! فإن (البهمة) هنا هي صغار الوحوش وصغار الحيوانات، كعنزة صغيرة لو أرادت أن تمشي من تحت يده لمرت. (صغيرين): أي كنا نأخذ راحتنا، لكن أنا أول ما بلغت وهي بلغت حجبوها عني، إذاً يا ليتنا نرجع صغيرين مرة أخرى هذا معنى البيتين. ويقصد العالم -حين تمثل بهما- أنه درس العربية وهو صغيرٌ جداً، ولهذا انطلق في الجواب عن هذه الجزئية الصغيرة، وتعلق بالعربية مثلما تعلق هذا الرجل بـ ليلى لما كانت صغيرة. إذاً دائماً الإنسان حين يتعلم وهو صغير يصل إلى دقائق العلم. وأنت حين تكون غواصاً شابّاً؛ تستطيع أن تصل بقوتك وفتوتك إلى قاع البحر؛ لكن حين يريد شخص آخر -وهو عجوز- أن يصل إلى قاع البحر، فسيغرق، وسيقول: أنقذوني! لا حول له ولا قوة ولا طول! إذاً: نفهم من هذا أن التعلم -سواء كان تعلم الإيمان أو تعلم العلم- إنما ينبغي أن يكون في مرحلة البداية من حياة الإنسان. إذاً: الاستقامة على الطريق تستلزم إيماناً وعلماً، فابنك حين يفتح عينيه على الصراط المستقيم -الذي هو الإسلام- ويفهم معنى كلمة (إسلام)؛ فسيصل.

المحرمات وكيفية اجتنابها

المحرمات وكيفية اجتنابها قوله: (والسوران: حدود الله): حين يكون لك قطعة أرض فإنك تسورها. وحدود الله عز وجل فيها راحة إذا حدد لك الله ما يريده منك -أمر ونهي- كانت المسألة واضحة المعالم، ليست مبهمة، بل لا تعرف ما أنت مأمور به أو منهي عنه. والحدود هذه فيها أبواب. لماذا كانت هذه الأبواب لم تكن هي أبواب الحلال؟ لماذا هي أبواب الحرام؟ كان من الممكن أن يقول لك: الناحية اليمين أبواب الحلال، والناحية الشمال أبواب الحرام، ما معنى أن يكون السور ما فيه إلا أبواب الحرام فقط؟ قال الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه الحرام قليل أم لا؟ قليل؛ لأنه معدود هذه الأبواب تستطيع أن تعدها أم لا؟ تستطيع أن تعدها، إنما كل أبواب الحلال في الطريق، والحرام: عشرون أو ثلاثون باباً، مائة باب، خمسمائة باب، أما الحلال فإنه لا يعد، لا تستطيع أن تعده، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. إذاً من تمام رحمة الله: أنه جعل أبواب الحلال غير معدودة. إذاً وسع عليك الحلال أم لا؟ لكن طالما قال لك: وفي السور أبواب، تستطيع أن تعدها، وكل ما حصره العد قليل وإن استكثرته، كل ما حصر بالعدد قليل وإن استكثرته، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: (بغير حساب) لأن كل شيء يأتي عليه العد فهو قليل وإن استكثرته، ولهذا يقول الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه لأنها إذا دخلت في نطاق العد كانت قليلة: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط لا يوجد. إذاً: حين يقول لنا: (وفيهما أبواب) فقد دلنا على أن الحرام قليل. إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعاقب أحداً فإنه يحرم عليه الحرام -كمثل غيره- ويأخذ جزءاً من الحلال فيحرمه عليه. إذاً: ضيق عليه باب الحلال، كما قال عز وجل في حق اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161]. حرمت عليهم أشياء، ولما ظلموا حرم عليهم أشياء كانت حلالاً قبل ذلك قلنا: الحلال كثير، هل من أحد يستطيع أن يقول لي: أين الحلال في هذا الطريق الطويل؟ لا أحد يعرف ذلك؛ لكن هذه الأبواب معروفة. إذاً: بالغ في تعريفنا بالحرام حتى لا نلجه، قلله أولاً، ثم عرفه ثانياً، لكيلا يأتي أحد فيقول: أنا لا أعرف الحرام. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] لا يقف عبدٌ أمام الله عز وجل خصماً له إلا خصمه، وأقام عليه الحجة؛ ولهذا بين الحرام زيادة بيان، والحلال -لأنه كثير جداً- لم يفصل لنا أفراده. وأنتم تعلمون أن هذا الكلام عند علماء الحديث يشبه العدالة والجرح: أي راوٍ من الرواة حين ينقل حديثاً، ننظر في حاله أهو عدلٌ أم مجروح. (مجروح) ليس معناها أن واحداً أخرج مشرطاً وقطع جلده! لا، (مجروح): أي: طعن فيه العلماء، قالوا: فاسق، رقيق الدين، زنديق، سيئ الحفظ، مُنْكَر الحديث هذه كلها جرح معنوي، وإنما قيل: (جرح) تشبيهاً بالجرح الحسي. العدالة: هي صفات الكمال وجميل الخصال التي تكون في الإنسان، نقول مثلاً: دَيِّن، خيّر، ورع، تقي، حافظ وهذا اسمه تعديل، والقدح اسمه جرح. علماء الحديث قالوا: لا يشترط ذكر أسباب العدالة؛ لاتساع الأمر؛ فليس عليك -إذا قلت: إن تذكر فلاناً عدل- أن تقول: زاهد، ورع، تقي، يأكل الحلال، يترفع عن الشبهات، لا يضرب أباه، لا يضرب أمه، لا يضرب إخوته، لا يؤذي جاره فالموضوع طويل عريض، سنظل نقول: يعمل، لا يعمل لن ننتهي في يوم، ولهذا لا يشترط ذكر أسباب العدالة لأنها طويلة جداً، لكن لا يجرح المرء إلا بسبب. جرحته؛ قل لي لماذا؛ لأن أسباب الجرح محصورة، يمكن أن يأتي عليها العد. فسنعتبر الحلال مثل باب العدالة، ونعتبر الحرام مثل باب الجرح. فمعنى أن الأبواب في السور دلنا على أنها قليلة وظاهرة، وأنت تعلم أنه حين يكون الحرام في السور، فمعنى ذلك أنه قريب المنال انظر إلى الفتنة! نحن قلنا: إننا سنفترض المسجد هذا هو الإسلام، وهذا السور الأول وهذا السور الثاني، ربما تمشي هنا بجنب السور في نفس الوقت لكنك في الصراط المستقيم، فهذا هو الصراط المستقيم، تمشي هنا أو تمشي هنا أو هنا أو هنا كله صراط. سنفترض وأنت على الصراط المستقيم أنك بجانب السور، فأنت إذن قريب ويمكن أن تقع؛ ولهذا قال: والداعي الذي فوق: الوازع، فأنت قريب من الباب، فيقوم يشدك من قفاك هكذا، ويسحبك إلى فوق: لا تدخل. هل عرفت لماذا هو فوق؟ لأن الذي يمشي في الصراط يمكن أن يكون قريباً من الباب وأن يدخله.

الحذر من زخرف المعصية

الحذر من زخرف المعصية كون أبواب الحرام في السور يعني أنها قريبة المنال. ولأجل هذا ينادي الداعي من فوق: (يا أيها الإنسان! لا تفتح الباب؛ فإنك إن فتحته ولجته). إذا فتحت الباب فستدخل فيه مباشرةً. لكن: هل يمكن أن يفتح الباب وينظر ويرجع؟ نقول: لا ينجو من هذا إلا الأفذاذ الأفراد؛ لأن الحرام له بريق يخطف الأبصار، كل شيء من الحرام تجده جميلاً جداً، تستلذ به، حتى القط حين يخطف اللحمة ويهرب، فإنه يقعد يقلبها ويأكلها مستمتعاً بها، يخطفها ويهرب أولاً، ثم يقعد يقلبها، ويحس أنها ظفر. فكل حرام له بريق فلذلك: لو فتحت الباب فربما كان قلبك ضعيفاً فتدخل مباشرة، إياك أن تفتح الباب، حاول ألا تفتح الباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات)، كل شيء يوصلك إلى المهلكة تجده جميلاً. مثل: موبيليا دمياط يأتون بخشب أبيض وينحتونه، ويجعلون له قشرة جميلة رائعة، بعد شهرين تجد أن الكرسي يعوج؛ لأن أصل الخشب كان -وهو طري- مليئاً بالماء، فلما يبس الخشب اعوج، غرفة النوم -الدولاب- تجده ذا قشرة جميلة، الغرفة بخمسة آلاف، وبعد حين ترى أن الدولاب بعيد عن الحائط قليلاً، فأنت تحب أن تزحزحه قليلاً أنت وامرأتك، فتجده قد اعوج فتبحث عن سبب ذلك فتجد أن الدولاب عبارة عن الخشب الذي يصنعون منه صناديق الطلاء، خشب خفيف عبارة عن ورقة صغيرة جداً، وشكله جميل. الحرام مثل هذا بالضبط، جميل، رائع، تنظر إليه يعجبك، ولذلك لا نأمن عليك إذا فتحت الباب، فربما تدخل، والحل: ألا تفتح الباب، إنك إن تفتحه تلجه، إن تفتح الباب تلجه مباشرة، ولاسيما لأن هناك شياطين، عامل مساعد يعينك على الدخول (إنك إن تفتحه تلجه).

الحذر من الشياطين

الحذر من الشياطين والصراط المستقيم هذا عليه شياطين، ونضرب مثلين: المثل الأول: إنسان خارج من بيته وسمع النداء في المسجد، خرج لكي يصلي الجمعة -أو الظهر أو العصر أو المغرب- قابله آخر من شياطين الإنس: يا سني! خذني على جناحك! فيلتفت إليه ويقول له: تشتمني؟! فيدخل معه في شجار. ولنفرض أن شيطان الإنس قوي، وظلوا في الشجار ربع ساعة ففاتت عليه الصلاة، فهذا خرج لا يقصد إلا الذهاب إلى الجامع، فظهر له هذا الإنسان وتحرش به، هو أيضاً دخل معه في الشجار، وكل منهم ضرب الآخر ضربة مشينة؛ وضيع عليه الصلاة ولو كان الرجل المصلي صاحب عضلات، فقام وضربه وقهره، ثم تركه وأخذ يجري، فلربما التحق بالصلاة في الركعة الرابعة، إذاً فوت عليه تكبيرة الإحرام، والصف الأول، وإدراك ثواب الجماعة من أولها. إذاً: يعرض للإنسان وهو ذاهب إلى الله شياطين مثل هؤلاء، لكن إذا قال له الشيطان: يا سني، أو يا ابن ستين في سبعين، فتلا قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]، أو: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، الله يسامحك يا عم، ومضى، إذاً هذا أفضل أو لا؟ إذاً وأنت ماش على الصراط المستقيم الكل سيناديك: يا فلان! تعال، أنا أريدك في مسألة مهمة جداً، أنا منتظر لك من الصبح إياك أن تلتفت إليه وأنت ماض، امض قدماً، إنك متى التفت إلى المعوقين لا تصل، وإذا وصلت كنت في أخريات الناس وفي آخر الركب، وهذه مشكلة من جهة الأجر والقرب من الله تبارك وتعالى.

التأني في السير

التأني في السير المثل الثاني: يقول علماء الحيوان: الظبي أسرع عدواً من الكلب، ومع ذلك إذا التفت الظبي إلى الكلب خف سعيه فأدركه الكلب، مع أنه أسرع. قصة الأرنب والسلحفاة: قالت السلحفاة للأرنب: هناك خص -أو كرنب- ما رأيك نذهب إليه ونأكل؟ قال لها: اذهبي أنت، ستصلين إن شاء الله السنة القادمة، إنما أنا بقفزتين مني سأصل مباشرة. قعد الأرنب يلعب ولم يسر مع السلحفاة، والسلحفاة جادةٌ في سيرها على بطئه وضعفه، حتى صلت وأكلت وشبعت، الأرنب انتبه، أول ما انتبه قفز وقفز وقفز، راح فوجد السلحفاة أكلت كل الكرنب، قال لها: كيف وصلت قبلي، برغم أنني أتيت أعدوا؟! فانظر! هذه وصلت بسعي بطيء بطيء، والمثل يقول لك: (ببطء ولكن بثقة)، (من تأنى نال ما تمنى). وهناك بعض الناس كان يقول لسائقه: امش بالراحة لكي نصل مبكراً، امش على مهلك لكي نصل مبكر، لأنه لو مشى بسرعة فسيدخل المستشفى -مثلاً- أو يصل إلى الدار الآخرة، إذاً امش على مهلك، فارق السرعة لن يتجاوز ربع ساعة، بدلاً من أن نقع في حادث وندخل في سين وجيم، وندخل المستشفى في الجبس! امش على مهلك، ولو مشيت على مهلك فسوف تصل مبكراً. مثل ذلك الرجل الذي يقول: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول تمشي على مهلك ولكن دائماً الأول، فكيف ذلك الإخلاص، أقل عمل تعمله بإخلاص تسبق به الجماعة الذين يذرعون الأرض جيئة وذهاباً. وهذا البيت الشعري جميل جداً، حين قرأته أول مرة، ظللت حوالي نصف ساعة أتأمل فيه: (وإن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً -أو لحكمة-).

القرآن الكريم هو دليل السير في الطريق إلى الله

القرآن الكريم هو دليل السير في الطريق إلى الله الداعي على أول الصراط -الذي هو كتاب الله عز وجل- لماذا على أول الصراط؟ حتى تتم حجة الله على الناس، لن تخطو خطوةً واحدة في الصراط إلا بعد وصول البلاغ، ولهذا قال: (على أول الصراط). لماذا القرآن لم يكن هو الداعي الذي فوق؟ نقول: يا أخي! الناس يتفاوتون في الإيمان، كلما علا إيمانه وعظم صعد إلى فوق. والذي هو جاهل ولا يعرف أي شيء ويريد أن يتعلم، فإنه على الأرض، حيث يجد القرآن على أول الصراط، إن أردت منه أخذت، فكلما أخذت منه ارتقيت ارتقيت ارتقيت، حتى تصل إلى أن تكون فوق، والذي فوق يبصر أكثر من الذي تحت، فهو أبصر بالحرام، وأبصر بمواضع الشبهات، وأبصر بأعدائه؛ لأنه فوق. إذاً: كلما ترقى الإنسان زادت حجة الله عليه؛ لأنه -وهو في أول الطريق- لزمته الحجة، ثم تعرف على أوامر الله ونواهيه أكثر فأكثر، فلا يمضي قدماً واحداً إلا وعنده من الله أمرٌ أو نهي. بهذا تمت حجة الله عليه أم لا؟ تمت حجة الله عليه. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميلٍ كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، والحمد لله رب العالمين.

أصحاب الأخدود [1، 2]

أصحاب الأخدود [1، 2] قصة الغلام والملك فيها الكثير من الفوائد والعبر التي يحتاج إليها كل مسلم، وبالذات الدعاة إلى الله في أثناء سيرهم إلى الله عز وجل، فمنها يتعلمون الصبر على ما يبتلون به من أنواع الابتلاءات المختلفة، والتي قد تصل إلى بذل النفس، كما حصل مع جليس الملك والراهب عندما رفضوا أن يتنازلوا عن دينهم.

حديث الغلام والملك

حديث الغلام والملك إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. روى الإمام مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر. فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر. وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر، وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. ورماها بحجرٍ فقتلها. فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة، وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك. فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره. فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي. قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين. فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى. فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا. فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه. وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا. فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل، فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت. فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو. فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء. فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه. فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو. فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء. ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به. فقال له: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام، وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام. فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات. فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا. قال: فماذا نفعل؟ قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار، فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها، حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).

البلاء سنة من سنن الله

البلاء سنة من سنن الله الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن، ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض، ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع، وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل، ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء. فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك. أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين. وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلم بالعبد في العقيدة. فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم. كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك، سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا. سواءً كان الإمام البخاري، أو الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي. ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق، ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً. فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري، المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]. هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس. قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب. فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب، وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.

الكذب الجائز

الكذب الجائز لما رأى الغلام الراهب مال إليه؛ لأنه سمع كلامه فأعجبه، وكلام الراهب إنما هو من الوحي، وقيل له: هذا وحي؛ لأنه يمس القلب، فصار الغلام يطيل الجلوس عند الراهب، فإذا جاء إلى الساحر متأخراً ضربه، والساحر يريد أن يستوفي وقت التعليم، وإذا تأخر الولد في الرجوع إلى أهله ضربوه، فيُضرب هنا وهناك، فشكا ذلك إلى الراهب الذي صار محل سره، فقال له الراهب: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر. هذا النوع من الكذب جائز، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها-: (ثلاث من الكذبِ لا أعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب). هذه الثلاثة الأنواع جائزة وبعضها واجب، مثل: كذب الرجل في الحرب؛ فإنه يأثم إذا صدق، قالوا له مثلاً: أين مطاراتكم؟ أين مواقعكم؟ فإذا قال الحقيقة أثم.

الكذب للإصلاح بين الناس

الكذب للإصلاح بين الناس النوع الثاني من الكذب: كذب الرجل ليصلح بين المتخاصمين. فلو اختصم رجلان، فذهبت إلى أحدهما وقلت له: كنت عند فلان فذكر فضائلك ومحاسنك. وقال: فلان -جزاه الله خيراً- لا أنسى جميله علي ونحو ذلك، وذهبت إلى الآخر فقلت له نفس الكلام، فهذا مستحب، وتؤجر عليه إن فعلته.

الكذب في الحرب

الكذب في الحرب والنوع الثالث: كذب الرجل في الحرب. وهو النوع الذي أوصى الراهب الغلام به؛ لأنه في حرب مع الملك كما سمعتم. فهذه الأنواع الثلاثة من الكذب جائزة.

الكذب على الزوجة

الكذب على الزوجة كذب الرجل على امرأته: يعني فيما لا يجب الوفاء به، مثل: أن يأخذ مهرها أو يأخذ مالها ثم يقول: سنفعل مشروعاً، ثم سآتي لك بالأرباح، وهو يكذب لكي يأخذ المال! فهذا لا يجوز، ولا يحل له أن يكذب عليها ليذهب بحقها، ولكن الكذب المنصوص عليه في الحديث إنما هو فيما لا يجب الوفاء به؛ مثل إظهار المودة والمحبة القلبية ونحو ذلك. والمفروض على الرجل ألا يخبر امرأته أن الكذب عليها جائز، لكي يستطيع أن يتصرف، لكن إذا قال لها ذلك، فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً، فكلما بدأ بالكذب عليها قالت له: إنك تأخذ أجراً على هذا الكذب، فلم يستفد من رخصة النبي صلى الله عليه وسلم. الكذب على المرأة فيما يتعلق بالمحبة والمودة جائز، كأن يظهر لها أنه يحبها وأنه يعزها، وأنها في سويداء القلب، فهذا مستحب لماذا؟ لأن الحياة تصلح بذلك، فهذا هو الكذب الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

ظهور الحق بقتل الدابة

ظهور الحق بقتل الدابة وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة، فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية. ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك، فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛ لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق. كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار، فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد. فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.

دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله

دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء، فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة، وفي هذا دليل على ما ورد في بعض الآثار، ولكن فيه نزاع والراجح ضعفه، والذي قال فيه: (إن الهدية تسل سخيمة الصدر). فهذا الرجل جاء بهدايا عظيمة، وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك. فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك. هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل: راقب كلام الغلام! ولاحظ دقته في التعبير! قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك. فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا. فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع، وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك، فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو. ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر) وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد. أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير). فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط. قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا. قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة). وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) فكان حول المدينة مطر وفوقها شمس. وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة. واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة). والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه. قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني. قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-. أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرف رب العالمين للناس، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81]. فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)، والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان. والهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً. فلما التبس الأمر بين العبد وربه قال: (هو) أي: لا غيره، هو لا غيره الذي يشفيني، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني. نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع، ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب، وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا، الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام. يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] هو الذي يشبعني، كما في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد. فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك، وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). فلما التبس هذا الأمر أكده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. (وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى). ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] انظر إلى الأدب! نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه، وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله، كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه، ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82]. نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى، فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ. مرةً سمعت خطيباً يقول: وقد بلَّغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان رب العالمين!! هل الله سبحانه وتعالى له لسان؟! هل يجوز أن يقول الإنسان هذا في جنب الله تبارك وتعالى؟! صفات الله عز وجل إنما تتلقى بالسمع، وليس بالاجتهاد، لا يحل لك أن تأتي بصفةٍ لم تجدها في القرآن ولا السنة وتنسبها إلى الله عز وجل؛ لأن بعض الصفات قد تكون عندنا -معاشر المخلوقين- صفة كمال، لكن هي عند الله صفة نقص. شخص وضع مذكرة عرض للقرآن الكريم، ثم لما وصف السموات والأرض، ووصف خلق السموات قال: إن الله عز وجل هو المهندس الأعظم!! هل يليق هذا الكلام؟ أين هو من قول الله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117]، انظر الفرق! بديع: ابتدعهما على غير مثال سابق. صفات الله عز وجل لا يجتهد فيها إنما تتلقى بالسمع، فما لم يأت به القرآن، ولم يتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لنا أن ننسبه إلى الله تبارك وتعالى، وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني. وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل، اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت. أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب. فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه. ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان. قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم. كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز، وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا. حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟! أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله، فلذلك أثبته بهذا الضمير: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى. لما عرض الغلام المسأ

انعدام صفة الوفاء والإخلاص عند كثير من الناس

انعدام صفة الوفاء والإخلاص عند كثير من الناس لما رد الله على جليس الملك بصره دخل على الملك وما كان أحد يقوده، فهال الملك ما يرى، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال له: ربّي. فقال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، الله ربي وربك ورب العالمين، فأمر بتعذيبه. صفات الوفاء والإخلاص وحفظ الجميل ليست عند هؤلاء، خلت قواميس هؤلاء من مفردات الوفاء، هذا صاحبك وحبيبك وتقعدون مع بعض! ومع ذلك فمع أول مخاصمة وأول نشوز عذبه! أنا قرأت قصة عجيبة في كتاب "الطريق إلى المنصة" يقول: كان هناك تاجر موبيليا شهير، وكان مرافقاً للمشير عبد الحكيم عامر، وكان هذا المشير عندما يريد أن يقضي ليلة من الليالي مع امرأة، كان يذهب ويأتي به ويجعله في غرفة بجانبه! وكان هذا يصور المشير دون أن يعلم بذلك، لكي يستخدم الصور عند الضرورة، فصور المشير عدة صور وهو في هذه الأوضاع المخلة، فضاعت صورة من الصور، فقالوا: لا يوجد غير فلان الذي يمكن أن يأخذها، فذهبوا فأتوا إليه الساعة الثالثة ليلاً وأخذوه، قالوا له: أين الصورة؟ قال: أي صورة؟! أنا لا أعرف شيئاً. فقالوا له: ستعترف رغماً عن أنفك. فعذبوه، وكان آنذاك موجوداً في السجن مع الإخوان المسلمين. المهم أنهم حبسوه مع هؤلاء، وكان يتحدث معهم عن بعض الأشياء التي رآها، قال: رأيت بعيني منظراً عجيباً لا أنساه، يقول: رأيتهم أخذوا رجلاً وقيدوا يديه ورجليه، ثم ربطوه بسلسلة طويلة إلى فرس وعلى الفرس فارس، وكان هذا الفارس يجري بالفرس بأقصى سرعة. المهم، قال: بعد ما يقرب من خمس دقائق فكوا رباطه والرجل كله دم، فقلت لهم: الحمد لله، أنا تبت ورجعت إلى الله. فكان هذا سبب التزامه؛ لأن بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.

وصية الراهب للغلام

وصية الراهب للغلام انظر إلى الملك كيف يقطع الأرحام! ولا يبقي وداً بين والد وولد، ولا بين رجل وأخيه. قال الملك لجليسه بعد ذلك: هل لك ربٌ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين. قال: فما زال يعذبهُ حتى دل على الغلام. هناك كلمة قالها الراهب للغلام عندما قتل الدابة، وصار له صيت، قال له: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. استفدنا من هذه الوصية هذه ثلاثة أشياء: الشيء الأول: تواضع الأستاذ، يقول: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني. حسناً: فما هو فضل الغلام على الراهب؟! فضل الغلام أنه صغير السن، ومع ذلك قام بالدعوة إلى الله عز وجل، لكن الراهب ما استطاع أن يقوم بذلك، فهذا يدلنا على أن فضل العلم في نشره، وكلما نشرت العلم كلما يصير لك خصم؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا بريحه، لو أن إنساناً لديه زجاجة عطر ووضعها في جيبه لا يستفيد هو ولا غيره بها؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا إذا فاح، مثل العلم. مرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينما هو يتفقد الزكوات دخل إلى حجرة العطور، فأول ما دخل حجرة العطور أمسك أنفه، فقالوا له: إنما هو ريح -هواء-. فقال لهم: وهل ينتفع به إلا بريحه، وهذا عطر المسلمين، لله دره رضي الله عنه! الفائدة الثانية: قال: (وإنك ستبتلى). فهذا يدلك على أن الذي يدعو إلى الله عز وجل لابد أن يبتلى بأي بلاء دق أو جل، ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غار حراء ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك. فقال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي. سنة لا تتغير (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي). إذاً: العداء لدعوة الرسل جزءٌ لا يتجزأ منها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]. فلا تطمع أن ينفك أعداء الله عنك. الفائدة الثالثة: فإذا ابتليت فلا تدل علي. وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للعبد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، لكن إذا كان الأمر لا ينفك عن أذاه ولا مناص إلا من هذا البلاء ليبلغ الدعوة فعليه أن يفعل. مثل المشقة: بعض الناس يفهمون المشقة والأجر والرابط بينهما خطأً، مثلاً: رجل معه مال وأراد أن يحج وله القدرة على ركوب الطائرة ولكنه قال: أركب السيارة؛ لأن المشقة فيها أكثر، فهل يؤجر على هذا؟ لا لماذا؟ لأن ديننا نفى المشقة، والله عز وجل قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. متى تؤجر على المشقة؟ إذا كان العمل لا ينفك عن المشقة، لا حيلة لك، عندما لا تملك المال الكافي لركوب الطائرة فتذهب بالسيارة فتتعب في سفرك، هذه هي المشقة التي قصدها الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك). كذلك لا يجوز للمسلم أن يقصد البلاء قصداً، إنما يتحاشاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، مع أن لقاء العدو هو الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولو مات المرء في الجهاد كان شهيداً، برغم أن الجهاد يوفر لك كل هذه المزايا، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)، لماذا؟ لأنك لا تدري إذا لقيت العدو أتثبت أم تفر؟ والفرار من الزحف إثمه كبير جداً، وقد يدرك المرء جراحة من الجراحات فيقتل نفسه كما فعل بعض الناس، قتل نفسه بسبب الألم الذي ما تحمله، فأنت لا تدري ما يفعل الله بك، فلا تتمنى البلاء، هذا هو معنى الكلام. فهذا الراهب العالم يؤدب الغلام، قال: إن ابتليت فلا تدل عليَّ. ليست من الشجاعة أن تقول: أنا في المكان الفلاني، وليس من العيب أن تهرب. سفيان الثوري رحمه الله مات هارباً في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي وكان يحيى بن سعيد القطان حاضراً وكلاهما من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فكان سفيان يحتضر ورأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وقد بكى بكاءً شديداً قبل موته فقال له عبد الرحمن: ممّ تبكي؟ أتخاف من ذنوبك؟ فتناول الثوري رحمه الله حفنة من على الأرض، وقال: لذنوبي أهون عليَّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة. وقال له يحيى بن سعيد القطان: لم تبكي؟ ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟! لماذا تبكي وأنت قادم إلى الذي كنت تعبده، وأنت هارب من أجله وطفت الدنيا تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتبلغ كلام الله عز وجل؟ هذا الذي نصرت له وصبرت له أنت قادم عليه، من حقك أن تفرح. فلما قال له ذلك: سكن. فلا يحل لإنسان أن يقصد البلاء قصداً، ولذلك قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.

إخبار الغلام بمكان الراهب

إخبار الغلام بمكان الراهب عذب الملك الغلام حتى اعترف بمكان الراهب، قال أحدهم: كيف لم يحفظ الغلام وصيةَ شيخه، وقد قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ. فكيف دل عليه؟! نقول: العزائم عند البلاء تنفسخ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ لأن العزائم تنفسخ وأنت لا تدري أتثبت أم لا؟ وكان هناك رجل زاهد اسمه سمنون وكان يقول: يا رب! ابتلني وستراني صابراً. فابتلاه فحبس فيه البول فلم يتحمل، وجعل يدعو الله عز وجل أن يصرف عنه البول؛ فلما صرف الله عنه ذلك كان يطوف على صبيان الكتاتيب ويقول لهم: استغفروا الله لعمكم الكذاب. الإنسان يسأل الله العافية؛ لأنه لا يدري أيصبر أم لا. فالغلام لما عُذّبَ عذاباً أليماً ما تحمل، لذلك لا يلام، لا يقال له: كيف خالفت وصية الشيخ؟ فهذه المواضع لا يثبت فيها إلا من ثبته الله. وأنت عندما تقرأ محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكيف أن الله عز وجل رفعه إلى مراقي النجوم بعد هذه الشدة؛ لأن الناس معادن، فقد تجد رجلاً يدخل الفتنة فيخرج منها أكثر لمعاناً وأشد بريقاً، وآخر يدخل الفتنة فلا يصبر، فالذهب لو أنك أخرجته من باطن الأرض وعرضته في الأسواق لا يساوي شيئاً، حتى تدخله النار فيصير ذهباً، وكل المعادن الأخرى التي تعرض للنار تحترق إلا الذهب، أما الذهب فإنه يزداد لمعاناً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن داود عليه السلام كان أفضل بعد الابتلاء منه قبل الابتلاء. فأنت لا تدري إذا ابتليت هل تثبت أم لا. قال الإمام أحمد بن حنبل: جلدوني في يوم الإثنين ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليّ، ولم أدر ما صنع بي، وكان الأمير يقول: يا أحمد! قل: إن القرآن مخلوق. فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً أقول به. فأمر الجلاد أن يضربه ضرباً مبرحاً، فجلده ثلاثمائة جلدة حتى أغشي عليه. قال الإمام أحمد -قبل أن يقدم على الجلد- جاءني رجل لا أعرفه، فقال: يا أبا عبد الله! انظر. قال: فنظرت خلفي، فإذا أمم معهم المحابر والأقلام سيكتبون فقال: اتقِ الله في هؤلاء، سيكتبون ما تقول، إذا زل العالِم زل بزلته عالَم) فصبر على الحق المر لأجل هدف عظيم. عندما قال الراهب للغلام: (إن ابتليت فلا تدل عليّ) إنما قال ذلك تجنباً للبلاء. وعندما جيء بالراهب قالوا له: ارجع عن دينك. قال: لا. فنشروه بالمنشار نصفين حتى سقط شقاه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سقط شقاه). ربما يقول أحدهم: كيف تحمل الرجل نشر الجمجمة، ونشر هذا الجسم وهو حي؟! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: (إن الشهيد لا يشعر بوقع القتل إلا كما يشعر أحدكم بالقرص)؛ لأن الله عز وجل يدافع عن أوليائه، فإذا ابتلى أحدهم صبَّره فله الحمد في الأولى والآخرة، فهذا الصبر على الابتلاء المر فيه ذكرى وسمعة وسيرة، ها نحن حتى الآن نتكلم في سيرة الراهب، ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف نسبه، ولا نعرف إلى أي قبيلةٍ ينتمي، ومع ذلك نحن نحكي حكايته لله وفي الله.

سبب تأجيل الملك قتل الغلام

سبب تأجيل الملك قتل الغلام لماذا لم يأمر الملك بقتل الغلام وشقه نصفين؟ لأنه لو رجع عن قوله فإن المشكلة ستحل، ولكن لو أنه قتله فمن أين له بغلام مثله؟ فدخل في المساومات.

محاولة قتل الغلام بإغراقه في البحر

محاولة قتل الغلام بإغراقه في البحر وعندما رجع الغلام إلى الملك قال له: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء. كان هذا كاف ليرجع الملك ويرعوي، ولكنه دعا فوجاً آخر من جنوده وقال: خذوه في قرقور. فالماء معروف أنه لا ينجو منه أحد، بخلاف الجبل؛ لأنه قد يسقط من أعلى الجبل فلا يموت. حدث أن شخصاً في القاهرة الكبرى سقط من الدور العاشر، وبعد أن سقط من ذلك الارتفاع الكبير قام وكأنه لم يسقط، وعندما قام يمشي إذا بسيارة مسرعة ترتطم به فيسقط ميتاً، انظر كيف مات؟ قال الملك بعد أن أمر بأخذه إلى البحر: فإن آمن وإلا لججوا به. يعني: أرموه في لجة البحر؛ لأنه لن يستطيع أن يعوم، وسيكون طعاماً للسمك. البحر مرعب دائماً، والذي يركب السيارة لا يخاف مثل ما يخاف من الباخرة لماذا؟ لأنه عندما ينظر من شباك الباخرة ينظر إلى البحر الذي لا يدرك آخره بصره، فيحصل له الرعب. والعرب كانوا يخافون من البحر وقد كانوا يضربون به المثل في أشعارهم، يقال: أن رجلاً أتى أبا العباس المبرد رحمه الله، وكان إماماً في النحو واللغة، فقال: أريد أن أقرأ عليك كتاب سيبويه في النحو، فقال له أبو العباس: أي بني! هل ركبت البحر؟ تريد أن تفهم كتاب سيبويه، ماذا تظن سيبويه هذا؟! هل تظن أنك ستذهب تفتح الكتاب وتقرأ فتفهم! إن كتاب سيبويه من أصعب الكتب منالاً، ولذلك سماه: "الكتاب"، لم يقل: كتاب النحو، ولا علم النحو، ولا أي شيء من هذا، بل قال: "الكتاب". إنما قال له: (أي بني! هل ركبت البحر؟) استعظاماً للكتاب! وسيبويه رحمه الله مات وعمره اثنان وثلاثون سنة، فالأمة هذه مليئة بالعظماء. المهم: الملك عندما أحب أن يعرضه لتهديد أشد من هذا - أن يرمى من الجبل- قال: لججوا به البحر، فلما وصلوا البحر قالوا له: آمن وإلا رميناك في البحر، فلم يؤمن لهم، وقال: رب اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا. حسناً: كيف عاد الغلام؟! {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، رجع في معية الله، فالغلام عندما أخلص دينه لله، ترك مسألة الأمن لربه تبارك وتعالى فأمّنه، والمسألة كلها معلقة بهذا القلب. مرة وأنا مسافر في إحدى السفريات، وكان هناك رجل بجانبي في الطائرة، ويبدو على هذا الرجل أن يسافر بالطائرة لأول مرة. المهم: الطائرة بدأت في مغادرة المطار، فبدأ هذا الرجل يرتجف من شدة الخوف، فلما طارت الطائرة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه لا أحد سيخلصه، وقد وقع الفأس في الرأس، وصرنا في قبضة الملك. المهم: بعد أن تناولنا الطعام، أردت أن أتعرف على هذا الرجل، فقلت له: يا أخي! أنا سمعتك تقول كذا وكذا لماذا؟ قال: أما ترى ما نحن فيه؟! نحن بين السماء والأرض. قلت له: نعم، نحن بين السماء والأرض فعلاً، لكن أنا سمعت منك كلمةً جميلة، قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: نعم، وهل بيدنا شيء؟ قلت له: وإذا مشيت على الأرض بقدميك هل بيدك شيء أيضاً. يعني: هل تظن عندما تمشي على الأرض برجليك أنك ملكت أمرك؟ ولما كنت مثل الشعرة بين السماء والأرض لم تعد تملك أمرك؟! وهناك أناس يعاملون الله بهذه الطريقة، سبحان الله! ولذلك نحن في هذا الدرس العظيم أعظم شيء نأخذه: أن من كان في معية الله عز وجل يجد الله معه، وإن ابتلي وأهين وشرد. فلما رأى الملك الغلام قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء. ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تعقل ما آمرك به. فقال: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على خشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني. فالرجل ظن أن المشكلة انتهت ولكنها ابتدأت، جمع الناس في صعيدٍ واحد، وفعل ما أوصاه به الغلام، فصلبه، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم حيث أشار الغلام، فلما وقع السهم في صدغه مات. فقال الناس جميعاً: (آمنا بالله رب الغلام). لماذا؟ لأن رب الغلام قادر، الملك حاول أن يميته أكثر من مرة وعجز، إذاً نحن مع القوي، والعوام مذهبهم، أن من يغلب يذهبون معه، يقولون: نحن مع القوي الذي يعطينا لقمة العيش والأمان؛ فلما ضربه ومات قالوا: آمنا بالله رب الغلام.

محاولة قتل الغلام بقذفه من الجبل

محاولة قتل الغلام بقذفه من الجبل فقال لجنوده: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن تاب وإلا اقذفوه من أعلى الجبل. المساومة إلى آخر الطريق، (إن تاب وإلا) يعني: المفروض أن يحاولوا معه أن يرجع عن دينه ويساوموه، لماذا؟ لأن الملك يحتاج إليه، فالساحر شارف على الموت، فالملك إنما قتل الراهب وجليسه؛ لأنه لا يستفيد منهما؛ بخلاف الغلام. وعندما وصلوا إلى قمة الجبل، قال: رب اكفنيهم بما شئت. وذكرت هنا كلمةٍ لـ ابن الجوزي رحمه الله، يقول فيها: (رب لا تعذبني حتى لا يقولوا عذب من دل عليه). قال: رب اكفنيهم بما شئت -صدق رجائه بالله أتى بالثمرة- فتحرك بهم الجبل فسقطوا، وثبت الله قدميه. كلما صدق رجاؤك بالله أتى بثمرة، فأخلص دينك لله يكفيك العمل القليل، الله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلبك، ويؤاخذك على ما كسب قلبك، فإذا انفعلت الجوارح بعد ذلك بعمل القلب يحاسب العبد: إن كان خيراً فخير، وإن شراً فشر؛ لكن القلب هو الأصل. وانظر إلى مثال آخر يظهر فيه صدق الرجاء أكثر، وهي قصة جريج العابد، والقصة صحيحة: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: تحدث بنو إسرائيل عن عبادة جريج، وهذا الرجل كان عابداً، اعتزل الناس وبنى له صومعة في خارج البلد، وحتى يجتنب الناس لم يصنع لهذه الصومعة سلماً، وكان يصعد إليها بالحبل ويسحب الحبل؛ لكي لا يأتي عليه أي مخلوق فيقطع عليه خلوته. وكانت له أم تشتاق إليه، فجاءت في يوم فقالت: يا جريج! أجبني، ووضعت يدها على حاجبها -قال أبو هريرة: فكأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده على حاجبه- فصادفته وهو يصلي، فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي -يعني أقطع صلاتي وأجيب أمي أم أكمل صلاتي وأتركها؟ - فاختار صلاته. فانصرفت الأم، وفي اليوم الثاني جاءته وقالت له: يا جريج! أجبني، يا جريج! أجبني. قال: يا رب أمي وصلاتي، أمي وصلاتي. فاختار صلاته، فتركته وانصرفت، وفي اليوم الثالث جاءته وقالت: يا جريج أجبني، يا جريج أجبني فلم يجبها، فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات. وأصبح الناس يتكلمون ويتعجبون من فعل جريج! ويقولون: ما هذا الصبر على الصلاة واعتزال الناس! حتى إنه لا ينظر إلى النساء ولا يرغب بزواج فقالت امرأة: أنا أستطيع أن أفتنه. فقالوا: أحقاً تستطيعين؟ فقالت: نعم. فقالوا لها: افعلي ذلك. فذهبت للصومعة تريد أن تصعد إليه، فوجدت أن جريجاً أخذ الحبل معه، ولا أحد يستطيع أن يصعد إليه، فمكنت راعي الغنم الذي كان يأوي إلى ظل الصومعة من نفسها، فحملت، وكانت حين تسأل تقول: هذا ابن جريج، والناس يقولون: هل يعقل أن جريجاً فعل هذه الفاحشة؟! حسناً: اصبري حتى تضعيه ونحن سنريه، فوضعت المرأة، فذهبوا إلى الصومعة وبدءوا في هدمها، وإذا بـ جريج يحس بالضرب في الصومعة، فينظر فإذا هم يهدون صومعته، قال لهم: على رسلكم. فقالوا: انزل يا فاجر، فمد الحبل ونزل، فأمسكوا به وضربوه وكتفوه، وقالوا: ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا! فعلت وفعلت! وأخذوه لحاكم القرية -ذكر في شرح القصة أن المرأة الزانية بنت حاكم القرية-. المهم: أخذوه، والكل يتفرج، والمومسات هنا وهناك، فضحك، فقالوا: لماذا تضحك؟ وهل هذا موقف يضحك المرء فيه؟! قال: أدركتني دعوة أمي. فأخذوه إلى حاكم القرية، فقال له: ما هذا يا جريج؟! كيف فعلت ذلك، لنقيمن عليك الحد. وترك المرأة! كيف يقيم الحد عليه ويترك المرأة؟ لأنهم يهود، وهذه أخلاقهم. فضحهم الله عز وجل في القرآن من أوله إلى آخره، ولكن الأمة الإسلامية عميت، كيف عميت عن الأوصاف الموجودة لليهود في القرآن؟! القرآن عربي مبين، واضح كالشمس، لا يحتاج إلى ترجمة، كل يوم تظهر صفاتهم التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، والدعاة إلى الله عز وجل ما غيروا رأيهم في اليهود أبداً؛ لأنهم يجدونها مبينة في القرآن. فلما أرادوا أن يقيموا عليه الحد، قال لهم: حسناً، أتوضأ وأصلي ركعتين، فلما أكمل صلاته قال: أين الغلام؟ فجيء به، فوضع أصبعه في بطن الغلام وهو مولود فقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي فلان، حينئذٍ أكبوا عليه يقبلون يديه ورجليه، وقالوا: اعذرنا يا جريج، نبني لك صومعتك لبنة من فضة ولبنة من ذهب! قال: لا، أعيدوها طيناً كما كانت. فالغلام عندما نطق كانت هذه معجزة من المعجزات التي يؤيد الله بها عباده. جاء في الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أمٌ ترضع ولدها)، وبينما الولد يرضع، مر رجل له شارة عظيمة، رجل يركب حصاناً، وحوله عشرون رجلاً من الإمام والخلف، فقالت الأم: اللهم اجعل ابني مثله. فترك الغلام ثدي أمه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ورجع يرضع مرة أخرى! قال: أبو هريرة: (فكأنني أنظر إلى إصبع النبي صلى الله عليه وسلم في فمه يمثل رضاع الولد) كل هذا لكي يقرب الصورة. ثم مرت فتاة يعذبونها ويضربونها إمام لأنها سرقت أو زنت فقالت الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها. فترك ثدي أمه وقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه: مه! -ما هذا الطفل؟! - كلما قلت شيئاً قال عكسه، فقيل: إن هذا جبارٌ وتلك أمة مؤمنة. بقدر ما يكون لله من التعظيم في قلبك بقدر ما تؤيد بالدلالات والآيات، المهم أن تخلص دينك وقلبك لربك، والله سبحانه وتعالى شكور، الذي يخلص له ذرة يجدها عنده، فلا يضيعها عليه؛ لأنه قضى أن الحسنات يذهبن السيئات، إلا سيئات الشرك والعياذ بالله فإنها تذهب بكل الحسنات، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول -بعدما ذكر شفاعة المؤمنين والملائكة-: (يبقى أرحم الراحمين، فيقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً)؛ لأنه شكور، لا يضيع شيئاً استودعته عنده أبداً، فلماذا تفر منه؟! هو شكور، إذا رق قلبك لله عز وجل رأيت من الآيات البينات ما لم تجر به العادات. قال الغلام: رب اكفنيهم بما شئت، فارتج بهم الجبل، فسقطوا ورجع هو، فالله عز وجل يستخدمه، وإلا كان من الممكن أن يهرب ويذهب إلى أي مكان آخر، لكن رجع للملك، ونسأل الله عز وجل أن يستخدمنا في طاعته.

بيان أن كل ابتلاء بعده نصر

بيان أن كل ابتلاء بعده نصر لو أن الملك ترك الغلام يدعو إلى الله والراهب يدعو إلى الله والجليس يدعو إلى الله هل يمكن أن يجعلوا هذه الجماهير كلها تؤمن؟ أبداً، لكن انظر إلى الله عز وجل كيف يستدرج! ولو تركهم لعلهم لا يصلون أبداً إلى هذا العدد؛ لذلك لحسن ظنك بالله قل: من المحن تأتي المنح، إذا ابتليت فاعلم أن وراء الابتلاء نصر. عندما قامت الحرب بين البوسنة والكروات والصرب؛ قلت في خطبة من الخطب: إن هذا الذي يحصل على أرض البوسنة من فضل الله ورحمته رغم هذا المنظر المؤلم المفجع، وهذا القتل الذريع الجماعي إلا أنه منة من الله. فجاء جماعة وقالوا: كيف تقول مثل هذا؟ أنت تفرح بقتل المسلمين! قلنا: لا يا جماعة، المسألة ليست كذلك، لكن تعالوا ندرسها دراسة بسيطة: البوسنة هذه جزء من يوغسلافيا السابقة، والتي ظل أهلها سبعين عاماً تحت الحكم الشيوعي، أي: أن الرجل الذي عمره سبعون سنة فيهم رضع الشيوعية تماماً، لم ير الإسلام ولا دعاة الإسلام؛ لأنهم قتلوهم. إذاً تصور أن البوسنة أخذت استقلالها، وأصبحت دولة إسلامية، ونحن أحببنا أن نرسل دعاة إلى البوسنة لكي يدعوهم إلى الله، وذهبت كتائب من الدعاة إلى البوسنيين هل كانوا سيعودون بنتيجة؟ {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، يقولون له: ما هذا يا أخي؟! أنت جئت لتزرع التفرقة العنصرية؟! بعضهم تزوجوا من بعض فالولاء والبراء بين النصرانية والإسلام انمحى تماماً، لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، ولا يعرفون شيئاً عن النصرانية، حصل لهم مسخ على مدى التاريخ. ولهذا أنت تحتاج إلى جماعة من الدعاة يسمعونهم أن هؤلاء طالما ليسوا على ملتكم فهم أعداءٌ لكم، ومع ذلك لن يقتنعوا، فالله سبحانه وتعالى اختصر لنا الطريق لكي يغزو الإسلام أوروبا. هم صنعوا هذه المجزرة العظيمة خشية أن يغزو الإسلام أوروبا من البوسنة، وقتل في هذه المجازر معظم الذين رضعوا الشيوعية. فمن الذي بقي؟ الأولاد الذين استيقظوا على هول المحنة، فهي التي أنقذتهم وعندما يقرأ القرآن: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كما كفروا} [النساء:89] صدق الله! رآها بعينيه. دمعت عيني عندما قرأت قصة المرأة المسلمة التي نقلتها وكالات الأنباء، ومفادها وغداً نصرانياً ابن ثلاث وعشرين سنة زنى بها، وعمرها ستون سنة فهي تبكي وتقول: أنا التي أرضعته! أنا التي أرضعته! فهذا الذي جرى على أرض البوسنة نعمة، وإن كان ظاهرها المحنة، فالجيل الموجود صار عنده ولاء وبراء، بدأ يأخذ الإسلام من منابعه. وعندما ذهب العرب ليجاهدوا في البوسنة كانوا إذا رأوهم يقولون: هؤلاء أولاد الصحابة. كانوا يعظمونهم غاية التعظيم، لأنهم يعتقدون أن هؤلاء هم أولاد الصحابة. لو أن العرب ذهبوا إلى البوسنة ولم تحصل هذه المجزرة هل سيقولون: أنتم أولاد الصحابة؟! أنت إذا نظرت إلى الظاهر لا تأخذ به، واعلم أن الله تبارك وتعالى يخرج الحي من الميت، فعندما قال الجماهير: آمنا بالله رب الغلام، صدم الملك! مفاجأة ما توقعها! وقيل له: وقع والله ما كنت تحذر! حسناً: ماذا أفعل؟ حفر الأخاديد على أفواه السكك -والأخاديد: هي الحفر العظيمة- وأضرم فيها النيران، وبدأ يعرض الناس على هذه الأخاديد، فمن آمن برب الغلام قذفه فيها، نسأل الله العافية! حتى جاء دور الأم مع رضيعها، فكلما همت أن تقذف نفسها في النار ذكرت ولدها الصغير فرحمته وتقاعست فأنطقه الله فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق. وفي الرواية الأخرى ولكن سندها ضعيف: قال لها: قعي ولا تقاعسي. (قعي): يعني احبسي نفسك ولا تتأخري، كجنة إبراهيم عليه السلام: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. خلاصة هذه القصة: أنك إذا بذلت نفسك لله لا يضيعك حتى في الدنيا فلم الفرار؟! وهذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسورة البروج كلها إنما نزلت في أصحاب الأخدود: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، وفي قراءة أخرى ذكرها المفسرون: (النار ذاتِ الوُقُودِ)، الوُقُود: شدة الاتقاد والاشتعال: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] سبحان الله! تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها إنسان يقول لآخر: يا ابن الأصول. وهل هذه الكلمة تغضب؟ قديماً -ومازال حتى الآن- إذا أراد شخص أن يسخر من شخص ملتح، يقول له: يا سني! فيغضب، لماذا تغضب؟! هو ينسبك إلى السنة! وكشخص يقول لآخر: يا ابن الأصول! فعندما يقول لك: يا سني. هذا شرف لك، من أنه نسبك إلى السنة. وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي لما حصلت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير، وأنتم تعلمون أن أم عبد الله بن الزبير هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وكانت قد عميت، وكانت تلقب بـ ذات النطاقين، فـ الحجاج بن يوسف كان يقول له: يا ابن ذات النطاقين يعيرها فقال: عبد الله بن الزبير: تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها لو أنك تعلم لماذا سميت ذات النطاقين لعرفت عظم هذه التسمية، إنما لقبت بذلك؛ لأنها قطعت نطاقها من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حاملاً، وكانت تصعد الجبل لتحمل الطعام والشراب إلى رسول الله وأبيها في الغار. فلماذا تعير بها؟! فأنت إذا ابتليت في الله تبارك وتعالى فاصبر، وهذا هو أعظم الدروس المستفادة، بل هو محور الارتكاز للثبات على السنة: أن من ابتلي في الله فصبر رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زيارة النساء للقبور

حكم زيارة النساء للقبور Q ما حكم ذهاب المرأة لزيارة القبور؟ وهل يجوز للمرأة الذهاب إلى العزاء في بيت أختها المصابة؟ وقد ذكرت أن مالك بن أنس هو إمام أهل السنة والحديث، فهل هو مالك أم أحمد؟ A كلهم أئمة، ولذلك أنا أردفت هذا الكلام بقولي: هذا رأي عبد الرحمن بن مهدي، وإلا فـ سفيان الثوري إمامٌ في الحديث والسنة، والأوزاعي إمامٌ في الحديث والسنة، ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق بن راهويه وكذلك سفيان بن عيينة كلهم أئمة، وهناك كثير من العلماء أئمة في الحديث والسنة؛ لكن هؤلاء أظهرهم. أما بالنسبة لزيارة المرأة للقبور، فهو جائز إذا التزمت المرأة بالآداب الشرعية، وليس هناك دليل ينهض على منع المرأة من زيارة القبور. فحديث: (لو بلغت معهم الكدى) هو حديث منكر، والحديث الآخر: (لعن الله زوارات القبور) يمكن توجيهه مع الأحاديث الأخرى، من قوله: (زوارات) أي: الكثيرات الزيارة. وإلا فقد ثبتت الأدلة القاطعة بجواز أن تزور المرأة المقابر، منها هذا الحديث، (ماذا أقول يا رسول الله إذا مررت بالقبور؟)، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، وأصل الخطاب موضوع للرجال والنساء معاً، ولا يجوز التفريق إلا بدليل. ومن جملة هذا الحديث (وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي). فربما قال إنسان: قد يكون الأمر بزيارة القبور بعد النهي عنها خاصاً بالرجال. نقول له: لا؛ لأن ادخار لحوم الأضاحي للرجال والنساء معاً، وقد جاء الأمران في سياق واحد. وأيضاً الحديث الذي في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأةٍ تبكي عند قبر جديد، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري) إلى آخر هذه الأحاديث، لكن إذا التزمت المرأة بالآداب الشرعية فلا بأس بالزيارة عند ذلك. والله أعلم. أما مسألة الاجتماع للعزاء -الاجتماع في أوائل المصاب- فأقول: لا يجتمعن في كل يوم لئلا يجددن المصاب، لكن المرأة تذهب إلى أختها لتعزيها في مصابها، فهذا من السنة.

نصيحة في عدم الوعظ بالأحاديث الموضوعة

نصيحة في عدم الوعظ بالأحاديث الموضوعة Q نرجو معرفة صحة حديث: (أن الرجل المشعر يكون فمه واسعاً، والمرأة المشعرة عكس ذلك). A لا. هذا ليس بحديث، هو من الأحاديث التي ابن الجوزي نفسه لا يعرفها! ابن الجوزي صاحب كتاب الموضوعات، ألف كتاباً جمع الموضوعات فيه، وهذا أحد الناس بعث لي حديثاً يقول عنه: ما درجة هذا الحديث (من أحبني فليذكرني عند أكل الفجل). قلت: ما هذا البلاء عند هذا الرجل؟! هذا لم يشم رائحة الحديث ولو مرةً في حياته، لا أعرف كيف هذا بعث لي هذا السؤال! وهل هذا الحديث فعلاً موجود أم أنه هو الذي ألفه لأن هذا حديث عجيب؟! ذات مرة كان هناك شخص يلقي درساً في المسجد، فيقول في كلام له: حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يا داخل ما بين البصلة وقشرتها ما نابك إلا صنتها) رجل من العوام كان في المسجد يعظ الناس والظاهر أن هذه كانت أول مرة يعظ في حياته -فاستمر يتكلم ويتكلم، حتى قال: إن الله يقول: (اسع يا عبدي وأنا أسعى معك) وهذا من الكلام الذي يرددونه. ويمكن أن يجد الإنسان الحديث الموضوع موافقاً لمعان موجودة في الحديث الصحيح. فمثلاً حديث: (من أخذ مالاً من مهاوش أذهبهُ الله في المهالك). من مهاوش: من حرام، (أذهبه الله في المهالك) أي أنه يضيع عليه، فهذا المعنى موجود في نصوص الكتاب والسنة، فإن الله عز وجل لا يبارك في الحرام أبداً، قد يكون كثيراً لكنه لا يغني صاحبه ولا يرد حاجته. أما جماعة التبليغ فنحن ننصحهم نصيحة في الله عز وجل، أن يحتاطوا من الموضوعات، فإن أكثرهم يعيش على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومادة الوعظ والإرشاد عموماً. يغلب عليها ذلك -فليس هذا خاصاً بإخواننا من جماعة التبليغ- بل إن، أكثر أحاديث الترغيب والترهيب فيها الأحاديث الضعيفة والموضوعة وعلى المسلم إذا قرأ حديثاً أن يكون لديه تمييز، فما ذكره السائل -مثلاً- لا يمكن أن يكون حديثاً. كالحديث الآخر الذي هو: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير!!) لا تظنوا أن هذا غير موجود، بل هو موجود وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث: (الهريسة تشد الظهر!) ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وحديث (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) والمشمش طبعاً؛ لأنه إذا كان ربيع الأمة في العنب فليس لها ربيع إذاً. فيجب أن نتحرى نسبة الكلام للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، قال ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتاب "المجروحين": (إن الذي يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو لا يقصد ذلك- داخلٌ في جملة الكاذبين)، وأورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني حديثاً وهو يَرى -أو: يُرى- أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن) أو (هو أحد الكاذبِين). وأنا أقول لكل مسلم نقول: اعرض جملة أحاديثك على من تثق بعلمه ومكانته في هذا العلم، كلما تقابلت عالماً فاسأله عنها أو عن بعضها الجزء المحفوظ عند أغلب الناس تجده إما ضعيفاً أو موضوعاً، أو ليس على وجهه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم.

معاناة بعض النساء الملتزمات من آبائهن وأمهاتن ثم ممن يتقدم لخطبتهن

معاناة بعض النساء الملتزمات من آبائهن وأمهاتن ثم ممن يتقدم لخطبتهن Q فتاة تشكوا محنتها مع أسرتها، فأبوها وأمها يمنعانها من الخروج منتقبة، وهي ترفض ذلك، وقد تقدم لخطبتها شاب، لكنهم غير ملتزمين، ولم يتقدم لخطبتها إلى الآن شاب ملتزم. A هذه الشكوى ليست جديدة، أنا سمعتها بأذني ووصلتني أيضاً في رسالة. يا إخوة: نحن في جهاد وفي حرب! يجب أن ينحاز الغريب إلى إلفه، هي غريبة ترفع شعار الغربة وهو النقاب، وأنت غريب أيضاً ترفع شعار الغربة ومضطهد، ألا ينحاز الغريب إلى غريبه والإلف إلى إلفه في زمان الغربة؟! هنا الولاء. ومن المشاكل التي أحزنتني جداً: أخت منتقبة عمرها ثلاث عشرة سنة مرتدية النقاب، وأهلها يجبرونها على خلع النقاب فتأبى، فحبسوها، منذُ سبعة أشهر وما نزلت من البيت، وترضى وتقول: أنا أرضى بذلك، كل الذين يأتون لخطبتها يشترطون أن تخلع نقابها. لماذا تشترط ذلك؟! المختمرات يملأن الشارع، لماذا تأتي إلى امرأة غطت وجهها فتلزمها بكشف وجهها؟! اذهب إلى أخرى تكشف وجهها! فالذي يشترط هذا لا يؤتمن عليه. إن كان منذ البداية يقول لك: اخلعي هذا النقاب، فلا يؤمن أن يقول: اخلعي الحجاب. يقول بعضهم: إن المتنقبة شكلها عدوانية بالنقاب، وما أعجبتني ويتكلم بهذا الكلام، وهذا لا يجوز. هؤلاء الأخوات الفاضلات إذا لم يتقدم إليهن أحد، فمن يتقدم؟ هناك بعض النساء تفتتن، إذا رأت المسألة مسألة جمال تتزين وتخرج إلى الشارع، فتبدو جميلة لبعض الناظرين. فأنتم -يا إخوان- لا بد أن تعرفوا حقيقة الوضع الذي تعيشون فيه، أنتم غرباء! إن الجمال -مهما كان- يزول بالعشرة، ما له قيمة، المرأة لو كانت أجمل امرأة في الدنيا فبرتابة العيشة يصير جمالها عادياً، قد تنبهر بها أول مرة وثاني مرة وثالث مرة ورابع مرة لكن في عاشر مرة لا، بدليل أن الطعام الذي تشتهيه وتحبه لو أكلت منه شهراً كاملاً تمله وتكرهه؛ لأن هذه هي عادة الإنسان. فأنا أرجو أن يظهر إخواننا الولاء لله عز وجل ورسوله، لا نترك الأخوات بهذه الصورة يا إخوة. وبهذه المناسبة نحن ندعو للتعفف: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). الأخت الفاضلة تدخل السعادة على أخت أخرى تنشد السعادة وتبحث عنها، فما هو المانع -إذا كان زوجك عنده القدرة على أن ينفق، وعنده القدرة على الباءة- ما المانع أن تشركي في هذه السعادة أختاً أخرى؟! فالمهاجرين والأنصار لما دخلوا في الإسلام كان الرجل الأنصاري يتنازل عن أجمل نسائه لأخيه، وهذه كانت غريبة جداً في العرب، كانت عندهم غيرة عجيبة، ومع ذلك كان يأتي إليه ويقول: اختر أجملهن فأطلقها وتتزوجها. فنحن نريد في هذا العصر أن نرجع مثل هذا الخلق. نسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً. مداخلة: وإذا كان عندهم مال فليزوجوا غيرهم! هذا اقتراح وجيه، فلو أن الرجل زوج بهذا المال رجلاً آخر فلا مانع، لكن لابد أن نراعي محبة المرء لنفسه، فهناك بعض الناس ليست عنده القدرة ولا الشجاعة ولا الجرأة أن يخرج عشرة آلاف جنيه مثلاً، وصعب عليه بذلها ليزوج بها غيره، مع أنه يمكن أن ينفقها على ملذاته وشهواته. فنحن الآن نتعامل مع واقع، فلا ينبغي أن تكون الفتوى في واد، وما هو كائنٌ في واد آخر، المفروض أن تكون الفتوى متماشية مع الواقع. رجل لا يستطيع أن يفعل هذا، فالحل الآخر أن يقوم هو مقام الرجل الآخر. أن يعطى الإنسان رجلاً مالاً لكي يتزوج، لا بأس بذلك، لكن إذا لم يستطع ذلك فليتزوج هو، فيكون قام مقام الرجل الآخر الذي تزوج. وأيضاً نحن لدينا إحصائية خطيرة جداً: أن عدد النساء يكاد أن يصل إلى ضعف عدد الرجال، عدد المطلقات ثلاثمائة ألف امرأة مطلقة في مصر، مطلقات لهن أولاد وبعض المطلقات لا يجدن الأكل -والله لا يجدن الطعام- وبعض الأفراد يقول: إننا لا نرغب في الزواج فأقول لهم: هناك من النساء من يقلن: فليتزوجني ولا يقسم لي، لكن يطعمني وأولادي. عندما تصل مثل هذه الرسالة وتسمعها أخت مسلمة، كيف تصبر وتنام وهي هانئة أنها مسيطرة على هذا الرجل؟! فلم لا تشرك أختها المسلمة في هذه السعادة؟! لأنها يمكن أن تكون هي نفس المرأة التي تشتكي، يموت زوجها أو يطلقها، معها أولاد! أبوها فقير! وربما قال لها: أنا ما لي علاقة بأولادك، فتضطر المرأة إلى العمل، وتمتهن نفسها أو تتزوج ويسترها رجل. فنحن نقول لأخواتنا المؤمنات: عليهن أن يرتقين بهذا الإيمان وهذا الخلق، قال الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

معيار الاختيار للزوجة

معيار الاختيار للزوجة Q إني شابٌ مقبل على الزواج، وإني أرغب الزواج بامرأة تكون على خلق ودين وتكون جميلة، هذا ما أرغب به في الفتاة التي أرغب الزواج منها، ولكني وجدت فتاةً على خلق ودين، ولكنها متوسطة الجمال، فهل أتنازل عن أمر الجمال أم أبحث عن غيرها حتى لا أندم بعد ذلك؟ أرجو الجواب. A تحضرني قصة لرجل كان قد أرسلها لجريدة الجمهورية من سنوات طويلة، يقول: كنت أعمل في بلدة من الدول العربية، وجئت فنزلت شارعاً أشتري شيئاً، فرأيت فتاةً بارعة الجمال سلب جمالها لبي، فمشيت وراءها حتى دخلت دارها، فما إن دَخَلَتْ حتى طَرَقْتَ الباب، فقلت: إني أريد أن أتزوج هذه الفتاة. وقال: أنا مشيت في الشارع، ورأيتها هذه امرأتي التي أبحث عنها. فالمهم: دخل واشترطوا عليه من المهر كذا وكذا، وفعلاً تزوجها. كانت باعث مشكلته، يقول: إن هذه المرأة أنفق عليها كل مدخراته، ورغم أنه وحيد أمه إلا أنها من أول يوم تغسل ملابس أمه مع ملابسها. الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك). هذا خبر، بمعنى أن الناس يراعون هذه المسائل الأربعة في نكاح النساء، فمنهم من ينكح المرأة لجمالها ومنهم من ينكحها لحسبها وأخرى لنسبها وأخرى لدينها فقال صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). وذات دين جميلة أفضل من ذات دين فقط، ذات دين جميلة وغنية أفضل من ذات دين جميلة فقط، وهكذا! الدين هو الأصل، وكلما كانت هناك خصلة أخرى تضمها إلى الدين، كان أفضل من الدين وحده، هذا لا شك فيه عند العلماء؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (تربت يداك): هذا تعبير يحتمل المعنى بالضد، (تربت يداك): بمعنى افتقرت، ولكن السياق هو الذي يحدد المعنى. وأم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أتحتلم النساء؟ فقالت أم سلمة: فضحت النساء يا أم سليم، أو تحتلم المرأة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك. ! فبم يشبهها ولدها) فأثبت احتلام المرأة، فقال العلماء: (تربت يمينك) افتقرت، وهي كلمة دعاء لا يقصد بها الدعاء بذاته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ (ثكلتك أمك) ما قصد الدعاء عليه أن يموت أو أن تثكله أمه، وإنما هي كلمة تجري على اللسان، وكقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) وهذه الكلمة تجري على اللسان. (تربت يمينك) أو (تربت يداك) بمعنى: افتقرت، وقد تأتي بمعنى النماء والبركة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) فهي في هذا الحديث بمعنى: النماء والبركة، أي: فاظفر بذات الدين تعلقت يداك بالبركة ولا يمكن أن تكون (تربت يداك) بمعنى: افتقرت أبداً؛ بدليل كلمة (اظفر) ولا يمكن أن يقول له: اظفر بالفقر أبداً، وإنما اظفر بذات الدين. فإذا لم تجد بُداً، ووجدت أن المرأة ذات الدين ليست جميلة، فأنا أنصحك أن تتزوجها. واسمع هذه القصة: أرسل الإمام أحمد رجلاً يخطب له امرأة، فخطب امرأة ولها أخت، وهذه الأخت كانت عوراء، فجاء الإمام أحمد، وقد علم الرجل أن الإمام أحمد سيتزوج تلك المرأة، وكانت أختها العوراء تجلس بجانبها، فالإمام أحمد أشفق عليها، وقال له: لا أريد هذه، اخطب لي تلك العوراء، وخطب العوراء، وأنجب منها الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل راوي المسند، الإمام الكبير الثقة. والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه، فليأتِ أهله؛ فإن معها مثل الذي معها) هذه هي القضية، إذا قضى الرجل حاجته، استوى عنده أجمل النساء وأقبح النساء. وهذه حقيقة أقولها، وأنا ما عرفت هذا الكلام إلا من شكاوي إخوة كانوا يقولون: إن الغالب على الأخوات الملتزمات عدم الجمال المبهر، فأقول: إنه الجمال نسبي، بمعنى أن المرأة القبيحة في بيتها إذا تزينت رأيت منها جمالاً. أما الجمال الصارخ على حد قول من يقول: لم يره الشارع؛ فإن الله عز وجل يعطيك من المرأة العفيفة ما هو أفضل وأجمل وأرضى لنفسك منه. فلا تترك ذات الدين لأجل الجمال، واعلم أن الجمال نسبي، وأن الرجل إذا قضى حاجته يستوي عنده أجمل امرأة مع أقبح امرأة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله؛ فإن معها مثل الذي معها) البضع واحد، فلذلك أنا أنصح هذا الأخ ألا يقف كثيراً عند مثل هذا الشرط. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم بذات الدين.

من أحكام الهجر

من أحكام الهجر Q هناك أخوان شقيقان وهما من طلبة العلم، وبينهما شحناء بسبب المال، وقطيعة الرحم متسمرة بينهما بحيث لا يرى أحدهما الآخر، ولا يزوره ولا يقابله ولا يسلم عليه، أي أن الأول يهجر الثاني، والثاني أيضاً يهجر الأول، وهما على هذا منذ عام ونصف. أرجو أن تقدم نصيحة لهذين الأخوين. A النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل لرجلٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام). قال العلماء: لا يحل ذلك إذا كانت الخصومة للدنيا، أما إذا كانت للدين فيجوز أن تستمر ولو سنين، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه خمسين ليلة، فإذا كان الهجر من أجل الدين، كأن يكون الرجل مبتدعاً أو فاسقاً أو مرتكباً للمعاصي، فيجب عليك أن تعظه وأن تأخذ بيده، حتى إذا بان لك أنه لا يرجع إلا بالهجر، هجرته ولو امتد ذلك لأشهر، ولو امتد ذلك لسنوات. لكن إذا كان الهجر بسبب المال -كما يقول الكاتب في هذه الورقة- فإن ذلك لا يجوز. أخوك -أيها الأخ الكريم- أغلى من المال، ولو أنت فضلت المال على أخيك فأنت بعته برخص، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، ويؤسفني أن يكونا من طلاب العلم، هذا ليس من خلق طالب العلم، إن النبي صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه، وقال: (من كان له مظلمة فليقتص). أيها الأخ الكريم: كن خير الرجلين كما يقول صلى الله عليه وسلم: (يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). أسأل الله عز وجل أن يقوي بينكما ما وهى من روابط الإيمان اللهم آمين.

الأحاديث الموضوعة وحرمة نشرها

الأحاديث الموضوعة وحرمة نشرها Q ما حال حديث إبليس طرق الباب على النبي صلى الله عليه وسلم: A هذا حديث بكل أسف وجدته في أكثر من موضع، يسمونه حديث إبليس، ويقولون: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجانبه عائشة رضي الله عنها، وإذا بالباب يقرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعلمون من بالباب؟ قالوا: الله أعلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو إبليس اللعين. فقال: عمر بن الخطاب: ائذن لي بقتله يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر! هذا من المنظرين). وهو موضوع مكذوبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن بعض الناس يتبرعون في نشر هذا الحديث! وهذا لا يجوز، فلا يحل لأحد أن يوظف ماله لنشر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم؛ فأي رجل يعرض عليه حديث مثل هذا الحديث ينبغي عليه أن يسأل أحد العلماء بالحديث: أهذا صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لأن الترويج لهذا الكذب لا يحل والكذب على النبي عليه الصلاة والسلام من أعظم الجرائم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وشبيهٌ بهذا الحديث -حديث إبليس- كتيب وجدته يوزع مجاناً على أبواب المساجد، وهو عبارة عن قصة مفتراة مكذوبة تهدم أركان الإسلام بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وينسبونها للصحابي الذي لم يخلقه الله تبارك وتعالى يسمونه: عبد الله بن السلطان، هذا الشخص ما هي حكايته؟ قالوا: كان هذا الرجل فاجراً وزانياً وداعراً، يأكل الربا، ولم يكن يصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبغضه! هذا حيناً يأكل الربا وحيناً يزني والرسول لا يقيم عليه حداً فلم إذاً يغضب منه؟! فالمهم لما مات جاء ابنه وقال: يا رسول الله! إن أبي مات، تعال وصل عليه. فقال له: كيف أصلي عليه وقد كان يفعل ويفعل ويفعل؟! قالوا: وإذا بالأمين جبريل ينزل من السماء ويسد السبع الطباق إلخ، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تصلي على عبد الله بن السلطان ما هذا الكلام؟!! هو مأمور، ولا بد أن يفعل ما أمر به، صل عليه إذاً يصلي، وقال: الأمر لله. ! امض وادفنه. فحين أتى ليدفنه، وجد الحور العين يقفن بكئوس العصير والزنجبيل والكافور وغير ذلك، وكل واحدة تقول له: يا عبد الله خذ مني. ! يا عبد الله خذ مني. ! فالنبي صلى الله عليه وسلم اندهش ما هذا الذي يحصل؟!! فانظر كيف يظهرونه بمظهر الجاهل الذي لا يعرف شيئاً، مندهش! لا يدري ما الذي يحصل! بعد ما دخل ورأى الحور العين، ذهب فطرق الباب على امرأته فالمرأة سمعوا صوتها وهي تقول: من الفاسق الذي يطرق الباب؟ قالوا لها: يا أمة الله! اتقي الله! إنه رسول الله. فقالت: أهلاً برسول الله، وفتحت الباب له، تعظمه، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل ماذا كان يعمل. انظر كيف يصورون رسول الله! هل يعقل أن رسول الله يأتي بهذا الكلام؟! الذي يعلم الخلق كيف يتقربون إلى الله، يظهرونه بمظهر الجاهل الذي يسأل ولا يعرف ماذا يعمل هذا الرجل، وخصوصاً أن الرجل كان فاجراً داعراً زانياً آكل ربا! وتجد من المسلمين من ينشر هذا الغثاء، ويظن أنه حديث! قالت: يا رسول الله! هذا كان صفته كذا وكذا غير أنه -وهذا مربط الفرس الذي كان يريد أن يصل إليه- كان إذا جاء أول يوم في رجب دعا بهذا الدعاء -وذكروا الدعاء في أربع صفحات- فهو يفعل كل تلك المنكرات، وحين يدخل رجب يدعو بهذه الأربع الصفحات وانتهى الأمر! وقالوا في هذه الرواية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما سمع هذا الكلام قال: (من أراد أن يأخذ أجر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد فليقرأ هذا الدعاء) انظر إلى هذا الكلام!! هل هناك مسلم في الدنيا عنده أبجديات الإسلام ينشر هذا الكلام؟! وهل هناك مسلم يعتقد أن هذا من دين الله، ويبتغي الأجر من الله عز وجل لأنه ينشر هذا الكلام؟! على لسان الرجل القاتل، والذي كان الناس يؤجرونه لكي يقتل القاتل، فهم يذكرون أن هناك امرأة قُتِلَ زوجها، فذهبت إليه وقالت له: أنا أريد منك أن تقتل فلاناً الفلاني، قال لها: وكم تدفعين لي؟ قالت له: أنا مسكينة وفقيرة، وليس لدي مال فرق قلبه وقال: سأقتله لوجه الله!! يعني: أنا لن آخذ مالاً، أنا سأقتله لوجه الله، وأتقرب إلى الله عز وجل بقتله. !. لذلك يا جماعة إذا كان هذا الحديث معلقاً في المساجد فمزقوه، لا يجوز أن يبقى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقاً في المساجد.

حكم رفع اليدين للدعاء يوم الجمعة للمؤمنين بعد الخطيب

حكم رفع اليدين للدعاء يوم الجمعة للمؤمِّنين بعد الخطيب Q قلتم: إنه لا يجوز للخطيب أن يرفع كلتا يديه في الدعاء، هل يجوز رفع اليدين لغير الخطيب؟ A نعم، ولكن ليس في خطبة الجمعة، فالإنسان إذا دعا الله تبارك وتعالى يجوز له أن يرفع يديه.

حكم رفع اليدين في القنوت

حكم رفع اليدين في القنوت Q هل يجوز رفع اليدين في القنوت؟ الشيخ: نعم، ترفع، تبعاً للإمام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) لأنه لا يجوز أن يخالف الإمام.

حكم دعاء القنوت في صلاة الفجر

حكم دعاء القنوت في صلاة الفجر Q ما حكم دعاء القنوت في صلاة الفجر؟ A الذي نعتقده -وهو المذهب العلمي الراجح الآن- أن الدعاء في قنوت صلاة الفجر بدعة، والاستمرار عليه بدعة، وذهب الشافعية إلى سنيته لأدلة عندهم محتملة، ولكنها مرجوحة عند بقية أهل العلم، فقالوا باستحباب القنوت -باستمرار- في صلاة الفجر. فنحن نقول رعاية لهذا الخلاف: إذا كنت إماماً فلا تقنت في صلاة الفجر، ولا ترفع يديك ولا تدع، لكن إذا كنت مأموماً، فرعاية لهذا الخلاف عليك أن ترجع إلى الأدلة العامة، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). والعلماء يراعون الخلاف إذا كان الدليل محتملاً. فمثلاً: امرأة تزوجت على مذهب أبي حنيفة بغير إذن الولي، الذي عليه جماهير العلماء غير الأحناف أن النكاح باطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل). والأحناف يضعفون هذا الحديث -وهو صحيح لا ريب فيه- ويأخذون في هذه المسألة بظواهر الآيات، لكن إذا جاءتنا امرأة فقالت: أنا تزوجت بغير إذن الولي، نقول: النكاح باطل. فهل نقول عن: الأولاد: أولاد زنا؟ نحن نقول: ليسوا كذلك رعاية للخلاف الوارد في المسألة، وهذا بابٌ دقيق، وليس فيه تمييع للأدلة كما قد يظن بعض الناس، ويحتاج توضيح ذلك إلى محاضرات، وأغلب الإشكال يأتي من الإجمال، لكن يكفيكم العنوان: أن رعاية الخلاف معتبرة عند العلماء، لاسيما إذا كان ظاهر الدليل فيه ترشيح وترجيح للقائل بالقول الآخر. ولا نستطيع أن نقول: إن الأولاد أولاد زنا؛ إذا قلنا: أولاد زنا، فينبغي أن يحد الرجل والمرأة، ولا طائلة لهذه الناحية من العلم على الإطلاق، حتى من المخالفين للأحكام، والإمام النووي له كلام جميل في هذا.

حكم قطع الصلاة لإجابة نداء الوالدين

حكم قطع الصلاة لإجابة نداء الوالدين Q هل كان على جريج العابد إجابة أمه عندما نادته؟ وهل يجب على الإنسان إذا ناداه والداه وكان يصلي النافلة أن يجيب؟ A الذي ذهب إليه أهل العلم -وهو الراجح أن الابن إذا كان يصلي النافلة وعلم أن الوالد يتضرر من الإبطاء في الإجابة، فعليه أن يقطع صلاته ويجيب، أما الفريضة فقالوا: لا يجيب، الابن أنه لو قال لوالده: كنت أصلي، لما توجع من ذلك، فينبغي له أن يستمر في صلاة النافلة.

إنما الأعمال بالنيات

إنما الأعمال بالنيات Q هل يجوز أن يقدم الإنسان على الدين رغبة في الحصول على غرض دنيوي، كأن يدخل رجل في الإسلام حتى يستطيع الزواج من امرأة مسلمة واشترطت عليه ذلك؟ A قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فإذا تزاحمت نيتان للعبد كان أسبقهما أولاهما، أي: يجوز التشريك في النية في بعض الأعمال، رجلٌ أراد الحج والتجارة، يقال: إذا قصد التجارة أصلاً ثم قال: وبعد ذلك نحج، كان له من نيته ما انعقدت عليه، إذا كان ذاهباً للتجارة وقال: أريد أيضاً أحج، مثل بعض الناس الذين يذهبون إلى هناك لكي يقودوا الحجاج في مناسك الحج، يقول لك: نذهب لكي نجمع لنا بعض المال أولاً ثم إذا يسر الله فسنحج. إذاً: النية هي مناط الأمر، فإذا تزوج رجلٌ امرأةً مسلمةً لا يستطيع أن يتزوجها إلا بالإسلام كان له ما نوى. فإن قال قائلٌ: فما تقول في قصة أبي طلحة حين خطب أم سليم، فقالت له أم سليم: يا أبا طلحة ما مثلك يرد، لكنك امرؤٌ كافر وأنا مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري لا أسألك غيره. فقال: وكيف لي بذلك؟ قالت: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، فـ أبو طلحة إنما أسلم ليتزوج أم سليم وهذا هو السبب الظاهر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا طلحة قادماً قال: (جاءكم أبو طلحة وغرة الإسلام في وجهه). فقد أسلم وآمن، ثم ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشهر إسلامه ويتزوج، فالنية الغالبة على أبي طلحة إنما هي الإسلام، إذاً: الراجح في المسألة هو أصدق النيتين وما انعقد عليه القلب.

الداعية إلى الله لا يتخلى عن دعوته مهما اشتدت الصعاب

الداعية إلى الله لا يتخلى عن دعوته مهما اشتدت الصعاب Q هل يستفاد من قصة الغلام ورجوعه إلى الملك أن ذلك موافق لقوله تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]. A هذه الفائدة محتملة؛ لكن قد يكون التقدم مصيبة على المسلمين ويكون الرجوع والتقهقر والانسحاب باباً من أبواب النصر (فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) المقصود: ألا تفر الفرار الكامل فيمكن أن تناور، ترجع إلى الخلف خطوة وتتقدم خطوات، أو ترجع خطوات لتتقدم خطوة، هذا كله من تكتيك الحر كما يقال ومع ذلك: هذه فائدة محتملة -جزاك الله خيراً- أن الرجل الذي يدعو إلى الله تبارك وتعالى لا ينبغي له أن يولي الأدبار، بمعنى: ينكث ويترك دعوته ويتخلى عن أدائها. والقصة فيها فوائد أكثر من ذلك، لكن الوقت ضيق.

ضعف حديث الاستياك بالأصابع

ضعف حديث الاستياك بالأصابع Q هل ثبت استعمال الأصابع في الاستياك قبل الصلاة؟ A لم يثبت ذلك، وحديث الاستياك بالإصبع رواه البيهقي وغيره، وهو حديث ضعيف والله أعلم. وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الدفاع عن السنة [1، 2]

الدفاع عن السنة [1، 2] يجب على كل عبد نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحقق معناها، ولا يتم تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله الله إلا باتباعه والعمل بسنته وقبول أحاديثه الصحيحة، ومحبته الصادقة قبل محبة النفس والمال والأهل والولد؛ وبهذا تنتصر الأمة على أعدائها، وتحتفظ بمكانتها.

تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله

تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد -كما تقول عائشة رضي الله عنها- حتى جاءه الوحي، فرجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده وقال: (لقد خشيت على نفسي). قالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً) -وفي الرواية الأخرى: وهي في بعض نسخ البخاري - قالت: (كلا والله لا يحزنك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان امرأً قد تنصر، وقرأ وكتب الكتاب العبراني، فلما قص عليه النبي عليه الصلاة والسلام ما جرى له في غار حراء قال: هذا هو الناموس الأكبر الذي نزل على موسى عليه السلام، ثم قال: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟ قال: نعم، ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي) يقول أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل -وهو الإسلام- قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فخالف كثيراً من أعراف العرب وأهواء الجاهلية، ولذلك رموه عن قوس واحدة، وجاء يقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا). فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة، ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها، وقتلت أشراف الناس فيها، وسُبيت النساء، وكان العرب أصحاب غيرة، إذاً هم فهموا معنى: لا إله إلا الله، وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لو كانوا لا يفهمونها كسائر جماهير المسلمين اليوم لقالوها، ولوفّروا على أنفسهم هذه الحروب المتطاولة، فقدوا كل شيء في هذه الحروب، فقدوا أنفس أنواع الرجال، فقدوا العقول الذكية الجبارة، وفقدوا أموالاً طائلةً كثيرة، وفقدوا نساءً وأولاداً وأطفالاً أيضاً كل هذا وهم يصبرون على منِّ الغلاصم ونهش الأراقم، ومتون الصوارم، والبلاء المتلاطم المتراكم، ولا يقولوا: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأن هذه الكلمة معناها نبذ الأنداد التي كان الناس يعبدونها، معناها توحيد الكلمة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:67]. كان العرب كما لا يخفى عليكم إن شاء الله تعالى يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجهلون أن الله هو الذي خلق الكون ودبر ورزق، وهو اللطيف الخبير، لكنهم أنكروا أن يكون إلهاً معبوداً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وما هو العجاب فيه؟ تفرد بالزرق تفرد بالخلق تفرد بالتدبير تفرد بالإحياء تفرد بالإماتة؛ فمناسب جداً أن يتفرد بالألوهية، تفرد بكل شيء، وينكرون أن يكون إلهاً، وجاء النبي عليه الصلاة والسلام بتقرير هذه الحقيقة، وكان ما كان مما أشرت إليه آنفاً من الحروب المتطاولة، فليتنا نفهم كلمة التوحيد كما فهمها أبو جهل! لو أن جماهير المسلمين اليوم فهموا كلمة التوحيد كما فهمها العرب الأوائل، حتى الذين ماتوا على الكفر منهم لتغير واقع المسلمين، أنت تقول وتردد خلف المؤذن يومياً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. أشهد: أرى؛ لأن الشهادة ضد الغيب، قال تعالى: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الزمر:46] فإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله؛ كأنك تقول: أنا أراه، فإذا تحققت لديك هذه الرؤية فلا يستطيع قلبك أن يقوى على مشهد العصيان أبداً، وفي الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أوصني، قال: أُوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك) أنت لا تجرؤ على أن تأتي بالفاحشة أمام الناس؛ إنما العاصي يغلق الباب والنافذة، ويحسن الغلق، فإذا شعر أنه في مأمنٍ عصى ربه، أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالح قومك، قد يجرؤ المرء على أن يعصي الله أمام فاجرٍ مثله؛ لكن أمام صالحٍ لا. فأنت إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أراه، والدين على ثلاثة أنماط: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أخص من جهة أهله، وأعم من جهة نفسه، يعني: تخيل الإسلام والإيمان والإحسان في دوائر ثلاثة متداخلة، أكبر دائرة هي الإسلام، والدائرة التي تليها في الصغر وهي بداخلها الإيمان، والدائرة التي تليها وهي بداخلها: الإحسان، فإذا خرج من دائرة الإحسان وقع في دائرة الإيمان، وإذا خرج من دائرة الإيمان وقع في دائرة الإسلام، وإذا خرج من دائرة الإسلام فلم يبق إلا الفضاء الواسع، وهو الكفر، فكل محسن مؤمن ومسلم، وكل مؤمنٍ مسلم وليس بمحسن، لا يشترط أن يكون محسناً، وكل مسلمٍ لا يُشترط أن يكون لا مؤمناً ولا محسناً، كلما كبرت الدائرة كانت أخص من جهة أهلها، وأعم من جهة نفسها، المحسنون من جهة أهلها أخص؛ لأنهم أقل الخلق، ولكن هو مؤمنٌ ومسلم، فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، كذلك الإيمان. في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه مسلم في حديث ابن عمر، ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) هو هذا معنى أشهد: أي أرى، أن تعبد الله كأنك تراه، ولكن ذلك متعسر، فإن لم تكن فإنه يراك. إن عجزت أن تكون محسناً في غاية الإحسان كأنك ترى ربك، وأنا معتقد يقيناً أن المرء إذا كان محسناً لا يجرؤ على العصيان أبداً، لا يقوى قلبه على العصيان، وتأمل في الصيام، يحقق أكثر الناس مرتبة الإحسان. قال الله عز وجل في الحديث الإلهي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) ونحن نعلم علماً ضرورياً أن الصيام للعبد، بدليل أنه إذا لم يكن عُذِّب، فالصيام للعبد أيضاً، فلماذا خصص الله هذه الشعيرة وقال: (إنه لي) ألم يمر بك يومٌ شديد الحرارة كمثل هذا الشهر والذي سبقه، وكادت عنقك أن تنقطع من العطش، وأنت وحدك في البيت، والماء المثلج أمامك وتحمل الماء، ويقترب الماء من فمك، ومع ذلك لا تجرؤ على الشرب، لماذا؟ مع أن المرء قد يرائي في الصلاة، وقد يرائي في الزكاة، وقد يرائي في الحج!! لكن في الصيام لا يستطيع أن يشرب مع شدة العطش، ووجود المقتضى الدافع على العصيان، وهو الانفراد وأن لا أحد معه، ومع ذلك لا يجرؤ على الشرب، هذا هو تحقيق مرتبة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا على سبيل التنزُّل. وأشهد أن محمداً رسول الله.

تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله

تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله معنى كلمة التوحيد أنني كما أفرد ربي بالعبادة ولا أشرك به أحداً، سأفرد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع كما أن الله واحدٌ لا شريك له في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا شريك له في الإتباع، وإذا اتبعنا عالماً بعده، إنما اتبعناه بقوله، فكل شيءٍ راجعٌ إليه في الحقيقة. وأشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك نصٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم من عالمٍ ثقةٍ عالمٍ بالصحيح والضعيف، فتيقن أن الذي يأمرك الآن هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذا أردت أن تحقق معنى (أشهد أن محمداً رسول الله) كأنك تراه، يعني في هذا الجمع الذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون جمعاً مباركاً، قد يوجد في هذا الجمع من يلبس خاتماً من ذهب أو دبلة من ذهب، ابتُلِي بذلك إما لضعف إيمانه، وإما لجهله، وأرجو أن لا يكون لهواه، المهم أنه يلبس الذهب، فإذا قلت له الآن: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الصحابة يوماً ومعه الحرير في يدٍ والذهب في يدٍ وقال: (هذان حرامٌ على ذكور أمتي، حل لإناثها) فأقول له: إن كنت ذكراً فاخلع الذهب؛ لأنه قال: (هذا حرامٌ على ذكور أمتي) فتوهّم وأنت تسمع هذا الحديث الآن أن الذي أمرك به هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يسعُك أن تتخلف، تخلع الذهب أم لا؟ يا من تلبس الذهب الآن، لو أنك واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام الآن، وقال: اخلع عنك هذا، قل لي بأمانة، أتخلع الذهب لو كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أمرك الآن؟ الذي أعتقده أنه سيقول: نعم. فأقول له: ما الذي جعلك تتباطأ حتى الآن ولا تخلع الذهب فور سماعك لهذا الحديث؟ لأنك لم تحقق معنى (أَشهد)، ما حققتها، لو اعتقدت أنه هو الذي أمرك ما أظنك تتخلف. وخذ هذا المثل العالي الذي رواه مسلم في صحيحه: (أن رجلاً كان يلبس خاتم ذهب، وجاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى الخاتم نزعه نزعاً شديداً وطرحه على الأرض، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يده، فلما همّ الرجل أن ينطلق؛ قال له بعض الجلوس: خذ خاتمك انتفع به قال: (لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله) لا يأخذه بعدما طرحه أرضاً، رغم أنه يجوز له أن يبيعه وينتفع به، لكن كبُر عليه أن يمد يده ويأخذه وقد طرحه النبي صلى الله عليه وسلم!!. فهلا خلعت خاتمك يا لابس الذهب بعد هذا الكلام بلا خجل؟ كنت عاصياً فرجعت، هذه منقبة ومحمدة، وهذه هي الهجرة الواجبة إلى أن تلقى ربك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأنت مهاجرٌ إلى الله كل يوم ما من معصيةٍ تدعها إلى طاعة إلا وقد تحقق لك رسم المهاجر وسمته، فأنت مهاجرٌ إلى الله عز وجل، فإذا خلعت هذا الذهب فاحمد الله أن نفسك حيَّة، وإذا لم تجرؤ على خلع الذهب فابك على نفسك أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: ما من نصٍ يصلني عن هذا النبي الكريم إلا وأعظمه وأُبجِّله كما لو كان هو الآمر به. وقد سُئِل تقي الدين السبكي رحمه الله كما في رسالته بيان قول الإمام المطلبي الذي هو الإمام الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) سُئل عن إذا كان رجل مثلاً يتمذهب بمذهب من المذاهب المشهورة، شافعياً كان أو حنفياً أو حنبلياً أو مالكياً أو ظاهرياً، وكان المذهب على خلاف الحديث أيترك المذهب للحديث؟ قال: نعم، طيب أيكون مخالفاً للمذهب؟ يعني: هو شافعي وجاءه نص بخلاف المذهب الشافعي، فأخذ بالحديث وترك المذهب، أيكون قد خرج عن كونه شافعياً؟ قال: لا، لأن الشافعي يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) فلو أن الشافعي وقف على ما وقفت لصار إليه، ثم قال: وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: افعل كذا وكذا أيسعه أن يتخلف؟ ما أظن أنه يجرؤ. ضرب الصحابة أروع الأمثلة في هذا الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان الواحد منهم شديد الحساسية، مرهف الحس. ابن عمر رضي الله عنهما سئل مرةً عن أكل لحم الغراب: أحلال أم حرام؟ فاستدل على تحريمه بحجةٍ عجيبة، فقال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟ من الذي تطيب نفسه أن يأكل الغراب والنبي عليه الصلاة والسلام سماه فاسقاً؟ هذا الحس العالي كان يسير حياة هؤلاء حتى في اختيار اسم ابنه سالم بن عبد الله بن عمر. روى الطبراني في المعجم الأوسط بسندٍ فيه لين أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان في مجلسٍ فيه عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله، فقال الحجاج لـ سالم: خذ هذا السيف، وخذ هذا الرجل واضرب عنقه على باب القصر، فأخذ سالم السيف وأخذ الرجل ووصل به إلى الباب ثم قال له سالم: هل صليت الصبح؟ قال: نعم، قال: فخذ أي طريق شئت -اهرب بجلدك- ثم رجع سالم إلى الحجاج بسيفه، فسأله الحجاج أقتلت الرجل؟ قال له: لا، قال: لم؟ قال: إني سمعت أن أبي هذا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) ما أستطيع أن أجور على رجلٍ في ذمة الملك، هذا في ضمان الملك، وفي حماه ما أستطيع، والحجاج مع أنه كان غاشماً وظلوماً، لكنه أحياناً كان يقف، عنده أشياء تنم عن دين، فمثلاً مرة طلب القبض على رجلٍ فلم يجدوه، فقبضوا على أخيه، أول ما قبضوا على أخيه هدموا داره، ومنعوا عطاءه من بيت المال، وحلَّقوا على اسمه (أي: وضعوه في القائمة السوداء، كلما يقبضوا على الناس يأخذوه) فالرجل قال: أريد أن أكلم الأمير. أوصلوه إلى الحجاج، قال: أيها الأمير! طلبتم القبض على أخي فلم تجدوه، فقبضتم علي وأنا مظلوم، هدموا داري، ومنعوا عطائي، وحلّقوا على اسمي، فقال له الحجاج: هيهات أولم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرةٍ ونجا المقارف صاحب الذنب فقال: أصلح الله الأمير، فإني سمعت الله يقول غير ذلك! قال: وما يقول الله؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:78 - 79] فحينئذٍ أطرق الحجاج، ثم صفق بيديه وقال: علي بفلان، وهو قائد الشرطة فقال له: ابن لهذا داره، ومر له بعطاه، وامح اسمه، ومر منادياً ينادي أن صدق الله وكذب الشاعر. فيقول سالم: إن أبي هذا حدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) فعقّب عبد الله بن عمر، وقال لابنه: (كيس) يعني ذكي تفهم، (إنما سميتك سالماً لتسلم)، هذا الشاهد: (سميتك سالماً لتسلم)، كل شيء في حياة هؤلاء الصحابة كان يحركه الاتباع. فأنت إذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: لا يصلك عنه كلامٌ صحيح على لسان رجلٍ أمينٍ ثقةٍ إلا وتعتقد أن هذا الرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرك، ما أظنُّك حينئذٍ تتخلف، تخلع الذهب فور ما تسمع هذا الكلام، وكذلك تخلع الدبلة، ذهباً كانت أو فضة، أما الدبلة على وجه الخصوص فلأنها من شعائر النصارى وليست من دين الإسلام، الدبلة لها قداسة معروفة عند النصارى؛ ولذلك عندما يكون خاطباً يلبس الدبلة باليد اليمنى، ولما يتزوج ويعقد يضع الدبلة في يده الشمال، لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن هذه الإصبع فيها عرق لطيف جداً تحت الجلد، وهذا العرق هو الوحيد الذي يمتد من اليد إلى القلب مباشرةً، فدرجوا على كتابة اسم المرأة على دبلة الرجل، واسم الرجل على دبلة المرأة، طبعاً من داخل الدبلة، لماذا؟ لأنه حين يلبس دبلته واسمها في الداخل متاخم لهذا العرق، فالنتيجة ماذا؟ يأخذ حناناً على القلب مباشرةً فالرجل هذا لن يفكر في امرأة إلا هذه المرأة دون غيرها، فمعنى هذا الكلام أن هذا العرق يخرج من اسمها وينبض عليه، ويأخذ الجرعة والشحنة فليس في قلبه إلا هذه المرأة، وكذلك الرجل، فهذا تقليد نصراني لا يحل، لا تلبس دبلة فضة ولا حديد ولا أي شيء، الدبلة بالذات، لكن لا بأس أن تلبس الخاتم، لأن الخاتم زينة للرجال، يعني: لو تلبس الخاتم تزيّن أصابعك، وتلبسه بلا مناسبة. فخلاصة الكلام أن معنى أشهد أن محمداً رسول الله إذا وصلك كلام فانفعلت له ونفذته فأنت فعلاً تشهد أن محمداً رسول الله، إذا لم تفعل ذلك فشهادتك ناقصة، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كأي كلمة تقال.

أسباب مخالفة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله

أسباب مخالفة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله إذا فهمنا هذه المقدمة سنرجع إلى شيء هام وهو أصل، وكل ما يذكر عليه فرعٌ عنه، السؤال الذي ندخل به إلى تقرير هذا الأصل لماذا يخالف الناس النبي صلى الله عليه وسلم فيما يستطيعون فعله؟ يعني: كثير من الناس الذين يحلقون لحاهم مثلاً -وحلق اللحية حرام بإجماع الأئمة الأربعة وجماهير أصحابهم، لم يخالف في هذا الحكم إلا من لا ينعقد الإجماع بدخوله ولا ينخرم بخروجه، يعني: وجوده مثل عدمه- تقول له: يا فلان! لماذا لا تعفي لحيتك؟ يقول: سأتهم بالإرهاب، وسأفصَل من العمل. فأنت قد تكلف في عملك بما لا تطيق، عمل رهيب وإهانات وإرهاق في العمل، ومع ذلك تعمل، لماذا؟ أكل خبز. طيب إعفاء اللحية لن يكون بمثل هذه المشقة، ألا إن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة!. برهن لي أنك تريد الجنة، الحكم الشرعي كله اسمه تكليف، أي: لا يكون إلا بكلفة وبمشقة، وها أنت قد سمعت في أول الكلام: (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عُوْدِي) فلا بد أن تتوقع المعاداة والمشاكل، مسألة ضرورية لدعوة الرسل، العداء ظاهرة صحية لدعوة الرسل ودعوة أتباعهم، فأنت لماذا هانت عليك هذه المخالفة؟ A الجواب وإن كان مُراً -نسأل الله تبارك وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينه رداً جميلاً-: إنك أيها المخالف لا تحب النبي صلى الله عليه وسلم، جواب مُر صحيح، وتهمة مرة؛ لكنها حقيقة، محبته ناقصة، فإذا زالت بالكلية كفر المرء، لكن محبة ناقصة، قد تنقص إلى أدنى درجات النقص، لو كان هذا الرجل محباً ما تجرأ على المخالفة، المحب لا يخالف حبيبه أبداً إذا صدقت محبته، المحب لا يرى في الدنيا أمراً إلا أمر حبيبه، ولا يرى نهياً إلا نهي حبيبه، ولا يرى خصلةً جميلة في الدنيا إلا كتبها إلى حبيبه، ولا منقصة إلا برأ منها حبيب. متمم بن نويرة له أخ اسمه مالك بن نويرة، قتله خالد بن الوليد وتزوج امرأته أيام حروب الردة، وكان متمم شديد الحب لأخيه مالك، فلما قتله خالد؛ رثاه متمم بأبياتٍ ما قرأت لأحدٍ أبياتاً أو كلاماً تفجّع به على أحد مثلما قرأت لـ متمم، أبيات تهز القلب وهو يرثي أخاه يقول: لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ فَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ فُقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجَا يَبعَثُ الشَّجا فَدَعْني فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ كأن لم يمت في الدنيا إلا أخوه، كل القبور التي على وجه الأرض هي قبر أخيه، لا يرى في الدنيا ميتاً إلا أخاه، حتى قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع هذا الرثاء قال: (يا متمم! لو أن أخي زيد بن الخطاب رُثي بمثل هذا ما وجدت على فقده) لعلو هذه الأبيات، الذي يخالف النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى لوم اللائمين، وتعيير المعيِّرين ليس بمحب، لماذا؟ لأن المحب كلما لاموه مضى، يقول الشاعر: يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زور ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنور ثم الشاهد: إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرور أي: أنا مسرور لسرورك حتى لو كان سرورك على أشلائي، هذا هو الحب. فإذا قال لك رجل: يا سنِّي! فيما مضى كانوا يعيروننا بالمسألة هذه، أي شخص يريدون أن يلمزوه قبل عشرين سنة مثلاً يقول له: يا سني! فنحن نقول: تلك شكاة ظاهر عنك عارها. الحجاج بن يوسف الثقفي لما عير أسماء أيام فتنة عبد الله بن الزبير دخل عليها وقد بلغت مائة عام وقد عميت، فقال لها: يا ذات النطاقين! أَيعيِّر شخصٌ شخصاً بالكلمة هذه؟ يا ذات النطاقين كأن شخصاً يعيِّرك يقول لك: اسكت يا بن الأصول! تلك شكاة ظاهر عنك عارها، فمثل هذا لا يعيَّر المرء به. فأنت إذا قيل لك: (يا سني!) هذا شرفٌ لك، بعض الناس يتركون متابعة النبي عليه الصلاة والسلام خشية المعرة، وما هي بمعرة، هذا الحب هو الأصل، وكل شيء يأتي بعده فرعٌ عليه. إذا أحببت كما يقول المنظرون في المناظرات، عندما يستدل شخص بدليل ضعيف، ويأخذ منه حكماً شرعياً يقولون له: (لا يستقيم الظل والعود أعوج) الدليل ضعيف؛ لا تأخذ منه حكماً. فنحن نقول: إن المحبة هي العود، وكل عملٍ يأتي بعد ذلك هو كالظل للعود وفرعٌ عنه.

صور تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للإهانة دون نكير

صور تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للإهانة دون نكير

النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يصور على صورة خنزير!!

النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يصور على صورة خنزير!! كان من جراء نقص حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رُسِم على صورة الخنزير!! ومع ذلك ولا دولة تدين بدين الإسلام استنكرت استنكاراً رسمياً لهذا الذي جرى، كأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم لا يدين بدينه على الأرض أحد، مع أن عدد المسلمين ممن يتسمون بأسماء المسلمين على عُجَرِهم وبُجَرِهِم مليار إنسان ألف مليون من بني آدم، يُسَب أعلى رجل فيهم ويُرسَم على صورة خنزير، ومع ذلك لم يعقد مؤتمر صحفي واحد ذراً للرماد في العيون لإرضاء عواطف الجماهير، مع أننا نعرف أن المؤتمرات الصحفية لا قيمة لها في الحقيقة، لكن إرضاءً لعواطف الجماهير، اعمل مؤتمراً صحفياً، قل: أنا أستنكر قل أنا أشجب إن عرض النبي صلى الله عليه وسلم أثمن من الأرض أرض ماذا التي تبحث عنها؟ عرض النبي عليه الصلاة والسلام أثمن وأغلى من الأرض. اليهود جبناء، والجبان لا يمكن يستخدم يده أبداً ولو كان الاحتمال راجحاً لا يضرب إلا إذا أيقن الدليل الضروري أنك أضعف من أن تمد يدك، قال الله عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] اليهود ما وصلوا إلى هذا التشويه بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا لأنهم جبناء، عندما رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يسب في بلاد المسلمين وعلى صفحات الجرائد والمجلات، ورأوا رد الفعل الرسمي لا شيء، لا يوجد استنكار من هيئة كبار العلماء أو من علماء البلد.

النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية!!

النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية!! هذه صحيفة تكتب بالخط العريض: هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟ أهذا عنوان يكتب في جريدة؟ تريد ماذا من مسألة الزائدة الدودية؟ مات بها أو بغيرها ما هي المحصلة؟ هل الطب سيستفيد؟ أتقدم بحثاً جديداً؟ ما هو المطلوب من هذا العنوان؟. عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: والله ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية، فجلده الحد، قال: لأن معنى أنك تنفي عنهم الزنا فيه إشعار بالاتهام، لو أنهم برآء مائة بالمائة أبداً لن تقول هذا الكلام، لكن تقول: ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية، كأن فيه إشعار أنهم زناة، فرأى أن مثل هذا يدخل في حد القذف؛ فجلده حد المفتري فيأتي شخص يكتب هذا العنوان: هل النبي صلى الله عليه وسلم مات بالزائدة الدودية؟ في ديار المسلمين، ورد الفعل الرسمي صفر!.

النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح

النعجة (دوللي) أعظم من ميلاد المسيح ولما جاءت مسألة استنساخ النعجة (دوللي) والكلام الفارغ الذي تكلموا به عنوان بالخط العريض: النعجة دوللي أعظم من ميلاد المسيح!! ماذا يعني هذا الكلام؟ أيضاً هو رب العالمين؟ إنهم يعنون أن العباد استطاعوا أن يفعلوا ما لم يفعله رب العالمين!! استنساخ النعجة دوللي أعظم من ميلاد المسيح؟!!

الكاريكاتير والاستهزاء بالدين

الكاريكاتير والاستهزاء بالدين أحدهم يرسم (كاريكاتير) مدرساً وتلميذاً المدرس: قل لي يا ولد: لماذا أخرج الله آدم من الجنة؟ يا أستاذ! لأنه ما دفع الإيجار. هل هذا الكلام يجوز يا إخواننا؟!! (كاريكاتير) شخص آخر رسم جهنم الحمراء وأناس فيها يرفعون أيديهم يصرخون في جهنم، وشخص في زاوية منها معه مروحة وابتسامة مرسومة على فمه ومكتوب تحت الرسم: بوش. ما هذا الكلام يا جماعة؟! يُسب الله ورسوله على صفحات الجرائد!! لماذا لا يغضب لله؟! سنوات طويلة يُعتدى باسم حرية الرأي على عرض النبي، نحن نعاني من محنة جسيمة وعظيمة هي السبب في كل ما نراه الآن. قرأت في ديوان الحماسة لـ أبي تمام مقطوعتين، افتتح أبو تمام الديوان بهما، لو أننا كنا على مستوى هذه الأبيات على الأقل، فأنا ما أظن أن رجلاً على الكرة الأرضية يفكر أن يهين أحداً من المسلمين، المقطوعة الأولى لأحد شعراء بلعنبر، هذا الشاعر كان له إبل وسرقها شخص، فحاول أن يحضر إبله ولم يستطع، فاستنفر قبيلته كلهم ضعفاء، فأنشد يقول متوجعاً: لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ (يعني من قبيلة مازن) لَمْ تَسْتَبحْ إِبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانا إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا قَوْمٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إلَيْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا لاَ يَسْأَلُونَ أخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلى ما قالَ بُرْهانَا لَكِنَّ قَوْمِي وَإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِ فِي شَيءٍ وَإنْ هانَا يَجْزُونَ مِنْ ظُلَمِ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً وَمنْ إسَاءَة أهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا كأَنَّ رَبَكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانا فَلَيْتَ لِي بِهِم قَوْمًا إذَا رَكِبُوا شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبانَا ورع بارد في غير محله، يُضرب!! فيكون رده: الله يسامحك! ويضرب الله يسامحك، ويضرب الله يسامحك!! لا، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما هجاه عمر بن أبي عزة للمرة الثالثة، وعفا عنه قبل ذلك، أخذه فقتله، وقال: (لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين). وتأتي المقطوعة الثانية لتوضح مثل هذا وهي لأحد الشعراء، كان بينه وبين قوم نوع من الخصومة، وعقدوا صلحاً، وانتهت الحرب، وسيفتحون صفحة جديدة، ويتعاملون مع بعض من جديد، فلما فتحوا صفحة جديدة إذا بالقوم لئام، بدءوا يغدرون مرةً أخرى، فأنشد هذا الشاعر هذه الأبيات قال: صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الأَيَّامُ أنْ يُرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا فلَمَّا صَرَّحَ الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيانُ ظهر أنهم لئام، وصرح الشر أي: صار واضحاً صريحاً، فلما صرح الشر من قبل هؤلاء، وأمسى وهو عريان. وَلَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا (رددنا لهم الصاع صاعين) مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وَتَخْضِيعُ وإقْرَانُ وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ تعرف القربة عندما تكون ملآنة على آخرها، ثم تضغط عليها من جانبها، يفيض الماء سنفعل ماذا؟ وصلنا إلى هذا الحد!! الذي يعمل لنا هكذا سننفجر مباشرة، فهذا معنى كلامه. وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا وَالزِّقُّ مَلآنُ ثم قال بيتين يكتبان بماء الذهب: وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعَانُ يُضرب الله يسامحك، يُضرب الله يسامحك، لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان هذا ضعف فهذا عندما يكون قليل الأدب، ولا يجد مثل هذه القوة، سيظل يضرب باستمرار، فلا تقل: أنا حليم، قل: أنا ضعيف. وَفِي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لاَ يُنْجِيكَ إِحْسَانُ قدمت الإحسان مرة ومرتين وعشرة وعشرين وثلاثين ومائة وثلاثمائة ومع ذلك ما زال لئيماً، إذاً ما بقي إلا الشر هو الذي ينجيني؛ لأنني لما قدمت الإحسان ما أنجاني، فالذي فعله اليهود لا يجبره إلا الدم وهذا وإن كان مراً على صدور المسلمين، لكننا نتباشر به، ونرى أن الفتح قريب، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" قال: حدثني بعض الفقهاء ممن حاربوا في الروم، قالوا: كنا نحاصر الحصن شهراً وشهرين وثلاثة إلى أن كدنا نيأس من فتح الحصن، فوقع أهل الحصن في سب النبي صلى الله عليه وسلم ففتحناه بعد ثلاثة أيام، قال: فكنا نتباشر بسبه مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما نسمع، مجرد ما يسبونه نعرف أننا سنفتح الحصن مباشرة؛ لأن الله عز وجل ينتقم لنبيه، ويرد عن نبيه مع أننا سننفجر من الغيظ من الشتم الذي نسمعه، إلا أننا نرى أن هذه بشارة أن سيُفْتح له.

الشيخ محمد شاكر يدفع عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم

الشيخ محمد شاكر يدفع عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم هنالك قصة حكاها آخر أعيان المحدثين في مصر، الإمام العلَم أبو الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، حكى حكاية حدثت أيام الملك فؤاد، الحكاية تتلخص في إن الملك فؤاد كان يحب أن يصلي خلف أحد الخطباء أصحاب اللسان العالي، كلما يحب أن يصلي في مكان يأتوا بهذا الخطيب كي يخطب، فصادف أن طه حسين رجع من باريس بالدكتوراه، وأرادوا أن يكرموا طه حسين، ف الملك فؤاد وحاشيته استدعوا هذا الخطيب على اعتبار أنهم سيكرمون الدكتور طه حسين، صعد الخطيب يخطب، فأراد أن يمدح الملك فؤاد فقال: ما عبس ولا تولى لما جاءه الأعمى. فيكون الملك فؤاد رجل كريم ورسول الله يكون ماذا؟ لأنه عبس وتولى، لكن الملك فؤاد لا عبس ولا تولى. الشيخ محمد شاكر رحمه الله وكيل الجامع الأزهر، كان يصلي: فلما سمع الكلمة، وأنهى الرجل الخطبة صلوا الجمعة، قام الشيخ محمد شاكر، وقال: أيها الناس! أعيدوا الصلاة ظهراً، فإن الخطيب كفر، مع قطع النظر في البحث هل هو كافر أم غير كافر، لكن الشيخ محمد شاكر رحمه الله قال هذه الكلمة وانطلق إلى قصر عابدين، وذهب إلى الملك فؤاد ورفع له مذكرة يقول له: صل الظهر بدلاً عن جمعتك بسبب أن الخطيب كفر. الرجل خطيب والملك يأتي به حتى يخطب أمامه، يكون رجلاً معروفاً لكل المحامين في البلد، ومستشاري المحاكم، فجماعة المحامين المستشارين أغروه، قالوا له: كيف يحرجك أمام الجماهير بهذا الكلام؟ ارفع عليه قضية ونحن وراءك. الشيخ محمد شاكر قبل هذا التحدي ورفع قضية هو الآخر وقال: ليس بيني وبين هذا الخطيب شيء؛ لكنني أريد الإجابة عن سؤال واحد، أهذا الذي قاله الخطيب تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وأنا لن أحتكم إلى علماء الأزهر، برغم أن البلاغة والبيان والنحو والإعراب والصرف والكلام، هذا كله اختصاصهم، لكن أنا لن أستعين بواحد من هؤلاء حتى لا تقولوا حابوه وجاملوه، أنا أريد مستشرقين يكفرون بالله العظيم، ودرسوا اللغة العربية لأسألهم هذا Q هذا الذي قاله الخطيب تعريض بالجلال النبوي أم لا؟ الشيخ محمد شاكر رحمه الله واصل رفع القضية، فلما علم هذا الخطيب ومعاونوه أن القضية خاسرة تنازلوا عنها، الشيخ أحمد شاكر رحمه الله يقول: فدخلت بعض المساجد لأصلي فرأيت ذلك الخطيب فراشاً يتلقى نعال المصلين في هذا المسجد. إن الله عز وجل يغار لنبيه، ولا يقع في النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ إلا خُذِل، لكن ما هو رد فعل الجماهير على هذه الإهانات المتلاحقة؟! سأذكر لكم مثلاً نحن نعامل النبي عليه الصلاة والسلام، ونعامل دين الله عز وجل بالجملة كمعاملة الناس بالشارع والبيوت تصعد العمارة تدخل الشقق تجدها آية في الزخرفة والنظافة والرائحة الجيدة، وأنت خارج ترى الرجل يفتح النافذة يرمي القمامة ثم يغلق النافذة، لماذا؟ الشارع ليس لي؟ أنا لا أعامل الشارع معاملة منزلي. !! فيرمي القمامة ويغلق النافذة خشية الذباب، كل واحد يظن أن هذا الدين إنما هو دين الدعاة إلى الله عز وجل، الدفاع عن الإسلام هو دفاع الدعاة فقط، ويظن أنه رجل عامي لا يناط به شيء، وهذا أحد أسباب الوهن التي دبت إلى جسد الأمة.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم علاج لكل أمراض المجتمع

محبة النبي صلى الله عليه وسلم علاج لكل أمراض المجتمع صدق محبة النبي عليه الصلاة والسلام هو العلاج الوحيد لكل الأمراض التي نعانيها الآن، إذا صدقت محبتك لا بد أن تنتقم لحبيبك، أولادنا حين تدخل بيت كثير من المسلمين زائراً صاحب البيت ينادي: تعال يا بني (ابنه الصغير) قل لعمك (الزائر) عندما تكبر ماذا تريد أن تكون؟ أريد أن أكون دكتوراً يا عم أريد أن أكون مهندساً أريد أن أكون صيدلياً من الذي علم الولد؟ من الذي لقنه؟ أبوه لا يوجد ولد يقول: أنا أريد أن أكون شيخاً أو عالماً لماذا؟ ديننا كدولة شاسعة الأطراف عظيمة الساحل، تخيل دولة مثل مصر مثلاً: سواحلها المائية واسعة تخيل أنه لا يوجد حرس حدود على هذه السواحل فما المتصوَّر؟ يدخل كل اللصوص. ديننا هكذا أين حرس الحدود عندنا؟ لو أنني قلت -والقاهرة مثلاً ستة عشر مليوناً- لو أني قلت لكل واحد في هذا المسجد: عُدّ لي من تعتقد أنه عالم في القاهرة، ولن أناقشك في صفات العالم ولا ما هو مذهبه، إذا وصلت إلى عشرة فأنت بطل، ولا أقول لك عشرة فقط، لكن أقول لك أنت: عُدَّ لي من تعتقد في هذا البلد أنه عالم تقول فيه: هو حجةٌ بيني وبين ربي إذا لقيته، أأتمنه على الفتيا وعلى الاستشارة، لن تصل إلى عشرة. ما معنى هذا الكلام؟ كوادرنا ضعيفة جداً وقليلة، لماذا؟ العلماء هم الجهاز المناعي للأمة المسلمة، مرض الإيدز يعتبرون أنه أفتك الأمراض إلى قبل عدة شهور أو سنة ونصف في مصر مثلاً: دخل مرض جديد آخر الإيدز أصبح أقل خطراً بجانب المرض الجديد، المرض عبارة فيروس إذا أصاب الكبد يتحول إلى ماء اسمه فيروس آكل اللحوم، ظهر في جنوب أفريقيا، حيث أن هناك قوم يستحلون أكل الأطفال، سواء أكانوا يطبخونهم أو يشوونهم، هؤلاء أصيبوا بهذا الفيروس، إذا أصاب اللحم تجد يتوسع في اللحم حتى ينخر في العظم، وإذا أصاب الكبد مثلاً يتحول إلى سائل! وإذا أصاب الطحال يتحول إلى سائل وإذا أصاب الكلية يتحول إلى سائل، لكن مرض الإيدز أفتك الأمراض وأخطرها على المستوى العام حتى الآن وقالوا: إنه يصيب الجهاز المناعي. إذاً أي مرض يصيب الجهاز المناعي يعتبر من أخطر الأمراض، العلماء والدعاة إلى الله عز وجل هم الجهاز المناعي لهذه الأمة هم كرات الدم البيضاء التي تدافع عن جسد الأمة، لماذا قلّت كوادرنا (علماؤنا)؟ لأننا لا نعامل الإسلام كقضية، سببه أن كل واحد يعتقد أن المسئولية على أكتاف غيره، والسبب في ذلك قلة المحبة، أتعرف لو أنك أحببت النبي صلى الله عليه وسلم بصدق لن تجد الذي تخاف منه الآن مع عدم المحبة، وسأذكر لك حكاية أوضح بها هذا المعنى: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، عندما دخل القلعة في آخر مرة ومات فيها رحمه الله، لما أدخلوه وأغلقوا الباب التفت إلى الباب فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. ما معنى هذا؟ شيخ الإسلام كان مما من يميِّزه أنه سريع انتزاع الأدلة الدالة على ما يريد، لأن القرآن بين عينيه، أي شخص دخل السجن فإن الناس يتصورون أنه سيلقى الأمرَّين وسيذوق العذاب أليم!! ويقولون: يا ترى كيف يعيش؟ رغم أنه قد يكون أصفى نفساً في الباطن منك في الظاهر، أنت الذي تتعب! أنت الذي تذهب إليه للزيارة وتشوي له الدجاج، وتأخذها على أكتافك وتتجرع الشمس المحرقة! وتسافر اليومين والثلاثة الأيام، وهو يأتيه الأكل جاهزاً، ويحفظ القرآن، ويقوم الليل، وليس بينه وبين الناس خصومات بسبب المال والأكل والشرب والمعيشة. إذا كنت صادق المحبة ستجد أن قلبك صار برداً وسلاماً، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] فئة: يعني في الحرب {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] فبمجرد أن تذكر الله عز وجل يستحيل خوفك إلى أمْن، وهذا المعنى موجود أيضاً عند الناس يقول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئرٍ في لبان الأدهم فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم ما هذا؟ حر وكر وفر! ورقاب تطير! والسيف يلمع في الشمس وإذا به يذكره ببسمتها، ولا زال المحبون يستمدون القوة بذكر من يحبون في مواطن الحرب. إذاً العلاج هو صدق المحبة!.

مظاهر محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

مظاهر محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم

حب أبي أيوب الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم

حب أبي أيوب الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا حديث رواه مسلم كلما تأملت فيه شعرت بسخونةٍ في عيني. نزل النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، فقال له أبو أيوب -وكانت الدار تتألف من طابقين-: (يا رسول الله! اصعد إلى فوق)، قال: (السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي) يعني أصحابي كثر، فإذا كنت في الدور الثاني ما من رجل يريد أن يصعد إلي إلا آذى من أسفل البيت، فلا داعي، فصعد أبو أيوب في الدور العلوي، والنبي عليه الصلاة والسلام أسفل الدار. في معجم الطبراني يقول أبو أيوب في هذا الحديث: (وانكسر لنا حُب)، وهو الجرة العظيمة، (فجففته بلحافي أنا وامرأتي والله ما لنا غيره، خشية أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء، قال: فنزلت، قال: وبينما أنا أمشي بالليل إذ فزعت، وقلت: أأنا أمشي على سقيفةٍ تحتها رسول الله؟)، أرجلي الآن فوق رأسه؟ هذا سوء أدب، (قال: فانجمعت أنا وامرأتي) جلسوا في زاوية إلى الصبح، فلما أصبح (قال: فنزلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها، اصعد إلى فوق، فصعد، قال: (وكنت أُرسل إليه الطعام، قال: فكان يأكل، فلا آكل آنا وامرأتي حتى يأكل الطعام من عنده، فنتحرى مواضع فمه ويده)، فيتتبعانها ويأكلان منها، (قال: فأرسلت إليه ذات يومٍ ثوماً أو قال: بصلاً، فلم يأكل منه، ففزعت) لاحظ لفظة (فزعت) التي كررها مرتين (ففزعت وصعدت إليه فقلت: (يا رسول الله! لم تأكل من الثوم أو البصل أحرامٌ هو؟ قال: لا، ولكني أناجي من لا تناجي) لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم الجواب صريح وواضح، أحرامٌ هو؟ قال: لا ولكني أناجي من لا تناجي، فقال أبو أيوب المحب: (لا جرم، أكره الذي تكره)، وإن كان مباحاً، لكن أنت تكره، أنا أكرهه، فهذا هو المحب. هذا هو المحب قاعدة الولاء والبراء: (حبيب حبيبي حبيبي وعدو حبيبي عدوي). إذا رأيت صاحبك يمشي مع عدوك فمحبته كاذبة، إذا اعتقدت النقص في حبيبك فمحبتك ناقصة، لا تتم محبتك إلا إذا اعتقدت الكمال فيمن تحب، ولا تلصق نقيصة به، وكلما عُظُم تصوّرك اكتمل حبُّك.

المحبة الصادقة في صلح الحديبية

المحبة الصادقة في صلح الحديبية جاء في الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه وهو حديث طويل في صلح الحديبية، في هذا الحديث: أن عروة بن مسعود الثقفي وكان إذ ذاك كافراً قال لقريش: (ألستُ منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى. قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى، قال: هل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: فدعوني آته وقد عرض عليكم خطة رشد) يعني: يذهب ليفاوض النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أمين في المفاوضات، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولما دخل عليه رأى أصحابه وقد عضهم الفقر بنابه فقراء مساكين، لا يظهر عليهم ما يظهر على أهل الترف، فاخترقهم ببصره واحتقرهم -فيما بينه وبين نفسه- ثم قال: (يا محمد! والله ما أرى حولك إلا أوباشاً) وفي الرواية الثانية: (أوشاباً) وهي بنفس المعنى، يعني: لا يردون البصر، ولا يملئون العين (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك)، أي: ستواجه قريشاً بالقليل هؤلاء، والمعنى أن لا تطمع أن تدخل مع قريش في حرب؛ لأنهم بمجرد أن تقوم الحرب سيفرون كلهم فلا تتكل عليهم (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقال أبو بكر: (أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات)، فسب آلهتهم وعابها، فقال عروة مغضباً: من هذا المتكلم؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه ابن أبي قحافة) أبو بكر، فقال له وكان كافراً: (لولا أن لك عليّ يداً لأجبتك)، الوفاء لولا أن لك علي يداً؛ لكنت رددت عليك، وقد سب أبو بكر آلهتهم يعني لا يوجد شيء معظّم بعد الإله، سَبَّ أحسن شيء عندهم، ومع ذلك رده الإحسان والوفاء أن يرد عليه. وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: (ولكن هذه بتلك) بمعنى: أنك استوفيت يدك السابقة علي بهذه السبَّة، فلو قلت شيئاً آخر سأرد عليك، (أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات). بدأ يحصل نوع من المراقبة التي نسميها في العصر الحاضر: الجاسوسية، هو ذهب وعينه (كالكاميرا) المسجلة يرصد كل شيء حتى يخبر قريشاً، وكان من عادة الأقران في العرب أن الشخص إذا كلم أخاه يمس لحيته ويتكلم لكنه يُستقبح مع أهل الفضل إذا كان الرجل مُسِناً فلا تكرر أن تمسك بلحيته كلما أردت. فأخذ عروة بن مسعود الثقفي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسك بلحيته، فكان هناك رجل واقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم ورد في بعض الروايات خارج البخاري أنه كان ملثماً معه سيف، وبمجرد أن يمد عروة يده يضربه بنعل سيفه ينظر إليه، لا يعرف من هو؟ ثم يتكلم وينسى أيضاً ويضع يده على لحيته، فيضربه بنعل سيفه على يده مرة أخرى، فعبد أن ضربه مرتين أو ثلاثاً، قال عروة: (من هذا الذي أزعجني؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة)، فقال: عروة بن مسعود: (أي غُدَر)، يعني: يا أيها الغادر! (لا زلت أسعى في غدرتك) وكان المغيرة بن شعبة قد صحب ثلاثة عشر نفراً في الجاهلية وشربوا الخمر، فقام عليهم وذبحهم جميعهم، وأخذ مالهم وهرب بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء وقال: أنا أسلمت، وهذا المال فقال عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء) يا سلام على هذا الوفاء وعلى هذا النبي الكريم الجليل!. وحذيفة بن اليمان لم يحارب في وقعة بدر لا هو ولا أبوه، وكانوا موجودين لماذا؟ لما خرج حذيفة هو وأبوه هاربين أمسكهم المشركون، وقالوا لهما: أين تتجهان؟ فقالا: إلى المدينة. فقالوا: لن ندعكم حتى تعطونا العهد والميثاق ألا تقاتلونا. قالوا: لن نقاتلكم، فتركوهم، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أعطيناهم العهد أن لا نقاتلهم، فقال: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم). انظر إلى أفضل من مشى على الأرض بقدميه عليه الصلاة والسلام، قال: (هذا ابن أخيك) فلما رجع المغيرة بن شعبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمال قال: (لست منه في شيء). وقال -كما في مسند أحمد-: (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟) لما أسلمت. ثم جاء المشهد الآتي، دخلت صلاة الظهر والرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ، وبينما هو يتوضأ ويغسل يده وإذا بالصحابة يتسابقون على وضوئه، ما سقطت قطرة ماءٍ على الأرض، يتنخم النخامة والكل يتسابق إليها، وسعيد الحظ من تكون النخامة من نصيبه: (فما وقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه، ولا يرفعون صوتهم عنده، ويبتدرون أمره)، مجرد أن يقول: اعملوا؛ تجدهم يسرعون في المبادرة مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينهى عن تعظيمه بأقل من ذلك، وأن يقوموا له. فلماذا تركهم يفعلون ذلك؟ النبي عليه الصلاة والسلام تنخم نخامة يأخذها أحدهم بيده، مع أن النخامة كلنا نتأفف منها، ويقتتلون على وضوئه؛ لأن هذه رسالة يريد من عروة بن مسعود أن يوصلها لقريش أنهم ليسوا أوباشاً، هؤلاء رجال، فتركهم يفعلون ذلك، لأن هذا عين وجاسوس جاء ليراقب، ومن بداية دخوله يستعرض قوته ويقول: (ما أرى حولك إلا أوباشاً) ثم انظر إلى التقرير الذي رفعه عروة بن مسعود الثقفي لقريش! في البداية دخل على المسلمين منتفخاً ثم رجع وقال لقريش: (يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت أصحاب ملكٍ يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمدٍ محمداً. إنه ما توضأ إلا اقتتلوا على وضوئه، ولا تنخم نخامة فوقعت في يدر رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يُحدون النظر إليه تعظيماً له، ويبتدرون أمره، وقد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها) أي: خذوها فما لكم حيلة ولا طاقة بهؤلاء. هذا هو الحب والاتباع!.

عمرو بن العاص وإجلاله للمصطفى صلى الله عليه وسلم

عمرو بن العاص وإجلاله للمصطفى صلى الله عليه وسلم جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري رحمه الله قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فلما رآنا حول وجهه إلى الجدار وبكى طويلاً، فجعل ابنه عبد الله يقول له: يا أبت! أما بشرك النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟! فالتفت إلينا عمرو ثم قال: لقد رأيتني على أطباقٍ ثلاث -أي: مررت في حياتي بثلاث مراحل- لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي من أن أكون استمكنت منه فقتلته، فلئن مت على هذا الحال لكنت من أهل النار، ثم أسلمتُ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فبسطت يدي، فقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال: عمرو: فو الله ما كان أحدٌ أحبّ إلي قطٌ منه، ولئن سُئِلتُ أن أصفه لكم لما أطقت ذلك؛ لأنني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له)، ما أستطيع أن أملأ عيني منه، ولا أن أسلط بصري عليه، عندما يكون المرء هائماً محباً لا يستطيع أن يسلط بصره على من يحب على الإطلاق أبداً، رغم أنه صحابي جليل، وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً إلاّ أنك لو قلت له: صفه لي، يقول: لا أستطيع، لماذا؟ ما كنت أستطيع أن أنظر إليه من شدة الحياء (فلئن مت على هذا الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة)، الطبق الأول: قطع فيه أنه يكون من أهل النار، ولما تأدب بأدب الإسلام، قال: لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ولم يقطع ولم يقل: لكنت من أهل الجنة، (ثم ولينا أشياء كان فيها ما كان) إلى آخر الحديث.

جابر بن عبد الله ومحبته الصادقة لنبيه صلى الله عليه وسلم

جابر بن عبد الله ومحبته الصادقة لنبيه صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم حققوا هذا الركن وتمموه، انظر إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه -كما في الصحيحين- يقول وهم يحفرون الخندق: (ظللنا ثلاثة أيام ما ذقنا فيها ذواقا) ما أكلوا شيئاً يقيم أصلابهم، قال: (فاعترضتنا كدية عظيمة) صخرة عظيمة (لا تعمل فيها المعاول) يكسِّرونها ولا تتكسر، قال: (فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فقلت له: يا رسول الله! صخرةٌ عظيمة لا تعمل فيها المعاول، قال: فقام أعرف فيه الجوع)، شخص يقوم على الأرض جوعان فبالكاد يقوم، (ثم أمسك المعول وقال: باسم الله. فضربها فصارت كثيباً أهيم) صارت رملاً، (فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أذهب إلى البيت، فأذن لي فقلت لامرأتي: لقد رأيت الآن شيئاً ما لي عليه صبر، رأيت الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فهل عندك شيء؟)، أنا أرجو أن تستحضر أن جابر بن عبد الله جائع هو كذلك! لكن ذهب جوعه لمّا رأى الجوع في وجه حبيبه قالت: (نعم عندي صاع من شعير وعناق. قال: اعجني، واذبحي العناق، فقالت له: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه) يعني: لا تحضر الصحابة كلهم، لأن الأكل لا يكفي، لا يوجد طعام كثير فلا تفضحني، (ولكن اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسرَّ إليه) قل له: تعال أنت وبعض أصحابك، (قال: فذهبت إليه فساررته) أنه يوجد كذا وكذا، (قال: فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصيح (يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سورا (أي: طعاماً) فحي هلا بكم!) قال: فأدركني من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، قال: (هل خبزتم؟ قلت: لا. هل وضعتم اللحم على النار؟ قلت: لا. قال: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء -أي: لا تخبزوا حتى أجيء- ولا تضع البرمة على النار حتى أجيء، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهل الخندق فقال: أين عجينكم؟ جاءوا به فبصق فيه وبارك، أين لحمكم؟ فجاءوا به فبصق فيه وبارك، قال جابر: أقسم بالله لقد أكلوا حتى تحولوا وتركوه وكانوا ألف رجل، وإن اللحم كما هو وإن العجين كما هو) هذه هي المحبة.

إبراهيم عليه السلام وشدة محبته لله عز وجل

إبراهيم عليه السلام وشدة محبته لله عز وجل جاء في قصة إبراهيم عليها السلام في سورة الأنعام دليلٌ حي على ذلك: قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] * {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وأنا أريد من إخواني المسلمين أن يتأسوا بقضية إبراهيم عليه السلام، وأنه مشغول في قضية معينة، والمشغول لا ينام، إنه يبحث عن مثال لإلهه الذي يعبده، مستيقظ طوال الليل لا يستطيع أن ينام؛ لأن هذه القضية شغلته: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} انظر إلى التعبير هذا كأن ليس في الكون غيره، ولم يلف الظلام أحداً في الكون غيره، هو المستيقظ، وكلمة (جنّ) أي: وصل إلى أعمق الليل، (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] كلمة (جَنّ) تبين لك الصورة، جنّ: يعني كبد الليل، الليل مظلم مائة بالمائة فتخيل كوكباً مضيئاً في ظلامٍ دامس، يلتفت يمنةً ويسرة لا يرى في الدنيا إلا هذا الكوكب، فأجمل شيء في الدنيا هو هذا الكوكب؛ لذلك قال: هذا ربي، ربي جميل ربي كامل ربي لا يعتريه نقص، فأجمل شيء في هذه الدنيا هو هذه النقطة المضيئة فيكون هو إله!! يناسب أن يكون إلهاً: {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] لماذا؟ لأنه أجمل شيء في الكون. من عبودية القهر على كل الناس أنهم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ينسبون الجمال إلى الله، الكل إذا رأى شيئاً جميلاً قال: الله، الكل كافر، مسلم، يهودي، نصراني، مجوسي، مجرد أن يرى شيئاً وجميلاً يقول: الله، فينسبون الجمال إلى الله رغم أنوفهم. {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] لماذا؟ لأن إلهي لا يغيب عني، مبتهجاً به دائماً، فكيف يغيب هذا؟ لا يصلح أن يكون مثلاً لإلهي الذي أعبده وأجده في نفسي، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} وكملة (بازعاً) تدل على شدة الوضوح، فهو أكبر من الكوكب صورةً في مرأى العين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] * {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} هذا هو لماذا؟ لأنه مضيء أفضل من الكوكب والنجم وأيضاً أكبر منهما، يبحث عن صفات الكمال والجلال: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] * {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]. إذاً رائد إبراهيم عليه السلام كان الحب، والحب مركبٌ لا يضل راكبه، العبادة بالحب تقبل ولو بالقليل، ولله در الراجز الذي قال: (وإن من البيان لسحرا). من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول يمشي على مهل، ويصل الأول!! كيف هذا؟ عبادة المحب بخلاف عبادة الموظف، الموظف الذي يأتي حتى يوقِّع اسمه في الحاضرين أنه حضر فصلى العصر وصلى الظهر!! لا، يقف الرجلان القدم بالقدم، والكتف بالكتف، وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! فمعنى لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله أن تعتقد المشاهدة ولا تتم لك هذه المشاهدة إلا بالحب الذي من ثمرته التعلق. فمحبة النبي عليه الصلاة والسلام واجبة، والمحبة هي ليست محبة الطبع، إنما هي محبة الاتباع والتقدير والتعظيم وإلاّ فأنت قد تحب ولدك حب طبع أكثر. المحبة المقصودة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] هي مَحبة الإتباع، وأن لا تُقَدِّم قول أحدٍ على قول النبي صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.

حاجتنا إلى العلماء العاملين

حاجتنا إلى العلماء العاملين الإمام العَلَم الذي ربته امرأة، ولله در النساء: ولو كان النساء كمثل هذي لفُضِّلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخرٌ للهلال ثلاثة أئمة ملئوا الدنيا علماً وشهرة، ربّتهم أمهاتهم، وصدق فيهم قول القائل: وراء كل رجلٍ عظيم أم، ولا تقل: وراء كل رجل عظيم امرأة أبداً، ولكن قل: وراء كل رجلٍ عظيم أُم. ثلاثة أئمة معروفون لديكم -وهناك أئمة آخرون ربتهم أمهاتهم- الإمام البخاري، والإمام الشافعي، والإمام العلم وهو سفيان بن سعيد الثوري، الإمام الكبير نحن نتدين بمحبة سفيان وأمثاله من العلماء الربانيين كـ سفيان الذي يقول: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل). إذا أردت أن تحك رأسك حبذا يكون معك دليل، لكن يكون صحيحاً. لاحظ الحض على اتباع السنة: (إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل)، ثم قال: (الحديث دَرَج والرأي مَرَج، فإذا كنت على الدَّرَج؛ احذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، وإذا كنت في المرج فسر حيث شئت). كلام من ذهب! اتباع السنة كالدّرَج، وأنت تمشي على الدرج كن على حذر؛ لأنه لو فلتت رجلُك ستقع على رأسك مباشرةً، فعندما تنزل على الدّرج كن منتبهاً، إنما لو كنت تمشي في الصحراء اغمض عينيك وامش، فأينما تمشي فستجد مكاناً ماذا يقصد بهذا الكلام؟ يقول: إن من اتبع رأيه وهواه كأنما يمشي في مَرَج وفي سهولٍ واسعة، أي: فكأنك في مَرَج فسر حيث شئت، طالما أنك غير محكوم. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا سجن المؤمن) ما معنى سجن المؤمن؟ مسجون بالأوامر والنواهي، كالذي يدخل السجن بين الأوامر والنواهي الذي سُجن يفهم هذا الحديث جيداً، نريد أكل؟ ممنوع، نريد ماء ولنا مال في الأمانات ممنوع، أدخلوا لنا حلاوة، ممنوع، نريد أن نشم هواء ممنوع، كل شيء في السجن ممنوع!! فأنت كل ما تشتهيه تستطيع أن تفعله، ترغب أن تكون غنياً وممنوع من أن تضع مالك في البنوك، ترغب في أن تفرِّغ شهوتك وممنوع من الزنا، ترغب أن تفعل كذا وكذا وممنوع أن تفعل كذا وكذا فأنت مسجون أم لا؟ مسجون، الذي ترغب فيه لا تستطيع عمله، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لم يستوف مؤمنٌ غضبه في الدنيا أبداً)، لا يستطيع أن يستوفيه يُظلم فيقول: أنا سوف أؤجل المحاكمة إلى يوم القيامة، فيكون مغتاظاً يريد أن يرد الصاع صاعين ولا يستطيع أن يستوفي غضبه أبداً، لماذا؟ لأجل يوم القيامة، محاكم الأرض فيها ملايين القضايا، وكثير من الناس أجلت مظالمهم إلى يوم القيامة، لو كل واحد ضُرب ضربةً واحدة وذهب إلى المحكمة أو ذهب إلى الشرطة، ما كانوا يرون النوم. فالإيمان بيوم القيامة أسقط ملايين القضايا عن المحاكم، وكثير من الناس أجلوا المظالم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن) يعني: ليس كل ما تريده تفعله، مسجون. والسجن هذا هو الدرج (فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك) ولله تبارك وتعالى في كل شيء في الدنيا حكم علمتها أو جهلتها؛ فقبل أن تقدم على أي قضية من القضايا ارفع -يا أخي- سماعة الهاتف واسأل العالم، سؤال العالم مجاناً؟ أتمنى أن يجد هذا الكلام صدى عند التجار الكبار والصغار، أيها التاجر! لك مستشار قانوني يأخذ مقابلاً مالياً وله نسبة، ولك محام يدافع عنك، وتعطيه راتباً مالياً طوال العام، وتعطيه حوافز مالية، فهل عندك مفت مجاناً؟ لن تدفع له راتباً مثل المستشار القانوني أو المحامي، ترفع سماعة الهاتف وتقول له: أنا أريد أن أعقد الصفقة الفلانية، هل هذا مشروعٌ أم لا؟ هل هذا حرام أم لا؟ لا يكلفك شيئاً. نحن دولة مستهلكة مثل سائر العرب! أصحاب المصانع هم المتحكمون في البيوع، والأصل في البيوع الحل؛ لكن هؤلاء الذين يريدون أن يحققوا أعلى نسبة أرباح، ويريدون أن يضمنوا بضائعهم والأموال، قد يضعون شرطاً لا يحل في دينك، وحرامٌ عليك أن تفعله، هو كافر لا يهمه يهمه أن يضمن ماله ويكسب، أنت كرجل مستهلك تذهب فتقول: أنا أريد البضاعة الفلانية فيقول لك: أنا شرطي كذا وكذا وهذا رجل كافر لا يحكمه دين، وأنت عندما تحتاج البضاعة تعقد معه الصفقة وترتكب الحرام؛ لأن الذي وضع شروط الصفقة هو الرجل المصنِّع. فالعالم مهم جداً جداً في هذا الزمن، لا أقول: للتجار فقط، بل للكل، فلو أن شخصاً عنده مرض قلب أو تصلُّب في الشرايين أو ذبحة صدرية أو ضغط دم أو ضيق في الصمام، أو أي مرض، فإنه يذهب إلى أي طبيب من أمراض القلب والدم، ويكون معه في حوار ساخن باستمرار: يا دكتور! أنا أحسست بكذا، هل هذا له علاقة بالشريان التاجي؟ هل له علاقة بالذبحة؟ يقول له: لا، أو يقول له: نعم، أو يقول له: لا تفعل وهكذا، مرة أخرى، وفي كل هذا يمتثل!. فهل لما قسا قلبك أكان لك مستشار لأمراض القلب وضغط الهم؟ بمجرد أن تشعر بقسوة قلبك تتّصل به وتقول له: أنا أشعر بقسوة أقرأ القرآن ولا يهتز قلبي ولا يذرف دمعي، كم نحن مقصرون! الاستشارة مجانية، وأي واحد يرفع سماعة الهاتف ويتصل بعالم من العلماء ويطلب أجرة فليتقدم بشكوى فيه، وتجد العالم يفرغ من صدره ووقته، وأنت رجل تاجر والساعة عندك تساوي المال، وهو أيضاً ساعته أغلى من المال، لكنه كتب على نفسه: وقف للمسلمين. فأوقف عمره وحياته لك، ومع ذلك لا ترفع له رأساً ونبذته نبذ النواة، ولم تستشره، لا في صفقة تجارية، أهذا حلال أم حرام؟ ولم تستشره حتى عند قسوة قلبك!. روى أبو سعيد في تاريخ الرقة، عن عمرو بن ميمون قال: انطلقت مع أبي ميمون بن مهران إلى الحسن البصري، قال ميمون: يا بني! خذ بيدي إلى الحسن، فذهبوا إلى الحسن البصري وطرقوا الباب، فخرجت الجارية، فقالت: مَن؟ قال: ميمون بن مهران، فقالت الجارية: يا شيخ السوء! ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟ فبكى ميمون -وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز - بكى حتى علا نحيبه، فخرج الحسن البصري، فلما رآه اعتنقه، فقال ميمون: (يا أبا سعيد! آنست من قلبي غلظة، فاستلن لي) أي: قل لي شيئاً يلينه. (أفأصوم له يا أبا سعيد؟)، يعني: أَيلين قلبي لو صمت؟ فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]. هناك خُلُق خلقه الله عز وجل فينا، وهو خُلُق التأسي، إذا أُصِبتَ بمصيبة وترى غيرك أُصِيب بمصيبة تخف المصيبة عليك. من رأى مصيبة غيره هانت مصيبته عليه، كما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فعندما تكون هناك مصيبة عامة طاعون مثلاً، وكل بيت فيه فرد ميت، تجد أن المصيبة تخف عليك من كثرة الموت، لكن عندما تكون وحدك المصيبة تكبُر عليك. وربنا عز وجل -في هذا الخلق أي: خلق التأسي- قال لنا: لا تظنن إذا دخلت النار فرأيت ملايين الخلق يصرخون من النار أن هذا يخِف عليك؛ لا، هذا فقط كان في الدنيا، قال تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] لا يعني أنكم مشتركون في العذاب أن ذلك يخفف عليك حين تراه يصرُخ بجانبك، لا. فانظر إلى الآيات سنين متعة، سنين قليل، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206] الموت أو العذاب: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]. كل حيّ سيموت ليس في الدنيا ثبوت حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت أيها الساكر قل لي أين ذاك الجبروت ليت شعري أهمود ما أراه أم قنوت أين أملاكٌ لهم في كل أفق ملكوت زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت لا سميع يفقه القول ولا حيٌ يقوت عُمِرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت إنما الدنيا خيال باطل سوف يفوت ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت فأنت انظر ما مكان الدين في نفسك، ولا تخطون بقدمك خطوة إلا إذا سألت أهل العلم أيحل لي أن أخطو أم لا؟ فإذا قالوا لك: لا يحل، فقف. الإمام البخاري رحمه الله، ذكر في ترجمة أبيه شيئاً واحداً تعجبون له، لما ذكر والده قال: (رأى حماد بن زيد) رآه بعينيه هذه منقبة كبيرة جداً، لو وجد لأبيه منقبةً أعلى من هذه لذكرها، لكن يا لِحظه!! رأى حماد بن زيد بعينيه!! وليس هذا فقط، قال: وصافح ابن المبارك بكلتا يديه) والدته دعت له، يسلم على ابن المبارك بيديه الاثنتين، هذه هي المنقبة الخاصة بوالد الإمام البخاري. وابنه يريد أن يذكر له منقبة محترمة، فيذكر هذه المنقبة: (رأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه)، فمن تمام محبتك أن لا تخطو خطوةً إلى الأمام مهما قلت ودقت وكانت صغيرة في نظرك إلا وتسأل أهل العلم: ما حكم الله فيها؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها؟! فإذا فعلت ذلك كان ترجمةً صادقة لمحبتك، فالبدار البدار قبل الفوات! والعودة العود إلى حظيرة السنة!. نسأل الله تبارك وتعالى أن يقبضنا وإياكم على التوحيد الخالص، اللهم ارزقنا حبك، وحب من أحبك، وحب ما يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة عامة لطلبة الجامعة والمدارس

نصيحة عامة لطلبة الجامعة والمدارس Q نريد من فضيلة الشيخ أن يوجه نصيحة لطلبة الجامعات والمدارس وهم على الأبواب؟ A إخواننا في الجامعة على وجه الخصوص أقول لهم: كونوا كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عندما سمع رجلاً يقول: (والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ما تركناه يمشي على الأرض) حذيفة سمع هذه الكلمة ما معنى هذا؟ معناه أن الصحابة قصروا في حق النبي عليه الصلاة والسلام وتركوه يمشي على الأرض!!. فقال حذيفة له: (يا ابن أخي! أكنت تفعل ذلك؟)، ثم ذكر له موقفاً واحداً، ومن هذا الموقف أدلف إلى نصيحة طلبة وطالبات الجامعة. قص عليه موقفاً واحداً. لما كان يوم الأحزاب وكان الجو بارداً شديد البرودة، حتى أن الصحابة كان الواحد منهم يحفر لنفسه حفرة ويدفن نفسه فيها من البرد، وتعرفون الصحابة وجلدهم، وكيف كانوا يتحملون الحرارة في مكة التي تغلي منها الرءوس، وكانت أمورهم وحياتهم على ما يرام ولامشكلة، فتخيل هذا الصبور يحفر لنفسه حفرة لأنه لا يتحمل البرد! وهم في حفرهم في الرمل! فالنبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرسل عيناً على المشركين فقال: (من يأتيني بخبر القوم وهو معي في الجنة؟) أظن هذا حافزاً يجعلهم كلهم يخرجون من الحفُر!. ومع هذا لم يقم أحد من حفرته من شدة البرد، فكرر ثلاث مرات: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة؟ -فكأن حذيفة أحس أنه سيقول له: قم فأدخل نفسه في الحفرة أكثر، فقال: (فتقاصرت) -أي: أدخل نفسه في الحفرة أكثر- قال: فقال لي: (قم يا حذيفة)، قال: (ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بد)، قمتُ فقال لي: (ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علينا) -أي: لا تنفرهم أو تهيِّجهم علينا وإنما بهدوء- (ودعا لي؛ فكأنني أمشي في حمام) -ذهب عنه البرد وما يجد من القُر كأنه يمشي في حمام- قال: (فذهبت إليهم فرأيتُ ناراً عظيمةً) -أحدهم عاري الظهر ويصطلي بالنار، أي: يستدفئ- (فعلمتُ أنه أبو سفيان) -وهذه كانت أول مرة يرى فيها أبا سفيان - قال: (فأخذت السهم ووضعته في كبد القوس، وهممت أن أضربه فتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذعرهم علينا). قال: (ورجعتُ فأخبرته خبر القوم فعاد لي القُر -أي: رجع البرد مرة أخرى بعد أن أدى المهمة، وانتهى مفعول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليَّ من القُر أعطاني عباءته فتدثرت بها، فنمت حتى الصباح، قال: فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: (قم يا نومان). هذا الحديث يدل على صدق الانتماء إلى الله سبحانه لن تنصر دينك إلا بصدق الانتماء إلى ربك، الجامعات فيها شيء في الدراسات العليا والماجستير والدكتوراه اسمه: الحياد العلمي، وهذا المفهوم في مصطلحنا: هو ترك الانتماء إلى السلف، أي: عندما تنظر في أي قضية؛ اعتبر نفسك مقطوعاً من شجرة، لا تنتمي ولا تستحضر دينك؛ لأنك إذا استحضرت دينك ستنحاز له، وإذا انحزت إلى دينك ينعدم عنك الحياد العلمي الذي نريد أن نربيه فيك. الحياد العلمي هذا أتانا من الغرب، قال الدكتور طه حسين: ينبغي أن ننظر إلى القرآن على أنه كتابٌ أدبي، لا أنه من عند الله، ويتعرض للنقض وللقواعد النحوية؛ ولذلك العلماء طردوه، ومن جملة العلماء علماء الأزهر، فلما طردوه ذهب وأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس، لا من بلاد العرب أو من الأزهر، طردوه وكفروه بسبب كتاب (الشعر الجاهلي)، وعاد وقال: أنا تبت وأنبت، والأستاذ أنور الجندي نقل في بعض مقالاته أن الدكتور طه حسين سُئل في آخر حياته: أما زلت معتقداً الكلام الذي في كتاب (الشعر الجاهلي)؟ قال: ما تركت منه حرفاً. معتقد تماماً ما في الشعر الجاهلي الذي كفره العلماء بسببه. فباسم الحياد العلمي يدخل المرء ناسياً أنه مسلم لماذا؟ يقول لك: لأن الحياد العلمي معناه عدم الانحياز، وإذا انحزت ضاع الحياد. لا يستطيع رجلٌ ولو كان من عباد الحجر أن يترك انتماءه أبداً أنترك انتماءنا إلى الله ورسوله؟ يا إخوة: هناك قصة تناقلتها المجلات العلمية، أنا أقولها للشباب، لأن الشباب هم أمل الأمة، ورقة بن نوفل يقول فيها: (يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك)، تمنى أن يرجع شباباً ينصره، فلا ينصر الدين إلا الشباب، القصة هذه تناقلتها المجلات العلمية وأنا لا أحتج بها، إنما أذكرها لأستنفر؛ فإن الأسد إذا قيل له: إن الكلب يفعل كذا وكذا يغتاظ أن يُضرب له المثل بالكلب. فهذه قصة رجل مهندس، غيّر وجه العالم بعلمه، فشباب الجامعة يقول لك: تريد مننا أن نغير الدنيا؟ نعم تغيرها، لماذا لا تغيرها؟ رجل واحد أقرض بعض البلاد العربية بخمسمائة مليار دولار، في حرب الخليج هذه الأموال لو وزعت على المسلمين لكان كل فرد من الأغنياء (مليونيراً)، وما كان هناك فقير على وجه الأرض من المسلمين رجل واحد عمل هكذا؟ نعم رجل واحد يفسد الدنيا، ورجل واحد يصلح العالم، لماذا تقتل المواهب فيك؟ هذا الرجل اسمه، بعد الحرب العالمية الثانية، بعد القنبلة الذرية التي نزلت في هيروشيما في اليابان، وحصل عليها حظر حتى الآن واليابان لا تستطيع تصنيع طائرة عسكرية ولا دبابة ولا مدفع، حتى الآن، أرأيتم في عمركم طائرة حربية من تصنيع اليابان؟ هناك تفتيش كل ستة أشهر على كل مصانع اليابان وكذلك ألمانيا حتى يضمنوا أن هذه البلاد لا تنتج السلاح العسكري، ولكن أطلقوا أيديهم في الصناعات السلمية الثلاجات والغسالات والسيارات وما شابه ذلك، فأوفدت اليابان طلائع، منهم: هذا المهندس. ، الذي ذهب إلى ألمانيا ليأخذ الدكتوراه في علم المحركات، نزل ألمانيا حتى يعود بلقب دكتور، والقطعة التي يصفوها يعطي لها رقماً، ويرسمها على ورقة من أجل إذا جاء يركِّبها دون أن يرتبِك، فك المحرك وركّبه، قال: وشغلته فاشتغل قال: فكاد قلبي أن يتوقف من الفرح، أخذت المسألة منه ثلاثة أيام، قال: فذهبت إلى أستاذي في البعثة وقلت له: إني فعلت كذا وكذا فقال: حسناً، هذا محرك عطلان ابحث عن العطل الذي فيه: أخذ المحرك أيضاً بنفس الطريقة وفكه، اكتشف أن فيه عطلاً مثلاً سلك متآكل، أصلح السلك وشغّله فاشتغل، أخذت المسألة هذه منه عشرة أيام، قال: فذهبت إلى أستاذي وقلت له: إنني وجدت سلكاً فيه كذا وكذا قال: حسناً ينبغي أن تلتحق بمصانع صهر النحاس والحديد والألمنيوم؛ لأنه لا يستقيم لك أن تأخذ قطعة غيارك من خارج بلادك، لازم تصنع قطع غيار بنفسك، قال: (فذهبت إلى أحد هذه المصانع، ولبست الزي الخاص بالعامل، قال: وكنت عاملاً تحت العامل -مع أنني من أسرة ساموراي- أنا رجل صاحب أصل ومن أسرة عريقة؛ لكنني كنت أعمل عاملاً تحت العامل وأطيعه، ثم قال: (وكل شيء يهون لأجل اليابان)، ينتمي إلى تراب وطنه، (كل شيء يهون لأجل اليابان)، ظل في هذا المصنع ثماني سنين، نسي أنه ذاهب ليحضر الدكتوراه، لماذا؟ لأن هناك هم أكبر من ذلك، إن الرجل النكرة إذا انتمى إلى أمةٍ عظيمةٍ كان عزه من عز أمته، وإن الرجل العظيم إذا انتمى إلى أمة نكرة، وطئ بالنعال. المرأة التي قالت: وامعتصماه! أيعرف أحد اسمها؟! والرجل الذي حمل الصرخة إلى المعتصم أيعرفه أحد؟ لا أحد يعرفه، لكن امرأة عرّاها اليهود وكشفوا عن سوأتها رآها رجلٌ كان في أمةٍ عزيزةٍ عز بعزها، فحملته هذه النخوة والعزة أن يذهب إلى المعتصم ليقول له: حدث كذا وكذا اليهود عروا كثيراً من نساء المسلمين في بيوت الموضة والأزياء، وكُشِفت سوأة امرأةٍ واحدة فجرد المعتصم الجيش العرمرم، ودخل وفتح عمورية بسبب امرأةٍ لا نعرف اسمها ولا نسبها، وربما المعتصم لم يسمع بهذه المرأة قط. لماذا؟ لأنها كانت تنتمي إلى أمة عزيزة، أمة قوية. الآن الأمريكي قد يجرح سهواً في أي مكان في العالم، فتقوم الدنيا على قدمٍ وساق، ومائة مسلم أو أكثر يُقتلون في المسجد الأقصى وهم سجود ولا عزاء ولا نداء!!. دماء المسلمين أرخص دماء في العالم، لا يستطيع مسلم أن يذبح بقرةً في الهند، وإلا قتلوه وأكلوه. رجل يمني في بلد عربي -وكنت حاضراً هذه الواقعة- تجاوز الإشارة، فلحقت به شرطة الدورية وأحضروه، فأخرج الجنسية اليمنية، فقال له: يمني وتكسر الإشارة أيضاً؟! أي أن اليمني أجرب، هذا معنى الكلام، فاليمني قام بخطف وثيقة الجنسية اليمنية هذه، وأخرج له الجنسية الأمريكية، لأنه عاش في أمريكا، فقال له: يمني وأمريكي!! إن هذا لشيء عجاب! قال أنت تستهزئ بي!! وظهر أن هناك هاتفاً في السيارة، طلَب السفير الأمريكي، فيأتيه السفير ويعتذر قائد دورية الشرطة رغم أنه ليس أمريكي صرف، إنما هو عربي متجنِّس. إذاً قوة أمتنا بقوة الأفراد، الانتماء إلى هذه الأمة هو المخرج. الجامعات فيها كثير جداً من الشباب، وأنا ركّزت على مثل هذا لأنه يُتوقع أن طالب الجامعة يحضِّر دراسات عليا، يحضِّر دكتوراه وماجستير، فيفاجأ بكلمة الحياد العلمي، فنكشف هذا المصطلح كشفاً صريحاً. الحياد العلمي في الجامعات معناه: ترك الانتماء، فعليك بمذهب السلف، مذهب القرن الأول، مذهب الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وهذا القيد هو الذي يميز المنهج الحق عن المناهج المبتدعة والله أعلم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا، والحمد لله رب العالمين.

جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى

جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما ينفعنا وما يضرنا، لذلك قد يبتلي سبحانه بعض عباده بالخير والبعض الآخر بالشر، وقد ابتلى سبحانه وتعالى أنبياءه واختبرهم، ومن أولئك الأنبياء أيوب عليه السلام، فقد صبر هذا النبي على البلاء، وحمده لله سبحانه على ذلك.

الابتلاء سبب في تقوية القلوب

الابتلاء سبب في تقوية القلوب إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. إن الله تعالى كتب الابتلاء على كل فرد، فلا ينجو منه أحد، لكن يبتلى كل إنسان ببلاء يخالف بلاء الرجل الآخر، لكن لا يمضي رجل أبداً -سواء من المؤمنين أو الكافرين- إلا وقد ابتلي في الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لأصحابه خطاً مربعاً، ثم مد خطاً من داخل المربع فتجاوز المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً في داخل المربع، وحول هذا الخط الطويل، ثم أشار إلى المربع وقال عليه الصلاة والسلام: (هذا أجل ابن آدم محيط به، ثم أشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله -أي: أن أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصار حول هذا الخط الطويل وقال: هذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر). يعني: أن الإنسان في الدنيا لا ينفك أبداً عن عرض يعرض له وعن فتنة تلابسه. إن أعظم منافع التعرض للبلاء هو أنه يجعل القلب قوياً؛ لأن القلب إنما يستمد مادة حياته من البلاء؛ ولذلك اختار الله عز وجل البلاء لأوليائه وأنبيائه، ترى هل يترك الله عز وجل أولياءه يتخبطون في الأرض؟! لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ لماذا يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم ويختبئ في الغار؟ لماذا يدال على دولة المؤمنين كثيراً وهم أولياء الله عز وجل؟! لأن القلب يستمد حياته من المحن، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، إما أهل الابتلاء فهم أقوى الناس قلوباً، والعبد يوم القيامة يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، قال إبراهيم عليه السلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89]. وصعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً إلى شجرة، فنظر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتضاحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما يضحككم؟ قالوا: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه -وكان ابن مسعود ضعيفاً شديد الضعف، بحيث أن الرياح إذا هبت كانت تكفؤه، فلما صعد إلى الشجرة رأوا دقة ساقيه فتضاحكوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد)؛ ذلك لأن الله عز وجل يزن العباد يوم القيامة بقلوبهم.

أيوب عليه السلام أنموذج في الصبر على الابتلاء

أيوب عليه السلام أنموذج في الصبر على الابتلاء وعندنا نماذج كثيرة من صور المبتلين: أول هؤلاء المبتلين وأشهرهم هو: أيوب عليه السلام، زكاه ربه سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وقد روى ابن حبان والإمام أحمد في مسنده قصة أيوب على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (لبث أيوب في بلائه ثمانية عشر عاماً، فرفضه القريب والبعيد غير أخوين له، وذات يوم كانا يجلسان عنده، فلما قاما وهما بالانصراف قال أحدهما للآخر: تعلم أن أيوب أصاب ذنباً عظيماً؟ قال: ولم؟ قال: لأن الله ابتلاه منذ ثمانية عشر عاماً ما رفع عنه، قال: فلم يتمالك هذا الرجل الآخر إلا أن رجع إلى أيوب عليه السلام، فرجع إليه وقال له: إن أخي يقول: إنك ارتكبت ذنباً عظيماً، وإلا فلماذا لم يرفع عنك الله البلاء حتى الآن؟ فقال أيوب عليه السلام: أنا لا أعرف شيئاً من ذلك، غير أني كنت إذا سمعت الرجل يحلف، فأخاف أن يحنث فأرجع إلى بيتي فأكفر عنه) هذا هو الذي يذكره أيوب عليه السلام، وهذه هي عادة المؤمنين، يكرهون أن يحنث في اسم الله العظيم، قد يكذب نفسه لكن لا يتحمل أن يحنث في اسم الله، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبصر عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له: أتسرق؟ فقال الرجل: والله ما سرقت، فقال عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت بصري) تكذيب نفسه أهون عنده من أن يحنث في اسم الله العظيم. وقد ذكر ابن عبد البر -والعهدة عليه في تصحيح هذا الخبر- قال: روينا بأسانيد صحيحة أن عبد الله بن رواحة -وهو شاعر النبي عليه الصلاة والسلام- رأته امرأته يطأ جارية له، فغارت وجاءت بسكين، وقالت له: فعلت وفعلت. قال: ما فعلت؟ قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن. فأنشد عبد الله بن رواحة -والمرأة ما كانت تحفظ القرآن-: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمين وتحمله ملائكة غلاظ ملائكة الإله مسومين فألقت المرأة بالسكين وقالت المرأة: آمنت بالله وكذبت بصري. هكذا فإن العبد المؤمن يكره أن يحنث في اسم الله العظيم، يكذب نفسه ويكذب عينه ويكره أن يحنث في اسم الله. كذلك فعل أيوب عليه السلام قال: كنت أسمع الرجل يحلف فأكره أن يحنث في اسم الله، فكان يرجع إلى بيته فيكفر عنه، ثم إن الله تبارك وتعالى امتن على أيوب عليه السلام فقال له تبارك وتعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42]، فامرأته رجعت إليه فوجدت رجلاً صحيحاً معافىً، فقالت له: أي بارك الله فيك! أما رأيت نبي الله أيوب ذاك الرجل المبتلى؟ قال: هو أنا. وهكذا فإن الله تبارك وتعالى منَّ عليه وملأ خزائنه ورضي عنه. وفي الصحيحين: (أن أيوب عليه السلام كان يغتسل عرياناً، فجاء فخذ جراد من ذهب فجعل يحثو في ثوبه، فقال الله عز وجل له: يا أيوب! أو لم أكن أغنيتك؟ قال: يا رب! لا غنى لي عن بركتك). فكان أيوب عليه السلام سيد الصابرين، وضرب الله عز وجل به المثل في القرآن كثيراً، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا).

سلامة قلب أيوب عليه السلام عند الابتلاء

سلامة قلب أيوب عليه السلام عند الابتلاء إن المهم بالنسبة للعبد المبتلى هو سلامة القلب، فلا يضرك ما فاتك من جارحتك إذا سلم قلبك، ما كان عند أيوب عليه السلام إلا قلباً، حتى إن أحاديث الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب فيها روايات تقول: إن أيوب عليه السلام كان الدود يرعى في جسمه، لكنه ما ضره ما فاته من جارحته إذ سلم قلبه. فلا تنظر إلى جارحتك، فأنت لا تدري لعل الله تبارك وتعالى إن تركك صحيحاً كنت من العصاة، فالعجز عن معصية الله نعمة. وهنا تحضرني قصة كنت أحد أطرافها، وملخصها: أن طفل صغيراً عمره تسع سنوات، ولد وفي قلبه ثقب، ثم إن هذا الثقب أثر فيه فكان معاقاً من أطرافه الأربعة، ثم عرضنا أمر هذا الطفل الصغير على بعض أهل الخير فتبرع بكرسي وتبرع بدفع نفقات جلسات كهرباء لهذا الولد الصغير. بدأ الطفل في رحلة العلاج، وسبحان الذي برأه وأعاده مرة أخرى إلى صحته بعد حوالي سبع سنوات! وقف هذا الطفل على رجليه واسترد عافيته، وحين شب صار يعمل في الأعمال اليدوية الشاقة، سافر هذا الشاب إلى العراق من نحو عشر سنوات أو أكثر، ولما ذهب هناك ما ترك معصية إلا فعلها، فعل كل شيء؛ زنى فأدمن الزنا، وشرب الخمر فأدمن شرب الخمر، ثم رجع مرة أخرى وهو يجر أذيال خيبته، ومن حينها ما استقام، وهو حتى الآن لا يصلي! فلو بقي عاجزاً ألم يكن ذلك نعمة له؟ فالله تبارك وتعالى يبتلي بالشر والخير، لكن أحسن الظن بربك، قل: إن الله اختار لي ما فيه الخير، فلو كنت صحيحاً قد لا أكون طائعاً، قد لا أكون ممتثلاً، فإذا أحسنت الظن بالله تبارك وتعالى ضمن لك سلامة قلبك: فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل

أنموذج عظيم في الصبر على البلاء

أنموذج عظيم في الصبر على البلاء وقد روى الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات قصة عجيبة لمعوق من أشهر المعوقين في تاريخ المسلمين وهو الإمام الكبير العلم أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد وكان من الرواة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ويروي هذه القصة عبد الله بن محمد. قال: خرجت مرابطاً في عريش مصر، فبينما أنا أمشي إذ مررت بخيمة وسمعت رجلاً يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] قال: فنظرت إلى هذا الرجل الذي يدعو فإذا هو معاق، وقد فقد يديه ورجليه، وفقد بصره، وثقل سمعه، فجئته وقلت له: يا عبد الله! إني سمعتك تقول كذا وكذا، فعلى أي شيء تحمد الله؟! فقال له: يا عبد الله! والله لو أرسل الله الجبال فدمرتني، والبحار فأغرقتني، ما وفيت نعمة ربي على هذا اللسان الذاكر، ثم قال له: لقد فقدت ابني منذ ثلاثة أيام، فهل تلتمسه لي؟ وكان ابنه هذا يوضئه ويطعمه، فقلت له: والله ما سعى أحد في حاجة أحد أفضل من حاجتك. قال: فتركته وخرجت أبحث عن الغلام، فما مشيت قليلاً إلا وأبصرت عظمه بين كثبان من الرمل، وإذا بسبع قد افترسه، قال: فوقفت وقلت: كيف أرجع إلى صاحبي وماذا أقول له؟! وجعلت أتذكر، قال: فتذكرت أيوب عليه السلام فلما رجعت إليه سلمت عليه، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: فماذا فعل ولدي؟ قلت: هل تذكر أيوب عليه السلام؟ قال: نعم. قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه الله عز وجل في نفسه وفي ماله، قال: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، قال: ولم يكن ذلك فقط، إنما انفض عنه القريب والبعيد، ورفضه القريب والبعيد، قلت: وكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، يا عبد الله! ماذا تريد؟ فقال له: احتسب ولدك، فإني وجدت سبعاً افترسه بين كثبان الرمل، قال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذرية إلى النار، وشهق شهقة فخرجت روحه فيها، قال عبد الله بن محمد: فقعدت حائراً ماذا أفعل، لو تركته لأكلته السباع، ولو ظللت بجانبه ما استطعت أن أفعل له شيئاً. قال: فبينما أنا كذلك إذا هجم علي جماعة من قطاع الطرق، فقالوا: ما حكايتك؟ فحكيت لهم الحكاية، قالوا: اكشف لنا عن وجهه، فكشفت عن وجهه فانكبوا عليه يقبلونه وهم يقولون: بأبي عيناً طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسماً كان على البلاء صابراً، قال: فغسلناه وكفناه ودفناه، ثم رجعت إلى رباطي. قال: فنمت فرأيته في منامي صحيحاً معافى، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: فما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة وقال لي: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] فهذا كان معوقاً لكن سلم قلبه. إن الطب النفسي كله في الوقت الحاضر يعالج شيئاً واحداً فقط، وهو اضطراب القلب، والخوف من المجهول، وأغلب -إن لم يكن كل- الأطباء النفسيين مرضى ويحتاجون إلى علاج؛ لأنهم ينصحون المكتئب بمعصية الله عز وجل. أعرف طبيباً يذهب إليه المتكئب فيقول للمكتئب: هل أحببت امرأة قط؟ يقول له: لا. يقول له: هل لديك علاقة مع أي امرأة؟ يجيب المكتئب: لا. يقول الطبيب: هذا السبب، لابد أن تحب، الحب حياة القلب. يسأله الطبيب مرة أخرى: هل تسمع موسيقى؟ يجيبه: لا. فيقول: لابد أن تسمع الموسيقى حتى ترتاح أعصابك. هؤلاء الأطباء مرضى، وإن الطب النفسي الحقيقي كله موجود في آية في كتاب الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: (إنا لفي سعادة لو علم بها ملوك الأرض لجالدونا عليها بالسيوف)، السعادة هي: السلام النفسي الذي يشعر المرء به، لو بذل المرء كل غال ونفيس ما استطاع أن يشتري قلب أحد، فالاكتئاب والخوف إنما هو بسبب ضعف هذا القلب. إذاً: الإنسان لابد أن ينظر إلى قلبه، فقوة الجارحة تابعة لقوة القلب، وضعف الجارحة تابعة لضعف القلب، وأنت ترى الرجل القوي الفتي صاحب العضلات المفتولة ربما تقول له خبراً ما يجعله يخر صريعاً على الأرض لا تحمله قدماه برغم سلامة العضلة وقوة الجارحة، لماذا سقط هذا الرجل؟ لضعف قلبه، فعزمك في قلبك، لا يضرك ما فاتك في جارحتك. وهناك كثير من أهل العلم والفضل ابتلاهم الله تبارك وتعالى بنوع من أنواع البلاء، فعندنا مثلاً الإمام الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وهو من أشهر الرواة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولا يعرف في كتب الحديث إلا بـ الأعرج، وكذلك عاصم بن سليمان الأحول، لا يعرف في الكتب إلا بـ الأحول، فإذا قيل: الأحول عن أنس فهو عاصم بن سليمان، وكذلك الإمام الترمذي صاحب السنن ولد أعمى، والإمام حماد بن زيد -أيضاً- ولد أعمى، وكذلك قال العلماء في ترجمة حماد بن سلمة: كان عابداً زاهداً لو قيل له القيامة غداً ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، وكان حماد بن زيد ضريراً ويحفظ حديثه كله، وهو من الأئمة الثقات الذين عقدت عليهم الخناصر في العدالة والضبط. فنحن يجب أن ننظر نظرة اعتبار إلى هذا القلب، فالقلب ملك البدن، وإذا طاب الملك؛ طابت جوارحه، وإذا خبث الملك خبثت جوارحه، وهذا القلب الذي به قوام حياتك هو في يد الله عز وجل، فأنت لا تملكه ولا تستطيع أن تتصرف فيه، فأحياناً تغلب على حب شيء ما يتلفك وتنفق مالك كله بسببه، وربما فقد المرء سمعته، ومع ذلك يقول: قلبي ليس بيدي، فلو كان قلبه بيده لما كفر ولا جحد ولا نسي الله طرفة عين، لكن قلبه بيد الله عز وجل. وإلى هذه الآية العظيمة الباهرة أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب) إشارة إلى أن هذا القلب لا يحسن أحد التصرف فيه، ولا الهيمنة عليه إلا الله تبارك وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء) فالبلاء ليس غضباً من الله تعالى، كما أنه ليس رضا، أعني: أن البلاء ليس علامة غضب أو رضا، ربما يبتلي الله عز وجل العبد في الدنيا ويزيده في الآخرة عذاباً، وربما ابتلاه في الدنيا ليرفع درجته، ولكن ما هو الضابط؟ إن الضابط استقامة المرء على المنهج الحق وعلى طريق الله عز وجل. دخل رجل على أحد أصحابه في القرن الثالث الهجري فوجده مريضاً يئن، فقال له: ليس بمحبٍ من لم يصبر على ضرب حبيبه، فقال له الرجل: بل ليس بمحب من لم يتلذذ بضرب حبيبه.

عروة بن الزبير الصابر المحتسب

عروة بن الزبير الصابر المحتسب وفي الحكاية الصحيحة الثابتة: أن عروة بن الزبير بن العوام -وهو أحد التابعين الكبار- رحل إلى عبد الملك بن مروان، وكان في رجله مرض ودبت إلى رجله الأكلة، فلما وصل إلى عبد الملك بن مروان استشرى المرض في رجله، فقال الطبيب له: لا حل إلا أن نقطعها لك، قال: وكيف ذلك؟ قالوا: تشرب خمراً حتى نستطيع أن نقطعها لك فلا تتألم. فقال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني حتى إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها -لولا أن أسانيد هذه القصة صحيحة لما كاد المرء يصدقها! - قال: فلما دخل في الصلاة قطعوها فما أحس بها، وبعد أيام من قطع رجله، سقط ولده من على سطح الدار فمات، -وكان عنده سبعة أولاد- فبلغ ذلك عروة فقال: اللهم لك الحمد، أخذت واحداً وأبقيت ستة، وأخذت عضواً وأبقيت ثلاثة، اللهم لئن ابتليت فلقد عافيت، ولئن أخذت فلقد أبقيت، قال الله تبارك وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].

الصبر على البلاء سبب جلب معية الله الخاصة

الصبر على البلاء سبب جلب معية الله الخاصة أعظم الصبر هو الصبر عن معصية الله عز وجل، أحياناً الإنسان من يأسه وضجره من نفسه ومن المجتمع الذي حوله يبدأ يشغل نفسه بأشياء من اللهو الباطل، ويضيع حياته، لا يا أخي الكريم! كن منارة لهؤلاء الأصحاء الذين لا يشعرون بالنعمة العظيمة التي يتنعمون بها ليل نهار. رجل من الأعيان ومن أغنى الأغنياء في مدينة القاهرة، ابتلاه الله تبارك وتعالى بمرض خبيث -نسأل الله أن يعافينا وإياكم منه! - فقطعت ساقاه، ومع ذلك هذا الرجل -والله- نزوره لننظر إلى وجهه فقط، فنرى الرضا على وجهه، ولسانه ينطق بالرضا، ومع ذلك لم يرزق ولداً، وله إخوة في غاية العقوق، أخوه يسكن في الشقة المقابلة له في نفس العمارة التي يمتلكونها، يقسم لي بالله أن أخته تظل ثمانية أشهر لا تأتيه، ولا تسأل عنه وبين الباب والباب متر واحد فقط، ثمانية أشهر لا تأتيه، ويدخل في غيبوبة ويفيق من الغيبوبة ولا تأتيه، ولا يأتيه أولادها، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى جعل أفئدة الدعاة إلى الله عز وجل تهوي إليه، فمنتدى الدعاة كلهم عند هذا الرجل، تنطق أساريره بالرضا. يذكرني بكلام ذكره شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، كان يقول: كانت إذا ضاقت بنا الدنيا وأدركتنا الوحشة؛ ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، حتى يذهب عنا كل الذي نجده. مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أشهر المبتلين؛ فقد سجن سبعة عشر عاماً متفرقات، بسبب فتاويه التجديدية، لقد جدد دين الله تبارك وتعالى، وتحمل الأذى وصبر، ومع ذلك كان هذا الرجل مبتلى؛ إذا جاءوا ونظروا إلى وجهه تبدد ما يجدونه من ضيق النفس، وما هذا إلا للرضا الذي كان يشعر به شيخ الإسلام ابن تيمية. أنت -أيها المبتلى الصابر- في معية الله تبارك وتعالى العامة، وكذلك المعية الخاصة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] هذه هي المعية الخاصة التي هي أجل من المعية العامة، المهم أن تحسن ظنك بربك تبارك وتعالى، ولا تصرف عمرك ووقتك إلا فيما يرضيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا ندم عليها يوم القيامة). فأقول لكل أخ معاق: كن منارة، واضرب المثل للذين يرفلون في ثوب العافية، اجعلهم يحتقرون أنفسهم عندما يجدونك في الصف الأول في الصلاة، برغم أنك معاق ولا تتمتع بالحرية التي يتمتعون بها، فلعل أحداً ممن يراك يحتقر نفسه، ولربما كنت معلماً وإن لم تكن صاحب لسان. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حين المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

أحاديث موضوعة لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم

أحاديث موضوعة لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم Q هل هذان الحديثان صحيحان: (من نظر إلى زوجته غفر الله له حتى يرجع) وحديث: (من نزل السوق واشترى الحلوى، وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال؛ اختصه الله برحمته)؟ A هل يقصد من هذا أنه لا يدخل الجنة إلا إذا أتى هذا الفعل الله المستعان! الحديث لا أصل له. وحديث (من نزل السوق واشترى حلوى وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال إلا اختصه الله برحمته). وأما الحديث الثاني: فلا يصح، والإنسان الممارس للحديث والذي عنده مطالعة دائمة للحديث، يرى أمارات الوضع ظاهرة، مثل الأحاديث التي في الفواكه مثلاً: (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) فهذا حديث ذكره ابن الجوزي وغيره، وكذلك حديث: (المؤمن حلو يحب الحلاوة) ويظهر في هذا أن فيه ركاكة، وحديث: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير) هذه أيضاً أحاديث موجودة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يقلها. وهنا أغرب حديث وأوجعه، وهو حديث غريب جداً، ذكره أهل الحديث الذين جمعوا الأحاديث الموضوعة وهو (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى باذنجانة فأخذها وأكلها في لقمة - الباذنجانة في لقمة وهي كبيرة- ثم قال: الباذنجان شفاء من كل داء) فهذا كذب، فإنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح المطعومات إلا الشيء القليل. والحمد لله رب العالمين.

حديث في فضائل سورة (ق) و (قل هو الله أحد)

حديث في فضائل سورة (ق) و (قل هو الله أحد) Q ما مدى صحة هذا الحديث (من قرأ سورة (ق) و (قل هو الله أحد) خفف عليه من سكرات الموت)؟ A هذا الحديث لا أعلمه صحيحاً، وفضائل السور لم يصح منها إلا نزر يسير، فاحذر من تفسير الكشاف وتفسير أبي السعود ففيهما أحاديث منكرة جداً في فضائل السور، وبالذات تفسير أبي السعود وتفسير النسفي، فهذه فيها أحاديث كثيرة مكذوبة وضعها رجل يقال له: نوح بن أبي مريم، وكان صاحباً لـ أبي حنيفة، فكان يسهر عامة ليله يضع الأحاديث ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ آية كذا فله كذا، ومن قرأ سورة كذا فله كذا، وهناك حديث مشهور بيننا جميعاً، وهو حديث ابن مسعود: (من قرأ سورة الواقعة صباح كل يوم أمن من الفاقة) هذا الحديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يصح في فضائل السور شيئاً كبيراً. فقيل لـ نوح بن أبي مريم: لماذا وضعت هذه الأحاديث وكذبت على النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: إني رأيت الناس انشغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن أبي إسحاق عن القرآن فوضعت هذه حسبة لله، يعني أنه عمل هذا لوجه الله، يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام لوجه الله. قال فيه ابن حبان وكان يسمى نوح الجامع؛ لأنه كان يجمع العلوم كلها عنده من فقه وسيرة وحفظ أحاديث وتفسير، قال ابن حبان في ترجمته: جمع كل شيء إلا الصدق -عنده كل الصفات إلا الصدق- لقد كان كذاباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة Q هناك من علمائنا الأفاضل من يرى أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط: في الحرم المكي، وبيت المقدس، والحرم النبوي، فما قولكم في الاعتكاف في المساجد الأخرى؟ A الحديث الذي يحتجون به هو: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هذا الحديث معل بالوقف على الصحيح، ثم لو لم يكن معلاً بالوقف لوجب تأويله، بمعنى: لا اعتكاف أفضل من المساجد الثلاثة، وعلى هذا مضى عمل جماهير المسلمين، والله أعلم.

حكم الإسبال والصلاة خلف المسبل

حكم الإسبال والصلاة خلف المسبل Q ما حكم الإسبال؟ وما جزاء الإمام المسبل؟ وهل تقبل الصلاة خلفه؟ A أما الإسبال: فحرام؛ لا يجوز لأحد أن يجر إزاره دون الكعبين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والذين توهموا أن جر الإزار مذموم مع الكبر والخيلاء أخطئوا في ذلك لماذا؟ لأنهم خلطوا بين حديثين: الحديث الأول (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والحديث الآخر: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) قالوا: إذاً: لو جر إزاره بغير الخيلاء فهو جائز، أما إذا جره خيلاء فهذا هو الذي لا ينظر الله عز وجل إليه، نقول: لا. هناك مسألتان. المسألة الأولى: الجر بغير خيلاء، والمسألة الأخرى: الجر بخيلاء، وعلماء الأصول يقولون: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، فهؤلاء حملوا المطلق في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) حملوا هذا المطلق على معنى مقيد بقيد الخيلاء في الحديث الآخر، إذاً: فمن جر إزاره خيلاء فهو المحاسب المعاقب عند هؤلاء. فنقول: لا. العلماء لهم قاعدة تقول: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، وقد ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار، ومن جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) فذكرهما في سياق واحد، فالحكم مختلف والسبب واحد، فما السبب؟ السبب هو جر الإزار، وما هو الحكم؟ الحكم الأول: يدخل النار، الحكم الثاني: لا ينظر الله إليه، ولا شك أن إعراض الله عنه أعظم من دخوله النار، فهذه عقوبة مضاعفة. وهم يحتجون -أيضاً- بواقعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فقالوا: إذاً العبد إذا لم يفعله خيلاء لا يتحقق في حقه الوعيد؛ اقتداء ًبـ أبي بكر الصديق. نقول: لا. أبو بكر الصديق من عرف سيرته محال أن يظن أنه كان يجر إزاره بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمي الصديق لتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون مثل هذا المثال: أبو بكر الصديق يسمع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جر الإزار فيجر ثم يعتذر، إن هذا ظن من لا يعرف أبا بكر رضي الله عنه، ويدل على هذا قوله: (إن أحد شقي إزاري)، ومن المعلوم أن الإزار له شقان فيقول: (إن أحد شقي إزاري يسترخي) فهذا يدل على أن أحد شقيه مرفوع فوق الكعبين والشق الآخر هو الذي يسترخي، ومع ذلك يقول: (وأنا أتعهده) أي: بشده إلى أعلى. إذاً: لماذا كان ذلك؟ روى ابن سعد رحمه الله من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت على أبي بكر الصديق فإذا هو رجل نحيف خفيف اللحم أبيض، فكان إزاره يسترخي من على حقوه. ولو قال قائل: هذا الحكم خاص بـ أبي بكر لما أبعد، والدليل على ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله روى في مسنده بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب جديد يتقعقع-يعني: ثوب جديد يحدث أصواتاً وقرقعات مع الحركة- قال: من؟ قلت: أنا عبد الله، قال: إن كنت عبد الله فارفع إزارك، قال: فرفعت، قال: فزد، قال: فرفعت قال: زد، قال: فرفعت إلى نصف الساق، فقال عليه الصلاة والسلام: من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه). وبعد مدة صغيرة جداً وهم في المجلس جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) ففرق في الحكم بين ابن عمر وبين أبي بكر الصديق، فدل ذلك على أن الحكم خاص بـ أبي بكر. إذاً: لو كان الحكم عاماً لعم الكل، وما خص به أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا ظاهر من قوله: (إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فالإنسان يشتم منها رائحة الخصوصية. أما الصلاة خلف المسبل فهي صحيحة، وأما الحديث الذي ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبل صلاة مسبل إزاره) فهذا حديث منكر له ثلاث علل، والله أعلم.

وقفة مع إخلاص العمل لله

وقفة مع إخلاص العمل لله Q قلتم: إن الإخلاص يعرفه العبد من نفسه وفٌهم ذلك مطلقاً، فكيف يفهم في ضوء ذلك الحديث الوارد في قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]؟ A لا تعارض بين أن يعرف المرء الإخلاص لنفسه وبين هذا الحديث، وهذا الحديث هو: (أن عائشة رضي الله عنها تلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فقالت عائشة: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ -يعني: يفعل الفعل وهو خائف؛ لأنه سيرجع إلى ربه فيحاسبه، أهو الذي يزني فيخشى أن يحاسبه ويسرق ويخشى أن يحاسبه- فقال: لا يا ابنة الصديق، هؤلاء أقوام جاءوا بزكاة وصلاة وصدقة، ويخشون ألا يتقبل منهم) ليس معنى معرفة الإخلاص أن يركن العبد إلى عمله ويظن أنه مقبول، هناك فرق بين قبول العمل وبين صحة العمل. فلو أن رجلاً توضأ واستوفى وضوءه، واستقبل القبلة وأتى بأركان الصلاة، وأتى بشرائطها وواجباتها ومستحباتها، وبعد أن أنهى صلاته التفت إليك وقال: أأنا مثاب على صلاتي؟ فلا تقل له: أنت مثاب، ولكن قل له: صلاتك صحيحة، أما مسألة الثواب فهذا لا يعرفه أحد، فعلى العبد المؤمن أن يهضم حظ نفسه، خشية أن يكون عنده رياء وهو يعمل، وليس في هذا معارضة؛ لأن الرجل يعرف أنه عمل هذا العمل بإخلاص، ليس فيه معارضة إنما هذا هو شأن المؤمن دائماً. أعظم العبادة: أن تعبد الله بالخوف والرجاء، فلو عبد العباد ربهم بالخوف فقط لقنطوا، ولو عبدوه بالرجاء فقط لاغتروا وتجاوزوا، فأفضل العبادة ما اقترن فيها الخوف بالرجاء، لكن كيف تكون عبادتك أفضل عبادة؟ يكون ذلك حين يفعل العبد الفعل ثم يغلبه الخوف أن الله لا يقبله؛ لأنه لم يستجمع قلبه فيه، فما هو الحل؟ الحل أن يحسن عمله، الذي ظن أنه ناقص، فبعد أن يحسنه يغلبه الخوف أيضاً فيخشى ألا يتقبل عمله فيحسنه، فلا يزال هكذا في تحسين دائم حتى يلقى الله عز وجل وهو محسن لعمله، أما إذا ركن وفعل الفعل، وقال: أنا فعلت ما عليّ، فهذا أول الفساد. هناك من الناس من يتصور أنه لو صلى وصام وحج وأخرج فضول ماله أنه قد فعل ما عليه، لا. فقد كان يعزى إلى عمر بن الخطاب أنه يقول: (لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا-أي: القوس- ما بلغتم الاستقامة) أي: الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها، وهذه الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها كامنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم) هذا يدلنا على أنه ليس هناك أي إنسان أبداً على وجه الأرض -حاشا الرسل- يستطيع أن يفعل كل ما أمر به. والمقصود كل ما أمر به من باب المستحبات وليس الواجبات؛ لأن الواجب -كما عليه العلماء- هو: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، ويعاقب تاركه، فبإمكان كل إنسان أن يفعل ما أمر به وجوباً، إنما قصد الحديث في المستحبات التي لا آخر لها، أما الواجب فإنه يفعله لزوماً إلا إذا عجز، فيسقط الواجب عنه بالعجز، فيبقى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما استطعتم)، وهذا الحديث -أيضاً- مناسب وهو ترجمة لقول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].

الشيخ أبو إسحاق ورحلته في طلب العلم

الشيخ أبو إسحاق ورحلته في طلب العلم Q سائل يناشد بحرارة فيقول: أرجو أن تعرفنا شيئاًَ عن حياتك ونشأتك وطلبك للعلم؟ A والله إن أثقل شيء عليَّ أن أتحدث عن نفسي، فليس في حياتي شيء يستحق الإشادة ولا الذكر، ولكن فيها ضرب من البلاء أيضاً، فلعلي لو ذكرت شيئاً أو طرفاً منه أن يتصبر إخواننا في الله تبارك وتعالى: تخرجت من كلية الألسن، جامعة عين شمس في القاهرة، وكنت أدرس اللغة الأسبانية واللغة الفرنسية، وتخرجت من الجامعة مع مرتبة الشرف الأولى، وكنت -بحمد الله عز وجل- متفوقاً في السنوات الأربعة طيلة دراستي. وبعد إنهاء الدراسة تعينت معيداً في الجامعة، ثم حدثت مشادة بيني وبين عميد الكلية ففصلني، وعُين الرجل الذي يليني مباشرة، ثم نشرت الإذاعة طلباً لمذيعين، فقدمت وكانت رغبتي ومرادي أن أكون مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم، وكان قصدي هو نشر السنة وعمل برنامج خاص عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، تنبيهاً لجماهير المسلمين، وأيضاً: تنبيهاً للمذيعين الآخرين الذين يكثرون من الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد ضيعوا جهود أهل الحديث جميعاً لما يحتجون بالأحاديث المناكير، كأن أهل الحديث ما عملوا شيئاً مذكوراً، يقرءون الأحاديث الموضوعة والمنكرة ويحتجون بها؛ فخطر ببالي أن أدخل وأتقدم وإن كانوا هم يريدون مذيعين للغة الأسبانية في البرنامج الأوربي، استشرت أحد مذيعي التلفزيون الكبار آنذاك، فقال لي: إنك لو دخلت قسم اللغة الأسبانية من السهل أن تغير إلى محطة القرآن الكريم، فهذا هو الذي أغراني، فدخلت وتقدمت مع أناس كثيرين كان جلهم من دفعتي في الكلية. والحمد لله كنت الأول في الترتيب، وهذه الأولية كانت بلاءً لي وامتحاناً، فلقد كان لديهم عجز في البرنامج الأوروبي في قسم اللغة الأسبانية، فأصروا عليّ، وقالوا: أنت لا تغادر هذا القسم أبداً، فبدأت فكانت مهمتي أن أراجع الخطابات التي تأتي من الخارج لمن يراسلون الإذاعة، وكان هناك برامج امتحانات ومسابقات كانوا يلقونها على أصحاب هذه البلاد، واللغة الأسبانية هي ثاني لغة في العالم بعد الإنجليزية بالنسبة لتعداد السكان الناطقين بها، فقد كان في حدود سنة (1976م) عدد الناطقين بالأسبانية في العالم ما يقارب أربعمائة مليون نسمة، وهي منطوق بها في أسبانيا وجزء من البرتغال وأمريكا الوسطى والمكسيك وأطراف كندا، كل هؤلاء يتكلمون باللغة الأسبانية. بدأت أفرغ هذه الخطابات فرأيت طامات، وجدت أشياءً ما تحملتها، فلما نزلت في الأستوديو لأسجل برنامجاً -وكانت أول مرة أسجل فيه برنامجاً- فإذا بالرجل يؤشر لي بإشارات معينة من خلف لوح الزجاج، يريد مني أن أرفع الموسيقى، فأول ما سمعت الموسيقى وقف شعري ولم أرجع إلى الاستديو مرة أخرى، وقلت: لا. أنا أظل في عملي الإداري، وحصلت مشادة كبيرة انتهت بأنني لم أستطع الاستمرار في الإذاعة فتركتها. كنت في هذه الآونة قد بدأت أدرس علوم الحديث وعلوم الفقه من أول سنة (1975م)، ومن هذا الحين بدأت أعرف علوم الشريعة، وبدأت هذه العلوم تتملك قلبي، فلم أستطب شيئاً في حياتي مثل هذه العلوم، ولعل الذي جعلني أترك الجامعة وأترك الإذاعة محبتي لهذه العلوم. انكببت على هذه العلوم، لكن لا أخفيكم أن للناس فضلاً عظيماً علي وعلى تحصيلي؛ وذلك لأني متخصص في علم الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، وأنتم تعلمون أن علم الحديث هو علم الخاصة وليس علم العامة، أي: لا أستطيع أن آتي في محاضرة عامة أو في خطبة جمعة أتكلم عن شروط الحديث الصحيح، وأن العلماء قالوا: هذا منكر، وعلامة المنكر كذا، وهذا شاذ، وعلامة الشاذ كذا، لا أستطيع، لكن الناس هم الذين جعلوني هكذا، هم الذين جعلوني أقرأ في الفقه والتفسير والحديث وفي الملح والنوادر، فحاجتهم وأسئلتهم هي التي أجبرتني على ذلك، فيأتيني رجل مثلاً يقول: أنا طلقت امرأتي في الحيض فهل الطلاق يقع؟ فلا يكون عندي أي معلومات عن الطلاق في الحيض أيقع أم لا، فأرجع إلى كتب أهل العلم وأقرأ في الطلاق في الحيض، فأجد خلافاً لأهل العلم فلا أستطيع أن أفتي إلا إذا اعتقدت قولاً ومذهباً من المذهبين بدليله، فأبدأ في رحلة دراسة الأدلة والترجيح بين الأدلة حتى أنتهي إلى أن -مثلاًً- الطلاق في الحيض يقع أو لا يقع، فلولا مثل هذه الفتاوى ما درس الإنسان شيئاً مذكوراً. أما الجد والاجتهاد فالإمام البخاري رحمه الله عندما دخل بغداد انبهر الناس بحفظه، ورأوا رجلاً عجيباً في حفظه، فتناقل أهل بغداد خبره -على عادة في تنقص الأكابر آنذاك- وقال بعضهم لبعض: إنه يأخذ دواء اسمه البلادر لتقوية الحفظ. فسمع محمد بن أبي حاتم الوراق فقال ابن أبي حاتم الوراق للبخاري: إن أهل بغداد يقولون عنك: إنك تتناول دواءً للحفظ، فهل ذلك صحيح؟ فقال الإمام البخاري رحمه الله: لا أعرف شيئاً من ذلك ولكن هي نهمة الناظر -أي: نهمة الطالب - وجودة النظر. فأي رجل يريد أن يحصِّل ويريد أن يحفظ عليه بهاتين الخصلتين: النهمة -أي: النهم الشديد والإقبال- ثم جودة النظر. وهناك كثير من إخواننا يقرءون في العلم ويقولون: نحن ننسى ما نقرأ، ما هو السبب في ذلك؟ السبب في ذلك: أنه لا ينوي أن ينفع أحداً بعلمه، يقرأ فقط، لكن لو كان يقرأ وعليه مسئولية محاضرة فسيحفظ؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي فيقف أمام الناس ويقعد على الكرسي صامتاً، لا بد أن يتكلم، وآفة العلم النسيان، وحياته المذاكرة، كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله. ولقد ذكر المناوي في فيض القدير أن ابن شهاب الزهري كان يأتي من عند أبي سلمة بن عبد الرحمن ومن عند سعيد بن المسيب فيوقظ جاريته النائمة فيقول لها: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، حدثني سعيد عن عائشة، فالجارية تقول: يا سيدي! ما لي ولـ أبي سلمة، ما لي ولـ سعيد! فيقول لها: أنا أعرف أنه لا علاقة لك لا بـ سعيد ولا بـ أبي سلمة، إنما آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة. فأنت إذا أردت أن تنعش هذه المعلومات فعليك بإثارة ذهنك، فلو أنك أنت تقرأ -مثلاً- على أساس أنك تبلغ شيئاً من دين الله تبارك وتعالى وتستوفي النظر والكلام في المسألة، فلن تنس هذه المسألة إن شاء الله، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم.

حال حديث صلاة التسبيح

حال حديث صلاة التسبيح Q ما تقولون في حديث صلاة التسبيح وما درجته؟ A هذا الحديث أنا متوقف فيه، أي: لا أحكم له بصحة ولا بضعف، وإن كان علماء الحديث قد تجاذبت عباراتهم فيه فمنهم من يصححه ومنهم من يقول: إنه حديث موضوع كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام.

التيمم عند فقد الماء

التيمم عند فقد الماء Q إذا كنت في الصحراء وليس لدي ماء لأتوضأ للصلاة، فوجدت بئراً فتوضأت منه، فلما انتهيت من الوضوء تبينت أن هذا البئر غير طاهر فهل أعيد وضوئي؟ A إذا فقدت الماء فعليك بالتيمم، والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ليس كما يتوهم كثير من الناس بناءً على رواية منكرة أخرجها أبو داود في سننه من رواية محمد بن ثابت العبدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضربتين للوجه والكفين وتوضأ للآباط والمناكب) فهذه رواية منكرة، لكن الصحيح في هذا عند أهل العلم أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، أي أن طريقة التيمم: أن تضرب على الأرض بيديك ثم تمسح وجهك وكفيك، وهذا هو التيمم، وقد اتفق العلماء على وجوب التيمم إذا عدم الإنسان الماء، والله أعلم.

البينة أوحد في ظهرها

البينة أوحد في ظهرها Q زوجة اتهمت أنها خانت زوجها مع أخيه أثناء غيابه، والذي اتهمتها بذلك أخت الزوج، وقام الزوج فطلقها هاتفياً منذ عام، ولم يتم الطلاق رسمياً، والزوج في حيرة لأنه علم بعد ذلك أنه لم تتم الفاحشة الكبرى، فما هو حكم الدين في هذا الطلاق؟ A أولاً: لا يجوز رمي امرأة بالزنا إلا إذا شهد عليها أربعة شهداء، ولا تكفي شهادة الأربعة أنهم رأوها مع رجل في لحاف، بل لابد أن يروا كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه وهو يقول للرجل: (أرأيته كما تضع الميل في المكحلة؟). لابد أن يتحقق من ذلك، فلو جاء ثلاثة شهود، ورأوا الفاحشة بأعينهم، ولم يأتوا بالرابع جلدوا؛ صيانة للأعراض، فإما أن يأتوا بأربعة شهداء وإما أن يظهر الحمل، كما قال عمر بن الخطاب، أن يظهر الحمل والزوج غائب، فهذا دلالة على الفاحشة، أو الاعتراف، أما ما دون ذلك فلا يجوز أبداً أن ترمى امرأة بالفاحشة، حتى لو شهدت أخت الزوج ورأت الفاحشة وتحققت من ذلك بنفسها، فالحد الشرعي أن تجلد هي ثمانين جلدة أو تأتي بأربعة شهداء. أما بالنسبة للطلاق: فلو قال لامرأته: أنت طالق؛ فقد وقع طلاقه، فإذا رجع في العدة كانت زوجة له، ولم يجب عليه مهر، ولم يجب عليه عقد جديد، أما إذا طلقها وظل على ذلك عاماً كاملاً فحينئذٍ يجوز له أن يراجعها بعقد جديد ومهر جديد. أما نصيحتنا له فلا نستطيع أن نخلص له النصح حتى نعلم الموضوع كله بأطرافه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا أعراضنا.

حكم من نذر ولم يستطع الوفاء بالنذر

حكم من نذر ولم يستطع الوفاء بالنذر Q لقد نذرت بناء مسجد لله تعالى إذا ما تحققت أمنية لي، والحمد لله وبفضله تحققت هذه الأمنية، ولكن ظروفي المالية لا تسمح لي بذلك، فهل لو شاركت في بناء مسجد عن طريق التبرع بمبلغ من المال لإحدى الجمعيات أو الهيئات الإسلامية أكون قد وفيت بنذري، وما هي كفارة النذر، أفيدونا أفادكم الله؟ A إذا نذرت أن تبني مسجداً لله عز وجل فأوف بنذرك ولو كان مسجداً صغيراً كمفحص قطاة، لا يشترط أن يكون مسجداً كبيراً، فوفي بنذرك حتى لو كان مسجداً صغيراً، أما إذا عجزت حتى عن الوفاء بهذا المسجد الصغير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين) وكفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، فإما أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة، فإن لم تجد شيئاً من ذلك فصم ثلاثة أيام، وبالنسبة للصيام يجوز أن تصوم ثلاثة أيام متفرقات أو ثلاثة أيام متتالية، والله أعلم.

الغلو

الغلو من القواعد المتفق عليها عند جميع أهل الملل أن الله تبارك وتعالى إنما شرع الأحكام لمصلحة العباد، ولذلك جاءت الشرائع كلها لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ولا تتأتى مصالح العباد إلا بأن يكون التشريع شاملاً لأضعفهم، ليكون متيسراً لجميعهم. ولا يتأتى طلب اليسر والسماحة إلا بالاحتكام لشريعة الله والامتثال التام لها وعدم رد أي حكم من أحكامها.

يسر الدين وسماحته

يسر الدين وسماحته إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فمن القواعد المتفق عليها عند جميع أهل الملل: أن الله تبارك وتعالى إنما يشرع الشيء لمصلحة العباد؛ ولذلك جاءت الشرائع كلها لتحصيل المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وإعدامها ما أمكن، ولا تتأتى مصالح العباد إلا بأن يكون التشريع مشتملاً لأضعفهم، لا تتم المصلحة إلا بمراعاة الأضعف، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي -إمامهم في الصلاة- قال: اذهب فأنت إمامهم واقتد بأضعفهم) لأن مراعاة الأضعف لا يضر القوي، ومراعاة القوي تضر الضعيف، فتحصيل المصلحة إنما تكون بمراعاة الأضعف؛ لأن القوي لا يؤثر عليه ذلك؛ إذ يستطيع تحصيل ما يحصله الضعيف، إنما لو كان الشرع على قدر القوي لضر ذلك الضعيف. لذلك كان من سمة ديننا اليسر الذي يستطيعه الأضعف، فقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] و (من) هنا للتبعيض، أي: لا يوجد بعض الحرج؛ لذلك إذا نظرت إلى الأوامر والنواهي ترى هذه الرحمة وهذا اليسر.

قاعدة في الأوامر والنواهي

قاعدة في الأوامر والنواهي كل ما نهاك الله عنه ففي إمكانك أن تنتهي عنه، وكل ما أمرك به ليس في إمكان الكل أن يأتمر به؛ لذلك الله يعذب الذي يفعل ما نهي عنه، ولو كان النهي ليس في طاقة العبد لما عذبه، إنما يعذبه على ما في مكنته وقد نهاه عنه، فجميع المناهي بإمكان العبد أن يتركها، أما الأوامر فهي كثيرة ومتنوعة، كل ما أوجبه الله على العبد بإمكانه أن يفعله، وكل ما ندبه إليه واستحبه له لا يفعله إلا قلائل. وتوضيحاً لهذا الكلام أقول: كل ما أوجبه الله أمر إيجاب على العبد، بمعنى أنه يعذب إذا لم يفعل، ففي إمكان العبد أن يفعله؛ إذ لا يتصور أن يأمره بما لا يطيق ثم يعذبه، فإن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، فإن الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما في إمكان العبد أن يفعله، ولذلك كان فعل هذا النوع من الأوامر من أحب ما يتقرب إلى الله به، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). إذاً: أفضل شيء تتقرب به إلى الله أن تفعل ما أمرت به على سبيل الفرض، إذاً ما أمرت به على سبيل الفرض والإيجاب الذي لا خيار لك في الترك، إنما لابد لك من الفعل، ففي إمكانك أن تفعل؛ لذلك يعذبك على الترك. والمناهي التي نهي العبد عنها نهي تحريم إذا فعلها العبد فإن الله يعذبه لماذا؟ لأن بإمكانه أن يمتنع. أما المستحبات التي لا آخر لها فإن العبد يثاب بقدر ما يفعل، ولا يؤاخذ مؤاخذة تقصيره في الفرض، وذلك ظاهر في قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي في تمامه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فهذا الحب هل هو وليد فعل الفرائض أم وليد فعل النوافل؟ في الأول قال: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الفرض الذي يجب أن يفعله، ثم قال تبارك وتعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً هذا الحب وليد النافلة، هذا الحب ترتب على فعل النافلة؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك رجل مقصر في الفرض وهو مجد في النافلة، وإذا أردت أن تعلم مدى التزام العبد فانظر إليه في النوافل، إن رأيته على قدم وساق، فاعلم أنه يفعل الفرض كما أمر، فلا يتصور أن يتصدق إنسان وهو مدين، مدين ويتصدق؟! هذا غير متصور؛ لذلك كان تأدية النافلة علامة الالتزام، وهي التي استجلبت للعبد حب الله تبارك وتعالى. ولله المثل الأعلى، لو تصورت أن لك خادماً وتعطيه أجراً على هذه الخدمة، فكلما أمرته امتثل، فإنك تحبه، عاشرك هذا الخادم فترةً طويلة، وعرف مواقع غضبك ورضاك، ما تكره وما تحب؛ فصار يفعل لك الذي تحب، ويتجنب الذي تكره من غير أن تأمره، أتزداد له حباً أم لا؟ تزداد له حباً. حسناً!! لو افترضنا أنه إذا أمر بالأمر نفذ، وكنت فرضت له أجراً في الشهر كذا، فلو طالبك بزيادة على هذا الأجر نظير امتثاله لما تأمره به لقلت له: أجرك على قدر هذا الفعل. إذاً: أنت لا تعطيه زيادة على أجره، لأنك تعطيه الأجر على الفعل، إنما لو كان هذا العبد ذكياً، فصار يفعل الذي تحب من غير أن تأمره، حينئذٍ لو طلب منك زيادة فسوف تعطيه. فإذاً: يبلغ العبد رضوان الله تبارك وتعالى بفعل النافلة؛ ولأن النافلة واسعة جداً، ما يبحر فيها إلا قلائل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فانتهوا) لم يقل: فانتهوا ما استطعتم؛ لأن النهي في مكنة العبد أن يفعله، لكنه لا يستطيع أن يفعل كل ما أمر به، ولذلك في باب الأوامر قال: (فأتوا منه ما استطعتم) فهذا يدل على أن بعض الأوامر لا يستطيع الإنسان في كل أوقاته أن يفعلها، وهي الأوامر التي أمرت بها على سبيل الندب والاستحباب، فشريعتنا كلها سمحة، أما التعقيد الذي يعانيه بعض الناس فإنما هو بسبب انحرافهم، وإلا فاليسر كل اليسر في اتباع أمر النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو اليسر، إذا أردت اليسر فاتبع والزم.

النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو

النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره يلتزم الرفق واليسر، حتى لما أمر ابن عباس أن يلتقط له حصيات رمي الجمرات بمنى، ماذا قال له؟ قال له: (مثل حصا الخذف، وإياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم) تأمل هذا الحديث! تأمل هذا الأمر ما أجمله! قال لـ ابن عباس: (مثل حصا الخذف) حصا الخذف الذي هو بقدر حبة الفول، وأصل الخذف: أن تضع حصاة في النبل وترميها، فإنك إذا أردت أن تخذف، فستختار أصغر الحصيات، فلا يختار الإنسان طوبة كبيرة ليخذفها، فقال: (مثل حصا الخذف -بقدر حبة الفول- وإياكم والغلو) الغلو هنا في ماذا؟ في جمع الحصا، لا يعمد أحدكم إلى أن يختار حصا أكبر من حصا الخذف، فالذي يختار حجارة كبيرة قد أو قع نفسه في الغلو (مثل حصا الخذف وإياكم والغلو) يعني: بأن ينتقي أحدكم حصاة أكبر من حصا الخذف لماذا؟ لأنه إذا غلا في حصاة غلا في أمر آخر، وهكذا الغلو.

قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم

قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ثلاثة إلى بيوت النبي عليه الصلاة والسلام يسألون عن عبادته، فلما سمعوا بعبادة الرسول عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه!. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعنون به أن رسول الله -عبد أو لم يعبد، جد أو لم يجد- مغفور له. فهم تقالوا عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فماذاً يريدون؟ يريدون الغلو، لما تقللوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لن ننجو إلا إذا أخذنا على بعضنا مواثيق، أو على أنفسنا عهوداً، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، والآخر قال: وأنا أصوم ولا أفطر، والآخر قال: وأنا لا أتزوج النساء! قالوا ذلك لأنه لا يستقيم في نظرهم أن يدخل أحد الجنة إلا بهذا الجد! لكنه جد على غير طريق الرسول؛ أنى ذلك؟! فأول ما علم النبي عليه الصلاة والسلام راعه الأمر، ونادى المسلمين جميعاً وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وكذا؟! أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية). كيف يخطر ببالك أن تتقلل عبادة رسولك؟ فليس الأمر بكثرة القيام؛ إنما الأمر بالإخلاص؛ لذلك الله تبارك وتعالى يزن الناس بالقلوب: (رب صائم لا يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم لا يأخذ من قيامه إلا النصب) فنهاهم عن ذلك.

التشديد في العبادة وآثاره

التشديد في العبادة وآثاره وانظر إلى أثر التشديد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، الذي رواه الشيخان وأحمد -والسياق لـ أحمد - قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وعبد الله بن عمرو بن العاص كان من المجدين في العبادة، فأول ما دخل بامرأته تركها وقام يصلي من الليل، فأبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه خشي أن يكون عبد الله فعل هذا الأمر -قام الليل وترك امرأته- فذهب في الصباح يسأل المرأة: ما حال عبد الله معك؟ قالت: عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال: فجاءني أبي فشتمني وعضني بلسانه، وأسمعني هُجراً -أي: كلاماً شديداً- وقال: زوجتك امرأة ذات حسب من قريش فعضلتها! ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاه، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله! كيف تقرأ القرآن؟ قال: أقرؤه كل ليلة -انظر الجد- كيف تصوم؟ قال: أصوم كل يوم -ما هذا؟! ما هؤلاء؟! يعني يبلغ به الجد أن يقرأ القرآن كل يوم، ويصوم كل يوم؟! - فقال له: اقرأ القرآن في أربعين -انظر اليسر، قال له: اقرأه كل أربعين يوماً مرة- قال: إني أستطيع أكثر من ذلك. قال: فاقرأه كل شهر. قال: إني أستطيع أكثر من ذلك. قال: فاقرأه كل جمعة. قال: إني أستطيع - يعني أقدر أكثر من ذلك- قال: فاقرأه في ثلاثة أيام. قال: إني أستطيع. قال: اقرأه في ثلاث، لا تقرأه في أقل من ثلاث، فإن من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -لأنه سيقرأ بسرعة جداً، لا يفقه القرآن حينئذ- ثم قال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر. قال: إني أستطيع. قال: صم صيام داود، صم يوماً وأفطر يوماً، يا عبد الله! إن لأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه). ما الذي حصل؟ صار عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ القرآن كل ثلاث، ويصوم يوماً ويفطر يوماً أيام الشباب، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمرو بن العاص مجد، لكنه، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بزمان كبر وشاخ، وصار لا يتحمل، لا يستطيع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، لكنه لا يريد أن يقلل من عبادة تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، لا يريد أن يقل، فماذا قال؟ كان يقول: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم). شدد على نفسه، وكان بوسعه أن يقبل الرخصة، لكنه لما شدد على نفسه شقي بذلك وتعب، حتى إنه كان يفطر الأيام الطويلة المتتالية يتقوى، ثم يصوم بدلها سرداً -يوم وراء يوم- يفطر عشرة أيام، ويأكل لكي يقوي بدنه، بعد ذلك يصوم عشرة أيام متواصلة، لا يريد أن يكون أقل في العبادة عما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيتم إلى الغلو؟ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). انظر إلى الكلام الجميل! رجل مستعجل، يريد أن يدرك أقرانه، هو راكب دابة، فمن شدة استعجاله ظل يضرب في الدابة حتى قتلها، فوقف مكانه، لا أرضاً قطع -لا هو مشى- ولا أبقى الظهر الذي كان يركبه، فلما قتلت الراحلة وقف! هكذا الغالي، يظل يغلو حتى يخرج من الهدي الصالح، وهو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الصحابة إياه خشية التشديد

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الصحابة إياه خشية التشديد إن الحمد لله تبارك وتعالى نحمده، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم الحج فحجوا. فقام سراقة بن مالك فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، قال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، قال: أكل عام يا رسول الله؟ قال: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم) لو قلت: (نعم، كل عام) لوجبت عليكم كل عام، ولما استطعتم، (ذروني ما تركتكم) أي: طالما أنني تركتكم فاتركوني، لا يزال العبد يتنطع حتى يحرم الله تبارك وتعالى عليه ما كان أحله له قبل ذلك. أكل عام؟ سكت؛ يخشى أن ينزل الوحي (بكل عام)؛ فيصير هذا الرجل مجرماً في حق جميع المسلمين إلى قيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم المسلمين جرماً في المسلمين من سأل مسألة فحرمت لأجل مسألته) كانت حلالاً، كل المسلمين يستمتعون بهذا الحلال فقام شخص يسأل، فلا يزال يتنطع حتى يحرم الله ذلك الحلال، فيحرم المسلمون جميعاً منه، إذاً كأنه أجرم في حق جميع المسلمين إذ حُرم عليهم بعدما كان حلالاً، كل هذا بسبب الغلو والتنطع، لذلك ما من مصيبة تكون إلا بسبب الغلو.

الرفق بالمسلمين

الرفق بالمسلمين قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فهل نحن تأسينا بهذه الأسوة الحسنة حقاً؟! كان محسناً حتى إلى الدواب والأنعام. رأى عائشة رضي الله عنها تضرب جملها -وهي وصفته- قالت: كان جملاً صعباً بليداً لا يكاد يمشي، فلما رآها تضربه وتسبه قال: (يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمركله) حتى مع هذه الدابة! فإذا كان هذا الدين العظيم يلاحظ الدواب ومعامتلها، فكيف بك أيها المسلم لا تلاحظ معاملة أخيك المسلم؟! دين عظيم يلاحظ معاملة الدابة! دين شفاف، دين متين! لكن المسلمين هم الذين حادوا عن الهدي الصالح؛ لذلك شقوا، وكانوا كما قال الشاعر: بإيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات بيده نوران، ليس نوراً واحداً، بيده كشاف، ومع ذلك كلما وجد نقرة وقع فيها، إذاً ما فائدة النورين؟ ما فائدة النور في يدك إذا كان لا يهديك إلى طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

غربة الإسلام في هذا الزمان

غربة الإسلام في هذا الزمان نحن في زمان استعرت فيه الفتن، نحن في زمان الغربة الثانية التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) طوبى للغرباء الذين يقبضون على دينهم كما يقبض الإنسان على الجمر، أرأيت إلى رجل يمسك بجمرة وتحرقه، وهو مُصِر على أن يقبض عليها؟! ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أن حياته في هذه الجمرة، معناه: أنه لو تركها لتلف، فهو يرتكب أخف الضررين، يحرق ويكابد، لكنه لو ترك لخرج من دينه، فيصبر على هذا، رجل يرى أن حياته في القبض على هذه الجمرة بالرغم أنها تحرقه، لكنه يصبر، يريد العقبى، هذا زمان الغربة الثانية الذي استعرت فيه الفتن، وخرج أناس وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن).

الغلو والجهل أخطر الأدواء

الغلو والجهل أخطر الأدواء عندنا داءان من أعظم الأدواء كلها: داء الغلو، وداء الجهل. داءان يفتان في عضد الأمة، لا تتصور أن غلوك ورع. هناك فرق بين الورع والغلو، لكنه فرق طفيف جداً لا يدركه ولا يراه إلا أهل البصيرة والفقه، أرأيت إلى رجل يتوضأ فيغسل العضو عشرين مرة هل هذا ورع أم وسواس؟ وسواس، وليس هو بسبيل إلى الورع، الورع له ضوابط، إذا اختلت هذه الضوابط انتقل العمل من باب الورع إلى باب الوسواس. كما أن هناك فروقاً طفيفةً جداً، مثلاً بين الغيبة والنميمة وبين قول الحق، هناك فرق بين أن تغتاب الشخص وبين أن تذكره بما فيه تبصيراً للمسلمين، لكن لا يدرك هذا إلا أهل العلم.

آفات الغلو

آفات الغلو وأكبر آفات الغلو: أن ينظر الغالي إلى الناس من مكان عالٍ، فيراهم أقل منه، فيحتقرهم ويزدريهم، لذلك لا يغلو عبد إلا خرج من الهدي الصالح في آخر الأمر. جماعة التكفير هؤلاء، ما هي الآفة عندهم؟ يرى أحدهم أنه هو المسلم والكل كافر! أهناك تزكية للنفس أكثر من هذا؟! مع أنهم -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - فيهم من الظلم والغلو أضعاف أضعاف ما في الذين يكفرونهم، يرى أحدهم أنه هو المسلم الوحيد، وكل من عداه كفره، وآخر أمره: تنظر إليه يخرج من دينه في النهاية، وأسوته في ذلك جدهم الأعلى ذو الخويصرة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- وقال: (يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل. قال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! خبت وخسرت إن لم أعدل. ثم تولى الرجل، فقال خالد: دعني أقتله يا رسول الله! قال: دعه، فإن له أصحاباً -وفي راوية- يخرج من ضئضئ هذا -الضئضئ: هو الأصل- أقوام يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول يخاطب أبا بكر، ويخاطب عمر، ويخاطب علياً، ويخاطب عثمان، يخاطب السادة العباد، يقول: أيها العباد! إنه يخرج من أصل هذا رجال يعبدون الله أكثر مما تعبدون! يصلون أكثر مما تصلون! يصومون أكثر مما تصومون! يقرءون القرآن أكثر منكم! أكثر من أبي بكر وعمر! إي نعم، أكثر من أبي بكر وعمر، مع أن الصحابة كانوا على الغاية القصوى من العبادة، ومع ذلك يخرج من أصل هذا أقوام أكثر اجتهاداً في الصلاة والزكاة والقراءة من هؤلاء الصحابة الأخيار. لكن ما نفعتهم هذه الصلاة، ولا كثرة الصيام، ولا ظمأ الهواجر، ولا قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) أرجو أن تتأملوا هذا التشبيه! سهم يخرج من الرمية بهذه القوة، كم تكون سرعته؟! ليته إذ خرج من دينه خرج الهوينى، يمشي على مهل، لكنه يخرج من دينه بأقصى سرعة! فأين صلاته؟ وأين صيامه؟ وأين قراءته للقرآن؟! أين ذهبت؟! مع أن المفروض أن أمثال هذه العبادة تثبت العبد على دين الله، لكن ما نفعتهم، لماذا لم تنفعهم؟ بسبب الغلو الذي أخرجهم من الدين كما يخرج السهم من الرمية. وقد قال أحد السلف: (أخلص دينك لله يكفيك العمل القليل) فإن الله تبارك وتعالى يزن العباد بقلوبهم. الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في كل أمورهم وفتاواهم يمشون على الجادة؛ لذلك وصلوا. والرسول عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه فقال: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا، وعليكم بشيء من الدلجة). ما هي الدلجة؟ الدلجة: هي الليل، إذا أردت أن تسافر فسافر ليلاً؛ فإن الأرض تطوى بالليل. وأنا جربت هذا، ولعل بعضكم جرب. في الليل المسافة تكون أقل. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. أراقب عدة مرات الساعة وعداد الكيلومترات أجد أن الفرق بين سير الليل والنهار نصف ساعة، هذا للذي يريد أن يسافر، لكن مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، -أو من مقصوده- في هذا الحديث: (عليكم بالدلجة) أي: عليكم بقيام الليل، يعني: صلِّ والناس نيام تَصِلْ، كما أنك إذا أردت السفر تسافر ليلاً فتطوى الأرض لك، فإذا قمت بالليل طويت العبادة لك، وطويت المشقة، فتشعر بهذه اللذة؛ لأن في الليل الإخلاص، إذ لا يتصور أن يقوم مراءٍ منافق من سريره ولا يراه أحد، فيتجشم الوقوف أمام الله رب العالمين ليرائي؛ فلا يقوم بالليل إلا مخلص؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بشيء من الدلجة) لأن هذا هو الذي يناسب أول الحديث: (بشروا ولا تنفروا، يسروا ولا تعسروا وعليكم بشيء من الدلجة). إذاً: هؤلاء الخوارج الذين كفروا جمهور الصحابة، وكفروا عامة المسلمين بارتكاب الكبيرة، لسان حالهم يقول: نحن أبرار، نحن لا نرتكب الكبيرة؛ لذلك نحن مؤمنون وأنتم كفرة. ما معنى أن يكفر غيره بالكبيرة؟ معناه: أنه لا يفعل الكبيرة، فرجل يبرئ نفسه من الإثم ويرمي به غيره ظالم معتد. لذلك خرج من تحت عباءتهم -أو شاركهم في بعض ما يقولون- جماعة أتوا فقالوا: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! انظر إلى الكلام! إن الله يجب عليه! من الذي أوجب عليه؟! وهل لأحد عليه حق. ؟! إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد! وهذا قول المعتزلة، وهذا كله بسبب الغلو. والجهمية الذين نفوا عن الله تبارك وتعالى صفاته فعلوا ذلك بسبب الغلو، فكل داء خرج من تحت عباءة الغلو. هناك مناظرة طريفة حدثت بين أبي الحسن الأشعري وبين شيخه أبي علي الجبائي رأس المعتزلة، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله كان رأساً في المعتزلة؛ لكن بعد هذا المناظرة ترك مذهب الاعتزال. قال أبو علي الجبائي: إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح لعباده. فقال له أبو الحسن -وكان لا يزال على مذهب المعتزلة: أفرأيت إلى ثلاثة إخوة: أحدهم مات صغيراً قبل أن يحتلم، وكبر اثنان، فآمن أحدهما وكفر الآخر، فدخل المؤمن الجنة، ودخل الكافر النار. فقال: ما حالهم؟ قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: إن الذي كبر وكفر استحق النار، والذي كبر وآمن استحق الجنة. وما حال الصغير الذي قبضته قبل أن يحتلم؟ قال: علمت أنه لو كبر لكفر، فدخل النار، فراعيت مصلحته فقبضته صغيراً، فحينئذ صاح الذي في النار وقال: يا رب! لم لم تراع مصلحتي؟! لم لم تقبضني صغيراً كأخي؟! قال: فانقطع أبو علي الجبائي، وخرج أبو الحسن من المعتزلة؛ لأنه كلام متناقض على أصولهم، إذا كان الله يجب أن يفعل الأصلح لعباده فما هو الأصلح أن يدخل العبد النار؟! كل هذا بسبب الغلو، ولا تجد فُرقةً بين المسلمين إلا بسبب الغلو؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقال: (إياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين) ولذلك كان كلما خطب عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) لأنه كان هدياً قاصداً، ما فيه عنت؛ لذلك أسعد الناس هم المتبعون للرسول عليه الصلاة والسلام، لا يجدون على الإطلاق مشقة.

سر عظمة الصحابة

سر عظمة الصحابة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لماذا سادوا ووصلوا؟ كانوا لا يتعبدون بالخلاف، بل كانوا يتحاشون الخلاف ما أمكن، فإذا اختلفوا فكان الله تبارك وتعالى يقي شر هذا الاختلاف بإخلاصهم في طلب الحق، فإن التعبد بالخلاف جريمة، الصحابة ما كانوا يفعلون ذلك، ولذلك حدثت المواقف العظام التي لو حدث عشرها، بل عشر معشارها لطارت فيها رقاب الآن. سقيفة بني ساعدة يا لها من موقعة! يا له من موقف حدث للمسلمين بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام! كان النبي صلى الله عليه وسلم ملء السمع والبصر، ما كان أحد يتصور أن يعيش بدونه كما قال أنس بن مالك: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً فأضاء منها كل شيء، فلما دفناه أظلم منها كل شيء) انظر إذاً واحد يعيش مع هذا النور، لا يتصور أن يعيش لحظةً بدونه، وفجأة فقده، فجأة صار يمشي ولا يراه، بالله كم تكون مصيبته؟ إنها أعظم المصائب؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب) فإنك لن تصاب بأعز منه، ولا أجل منه، ولا أفضل منه، لن تصاب بأعز منه أبداً، فتصور الذين عاشروه وعايشوه ورأوه، فجأة فقدوه كانوا إذا ادلهمت عليهم الخطوب ذهبوا إليه فسألوه، الآن مات عليه الصلاة والسلام ولم يفصل في المسألة من يكون الخليفة من بعده، وارتدت العرب، وبدأ الناس يتفلتون، واختلف المهاجرون والأنصار في من يمسك هذا الأمر، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، الأنصار يقولون: نحن أولى بهذا الأمر، نحن أهل النصرة وأهل الدار والإيمان. وأبو بكر يقول: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء. ومرت ثلاثة أيام، تركوا النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام لا يدفنونه بسبب هذا الأمر، ما دفنوه ثلاثة أيام؛ بسبب اختلافهم. كان يمكن أن تطير فيها رقاب، لا سيما مع حرص الناس على الإمارة، وهذا شيء مفطور في الإنسان. واختلف المهاجرون والأنصار، وظلوا يختلفون ثلاثة أيام، حتى جاء عمر بن الخطاب مع أبي بكر الصديق إلى سقيفة بني ساعدة، وكان أبو عبيدة بن الجراح معهما، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إني اخترت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة بن الجراح. قال عمر: فأخذت بيد أبي بكر فقلت: ابسط يدك فلأبايعك. فبسط يده، فبايعته فبايعه الناس، قال عمر -وقد وصف هذا الذي حدث-: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها؛ لماذا؟ لأن الكل مخلص في طلب الحق.

بين التيسير والتفريط

بين التيسير والتفريط إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الأسوة الحسنة، وما شق على أمته يوماً ما، بل لما علم أن معاذ بن جبل يطيل على المسلمين في صلاة العشاء قال: (أفتان أنت يا معاذ؟! هلا صليت بالشمس وضحاها، وبالليل إذا يغشى؟) ويقول: (إني لأدخل في الصلاة فأريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فيها رحمة بأمه) كل تشريعه رقة ويسر، وليس معنى هذا أن الواحد يترك الواجبات ويقول: إن الله غفور رحيم لا، إنما يكون اليسر بالاتباع، تصل إلى اليسر باتباعك للرسول عليه الصلاة والسلام. إياك -أيها المسلم- أن تضع أحداً في مقابله! فإنه لا يوجد أحد يزنه، ما هناك أحد يوضع أمامه في الميزان عليه الصلاة والسلام، فكيف ترضى بالدون؟! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].

طلب اليسر بالتحاكم إلى الكتاب والسنة

طلب اليسر بالتحاكم إلى الكتاب والسنة لقائل أن يقول: ما قلته حسن وجميل، ولكننا نريد أن نصل إلى هذا الهدي -هدي النبي صلى الله عليه وسلم- فكيف لنا به؟ كيف نستطيع أن نصل إلى هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نرى اليسر في عبادتنا، بل في حياتنا؟ A يجب علينا أن نرد مشكلات الحياة -وديننا يهيمن على الحياة، خلافاً لهؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يفصلوا ديننا عن الحياة- نرد جميع مشكلاتنا إلى الله ورسوله، والرد إلى الله والرسوله يكون بالرد إلى النص. إن كثيراً من الناس يزعمون أنهم يردون الكلام إلى الله ورسوله، وهم من أبعد الخلق عن النص، ولابد إذا وصلك النص من التسليم، وهذا شرط، كما قال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] وهذا من المواضع القليلة التي أقسم الله تبارك وتعالى فيها بذاته العلية في القرآن الكريم، كقوله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23]، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]. فقال تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، أي شيء يتشاجر فيه اثنان لابد من الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يرد فإن الله تبارك وتعالى أقسم ونفى الإيمان عنهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. هذه الآية نزلت -كما في الصحيحين- بسبب أن رجلاً من الأنصار تشاجر هو والزبير بن العوام على ماء كانوا يسقون به زراعتهم، أرض الزبير بن العوام مرتفعة، وأرض الأنصاري أخفض من أرض الزبير بن العوام، وأنتم تعرفون ما كان هناك أنهار، ولا كان هناك أنابيب، ولا شيء الماء يتجمع في مكان وبعد ذلك يحفروا له قنوات، فالشيء الطبيعي أن الرجل الذي أرضه مرتفعة هو الذي يسقي أولاً؛ لأن الأرض المنخفضة لو استوعبت الماء يبقى الذي في العالي لن يصل إليه ماء. الزبير بن العوام أرضه مرتفعة، والأنصاري أرضه منخفضة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فهذا الأنصاري قال للرسول عليه الصلاة والسلام: حكمت له أن كان ابن عمتك؟! بسبب أنه ابن عمتك جعلته يسقي أولاً! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء) قال الزبير: فنزلت الآية {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] مع أن الاثنين حكموه، هاهو الصحابي أتى بـ الزبير وحكموه، لكن مجرد التحكيم لا يكفي، ما زال هناك أشياء {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] أي: ضيقاً في الصدر {مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] وليس هذا فقط، بل {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. كل إنسان يرفع خصومه مع آخر، قطعاً هو يريد الشيء؛ وإلا لو كان يعلم أن الشيء هذا ملك صاحبه ما كان اشتجر ولا رفع الأمر للسلطان. فكل خصمين يخرجان إلى ساحة القضاء كل منهم يظن أنه صاحب الحق، فبالتالي إذا حكم القاضي لخصمك يسوءك ذلك، فالله تبارك وتعالى قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مما قَضَيت} [النساء:65] يعني: إذا قضى لخصمك عليك لا يكون في صدرك حرج وضيق بسبب أنه قضى لخصمك عليك، ولا تبلغ تمام الإيمان بذلك، بل لابد أن تسلم تسليماً، التسليم يعني: أن يزول الحرج تماماً ويحل محله الرضا، كأنه حكم لك. مَنْ مِنَ الناس يفعل ذلك؟ إذا خصمه أخذ الأقضية فرح له كما لو كان هو الذي أخذها؟ مَنْ مِنَ الناس يفعل ذلك؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه

السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه إن الله تبارك وتعالى جعل الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بلغنا نوعين من الوحي: النوع الأول: القرآن. النوع الثاني: السنة. لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] أي: ما يتكلم، ما ينطق عن هوى نفسه، إنما الذي ينطق به وحي يوحى، فدل ذلك على أن السنة من الوحي. ومن أظهر الدلائل على أن السنة من الوحي: قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أوتيت القرآن وأوتيت مثل القرآن مع القرآن، التي هي السنة؛ لأن السنة بالنسبة للقرآن بمنزلة المبين كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] فلو أن السنة ضاعت ما استفاد الناس من كثير من لفظ القرآن، ولظل القرآن مجملاً في كثير من المواضع. الصحابة الذين هم العرب الأقحاح لم تدخل ألسنتهم عجمة، وكانوا أولى الخلق بإصابة الحق وفهم الكلام، كان هناك بعض آيات القرآن ما فهموها لولا أن النبي عليه الصلاة والسلام بين لهم. لما نزل قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فهؤلاء عرب أقحاح -كما قلت- لما سمعوا كلمة (ظلم) هكذا نكرة لأنه ليس فيها ألف ولام، و (ظلم) نكرة في سياق النفي تفيد العموم. إذاً أي ظلم يقع فيه العبد يخرجه من دائرة الأمن؟ هم هكذا فهموا الآية، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بأي ظلم كان -قليلٍ أو كثيرٍ- {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. من الذي لم يخطئ؟ لا أحد: (كل بني آدم خطاء) إذاً: كل إنسان ارتكب الظلم. ولذلك فهموا أنهم ليسوا في دائرة الأمن؛ وشق عليهم ذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟). هؤلاء صحابة، لو كان أحد يصيب الحق لكانوا هم، ورغم ذلك لم يفهموا مراد الله من الآية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس كما تفهمون، أولم يقل العبد الصالح -الذي هو لقمان - {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فالظلم: هو الشرك) إذاً ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام ظهر أن الظلم المقصود في آية الأنعام هو الشرك الأكبر، وليس المقصود به أي ظلم مثل ما الصحابة فهموا. فالبيان لابد منه؛ ولذلك السنة مهمة جداً بالنسبة للقرآن، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] كان أحد الصحابة يأتي بخيط أبيض وخيط أسود ويضعه في أصابعه ويظل ينظر فيه، إذا ميز بينهما توقف عن الأكل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي فعل ذلك: (إن وسادك لعريض -يعني: أنت عريض القفا- إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) لكنه نظر، بادر إلى العمل على قدر فهمه. النبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني يقول: إن أول واحدة ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن بأيدي بعض، قالت عائشة: (وما فهمناها إلا حين ماتت زينب رضي الله عنها) أول من ماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة، فقصر الطول يستتبعه قصر الأعضاء، فعرفن أنه ليس المقصود بها اليد، إنما المقصود بها الصدقة (أطولكن يداً) أي: بالصدقة، فحينئذ فهموا. لكن الذي يأخذك ويأخذ بمجامع قلبك أنهم يبادرون إلى التنفيذ على قدر الفهم، فنحن عندنا السنة بمنزلة البيان بالنسبة للقرآن، القرآن فيه كثير مجمل: الصلاة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات أمر بإقامة الصلاة لكن لا نعرف كيف نقيم الصلاة متكاملة إلا من لفظ النبي عليه الصلاة والسلام. السنة من الوحي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إني أوتيت القرآن ومثله) مثل القرآن السنة التي هي بيان القرآن {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل:44]. الحديث الآخر الذي يدل على أن السنة من الوحي ما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (بينما سودة رضي الله عنها -وكانت امرأةً بدينة، طويلة، وسودة هذه زوج النبي عليه الصلاة والسلام- خرجت تقضي حاجتها إذ رآها عمر، فقال: يا سودة! انظري كيف تخرجين! فوالله ما تخفين علينا. فغضبت سودة ورجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تشتكي عمر -وكان في بيت عائشة رضي الله عنها- قالت عائشة: فدخلت فقالت: يا رسول الله! أرأيت إلى عمر، يقول كذا وكذا. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان في يديه عرق يتعرقه -الرجل الأمامية للشاة، الرسول عليه الصلاة والسلام يأكل اللحمة الملتصقة بالعظم- إذ أوحي إليه، فأخذه ما يأخذه من الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشاتي شديد البرد يتصبب عرقاً)، كما قال زيد بن ثابت: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم ركبته على ركبتي، فنزل قوله تبارك وتعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] قال: فثقلت فخذه حتى كادت أن تُرض فخذي من ثقل الوحي). لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي كادت فخذ زيد بن ثابت تتهشم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أوحي إليه وهو يركب الناقة تبرك على الأرض، لا تستطيع أن تحمله وهو يوحى إليه، تضرب بجرانها على الأرض؛ لأنه وحي! كلام ثقيل! كله تبعات وتكليف! قالت: (فأخذه ما يأخذه من الوحي، ثم سري عنه، فقال لها: إن الله قد أذن لكن في قضاء حوائجكن) ونحن نعلم يقيناً أن هذه ليست آية، لكنها كلمات أوحي بها إليه، قال: (إن الله قد أذن لكن) مما يدل على أن الوحي يكون بالسنة أيضاً. إذاً: نحن عندنا وحيان: الوحي الأول: القرآن، والوحي الثاني: السنة فإذا أردت أن تصيب الحكم لابد أن ترد الأمر إلى الله ورسوله.

قواعد في فهم القرآن والسنة

قواعد في فهم القرآن والسنة

الخاص مقدم على العام

الخاص مقدم على العام إذا كانت لدينا مسألة خاصة نريد تحرير الكلام فيها: لا نأتي بالأدلة العامة فنحتج بها على ذلك الخاص، بل لا بد من دليل خاص. مثال: قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] الميتة هنا: لفظ يفيد العموم، يعني: جميع أنواع الميتة حرام، وجميع أنواع الدماء حرام. إذاً: هذا لفظ عام. هل جميع الدماء حرام؟ A لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحل لنا دمان: الكبد والطحال) والكبد هي دم، والطحال هو دم. فإذاً: عندنا هذا الحديث خصص بعض أنواع الدماء من الآية الكريمة، وكذلك عندنا ميتة السمك والجراد، فهذه تخصص من الميتة الموجودة في الآية. فكيف نفهم الآية إذن؟ حرمت عليكم الميتة إلا السمك والجراد، والدم إلا الكبد والطحال. أنا أقدم بهذا المثال لكي نصل إلى القضية التي ذكرتُها إذا كان هناك نوع محرم من الدماء، وجاء الإذن لك بأكل الدماء أو بشربها فلا تقل: أنا عندي الأمر العام بشرب الدماء! لماذا؟ لأن النهي جاء خاصاً، فهو يعمل في مكانه، والعام ليس بحجة على الخاص، إنما الخاص هو الحجة على العام، ولذلك خصصنا العام بالخاص، يعني الآية ليست عامة (حرمت عليكم الميتة والدم) خصصنا عموم الميتة بالحديث، وخصصنا عموم الدم بالحديث، فالمخصص هو المقدم دائماً. إذاً: إذا كانت هناك قضية خاصة لا تحتج عليها بالأدلة العامة؛ لأن هذا ليس من الرد إلى الله ورسوله، إذا سمعت قوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وقلت: ما هو حكم الدم الموجود في الفراخ بعدما نذبحها؟ فإننا نغسل الدجاجة أو البط ونجد دماً في العروق، ما هو حكم هذا الدم؟ والدم كثيره وقليله حرام لماذا؟ لأن الآية ما فرقت بين قليل ولا كثير. فما هو حكم الدم؟ نحن نريد دليلاً، نريد قول الله ورسوله في الموضوع، يأتي العلماء يقولون لك: إن هذا الدم معفو عنه. ما هو دليل العفو؟ قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] إذاً: المحرم هو الدم المسفوح الذي يصب صباً، الذي ينزل من العروق مصبوباً، هذا هو الدم المسفوح، إذاً: الدم المحرم هو المسفوح، غير المسفوح معفو عنه. إذا كان متجمداً مثل الكبد -فهو دم متجمد وليس مسفوح- فقد خرج من الدم المحرم. كذلك الدم الموجود في العروق ليس مسفوحاً بطبيعة الحال؛ لأنه لا يصب، هو بقايا دماء موجودة في العروق. إذاً: لما رددنا إلى الله ورسوله على القواعد التي ذكرها أهل العلم أصبنا الحق.

رد كل قول يخالف الكتاب والسنة مع احترام العلماء

رد كل قول يخالف الكتاب والسنة مع احترام العلماء علماء المسلمين جميعاً يأمروننا بالرد إلى الله ورسوله، لا يحجزك عن الله ورسوله حاجز، لا عالم ولا غيره، لأن الرد إنما يكون إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام، إنما العالم مهما جل قد يخطئ، قد لا يعرف وجه الحق في المسألة رغم جلالته، ألا ترون إلى مالك بن أنس رضي الله عنه وفحولته وجلالته؟ روى البيهقي في سننه، عن ابن وهب وابن وهب هذا هو: عبد الله بن وهب، الإمام المصري، العلم الفرد، وكان من تلامذة مالك. روى البيهقي في سننه، عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً وسئل عن التخليل بين الأصابع -يعني وأنت تتوضأ تخلل بين الأصابع بإصبعيك، توصل الماء سواء كان أصابع اليدين أو أصابع الرجلين، أو البراجم- ما تقول فيها؟ فقال: ليس ذلك على الناس -يعني: لا يوجد أحد يعمله- قال: فقلت لـ مالك: كيف تقول هذا وفيه عندنا سنة؟ هل مالك لا يعرف السنة في تخليل الأصابع؟ نعم، لا يعرفها، أبى الله أن يجمع العلم في واحد، ولهذا كيف يتم عجز الإنسان؟ يتم عجز الإنسان بأنه ناقص مهما كان، ما جمع الله العلم كله إلا في الرسل؛ ولذلك قال الإمام الشافعي: (ما منا من أحد إلا وتعزب عنه -أي: تغيب- سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما أصلت من أصل أو قلت من قول وكلام النبي صلى الله عليه وسلم على خلافه فخذوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم). فـ ابن وهب يقول لـ مالك: كيف تفتي بهذا وفيه عندنا سنة؟ قال: وما عندك؟ قلت: حدثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن فلان عن فلان عن المستورد بن شداد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل بين الأصابع) فانظر إلى الإمام مالك! الإمام المنصف! يقوم يغتبط بهذه الفائدة ويفرح، لا يستنكف أن تلميذه رد عليه أو علمه، فقال: هذا حديث حسن جداً، وما سمعت به إلا الساعة. قال ابن وهب: فحضرته في المجلس بعد ذلك، فكان يفتي بسنية التخليل بين الأصابع. إذاً: أي عالم مهما كان فحلاً كبيراً تفوت عليه سنة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه واسطتك إلى معرفة الحق. أنت تلزمه إذا كان عالماً ربانياً، وإذا ظهر لك أن السنة في خلاف قول العالم تترك قول العالم وتمتثل قول النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن العلماء جميعاً قالوا لك ذلك. وهناك أرجوز لطيفة كثيراً ما أرددها لجمالها وحلاوتها وطلاوتها، لخص فيها صاحبها -رحمه الله تبارك وتعالى- هذا الكلام المبارك لعلماء المسلمين في وجوب ترك أقوالهم والالتزام بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حال المعارضة، إذ لا يجوز لأحد أن يضع في الكفة أحداً في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام. قال رحمه الله: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرضا على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر لما قال الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي عليه الصلاة والسلام، كل علماء المسلمين، ليس من العلماء الأربعة فقط: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، كل علماء المسلمين تبرءوا أحياءً وأمواتاً من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، بأن تلتزم قول العالم بعد ما ظهر لك بجلاء أن قول النبي صلى الله عليه وسلم يخالف قول العالم، إذ أن الرد إنما يكون إلى الله ورسوله. ولذلك كان من ثمرات الذي يرد إلى الله ورسوله أنه يحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ولا يحيا القلب إلا بالوحي، فإن الله تبارك وتعالى جعل الأمر على قسمين لا ثالث لهما، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.

عدم صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته

عدم صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته وهذه بدهية لا نطيل الكلام عليها لوضوح الأدلة عليها، لكن كيف نرد؟ إذا رددنا إلى الكتاب والسنة بأي طريقة نرد طالما اتفقنا على أن نرد إلى الكتاب والسنة؟ نقول: إن العلماء يقولون: الأصل في الألفاظ الحقيقة، والأصل أيضاً الظاهر. ما معنى هذا الكلام؟ مثلاً لفظ (اليد) إذا سمعت لفظ (اليد) أول ما يخطر على بالك اليد التي لها خمس أصابع، يد الإنسان، لكن هذه الكلمة -التي هي كلمة (يد) - يمكن أن يكون لها معنى آخر غير اليد التي هي الراحة التي فيها خمس أصابع، يمكن أن تكون بمعنى النعمة مثلاً، كما لو قلت: فلان له علي يد، أي: له علي جميل. لكنك ما صرفت اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة، سياق الكلام هو الذي أخرجه. أنت لو سمعت كلمة (صوم)؛ شخص قال لك: إني صائم. أول معنى يخطر على بالك ما هو؟ صائم عن الأكل والشرب والجماع، الصيام الذي نحن نعرفه، لكن هل الصيام هو ذلك فقط؟ لا، أصل كلمة (صيام) يعني: الإمساك. كلمة (صيام) معناها: الإمساك عن أي شيء اسمه صيام. ألا ترون إلى قول مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] يعني: الصوم عن الكلام، ليس الصوم عن الأكل والشرب. ما الذي أعلمنا أن صيام مريم عليها السلام الذي هو الصيام عن الكلام؟ سياق الآية، لكن لو كانت الآية: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] ووقفت على هذا، نفهم أن المقصود بالصيام: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مثلاً، فلما أتممنا بقية الكلام عرفنا أن الصيام المقصود ليس هو الصيام المتبادر إلى الذهن، إنما هو صيام مخصوص. الأصل في الألفاظ الحقيقة، فلو قلت: سلمت على أسد -ونحن نعلم أن الأسد لا يسلم عليه- فإن سياق الكلام يدل على أنك تقصد: سلمت على رجل كالأسد. لذلك سياق الكلام إحدى القرائن الصارفة للكلام. يبقى الأصل في كلام الله ورسوله أن ينزل على الحقيقة، لا يصرف عن غير الحقيقة إلا بدليل؛ ولذلك أصابنا شر عظيم بسبب الحيدة عن هذا الأصل الكبير. ومن أشد الناس ضلالاً في هذا الصوفية أصحاب التفسير الإشاري ك ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين؛ فهؤلاء خرجوا عن ظاهر الشريعة وأصل الكلام فأحدثوا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله! الروافض غلاة الشيعة الذين هم مثل أصحاب إيران الآن، ما هؤلاء كلهم روافض ليسوا شيعة فقط، يا ليتهم شيعة! الشيعي قديماً كان يقدم أبا بكر وعمر ويعظمهما لكن يقول: أنا أرى أن علياً أولى بالخلافة من عثمان، إذا كانت المسألة هكذا تبقى خفيفة. لكن هؤلاء روافض يسبون أبا بكر وعمر، ويزرون بالصحابة ويقولون: إن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق ما عدا ستة! هؤلاء الروافض لما فسروا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قالوا: يعني أن تذبحوا عائشة! ما دخل البقرة بـ عائشة؟! افتح القاموس، هل تلاقي من مفردات كلمة (بقرة) أو من معانيها عائشة؟! لأنهم روافض ويكرهون عائشة فلذلك قالوا: (بقرة) يعني: عائشة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] أبو بكر {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] عمر {وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] عثمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] علي! ما هذا الكلام؟! من يفهم أن (اصبروا) هي أبو بكر؟ وهؤلاء صندوقهم لا ينتهي؟ يضع أحدهم يده في الصندوق ويخرج بحاجة ما الذي أدخل أبا بكر وعمر في الآية؟ وبعض المنتسبين لأهل السنة يريد أن يرد على الشيعة؛ فيفسر بعض آيات القرآن الكريم مثل ما هم يفسرون. يأتي محيي الدين بن عربي (وليس بمحي للدين، فإنه عمل فساداً عريضاً في هذا الدين) يفسر -أو يحرف- قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]. أنت -أيها المسلم- إذا سمعت هذه الآيات تعرف أن الناس ينزلونها على الكافرين، هو قال: إن هذه الآيات نزلت في أهل الورع! فهي لم تنزل في المسلمين فحسب، بل نزلت في المؤمنين الخلص. فماذا عن كلمة (كفروا)؟! أين تذهب بها؟! قال لك: (كفروا) يعني: كفروا إيمانهم؛ أي: غطوه، فحجبوه عن الناس خشية أن يحبط بالرياء. انظر إلى التحريف! يقول: (إن الذين كفروا) أصل الكفر هو التغطية، كما قال تبارك وتعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الذين هم الزراع؛ لأن الفلاح حين يزرع البذرة في الأرض يغطيها فيقال فيه: كفرها. وسميت الكفور كفوراً لأنها تكفر بالأشجار. وهذا مكان اسمه (كفر الشيخ) سميت كفراً لأن أصل الكفر: البيوت الكثيرة التي التفت حولها الأشجار فغطتها عن العيون، فلذلك كان اسمها كفراً، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي نور النهار، وسمي الكفر كفراً لأنه يغطي الإيمان. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: إن المؤمنين من أهل الورع الذين كفروا إيمانهم يعني: غطوه، فلا يظهرونه للناس خشية أن يحبط بالرياء. فماذا عن قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]؟!! أين تذهب بها؟ قال: الإيمان أصله التصديق، فمهما هددهم الناس وتوعدوهم فهم لا يصدقون بذلك، ومصداقه قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] فلا يدخلها غيره انظر إلى التحريف! {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] فلا يسمعون إلا منه. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] فلا يرون الباطل. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] يعني: من الناس المخالفين لهم. انظر انظر إلى هذا الكلام! انظر إلى التحريف! ويزعم أن هذا هو التفسير المتين، وأنه هو الذي يفهم القرآن، وعلماء الشريعة هؤلاء علماء الظاهر الذين لا يفهمون شيئاً، إنما هؤلاء علماء الباطل أوالباطن كما يقولون. كل جناية عن الشريعة بسبب صرف اللفظ عن ظاهره أو حقيقته. ولذلك الجهمية الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى بدعوى التنزيه، يقولون -في تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] (يد الله) أي: قدرته أو نعمته فهذا تحريف. انظر إلى النفي والإثبات في قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنفى المثلية وأثبت السمع والبصر إذاً: كل الصفات التي تثبتها تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] له يد وليس كمثله شيء، له سمع وليس كمثله شيء، له بصر وليس كمثله شيء، كل صفاته تحت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. إذاً: نثبت لله يداً على الحقيقة، لكن كما يليق بجلاله. قال ابن قتيبة رحمه الله: ومن الأدلة على بطلان قولهم: (إن اليد بمعنى النعمة في القرآن) أن العرب إذا قصدت أن اليد بمعنى النعمة، فإنها إما أن تفردها وإما أن تجمعها، فتقول: فلان له علي يد أو أيادٍ -إما أن تورد اليد بالإفراد وإما أن توردها بالجمع- ولا يثنون اليد أبداً وهم يقصدون النعمة، لدينا المفرد والمثنى والجمع، خرج المثنى من الموضوع يبقى لنا الإفراد والجمع، فالعرب إذا أرادت اليد بمعنى النعمة إما أن تفرد وإما أن تجمع. ثم قال: اقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:64] مثنى أو جمع؟ مثنى، قال: فذلك يدل على أن اليد على الحقيقة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. ابن قتيبة هذا أحد علماء العربية الأقحاح، رجل متضلع حتى النخاع، فيقول: إن العرب لا تعرف اليد بمعنى النعمة إلا في الإفراد والجمع. فالمبتدعة الذين أرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى فأخرجوا الألفاظ عن ظاهرها، كانوا معسكرين: معسكر نفى الصفة، ومعسكر رد عليهم وبالغ حتى شبه الله بخلقه. معسكر قال: ليس له يد، بل اليد بمعنى النعمة. والمعسكر الثاني رد عليه وقال: له يد مثل يدي هذه. والحق بينهما. ولذلك رحم الله القائل: إن المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً. المعطل -وليس المنزه- يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً ما معنى هذا الكلام؟ المعطل: كلما تأتي له بصفة من صفات الله يعطلها مباشرة حتى لا يشبه الله بخلقه، يقول لك: لا، هو لا له يد، ولا له سمع، ولا له بصر، ولا له إصبع، ولا له قدم، ولا له أي صفة من هذه الصفات. أليس هو إلهاً؟! ما هي صفاته؟! يقول: لا سميع ولا بصير ولا قدير ولا شيء من هذا. إذاً يعبداً عدماً! لما عطل صفات الله تبارك وتعالى عبد العدم. والمشبه -الذي رد على المعطل لكنه تطرف في الناحية الثانية- يعبد صنماً؛ لأنه جعل من إلهه شبيهاً بخلقه. إنما الرجل من أهل

§1/1