دروس في العقيدة - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

دروس في العقيدة [1] لقد أرسل الله تعالى رسله ليبينوا للناس أصل الدين، وهو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وإلهيته، وليبينوا الطريق الموصلة إليه، وهي شريعته المتضمنة أمره تعالى ونهيه، وليبينوا ما للسالكين إليه تعالى بعد الوصول إليه من النعيم عند الامتثال والعذاب عند المخالفة، وليوصلوا القلوب إلى محل سعادتها، وهو معرفة الرب تبارك وتعالى وعبادته، واتباع رسله فيما جاءوا به، ومن ذلك إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله، ونفي ما نفياه، وقد حاد عن هذا النهج طوائف الابتداع.

التعريف بمؤلف العقيدة الطحاوية وشارحها

التعريف بمؤلف العقيدة الطحاوية وشارحها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن العقيدة الطحاوية منسوبة إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي، وهو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحنفي، حنفي المذهب، سلفي المعتقد، وقد كتب هذه العقيدة في علم أصول الدين. والطحاوي منسوب إلى بلدة في مصر تسمى طحا، وسميت هذه العقيدة بالعقيدة الطحاوية لأن الذي كتبها هو هذا العالم من هذه البلدة بمصر، وهو من علماء القرن الثالث الهجري، وولادته كانت في سنة 236هـ، وقيل: في سنة 237هـ، وذكر الشارح ابن أبي العز أن ولادته كانت سنة 236هـ، ووفاته كانت سنة 321هـ. وهذه العقيدة مختصر في أصول الدين، وقد شرحها جماعة من العلماء يبلغون السبعة، ولكن أغلبهم مشوا في شرحهم لهذه العقيدة على معتقد أهل الكلام في كثير من المسائل، كما أشار إلى ذلك علي بن علي بن أبي العز، ثم وفق الله علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي فشرحها على معتقد أهل السنة والجماعة، وقد أشار رحمه الله في مقدمة شرحه إلى أن الحامل له على شرحها هو أن كثيراً من الشروح التي سبقته لا تتفق مع معتقد أهل السنة والجماعة، فأحب أن يشرحها على معتقد أهل السنة والجماعة، والشارح -أيضاً- حنفي، وهو علي بن علي بن محمد بن أبي العز الأذرعي الدمشقي الحنفي، المولود سنة 731هـ، والمتوفى سنة 792هـ، من علماء القرن الثامن الهجري، وهو من تلاميذ الحافظ ابن كثير صاحب التفسير رحمه الله. فالشارح حنفي والمؤلف حنفي بالنسبة للفروع، وأما في أصول الدين فهما على معتقد أهل السنة والجماعة، والشارح -رحمه الله- قرأ كثيراً من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والعلامة ابن القيم فتأثر بهما كثيراً، ونقل كثيراً من كتبهما وكثيراً من كلامهما، وفرَّقه في شرح هذه العقيدة، ولكنه لا يعزو، ويحتمل أن يكون سبب عدم عزوه -والله أعلم- أنه في ذلك الوقت كان هناك كثير من الناس ينفرون من بعض أهل السنة والجماعة كـ شيخ الإسلام وابن القيم، فأحب أن ينقل كلامهما وأن يفرقه في شرح هذه العقيدة من غير أن يعزو. والعقيدة الطحاوية التي كتبها صاحب المتن تتفق مع معتقد أهل السنة والجماعة كما سبق، ولكن هناك بعض الإطلاقات التي قد يظن بعض الناس أنه يوافق أهل الكلام فيها، وقد نبه على ذلك الشارح رحمه الله، وبين أن الطحاوي سلفي المعتقد، وأنه لا يريد ما يريده أهل البدع، فلما وجدت عنده مثل هذه الإطلاقات شرحها بعض الشراح على ما يوافق معتقد أهل الكلام، وشرحها علي بن علي بن محمد بن أبي العز على معتقد أهل السنة والجماعة، وناقش في بعض الإطلاقات، وستمر بنا إن شاء الله تعالى. والطريقة التي سوف نمشي عليها -إن شاء الله- هي أننا نشرح ثم نقرأ في شرح الطحاوية، وهو الشرح المتداول المعروف لـ علي بن علي بن أبي العز الحنفي المعروف بشرح الطحاوية؛ لأن الشرح فيه علم كثير عزيز، وبحوث قيمة، ولابد من أن يرتبط طالب العلم بكتب أهل العلم، وكلام أهل العلم، ولا يكون بعيداً عنها، وإلقاء الدروس والمحاضرات من غير ربط لها بالكتب ذو فائدة محدودة، والعلماء الأوائل ومشايخنا الكبار وغيرهم كان طلبهم للعلم مرتبطاً بالكتب والمشايخ، فلابد من الأمرين: الأخذ من أفواه العلماء، ومراجعة الكتب والارتباط بها، وعدم الانفصال عنها، أما الكلمات التي تلقى من غير ربط بالكتاب فإن فائدتها محدودة، وقد يحصل ضرر من انعزال طالب العلم عن الكتب، وهو أنه إذا لم يتمرس ولم يتمرن على قراءة كتب العلماء السابقين، فإنه إذا أراد أن يقرأ كتاباً منها لا يستفيد منه، ولا يعرف عبارات ومقاصد العلماء، فربط طالب العلم بالكتاب مهم جداً. وهذه العقيدة الطحاوية وشرحها لم يزل العلماء قديماً وحديثاً يستفيدون منه، ويدرسونها في المساجد والمدارس والجامعات، ونفع الله بهذه العقيدة وبهذا الشرح كثيراً، ولعل من أسباب ذلك حسن النية من مؤلفها وشارحها، غفر الله لهما، وأسكنهما فسيح جناته.

بيان موضوع علم العقيدة وأقسام العلم النافع

بيان موضوع علم العقيدة وأقسام العلم النافع وموضوع هذه العقيدة هو علم أصول الدين، وهو أشرف العلوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وهو هنا العلم بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، واستحقاقه للعبادة، فهذه المعرفة هي أعظم المعارف، وأساس الهداية، وأساس الدين، وأساس الملة، وهي أفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وأدركته النفوس، وحصلته العقول، وهذا هو المسمى بالفقه الأكبر، والفقه الأصغر هو علم الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمه الله ما جمعه في أوراق وكتبه في أصول الدين: الفقه الأكبر. إذاً: أصل الدين وأصل الملة معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وإلهيته، ثم يتبع هذه المعرفة أصلان عظيمان: الأصل الأول: معرفة الطريق الموصلة إلى الله المعبود، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. والأصل الثاني: معرفة ما للسالكين إليه، ومعرفة حالهم بعد الوصول إلى الله من النعيم المقيم إن استقاموا على دينه وامتثلوا أمره ونهيه، وما لهم من الإهانة والعذاب السرمدي إن سلكوا طريق الغواية، وانحرفوا عن دينه، فهذه هي أقسام العلم النافع. فأقسام العلم النافع الذي بعث الله به رسوله ثلاثة لا رابع لها: القسم الأول: معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، هذا هو أصل الدين، وأساس الملة، وهذا وعلم أصول الدين يسمى الفقه الأكبر، وعلى هذه المعرفة تدور مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها؛ لأنه سبحانه المعبود، فلابد أن تعرف معبودك، فتعرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله حتى تعبده على بصيرة، وهذا يسمى علم أصول الدين، وهو أشرف العلوم، وهذا هو القسم الأول، وهو الأصل الأصيل. القسم الثاني: العلم بشرائع دينه وأحكامه سبحانه من الأمر والنهي والحلال والحرام، وهذا هو الفقه الأصغر. والقسم الثالث: العلم بشئون المعاد من البعث والجزاء والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومصير الإنسان ومستقره في الدار الآخرة، فإما إلى جنة وإما إلى نار. هذه هي أقسام العلم النافع، وأصلها وأساسها علم أصول الدين، وهو معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم معرفة الأحكام الشرعية التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان رسوله من الأوامر والنواهي، ثم معرفة شئون المعاد، وما يحصل للإنسان بعد الموت من الحساب والجنة والنار، وقبل ذلك ما يحصل للإنسان في القبر من سؤال منكر ونكير، ومن النعيم أو العذاب، وهذه الأنواع الثلاثة كلها مبينة في القرآن والسنة وموضحة في أتم وأوضح بيان، ولهذا يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- في الشافية، وهي القصيدة النونية: والعلم أقسام ثلاثة ما لها من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالقرآن فهذه أقسام العلم النافع، فقوله: علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن يتناول علم أصول الدين، وهو العلم بالله وصفاته وأفعاله وأسمائه. وقوله: والأمر والنهي الذي هو دينه. يتناول القسم الثاني، وهو دين الله، أي: معرفة الأوامر والنواهي، وشرائع الدين التي شرعها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. والقسم الثالث: الجزاء وشئون المعاد، وحال السالكين إلى الله، وحال الناس بعد الموت.

طريق معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله

طريق معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة لها إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها وخالقها بأسمائه وصفاته وأفعاله، فالنفوس معذبة إن لم تعرف ربها وخالقها، ولا يحصل لها سلام من هذا العذاب، ولا يحصل لها نعيم ولا راحة ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها وخالقها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، ويكون مع ذلك كله هذا المعبود سبحانه وتعالى أحب إليها من كل ما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه من دون سائر خلقه، فإذا كانت بذلك تمت السعادة، فإذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وفاطره وخالقه، وكان مع ذلك أحب إليه من كل شيء، وكان سعيه فيما يقربه إليه تمت السعادة، وإذا عرف الإنسان معبوده وفاطره وخالقه وإلهه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فقد تعلم علم أصول الدين، وحصل على علم الفقه الأكبر، ولا يمكن أن يفقه فيما يقربه من الله إلا عن طريق معرفة الشريعة -وهي الأوامر والنواهي، والحلال والحرام- التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وفاطره وخالقه، وكان أحب إليه من كل ما سواه من النفس والولد والوالد والناس جميعاً، وكان سعيه وعمله فيما يقربه إليه من دون سائر خلقه فقد تمت السعادة، ويستحيل أن تستقل العقول وأن تدرك تفاصيل معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة الشريعة والأوامر والنواهي، ومعرفة شئون المعبود، يستحيل أن تستقل العقول بمعرفة ذلك، ولا يمكن للعقول أن تعرف أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما يحبه الله ويرضاه، وشئون المعاد وما يكون لها، والعقول متفاوتة ومختلفة اختلافاً عظيماً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه أنه لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأن العقول لا تستطيع أن تدرك علم أصول الدين، ولا تستطيع أن تدرك شرائع الدين، ولا تستطيع أن تدرك شئون المعاد، وما يكون للإنسان بعد موته، فمن رحمة العزيز الرحيم أنه لم يكل ذلك إلى العقول، فلذلك أرسل الرسل يعرفون بالله، ويدعون إليه، ويبشرون من أطاعهم بالجنة، وينذرون ويحذرون من عصاهم بالنار، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه، قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. والفائدة من معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة شريعته وأوامره ونواهيه، وما يكون شئون المعاد، الفائدة من ذلك العمل، إذا عرف الإنسان ربه ومعبوده وخالقه بأسمائه وصفاته، وعرف دينه؛ تقرب إلى الله بما يحبه، وأخلص له العبادة، وآمن بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعمل رجاء لقاء الله، وتيقن أنه ملاقٍ ربه، وأنه واقف بين يديه، وأنه محاسبه ومجازيه على كل صغيرة وكبيرة، فالعبد إذا عرف ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ فحينئذٍ يعبد الله على بصيرة، ويتقرب إلى الله بما يحبه، ويعبده حق عبادته، ويخلص له العبادة، ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته. والطريق إلى معرفة المعبود ومعرفة الشريعة ومعرفة شئون المعاد هم الرسل، وآخر الرسل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حظنا من الأنبياء والرسل، ونحن حظه من الأمم، عليه وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم. والكتاب والسنة الذان جاءا عن طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهما نعرف ربنا وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه ويرضاه من الأوامر التي نفعلها والنواهي التي نتركها، وما يحصل لنا بعد الموت حينما نلاقي ربنا، ونعرف بهما أن الناس قسمان في النهاية: فريق في الجنة وفريق في السعير، وأن هناك قبراً، وسؤالاً بعد الموت، وأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وأن هناك حساباً ووقوفاً بين يدي الله، وأن هناك بعثاً وحشراً ونشراً، وأن هناك صحفاً تتطاير فتؤخذ بالأيمان وبالشمائل، وأن هناك حوضاً يرد الناس عليه في الموقف يوم القيامة، وأن هناك ميزاناً توزن فيه الأعمال والأشخاص، وأن هناك صراطاً يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، ثم الاستقرار في الجنة أو النار، وكل هذا لا يمكن أن تعرفه العقول ولا أن تدركه على التفصيل، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يكل ذلك إلى العقول، بل أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب ليعرفوا الناس بصفات الله وبأسمائه وأفعاله، ويعرفوا الناس بما يحبه الله وبما يكرهه، وما يرضاه الله وما يأباه، وما يحب أن يفعله العباد وما يحب أن يتركه العباد، ويعرفوا الناس بحالهم ومصيرهم بعد الموت. ولهذا كان أطوع الناس لله وأعرفهم بالله هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه، والطريق الموصل إليه لا يعرف إلا عن طريق شرائع الدين التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فأتبع الناس، وأطوع الناس لله، وأعرف الناس بالله أتبعهم للطريق الموصل إليه، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعرف الرسل وأطوعهم وأتبعهم هم أولوا العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأطوعهم وأتبعهم وأعرفهم الخليلان -إبراهيم ومحمد- عليهما الصلاة والسلام، وأطوع الخليلين وأتبعهما وأعرفهما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (إني أخشاكم لله وأتقاكم له)، وفي لفظ آخر: (إني أعلمكم بالله)، فهو أعلم الناس بالله، وأعرف الناس بالله، وأتقى وأخشى الناس، وأفضل الناس عليه الصلاة والسلام، وأكرمهم وأطوعهم وأتبعهم عليه الصلاة والسلام، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

مراتب الخلق في اتباع الشرع

مراتب الخلق في اتباع الشرع من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يوجب على كل أحد أن يعلم ويؤمن بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام تفصيلاً في كل شيء، فالواجب على الفرد العلم والإيمان بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إجمالاً، وأما العلم التفصيلي فإنه يختلف باختلاف أحوال الناس بحسب قدرتهم، وبحسب ما أعطاهم الله من العقول والأفهام والعلم وسماع النصوص وفهمها، فيجب على من سمع النصوص وفهمها وعلمها ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على العالم ما لا يجب على العامي، ويجب على المحدِّث ما لا يجب على غيره، ويجب على القاضي ما لا يجب على غيره، ويجب على الحاكم ما لا يجب على غيره، فالعلم التفصيلي بالشريعة فرض كفائي على الأمة، ويجب على الأمة أن تعلم ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل، كما أنه يجب عليها أن تتدبر كتاب ربها، وأن تتعقله وتتفهمه، كما يجب عليها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تنشر الإسلام، فهذا واجب كفائي، فإذا وجد في الأمة حصل المقصود، وإلا أثمت الأمة. وأما الأفراد فلا يجب عليهم ذلك، وإنما يختلف الوجوب باختلاف أحوال الناس. وأطوع الناس وأتبعهم وأعرفهم بالله، وأعلمهم بالطريق الموصل إليه هم الأنبياء، والطريق الموصل إليه هو الشريعة، فمن اتبع ما أحله الله، وامتثل أمر الله، واجتنب نهيه، واستقام على دينه؛ فهو أطوع الناس. وأطوع الناس وأتبعهم هم الأنبياء والرسل، وأطوعهم وأتبعهم أولوا العزم الخمسة، وأطوعهم وأتبعهم الخليلان، وأطوعهما وأتبعهما نبينا محمد عليه وعليهم وعلى سائر المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم. ثم أطوع الناس وأتبعهم بعد الأنبياء والرسل الصديقون، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، ثم الشهداء، فقد بذلوا أجسامهم لله عز وجل حتى قتلوا في سبيل الله، فجعل الله سبحانه وتعالى أرواحهم في البرزخ في حواصل طير خضر، كما جاء في الحديث: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في الجنة؛ ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش)، ثم سائر الصالحين من المؤمنين، وهم طبقات: فمنهم السابق بالخيرات، وهو الذي أدى فرائض الله وانتهى عن محارم الله، ثم صار عنده نشاط فسابق إلى الخيرات وفعل النوافل، وترك مع المحارم المكروهات وشيئاً من فضول المباحات، فهؤلاء أفضل الناس بعد الأنبياء وبعد الصديقين والشهداء، وهم السابقون المقربون. ثم يليهم المقتصدون والأبرار، وهم الذين أدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم، لكن لم يكن عندهم نشاط في فعل النوافل المستحبة، وقد يفعلون بعض المكروهات. وهناك طبقة ثالثة، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء مؤمنون ظالمون لأنفسهم، لكنهم ما فعلوا الشرك، فهم مؤمنون موحدون قصروا في بعض الواجبات أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء ظالمون لأنفسهم، وهم على خطر من العذاب في القبر، وعلى خطر من العذاب في النار، فأمرهم دائر بين السلامة والعذاب، فقد يعفى عنهم، وقد يعذبون، لكن مآلهم ونهايتهم السلامة والاستقرار في الجنة بعد العذاب أو العفو، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فهؤلاء كلهم ورثوا الكتاب، وكلهم من المصطفين، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، فهذا الظالم لنفسه هو الذي قصر في بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] وهذا هو الذي أدى الفرائض وانتهى عن المحارم، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، وهذا هو الذي أدى الفرائض وانتهى عن المحارم وفعل النوافل، وترك المكروهات، وشيئاً من فضول المباحات، وهؤلاء كلهم ناجون، وليس بعدهم إلا الكفرة بجميع أقسامهم وأنواعهم، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ذكر الله تعالى في سورة الواقعة أقسام الناس، فذكر السابقين، والمقتصدين أصحاب اليمين، وأصحاب المشأمة، وهم الكفار بجميع أنواعهم من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والمنافقين وغيرهم ممن مات على الكفر، فهؤلاء هم أصحاب النار تغشاهم النار وتصلاهم من جميع النواحي نعود بالله، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] ولا يخرجون منها أبداً. أما العصاة الموحدون فهم على خطر، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة فشقها نصفين وغرس في كل قبر واحدة، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) فهذان عذبا بسبب فعل بعض المحرمات، والنميمة من كبائر الذنوب، وكذلك عدم الاستنزاه من البول، وفي لفظ: (لا يستبرئ من بوله) وفي لفظ: (لا يستتر من بوله)، وكذلك في يوم القيامة قد ينال شدة الحساب، وقد يدخل النار، وقد يعفو الله عنه، فهو تحت المشيئة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهو تحت مشيئة الله، فقد يعفو الله عنه لتوحيده وإيمانه وإسلامه فيدخل الجنة من أول وهلة، وقد يعذب في النار مدة، ثم إذا طهر فيها أخرج إلى الجنة إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين. وقد تواتر في الأحاديث الصحيحة أنه يدخل النار جملة من أهل التوحيد وأهل الإيمان العصاة، فهذا يدخل النار بعقوقه لوالديه، وهذا بقطيعته للرحم، وهذا لأنه زنى، وهذا لأنه سرق، وهذا لأنه يأكل الربا، وهذا لأنه أكل مال اليتيم، وكل هؤلاء ما استحلوا تلك المعاصي، ولكن فعلوها طاعة للهوى والشيطان، أما من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة فقد كفر، لكن هؤلاء غلبتهم نفوسهم وأهواؤهم وشهواتهم ففعلوا الحرام فعذبوا. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، فيحد الله له حداً فيخرجهم من النار، وثبت أن الملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والشهداء يشفعون، والصالحين يشفعون، وثبت أنه يبقى بقية من العصاة في النار بعد شفاعة الشافعين لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، كما جاء في الحديث: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) أي: زيادة على التوحيد والإيمان. وقد ثبت أنهم يخرجون منها قد امتحشوا وصاروا فحماً، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، ثم إذا خرج عصاة الموحدين ولم يبق أحد منهم في النار أغلقت النار على الكفرة، فلا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال الله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] يعني: مطبقة مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9] فيستقر أهل النار في النار، وهم أهلها من اليهود والنصارى والوثنيين والمجوس والمنافقين، لا يخرجون منها أبد الآباد، أما الموحد العاصي فمثل معصيته كالنجاسة الطارئة التي حصلت، فإذا غسلت النجاسة زالت، فكذلك هؤلاء يطهرون من معاصيهم بالنار، فإذا طهروا خرجوا منها إلى الجنة؛ لأنهم من أهل الجنة. لكن بعض العصاة قد تطول مدته في النار بسبب عظم الجريمة وعظم المعصية، وقد يعفو الله عنه، فهذا كله من العلم بشئون المعاد، ولا يعرف إلا عن طريق الرسل.

الهدي النبوي في الأسماء والصفات وموقف السلف الصالح منه

الهدي النبوي في الأسماء والصفات وموقف السلف الصالح منه إن أعرف الناس بالله هم الرسل والأنبياء، ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون، والرسل عرفوا الناس بالله، وأثبتوا لله الأسماء والصفات والأفعال، والله تعالى في كتابه العظيم أثبت لنفسه ذلك فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا) كما في الحديث الصحيح المتواتر، فالله سبحانه أثبت لنفسه الصفات والأسماء في كتابه، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام. وقد درج على منهاج الرسل وطريقة الرسل الصحابة، فأثبتوا الصفات لله عز وجل والأسماء والأفعال، وعبدوا الله على بصيرة، ثم تبعهم التابعون، فحذوا حذوهم، فأثبتوا الأسماء والصفات والأفعال لله عز وجل، ثم تبعهم الأئمة المشهود لهم بالإمامة، ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك وأبو عمر الأوزاعي وغيرهم من العلماء والأئمة، قال الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فأثبتوا الأسماء والصفات لله، فالصحابة والتابعون والأئمة وعلماء الأمة المشهود لهم بالإمامة وسائر أهل السنة والجماعة درجوا على منهاج نبيهم عليه الصلاة والسلام، فأثبتوا الأسماء لله كما أثبتها لنفسه، وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعبدوا الله على بصيرة.

موقف المعطلة من أسماء الله تعالى وصفاته

موقف المعطلة من أسماء الله تعالى وصفاته وبعد السلف جاء بعض الناس من الخلوف وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وحرفوا نصوص الكتاب والسنة، ونفوا الأسماء والصفات عن الله، وقالوا: إنه لم يستو على عرشه، وقالوا في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: نؤمن باللفظ، لكن المعنى: استولى على العرش، ويقولون: إن الله لا ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فهذا لا يليق به، وقالوا: إن الله لا يتصف بالسمع ولا بالبصر، وهؤلاء هم المعطلة والخلوف الذين جاءوا من بعدهم. واتصل هؤلاء المعطلة وغيرهم بأهل الشرك والأوثان، فأول من ابتدع القول بنفي الصفات هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، وتعطيله إنما هو في كلمتين: حيث نفى أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، ونفى أن يكون الله كلم موسى تكليماً، وكان في زمن التابعين، فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله ورضي عنه، وكان أمير العراق والمشرق في واسط، وكان ذلك بفتوى من علماء زمانه، وكان هو الذي يصلي بالناس العيد، ويخطب الناس خطبة العيد، فأتى بـ الجعد مكبلاً، وجعله تحت أصل المنبر، وصلى بالناس العيد، ثم خطب خطبة العيد، ثم قال في آخرها: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل وأخذ السكين وذبحه، وضحى به أمام الناس، فأثنى عليه العلماء وشكروه على ذلك، فكان قتله بفتوى من العلماء، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله هذا في الكافية الشافية، فقال: ولذا ضحى بجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان ثم ذكر في بيت بعده أن سبب ذلك هو أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم قال: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان وكان قد اتصل به رجل آخر يسمى الجهم بن صفوان قبل موته، فأخذ عنه عقيدة نفي الصفات، ثم قتل الرجل الثاني الجهم بن صفوان أمير خراسان بها، لكنه كان قد نشر هذا المذهب وناظر عليه، فنسب مذهب التعطيل وعقيدة نفي الصفات إلى الجهمية، فيقال: مذهب الجهمية؛ لأنه نشره على نطاق أوسع. وكان الجهم قد أخذ عن الجعد، والجعد بن درهم أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فعقيدة نفي الصفات تتصل باليهود، وكانت -أيضاً- في أرض حران، وفي ذلك الوقت كان فيها مشركون وصابئة، فعقيدة نفي الصفات ترجع إلى الصابئة والمشركين واليهود، نسأل الله السلامة والعافية. فهؤلاء الذين غيروا وبدلوا ونفوا الصفات وخالفوا منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما درج عليه الصحابة والتابعون والأئمة يسمون بالمتكلمين، وهؤلاء الذين حرفوا النصوص وأنكروا الصفات كثر فيهم النفاق، وصاروا يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الأدلة العقلية وبين الشريعة، فصار لهم شبه بالمنافقين، فالمنافقون يزعمون أنهم يجمعون بين الشريعة وبين ما يتحاكمون إليه، وهؤلاء يريدون أن يجمعوا بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية، كما أن الصوفية الذين انحرفوا يزعمون أنهم يجمعون بين الشريعة وبين الحقيقة، وكما أن الفلاسفة الذين انحرفوا يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الشريعة وبين الفلسفة، كما أن المتفلتة وملوك الجور على مر العصور الذين خالفوا الشريعة يزعمون أنهم يجمعون بين السياسة وبين الشريعة. والله تعالى أنكر على المنافقين زعمهم الإيمان بالله ثم تحاكمهم إلى غير الشريعة، وبيَّن مقالتهم السيئة، وأنهم يزعمون أنهم يريدون أن يجمعوا بين الشريعة وبين ما يتحاكمون إليه، ونفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع ويسلم بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً، فيسلم بحكمه تسليماً كاملاً، قال الله تعالى عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:60 - 62] أي: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين ما نتحاكم إليه. وكذلك كثير من أهل الكلام سلكوا مسلك المنافقين، فقالوا: نريد أن نوفق بين الأدلة الشرعية وبين الأدلة العقلية؛ إذ العقل هو الأساس والأصل، فيعرضون الشريعة على الأصول، فما وافقه قبلوه، وما رده ردوه بزعمهم. كما أن الفلاسفة قالوا: نريد أن نجمع بين الشريعة وبين الفلسفة حتى يتوافقا، فهم على نهج {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62]. كما أن الصوفية يقولون: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين علم الحقيقة، أي: علم الباطن، فهم -بزعمهم- يقسمون الناس إلى أقسام وطبقات، فمنهم من تسقط عنه التكاليف، ومنهم من تجب عليه التكاليف، كما أن المتفلتة يقولون: نريد أن نوفق بين الشريعة وبين السياسة. وكل هؤلاء قال الله تعالى عنهم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فنفى الإيمان، وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه الكريمة فقال: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)) وجعل غاية هذا النفي وجود ثلاثة أمور: ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)) تحكيم الرسول والشريعة في موارد النزاع، ((ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)) أي: لا يكون عند المحتكم حرج، ولا يكون في نفسه شيء، ولا يريد حكماً آخر، ((وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) وأكده، فهو اطمئنان كامل إلى حكم الله ورسوله، وهذا لا يوجد عند المنافقين، ولا أهل الكلام، ولا الفلاسفة، ولا الصوفية، ولا المتفلتة من ملوك السوء. ولذلك لما كان أهل الكلام قد انحرفوا عن الجادة وعن الطريق السوي، وكثر النفاق فيهم؛ حذر العلماء من أهل الكلام، وحذروا الناس من سلوك طريقهم، وبينوا أن العلم بالكلام هو الجهل، كما قال أبو يوسف رحمه الله الصاحب الأول لـ أبي حنيفة لـ بشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم. وإذا كان الإنسان رأساً في الكلام قيل: تزندق، أو قيل: زنديق. وقوله: (الجهل بالكلام هو العلم)، يعني: عدم اعتقاده أو الإعراض عنه هو العلم. وقال أبو يوسف أيضاً: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. فقوله: (من طلب العلم بالكلام تزندق) أي: يصل في النهاية إلى الزندقة -والعياذ بالله- وينحل من دينه. (ومن طلب المال بالكيمياء أفلس) الكيمياء نوع غير الكيمياء المعروفة الآن، بل هي نوع من السحر فيه زور وتغيير للواقع، فإذا علم المشتري بهذا الزور رد البيع، فيكون البائع مفلساً. (ومن طلب غريب الحديث كذب) لأنه يتتبع الغريب. وسبب هذا الانحراف من أهل الكلام عن الجادة وعن المنهاج الذي رسمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هو تفريطهم في اتباع ما جاء به الكتاب والسنة، وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله، حيث اعتمدوا على غير الكتاب والسنة، وتركوا الكتاب والسنة وراءهم ظهرياً، واعتمدوا على العقول، ولهذا يقول المعتزلة: العقل هو الأصل الأصيل عندنا، حتى قال بعضهم في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، قال: الرسول العقل. فاعتمدوا على العقول، فانحرفوا وأعرضوا عن الكتاب والسنة، كما أن الفلاسفة اعتمدوا على الفلسفة وأعرضوا عن الكتاب والسنة، وكما أن الصوفية اعتمدوا على علم الباطن وعلم الحقيقة، وأعرضوا عن الكتاب والسنة فضلوا وأضلوا، قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. إذاً: فالسبب في ضلالهم وانحرافهم هو إعراضهم عن الكتاب والسنة، وتفريطهم في اتباع ما جاء به الكتاب والسنة، فلما أعرضوا ضلوا وانحرفوا، والواجب على المسلم اتباع ما جاء به الكتاب والسنة. وليس هناك طريق إلى الله، وإلى معرفة دينه، وإلى الوصول إلى جنته وكرامته، وإلى معرفة ما يرضي الرب إلا طريق الرسل، سدت الطريق الموصلة إلى الله إلا عن طريق الرسل، وآخر الرسل وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حظنا من الرسل كما أننا حظه من الأمم، وليس لنا طريق يوصلنا إلى الله إلا من الطريق الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه الإمام مسلم في الصحيح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وشريعة الرسول صلى الله عليه وسل

بيان معاني التوحيد

بيان معاني التوحيد افتتح الإمام الطحاوي رحمه الله رسالته الطحاوية بقوله رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. فتوحيد الله هو اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره، فالله تعالى واحد لا شريك له في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في إلهيته واستحقاقه للعبادة، وهذا هو التوحيد، وهذا هو الإيمان بالله، وهو الاعتقاد بوجود الله، وأن الله سبحانه وتعالى موجود فوق السماوات وفوق العرش، وأن له ذاتاً، وأنه قائم بنفسه سبحانه وتعالى، وهو الحي القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهو الحي سبحانه وتعالى، وله ذات كريمة لا تشبه الذوات، فهو فوق العرش سبحانه وتعالى مستو عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته. فالملاحدة الذين لم يثبتوا وجود الله من أكفر الناس، وكذلك الاتحادية الذين يقولون: إن الوجود واحد، والخالق والمخلوق واحد، فهؤلاء ما آمنوا بوجود الله، وكذلك الفلاسفة الذين أثبتوا وجود الله في الذهن، وكذلك المعطلة الذين نفوا الأسماء والصفات، ولم يثبتوا لله اسماً ولا صفة، ولا يمكن أن توجد ذات ليس لها اسم ولا صفة، وليس كذلك إلا العدم، فلابد من الإيمان بوجود الله، وأنه سبحانه وتعالى فوق العرش وفوق السماوات. ولابد من الإيمان بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك وغيره مملوك، وأنه المدبِر وغيره المدبَر، وكذلك سائر أفعاله سبحانه وتعالى، فهذا هو توحيد الربوبية. وليس هناك خالق إلا الله، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وليس هناك رب إلا الله، فالله تعالى رب الأرباب، ورب العالمين، ورب الناس يربيهم بنعمه. وهو المدبر، المحيي المميت، المتصرف، منزل المطر، مسبب الأسباب، وهذه هي أفعال الرب، ولذا كان توحيد الله بأفعاله هو أن تعتقد بأن الله هو الخالق الرازق، المالك، المدبر، المحيي المميت، المتصرف، وهذا هو توحيد الربوبية. وكذلك توحد الله في أسمائه وصفاته، بأن تؤمن وتعتقد وتثبت لله الأسماء والصفات، وليست تلك الأسماء والصفات من عندك، بل المراد ما أثبته الله لنفسه في كتابه وفي السنة على لسان رسوله، ولا نخترع أسماء ولا صفات من عندنا، فإن الأسماء والصفات توقيفية، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقد أثبت لنفسه السمع، وأثبت لنسفه البصر، فتثبت له السمع والبصر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:20]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134]، وأثبت لنفسه العلم، فتثبت له العلم، قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]، {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وأثبت لنفسه الرضا، فتثبته، قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]. وأثبت لنفهس الكره، فتثبته، قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46]. وأثبت لنفسه السخط فقال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة:80]، فتثبت له السخط كما يليق بجلاله وعظمته، وهكذا نثبت جميع الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ونؤمن بها، ونعتقد أن الأسماء حسنى، وأن الصفات عليا، وأن له الكمال، وأنه اتصف بها حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نعرف الكيفية ولا الكنه، ولا نقول: هي صفات كصفاتنا، بل هي صفات تليق به، فالخالق له صفات تليق به، والمخلوق له صفات تليق به. ولابد من الإيمان بإلهية الله، فتعتقد أن الله هو المعبود المستحق للعبادة، وتتقرب إلى الله وتعبده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فتمتثل الأوامر وتجتنب النواهي، وهذا يسمى توحيد الله بأفعال العباد، ويسمى توحيد العبادة، فتوحد الله بأفعالك أنت من صيام وصلاة وزكاة وحج وبر للوالدين وصلة للرحم وغير ذلك. فهذا هو توحيد الله بأفعال العباد، وهو الغاية المرضية لله تعالى، وهو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم، بخلاف توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فإنهما توحيدان فطريان، وهما وسيلة، والغاية أن توحد الله وتعبده. فإذا عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله فإنك تخصه وتفرده بالعبادة، وهذا هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم، فهم كانوا يقرون بربوبيته وبأنه الخالق المالك المدبر، ويقرون في الجملة بأسمائه وصفاته، لكن أنكروا أن يكون مخصوصاً بالعبادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: كلمة واحدة لو قلتموها لملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، فقالوا: لنعطينكها وأمثالها، فقال: قولوا: لا إله إلا الله، فنكص أبو جهل على عقبيه، وجعل ينفض يديه ويقول: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! إن هذا لشيء عجاب، فكون المعبود واحداً أمر صعب وشاق عندهم، فالمعبودات متعددة، فبعض الكفار يعبدون اللات والعزى، واليهود يعبدون عزيراً، وهناك من يعبد النجم والقمر والشمس، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يخصوا الله بالعبادة، فقال: قولوا: (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله. ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، ولم يشرع حينئذٍ من شرائع الدين إلا الصلاة، فقد فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين -في أصح أقوال أهل العلم- لعظم مكانتها، فلما هاجر إلى المدينة شرعت سائر الشرائع، فشرع الأذان، وشرعت الزكاة، وشرع الصوم، وشرع الحج، وشرعت الحدود، لكن العقيدة هي أساس الدين وأساس الملة. ونوح عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد، ويقول: قولوا: لا إله إلا الله، وصبر هذه المدة العظيمة الطويلة وهم لا يزدادون إلا عتواً وعناداً ويسخرون منه ويقولون: إنه مجنون، ويوصي بعضهم بعضاً بالكفر بنوح عليه الصلاة والسلام، حتى إن الأجداد يوصون الأحفاد بالكفر بنوح والعياذ بالله، ولم يؤمن معه في هذه المدة الطويلة إلا القليل، كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]. وفي آخر الأمر أوحى الله إليه أنه لا حيلة فيهم، وأنه لن يؤمن أحد وراء من سبق، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36]، فعند ذلك دعا عليهم، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]. إذاً: فتوحيد العبادة وتوحيد الإلهية هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم، وهو أول واجب على المكلف، وهو الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، فهذا أول واجب وأول منازل الطريق، وأول ما يسير فيه السائر إلى الله عز وجل، فيعبد الله ويوحد الله، وهو أول دعوة الرسل، وأول الدين وآخره وظاهره وباطنه، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله). إذاً: أوجب الواجبات، وأول واجب، وأول مقام يسير فيه السالك إلى الله عز وجل هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، ولهذا خلق الله الخلق، وبهذا بعث الله الرسل، وبهذا أنزل الله الكتب ليعبد وليوحد. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وسيلة إلى عبادته وإفراده بالعبادة، فإذا عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله عند ذلك تخصه بالعبادة، وتفرده بها. فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، ولهذا احتج الله سبحانه وتعالى على الكفار بأنهم وحدوا الله في ربوبيته، ويجب عليهم أن يوحدوا الله في عبادته، قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض

الأسئلة

الأسئلة

حد الكبيرة

حد الكبيرة Q هل لنا أن نحكم على بعض المعاصي التي لم تكن في زمان من كان قبلنا بأنها من الكبائر؟ A لا شك في أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، واختلف العلماء في عدد الكبائر، فقال بعضهم: هي سبع، وقال بعضهم: هي سبعون، وقال بعضهم: هي سبعمائة، وقال بعضهم: هي كل ما نهى الله عنه، وقال بعضهم: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، ولكن أرجح تعريف للكبيرة -كما بين ذلك المحققون- هو كل ذنب توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب في الآخرة، أو وجب فيه حد في الدنيا، أو نفي عن صاحبه الإيمان، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، (من غشنا فليس منا)، والسرقة فيها حد، فهي من الكبائر، والزنا فيه حد، فهو من الكبائر، والقتل كذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، فالنميمة توعد عليها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] فأكل مال اليتيم كبيرة، فهذا هو أرجح الأقوال، وعلى ذلك فكل ذنب نزنه بهذا الميزان، فإن كان فيه حد في الدنيا، أو نفي عن صاحبه الإيمان، أو ختم بنار أو لعنة أو غضب نقول: إنه كبيرة، وإن لم يكن كذلك نقول: إنه صغيرة.

الفرق بين الأنبياء والرسل في الاتباع من حيث الكمال

الفرق بين الأنبياء والرسل في الاتباع من حيث الكمال Q ذكرتم في كلامكم أن هناك مفاضلة بين الأنبياء والرسل في الاتباع لأوامر الله سبحانه وتعالى، فنرجو توضيح ذلك؛ لأنه قد يشكل ذلك علينا، حيث إنا نعتقد أن الأنبياء لا يحصل منهم تقصير في الاتباع؟ A الأنبياء والرسل لا يحصل منهم تقصير، ولكنهم يتفاضلون في منزلتهم عند الله عز وجل وفي الكمال، وهذا واقع بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]، وقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وقال سبحانه لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فخص أولي العزم، فلا شك في أن الأنبياء منزلتهم عند الله متفاوتة، ومنزلة أولي العزم أفضل من غيرهم، فهم أكمل الناس في الاتباع، وإن كان الأنبياء كلهم متبعون، بل إن الصديقين والشهداء وسائر المؤمنين كلهم متبعون، وكلهم يحافظون، وقد سبق أن قلنا: إن السابقين بالخيرات هم الذين أدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم، وتركوا المكروهات وفضول المباحات، وتقربوا إلى الله بالنوافل، فسائر المؤمنين يسابقون، لكن يتفاوتون في هذا، فمنهم الصديق ومنهم الشهيد، ومنهم الأنبياء في أعلى رتب المؤمنين، وهم أكمل الناس في الاتباع، والأنبياء يتفاوتون في الكمال، كما أن المؤمنين يتفاوتون في الكمال، وإن كانوا جميعاً كلهم متبعون.

الإشراك بالله سبب بعثة نوح عليه السلام

الإشراك بالله سبب بعثة نوح عليه السلام Q عندما دعا نوح عليه السلام قومه، هل دعاهم على أنهم مشركون، أم دعاهم على أنهم جاهلون؟ A دعاهم على أنهم مشركون، فقد انتشر الشرك في زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وفي تفسير قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس وغيره: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد)، ثم حدث الشرك في قوم نوح، وجاء في صحيح البخاري في كيفية ذلك أنه كان في زمن نوح أناس صالحون هم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، ثم ماتوا، وتقاربت وفاتهم، فحزنوا عليهم، فقالوا: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم، ثم لما طال الأمد وطال العهد وجاء أحفادهم بعدهم دب إليهم الشيطان وأوحى إليهم وقال لهم: إن آباءكم إنما صوروا هذه الصور لأنهم يستسقون بهم ويدعونهم، فعبدوهم من دون الله، فحدث الشرك في قوم نوح. فسبب الشرك في قوم نوح هو تصوير الصالحين، ثم الغلو والعكوف على قبورهم، فلما حدث الشرك بعث الله نوحاً عليه السلام، فهو أول رسول بعثه الله بعد الشرك، وإلا فآدم كان قبله، وهو نبي مكلف مرسل إلى بنيه، غير أنه ما وقع الشرك، وشيث كذلك نبي قبل نوح، غير أنه لم يقع الشرك في زمنه، فنوح أول رسول بعثه الله بعد وقوع الشرك، فدعا قومه إلى توحيد الله عز وجل، ومكث فيهم هذه المدة الطويلة -وهي ألف سنة إلا خمسين عاماً- يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك، يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فدعاهم إلى العبادة والتوحيد.

كيفية لحوق التائب من ذنبه بالسابقين

كيفية لحوق التائب من ذنبه بالسابقين Q ذكرت أن الناس أقسام، فمن وقعت منه معاصٍ في أول عمره ثم تاب واتصف بصفات السابقين، هل يلحق بهم؟ A نعم، فمن تاب تاب الله عليه، وفي الحديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، فمن وقعت منه المعاصي ثم تاب فقد تكون حاله بعد التوبة أحسن من قبل التوبة، فإذا ندم وانكسر بين يدي الله، وتاب توبة نصوحاً، ثم أتبع ذلك بالإيمان والعمل الصالح؛ بدلت سيئاته حسنات فضلاً من الله وإحساناً، فالتائب إذا تاب تاب الله عليه، ومحى الذنب عنه، فإن زاد مع ذلك بأن آمن وعمل صالحاً وأكثر من الأعمال الصالحة بدلت سيئاته حسنات، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]، فتكون حاله بعد التوبة أحسن من حاله قبلها. وتبدل كل السيئات حسنات، فإذا تاب توبة نصوحاً ثم أدى الفرائض وانتهى عن المحارم، وترك المكروهات وفضول المباحات وسابق بالنوافل؛ صار من السابقين.

حكم دعاء غير الله

حكم دعاء غير الله Q هناك بعض الناس يقولون: (يا رسول الله! ويا شيخ فلان!) فهل يخرجون بذلك من الإسلام، وهل نقول: إنهم كفار؟ A من دعا غير الله وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله خرج من الملة، وصار من المشركين، كأن يقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! خذ بيدي، يا رسول الله! اغفر ذنبي، أو يقول: يا عبد القادر الجيلاني! أو: يا سيدي البدوي! أو: يا دسوقي! أو: يا نفيسة! المدد المدد، خذ بيدي، أنا في جوارك، اشفع لي، لا تخيب رجائي، فهذا كفر وردة، وخروج عن ملة الإسلام، ومن فعله صار من المشركين الوثنيين بعد أن كان من المؤمنين الموحدين، وإذا مات على ذلك صار من أهل النار، والعياذ بالله. فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، نقول: هذا لا يجوز، وإذا قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع، نقول: نعم يشفع، لكن لا تسأل الرسول الشفاعة، بل اسألها من الله، وقل: يا رب! شفع في نبيك، فإذا كان يوم القيامة وهو حي قادر فإنك تطلب منه الشفاعة، أما بعد وفاته فلا. فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، نقول: هذا شرك لا يجوز، فمن دعا غير الله فقد أشرك، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. وإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، أو: يا رسول الله! أغثني، أو: يا رسول الله! فرج كربي، أو: يا رسول الله! المدد المدد، أو: يا عبد القادر! أو: يا سيدي البدوي! المدد المدد، خذ بيدي، لا تخيب رجائي، أنا في جوارك، فهذا شرك وردة، والعياذ بالله. أما إذا دعا حياً حاضراً قادراً فلا يكون ذلك شركاً، كأن تقول: يا فلان! أعني على إصلاح سيارتي، أعني على إصلاح مزرعتي، أعني على إصلاح البيت، ساعدني على السيارة، أقرضني، فلا بأس بذلك، لكن أن تدعو ميتاً أو غائباً لا يسمع فيما يقدر عليه إلا الله كفر وردة، كأن تدعوه لأن يفرج كربتك وهو ميت قد بليت عظامه وصارت تراباً، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14]، وقال سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] وهم المشركون، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فنص الله على أن من دعا غير الله فهو كافر، قال تعالى: ((إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ))، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14]، فسماه الله شركاً بنص القرآن، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله كفر وأشرك وخرج من الملة، فإن تاب قبل الموت تاب الله عليه، فإن مات على هذا حبطت أعماله، وصار من أهل النار لفعله ذلك، نسأل الله العافية، وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله تقرباً إليه. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[2]

دروس في العقيدة [2] فطر الله الخلق على الاعتراف بربوبيته، والإقرار بكونه الخالق والرازق والمدبر والمتصرف، وهم بذلك مقرون، ولم يشذ عن ذلك إلا طوائف قليلة لفساد فطرهم وسقم عقولهم، كما أن القلوب تقر بتوحيد الأسماء والصفات إجمالاً، وقد جعل الله تعالى إقرار الخلق بربوبيته لهم حجة عليهم في توحيد الإلهية، وهو الغاية المطلوبة من خلق العباد.

فطرة توحيد الربوبية والمنكرون لها

فطرة توحيد الربوبية والمنكرون لها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن موضوع أنواع التوحيد الثلاثة هو أول ما نطرقه، حيث إن الطحاوي رحمه الله بدأ رسالته بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. والتوحيد معناه في اللغة: الإفراد، فالله تعالى هو المتوحد بكمال الجلال والجمال، فهو الذي لا يشابهه غيره سبحانه وتعالى، والموحد هو الذي أفرد الله ووحده. والتوحيد عند أهل العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي الأقسام المعروفة بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأقسام الثلاثة دليلها الاستقراء والتتبع؛ فإن العلماء استقرءوا النصوص وتتبعوها، فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية والعبادة. ولابد في الإيمان من توحيد الله تعالى بهذه الأنواع الثلاثة كلها، فمن لم يوحد الله بهذه الأنواع الثلاثة فليس بمؤمن، فلابد لصحة الإيمان من توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في إلهيته وعبادته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، فمن وحد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وشهد أن محمداً رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، وصدق برسالته، والتزم وعمل بالشريعة، ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام؛ فهو المؤمن، وإن فعل شيئاً من المعاصي دون الشرك، ودون الناقض فلا يخرجه ذلك عن ملة الإسلام، لكنه إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب يكون ناقص الإيمان، ويكون فاسقاً، إلا إذا تاب، ومن تاب تاب الله عليه. فلابد للمؤمن من أن يعترف بوجود الله، وأن الله فوق العرش له ذات لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى، ولابد من أن يعترف بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأن الله هو الخالق وغيره مخلوق، وأن الله هو المالك وغيره مملوك، وأن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، ومن أفعاله: الخلق، والرزق، والإماتة والإحياء، وتدبير الأمور.

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وتوحيد الربوبية نوع فطري، فطر الله عليه جميع الخلق، فكلهم مقرون بهذا التوحيد، حتى الكفرة، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61]، وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، وقال سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. إذاً: فالمشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من كفار مكة كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، وكذلك سائر الأمم، فقوم نوح وقوم هود وقوم صالح كلهم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، ولكن توحيد الله في ربوبيته، والإقرار بهذا النوع من التوحيد لا يكفي في الإيمان، ولا يكفي في الدخول في الإسلام، فالمشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، ومع ذلك كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يوحدوا الله في عبادته وإلهيته، نعم توحيد الله في ربوبيته حق، وهو أحد أنواع التوحيد ولابد منه، لكنه لا يكفي وحده، إذ لابد من أن يضم إليه الإنسان توحيد الله في عبادته وإلهيته وأسمائه وصفاته.

الطوائف الشاذة في توحيد الربوبية

الطوائف الشاذة في توحيد الربوبية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن موضوع أنواع التوحيد الثلاثة هو أول ما نطرقه، حيث إن الطحاوي رحمه الله بدأ رسالته بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. والتوحيد معناه في اللغة: الإفراد، فالله تعالى هو المتوحد بكمال الجلال والجمال، فهو الذي لا يشابهه غيره سبحانه وتعالى، والموحد هو الذي أفرد الله ووحده. والتوحيد عند أهل العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي الأقسام المعروفة بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأقسام الثلاثة دليلها الاستقراء والتتبع؛ فإن العلماء استقرءوا النصوص وتتبعوها، فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية والعبادة. ولابد في الإيمان من توحيد الله تعالى بهذه الأنواع الثلاثة كلها، فمن لم يوحد الله بهذه الأنواع الثلاثة فليس بمؤمن، فلابد لصحة الإيمان من توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في إلهيته وعبادته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، فمن وحد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وشهد أن محمداً رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، وصدق برسالته، والتزم وعمل بالشريعة، ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام؛ فهو المؤمن، وإن فعل شيئاً من المعاصي دون الشرك، ودون الناقض فلا يخرجه ذلك عن ملة الإسلام، لكنه إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب يكون ناقص الإيمان، ويكون فاسقاً، إلا إذا تاب، ومن تاب تاب الله عليه. فلابد للمؤمن من أن يعترف بوجود الله، وأن الله فوق العرش له ذات لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى، ولابد من أن يعترف بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأن الله هو الخالق وغيره مخلوق، وأن الله هو المالك وغيره مملوك، وأن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، ومن أفعاله: الخلق، والرزق، والإماتة والإحياء، وتدبير الأمور.

الدهرية

الدهرية وهذا النوع من توحيد الربوبية -مع أنه فطري فطر الله عليه جميع الخلق، وأقر به جميع فرق المجموعة البشرية- أنكرته بعض الطوائف شذوذاً، فأنكروا وجود الله، والعياذ بالله، فهؤلاء شذوا، وفسدت فطرتهم، وعميت بصائرهم، وخرجوا عما أطبقت عليه جميع طوائف بني آدم من الإقرار بوجود الله والاعتراف به والإقرار بربوبيته، فهؤلاء -والعياذ بالله- انحدروا إلى هوة سحيقة في عمى البصيرة، وفساد الفطرة، حيث أنكروا وجود الرب العظيم. ومن هذه الطوائف التي شذت وأنكرت توحيد الربوبية: طائفة الدهرية، وهم الذين يزعمون أن العالم يسير بنفسه، وليس له مدبر، بل هو الذي يدبر نفسه بنفسه، وقالوا ما حكى الله عنهم في القرآن الكريم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فهؤلاء الدهريون أنكروا الرب سبحانه وتعالى، وقالوا: إن العالم هو الذي يسير نفسه، وليس له مدبر ولا مسير، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والشيوعيون دهرية في الجانب الفكري والاعتقادي، فهم يقولون: لا إله، والحياة مادة، فهذه هي عقيدة الشيوعية، أما عقيدة المسلمين فهي توحيد، فيقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فالمؤمنون يوحدون الله، والشيوعيون عقيدتهم أنه لا إله، والحياة مادة، فيعبدون المادة، وينفون الإله، ولا يثبتون لهذا الكون رباً ولا إلهاً ولا مدبراً، فهم دهرية في الجانب الفكري. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن الدهرية فرقتان: الفرقة الأولى من الدهرية يقولون: إن الله تعالى خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة، فدارت عليه وأحرقته، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، فبقيت بلا مدبر. والفرقة الثانية يقولون: إن هذا العلام ليس له أول البتة، وإنما يخرج ما كان بالقوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء من ذاتها لا من شيء آخر، ويقولون: لا يمكن أن يخلق المبدع شيئاً يضمحل ويفنى إلا وهو يضمحل ويفنى مع خلقه، وقالوا: إن هذا العالم هو الممسك بنفسه لهذه الأجزاء التي هي فيه، نسأل الله السلامة والعافية. وهؤلاء الدهرية فساد فطرتهم وعمى بصيرتهم ظاهر لكل أحد، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى رد عليهم في القرآن الكريم لما حكى مقالتهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فقال الله رداً عليهم: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]، أي أن هؤلاء ليس لهم على هذه المقالة دليل ناتج عن علم، وليس لهم دليل عقلي ولا سمعي، ليس لهم دليل من الشرع ولا من العقل ولا من الفطرة، ومن كان هذا شأنه فلا يلتفت إليه في ميزان العلم، وكل قول ليس عليه دليل من العقل ولا من الشرع ولا من الفطرة فهو قول فاسد، وعلى صاحبه أن يثبته، وإلا فإن كلامه هذيان وفساد، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]، يعني: ليس لهم دليل دلهم على هذه المقالة من الشرع ولا من العقل ولا من الفطرة ولا من الحس ولا من الواقع، فتبين أن هؤلاء القوم عميت بصائرهم، وخرجوا عن ضرورات العقلاء، وبنوا آدم جميعاً يثبتون وجود الله، ويثبتون الخالق ضرورة، من دون احتياج إلى نظر وتأمل، فالله تعالى فطر الخلق على الإقرار بوجود الله، والإقرار بربوبيته، وأنه الخالق المدبر المتصرف سبحانه وتعالى.

الطبيعيون

الطبيعيون الطائفة الثانية من الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية وأنكرت الرب العظيم: الطبيعيون، وهم الذين يقولون: إن العالم وجد نتيجة للطبيعة، والطبيعة يفسرونها بتفسيرين: التفسير الأول: أنها عبارة عن ذات الأشياء، فذات النبات خلقت النبات، وذات الأرض خلقت الأرض، وذات السماء خلقت السماء، وذات الإنسان خلقت الإنسان، وذات الحيوان خلقت الحيوان، هكذا يقولون، وهذا من أفسد ما يقال من الأقوال؛ لأن معنى ذلك أن الشيء أوجد نفسه، فتكون الأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء، والإنسان خلق الإنسان، وهذا باطل، فلا يمكن أن يخلق الشيء نفسه؛ لأن الشيء قبل وجوده عدم، والعدم لا يمكن أن يوجد شيئاً، فالأرض كانت قبل وجودها عدماً، فكيف يخلق العدم ويوجد، والإنسان عدم قبل أن يخلق، والعدم ليس بشيء، فكيف يوجد ويخلق، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]. فلا يمكن أن يُوجِد شيء معدوم نفسه إلا بموجد، بل لابد له من موجد خالق، وهو الرب سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الحي القيوم، القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، لا يلحقه نقص ولا عدم، بل هو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى. وأما المخلوقات فهي مخلوقة من العدم، والعدم لا يوجد نفسه، ولا يخلق ولا يوجد شيئاً، فالمعدوم لا يخلق نفسه ولابد له من خالق، ولهذا قال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. وقد ثبت في صحيح البخاري أن جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم المدينة في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، حيث وضعت الحرب أوزارها فاختلط المشركون بالمسلمين، وهذا من الحكم العظيمة في صلح الحديبية، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل الشروط -وإن كان فيها غضاضة على المسلمين- لأن فيها مصالح عظيمة، حيث تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للكتابة للرؤساء والعشائر، واختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا القرآن، وأسلم جمع غفير منهم، وفي ذلك الزمن قدم جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل أن يسلم إلى المدينة من مكة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الطور، وسمع هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] قال: فكاد قلبي أن يطير. فدبت الحياة فيه قبل أن يسلم، ثم بعد ذلك أسلم رضي الله عنه. وأما تفسير الطبعيين الثاني للطبيعة فهو أنها عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها، فيقولون: هي صفات الأشياء وخصائصها من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والملاسة والخشونة، وكذلك المتقابلات من حركة وسكون، وتزاوج وتوالد، ونمو واغتذاء، فهذه الصفات وهذه المتقابلات هي الطبيعة عندهم، وهي التي أوجدت الأشياء، وهذا التفسير أفسد من التفسير الذي قبله؛ لأنه إذا عجزت ذات الأشياء عن إيجاد نفسها فعجز صفاتها من باب أولى، فإذا كانت الذات لا توجد ولا تخلق، فكيف تكون الصفة موجدة خالقة؟! بل إذا عجزت ذات الأشياء فعجز صفاتها من باب أولى، وهل الصفة تخلق الموصوف؟! فإذا كان الموصوف نفسه لا يستطيع أن يوجد نفسه، فكيف توجد الصفة نفسها؟! ولأن الصفة تابعة للموصوف، والطبيعة حالة محضة لا شعور لها، فكيف توجد؟! وكيف تصدر عنها هذه الأفعال العظيمة، وهذه الأفلاك المنظمة المرتبة التي على أحسن نظام وأبدعه؟! إن ذلك لا يمكن، ثم إن هذا التفاوت العظيم بين المخلوقات لابد من أن يحصل عن حكمة، فلو كانت الطبيعة هي الخالقة لكان الخلق متساوين غير متفاوتين! والمقصود أن هذا من أخبث ما يقال.

القائلون بالصدفة

القائلون بالصدفة الطائفة الثالثة من الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية وأنكرت الرب العظيم هم الذين يقولون: إن العالم وجد نتيجة للصدفة، بمعنى أن تجمع الذرات والجزئيات أدى إلى ظهور الحياة فجأة من غير تدبير ولا خالق، فقالوا: إن الذرات والجمعيات تجمعت، فلما تجمعت أدى هذا التجمع إلى ظهور الحياة فجأة وصدفة! وهذا كلام لا يقوله عاقل، فهؤلاء صاروا يتكلمون بمثل كلام المجانين، ولا يمكن أن يقبل هذا الكلام عاقل؛ فإن من نظر إلى هذا الكون العظيم علويه وسفليه المنظم المرتب البديع، فسيقول هذه السماوات العظيمة من الذي أقامها؟! وهذه الأرض من الذي بسطها؟! وكذلك هذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار. وهذه الشمس كل يوم تخرج من المشرق وتغرب في المغرب ولا يختل نظامها، وهذا القمر يبدو صغيراً ضعيفاً في أول الشهر في المغرب، ثم يكبر حتى يتم منتصف الشهر، ثم يضعف إلى آخر الشهر ولا يتغيب. وكذلك خلق الإنسان، فانظر إلى خلقك حينما كنت نطفة في بطن أمك، ثم خلق لك السمع والبصر والعقل، ثم خرجت إلى الدنيا، فهل يمكن أن يوجد هذا نتيجة للصدفة؟! تعالى الله، لكن هؤلاء الملاحدة ألغوا عقولهم، وصاروا كالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية. وما مقالتهم هذه إلا كمقالة من يقول: إن هناك انفجاراً انفجر في المطبعة، فتطايرت الحروف والأرقام، ولما تطايرت الحروف والأرقام جاءت الباء وصارت بجوار السين، والسين بجوار الميم، والميم بجوار الألف، وكذلك اللام والهاء والألف والراء والحاء والميم والنون، والألف والراء والحاء والياء والميم، فتكونت (بسم الله الرحمن الرحيم)، فجأة! ثم تطايرت الحروف وكونت: (الحمد لله رب العالمين)، وهكذا حتى تم الكتاب في مجلدات صدفة، فهل يقول هذا عاقل؟! لا يقول هذا عاقل، وإذا كان هذا لا يمكن في تكون الكتاب؛ فكيف يتكون هذا العالم علويه وسفليه، المنظم المرتب البديع، الذي يحوي فصول السنة التي لا تختلف ولا تتغير، فشتاء وربيع وخريف وصيف على مر السنين والأعوام، كيفيتكون ذلك من غير مدبر؟!

الفرعونية

الفرعونية الطائفة الرابعة: الفرعونية، وعلى رأسهم فرعون، ففرعون أنكر الرب العظيم، وإن كان مستيقناً به في الباطن، لكنه كذب موسى وزعم أنه ليس لهذا العالم رب، وقال: وما رب العالمين؟ وهو تجاهل العارف، ولهذا كان أشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الخالق هو فرعون، وسار على طريقته الفرعونية الاتحادية الذين يقولون: إن الوجود واحد. فمذهبهم مذهب فرعون، وسيأتي أنهم يقولون: الوجود واحد متحد، فليس هناك رب ولا عبد، فالرب هو العبد والعبد هو الرب، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، فأنت الخالق وأنت المخلوق، وأنت الرب وأنت العبد، ورئيسهم وزعيمهم ابن عربي الطائي. فهؤلاء ينكرون وجود الله في الظاهر وإن كانوا مستيقنين بوجوده في الباطن، وسيأتي أن ابن عربي يقول: ليس هناك فرق بين الرب والعبد، ويقول: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف ويقول: (رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك). فهؤلاء الملاحدة على طريقة فرعون، لا يثبتون وجوداً لله. وهذه الطوائف الأربع شذت عن المجموعة البشرية وأنكروا وجود الرب الكريم، وأنكروا ربوبيته.

مناظرة مع منكري الربوبية

مناظرة مع منكري الربوبية يحكى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه قوم يريدون أن يناظروه في إثبات وجود الله، فلما جاءوا وجلسوا عنده قالوا: نريد أن نناظرك في إثبات وجود إله لهذا الكون، فقال لهم: قبل المناظرة أريد أن أخبركم عن قصة قيلت، قالوا: ما هي؟ قال: يحكى أن سفينة في نهر دجلة ليس لها قائد، جاءت وحدها ورست على الساحل، ثم حملت بنفسها جميع البضائع حتى امتلأت، ثم ذهبت بنفسها وصارت تمخر عباب الماء، حتى وصلت إلى الشاطئ الثاني، ثم رست أياماً وليالي، فلما وصلت إلى الساحل الثاني أفرغت حمولتها بنفسها، ثم رجعت، وهكذا تمشي في البحر ليس لها قائد ولا ملاح. فقالوا: هذا مستحيل لا يمكن، ولا يصدق بهذا عاقل! سفينة ليس لها ملاح ترسي على الساحل وحدها، وتحمل البضائع وحدها، ثم تذهب وتفرغ حمولتها بنفسها وترجع، وليس لها ملاح ولا قائد! هذا لا يمكن، بل مستحيل. قال: فإذا كان يستحيل أن تكون سفينة واحدة تمشي بدون مدبر، فكيف يمشي هذا الكون بدون مدبر؟! وكيف يوجد هذا الكون بدون مدبر؟! وهذا العالم علويه وسفليه هل يمكن أن يوجد بدون مدبر؟! أين عقولكم؟! فهذه السماوات، وهذه الأفلاك، وهذه النجوم، وهذه المجرات، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه الأرض، وهذا النبات، وهذه الأشجار، وهذه الحيوانات، وهذه الحيتان، وهذه الطيور، هل يمكن أن توجد بدون مدبر؟! إذا كنتم تقولون: يستحيل أن تدبر سفينة نفسها، فكيف يجوز أن يدبر العالم نفسه بنفسه؟! فانقطعوا وبهتوا وانتهت المسألة من أساسها. فتوحيد الربوبية توحد فطري، فقد فطر الله جميع الخلق على الإقرار بوجود الله والإقرار بربوبيته.

المشركون في الربوبية

المشركون في الربوبية يحكى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه جاء إليه قوم يريدون أن يناظروه في إثبات وجود الله، فلما جاءوا وجلسوا عنده قالوا: نريد أن نناظرك في إثبات وجود إله لهذا الكون، فقال لهم: قبل المناظرة أريد أن أخبركم عن قصة قيلت، قالوا: ما هي؟ قال: يحكى أن سفينة في نهر دجلة ليس لها قائد، جاءت وحدها ورست على الساحل، ثم حملت بنفسها جميع البضائع حتى امتلأت، ثم ذهبت بنفسها وصارت تمخر عباب الماء، حتى وصلت إلى الشاطئ الثاني، ثم رست أياماً وليالي، فلما وصلت إلى الساحل الثاني أفرغت حمولتها بنفسها، ثم رجعت، وهكذا تمشي في البحر ليس لها قائد ولا ملاح. فقالوا: هذا مستحيل لا يمكن، ولا يصدق بهذا عاقل! سفينة ليس لها ملاح ترسي على الساحل وحدها، وتحمل البضائع وحدها، ثم تذهب وتفرغ حمولتها بنفسها وترجع، وليس لها ملاح ولا قائد! هذا لا يمكن، بل مستحيل. قال: فإذا كان يستحيل أن تكون سفينة واحدة تمشي بدون مدبر، فكيف يمشي هذا الكون بدون مدبر؟! وكيف يوجد هذا الكون بدون مدبر؟! وهذا العالم علويه وسفليه هل يمكن أن يوجد بدون مدبر؟! أين عقولكم؟! فهذه السماوات، وهذه الأفلاك، وهذه النجوم، وهذه المجرات، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه الأرض، وهذا النبات، وهذه الأشجار، وهذه الحيوانات، وهذه الحيتان، وهذه الطيور، هل يمكن أن توجد بدون مدبر؟! إذا كنتم تقولون: يستحيل أن تدبر سفينة نفسها، فكيف يجوز أن يدبر العالم نفسه بنفسه؟! فانقطعوا وبهتوا وانتهت المسألة من أساسها. فتوحيد الربوبية توحد فطري، فقد فطر الله جميع الخلق على الإقرار بوجود الله والإقرار بربوبيته.

مانوية المجوس

مانوية المجوس وهناك بعض الطوائف ما أنكروا ولا جحدوا الرب، ولكن أشركوا معه في الربوبية، قالوا: إن المدبر اثنان فأكثر، فأشركوا في الربوبية. ومن هذه الطوائف الذين أشركوا في الربوبية: المانوية من المجوس، وهم الذين يقولون: إن العالم له مدبران وله خالقان، وهما: النور والظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، فأشركوا في الربوبية، وما قالوا: العالم ليس له مدبر كالسابقين، بل قالوا: المدبر أكثر من واحد. وهم طائفة ينتسبون إلى ماني بن حكيم، أو حكيم الماني، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، وقالوا: إن العالم له مدبران: النور والظلمة، وله خالقان، فالنور إله الخير وخالق الخير، والظلمة خالق الشر.

مثلثة النصارى

مثلثة النصارى الطائفة الثانية: المثلثة من النصارى الذين يقولون بالتثليث، ويقولون: إن الآلهة ثلاثة، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، تعالى الله عما يقولون. فهم يقولون: الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، وقد كفرهم الله سبحانه وتعالى، وعرض عليهم التوبة، فالتوبة معروضة على جميع العصاة، حتى المثلثة من النصارى الذين هم من أكفر الناس، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:73 - 75]، فالمسيح عبد رسول، لا يخرج عن العبودية، وأمه صديقة، لا تخرج عن الصديقية. وهذا فيه دليل على أن مريم ليست نبية، خلافاً لـ ابن حزم، وكذلك أم موسى، والصواب أن النساء ليس فيهن نبية، وإنما النبوة خاصة بالرجال، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، فالنبوة خاصة بالرجال، وقد غلط ابن حزم وجماعة فقالوا: إن أم موسى نبية، مستدلين بقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]. وكذلك سارة امرأة إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها نبية؛ لأن الله قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فكلمتها الملائكة. وكذلك مريم قالوا عنها: إنها نبية، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى أثنى عليها، وفي مقام الثناء أخبر أنها وصلت إلى درجة الصديقية، فهي صديقة، أي: نهايتها أنها صديقة، ولم تصل إلى درجة النبوة، حيث قال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75]، ثم قال: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] يعني أن عيسى وأمه يحتاجان إلى الطعام، فكيف يكونان إلهين؟! والإله كامل بنفسه لا يحتاج إلى شيء، والذي يحتاج إلى الطعام لا يكون إلهاً. فمن يأكل الطعام ليس بإله، وعيسى احتاج إلى الطعام، فهو ناقص، وإذا لم يأكل الطعام مات وهلك، فهل هذا يكون إلهاً؟! فلهذا بين الله ذلك وقال: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75].

مشركو الأصنام والكواكب

مشركو الأصنام والكواكب الطائفة الثالثة: بعض المشركين الذين يزعمون أن في آلهتهم شيئاً من النفع والضر، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، فبعض المشركين يزعمون أن روح الميت تخرج، وأنها تجيب من دعاها، وتحمي من لاذ بحماها، وتضر وتنفع، وهذا شرك في الربوبية. وكذلك طائفة أخرى يزعمون أن الكواكب لها تأثير في الكون، فهذا شرك في الربوبية، نعم إن الكواكب لها تأثير، ولكنها ليست مؤثرة في كل شيء.

القدرية

القدرية الطائفة الخامسة: القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعل نفسه استقلالاً من دون الله، فيقولون: الإنسان هو الذي يخلق المعصية والطاعة، وهو الذي يخلق الخير والشر، حتى يستحق الثواب على الطاعات، ويستحق العقاب على المعصية، بسبب الشبهة التي حصلت لهم، فهم يقولون: لو قلنا: إن الله يخلق المعاصي ويعاقب عليها لصار ظالماً، ففروا من ذلك فقالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، حتى يكون مستحقاً للعقاب وللثواب.

ماهية الإشراك عند المشركين في الربوبية

ماهية الإشراك عند المشركين في الربوبية وهؤلاء الذين أشركوا في الربوبية لم يقولوا بتساوي هؤلاء الأرباب، فلم يقل أحد: إن هناك في العالم خالقين أو ثلاثة متساوين في الصفات والأفعال، بل هؤلاء الذين أشركوا في الربوبية يفضلون بعض هذه الأرباب على بعض، فالمانوية من المجوس لا يقولون بتساوي النور والظلمة، بل يقولون: إن النور هو الإله المحمود، وهو الإله القديم، وأما الظلمة فشريرة مذمومة، وهم متنازعون في قدمها، ففضلوا النور على الظلمة. وكذلك المثلثة من النصارى لا يقولون: إن للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متناقضون في التثليث، فهم يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وتارة يقولون: الأب عين الابن وعين روح القدس، والابن عين الأب وعين روح القدس، وهم متفقون على أن الأب هو الإله الأكبر، وأنه خالق السماوات والأرض، ولا يقولون بثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض. وهذه الأرباب متناقضون فيها، تارة يفسرونها بالصفات، وتارة يفسرونها بالخواص، وهم يقولون: هو إله واحد وثلاثة أقانيم، وهذا من تناقضهم، وكثير منهم لا يعرفون ولا يفهمون التثليث، بسبب تناقضهم وغموض مفهوم التثليث عند هؤلاء النصارى. فالمقصود أنهم لا يقولون: إن للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل يقولون: الأب هو الإله الأكبر، وهو الأول، وهو خالق السماوات والأرض. وكذلك المشركون الذين يزعمون أن في آلهتهم شيئاً من النفع والضر لا يقولون: إن آلهتهم تساوي الله، لا، بل يقولون: إن الله هو الخالق، ولكن آلهتهم لها شيء من النفع والضر. وكذلك الصابئة الذين يقولون: إن بعض الكواكب لها تصرف في هذا الكون. وكذلك القدرية لا يقولون: إن الإنسان مساو لله، بل يقولون: الله هو الخالق، لكن أفعال العباد خلقها العباد.

شبهة القدرية في خلق أفعال العباد

شبهة القدرية في خلق أفعال العباد الشبهة التي حصلت للقدرية هي أنهم قالوا: لو قلنا: إن الله هو الذي يخلق فعل العبد لكان ذلك وصفاً لله بالظلم، بحيث إن الله خلق المعصية وعذب عليها، فصار ظالماً، وهذه شبهة فاسدة، لأن الله تعالى هو الخالق، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فلا يكون في هذا الكون شيء إلا ما أوجده الله وخلقه. والذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فالله تعالى له حكم وأسرار في الخلق، والذي ينسب إلى العبد هو المباشرة والفعل والتسبب، فالفعل من المعصية والكفر خلقه الله لحكم وأسرار، فهو شر بالنسبة إلى العبد؛ لأن العبد هو الذي كسبه وباشره، فعذب عليه، لكن الله خلقه لحكم، فالذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً بالنسبة إلى الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك) يعني: الشر البحت الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره ليس إليك يا الله، ولا يوجد في الكون شر محض، بل جميع الشرور الموجودة في الكون شرور نسبية، فالعبد إذا فعل المعصية والكفر كان فعله شراً بالنسبة إليه؛ لأنه فعلها وباشرها وعذب عليها، لكن الله خلقها، والذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً. فمن الحكم والأسرار في خلق الكفر والمعاصي: ظهور العبادات المتنوعة، كعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان الناس كلهم مؤمنين فأين ستظهر عبودية الجهاد في سبيل الله؟! وأين ستظهر عبودية الولاء والبراء؟! وأين ستظهر عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين ستظهر عبودية الدعوة إلى الله؟! وأين ستظهر عبودية الصبر؟! وأين ستظهر عبودية التوبة؟! وقد يتوب الله على هذا العبد فتكون حاله أحسن من حاله قبل المعصية. فالله تعالى خلق الكفر والمعاصي لحكم وأسرار، فلا تكون شراً بالنسبة إليه، لكنها تكون شراً بالنسبة إلى العبد. أرأيت -ولله المثل الأعلى- المطر الغزير الذي ينفع الله به البلاد والعباد، ويحيي الله به الأرض بعد موتها، فالله تعالى جعل فيه الحياة لجميع الناس والأنعام والأرض، فنفعه عام، ولا أحد ينكر هذا، لكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فقد تتهدم بعض المنازل، وقد يموت منه بعض الناس أو يغرق، فهل نقول: إن هذا المطر شر أم خير؟ نقول: هو خير، لكنه شر بالنسبة إلى الذين تهدمت منازلهم، فهو شر بالنسبة إليهم فقط، أما المطر فهو خير نفع الله به البلاد والعباد. وكذلك المعاصي والكفر، خلقها الله لما فيها من الحكم، وليست شراً بالنسبة إلى الله؛ لأن خلقها مبني على الحكمة، ولكنها شر بالنسبة إلى العبد؛ لأنه هو الذي كسبها وفعلها وباشرها، فصارت وبالاً عليه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، ولا يوجد في الدنيا شر محض، فجميع الشرور الموجودة شرور نسبية؛ لأن الشر المحض هو الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره، وهذا لا يجوز على الله تعالى.

بيان القرآن الكريم لبطلان شرك الربوبية

بيان القرآن الكريم لبطلان شرك الربوبية ولما كان هذا الشرك موجوداً في بعض الطوائف من بني آدم بين الله سبحانه وتعالى بطلانه في القرآن الكريم في قوله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] فالله تعالى ليس معه إله، فلو كان مع الله إله يشركه لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ يكون هذا الخالق الثاني لا يرضى بتلك الشركة، بل يحاول أن يقهر شريكه وأن يغلبه، فإن قهره وغلبه استولى عليه وانتهى الأمر، وإن لم يقدر انحاز بملكه وسلطانه، كما يحصل من ملوك الدنيا، فكل واحد ينحاز بمملكته، فلو كان مع الله خالق -تعالى الله، وهذا على الفرض والتقدير- فلابد من واحد من ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن يعلو أحد الخالقين على الآخر، ويستولي ويغلب عليه. الأمر الثاني: أن يعجز أحدهما عن العلو على الآخر, فينحاز كل منهما بمملكته عن الآخر. الأمر الثالث: أن يكون هذان الخالقان تحت إله آخر فوقهم، يجبرهما ويصرفهما ويقهرهما، وليس لهما من الأمر شيء، وهذا الأمر الثالث هو الواقع، فالله سبحانه هو الخالق وليس فوقه أحد، فهو سبحانه وتعالى الخالق والمدبر، يدبر الأمر ويقهرهم، ويتصرف فيهم، وتنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ولا يخرجون عن ذلك، ولهذا قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] أي: إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولا نحاز بملكه وسلطانه، ولعلا بعضهم على بعض عند القدرة، (سُبْحَانَ اللَّهِ) تنزيه لله (عَمَّا يَصِفُونَ). فهذا ما يتعلق بتوحيد الربوبية. وعرفنا أن توحيد الربوبية توحيد فطري أقر به جميع طوائف بني آدم، إلا من شذ فأنكر الرب، وهو لابد منه في توحيد الله والإيمان به، فمن لم يوحد الله في ربوبيته فليس بمؤمن، ولا يكفي ذلك في الإيمان حتى يضم إليه الإنسان توحيد العبادة والإلهية.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات توحيد الأسماء والصفات هو إثبات أسماء الله وصفاته، والإيمان بأسماء الله وصفاته، والإقرار والاعتراف بها، وإثباتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلال الله وعظمته. وتوحيد الله في الأسماء والصفات يحصل بأن تثبت لله الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، على ما يليق بجلال الله وعظمته. والأسماء والصفات توقيفية، فلا نثبت من الأسماء والصفات إلا ما ورد في الكتاب والسنة. وهذا النوع من التوحيد أيضاً فطري، فقد فطر الله عليه جميع الخلق، ولم ينكره طائفة معروفة من بني آدم، حتى إن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، لكن قد ينكرون بعض الأسماء لله، إما عناداً وتعنتاً وإما جهلاً، وهذا شيء قليل، كما ثبت أن كفار قريش أنكروا اسم الرحمن، فنزل قول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، ولما كان في صلح الحديبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يكتب الصلح، فقال: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال كفار قريش: لا تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، اكتب: باسمك اللهم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الظاهر أن إنكارهم من باب التعنت والعناد، وإلا فإنه يوجد في أشعارهم إثبات الرحمن، قال الشاعر الجاهلي: (وما يشأ الرحمن يعقد ويخلق)، لكن فعلهم هذا من باب العناد والتعنت، فقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة. ولما قال: اكتب: (من محمد رسول الله)، قالوا: اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فلو كنا نعرف أنك رسول الله ما قاتلناك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الشروط وإن كان فيها غضاضة لما يرتب عليها من المصالح، وكان هذا بأمر الله عز وجل. فكفار قريش قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة؛ لأن مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة كان يدعى بالرحمن قبحه الله، والرحمن من خصائص الله، فلا يسمى به غيره، فلما تسمى مسيلمة بالرحمن لزمه وصف الكذب، وصار عليه عاراً إلى يوم القيامة، فلا يذكر مسيلمة إلا ويوصف بالكذاب، فيقال: مسيلمة الكذاب، حيث تسمى باسم من أسماء الله المتصف به. وممن ادعى النبوة غير مسيلمة وما لزمهم وصف الكذب: طليحة الأسدي والأسود العنسي في اليمن، فلم يقل: الأسود العنسي الكذاب، ولا: طليحة الأسدي الكذاب، وإنما يقال: مسيلمة الكذاب، فلزمه وصف الكذب والعار؛ لأنه تسمى باسم الرحمن الذي هو من خصائص الله سبحانه وتعالى. والمقصود أن الكفار يقرون بجنس هذا النوع، فإذا وجد منهم إنكار فهو قليل، إما جهلاً وإما عناداً وتعنتاً.

عقيدة الجهمية المعطلة في الأسماء والصفات

عقيدة الجهمية المعطلة في الأسماء والصفات توحيد الأسماء والصفات يثبت العبد فيه لله الأسماء والصفات، فيثبت لله أنه سميع بصير عليم قدير عليم، وكذلك سائر أسمائه وصفاته، والأسماء ليست أعلاماً محضة، بل هي أسماء دالة على الصفات، فالرحمن دال على الرحمة، والعليم دال على العلم، والحكيم دال على الحكمة. ونثبت لله الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله وعظمته، من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل، وهذا هو مذهب أهل الحق، فيثبتون الأسماء والصفات لله إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن النقائص والعيوب تنزيهاً بلا تعطيل. وجاءت المعطلة بعد السلف الصالح وابتدعوا في باب الأسماء والصفات بدعاً عظيمة، وعطلوا الرب سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، وأول من تكلم في نفي الصفات -وهو المؤسس لعقيدة التعطيل ونفي الصفات- هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية للهجرة، وقتله خالد بن عبد الله القسري، وتقلد عقيدته الجهم بن صفوان، وتوسع فيها ونشرها، فنسب المذهب إليه فقيل: مذهب الجهمية، فأدخلوا في مسمى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، فنفوا الصفات والأسماء عن لله وما أثبتوا شيئاً منها، فنفوا السمع والبصر والعلم والقدرة، ونفوا اسم السميع والبصير والعليم، وقالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوق، فالمخلوق سميع، فإذا كان الخالق سميعاً حصل التشابه، والمخلوق له علم، فإذا قلنا: الخالق له علم حصل التشابه، فنفوا الأسماء والصفات، وقالوا: إن دليلنا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وعموا عن آخر الآية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهم استدلوا ببعض الآية وتركوا بعضها، فالتوحيد عندهم أصل أدخلوا فيه نفي الصفات، وقالوا: إن التوحيد معناه أن تنفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل. وقالوا أيضاً: لو أثبتنا أسماء وصفات لله لكانت هذه الأسماء والصفات قديمة، والله قديم، ويلزم من ذلك تعدد القدماء، والقديم واحد هو الله، والمخلوق حادث، فإذا قلنا: إن الله له سمع وبصر وعلم وقدرة كانت هذه الصفات قديمة مع الله، وصارت متعددة مع الله، فيصير القديم متعدداً، مع أن القديم واحد وهو الله، فنفوا عن الله جميع الأسماء والصفات، وهذا هو مسمى التوحيد عندهم، وهذا -والعياذ بالله- يؤدي إلى إنكار وجود الله، ذلك أن إثبات شيء بدون اسم ولا صفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، حتى إن غلاتهم نفوا كل شيء عن الله، فقالوا: إن الله ليس مستوٍ على العرش، وليس له سمع ولا بصر ولا عين ولا قدرة، وليس فوق العالم ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، فماذا يكون؟ يكون ممتنعاً أشد من المعدوم والعياذ بالله، ولو وصفوا المعدوم بأكثر من هذا لما استطاعوا، نسأل الله السلامة والعافية. نقول لهؤلاء الجهمية: إن إثبات ذات بدون اسم وصفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، والذهن قد يتخيل المحال، فلو قلت: هذه المنضدة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست فوق ولا تحت، وليس لها لون، فهل تكون موجودة أم غير موجودة؟! تكون معدومة لا وجود لها، فكل شيء ليس له اسم ولا صفة، ولا وجود له في الخارج، إنما يكون وجوده في الذهن؛ لأن الذهن يفرض المحال ويتخيله، فأنت الآن يمكن أن تخرج بذهنك وتطوف المشارق والمغارب وأنت موجود هنا، أليس كذلك؟! فتفرض أن هناك بحراً بين السماء والأرض، وأن في وسط البحر سفناً، وفي وسط السفن قصوراً، وهكذا، فهل هذا له وجود أم هو خيال؟ إنه خيال لا وجود له. وكذلك هؤلاء الجهمية يفرضون أن هناك خالقاً ليس له اسم ولا صفة في أذهانهم، فنقش الشيطان في أذهانهم أن هناك خالقاً ليس له وجود في الذهن، ولهذا كفر العلماء الجهمية، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية أنه كفرهم خمسمائة عالم، فقال: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني فهؤلاء -والعياذ بالله- ابتدعوا في الأسماء والصفات، وزعموا أن التوحيد هو نفي الأسماء والصفات. وكذلك المعتزلة تقدلوا عقيدة نفي الصفات، وقالوا: إن نفي الصفات من أصولهم، وهم الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وزعموا أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، وخلدوه في النار، وقالوا: إن التوحيد هو نفي الصفات، وقالوا: عندنا أصول خمسة: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقالوا: التوحيد يندرج تحته القول بنفي الصفات، فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عند المعتزلة ولا عند الجهمية، ويكون مجسماً مشبهاً. حتى إنهم كفروا أهل السنة والجماعة الذين يثبتون العلو، وقالوا: من قال: إن الله فوق العرش فقد تنقص الله، أي: جعل الله مخلوقاً وجعله جسماً، وجعله متحيزاً، فيكفر بهذا. إذاً: ما التوحيد؟ قالوا: التوحيد ألا تثبت أن الله فوق العرش، وليس له مكان، فأين هو؟ قال بعضهم: إنه داخل العالم، وقال بعضهم: لا داخل العالم ولا خارجه، واستوى على العرش بمعنى: استولى عليه بالقدرة. فالمعتزلة قالوا: التوحيد معناه نفي الصفات، والعدل: إنكار القدر والتكذيب به، والمنزلة بين المنزلتين: أن المؤمن إذا فعل المعصية الكبيرة خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فكان في منزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد: هو أن مرتكب الكبيرة يجب أن ينفذ فيه الوعيد ويخلد في النار، ولا يخرج منها كالكافر. والأمر بالمعروف ذكروه تحت إلزام الناس بمذهبهم الباطل واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ذكروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، فقالوا: إذا عصى ولي الأمر جاز الخروج عليه، وهذا من أبطل الباطل، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمر بالمعاصي، ولو جاروا وظلموا. ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور ولو فسق ولي الأمر وعصى؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يترتب عليه مفاسد، من إراقة الدماء، واختلال الأمن، والتطاعن والتناحر، وتربص الأعداء بهم الدوائر، بخلاف الصبر على جور الولاة وظلمهم، فهو مفسدة قليلة يصبر عليها المسلمون في كل مكان وزمان، فعليهم أن يصبروا على ما حصل من ولاة الأمور، وليس لأحد أن يخرج على ولي الأمر بالمعصية، ومن خرج على ولي الأمر بالمعصية فقد سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والرافضة والمعتزلة، وهذه طريقة أهل البدع وطريقة أهل الزيغ، أما أهل السنة والجماعة فمن عقائدهم عدم الخروج، كما سيأتي في الطحاوية: (ولا نرى الخروج على أئمتنا، ولا نرى نزع يد من طاعة، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة)، هكذا معتقد أهل السنة والجماعة، لا يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور، كما دلت النصوص الكثيرة على هذا، كحديث مالك بن عوف الأشجعي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم- وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف، قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة). وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)، وفي حديث أبي ذر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف). ولكن هذه الطاعة مقيدة بطاعة الله عز وجل، فمن أمر منهم بالمعصية فإنه لا يطاع، لكن لا يجوز الخروج عليه، ولهذا جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فمن أمر بالمعصية لا يطاع، لكن ليس معنى هذا أنه يخرج على ولاة الأمر، فلو أمرك ولي الأمر أن تشرب الخمر فلا تطعه، لكن لا تخرج عليه، ولو أمرك بأن تقتل إنساناً بغير حق فلا تطعه، كالأب إذا أمر ابنه بمعصية فإنه لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية لا تطعه. وفي حديث حذيفة الطويل قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فالمعتزلة أصل من أصولهم الخروج على ولاة الأمور إذا جاروا وظلموا، كما أن الرافضة كذلك يرون الخروج على ولاة الأمور، ولا يرون الطاعة إلا للإمام المعصوم، وهو من الأئمة الاثني عشرية الذين من نسل الحسين بن علي، فهم اثنا عشر إماماً نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم لا طاعة له، وكذلك الخوارج يكفرون بالمعاصي. أما أهل الحق أهل السنة والجماعة فيرون السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي، وفي الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) يعني أنه واضح لا لبس فيه. وبهذا يتبين أن معتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور ولا بالظلم، إلا إذا وجد كفر صريح لا شبهة فيه، مع القدرة والاستطاعة. ولهذا حصلت مفاسد كثيرة على مر التاريخ من الخروج على ولاة الأمور، والإسلام يراعي المصالح والمفاسد، فالمفاسد التي تترتب على الخروج على ولاة الأمور مفاسد عظيمة لا حصر لها، كإراقة الدماء، وتفرق الناس، واختلاف الكلمة، وتربص الأعداء بهم الدوائر، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، واختلال الحياة الاقتصادية والاجتماعية، واختلال التعليم، وغير ذلك من الشرور والفتن، كما نرى في الثورات التي تحصل في أمكنة كثيرة، فيحصل بسببها شرور وفتن. فالواجب على المسلمين أن يعملوا بإسلامهم، وأن يلزموا طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يطعيوا ولاة أمورهم في طاعة الله عز وجل، وأن لا ينزعوا يداً من طاعة، هكذا يعتقد أهل السنة والجماعة. وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محم

الأسئلة

الأسئلة

أثر التأويل في المسائل العقدية في الحكم على الفرق

أثر التأويل في المسائل العقدية في الحكم على الفرق Q من أشرك في الألوهية كفر، ولم يعتبر بتأويله مهما كان، فكيف اعتبرنا التأويل أو الشبهة في توحيد الربوبية فلم نكفر القدرية، وما هو ضابط المسائل العقدية المحتملة للتأويل؟ A القدرية شركهم في الربوبية شرك خفي، وليس شركاً عاماً، فهو شرك فيه تأويل، حيث حصلت لهم الشبهة، وهو زعمهم أن المعاصي إذا خلقها الله لا يستقيم أن يعذب عليها، والمعروف عند العلماء أن القدرية مبتدعة. والقدرية طائفتان: الطائفة الأولى: القدرية الأولى، وهم الغلاة الذين أنكروا علم الله وكتابته، فهؤلاء كفار؛ لأن مراتب القدر أربع: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، والإرادة والمشيئة، والخلق. فالقدرية الأولى الذين أنكروا المرتبتين الأوليين -العلم والكتابة- كفار؛ لأن من أنكر العلم فقد نسب الله إلى الجهل، وهذا كافر بالإجماع، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا. أما القدرية المتأخرون فيقرون بعلم الله، وأن الله كتب الأشياء، وأن الله أراد الأشياء، وأن الله خلق الأشياء كلها، لكن بالنسبة لأفعال العباد خاصة حصلت لهم الشبهة بتأويل، ولو كان معتقدهم إنكاراً من دون تأويل لكان كفراً، لكنه عن تأويل بسبب الشبهة التي عرضت لهم، بخلاف الأمور الواضحة، مثل شرك العبادة، كعبادة القبور، والنذر لغير الله، والذبح لغير الله، ودعاء غير الله، فهذه أمور واضحة لا لبس فيها ولا إشكال. ومما يبين أن الشيء إذا كان خفياً قد يعذر صاحبه ما ثبت في الصحيحين في مواضع متعددة من قصة الرجل الذي كان من بني إسرائيل، فقال لبنيه: (إني أسرفت على نفسي، وإني أخاف أن يعذبني الله عذاباً شديداً، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الهواء، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً، ففعل به بنوه لما مات ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه فإذا هو قائم، فسأله الله عن ذلك، فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: يا رب! مخافتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فغفر الله له). فهذا الرجل ما أنكر قدرة الله، وما أنكر البعث، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا أحرق وذري لا يقدر الله عليه، وهو يعلم أنه لو لم يفعل به ذلك فإنه سيبعث، يقول: إذا ما أحرقتوني بعثني الله، لكن أحرقوني وذروني فلا يقدر الله على بعثي، والذي حمله على ذلك أمران: الجهل وخوف العذاب؛ لأن هذا الأمر خفي بالنسبة إليه، فلما كان الذي حمله عليه الجهل والخوف العظيم من الله غفر الله له. فالشيء الخفي قد يعذر صاحبه، بخلاف الشيء الواضح، فلو أنكر أحد البعث كفر، أو أنكر قدرة الله كفر، وهذا مؤمن بالله ومؤمن بقدرة الله، وظن أنه إذا أحرق وذري في البر والبحر لا يقدر الله عليه، فكذلك القدرية حصلت لهم هذه الشبهة.

حكم إنكار بعض صفات الله جهلا

حكم إنكار بعض صفات الله جهلاً Q ما حكم من ينكر صفة من صفات الله جهلاً، مع ظنه أن ما ذهب إليه هو الصحيح؟ A العلماء يفرقون بين من أنكر جحوداً وبين من أنكر جهلاً أو تأويلاً، فإذا كان جاهلاً حقيقة فهو معذور في هذه الحالة، ويُعلَّم ويبين له، أما إذا كان متأولاً فلا يكفر، مثل الذين تأولوا الصفات، فقالوا: استوى معناه: (استولى)، ونحن نثبت أن الله استوى، لكن من أنكر الاستواء وقال: إن الله لم يستو كفر، لأنه يكذب القرآن، وأما هؤلاء فيقولون: إن الله استوى على العرش، لكن معنى (استوى) (استولى)، فهؤلاء متأولون، فكذلك الذي أنكر عن جهل وهو لا يعلم، وقد يخفى عليه ذلك، فهو معذور في هذه الحال حتى يعلم.

ضابط الكفر البواح

ضابط الكفر البواح Q ما هو ضابط الكفر البواح؟ A البواح هو الصريح الذي لا لبس فيه ولا شبهة ولا إشكال، فإذا كان فيه لبس أو إشكال أو احتمال لا يسمى بواحاً.

دلالة الاسم على الصفة والصفة على الاسم

دلالة الاسم على الصفة والصفة على الاسم Q ما صحة القول بأنه يلزم من إثبات الاسم إثبات الصفة، فالعزيز يلزم منه إثبات العزة، ولا يلزم من إثبات الصفة إثبات الاسم، كصفة الكلام لا يلزم من إثباتها إثبات اسم المتكلم؟ A أسماء الله ليست أعلاماً محضة، بل هي أعلام دالة على الصفات، فالرحمن دال على الرحمة، والعليم دال على العلم، أما الصفة فقد لا يشتق له اسم منها، فلا يلزم اشتقاق الاسم لله من الصفة، لكن الاسم يدل على الصفة، فأسماء الله ليست أعلاماً محضة كما يقول أهل التعطيل، بل هي أسماء دالة على صفات، أما الصفة فلا يلزم أن يشتق منها الاسم، فلا يقال: من أسماء الله المتكلم.

أثر النوايا في الأعمال

أثر النوايا في الأعمال Q من المعلوم أن الله خالق أفعال العباد، فما أثر النوايا على الخطيئة التي تدور في نفس الإنسان؟ A النوايا تختلف، فأحياناً تكتب للإنسان النية حسنة، وأحياناً تكتب سيئة، وأحياناً لا تكتب له ولا عليه، وقد ثبت: (أن العبد إذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة واحدة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، وإن هم بالسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة واحدة، وإن هم بها فعملها كتبت عليه سيئة)، فالنصوص التي وردت في النية المنطوية على السيئة دلت على أحوال: الحالة الأولى: أن الإنسان إذا هم بالسيئة لكنه عجز عن عملها، ومنعه مانع، أو كان يعمل السيئة ثم تشاغل عنها ولم يهتم بها، كتبت عليه سيئة إذا فعل الأسباب التي يقدر عليها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (القاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول في النار؛ لأنه نوى وحاول أن يقتل صاحبه، لكن غلبه صاحبه. إذاً: ما الذي منعه من فعل السيئة؟ إنه العجز، عجز فغلبه صاحبه فقتله، وإلا فقد كان حريصاً على قتل صاحبه، فهذا هم بالسيئة فكتبت عليه لأنه تركها عجزاً. الحالة الثانية: أن ينوي السيئة ثم يتركها خوفاً من الله، ولا يمنعه العجز، لكن يمنعه خوف الله، فهذا تكتب له حسنة؛ لما جاء في الحديث: (إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرائي) يعني: تركها من أجلي. فإذا تركها خوفاً من الله كتبت له حسنة. الحالة الثالثة: أنه ينويها ثم يعرض عنها، أو يتشاغل عنها، فما منعه الخوف ولا العجز، فهذا لا تكتب له ولا عليه، كما في الحديث: (وإن هم بسيئة فلم يعملها لا تكتب عليه، وإن هم بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة).

بيان المراد بأهل القبلة الناجين من الخلود في النار

بيان المراد بأهل القبلة الناجين من الخلود في النار Q أشكل علي كلام شيخ الإسلام حيث قال: لا أقول بخلود أهل القبلة في النار، وحسبي حديث: (لا يحافظ على الوضوء إلا مسلم). ووجه الإشكال أن هناك فرقاً يعدون في أهل القبلة، وقد كفرهم أئمة أهل السنة، مثل غلاة القدرية والجهمية وغيرهم، والكفر يقتضي التخليد في النار؟ A هذا الخلود عام، أما أهل القبلة على وجه العموم فلا يخلدون في النار، لكن من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة خلد في النار، فغلاة القدرية وغيرهم ارتكبوا ناقضاً من نواقض الإسلام، حيث أنكرواعلم الله وأنكروا كتابته، فإذا فعل المرء ناقضاً من نواقض الإسلام ولو كان من أهل القبلة كفر. لكن على وجه العموم يقال: كل مؤمن في الجنة، وكل أهل القبلة لا يخلدون في النار، أي: إذا لم يأتوا بناقض من نواقض الإسلام، ولم يفعلوا شركاً في العبادة، وكلام العلماء يضم بعضه إلى بعض، كما أن النصوص يضم بعضها إلى بعض فيتبين الحق، وابن تيمية رحمه الله بين هذا كما بينه غيره من أهل العلم. والمراد أن أهل القبلة لا يخلدون في النار، إلا من فعل ناقضاً من نواقض الإسلام، أو أشرك في العبادة ومات على ذلك، فهذا خرج عن كونه من أهل القبلة، ولا ينفعه كونه مستقبلاً القبلة.

حكم العمل بالقوانين الوضعية في حق الولاة

حكم العمل بالقوانين الوضعية في حق الولاة Q بعض ولاة الأمور يحكمون بالقوانين الوضعية، مع أنهم تقام عندهم الصلاة، ألا يكون هذا من الكفر وإن كان الوالي قد أقام الصلاة؟ A هذا فيه تفصيل، فمن حكم بغير ما أنزل الله إذا استحله ورأى أنه حلال فإنه يكفر، أما إذا لم يستحله فذلك فسق ومعصية عند أهل العلم، ولا يؤخذ بالكفر إلا بعد إقراره واعترافه بالاستحلال.

حكم دعاء غير الله

حكم دعاء غير الله Q هناك بعض الناس يقول: يا رسول الله! ويا شيخ فلان! فهل يخرجون من الإسلام بهذا، وهل نقول: إنهم كفار؟ A من دعا غير الله وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله خرج من الملة، وصار من المشركين، كأن يقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! خذ بيدي، يا رسول الله! اغفر ذنبي، أو يقول: يا عبد القادر الجيلاني! أو: يا سيدي البدوي! أو: يا دسوقي! أو: يا نفيسة! المدد المدد، خذ بيدي، أنا في حسبك، أنا في جوارك، اشفع لي، لا تخيب رجائي، فهذا كفر وردة، وخروج عن ملة الإسلام، وفاعله يصير من المشركين الوثنيين بعد أن كان من المؤمنين الموحدين، وإذا مات على ذلك صار من أهل النار. فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، قلنا: هذا لا يجوز، فإذا قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع، نقول: نعم يشفع، لكن لا تسأل الرسول الشفاعة، بل سلها من الله، فقل: يا رب! شفع في نبيك، لكن إذا كان يوم القيامة وهو حي قادر فإنك تطلب منه الشفاعة، أما بعد وفاته فلا، فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، نقول: هذا شرك، ولا يجوز سؤال غير الله، فمن دعا غير الله فقد أشرك، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، أو: يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! فرج كربي، أو يا رسول الله! المدد المدد، أو يا عبد القادر، أو: يا سيد البدوي! المدد المدد، خذ بيدي، لا تخيب رجائي، أنا في حسبك، أنا في جوارك، فهذا شرك وردة، أما إذا دعا حياً قادراً فلا يكون ذلك شركاً، كأن يقول: يا فلان! أعني على إصلاح سيارتي، أعني على إصلاح مزرعتي، أعني على بناء البيت، أعني على السيارة، أقرضني، أما أن تدعو ميتاً أو غائباً لا يسمع فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك وردة، كأن تدعوه لأن يفرج كربتك، وهو ميت قد صار تراباً، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14]، وقال سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يعني: من المشركين، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] فنص الله على أن من فعل هذا كفر. وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14] فسماه الله شركاً بنص القرآن، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر وأشرك وخرج من الملة، لكن إذا تاب قبل الموت تاب الله عليه، فإن مات حبطت أعماله وصار من أهل النار بما فعل، نسأل الله السلامة والعافية. وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله تقرباً إليه، كأن يطوف بقبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الحجرة النبوية، فإذا قال: أنا أطوف بقبر النبي عليه الصلاة والسلام وأتقرب لله، نقول: هذا بدعة، فليس هناك شيء يطاف به إلا الكعبة؛ لأن الله أمرنا فقال: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإذا قال: أنا أطوف لرسول الله، نقول: أنت وثني؛ لأنك صرفت الطواف الذي هو العبادة لغير الله. وكذلك الذي يطوف على قبر البدوي أو قبر الحسين، ويقول: أنا أطوف على قبر السيد البدوي لله، فنقول له: هذا بدعة وحرام، فاذهب إلى الكعبة، فلا مكان يطاف به إلا الكعبة، فإذا قال: أنا أطوف للسيد البدوي، نقول له: أنت مشرك وثني، انتقلت من دين الإسلام إلى دين أبي جهل؛ لأنك صرفت الطواف الذي هو العبادة لغير الله. كذلك الذي يطوف على قبر الحسين، فلو قال: أنا أطوف على قبر الحسين لله، نقول: لا تطف لله في هذا المكان، فهذا بدعة وحرام، وطف بالكعبة، فإذا قال: أنا أطوف للحسين، نقول له: هذا شرك، والعياذ بالله، إلا أن يوفقك الله للتوبة قبل الموت، نسأل الله السلامة والعافية. والصواب أنه لا يعذر في ذلك، ولا يعذر إلا أهل الفترات، فالقرآن يتلى، والنصوص واضحة، وهذا هو الأمر الذي بعث الله به نبيه، فكونه صم عن سماع الحق، وأعرض عن النصوص ليس عذراً له، فالعذر إنما هو في حق أهل الفترات الذين ما بلغتهم الدعوة، وأما هذا فقد بلغته الدعوة، فالقرآن في كل مكان الآن يقرأ، والحمد لله.

حكم الصلاة إلى غير القبلة

حكم الصلاة إلى غير القبلة Q ما حكم من يصلي إلى جهة بيت المقدس؟ A إن كان جاهلاً لا يدري فإنا نقول له: ليست هذه القبلة، والله تعالى نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فإن بقي يتعبد لله بذلك مع العلم فهو مرتد؛ لأن صلاته تكون باطلة، ومن ترك الصلاة كفر على الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) أو يصلي للمشرق، أو غير جهة القبلة وهو يعلم ذلك معتقداً أنه يتعبد لله بذلك، فهذا غير مصلٍ، وهو تارك الصلاة، ومن ترك الصلاة كفر بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

حكم الطواف بالقبور

حكم الطواف بالقبور Q ما حكم الطواف حول القبور تقرباً إلى لله تعالى؟ A الطواف حول القبور لم يشرعه الله، لكن إذا طاف حول القبر تقرباً إلى الله قائلاً: أنا أتقرب إلى الله بذلك، ويظن أنه يتقرب إلى الله، فإنا نقول: هذا بدعة، فإن كان يتقرب للمقبور نفسه صار فعله شركاً، وصرفاً للعبادة لغير الله. ومن أنواع الشرك أن بعض الناس إذا سقط من فوق البعير قال: يا محمد. وبعض الناس إذا أراد أن يقوم أو أصابه شيء قال: يا رسول الله. فهذا دعاء لغير الله والعياذ بالله، وكذلك قوله: يا رسول الله! أعني، يا محمد! أعني، فيستعين بغير الله، وهذا شرك، وقد قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فلا يستعان إلا بالله. ومن استعان بالميت أو بالغائب فقد أشرك، وبعض الناس إذا نزلت به مصيبة أو ضربه إنسان قال: يا رسول الله. فبدل أن يقول: يا ألله، يقول: يا رسول الله. فقد تعودوا على الشرك والعياذ بالله. نعم الرسول له حق، والله له حق، وحق الله العبادة، وحق الرسول الطاعة والاتباع والعظيم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، فلا ترفع الرسول من مقام العبودية والرسالة إلى مقام الإلهية، فهذا حق الله، فلا تقل: يا محمد، بل قل: يا ألله، أتنسى ربك؟! فلا تكن مثل البوصيري الذي ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدته فيقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم يقول: ليس لي من ألوذ به يوم القيامة عند الحادث العمم الذي يعم الناس إلا أنت، ونسي ربه، ثم قال: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يقول: إن لم تأخذ بيدي -يا رسول الله- فإني هالك. وقال يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وما أبقي لله شيئاً، وإذا كان الرسول له الدنيا والآخرة، فماذا بقي لله؟! فجعل الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا غلو والعياذ بالله، فالله تعالى أحق بالعبادة، والرسول له حق الطاعة والتعظيم.

[3]

دروس في العقيدة [3] إن علم أصول الدين هو أهم ما يحتاج العبد إلى معرفته، والضرورة إليه فوق كل ضرورة، وبه يعلم توحيد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وقد ضل في توحيد الأسماء والصفات أناس انحرفوا عن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم واعتاضوا عنه بزبالات الأذهان، فنفوا عن الله تعالى أسماءه وصفاته التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله، حتى وصل ببعضهم الحال إلى القول بحلول الله في المخلوقات واتحاده بها.

أهمية علم أصول الدين

أهمية علم أصول الدين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الإمام الطحاوي رحمه الله افتتح رسالته بعلم أصول الدين بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا إله غيره]. وإن علم أصول الدين الحاجة إليه فوق كل حاجة، والضرورة إليه فوق كل ضرورة، وحاجة الإنسان إلى معرفة علم أصول الدين أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجته إلى الهواء وإلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأنه إذا فقد الطعام والشراب وفقد الهواء مات الجسم، والموت لا بد منه، ولا يضر الإنسان أن يموت إذا كان مستقيماً على دين الله، لكن إذا فقد علم أصول الدين مات قلبه، وماتت روحه، وصار إلى النار والعياذ بالله، فلذلك كانت الضرورة إلى معرفة علم أصول الدين، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته واستحقاقه للعبادة، فالله تعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرفهم عظيم حقه سبحانه وتعالى. فالحاجة ماسة إلى معرفة علم أصول الدين أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجتهم إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الواحد منهم؛ لأن من فقد علم أصول الدين ولم يعرف ربه، ولا أسماءه ولا صفاته، ولا أفعاله، ولا عظيم حقه؛ صار من الهالكين، وصار من أهل النار، وصار من الأموات وإن كان حياً يمشي بين الناس، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى ما أنزله على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام من الوحي روحاً؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نوراً لتوقف الاستنارة والاستضاءة عليه، قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:15]، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53]، فسمى الله الوحي الذي أنزله على نبيه روحاً؛ لأن الحياة الحقيقية تتوقف على الوحي، وسماه نوراً؛ لأن الاستضاءة تتوقف عليه، فالكفرة الذين يمشون على الأرض -وإن كانوا أحياءً بأجسادهم- أموات في الحقيقة، وقلوبهم ميتة؛ لأنهم فقدوا الحياة الحقيقية، وسبب ذلك أنهم أعرضوا عن الوحي الذي هو كتاب الله وأعرضوا عن سنة رسول الله، وتركوا النظر والاستدلال الموصل إلى معرفة الله، فلما أعرضوا ضلوا، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. والكلام على التوحيد وأنواع التوحيد كله داخل في هذا الأمر العظيم، وهو علم أصول الدين؛ لأن الله تعالى يعرفنا بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وبعظيم حقه. ثم عرفنا بالأمر الثاني: وهو الأوامر والنواهي وعلم الحلال والحرام وعلم الفروض الذي أتت به الشريعة، ثم بعد ذلك يعرفنا سبحانه وتعالى بما يكون لنا إذا أقبلنا عليه، وما يحصل للإنسان إذا وصل إلى الله في الدار الآخرة من شئون المعاد، من البعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وما أعد الله للمؤمنين من الكرامة والنعيم، وما أعد الله للكافرين من العذاب السرمدي المهين، وهذا هو الذي جاءت به الرسل، وهذه هي أقسام العلم النافع، فالكلام في توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات هو نفسه الكلام في علم الأصول، العلم الناتج عن معرفة هذه الأنواع الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع بعلم أصول الدين، وهو الأمر الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد والتوحيد -كما سبق- قسمه العلماء إلى تلك الأقسام أخذاً من النصوص، حيث تتبعوا النصوص فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: الأول: توحيد الربوبية: وهو أن توحد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، وأفعال الله: الخلق والرزق والإماتة والإحياء ونحو ذلك، فتوحد الله بها، وتعتقد أنه هو الخالق وهو الرازق وهو المدبر وهو المحيي وهو المميت وهو الرب. الثاني: توحيد الله بأسمائه وصفاته، والمعنى: أنك تثبت أسماء الله وصفاته له، وتعتقد أن الله سمى نفسه بهذه الأسماء ووصف نفسه بهذه الصفات، وأنها حق وأن أسماءه حسنى وصفاته عليا. والثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعالك -أيها العبد- من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والدعاء، والذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والخوف والرجاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والإحسان إلى الناس، وكف الأذى، وترك المحرمات طاعة لله وخوفاً وخشية وتعظيماً له، وغير ذلك، فهذا هو توحيد العبادة، أن توحد الله فتفعل الأوامر، وتترك النواهي طاعة لله وخوفاً ورجاء وتعظيماً له عز وجل. وهذه الأنواع الثلاثة -وهي أنواع التوحيد- متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يتم الإيمان ولا يصح إلا بالإيمان بهذه الأنواع الثلاثة كلها، وهي متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية. ومعنى (يستلزم): يدل عليه ويوجبه ويقتضيه، فإذا وحد الإنسان ربه بأفعاله، واعتقد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وجب عليه أن يعبده، كأن تعتقد -مثلاً- أنه هو الخالق، وهو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الذي خلقك وأوجدك من العدم، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فبذلك وجب عليك أن تعبده ولزمك أن تخصه بالعبادة، وأن تقدم محبته على محبة كل شيء، على محبة نفسك وأولادك وأهلك، ولكن ليس كل واحد يلتزم بما لزمه، فكل من أقر بتوحيد الربوبية واعترف بتوحيد الربوبية لزمه أن يوحد الله في عبادته وألوهيته. وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وحد الله وعبد الله ففي ضمن ذلك اعترافه بأنه هو الرب الخالق الرازق المدبر، ولولا اعتقاد أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت لما عبده وخصه بالعبادة، فلما عبده وخصه بالعبادة دل ذلك على أنه يعتقد أنه هو الرب الخالق الرازق المدبر الذي يملك النفع والضر. وكذلك توحيد الأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الألوهية، وهذه هي الدلالات الثلاث المعروفة عند أهل العلم بدلالة الالتزام، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة. فدلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه، كدلالة توحيد الربوبية على توحيد الألوهية، ودلالة الوالد على الولد، ودلالة التوبة على السعي. أما دلالة التضمن فهي دلالة الشيء على جزء معناه، لا على جميع معناه، فتوحيد الربوبية جزء من توحيد الإلوهية. ودلالة توحيد الألوهية على الألوهية تسمى دلالة مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة دلالة الشيء على جميع معناه، فتوحيد الألوهية يدل على الألوهية بالمطابقة؛ لأنه دل على جميع معناه، ويدل على الربوبية بالتضمن، وقد سبق ذكر الطوائف التي أنكرت الربوبية وأنكرت الرب العظيم وأخلت بهذا النوع العظيم من أنواع التوحيد مع أنه أمر فطري فطر الله عليه جميع الخلق.

المخالفون في توحيد الأسماء والصفات

المخالفون في توحيد الأسماء والصفات وأما توحيد الأسماء والصفات فقد أخل به طوائف وخالفه طوائف، مثل طوائف المعطلة الذين عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، فالتعطيل من العطل، وهو: الخلو والفراغ، فالدار إذا عطلت عن ساكن تسمى عاطلة، والبئر إذا هجرت ولم ينزح منها ماء تسمى بئراً معطلة، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]. والإبل إذا خلت عن راعيها يقال: عطلت الإبل عن راعيها، ويقال للمرأة: عطل: إذا لم يكن عليها حلي، فمادة العين والطاء واللام تدور على الخلو والفراغ، ويقال لمن عطل العالم عن صانع أوجده وأتقنه: معطل، وهؤلاء المعطلة عطلوا الرب من أسمائه وصفاته، وهم ثلاث فرق: فرقة الجهمية، وفرقة المعتزلة، وفرقة الأشاعرة. وهم متفاوتون في التعطيل، والكلام طويل في هؤلاء المعطلة؛ لأن الناس ابتلوا بهم، وهؤلاء المعطلة موجودون الآن في هذا الزمن وفي أزمنة سابقة، وكتبهم موجودة، ومؤلفاتهم موجودة، وشبههم موجودة ومنتشرة، فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرق ويعرف شبههم، ويعرف ما هم عليه من الباطل؛ حتى يحذره ولا يقع فيه. وكان السلف الصالح في عافية من هذه الشبه والكلام في شبه هؤلاء، فلم يكن بهم حاجة إلى أن يتكلموا في هذا البحث، ولكن لما وجد هؤلاء المعطلة وانتشروا بين الناس، وانتشرت مؤلفاتهم، وانتشرت شبههم، وانطلت شبههم على بعض أهل السنة وتأثر بها بعض الناس صار لزاماً على أهل الحق وأهل السنة أن يكشفوا الباطل، وأن يردوه؛ إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل.

الجهمية

الجهمية والجهمية هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان، وهذا الرجل ظهر في أوائل المائة الثانية، ونسب إليه تعطيل الصفات؛ لأنه هو الذي نشر عقيدة نفي الصفات بين الناس وأظهرها، وقد سبقه رجل آخر أسس عقيدة نفي الصفات، وهو الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق. وتعطيل الجعد بن درهم كان في كلمتين فقط: الكلمة الأولى: نفيه أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والكلمة الثانية: نفيه أن يكون الله كلم موسى تكليماً، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق، بفتوى من علماء زمانه وأكثرهم من التابعين رحمهم الله. ولكن الجهم سبق له أن اتصل به وأخذ عنه، وكان الجهم قد حصل له مناظرة مع طائفة من أهل الهند في ذلك الزمان يقال لهم: السمنية، فناظروه وهم لا يؤمنون إلا بالحسيات، فقالوا: إلهك هذا الذي تعبد هل تراه؟! قال: لا، قالوا: هل سمعته؟! قال: لا، قالوا: هل شممته؟! قال: لا، قالوا: هل ذقته؟! قال: لا، قالوا: هل لمسته؟ قال: لا، قالوا: إذاً هو معدوم، فشك في ربه ومكث أربعين يوماً لا يصلي ولا يعرف أن له رباً، ثم وسوس الشيطان في ذهنه أن الله موجود وجوداً مطلقاً، فأثبت وجوداً لله مطلقاً، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات، والوجود المطلق إذا قيل فمعناه أنه مطلق عن جميع الأسماء والصفات، وهذا معناه لا يكون إلا في الذهن فقط، فهو وجود يفرضه الذهن ويتخيله، ولا وجود له في الخارج، نسأل الله السلامة والعافية. وكان هذا الرجل قد اتصل بـ الجعد كما سبق، والجعد أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان أخذ عن طالوت ابن أخت لبيد، وطالوت أخذ عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان -أيضاً- قد نشأ في أرض حران، وفي ذلك الوقت انتشر فيها الصابئة والمشركون والوثنيون، فصارت عقيدة نفي الصفات متصلة باليهود والمشركين وعباد الكواكب والنصارى والوثنيين. والجهم بن صفوان قتله سلم بن أحوز أمير خراسان في عهد آخر خلفاء بني أمية، لكن هذه العقيدة انتشرت فسميت بعقيدة الجهمية، نسبة إلى هذا الرجل؛ لأن هذا الرجل هو الذي ابتدع هذه العقيدة وهي عقيدة نفي الصفات، فإذا قيل: عقيدة الجهمية فالمراد بها: نفي الصفات والأسماء، والجهم هو الذي تمنى أن يحك من المصحف آية الاستواء: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وكان له زوجة معطلة مثله، يقال: إن زوجته دخلت إلى سوق الدباغين فسمعت قارئاً يقرأ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فقالت: محدود على محدود، وقصدها من ذلك إنكار الاستواء، أي: أن الله لا يحده شيء، وهذا إنكار لكون الله فوق السموات وعلى العرش، فمذهب الجهمية هو تعطيل الله عن أسمائه وصفاته.

ذكر شبه الجهمية في التعطيل

ذكر شبه الجهمية في التعطيل يقول الجهمية: لو قلنا إن الله متصف بالأسماء والصفات للزم من ذلك تعدد القدماء، فيكون القدماء متعددين، وهم يقولون: إن القديم واحد لا يتعدد، فالموجودات قسمان: القسم الأول: قديم، وهو الله الواحد لا شريك له. والقسم الثاني: المخلوقات، وهي حادثة. يقول الجهمية: فإذا أثبتنا لله العلم، والسمع، والقدرة، والعزة، والعظمة، والكبرياء صارت هذه أموراً متعددة، وصار القدماء متعددين، والله قديم واحد لا يتعدد، فقالوا بنفي الأسماء والصفات؛ حتى لا يتعدد القديم بزعمهم. وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الله له أسماء وصفات لشابه المخلوق، ولكان جسماً، فالله ليس بجسم ولا يشابه المخلوق، فلأجل الفرار من ذلك نفوا جميع الأسماء والصفات. والحق أن الشيء الذي تُنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له في الخارج، وإنما يكون وجوده في الذهن، والذهن يتخيل المحال ويفرضه، فهاتوا شيئاً موجوداً في الخارج ليس له اسم ولا صفة! وهذا معروف عند العقلاء جميعاً. وبذلك يكون مذهب الجهمية القول بأن الله لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الذهن، ولهذا فإن مذهب الجهمية أفضى بقوم إلى القول بالحلول، وأفضى بقوم آخرين إلى القول بالاتحاد. فأوصل قوماً إلى القول بأن الله حال في كل شيء، والذي فتح لهم باب هذا الشر هم الجهمية، ووجه ذلك أنهم لما نفوا الصفات والأسماء وبالغوا في نفيها تنزيهاً لله بزعمهم، وتعظيماً لمن أظهر الولاية لله، قالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح أو في الرجل الصالح، فقالوا بحلول الله في الصالحين فقط؛ لأن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في فلان الصالح؛ لأنهم عظموا الله بزعمهم ونزهوه وعظموا من أظهر الولاية له، فقالوا: إن الله حل فيه، ثم تدرج بهم الحال فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن نقول بحلوله في كل شيء وفي كل مكان حتى لا نجعله في شيء معين، فبذلك وصلوا إلى القول بأن الله حال في كل مكان، نسأل السلامة من الجهمية. فليس هناك شيء إلا وهم يقولون: إن الله حل فيه، وهذا هو ربهم ومعبودهم الذي تخيلوه والعياذ بالله، وأما رب العالمين فهو -سبحانه وتعالى- فوق ما يظنون، وفوق ما يتصورون ويتوهمون، ومعبود الجهمية في كل مكان، والعياذ بالله، فهو في الحشوش والأبنية والأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. كما أن مذهب الجهمية -وهو القول بتعطيل الله من أسمائه وصفاته- أوصل قوماً آخرين إلى القول بالاتحاد، والقول بوحدة الوجود. ووجه ذلك أن الذي حملهم على نفي الأسماء والصفات بزعمهم هو تنزيه الله حتى لا يشابه المخلوق، وحتى يكون هو الواحد فليس له شريك، فبالغوا في هذا التنزيه طلباً لمرضاة الله، فقالوا: إن من تمام تعظيم الله أن ننسى أنفسنا، فنسوا أنفسهم، وتناسوا كل شيء يرونه في هذا الوجود، فلما تناسوا ذلك صاروا يرون أنهم لا يرون في هذا الوجود شيئاً إلا الله، فقالوا: ننسى كل شيء، ومن تعظيم الله ومحبته أن ننظر إليه فقط، وأن نتناسى كل شيء، حتى لا تشوش علينا هذه الأشياء في سيرنا إلى الله وطريقنا إليه، فالسماوات والأرضون والشمس والقمر والآدميون يشوشون علينا، فنحن ننساها من الشهود لا من الوجود، وتناساها حتى لا تشوش علينا العبادة، فلا ننظر إلا إلى الله، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروا وجودها، فقالوا: لا يوجد في هذا الكون إلا الله، فاتحد وجود الموجودات عندهم، فقالوا: إن كل شيء تراه هو الله والعياذ بالله، وهكذا فعلت الصوفية، فغلاة الصوفية وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، وذلك أنهم قالوا: إن من تمام تعظيم الله وتنزيهه ألا نشاهد إلا الله، فالمغالي من الصوفية يقول: أنا أتناسى كل شيء، أتناسى السماوات والأرضين، ويقول: أنا لا أنكرها، لكن لا أشاهدها حتى لا تشوش علي، فلا أستطيع أن أنظر إلى هذه المخلوقات المتعددة فتشوش علي سيري إلى الله، فأنا ألغيها من الشهود وكأنها ليست موجودة، وألغي نفسي -أيضاً- حتى لا تشوش علي عبادتي مع الله، فأنكروها في الشهود، ثم وصل بهم الحال إلى أن أنكروها في الوجود، وقالوا: ليست موجودة، بل كل شيء تراه هو الله، وكل شيء تراه هو مظهر لتجلي الله، فالسماوات والأرضون والآدميون هي الله، وهي أسماء وصفات لله، وهي مظاهر لتجلي الله، فأنت الرب وأنت العبد، فاتحد وجود الموجودات عند الاتحادية والعياذ بالله، والذي فتح لهم هذا الباب وهذا الشر هم الجهمية.

الفرق بين الحلولية والاتحاد

الفرق بين الحلولية والاتحاد الحلولية والاتحادية كلهم كفار والعياذ بالله، وهم من أكفر خلق الله، فالحلولية هم الذين يقولون: إن الله حل في كل مكان، كالماء حل في الكوز، فهم يقولون بوجودين اثنين، لكن أحدهما حل في الآخر، وبناء على ذلك كان من فروع مذهبهم أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله، فإذا عبدوا الصنم فقد عبدوا الله؛ لأن الله حل في الصنم حسب زعمهم، فكل من عبد شيئاً فهو مصيب، وكذلك فرعون مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ لأن الله حل فيه. وأما الاتحادية فلا يقولون: إن هناك موجودين حل أحدهما في الآخر، بل يقولون: إن الموجودات كلها شيء واحد، فالرب عين العبد، والعبد عين الرب، فالحق المنزه هو عين الحق المشبه، فهو عين الآكل وعين المأكول، وعين الذابح وعين المذبوح، فليس هناك شيئان، فهو آية كل شيء وله في كل شيء آية، وهو نفس الدليل ونفس المستدل عليه، ونفس الآكل ونفس المأكول ونفس الذابح، ونفس المذبوح، فمن قال عنهم: إنهم حلولية يقولون له: أنت محجوب عن معرفة باطن المذهب وحقيقة المذهب، فالقول بالحلول تثنية ونحن لا نقول بالتثنية، وزعيم الاتحادية ورئيسهم هو ابن عربي الطائي رئيس وحدة الوجود، ومن أقواله: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف فما دام أن الرب هو العبد والعبد هو الرب، فمن هو المكلف بالعبادة؟! يقول: إن قلت عبد فذاك ميت وإن قلت رب أنى يكلف وفي رواية: (إن قلت عبد فذاك نفي). أي: منفي لا وجود له، وإن قلت: رب أنى يكلف، إذاً: لا يوجد تكليف. ويقول ابن عربي أيضاً: من أسماء الله الحسنى العلي، ثم يقول: علي على من وما ثم إلا هو؟! وعن ماذا وما هو إلا هو؟! ويقول: سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فيه فالواسع الله. يقول: (سر حيث شئت فالله ثم). أي: كل شيء تراه هو الله، و (ثم) أي: هناك، (وقل ما شئت فيه فالواسع الله). وبعض الناس قد يستغرب من مثل هذا الكلام، وهذا الكلام موجود الآن مؤلف ومدون، والاتحادية الآن يسمون العارفين بالله والمحققين، ويسمى ابن عربي أكبر العارفين، ومؤلفاته موجودة ومنتشرة في البلدان العربية وغيرها، وتطبع بطبعات واضحة، وأوراق فخمة، ويعتنى بها وتحقق، ويذكر عنهم أنهم بلغوا الغاية في المعرفة، فلا تظن أن هذا الكلام بعيد عنا، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة، فقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. وهذا ثابت في صحيح البخاري، فهذا شر بليت به الأمة، وهو أعظم أنواع الكفر.

معتقدات ابن عربي

معتقدات ابن عربي إن ابن عربي يدعي لنفسه أنه أفضل من الأنبياء، حيث تدرج به الحال حتى قال: إن النبوة ختمت بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكنه ليس خاتم الأولياء، وادعى أنه خاتم الأولياء، فقال: إن خاتم الأنبياء محمد وخاتم الأولياء ابن عربي، ولكن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؛ لأن النبي إنما يأخذ وحيه بواسطة الملك جبريل، أما خاتم الأولياء فلا يحتاج إلى واسطة؛ لأنه يأخذه من الله مباشرة، ويقول: إن خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن. وابن عربي هذا يعارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتاً فأكمله وأحسنه إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون ويقولون: لولا تلك اللبنة! فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين). يقول ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم) وكتاب (الفتوحات المكية)، وكتاب (الهو): إن خاتم الأنبياء رأى هذه الرؤيا، رأى هذا البيت ورأى موضع لبنة، ورأى نفسه تنطبع في هذه اللبنة التي يتم بها الحائط، ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى مثل هذه الرؤيا. ويرى أن الحائط مكون من لبنتين: لبنة ذهب، ولبنة فضة، ويرى نفسه تنطبع مكان لبنة الذهب، وخاتم الأنبياء تنطبع نفسه مكان لبنة الفضة، فيجعل نفسه لبنة الذهب والرسول صلى الله عليه وسلم لبنة الفضة. ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ عن الله في السر، وفي الظاهر تابع لخاتم الأنبياء. لأنهم منافقون زنادقة لا يظهرون الكفر كما سيأتي في حكمهم، فهم يتظاهرون بالإسلام حتى لا تقطع رقابهم، فيدعي أنه تابع في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يصلي مع الناس، كما كان عبد الله بن أبي رئيس المنافقين يصلي، ويؤدي الشعائر الظاهرة، لكنه في الباطن يعتقد هذه العقيدة الخبيثة، ويقول ابن عربي: فإن فهمت ذلك فقد حصل لك العلم النافع. والعلم النافع الذي يريده هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود هو عين وجود لله، فليس هناك رب وعبد، بل الرب هو العبد والعبد هو الرب، لكن فرعون أعرف بالله في الباطن من أصحاب وحدة الوجود، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] فهو معترف بوجود الله، ولكنه أنكر وجود الله في الظاهر، وتجاهله هذا تجاهل العارف، وأما ابن عربي فإنه يقول: إن الوجود واحد.

حكم الاتحادية والحلولية في الشرع

حكم الاتحادية والحلولية في الشرع الاتحادية والحلولية منافقون زنادقة، من مات منهم على حاله فهو في الدرك الأسفل من النار؛ لأن الحلولية جعلوا الله حالاً في كل شيء، تعالى الله عما يقولون، وكفر كل كافر جزء من كفر الاتحادية. وإذا كان الحلولي الذي يقول: إن معبوده حل في البطون وفي أجواف الطيور وفي بطون السباع وفي الأخلية والحشوش، فإن من هؤلاء من قال: إنه نفس البطون، ونفس الأجواف، ونفس الأخلية، تعالى الله عما يقولون. وإذا كان المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه كفاراً؛ فالذي يقول: هو نفس المخلوق أعظم كفراً، ولهذا لما قيل لبعضهم: أين كفر المشبهة وكفر النصيرية وكفر الحلولية؟ قال كفر الاتحادية أعظم كفراً من هؤلاء، ولما قيل لبعضهم: أنت نصيري؟ قال: نصير جزء مني. إذاً: الاتحادية والحلولية منافقون زنادقة، ومن أعظمهم كفراً من ضرب لنفسه المثل بلبنة الذهب وللرسول صلى الله عليه وسلم المثل بلبنة الفضة، وكفر هؤلاء فوق كفر الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] فهؤلاء الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] طلبوا أن يكونوا مثل الرسول فكفرهم الله، فكيف بمن قال: إنه أعلى من الرسل وأفضل؟! وبذلك يكون كفره أعظم، ويكفيك دليلاً على كفر الاتحادية أن من أقوالهم: إن فرعون مات مؤمناً بريئاً من الذنوب خلياً من الذنوب، ومات موحداً، وهو من أعظم العارفين، ويقولون: إنه مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقولون: إنه على حق؛ لأن الوجود واحد، فهو صاحبهم وأخوهم، كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية أنهم يقولون: إن فرعون أغرقه الله تطهيراً له من الحسبان، أي: حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهو مخطئ؛ لأنه يظن أنه هو الرب الأعلى، فأغرق تطهيراً له من هذا الحسبان ومن هذا الوهم، فلما أغرق تطهر، أي: صار بريئاً خلياً من الكفر. فيقولون: هو مخطئ حينما قال: أنا ربكم الأعلى؛ لأن كل شيء تراه هو الرب، والكفر عند الاتحادية يكون بالتخصيص، فمن قال: لا تعبد إلا هذا الشيء فهذا كافر عند الاتحادية، بل كل شيء عند الاتحادية يعبد، فمن عبد الأصنام، ومن عبد الأوثان، ومن عبد النار، ومن عبد الصلبان، كلهم على حق، والكفر إنما هو بالتخصيص، فالذي يخصص هو الكافر، ولما خصص فرعون نفسه بالألوهية أغرق تطهيراً له من هذا الحسبان وهذا الوهم، فلما أغرق تطهر وصار بريئاً خلياً من الذنوب، هكذا يقول: ابن عربي والاتحادية، والعياذ بالله. وعلى هذا فيكون مذهب الاتحادية أنه ليس هناك خالق ومخلوق، ولا رب ولا عبد، ولا شريعة، ولا حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، ولا كفر ولا إيمان، إلا الذي يخصص الشيء، فهو الكافر عندهم، والذي يترك الناس على حالهم، كل يعبد ما يشاء هو الموحد، فالذي يعبد الصنم على حق، والذي يعبد الله على حق، والذي يتدين باليهودية على حق، والذي يتدين بالنصرانية على حق، والذي يتدين بالوثنية على حق، لأن الوجود واحد، نسأل الله السلامة والعافية. فهؤلاء كفار ملاحدة زنادقة، تجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا؛ لأنهم يخفون الكفر، وهو في مؤلفاتهم وفيما بينهم، وعلى مر العصور إذا وجدت الدولة الإسلامية التي تقيم الحدود فإنهم يخفونه حتى لا تقطع رقابهم، فهؤلاء الاتحادية تعاملهم الدولة الإسلامية معاملة المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين، فيغسلون ويصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المسلمين ويورثون، إلا من أظهر كفراً أو أظهر شيئاً من كفره فإنه يعامل معاملة المرتد ويقتل، وعبد الله بن أبي هو رئيس المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولما مات -كما ثبت في صحيح البخاري - ودلي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به فأخرج من حفرته ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه جذب عمر ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر، فإني قد خيرت، فقيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) فصلى عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد جاءه النهي عن هذا في أول الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ألبسه قميصه مكافأة له؛ لأن عبد الله بن أبي أعطى قميصه للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عبد الله بن أبي طويلاً وكان العباس طويلاً، ولم يجد العباس ثوباً يناسبه إلا ثوب عبد الله بن أبي، فأعطاه مكافأة له، ورجاء أن ينفعه الله بذلك؛ لأنه لم ينه، وكان في ذلك مراعاة للأنصار؛ فإن أصله من الأوس من الأنصار، ومراعاة لابنه عبد الله بن عبد الله، فقد كان من أصلح المؤمنين، ولما قال عبد الله بن أبي مقالته الخبيثة، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وقف له ابنه عبد الله وقال: والله لا تدخل المدينة حتى تكون أنت الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما معناه: سمعتك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك فمرني آتيك برأسه، فلا أحب أن أرى قاتل أبي، وبعدما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية بالنهي عن الصلاة على المنافقين، فقال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على أحد من المنافقين، وهذا ثابت عند البخاري في كتاب الجنائز وفي غيره. إذاً: الاتحادية زنادقة منافقون، والمنافقون تجري عليهم أحكام الإسلام في الدنيا إذا لم يظهر منهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر منهم ما يدل على كفرهم فإنهم يعاملون معاملة المرتدين ويقتلون، ومن ذلك القصة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه (التوحيد)، وساقها ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] وحاصلها أن رجلاً من اليهود ورجلاً من المنافقين اختصما في شيء، فقال: اليهودي نتحاكم إلى محمد. لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف. لعلمه أنه يأخذ الرشوة، ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى عمر، فتحاكما إليه وأخبراه بالخبر، فسأل عمر المنافق: أحق ما يقول صاحبك أنك لم ترض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم. فدخل عمر بيته واحتمل سيفه فضرب عنق المنافق؛ لأنه أظهر نفاقه، فإن صحت هذه القصة ففيها دليل على أن المنافق إذا أظهر نفاقه قتل، ولكن هذا يكون من قبل ولاة الأمور بعد أن يقام عليه الحكم الشرعي. والمقصود أن الاتحادية والحلولية حكمهم في الدنيا حكم المنافقين الزنادقة؛ لأنهم يبطنون الكفر العظيم ويظهرون الإسلام، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل، أما في الآخرة فالاتحادي في الدرك الأسفل من النار إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، وهل تقبل توبته أو لا تقبل؟ إذا أخذ قبل التوبة فإنه لا تقبل توبته، بل يقتل، وأما إذا أخذ بعدما أظهر التوبة، ففيه خلاف بين أهل العلم على قولين: القول الأول: أنه لا تقبل توبته؛ لأن هذا كفر عظيم، بل لا بد من قتله ولو ادعى التوبة، فالمنافق ومن سب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه ورسله، وكذلك الساحر لا تقبل توبته، بمعنى أنه لا بد من أن ينفذ فيهم حكم القتل، قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الصواب. وأما في الآخرة فأمرهم إلى الله، فمن صدق في توبته فالله يقبل توبة الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين، لكن في الدنيا يعاملون معاملة المرتدين ولا تقبل توبتهم، بل يقتلون حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر العظيم الوخيم. فالاتحادية -والعياذ بالله- يقولون: إن الله هو الوجود المطلق، اكتسته الماهيات فهو عينها، والماهيات، هي الذوات، اكتسته فهو عينها، ولا تزال المحدثات تكتسيه وتلبسه وتخلعه، فالموجود المطلق معناه أنه موجود في كل شيء، تلبسه المحدثات، فالنبات يلبسه، والماء يلبسه، وهكذا، ويلبسه هذا ويخلعه، هذا هو الوجود المطلق، نسأل الله السلامة والعافية. وهذا هو مذهب المعطلة والجهمية الغلاة، وهكذا وصل بهم الحال، وهذا سببه الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على العقول وزبالة الأذهان، وضعف الأفكار، والاعتماد على مناهج أهل الفلسفة وأدلة أهل المنطق، والعياذ بالله.

استدلال الجهمية على التعطيل والرد عليهم

استدلال الجهمية على التعطيل والرد عليهم وأصل شبهة المعطلة والجهمية في نفي الصفات أنهم قالوا: لو أثبتنا الأسماء والصفات لله لشبهنا الله بالموجودات، والموجودات لها أسماء وصفات، وكذلك المخلوقات، فهذا ابن آدم عالم، فالذي يقول: إن الله يعلم فقد شبهه بالمخلوق، وإذا وصفنا الله بالقدرة، وصفنا المخلوق بالقدرة فقد شبهناه، ففروا من التشبيه والتجسيم فقالوا: ننفي الأسماء والصفات حتى لا نشبه الله بخلقه. وقد ناقشهم أهل العلم -كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- فقالوا: يلزمكم شر مما فررتم منه أنتم، فلماذا نفيتم الأسماء والصفات؟ فقالوا: نفيناها حتى لا نشبه الله بالمخلوقات. فقيل لهم: إذا نفيتم الأسماء والصفات عن الله فقد شبهتم الله بالمعدومات، فالمعدومات هي التي ليس لها أسماء ولا صفات، والتشبيه بالمعدومات أقبح من التشبيه بالموجودات. أرأيت كيف فروا من شيء فوقعوا في شر مما فروا منه! فقال غلاتهم: نحن ننفي النفي وننفي الإثبات، ننفي النفي حتى لا يلزمنا التشبيه بالمعدومات، وننفي الإثبات حتى لا يلزمنا التشبيه بالموجودات، ونقول: لا هو موجود ولا ليس بموجود، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا حي ولا ليس بحي، ولا قدير ولا ليس بقدير، فننفي النفي وننفي الإثبات، فقال لهم العلماء: إذا نفيتم النفي والإثبات وقعتم في التشبيه بالممتنعات، والتشبيه بالممتنع أقبح من التشبيه بالمعدوم، والممتنع هو المستحيل؛ لأن الذي ينفى عنه النفي والإثبات مستحيل ممتنع، فإنه يمتنع أن ينفى عن الشيء الوجود والعدم، فلا يقال: لا موجود ولا معدوم، فيمتنع نفي الوجود ونفي العدم؛ لأن نفي الوجود والعدم يلزم منه رفع النقيضين ونفي النقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان عند جميع العقلاء، فإذا نفيتم النفي ونفيتم الإثبات وقعتم في التشبيه بالممتنع والمستحيل، ووقعتم في التشبيه بما اجتمع في النقيضان من الممتنعات، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان. والنقيضان هما اللذان لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، مثل الوجود والعدم، فلا يمكن أن تقول: هناك شيء موجود لا موجود ولا معدوم، بل إما موجود وإما معدوم، فإذا ثبت الوجود انتفى العدم، وإذا ثبت العدم انتفى الوجود، فلا يجتمع النقيضان ولا يرتفعان، وهذا معروف عند جميع العقلاء. وأما الضدان فلا يجتمعان، وقد يرتفعان، فهناك فرق بين النقيضين وبين الضدين، فالضدان لا يجتمعان لكن قد يرتفعان، مثل: السواد والبياض، فهما ضدان، لكن قد يرتفعان، فيكون الشيء لا أسود ولا أبيض، بل قد يكون أحمر أو أخضر أو أزرق، فهما يرتفعان، بخلاف النقيضين، فلا يجتمعان ولا يرتفعان. والمثلان: الشيئان المتماثلان، والخلافان: المتخالفان، مثل: العلم والحركة، هذا خلاف هذا. فقال غلاة الجهمية: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفينا الصفات عن محل قابل لهما، وهذه الصفات، تتقابل تقابل العدم والملكة، ولا تقابل السلب والإيجاب، فيقولون: لا يلزمنا التشبيه بما اجتمع في النقيضين من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، والله ليس قابلاً للصفات، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت؛ لأنه ليس قابلاً لهما، فكما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت فكذلك الله لا يوصف بالصفات؛ لأن الله ليس قابلاً للصفات من الأساس، فلا يلزمنا التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات إلا إذا نفيناه عن محل قابل لهما، فهذه الصفات تتقابل تقابل العدم والملكة، وتقابل وجود الصفات ونفي الصفات، لا تقابل السلب والإيجاب، فنحن نقول: إن الرب ليس قابلاً للصفات حتى يلزمنا هذا، كما أن الجدار لا يوصف بالعمى والبصر والحياة والموت، فكذلك الله لا يوصف. فقال أهل الحق نجيبكم عن هذه الشبه بأجوبة: الجواب الأول: أننا لا نسلم بعدم المقابلة في الوجود والعدم، بل الوجود والعدم متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فلا يمكن أن ينفى الوجود والعدم عن شيء، فكل شيء لا ينفى عنه وجود، بل كل شيء موجود، ولا ينفى عنه وجود العدم، فإذا نفيت الوجود ثبت العدم، وإذا نفيت العدم ثبت الوجود، وإذا أثبت الوجود انتفى العدم، وإذا أثبت العدم انتفى الوجود، فهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء. والجواب الثاني: أننا نقول: إن قولكم -أيها الجهمية الغلاة-: إن الله لا يوصف بالصفات، كما أن الجدار لا يوصف بالعلم والجهل والحياة والموت، هو اصطلاح اصطلحتم عليه، والاصطلاح لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فهو اصطلاح باطل وفاسد ينافي الحقائق العلمية، والاصطلاح لا يبطل الحقائق العلمية، فإن الله تعالى سمى الجماد ميتاً ونفى عنه الحياة وهو جماد، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20 - 21]، فالأصنام سماها أمواتاً ونفى عنها الحياة، فهي توصف بالحياة وتوصف بالموت وهي جماد، فقولكم: إن الجدار لا يقال له: حي ولا ميت باطل، وهذا اصطلاح تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يكون دليلاً على نفي الحقائق العلمية، فقولكم: إن الله ليس قابلاً للصفات كما أن الجدار ليس قابلاً للحياة والموت باطل، فنقول: إن الله ليس قابلاً للعلم والجهل حتى نقول: عالم وجاهل، وليس قابلاً للحياة والموت، فهذا اصطلاح فاسد تبطله الحقائق العلمية، والاصطلاح الفاسد لا يقضي على الحقائق العلمية، بل الحقائق العلمية هي التي تقضي على الاصطلاح الفاسد. ويقال لكم أيضاً جواب ثالث، وهو أن الجمادات التي ينفى عنها العمى والبصر، وينفى عنها العلم والجهل أنقص من الحيوانات التي تقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى والبصر، والجاهل الذي يقبل الاتصاف بالعلم أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بالعلم والجهل، فأنتم فررتم من تشبيه الله بالحيوانات الناقصة التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل واحدة منها، فالتشبيه بالحيوان الذي يقبل الصفة من صفات الكمال أكمل من التشبيه بالجماد الذي لا يقبل واحدة منها، ففررتم من تشبيهه بالحيوانات التي تقبل صفات الكمال إلى تشبيهه بالجمادات التي لا تقبل شيئاً من صفات الكمال. وهناك جواب رابع يقال لكم: وهو أنكم نفيتم عن الله قبول الوجود والعدم، وهذا النفي أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم أعظم مما نفيت عنه الوجود والعدم، فهما ممتنعان مستحيلان أحدهما أشد استحالة من الآخر، فإذا قيل: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم كان هذا مستحيلاً، فيستحيل أن يكون الشيء موجوداً وتنفي عنه الوجود والعدم، فتقول: هذا الشيء لا موجود ولا معدوم، ولكن هناك مستحيل أعظم منه، وهو الذي تنفي عنه قبول الوجود والعدم، فإذا قلت: هذا شيء لا موجود ولا معدوم فهذا مستحيل، وإذا قلت: هذا شيء لا يقبل الوجود والعدم فهذا أعلى درجات الاستحالة، وهم قالوا: إن الله لا يقبل الوجود والعدم، فشبهوه بالمستحيل الأعظم، فنفوا عن الله قبول الوجود والعدم الذي هو أعظم امتناعاً من نفي الوجود والعدم، فجعلوا وجود الله الواجب سبحانه وتعالى الذي وجوده أكمل من وجود كل موجود غاية الممتنعات وغاية المستحيلات، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والله سبحانه وتعالى وجوده أظهر من كل موجود، وكل موجود لا بد من أن يرى، وليس هناك موجود لا يرى، وكلما كمل وجود الشيء كان أحق بأن يرى من غيره، والله تعالى أكمل وجوداً، ووجوده أكمل من وجود كل موجود، فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم، قال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] أي: القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، ولكن امتنعت وانتفت رؤيته في الدنيا؛ لأن البشر لا يتحملون رؤية الله عز وجل في الدنيا، ولا يثبتون لرؤية الله، ولهذا لما سأل موسى ربه أن يريه نفسه فقال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال الله له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وإذا كان الجبل لم يثبت أمام رؤية الله واندك، فكيف بالبشر الضعيف الناقص؟! فلا يمكن أن يتحمل إنسان رؤية الله ولن يثبت لها، وقد ثبت هذا في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر الأقوال في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في ليلة المعراج

ذكر الأقوال في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في ليلة المعراج الصواب من أقوال العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه ليلة المعراج، والصواب كذلك أنه لم يرَ أحد غير نبينا الله سبحانه وتعالى في الدنيا أبداً، وفي رؤية نبينا خلاف بين أهل العلم، أما غير نبينا صلى الله عليه وسلم فاتفق العلماء على أنه لم يره أحد، ما عدا بعض الصوفية والملاحدة والمشبهة الذين يقولون: من الممكن أن يرى الله، ويقولون: إن الله ينزل عشية عرفة على الجبل ويصافح ويسامر ويعانق، وقال بعضهم: إنه يندم ويحزن ويبكي -تعالى الله عما يقولون- كما تقول اليهود، وكذلك بعض الصوفية يقولون: إن الله قد يوجد في الخضرة أو في كل خضرة، فلا ندري لعل الله ربنا يكون فيها، فهؤلاء شذوا ولا عبرة بهم، وقد اتفق العلماء على أن الله لم يره أحد في الدنيا من جميع المخلوقين ومن جميع الأنبياء والمرسلين، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم على خلاف، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الأرض، واختلفوا في رؤية النبي لربه ليلة المعراج على ثلاثة أقوال: القول الأول: رآه بعين رأسه. القول الثاني: لم يره. والقول الثالث: التوقف. وجاء في رواية عن الإمام أحمد أن روي عن ابن عباس أنه قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] قال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وفي رواية: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينيه، وكذلك روي عن الإمام أحمد أنه رآه. وذهب إلى هذا النووي في شرح مسلم، أي أن النبي رأى ربه بعيني رأسه، وذهب إلى هذا الهروي أيضاً، وجماعة أبي الحسن الأشعري قالوا: إن النبي رأى ربه في ليلة المعراج. والصواب القول الثاني، وهو أن النبي لم ير ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بعين قلبه، وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على مسروق لما قال لها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب. فالصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه (أنه سأل رسول صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي لفظ: (نور أنى أراه؟!). ولما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام، وهو أن الله تعالى حجابه النور، فلو كشف النور لأحرقات سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ومحمد من خلقه عليه الصلاة والسلام، ولأن الرؤية نعيم ادخره الله لأهل الجنة. فالله تعالى وجوده أكمل من وجود كل موجود، لكن تعذرت رؤيته في الدنيا بسبب ضعف البشر، وعدم تحمل البشر رؤية الله، ولكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يثبتون فيها لرؤية الله ويتحملون رؤيته، فهم يرون الله في الموقف في يوم القيامة، ويرونه سبحانه وتعالى في الجنة، بل إن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة أكمل نعيم، وأعظم نعيم يلقاه أهل الجنة، حتى إنهم ينسون جميع ما هم فيه من النعيم، وهي الزيادة التي قال الله تعالى فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] نسأل الله الكريم من فضله، فأعظم نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤية الله في الآخرة، فادخرها الله سبحانه وتعالى لهم.

اختلاف العلماء في رؤية أهل الموقف لربهم عز وجل

اختلاف العلماء في رؤية أهل الموقف لربهم عز وجل اختلف العلماء في رؤية أهل الموقف لربهم، فمن العلماء من قال: يراه أهل الموقف جميعاً مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار، ومنهم من قال: يراه المؤمنون والمنافقون فقط، وهذا له أدلة، كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد) فتتبع اليهود غزيراً، وتتبع النصارى معبودها، فيتساقطون في النار، ويساقون إلى النار، وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيتجلى الله لهم سبحانه وتعالى، فيسجد له المؤمنون، ويذهب المنافقون ليسجدوا، فيجعل الله ظهر كل واحد منهم طبقة لا يستطيع بسببها السجود، قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] فهذه علامة جعلها الله للمؤمنين، وهي الكشف عن ساقه، فهي علامة بينه وبينهم، فإذا رأوه سجدوا، والمنافقون كانوا مع المسلمين في الدنيا يظهرون الإسلام، فظنوا أن هذه الكونية تنفعهم، ولذلك يسير المؤمنون والمنافقون جميعاً ومعهم النور، ثم ينطفئ نور المنافقين، فيقول المنافقون وهم في الظلمة للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: قفوا حتى نقتبس، ولا يزال بهم خداعهم -والعياذ بالله- حتى في موقف القيامة، فقالوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} ثم يقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم؟! {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:14 - 15]، فإذا انقطع المنافقون قالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فلما انفصلوا وبقوا في الظلمة صاروا ينادون المؤمنين: ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) [الحديد:13] أي: أعطونا شيئاً من النور. ولا فائدة في ذلك، فقد ذهب البهرج والباطل، وظهر الحق، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه ولزوم الصراط المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ إنه على كل شيء قدير.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على الرافضة وكيفية معاملتهم

الحكم على الرافضة وكيفية معاملتهم Q هل الرافضة اللذين في هذه البلاد يعاملون معاملة المنافقين، حيث إننا سمعنا سماحة الشيخ عبد العزيز يقول بهذا، فهل يعاملون بأن ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر والشرك؟ A الشيعة طبقات، وقد ذكر أصحاب المؤلفات الذين ألفوا في الفرق -كـ الشهرستاني وغيره- أن الشيعة طبقات، وأنهم يبلغون اثنتين وعشرين طبقة وفرقة أو أكثر، وأن منهم الغلاة، ومنهم المتوسطين، فمنهم الغلاة الذين يزعمون أن الله حل في علي من نصيرية وغيرهم، هؤلاء ملاحدة كفار بإجماع المسلمين. ومنهم المخطئة الذين يخطئون جبريل ويقولون: إنه أخطأ في الرسالة، فإن الله أرسله إلى علي فأخطأ فأوصلها إلى محمد، فخان الأمين وصده عن حيدرة الحق، ويقولون: إنهم الآن حينما يصلون يضربون أفخاذهم، وهذه إشارة إلى الخيانة، فهؤلاء كفار بلا إشكال. ,من الرافضة من يزعم أن القرآن طار ثلثاه، ولم يبق إلا الثلث، وأن هناك مصحف فاطمة، وقد ذكر هذا في كتب الشيعة، مثل الكافي وغيره، فهذا كفر وردة بلا إشكال، فمن زعم أن القرآن طار ثلثاه ولم يبق إلا الثلث فقد كذب الله في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وكذلك من كان منهم يتوسل بالأئمة الإثني عشرية، ومعروف أن الرافضة يتوسلون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، لكن نص على أئمة منصوصين معصومين، فنص على أن الخلفية بعده علي بن أبي طالب ثم بعده الحسن بن علي، ثم الحسين بن علي ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم على بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم الخلف الحجة المهدي المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامراء سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن، يقول شيخ الإسلام: مضى عليه في زمنه أربعمائة سنة، ونحن نقول: مضى عليه ألف ومائتا سنة ولم يخرج، ويزعمون أنه في سرداب سامراء، ويتوسلون بهم ويعبدونهم من دون الله، وقد سمع أن بعض الرافضة الخمينيين يتوسلون عند الكعبة بهؤلاء الأئمة، فيبدءون بـ علي فيقولون: يا علي! يا ولي الله! اشفع لنا. ثم ينتقلون إلى الحسن ثم الحسين حتى يصلوا إلى السرداب، فمن فعل ذلك فهو مشرك؛ لأنه عبد أهل البيت، وكذلك من كان يسب الصحابة كلهم ولا يستثني أحداً منهم، فهذا كفر وردة؛ لأنه سب للدين الذي حملوه، فهم يقولون: إن الصحابة كفروا وارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخفوا النصوص التي تنص على أن الخليفة بعده علي، فإذا كان الصحابة -كما يقوولون- كفاراً مرتدين فكيف نثق بهذا الدين الذي حملوه؟! إن الذين حملوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، فإذا كانوا كفاراً وفساقاً فكيف نثق بهذا الدين؟! وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله كفر من سب الصحابة جميعاً من قول الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح في وصف الصحابة: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] قال: من أغاظه الصحابة فهو كافر بنص القرآن، والصحابة يغيظون الرافضة. فالمقصودأن الذي يسب الصحابة جميعاً أو يتوسل بهم أو يعبدهم من دون الله أو يدعي أن القرآن طار ثلثاه أو يخطئ جبريل في الرسالة -وأعظم منه أن يدعي أن الله حل في علي - كافر بلا إشكال بإجماع المسلمين، أما من سب الواحد أو الاثنين، كأن سب معاوية فقد لا يكون كافراً، وهم الزيدية، فهناك فرق من الزيدية ليسوا كفاراً، وإنما هم مبتدعة.

حكم صلاة الرجل خلف الكافر والمبتدع

حكم صلاة الرجل خلف الكافر والمبتدع Q ما حكم من صلى الفجر خلف رجل من الإباضية، وبعد الصلاة تبين له أنه من دعاة الإباضية؟ A يختلف الحكم باختلاف عقيدته، فإن كان يعتقد شيئاً يوصله إلى الكفر فليعد الصلاة، وإن كان يعتقد عقيدة توصله إلى البدعة لا إلى الكفر فلا يعيد الصلاة، والمعروف عند الجمهور أن الخوارج مبتدعة، والصواب أن الفاسق تصح الصلاة خلفه؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، أما الكافر، فلا تصح الصلاة خلفه، فإذا كان كافراً، أو إذا كانت بدعته توصله إلى الكفر فإنه يعيد الصلاة، وإذا كانت بدعته لا توصله إلى الكفر فلا يعيد الصلاة، ولا أدري عن حال هذا الرجل الذي صلي خلفه.

الرد على ما استدل به الحلولية من الآيات القرآنية

الرد على ما استدل به الحلولية من الآيات القرآنية Q ما صحة القول بأن الذي جعل الذين يقولون بالحلول هو قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، وقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، وما هو الرد الصحيح عليهم؟ A نعم هذا من شبههم، كما ذكر الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والملاحدة، قال: إنهم وجدوا هذه الآيات: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] لكن ضلوا، ومعنى الآية: وهو الله سبحانه يعلم، فقيدها بالعلم، فالله سبحانه وتعالى يعلم سركم وجهركم، وعلمه في السماء كما أن علمه في الأرض، فعلمه في السماء والأرض، وأما هو سبحانه فهو فوق العرش؛ لأن نصوص الاستواء والعلو محكمة، فلا يتعلق الإنسان بالمتشابه، قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في سبعة مواضع من كتاب الله، وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في صحيح مسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة). فكيف تترك النصوص المحكمة وتذهب إلى التعلق بالمتشابه؟! فالواجب أن يضم المتشابه الذي فيه إشكال إلى النصوص المحكمة ويفسر بها ليزول الإشكال. أما الذي يتعلق بالمتشابه ويترك النصوص المحكمة -كنصوص العلو والفوقية- فهو سالك طريقة أهل الزيغ، وقد ذكر العلماء أكثر من ثلاثة آلاف دليل كلها تدل على علو الله، وأنه فوق العرش، فكيف نترك هذه الأدلة ونتعلق ببعض النصوص التي فيها اشتباه وفيها احتمال وفيها إشكال؟! فهذه طريقة أهل الزيغ. أما أهل الحق فإنهم يفسرون المتشابه بالمحكم فيتضح معناه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ويتركون المحكم، قالت عائشة رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فهم الذين سمى الله فاحذروهم، أو كما قالت رضي الله عنها، وأظن أن هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم قول بعض أهل التصوف: (خضت نهرا وقف الأنبياء على ساحله)

حكم قول بعض أهل التصوف: (خضت نهراً وقف الأنبياء على ساحله) Q كيف نرد على من يفسر قول بعض أهل التصوف: (خضت نهراً وقف الأنبياء على ساحله) بأن المعنى: إنني خضت نهراً في حين أن الأنبياء خاضوه ووقفوا على ساحله الآخر، إذ إن بعض الناس يقولون: أنتم لا تفهمون معاني أقوال هؤلاء العارفين؟ A هذا كلام فاسد، وما دام أنه قول لبعض المبتدعة فلا نشتغل بتحليله، وهو قول باطل وفاسد المعنى، ولم يتضح لي معناه، ولا أدري ما المراد به.

صلة الإباضية بالمعتزلة

صلة الإباضية بالمعتزلة Q هل يعد الإباضية من المعطلة؟ A معروف أن الخوارج في الغالب سلكوا مسلك المعتزلة في نفي الصفات، والخوارج والإمامية قدماؤهم أحسن من المتأخرين، فالقدماء في الغالب يثبتون الصفات، والمتأخرون ينفون الصفات كالمعتزلة، فالغالب أنهم يسلكون مسلك المعتزلة في هذا.

طبقات الناس عند الصوفية

طبقات الناس عند الصوفية Q ما هو موقف الصوفية من القرآن الكريم؟ A الصوفية طبقات، وهم يقسمون الناس إلى طبقات، والكلام فيهم نفس الكلام في الاتحادية، فهم يقولون: الناس طبقات: عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة، ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين، فالعامة هم الذين عليهم التكاليف، فيقرءون القرآن ويصلون ويصومون ويدعون ويخافون الله ويرجونه. والخاصة: هم الذين ألغوا صفاتهم وأفعالهم فجعلوها صفات لله، وعلم الواحد منهم أن ما قدر سيكون، ووصل إلى هذه المرتبة من العلم، فتسقط عنه التكاليف، فلا يكون عنده طاعة ولا معصية، بل جميع ما يفعله طاعات، وأما الطاعات والمعاصي فعند العامة، أما هؤلاء فقد سقطت عنهم التكاليف؛ لأنهم وصلوا إلى درجة من العلم، وألغوا صفاتهم وجعلوها صفات لله، واعتمدوا على المشيئة الكونية، فعلم الواحد أنه ما قدر سيكون، ووصل إلى العلم فسقطت عنه التكاليف، ويتأولون قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فقالوا: أي: إذا وصلت إلى العلم فقد انتهت العبادة. أي: واعبد ربك حتى تصل إلى العلم. فعلم الصوفية يسقط العبادة، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، فمن قال: إن أحداً تسقط عنه التكاليف وهو مكلف بالغ عاقل -إلا الحائض تسقط عنها الصلاة- وعقله قائم فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه ليس هناك أحد تسقط عنه التكاليف أبداً إلا المجنون أو الصغير أو الشيخ المخرف أو الحائض والنفساء، ولا تسقط عنهما إلا الصلاة فقط، فهؤلاء يسقطون التكاليف والعياذ بالله، ويقولون: إن العامة هم أهل الشريعة، فعندهم طاعات ومعاص وتكاليف، أما الخاصة فهم أهل الحقيقة ليس عندهم طاعات ومعاصٍ، بل كل ما يصدر عنهم طاعات، وليس عليهم تكاليف، فالكافر لو صدر عنه الكفر فهو طاعة، والعاصي لو صدر عنه المعصية فهي طاعة. والطبقة الثالثة خاصة الخاصة، ويسمون أهل التحقيق، وهم الذين يقولون: إن الوجود واحد، فليس عندهم طاعات ولا معاص، وهم الذين اتحد وجود الموجودات عندهم، وصار الوجود هو الرب وهو العبد، وهؤلاء يسمون أهل التحقيق عندهم، والأذكار مقسمة على حسب الطوائف الثلاث: فذكر العامة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، أما الخاصة فلا يحتاج الواحد منهم إلى أن يقول: لا إله إلا الله، بل يأخذ لفظ الجلالة ويكرره: الله الله، الله الله، الله الله، وقد ذكر بعض الإخوان أنه سافر إلى إفريقيا ورأى أناساً من بعد العصر إلى المغرب يكرر أحدهم فيقول: الله الله، الله الله، الله الله، حتى يغشى عليه ويسقط. والخاصة يستدلون على قولهم: (الله)، -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله- بقول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91] فقوله تعالى: (قل الله) هو دليل الخاصة. وأما خاصة الخاصة فذكرهم هو الهاء فقط، فلا يحتاجون إلى أن يقولوا: (الله)، بل تأخذ الهاء، فيقولون: هو، هو، وهي وهوهة كالكلاب، فهذا ذكرهم، ويقولون: عندنا دليل من القرآن على أن ذكر خاصة الخاصة: (هو هو)، وهو قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] والتقدير حسب زعمهم: (وما يعلم تأويل (هو) إلا الله)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فقلت لهم: لو كانت كما تقولون لصارت أيضاً: وما يعلم تأويله هو إلا الله. وأما الخاصة الذين يقولون: (الله الله)، فهم موجودون الآن في إفريقيا، وفي غير إفريقيا، والصوفية هؤلاء الذين يوهوهون بقولهم: (هو هو)، موجودون، والعياذ بالله. وابن عربي رئيس وحدة الوجود ألف كتاباً سماه كتاب الـ (هو)، وحكي أن بعض الصوفية الآن من خاصة الخاصة إذا أذن المؤذن شتمه، وإذا نبح الكلب أو الحمار أثنى عليه، ويقولون: لأن الحمار والكلب ينسيك كل شيء، فليس في الوجود إلا الله، أما المؤذن حين يؤذن فقد أثبت وجودين، أثبت نفسه وأثبت ربه، فيقول: الله أكبر، فالمؤذن مشرك؛ لأنه أثبت وجودين، بخلاف الحمار والكلب، ولما قيل لبعضهم: إن القرآن يخالف ما أنتم تقولونه، قالوا: القرآن كله من أوله إلى آخره شرك، والحق ما نقوله، والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية. ولا تظن -أيها المسلم- أن هذه الأشياء غير موجودة، بل هي موجودة الآن في باكستان وفي أفريقيا، وتجد في البلد الواحد خمسين طريقة، ومائة طريقة، وكل طريقة لها شيخ، وكلها توصل إلى النار، كالقادرية، والنقشبندية، والشاذلية، إلى آخره، وكلها طرق توصل إلى النار، والعياذ بالله. ومنها الطريقة المبتدعة، ومنها ما يُوصل إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك، وبعضهم يذكرون ويذكرون ويدورون حتى يسقط أحدهم ويغمى عليه، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه.

الجمع بين بعث الميت المحرم بملابسه وحشر الناس عراة

الجمع بين بعث الميت المحرم بملابسه وحشر الناس عراة Q روي أنه (من مات على شيء بعث عليه) هل معنى ذلك أن الذي يموت محرماً يبعث في إحرامه، وكيف نجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)؟ A ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة محرماً في حجة الوداع فوقصته ناقته فسقط، فاندقت عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفنوه في ثوبين وجنبوه الطيب، ولا تخمروا رأسه -وفي بعض الروايات: ولا وجهه- فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) وهذا وصف بأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ولكن لا ينافي هذا كونهم يبعثون حفاة عراة، فكونه يلبي وهو حاف عار ليس على رأسه شيء وليس عليه ثياب لا يمنع ذلك، والناس يبعثون حفاة، أي: لا نعال عليهم، عراة: لا ثياب عليهم، غرلاً: غير مختونين، وجاء في الأثر أن عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأمر أشد من ذلك) وقد يحصل للإنسان أمر يذهله حتى لا يدري عن نفسه، وينسى كل شيء، وهذا معروف الآن، فإذا حصل للإنسان أمر يذهله فإنه ينسى الأكل والشرب، ولا يرى ما أمامه، فكيف بالأمر العظيم حينما يحصل، حين ينفخ في الصور ويخرج الناس من قبورهم؟! فهل يكوي أحد على أحد يوم القيامة كما كان يلوي عليه في الدنيا؟! أنه إذا دهش ينسى الأكل، وينسى الشرب، وينسى من أمامه، ولا يرى من حوله، وقد يحصره البول فيبول ولا يحس بشيء، فكيف بمثل هذا؟! وثبت أن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهذه منقبة عظيمة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ما انتهى إليه بصره من خلقه)

بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ما انتهى إليه بصره من خلقه) Q هل ينتهي نور الله تعالى؛ لما جاء في الحديث: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)؟ A قوله صلى الله عليه وسلم: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني: ما يصل إليه من خلقه يقيده، و (ما): موصولة بمعنى: الذي.

[4]

دروس في العقيدة [4] لقد ظهر في عصور الإسلام طوائف انحرفت في فهم مراد الله تعالى وحادت عن منهجه فيما يتعلق بما سمى به نفسه تعالى من الأسماء الحسنى واتصف به من الصفات العليا، ومن هؤلاء طائفة الجهمية الذين غلوا في نفي صفات الله وأسمائه عنه تعالى فمنهم من قال بنفي النقيضين عن الله تعالى، ومنهم من وصل به الحال إلى القول بالحلول والاتحاد، ومن المنحرفين في ذلك المعتزلة الذين أثبتوا أسماء الله تعالى ونفوا مدلولها ونفوا صفاته تعالى، ثم أسسوا مذهبهم على تقديس العقل، متكئين على أصول خمسة عارضوا بها أركان الإيمان وتدينوا بها.

إثبات التوحيد لله وبيان ضلال الجهمية في ذلك

إثبات التوحيد لله وبيان ضلال الجهمية في ذلك يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. يدخل في هذه الجملة التي قررها الإمام الطحاوي رحمه الله أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع من النصوص الشرعية، وهي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وقد عرفنا أن توحيد الربوبية جحدته بعض الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية. وعرفنا أن توحيد الأسماء والصفات انحرفت فيه فرق المعطلة عن جادة الصواب، فلم يوحدوا الله في أسمائه وصفاته. وعرفنا أن فرق المعطلة ثلاث: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأن فرقة الجهمية هي أصل الفرق في التعطيل؛ لأنهم ينفون أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

طوائف الجهمية

طوائف الجهمية يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. يدخل في هذه الجملة التي قررها الإمام الطحاوي رحمه الله أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع من النصوص الشرعية، وهي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وقد عرفنا أن توحيد الربوبية جحدته بعض الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية. وعرفنا أن توحيد الأسماء والصفات انحرفت فيه فرق المعطلة عن جادة الصواب، فلم يوحدوا الله في أسمائه وصفاته. وعرفنا أن فرق المعطلة ثلاث: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأن فرقة الجهمية هي أصل الفرق في التعطيل؛ لأنهم ينفون أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

الجهمية الحلولية والاتحادية

الجهمية الحلولية والاتحادية والجهمية: هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان، وهم طائفتان، ويجمع هاتين الطائفتين نفي الأسماء والصفات، ونفي العلو واستواء الرب سبحانه وتعالى على عرشه. فالطائفة الأولى: المتقدمون، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد، فقد قالوا بحلول الرب في جميع الأشياء، أو باتحاده معها، أي أنه اتحد مع جميع الموجودات، فصار الموجود شيئاً واحداً، ومن هؤلاء الاتحادية رئيسهم ابن عربي الطائي الذي تدرج في القول بالحلول والاتحاد، وسلك مسلك المنافقين الزنادقة، فزعم في أول الأمر أن النبوة ختمت بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الولاية لم تختم، وإنما ختمت به، فهو يزعم أنه خاتم الأولياء، ويزعم أن الولاية أعظم درجة من النبوة، وأن الأنبياء مستفيدون من الولاية، وقال: إن الولاية هي أعلى درجة، ثم تليها النبوة، ثم تليها الرسالة، هكذا زعم! فهي عنده آخر المراتب، ولهذا يقول: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فقوله: (مقام النبوة في برزخ)، يعني: في مكان متوسط، وقوله: (فويق الرسول ودون الولي)، أي: مقام النبوة أعلى من مقام الرسول، ولكنه دون مرتبة الولي. فهذه الطائفة الأولى من الجهمية، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين قالوا بحلول الرب في خلقه، أو باتحاده معهم، فهذا التوحيد -أعني توحيد الجهمية، وهو القول بنفي الأسماء والصفات- قد أوصل قوماً إلى القول بالحلول، وأوصل آخرين إلى القول بالاتحاد. وتوحيدهم هذا له فروع، ومن فروعه القول بأن فرعون وقومه على الحق والصواب! وأن فرعون حينما ادعى الألوهية وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] مصيب؛ لأن الرب حل في جميع الأشياء، أو لأنه اتحد بها. ومن فروع توحيدهم هذا أن عباد الأصنام على الحق والصواب! لأنهم إنما عبدوا الله لا غيره، وكل من عبد معبوداً فهو مصيب، سواء أكان المعبود ناراً، أم صليباً، أم شجراً، أم شمساً، أم قمراً، أم آدمياً، أم جنياً، أم ملكاً، أو ما شاء أن يعبد، فالعابد مصيب؛ لأن الخالق والمخلوق واحد، أو لأن الرب حل في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ومن فروع هذا التوحيد أنه لا فرق في التحريم بين الأم والأخت وبين الأجنبية، بل ليس هناك شيء حرام! ولا فرق في التحريم والتحليل بين الزنا والنكاح! ولا فرق في التحليل والتحريم بين الماء والخمر! لأن الكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة. ومن فروع هذا التوحيد أن الأنبياء ضيقوا على الناس، أبعدوا عنهم المقصود؛ حيث فرقوا بين الزنا والنكاح، فالزنا حرموه، والنكاح أباحوه، وفرقوا بين الخمر والماء، فالخمر حرموه، والماء أباحوه، وفرقوا بين الأم والأخت وبين الأجنبية، فالأم والأخت حرموهما، والأجنبية أحلوها، فهم ضيقوا على الناس بمثل هذا وأبعدوا عنهم المقصود، والأمر عندهم وراء ذلك كله. فهذه هي فروع توحيدهم هذا ولوازمه.

الجهمية القائلون بنفي النقيضين

الجهمية القائلون بنفي النقيضين والطائفة الثانية من الجهمية هم الذين يقولون بنفي النقيضين عن الله، وسلبهما عنه، فيقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه. وهذا وصف المعدوم، بل هو وصف الممتنع، ولو أردت وصف المعدوم بأكثر من هذا لما استطعت، فعجيب أن يكون شيء لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ومعنى (ولا محايث له)، ليس داخله، فالمحايث: الداخل، وهو -أيضاً- لا متصل به ولا منفصل عنه، فماذا يكون هذا؟! هل يكون له وجود؟! فهؤلاء هم المتأخرون من الجهمية، وأولئك هم المتقدمون من عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد. ويقول بهذا القول -أيضاً- بعض المتأخرين من الأشاعرة، كـ الرازي، بل هو إمام المتأخرين من الأشاعرة، وقد قرر هذا في كتبه المتعددة كأساس التقديس وغيره، وهو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، فـ الرازي قال بقول الجهمية، لكنه أشعري، فهو أشعري جهمي يقول بنفي النقيضين عن الله، وكلتا الطائفتين قد قالت على الله قولاً عظيماً.

حكم الجهمية

حكم الجهمية ولو سأل سائل: أي الطائفتين أشد كفراً؟ نقول: الطائفة الثانية عند العلماء -وهم الذين نفوا وسلبوا عن الله النقيضين- أشد كفراً من الطائفة الأولى، أي: طائفة الحلولية؛ لأن الحلولية أثبتوا شيئاً حالاً في شيء، لكن طائفة النفاة أو الذين يسلبون النقيضين عن الله لم يثبتوا شيئاً، وقد اختلف العلماء في تكفير الجهمية، فهل هم كفار أو ليسوا بكفار؟ فمن العلماء من أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة من فرق أمة الإسلام، فقال: إنهم كفار، وليسوا داخلين في فرق الأمة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة). فقال بعض العلماء: الجهمية خارجون عن فرق الأمة، فهم كفار، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنه قد كفرهم خمسمائة عالم، فقال في نونيته: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان وهناك نصوص كثيرة لعلماء الأمة في تكفير الجهمية نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه، ونقلها غيره، ومن ذلك قول عبد الله بن المبارك رحمه الله الإمام المعروف: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نحكي قول الجهمية. يعني: نستطيع أن نحكي قول اليهود، ولكن لا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية؛ لخبثها وشرها وشناعتها وبشاعتها وإيغالها في الكفر. ومن العلماء من قال: إنهم مبتدعة. ومن العلماء من فرق بين الغلاة وبين العامة، فقال: الغلاة كفار، وعامتهم مبتدعة. وعلى كل حال فإن من قال بقول الجهمية وهو يعلم ذلك، وليس عنده شبهة، وليس جاهلاً؛ فلا شك في كفره، كالمعاند والمتعنت، ورؤسائهم الذين يعلمون ذلك، فهؤلاء لا شك في كفرهم، أما من كان جاهلاً، أو تابعاً لغيره، فهذا هو محل النظر.

إبطال شبه الجهمية بالأدلة الشرعية

إبطال شبه الجهمية بالأدلة الشرعية يرد على هؤلاء الجهمية وغيرهم بقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:64 - 65]، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة أنه أرسل الرسل ليطاعوا، وأمر بطاعتهم، وأمر بطلب الاستغفار منهم، ونفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول في موارد النزاع أو كان في نفسه حرج من حكم الله ولم يسلم لحكم الله ورسوله تسليماً كاملاً. ومن الأدلة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن علامة محبة الله اتباع الرسول، فمن اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من أحباب الله، ومن خالف الرسول فهو من أعداء الله، ومن لم ينقد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل بإرادة نفسه، وهذا غش للنفس، وهو من الكبر. وإذا كان الذين يقولون: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل الرسل كفاراً، فكيف بمن قال: إنه أعلى من الرسل؟! ولكن هؤلاء الجهمية -والعياذ بالله- استحوذ عليهم الشيطان فأعرضوا عن النصوص، ولم يعملوا بها، واتخذوها وراءهم ظهرياً، ولذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الضلال والتيه، نسأل الله السلامة والعافية. وظاهر النصوص، وظاهر كلام العلماء يوحي بأن الجهمية كفار، وأنه ليس معهم من الإيمان أو الدين شيء، ولهذا قال كثير من العلماء -وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله-: إن كلام الجهمية يدور على أنه ليس فوق العرش إله ولا رب، وقد رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله في رسالة له صغيرة الحجم، لكنها عظيمة المعنى والمتن، تسمى الرد على الزنادقة، أو الرد على الجهمية والزنادقة، وهي رسالة صغيرة مطبوعة، وكثيراً ما ينقلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وينقل نصوصاً منها في كثير من كتبه، حتى إنه ربما نقلها كلها، وفرقها في كتبه، فهي رسالة عظيمة على صغر حجمها.

عقائد الجهم بن صفوان

عقائد الجهم بن صفوان قبل أن ننتقل إلى فرقة المعتزلة لابد من أن نبين أن جهم بن صفوان قبحه الله اشتهر بأربع عقائد: العقيدة الأولى: عقيدة نفي الأسماء والصفات، وورثها عنه المعطلة من المعتزلة وغيرهم بعد الجهمية. العقيدة الثانية: عقيدة الإرجاء، وهو القول بأن الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب فقط، والكفر هو مجرد جهل الرب بالقلب، وأما الأعمال فليست من الإيمان، بل تكفي هذه المعرفة، فإذا عرف الإنسان ربه بقلبه فهو مؤمن، وإذا جهل ربه بقلبه فهو كافر، وورثها عنه المرجئة، ويلزم على هذه العقيدة أن يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه عرف ربه، قال الله تعالى عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]. ويلزم على ذلك أيضاً أن يكون فرعون مؤمناً؛ لأن فرعون عرف ربه بقلبه، قال الله تعالى عنه وعن ملئه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. ويلزم على هذه العقيدة أن يكون اليهود مؤمنين؛ لأن الله تعالى قال عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] يعني: يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام. وكذلك يلزم على هذه العقيدة أن يكون أبو طالب الذي دل الحديث الصحيح على أنه مات على الكفر مؤمناً؛ لأن أبا طالب يعرف صدق الرسول، ويعرف أن الدين حق، ولهذا يقول في قصيدته المشهورة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً فيكون مؤمناً على مذهب الجهم، وقد ثبت في صحيح البخاري أن أبا طالب مات على الشرك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جاءه وأمره بأن يتشهد شهادة الحق، وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله) لكن كان عنده قرينا السوء فلقناه الحجة الملعونة، وهي اتباع الأباطيل، فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! أي: أترغب عن ملة أبيك عبد المطلب؟! وهذا من أضرار قرناء السوء والعياذ بالله، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه أصحاب الحجة المعلونة قولهم: تترك ملة آبائك وأجدادك؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، ومات على الشرك، نسأل الله السلامة والعافية، لكنه عند الجهم مؤمن؛ لأنه عرف أن الإسلام حق ولو لم يدخل فيه، نسأل الله السلامة والعافية. العقيدة الثالثة: عقيدة الجبر، وهو القول بأن الإنسان ليس له أفعال، وإنما أفعاله هي أفعال الله، وتنسب إليه على سبيل المجاز، فالصلاة والصيام، والسرقة وغيرها كلها أفعال لله، والعياذ بالله، فالأفعال أفعال الله، والإنسان وعاء لها فقط، وإنما تمر عليه مروراً كالماء الذي يصب في الكوب، فهم يقولون: بنوا آدم كأنهم كأس، والله كصاب للماء فيه، فالأفعال أفعاله، وهذه هي عقيدة الجبر، وأول من قال بها وابتدعها الجهم، وورثها عنه الجبرية. العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار، أي أن الجنة والنار تفنيان.

أصول المعتزلة في الاعتقاد

أصول المعتزلة في الاعتقاد

التوحيد

التوحيد فاشتهر بهذه العقائد الأربع، قبحه الله وأخزاه. وورثت المعتزلة عن جهم نفي الصفات، وهم الفرقة الثانية من فرق المعطلة، وهم يقولون بالنفي، إلا أنهم أخف منهم؛ لأن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات لله عز وجل، وأما المعتزلة فهم يثبتون الأسماء وينكرون الصفات، فتقول المعتزلة: نؤمن بأن الله عليم حي قدير سميع مسمى بهذا، لكن ليس له علم، ولا سمع، ولا بصر! أي: يثبتون الأسماء أعلاماً محضة فقط، فهو عندهم عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا يثبتون الأسماء وينفون الصفات، وهذا داخل في أصلهم الذي أصلوه؛ لأن المعتزلة لهم أصول، فأصول الإيمان عندهم خمسة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعتزلة فرقة منتشرة كثيرة، ولهم مؤلفات وأئمة، فمنهم المفسرون، كـ الزمخشري، وهو إمام طائفة تسمى: الزمخشرية، وله كتاب الكشاف، وينبغي لطالب العلم أن يكون على حذر من بدع هذه الطائفة، وأن يكون على بصيرة من أمره، وكتاب الكشاف للزمخشري -وهو إمام من أئمة المعتزلة عموماً وإمام الزمخشرية خصوصاً- قد يجرك إلى مذهب الاعتزال وأنت لا تشعر إذا لم يكن عندك حذر، ولم تكن على بصيرة، ولهذا قال البلقيني رحمه الله: استخرجت من كتاب الكشاف للزمخشري اعتزالاً بالمناقيش. أي: بالإبر؛ لأنها شيء مخفي، ومنها أنه قال في قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:185] قال الزمخشري تعليقاً عليها: أي فوز أعظم من الجنة؟! قال البلقيني: وقصده من ذلك إنكار رؤية الله في الآخرة؛ لأن رؤية الله أعظم فوز، وأعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، فهذا من الأشياء الخفية، فهو يريد أن يقرر أن المؤمنين لا يرون ربهم يوم القيامة. فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرقة، وشبهها، ومعتقداتها حتى يحذرها، وحتى يكون على بصيرة. والمعتزلة قرروا أصول الإيمان عندهم، أما أصول الإيمان عند أهل الحق فهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهي ستة أصول، ومنهم من يجعلها خمسة، ويجعل الإيمان بالقدر داخلاً في أصل الإيمان بالله، لكن المعتزلة استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقالوا: أصولنا غير هذه الأصول التي عندكم أهل السنة، فأصول الدين عندنا هي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنىً باطلاً، فإذا أردت أن تعرف مرادهم من التوحيد تجدهم يريدون بالتوحيد غير ما يريده أهل السنة والجماعة، والعدل كذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك. فنفي الصفات داخل تحت الأصل الأول، فستروا تحت التوحيد القول بنفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، هذا هو التوحيد عند المعتزلة!! فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم، ومن أثبت رؤية الله في الآخرة أو قال: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم.

شبهة المعتزلة في القول بخلق القرآن والرد عليها

شبهة المعتزلة في القول بخلق القرآن والرد عليها تقول المعتزلة: إن القرآن خلق من المخلوقات، ودليلنا قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وكلام الله شيء من الأشياء، فيكون داخلاً في عموم الكل، إذاً: فهو من المخلوقات، وهذه من شبههم العظيمة. وأجاب أهل الحق عن هذه الشبهة بأجوبة، منها أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق بذاته وصفاته، فليست صفاته منفصلة عنه، وليست صفاته شيئاً آخر، بل هو سبحانه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فلا تدخل الصفات ولا يدخل كلام الله في عموم الكل؛ لأن أسماء الله وصفاته داخلة في مسمى اسمه الخالق، فهو الخالق سبحانه بذاته وصفاته، فلا يدخل الكلام، ولا العلم، ولا القدرة في الشيء المخلوق، بل هو الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فقول المعتزلة: إن الصفات نخرجها من اسم الخالق ونجعلها مخلوقة من أبطل الباطل؛ لأن الصفة تابعة للموصوف، والله بذاته وصفاته هو الخالق. ومما يدل على تعسف المعتزلة وانحرافهم أنهم أخرجوا من هذا العموم أفعال العباد، فقالوا: ليست مخلوقة لله، وأدخلوا في هذا العموم ما لا يصح دخوله، مثل كلام الله، وقالوا: نحن نخرج أفعال العباد من عموم الآية؛ لأنها لم يخلقها الله. فنقول لهم: كيف تدخلون كلام الله الذي هو صفة من صفاته في هذا العموم مع أن كلامه داخل في مسمى اسمه وتخرجون أفعال العباد من هذا العموم، وتقولون: إنها ليست مخلوقة؟! هذا يدل على تعسفكم؛ لأن أفعال العباد داخلة في هذا العموم، ولا دليل معتبر على إخراجها، وصفات الله ليست داخلة؛ لأنه بذاته وصفاته هو الخالق. ثانياً: أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، أي: يكون الخلق بالكلام، كما قال الله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقد فرق الله بين الخلق والأمر في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فعلمنا أنهما شيئان، ولو كان الكلام مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بكلام آخر، والآخر بآخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية، فيفضي هذا إلى التسلسل، وهو باطل، فثبت بهذا أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، فلا يكون مخلوقاً، وإنما يخلق الله بالكلام، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ثالثاً: يقال لهم: إن عموم الكل في كل شيء يختلف باختلاف مواضعه، فأحياناً يخرج من هذا العموم ما دل عليه الدليل، ومن ذلك أن الله تعالى قال في الريح التي أهلك الله بها عاداً: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، ثم قال: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فخرجت المساكن والأرض والسماء من هذا العموم، والمعنى -والله أعلم- أن الريح التي أرسلها الله على عاد تدمر كل شيء يستحق التدمير، ولهذا فإن المساكن ما دمرت. وكذلك قول الله تعالى حكاية عن الهدهد في ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] والمعنى: أوتيت من كل شيء يصلح للملوك، أو يكون للملوك، وهناك أشياء لم تؤتها، فكذلك عموم: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فالمراد: أن الله خالق كل شيء مخلوق، أما صفات الله فليست مخلوقة، فلا تدخل في هذا العموم. رابعاً: يقال للمعتزلة: إن الله سبحانه وتعالى توعد من قال: إن القرآن كلام البشر بأن يصليه سقر، كما قال سبحانه في الوليد بن المغيرة: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25]، ثم قال الله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وأن الله خلقه، فهو -إذاً- قول البشر، وليس كلام الله، فهم إذاً داخلون في هذا الوعيد؛ لأن الله توعد من قال: إنه قول البشر بأن يصليه سقر، والمعتزلة لا يقولون: إنه قول الله ولا كلام الله، بل يقولون: إنه قول البشر خلقه الله فيهم، فلهم نصيب من هذا الوعيد. فالمعتزلة يُدخلون في الأصل الأول الذي أصلوه -وهو التوحيد- القول بأن القرآن مخلوق، والقول بنفي الصفات.

اللوازم الباطلة التي تلزم القائل بخلق القرآن

اللوازم الباطلة التي تلزم القائل بخلق القرآن يقال للمعتزلة: أنتم نفيتم الصفات، وقلتم: إن القرآن مخلوق، فيلزمكم أحدكم أمرين: إما أن تقولوا: جميع الصفات مخلوقة كما قلتم في الكلام، وإما ألا تقولوا ذلك. فإن قلتم: إن جميع الصفات مخلوقة مثل الكلام؛ فإنه يلزمكم أن تقولوا: إن علم الله مخلوق، وقدرته مخلوقة، وحياته مخلوقة، ومن قال: إن حياة الله مخلوقة فقد وصل إلى الكفر الصريح. وإما أن لا تقولوا إن الصفات مخلوقة فتخالفون أصلكم. وإما أن تفرقوا بين الكلام وبين غيره من الصفات، فتقولوا: الكلام مخلوق، وبقية الصفات ليست مخلوقة، فتقعون في التناقض، وهو دليل فساد معتقدكم. وعلى كل حال فإن الشبهة التي يعتمدون عليها هي قولهم: لو أثبتنا الصفات لله للزم من ذلك التشبيه والتجسيم والتركيب؛ لأننا لا نرى متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، وهي مركبة. فيقال لهم: يلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الأسماء إذا نفيتم الصفات؛ لأنكم لا ترون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فكذلك انفوا الأسماء؛ لأنكم لا ترون مسمى بهذه الأسماء إلا ما هو جسم. ويقال لهم أيضاً: ما مرادكم بالتركيب؟ وما مرادكم بالجسم؟ فالجسم يطلق على عدة أمور، فهل تريدون بالجسم البدن الكثيف، فإن الذي لا يسمى جسماً في اللغة هو الشيء الخفيف، كالماء والهواء والنار، فمثل ذلك لا يسمى جسماً في اللغة العربية، فهل مرادكم بالجسم البدن الكثيف؟! إن كان هذا مرادكم فالله منزه عن ذلك، وإذا أردتم بالجسم ما هو مركب من متباينين -كالحيوان المركب من الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والمركب من أعضاء- إن أردتم هذا فالله منزه عنه، وإن أردتم بالتركيب تركيب الجوار -كمصراعي الباب- فالله منزه عن ذلك أيضاً، وإن أردتم بالتركيب التركيب من الهيولى والصورة -والهيولى هي: المادة، والصورة هي: الشكل، كالخاتم مثلاً، فهو مركب من الهيولى وهي: المادة الصلبة أو الذهب، والصورة، وهي كونه دائرياً مثلاً- فالله منزه عن هذا، وإن أردتم بالجسم ما هو مركب من الجواهر المفردة -وهي الأجزاء التي لا تقبل الانكسار- فالله منزه عن ذلك، وإن أردتم بالجسم ما هو متصل بالصفات -أي: كونه يسمع ويبصر ويعلم ويُرى يوم القيامة- فنحن نثبت هذه المعاني لله ولا ننفيها عنه، لكونكم تسمونهاً جسماً وتركيباً. وهم يقولون: من اتصف بالصفات فهو مركب، وإثبات الصفات عندهم تركيب، ونقول: هذا باطل، فنحن نثبتها لله ولو سميتموها تركيباً، فالتسمية هذه باطلة، فالله متصف بالصفات كالعلم والقدرة والبصر وسائر ما ورد في الكتاب والسنة، وهذه نثبتها لله ولو سميتموها تركيباً، وهذه التسمية لا تمنعنا من إثبات الصفات لله عز وجل؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهذه هي طريقة أهل الزيغ الضلال، فهم يسمون الحق بأسماء باطلة؛ كي ينفروا الناس عنها، والعبرة بالمعاني والحقائق، فإذا سميت الأشياء الباطلة بأسماء تتضمن معاني صحيحة لا تخرجها هذه التسمية عن كونها باطلة، وكذلك إذا سميت المعاني الحقة بأسماء باطلة، فالتسمية لن تغير حقاً، كأن يصطلح الناس -مثلاً- على تسمية الخمر تسمية لا تنفر منه، فلو سموه شراباً روحياً أو الشراب اللذيذ، فهل معنى ذلك أن يكون الخمر حلالاً؟ لا؛ لأن الخمر حرام ولو سميته شراب الروح أو الشراب اللذيذ، وكذلك إذا سمى الناس الربا بالفائدة، أو العمولة، أو الربح المركب، وهو ربا، فهذه التسميات لا تخرجه عن كونه ربا. فكذلك هؤلاء المعتزلة نقول لهم: إذا سميتم إثبات الصفات لله تركيباً فهي صفات لله نثبتها، ولا تضرنا هذه التسمية الباطلة؛ لأن العبرة بالمعاني، فهذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة، وهو التوحيد.

أصل العدل

أصل العدل الأصل الثاني من أصول المعتزلة: العدل، وستروا تحته معنى باطلاً، وهو التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق الشر، ولا يخلق المعاصي والكفر، إذ لو خلقها ثم عذب عليها لكان ظالماً، والله لا يظلم مثقال ذرة، وهكذا ستروا تحت هذا الأصل الذي سموه العدل التكذيب بالقدر، فلا يقولون: إنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بل يقولوا: هناك شيء يشاؤه الله ولا يكون، ويكون شيء لا يريده الله، ولا يقولون: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، بل يقولون: الإنسان هو الذي يهدي ويضل نفسه، فستروا تحت أصل العدل التكذيب بالقدر، والقول بأن الله لا يخلق المعاصي ولا الشرور ولا الكفر؛ لأنه لو خلقها وعذب عليها لكان ظالماً، والله عادل لا يجوز عليه هذا، هكذا يقولون! فنقول لهم: يلزم على قولكم هذا أن تقعوا في شر مما فررتم منه، وهو أنه يقع في ملك الله ما لا يريد، وأن الله يريد من العبد الإيمان والطاعة، ولكن العبد يريد من نفسه الكفر والمعصية، فتقع إرادة العبد ولا تقع إرادة الله، فيلزم من ذلك أن يقع في ملك الله ما لا يريد، ويلزم من ذلك وصف الله بالعجز، فيكون الله مريداً من العبد الإيمان والطاعة والعبد يريد المعصية والكفر، فتقع إرادة العبد ولا تقع إرادة الله، فيكون الله عاجزاً! والعياذ بالله. فوقعوا في شرور أعظم من التي فروا منها. أما الذي دلت عليه النصوص ويعتقده أهل السنة فهو أن الله خالق كل شيء، وأن كل ما في الكون خالقه الله، من المعاصي والكفريات وغيرها، وله الحكمة البالغة في ذلك، لكن العبد هو الذي باشر الكفر والمعاصي، وله قدرة واختيار، ولهذا فإن الذي فقد آلة التكليف لا يلزم به، فالمجنون والصغير والشيخ الخرف لا يكلفون، بخلاف القادر على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فهذا يكلف؛ لأن عنده آلة التكليف، وقدرة يستطيع بها على الفعل والترك، فأنت الآن تستطيع أن تذهب وتأتي، ولا يمنعك أحد، والناس يدركون هذا، فالإنسان إذا كان عنده عبد مقعد لا يأمره بالقيام، وإذا كان عنده أعمى لا يقول له: انقط المصحف؛ لأنه غير قادر، والله تعالى له الحكمة البالغة.

المصالح المترتبة على خلق الله للمتضادات

المصالح المترتبة على خلق الله للمتضادات سبق ذكر أن الذي ينسب إلى الله خلق الخير والشر مصيب؛ لأن الخلق مبني على الحكمة، والله تعالى خلق الكفر والمعاصي لحكم ومصالح تترتب عليها، منها: ظهور قدرة الله على خلق المتضادات، فالكفر يقابل الإيمان، والمعصية تقابل الطاعة. ومنها: حصول وترتب العبوديات المتنوعة على حصول الكفر والمعاصي، مثل عبودية الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والصبر، والولاء والبراء، والتوبة، فقد يوفق للتوبة فتكون حاله بعدها أحسن من قبل إحداثه التوبة، والمعصية شر بالنسبة إلى العبد الذي باشرها وكسبها، أما الله الذي خلقها فليست شراً بالنسبة إليه، والمعتزلة يقولون: إن العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضلها، ويقولون: معنى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] أي: يسميه مهتدياً، وإلا فالعبد هو الذي يهدي نفسه أو يضلها. وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى ما أعان المؤمن ولا وفقه ولا سدده ولا هداه! بل المؤمن هو الذي هدى نفسه، والكافر هو الذي خذل نفسه وأضلها، وهم في هذا يشبهون الله بخلقه، فيقولون: كرجل له ابنان أعطاهما سيفين وقال لهما: جاهدا بهذين السيفين في سبيل الله، فأما أحدهما فقاتل به في سبيل الله، وأما الآخر فاستعرض رقاب المسلمين وقطعها، فكل منهما اختار طريقاً مبايناً لصاحبه، فأحدهما قاتل المسلمين بسيفه والآخر قاتل الكفار بسيفه، فكذلك الله ترك الناس هكذا، فمنهم من يختار الإيمان ومنهم من يختار الكفر، فما وفق هذا ولا خذل هذا. وهذا هو فهم المعتزلة معطلة الصفات مشبهة الأفعال، وقالوا: ما يحسن من العبد يحسن من الله، وما يقبح من العبد يقبح من الله، وكل ما كان حسناً من العبد فهو حسن من الله لو فعله، وكل ما كان قبيحاً من العبد فهو قبيح من الله إذا فعله، وما كان ظلماً من العبد فهو ظلم من الله لو فعله، هذا هو التشبيه، فهم مشبهة في الأفعال ومعطلة في الصفات.

الرد على المعتزلة في شبهة خلق العباد لأفعالهم

الرد على المعتزلة في شبهة خلق العباد لأفعالهم يقال للمعتزلة: يلزمكم أحد أمرين إذا قلتم: إن العبد هو الذي يخلق الكفر والمعاصي لنفسه، والله تعالى يراه ويقره على ذلك، يلزم من هذا أن الله أقره على القبيح واستحسنه منه، أو أنه عاجز عن منعه عنه، وكلا الأمرين باطل؛ لأن الإنسان من بني آدم إذا كان له إماء وعبيد ثم رأى العبيد تزني بالإماء فهل يسكت، أم ماذا يكون حاله؟! وإذا سكت حين يرى الذكور من عبيده تزني بالإناث من إمائه فإنه يلزم من سكوته أحد الأمرين: إما أن يكون عاجزاً عن منع هؤلاء الذكور عن هذه الإناث، أو يكون مستحسناً للقبيح راضياً به، ولله المثل الأعلى. فكذلك هؤلاء المعتزلة يقولون: إن العبد هو الذي يخلق المعصية والكفر بنفسه، يلزم من كلامهم أن الله عاجز عن منع ما لا يريده أو أنه استحسن القبيح! تعالى الله عما يقول للظالمون علواً كبيراً. والمعتزلة يقولون: إن الأصل الأول والثاني أصلان عقليان، أي: عرفا بالعقل قبل الشرع، بل هما اللذان دلا على الشرع، والذي دل عليهما هو العقل قبل أن يوجد الشرع، ثم جاء الشرع موافقاً للعقل في إثبات هذين الأصلين، وهما: التوحيد والعدل. فالمعتزلة يعتمدون على العقل أولاً، ثم جاء الشرع -الكتاب والسنة- موافقاً للعقل فأقر هذين الأصل، فمثل الشرع حينما جاء وأقر هذين الأصلين كالشاهدين الزائدين الذين قد يستغنى عنهما، فالقاضي إن طلب من أحد المتخاصمين شهوداً، فأتى بأربعة يقول له القاضي: تثبت الدعوة باثنين، واثنان احتياط، فكذلك الكتاب والسنة هما احتياط عند المعتزلة بالنسبة للتوحيد والعدل، ومثل الكتاب والسنة بالنسبة للتوحيد والعدل عند المعتزلة مثل المدد اللاحق بجيش والجيش مستغن عنه، فالتوحيد والعقل لا حاجة معهما إلى الشرع، ويكون مثل الشرع عند المعتزلة حينما جاء ووافق العقل في إثبات التوحيد والعدل مثل من يتبع هواه فصادف أن الشرع ما يهواه، فهو يتعبد على هواه ثم جاء الشرع مقراً له على ذلك، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). والعمل تابع للنية والقصد، والنية الصالحة لا تكون إلا عن علم وإيمان وتصديق بالله ورسوله، فإذا عمل الإنسان عملاً بغير نية فهو باطل مردود عليه، كما أن الإنسان الذي يتعبد الله على وفق هواه عمله باطل مردود ولو وافق الشرع؛ لأنه على غير نية وإخلاص، وكذلك إذا ترك ما يتركه مما نهى عنه الشرع إذا كان هذا الترك عن غير نية وقصد وعن غير إيمان بالله ورسوله، فلا يثاب عليه.

المنزلة بين المنزلتين

المنزلة بين المنزلتين الأصل الثالث من أصول المعتزلة: المنزلة بين المنزلتين، وقد ستروا تحت هذا الأصل معنى باطلاً، وهو القول بأن العاصي ومرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، بل يكون في منزلة بين المنزلتين، أي: لا يسمى مؤمناً ولا يسمى كافراً، فهو عندهم خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، وشبهتهم في هذا نصوص الوعيد، ومن ذلك الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وفي غيرها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن). فقالوا: هذا نفي للإيمان عنه، فدل على أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، ومثله حديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا). وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، وغير ذلك من نصوص الوعيد التي أخذوها واستدلوا بها على أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان لكنه لا يدخل في الكفر، فيكون في منزلة بينهما.

إنفاذ الوعيد

إنفاذ الوعيد الأصل الرابع من أصول المعتزلة: إنفاذ الوعيد، وستروا تحته معنى باطلاً، وهو القول بخلود العصاة في النار، أي: خلود أهل الكبائر في النار وعدم خروجهم منها أبداً، واستدلوا -أيضاً- بنصوص الوعيد التي فيها الوعيد لبعض العصاة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وغير هذه من النصوص، وقالوا: هذه النصوص تدل على أن العصاة يخلدون في النار مثل الكفار! وأنكروا النصوص التي فيها الشفاعة للعصاة وأنهم يخرجون من النار، مع أنها متواترة. ويرد على المعتزلة في هذين الأصلين -الثالث والرابع- بالأحاديث المتواترة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كحديث: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا أثبت للعاصي الإيمان، فدل على أنه لم يخرج من الإيمان، بخلاف قولهم بخروجه من الإيمان. ودل الحديث -أيضاَ- على أنهم يخرجون من النار فلا يخلدون فيها، فبطل قولهم بإنفاذ الوعيد وأن العصاة يخلدون في النار. فهذا الحديث ونحوه رد على أصلهم الثالث والرابع، والنصوص التي فيها إخراج عصاة الموحدين وأهل الكبائر من النار تبلغ حد التواتر، وقد تواترت الأحاديث في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن لنبينا عليه الصلاة والسلام أربع شفاعات، وفي كل شفاعة يحد الله له حداً مبيناً، وفي بعض الروايات يقول الله له في المرة الأولى: (أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو حبة خردل من إيمان). وفي المرة الثانية يقول له: (أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان). وفي المرة الثالثة يحد الله له حداً آخر ويقول له: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان). وفي المرة الرابعة يقول له: (أخرج من قال: لا إله إلا الله). وثبت أن الملائكة يشفعون، وأن الصالحين يشفعون، وأن الشهداء يشفعون، وأن النبيين يشفعون. وثبت أنه تبقى بقية ليس لهم شفاعة، فيخرجهم الرب سبحانه وتعالى برحمته بعد شفاعة الملائكة والنبيين، فلم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج الرب سبحانه وتعالى أقواماً من العصاة لم يعملوا خيراً قط، لكنهم ماتوا على التوحيد. وثبت في الأحاديث الصحيحة أن عصاة الموحدين يموتون في النار موته، وأنهم يمتحشون ويصيرون فحماً، وأنه يدخل النار جملة من العصاة من المصلين، وأن النار لا تأكل مواضع السجود من جباههم ووجوههم، فمن الناس من يدخل النار لكونه عاقاً لوالديه، وهذا لكونه قاطعاً لرحمه، وهذا لكونه مات على الزنا أو السرقة، أو التعامل بالربا، أو أكل مال اليتيم أو شهادة الزور، أو غير ذلك من الكبائر، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، لكن الواحد بعينه لا يشهد له بجنة ولا نار. وثبت -أيضاً- أنهم يخرجون منها ضبائر ضبائر قد امتحشوا وصاروا فحماً، ثم يلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، فإذا خرجوا من النار، ولم يبق في النار موحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم، من اليهود والنصارى والشيوعيين والمنافقين والوثنيين والمجوس وغيرهم من أصناف الكفرة والمرتدين، وكذلك من مات على ناقض من نواقض الإسلام، فكل هؤلاء تطبق عليهم النار وتغلق، فلا يخرجون منها أبداً، كما قال الله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] أي: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وهذا بعد خروج عصاة الموحدين منها، فهذه النصوص الكثيرة المتواترة أنكرها المعتزلة والخوارج، وقالوا: إن عصاة الموحدين والمؤمنين يخلدون في النار كالكفار، والعياذ بالله. ومن الأدلة التي يرد بها على المعتزلة: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الشرك غير مغفور، وأن ما دون الشرك فقد علقه الله على مشيئته، والمعاصي والكبائر دون الشرك.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصل الخامس من أصول المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الأصل له شقان: الأول: الأمر بالمعروف، وستروا تحته معنى باطلاً، والثاني: النهي عن المنكر، وسترواً تحته -أيضاً- معنى باطلاً. فالأمر بالمعروف ستروا تحته القول بإلزام الناس بآرائهم واجتهاداتهم التي وصلوا إليها، ولهذا لما كانت لهم الدولة في خلافة المأمون وكان رئيس القضاة من المعتزلة -وهو أحمد بن أبي دؤاد - ألزموا الناس بالقول بخلق القرآن، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنهم يعتقدون هذا الأصل، وهو الأمر بالمعروف، ويعنون به إلزام الناس باجتهاداتهم وآرائهم، فألزموا الناس بالقول بخلق القرآن وفتنوهم، ولذا امتحن الإمام أحمد رحمه الله، وضرب وسجن مرات، وثبت كالجبال الرواسي رحمه الله تعالى.

نشأة الاعتزال

نشأة الاعتزال اشتهر أمر المعتزلة في زمن المأمون عند ادعائهم خلق القرآن، وإلا فأصلهم ومبدؤهم في أوائل المائة الثانية، والمؤسس لمذهب المعتزلة هو واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وسموا معتزلة لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري، أو اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري، فيقال: هؤلاء المعتزلة، فاعتزلوا مجلس الحسن البصري وجعلوا يقررون أصولهم. ويقال: إن سبب ذلك أن سائلاً سأل الحسن البصري عن العاصي والفاسق، فأجابه بما دلت عليه النصوص، فاعتزل واصل وعمرو مجلس الحسن وقال واصل: أنا في سارية، وقال: أنا لا أقول هو مؤمن ولا أقول كافر، وجعل يقرر هذا، وكان واصل بن عطاء هو المؤسس للمذهب، وقد آتاه الله الفصاحة والبلاغة والقوة على التفرد بالأساليب، حتى إنه كان يلقي الخطبة العظيمة الطويلة الساعات الطوال لا يتلعثم فيها، ومن الطرائف أنه كان في لسانه لثغة، لكن آتاه الله فصاحة وبلاغة وقوة على التصرف في الألفاظ، فكان يخطب الخطبة الطويلة الساعات ويتجنب النطق بالراء حتى لا تظهر اللثغة. ومن الطرائف أنه قال له قائل: قل: أمر الأمير بحفر البئر في قارعة الطريق. وكل كلمة في الجملة فيها راء إلا حرف الجر (في)، فقال: أوعز القائد بقلب القليب في الجادة. فأتى بعبارة في جملة تدل على المعنى وليس فيها راء، فهذا من الابتلاء والامتحان؛ لأن هذا الرجل أوتي الفصاحة والبلاغة ليفصح عن مراده، ويبين هذا المذهب الباطل، فهذا من الابتلاء، والمقصود أن هذا هو مبدؤهم، واشتهر أمرهم في زمن المأمون. ثم جاء رجل يسمى أبا هذيل العلاف وشرح المذهب وفرع عليه، وصنف لهم كتابين وبناه على الأصول الخمسة عندهم. ومن آراء العلاف أن حركات أهل الجنة والنار تفنى يوم القيامة، ثم يبقون جامدين كالحجارة! والعياذ بالله. فـ الجهم يقول: النار والجنة تفنيان بما فيهما. أما أبو هذيل العلاف فإنه يقول: تفنى الحركات، وقد ناقشه ابن القيم رحمه الله مناقشة دقيقة في قصيدته الكافية الشافية، يقول: أنت قلت: تفنى الحركات، وهذا يلزم منه معنى فاسداً، فإذا كان هناك رجل رفع لقمة ثم فنيت الحركات فهل يبقى على هذه الصورة؟! وما حال الذي يأخذ عنقوداً ويتناوله؟! هل تفنى حركاته؟! وما حال الذي يجامع أهله ثم تفنى الحركات، فهل يبقى كالحجارة؟! فـ ابن القيم ناقشه مناقشة من هذا القبيل، وهذا من آرائه الفاسدة، وهو شيخ المذهب الذي فرعه ووضحه وشرحه وبناه على الأصول الخمسة وصنف لهم كتابين. فالمقصود أن الأمر بالمعروف -وهو الأصل الخامس- ستروا تحته هذا الشق من القول، وهو إلزام الناس باجتهاداتهم وآرائهم، ولو كانت باطلة.

أصل الأمر بالمعروف

أصل الأمر بالمعروف يرد على المعتزلة بأن الاجتهادات والآراء لا يلزم بها الناس، وإنما يلزم الناس بالنصوص الشرعية، أما الاجتهادات والأفهام فلا يلزمون بها، فالمجتهد لا يلزم غيره، فإذا اجتهد عالم في فهم النصوص الشرعية فإنه يعبد الله بما وصل إليه باجتهاده، لكن ليس له أن يلزم غيره، فلا يلزم الناس بالاجتهادات، وإنما يلزمون بالنصوص، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين العصر أحد إلا في بني قريظة)، وهذا بعد غزوة الأحزاب؛ لأن بني قريظة نقضوا العهد، وهم من قبائل اليهود في المدينة، وممن صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم، والذين صالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود في المدينة هم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فنقضوا العهد ومالئوا المشركين، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب جاء جبريل فقال له: (وضعت السلاح؟! لكنا لم نضعه، إن الله يأمرك أن تذهب إلى بني قريظة؛ لأنهم نقضوا العهد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فأسرع الصحابة رضوان الله عنهم في الذهاب، ثم أدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فاختلف الصحابة، فمن الصحابة من قال: نصلي في الطريق ثم نواصل السير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد منا أن نؤخر الصلاة عن وقتها، وإنما أراد منا المبادرة والإسراع، وقد بادرنا، فنصلي ثم نواصل السير، وقال آخرون من الصحابة: لا نصلي حتى نصل إلى بني قريظة، ولو لم نصل إلا بعد غروب الشمس؛ لأن عندنا نصاً، فلم يصلوا حتى وصلوا إلى بني قريظة بعد الغروب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر كلتا الطائفتين، ولم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء؛ لأن كلتا الطائفتين اجتهدت، فالأولون اجتهدوا وقالوا: عندنا النصوص التي تدل على توقيت المواقيت، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، والآية محكمة، وهي الأصل، فنحن نبقى مع النصوص الواضحة الكثيرة فنصلي في الوقت ثم نواصل السير، ونتفقه في هذا النص الأخير، فنفهم منه أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم المبادرة في السير، لا أن نؤخر الصلاة عن وقتها، فنصلي ثم نواصل. وأما الآخرون فقالوا: عندنا نص من النبي صلى الله عليه وسلم، فنتمسك به، وهو: (لا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فلا نصلي إلا في بني قريظة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء وهؤلاء، ولم يعنف أحداً من الفريقين. لكن عند التأمل أيهما المصيب؟ أي: هل المصيب من صلى في الطريق أم المصيب من صلى بعد وصوله إلى بني قريظة بعد غروب الشمس؟! لقد بحث ابن القيم رحمه الله هذه المسألة وقال: إن الذين صلوا في الطريق قد سلكوا مسلك الأئمة ومسلك أهل القياس والمعاني، أي أنهم تفقهوا في النصوص وجمعوا بينها، وأما الذين أخذوا بالنص الأخير فقد سلكوا مسلك أهل الظاهر، حتى قال ابن حزم الظاهري: لو كنت معهم لم أصل إلا بعد الوصول. فالنبي صلى الله عليه وسلم ما عنف أحداً من الفريقين، فدل على أن الأمور الاجتهادية النظرية التي يشتبه أمرها لا يلزم بها الناس، فهذا فيه رد على المعتزلة في إلزامهم الناس باجتهاداتهم الباطلة، ويسمونه الأمر بالمعروف.

بيان معنى أصل النهي عن المنكر

بيان معنى أصل النهي عن المنكر الشق الثاني للأصل الخامس: النهي عن المنكر، وستروا تحته القول بالخروج على الأئمة إذا جاروا وظلموا، فقالوا: إذا ظلم ولي الأمر فإننا نخرج عليه، وكذلك إذا فعل معصية أو فساداً، وهذا باطل؛ لأنه مخالف للنصوص الكثيرة التي دلت على أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالظلم ولا بالجور، ومن تلك النصوص قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فالآية عامة في وجوب الطاعة، لكن يطاعون في المعاصي ولا يخرج عليهم. ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني). قال العلماء: أما المعصية فلا يطاع فيها أحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، فلا يطاع أحد في المعاصي، لا الأمير، ولا الوالد، فلا تطع والدك في معصية، وكذلك الزوجة لا تطع زوجها في المعصية. ومن ذلك حديث أبي ذر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف). ومن أقوى الأدلة حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم -يعني: تدعون لهم-، وشرار أمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله! أفلا نبادرهم بالسيف -أي: نقاتلهم ونخرج عليهم ما داموا شراراً-؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزع يداً من طاعة). وفي حديث حذيفة: (فالزم جماعة المسلمين وإمامهم).

اعتقاد أهل السنة في مسألة الخروج على ولاة الأمر

اعتقاد أهل السنة في مسألة الخروج على ولاة الأمر قرر أهل السنة والجماعة معتقداً مأخوذاً من النصوص، وهو عدم جواز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي وبالظلم وبالجور، ويدل على ذلك الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، ومعنى (كفراً بواحاً)، أي: واضحاً صريحاً لا لبس فيه ولا احتمال، ففي هذه الحالة يجوز الخروج مع القدرة، وأما مع عدمها فلا يجوز. وأهل السنة حينما قرروا هذه القاعدة إنما قرروها انطلاقاً من هذه النصوص الكثيرة التي فيها النهي عن الخروج على ولاة الأمر بمطلق الظلم والمعاصي، وهي داخلة تحت قاعدة المصالح والمفاسد، أي: عند اجتماع المصالح والمفاسد يقدم درء المفاسد على جلب المصالح، ولتوضيح تنزيل القاعدة على هذه المسألة نقول: إن الصبر على جور الولاة وظلمهم يتعلق به مصالح عظيمة، وذلك أن الله علق بولاة الأمور مصالح عظيمة، فعلق عليهم إقامة الحدود، واستقرار الأمن، وأداء الحقوق، وردع الظالم، واجتماع الكلمة، والقوة أمام أعداء الأمة فلا تغلب، بخلاف ما يسببه الخروج من النزاع والفشل والفرقة، وتربص الأعداء بالأمة الدوائر، واختلال الأمن ونظام الحياة والتعليم والاقتصاد، وغير ذلك من المفاسد التي لا حصر لها، ومنها إراقة الدماء والتناحر والتطاعن والتطرف. فأي المفسدتين أعظم: هذه المفاسد أم مفسدة الجور أو الظلم أو المعصية التي يفعلها ولي الأمر؟! لا شك في أن الصبر وعدم الخروج هو الذي تقتضيه المصلحة وتدل عليه النصوص. فالواجب على طلبة العلم أن يعلموا هذا الأصل العظيم، وهو أصل من أصول أهل السنة، وأن يعلموا أن الخروج على ولاة الأمور من شعار أهل البدع كالرافضة والخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على ولاة الأمور بمجرد ما تقدم، وهم في هذا منحرفون عن معتقد أهل السنة والجماعة، ومخالفون لأصولهم، ولهذا قرر العلماء في حصول العقائد -كـ الطحاوي وغيره- هذا الأمر، قال الطحاوي [ولا نرى الخروج على أئمتنا -يعني: بالمعاصي- وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة]. فأهل السنة في كتب العقائد كلها يقررون هذا الأصل، وهو عدم الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والظلم والجور، وأهل السنة تميزوا عن أهل البدع بهذا الأصل. كما أن العلماء يقررون في كتب العقائد مسألة المسح على الخفين، فيقولون: ونرى المسح على الخفين مخالفة للرافضة الذين لا يرون المسح على الخفين، فالرافضة لا يرون المسح على الخفين، بل يقولون: من كان عليه خفان وجب عليه أن يخلعهما وأن يمسح ظهور القدمين، ولا يغسل الرجلين، فلهذا قرر العلماء في كتب العقائد قولهم: ونرى المسح على الخفين مخالفة للرافضة الذين لا يرون المسح على الخفين. وكذلك قالوا: ولا نرى الخروج على أئمتنا. فقرروا عدم الخروج على ولاة الأمور أخذاً بهذه النصوص، ودفعاً لما يترتب على الخروج من المفاسد العظيمة، وأخذاً بما يترتب على الصبر على الولاة من المصالح العظيمة، والخروج من شعار أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والرافضة. فينبغي لطالب العلم أن يكون على بصيرة في هذا الأمر؛ لأن كثيراً من الشباب ليست عندهم بصيرة، وقد حدثت استشكالات لكثير من الشباب في كثير من المقامات، وبينت لهم معتقد أهل السنة والجماعة في هذا، وبعضهم لا يزال عنده استشكالات وعدم قبول لهذا الأمر، فالواجب على طالب العلم أن يتبصر وأن يقرأ في كتب أهل العقائد، وأن يتأمل النصوص حتى يتبين له هذا الأصل العظيم الذي أقره أهل السنة، وخالفوا فيه أهل البدع. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

المراد بلفظ الزنديق

المراد بلفظ الزنديق Q هل الزنادقة طائفة من الطوائف؟ أم أن الزندقة وصف يطلق على كل من خالف في الأسماء والصفات؟ وما معناه؟ A الزندقة وصف متأخر، والزنديق معناه المنافق، فالمنافق -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - هو: الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، فهذا كان يسمى منافقاً في العصور الأولى، وفي العصور المتأخرة يسمى زنديقاً، فالزنديق هو المنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ويطلق لفظ الزنديق -أيضاً- على الجاحد الذي أنكر وجود الله، فهو زنديق ملحد، فالمقصود أن الزنديق هو الملحد والكافر والمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان.

حكم التسمية بعبد المعبود

حكم التسمية بعبد المعبود Q هل يجوز التسمي بعبد المعبود؟ A لا يجوز إطلاق التعبيد إلا وهو يتبع باسم من أسماء الله التي ثبتت في صريح نصوص الكتاب والسنة. أما ما ورد في السؤال فنقول: الله تعالى هو المعبود من باب الخبر، أي: يخبر عنه بأنه معبود، لكن لا أعلم أن من أسماء الله المعبود حتى يطلق التعبيد له، وإنما هذا خبر يخبر به عن الله، وباب الخبر عند أهل العلم أوسع من باب الوصف، فالله تعالى يخبر عنه بأنه موجود، وبأنه شيء، لكن لا يقال: من أسمائه الموجود، وكذلك يخبر عنه بأنه صانع العالم، لكن لا يقال: عبد الصانع، ولا عبد الموجود، ولا عبد الشيء، فكذلك لا يقال: عبد المعبود، وإنما يسمي ويعبد باسم من أسماء الله التي ثبتت في الكتاب والسنة، وأفضلها عبد الله وعبد الرحمن، ثم يعبد بسائر الأسماء والصفات التي ثبتت في الشرع، كعبد الملك، وعبد الحميد، وعبد المجيد، وعبد القدير، وعبد السميع، وعبد الرحيم، وعبد القيوم إلى آخر ذلك. أما لفظ المعبود فلا يظهر لي أنه من أسماء الله، وإنما يخبر به عن الله، فيقال بأنه المعبود؛ لأنه المعبود بحق، وإلا فهناك معبودون غيره، لكن عبدوا بالباطل، فالله تعالى هو المعبود بحق، ومما يؤخذ على التسمية بعبد المعبود أن الله تعالى معبود وغيره معبود، فالنار معبودة، أي: عبدت من دون الله، والشمس كذلك عبدت من دون الله، والآدمي عبد، والملائكة عبدت، فالله هو المعبود بحق وغيره معبود بالباطل، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].

حكم نصب القدم تجاه المصحف

حكم نصب القدم تجاه المصحف Q هل يجوز نصب القدم باتجاه المصاحف؟ وهل يجوز استدبار المصاحف؟ A إذا قصد الامتهان فلا يجوز له ذلك، لكن إذا كان بعيداً عن المصحف واحتاج إلى هذا الفعل، أو كان ناسياً فلا حرج عليه، لكن الأولى إذا كان قريباً أن لا يمد رجله أمام المصحف، وأما إذا قصد الامتهان فهذا هو الكفر، أما إذا لم يقصد الامتهان فالأمر في هذا واسع، خاصة إذا كان بعيداً عن المصحف.

بيان معنى قول العلماء: القرآن منزل غير مخلوق

بيان معنى قول العلماء: القرآن منزل غير مخلوق Q الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: القرآن منزل غير مخلوق، أم كان يقول بأن القرآن منزل فقط؟ وما الرد على الواقفة، فقد تكلمت مع أحدهم فكان يقول: إن الإمام أحمد لم يقل بأن القرآن غير مخلوق، ولكن أصحابه قالوا بهذا لمحادة أهل الاعتزال، فالنصوص كلها في التنزيل لا تفيد بأنه مخلوق أو غير مخلوق؟ A خصمك هذا إذا أثبت النصوص التي تفيد أنه منزل فهو غير مخلوق، والعلماء يضطرون إلى هذا، أي: القول بأنه منزل للرد على من قال: إنه مخلوق، فيقولون: هو منزل غير مخلوق، فهذا يقوله العلماء والأئمة، حيث قالوا: كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهذا أقره العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قدامة في اللمعة وغيرهما، والمعنى في هذا واضح، فإذا كان منزلاً فهو غير مخلوق، ويلزم من كونه منزلاً أن يكون غير مخلوق، فلا ينبغي الاستشكال في مثل هذا.

حكم القراءة في تفسير الزمخشري

حكم القراءة في تفسير الزمخشري Q هل يجوز اقتناء تفسير الزمخشري وقراءته؟ A إذا كان طالب العلم على بصيرة ولا يخشى من تأثيره عليه فلا بأس بأن يستفيد منه؛ لأن فيه بلاغة، والزمخشري يأتي ببلاغته تقريراً لمعانٍ عنده، فلا ينتبه لها الإحذاق الطلبة، أما المبتدئ فلا ينبغي له أن يقتنيه، وليقرأ في كتب التفسير الميسرة السهلة، كتفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وتفسير ابن كثير وغيرهما من التفاسير السلفية، أما أن يقتني المبتدئ الكشاف للزمخشري، أو تفسير الرازي فلا، وكتاب الرازي أيضاً فيه من الأباطيل شيء كثير، وفيه بيان لشبه أهل الباطل وتقرير لها، كتقرير وجوب تعلم السحر، حتى قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير. وقد نقل الحافظ ابن كثير عن الرازي أنه أوجب تعلم السحر، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] والعلم لذاته شريف، والسحر علم من العلوم، فيجب تعلمه، هكذا يقول الرازي، وهذا ما قرره في كتابه، أي: كتاب مفاتيح الغيب، فلا ينبغي للمبتدئ أن يقتنيهما، لكن طالب العلم الذي عنده بصيرة لا بأس عليه.

معنى الخلود في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها)

معنى الخلود في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها) Q من المعلوم أن عصاة الموحدين لا يخلدون في النار، فما معنى الخلود في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]؟ A معنى الخلود عند أهل السنة والجماعة في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] معناه المكث الطويل؛ لأن الخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا خلود الكفرة، والثاني: خلود مؤمد له أمد ونهاية، وهذا خلود عصاة الموحدين، وقد يطول مكث بعض العصاة لعظم جريمته، كالقاتل وغيره، ولكن له نهاية، فما دام أنه مات على التوحيد والإيمان فلا يخلد في النار.

ما يكون به الخروج على ولي الأمر

ما يكون به الخروج على ولي الأمر Q هل يكون الخروج بغير السيف والقتال في منهج أهل السنة والجماعة؟ A الخروج يكون بالسيف، وكذلك يكون بالاجتماع في مكان معين ضد ولي الأمر، أو تأليب الناس عليه أو تنفيرهم منه، أو تحذيرهم من شره، أو حثهم على الخروج عليه، فالخروج يكون بما إذا حثهم على الخروج وأمرهم به، أو حسنه لهم، أو ما أشبه ذلك، وكذلك من الخروج إذا تجمعوا في مكان معين وخرجوا يطالبون أو ما أشبه ذلك، فهذا من الخروج.

الرد على مدعي ضعف أهل السنة في اعتقادهم حرمة الخروج على الولاة

الرد على مدعي ضعف أهل السنة في اعتقادهم حرمة الخروج على الولاة Q يرى البعض أن قول المعتزلة في الخروج على الأئمة الفساق فيه شيء من القوة والشدة الصارمة معهم، وقول أهل السنة فيه ضعف وخور وركون إلى الدنيا، وفيه الإقرار لهم على معاصيهم وفسقهم؟ A هذا السائل يميل إلى المعتزلة، وكلامه فيه ميل وركون إليهم، ونقول: أهل السنة كلامهم ليس فيه ضعف ولا خور ولا ركون إلى الدنيا؛ لأن أدلة أهل السنة واضحة كثيرة كحديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم، وهو من أصح الكتب بعد البخاري، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام رداً على من سأله عن الخروج عليهم: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فأين يكون الضعف؟! لاشك في أنه في فهم هذا السائل، وإنما أتي من قبل نفسه، وأدلة أهل السنة واضحة قوية، وأهل السنة جمعوا بين النصوص جمعاً معقولاً، وعملوا بالنصوص من الجانبين، وعملوا بالقواعد العامة التي قررتها النصوص، كقاعدة المصالح والمفاسد، وفيها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن يقول بعد هذا: إن أدلة أهل السنة فيها ضعف وهوى ومهانة، وأدلة المعتزلة فيها قوة؛ لا يكون مصيباً، وهو على غير بصيرة؛ لأنها قوة في الباطل.

بيان معنى الكفر البواح

بيان معنى الكفر البواح Q يقول بعضهم: إقرار البنوك الربوية وبناؤها من الكفر البواح، فما صحة ذلك؟ A ليس هذا من الكفر البواح، وإنما الكفر البواح هو الاستحلال، فمن استحل الأمور التي دلت النصوص الكثيرة على تحريمها، كالأمور المعلومة من الدين بالضرورة تحريمها، وصرح بأنه استحلها ففعله هو الكفر البواح، أما فعل المعاصي من غير استحلال فليس من الكفر البواح، والقول بأن فعل المعاصي من غير استحلال هو من الكفر البواح هو مذهب الخوارج والمعتزلة، أما أهل السنة فلا يرون أن فعل المعاصي من غير اعتقاد حلها من الكفر البواح، ومعنى الكفر البواح أي: الكفر الصريح الذي لا شبهة فيه، وأين البواح في مثل إنسان زنى؟! أتقول: هذا كفر كفراً بواحاً؟! وإنسان آخر تعامل بالربا؟! أتقول: هذا كفر كفراً بواحاً؟! أين الكفر البواح في مثل هذه المعاصي؟! لكن لو أن إنساناً أعلن قائلاً: الزنا حلال، وبينت له النصوص فقال: لا أقبلها، هو حلال، فهذا هو الكفر، أو سب الله أو استهزأ به أو بكتابه أو برسوله أو بدينه أمام الناس، فهذا هو الكفر البواح، فلا ينبغي أن يفسر الإنسان الكفر البواح على رغبته.

نصيحة ولاة الأمور وكيفيتها

نصيحة ولاة الأمور وكيفيتها Q متى يجوز إنكار المنكر على الإمام إنكاراً عاماً؟ A لا يجوز الإنكار على ولاة الأمور بالخروج عليهم، ويقول العلماء في مثل هذا: إذا ترتب على إنكار منكر منكر أعظم فلا ينكر، فالإنكار على ولاة الأمور بالخروج عليهم من الشيء الذي يترتب عليه المنكر الأعظم، ولهذا قرر العلماء -كـ ابن القيم وغيره- أنه لا ينكر على ولي الأمر بالخروج عليه، وإنما بالنصيحة، والنصيحة إنما تكون سراً، وقد ثبت في صحيح البخاري عن بعض الصحابة أنه قيل له: ألا كلمت عثمان رضي الله عنه؟! وذلك في مسألة توليته لبعض الولاة، فقال هذا الصحابي: أترون أني لا أكلمه إلا وأنتم ترون؟! إني لأكلمه سراً فيما بيني وبينه حتى لا أفتح شراً. أو كما قال رضي الله عنه، فالنصيحة لولاة الأمور إنما تكون سراً فيما بين الناصح وبينهم، وتكون عن طريق أصحاب البصيرة وأهل العلم؛ لأن العلماء وأهل البصيرة هم أعرف من غيرهم بالمعروف والمنكر، فلا يتولى هذا إنسان ليس عنده بصيرة، أو يتولاه إنسان حديث السن لم يتبصر ولم يتفقه في النصوص، وإنما عنده اندفاع، وتخفى عليه كثير من النصوص فلا يعرفها، ثم يندفع اندفاعاً على غير بصيرة.

أهل الفترة

أهل الفترة Q كيف نرد على من يقول: من نشأ في مجتمع كافر ولم يسمع قط بالإسلام، ولم ير مسلماً، ولم يسمع شيئاً من أمر هذا الدين، إلا الدين الذي رباه عليه أبواه، فليس عليه ذنب؛ لأنه لم تقم عليه الحجة؟ A هذا إذا وجد فظاهر النصوص أنه يكون من أهل الفترة، فإذا مات على ذلك فإنه يعامل معاملة المشركين في الدنيا، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، وأمره في الآخرة إلى الله. وقد اختلف العلماء في أهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة فلم يعملوا شيئاً، فذكر شيخ الإسلام وابن القيم في آخر كتاب طريق الهجرتين أقوالاً، لكن اختاروا أنهم يمتحنون يوم القيامة، وجاءت في هذه المسألة أدلة وأحاديث كثيرة لا تخلوا من ضعف من ناحية الأسانيد، وفيها أنه يؤتى بالشيخ الكبير والهرم والفاني ومن لم تبلغه الدعوة ويوقفون بين يدي الله، وأنه يخرج لهم عنق من النار، فيقال لهم: ادخلوها، فمن وردها صارت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يردها فقد عصى، جاءت بهذا المعنى أحاديث كثيرة لكنها لا تخلوا من ضعف، ويبدوا أنها بمجموعها يشد بعضها بعضاً، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن أهل الفترة يمتحنون أخذاً بهذه النصوص، والأصل في هذا قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وهناك رسالة في مسألة حكم أهل الفترة موجودة في كلية أصول الدين، وهي رسالة ماجستير كنت أشرفت عليها منذ سنوات مضت، وعنوانها: (أهل الفترة).

حقيقة تلبس الجني بالإنسي

حقيقة تلبس الجني بالإنسي Q وجد من طلبة العلم من أنكروا تلبس الجني بالإنسان وإلحاقه الضرر به، كما اعتقدوا -أيضاً- أن علم النفس هو أفضل من القرآن الكريم في علاج الأمراض النفسية، فهل هم على صواب أم لا؟ وكيف يكون الرد عليهم؟ A ليسوا على صواب، بل هم على باطل، وهذه سلسلة معروفة، وقد سُبِقوا إليها، وقبل سنوات أشيعت هذه المسألة، وبعض الناس سمع من يقررها في التلفاز، وقالوا: نحن نثبت الجن، لكن لا دليل يدل على تلبسهم بالإنس، فمن أنكر الجن فهو كافر؛ لأنه مكذب بالقرآن، وهما أحد الثقلين، لكن تلبسهم بالإنس أنكره بعض المتأخرين، وهي مسألة سبقتهم إليها المعتزلة، فالمعتزلة يقررونها هم وغيرهم، ويقولون: لا يمكن أن يتلبس الجني بالإنسي؛ لأن الجني جسم والإنسي جسم، فلا يمكن أن يدخل جسم في جسم، هكذا قرروا هذه المسألة، وهذا باطل بالعقل والسمع، والصواب الذي دلت عليه النصوص، ودل عليه العقل، ودل عليه الواقع والحس المشاهد أنه يمكن تلبس الجني بالإنسي، وهذا واقع مشاهد حادث لا ينكره إلا مكابر.

[5]

دروس في العقيدة [5] من الفرق التي انحرفت في فهم أسماء الله تعالى وصفاته فرقة الأشاعرة، حيث اعتمدت دليل العقل وقدمته على دليل الشرع، فأثبت أتباعها سبع صفات الله تعالى دل عليها دليل العقل القطعي الذي وافقه دليل الشرع، وما عدا ذلك فقد فوض بعضهم معناه وكيفيته، وأوله آخرون لظنية دليل الشرع الذي أثبته، كما أنهم والفرق المنحرفة الأخرى يعتقدون أن الإثبات تجسيم لله تعالى وتشبيه له بالمخلوقين.

بيان مذهب الأشاعرة في الصفات

بيان مذهب الأشاعرة في الصفات عرفنا مما سبق أن العلماء قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وعرفنا الفرق التي انحرفت وأنكرت توحيد الربوبية، وشذت بذلك عن البشرية، وعرفنا الفرق التي انحرفت في باب الأسماء والصفات، وهي فرق التعطيل: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأشدها انحرافاً الجهمية، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة. وسبق الكلام عن الجهمية والمعتزلة، والحديث هنا سيكون عن الفرقة الثالثة إن شاء الله، وهي فرقة الأشاعرة. والأشاعرة هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري رحمه الله، فإن أبا الحسن الأشعري كان على مذهب المعتزلة أربعين سنة، ثم تحول إلى مذهب وسط، ثم بعد ذلك هداه الله، فاعتقد معتقد أهل السنة والجماعة، وقرر ذلك في كتبه، لكن بقيت أشياء يسيرة مأخوذة عليه ذكرها العلماء. ومن العجيب أن الأشاعرة ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري مع أنه قد رجع عن معتقده السابق، واستمر هؤلاء على ما كان عليه سابقاً، وأما هو فقد رجع عنه وقرر معتقد أهل السنة والجماعة. ومذهب الأشاعرة مذهب واسع الانتشار في الأرض، فقد عم كثيراً من أرجائها، وقد اعتنق هذا المذهب كثير من أهل الكلام، ومن أهل التصوف، ومن المحدثين، ومن الفقهاء من فقهاء الحنابلة والشافعية والمالكية والأحناف، حتى وقع في هذا المذهب بعض المحدثين الكبار، كالحافظين ابن حجر والنووي رحمة الله عليهما على جلالة قدرهما ومنزلتهما العظيمة في علم الحديث، فقد سلكا في الصفات مسلك الأشاعرة، وذلك بسبب أنهما نشأا منذ الصغر على هذا المذهب، وظنا أنه هو الحق، وأن هذا هو التنزيه، والإنسان إذا لم يوفق من أول أمره في المسير على معتقد أهل السنة والجماعة فإنه ينشأ على ما نُشِّئ عليه. وقد نجد في بعض الأوقات أن هذا المذهب انتشر فيها انتشاراً كثيراً، وفي مقابل ذلك ينحصر مذهب أهل السنة والجماعة، فيحصل اللبس، ويظن بعض الناس أن مذهب الأشاعرة هو مذهب أهل السنة، حتى إن الأشاعرة أنفسهم يسمون أنفسهم أهل السنة، ومن هنا حصل اللبس، حتى قال السفاريني رحمه الله في عقيدته: إن أهل السنة ثلاث طوائف: الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، فجعل الجميع من أهل السنة. وإن للأشاعرة شبهاً قوية قد يتأثر بها طالب العلم إذا كان في ابتداء الطلب ولم يكن عنده بصيرة، وقد تجرد الأئمة والعلماء للرد عليهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم في كثير من كتبهما، وأبانا المعتقد الحق، وهو معتقد أهل السنة والجماعة الذي تقرره النصوص الشرعية، وتشهد له العقول الصحيحة، والفطر المستقيمة.

ما يثبته الأشاعرة من صفات الله تعالى

ما يثبته الأشاعرة من صفات الله تعالى والمعروف المشهور عن الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات لله عز وجل، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وقد نظمها بعضهم فقال: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر ومنهم من يثبت عشرين صفة، ومنهم من يثبت أربعين، لكن المشهور عنهم إثبات هذه الصفات السبع فقط، وأما ما عداها من الصفات فإنهم ينفونها ولا يثبتونها. وهم في نفيها يسلكون أحد مسلكين: المسلك الأول: أن يرجعوها إلى معنى الصفات السبع، المحبة في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] يقولون عنها: يريد أن يحبهم، فيرجعونها إلى معنى الإرادة، وهي من الصفات السبع التي يثبتونها. والمسلك الثاني: أنهم يفسرونها ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات التي هي أثر من آثار الصفات، ولا يفسرونها بالصفات، فيفسرون اليد -مثلاً- بالنعمة، وأحياناً يفسرونها بالقدرة؛ لأن القدرة من الصفات التي يثبتونها، ويفسرون الغضب بالانتقام، والانتقام أثر من آثار الغضب وليس هو الغضب، ويفسرون الرضا بالثواب، والثواب أثر من آثار الرضا، ويفسرون الرحمة بالإنعام. فقيل لهم: لماذا نفيتم هذه الصفات وأثبتم الصفات السبع، ولم يكن مسلككم في الصفات واحداً كما فعل أهل السنة، فإن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكيف تفرقون بين الصفات فتنفون بعضها وتثبتون بعضها؟! وهذه القاعدة من الأصول التي رد بها أهل السنة على الأشاعرة، وهي أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فباب الصفات باب واحد. فيجب إثبات الصفات لله جميعاً كما يجب إثبات الأسماء، ولا يجوز للإنسان أن يفرق بين الصفات فيثبت بعضها وينفي البعض الآخر. فقالوا: إن إثبات غير الصفات السبع يلزم منه التشبيه والتمثيل؛ لأننا لا نشاهد في الخارج متصفاً بغير الصفات السبع إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، فلذلك نفينا هذه الصفات عن الله، فالله ليس له مثيل ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فقصدنا من نفي بقية الصفات غير الصفات السبع تنزيه الله عز وجل عن مشابهة المخلوقات والأجسام، فلا نرى من يغضب ويرضى ويرحم إلا المخلوق، فإذا قلنا إن الله يغضب ويرضى ويرحم ويكره فقد شبهناه بالمخلوق، والله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فقال لهم أهل السنة: إذا كنتم نفيتم بقية الصفات خوفاً من التشبيه والتمثيل؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فيلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الصفات السبع؛ لأنكم لا تشاهدون متصفاً بالصفات السبع إلا ما هو جسم، فالمخلوق يتصف بالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فكيف تثبتون سبع صفات مع أن هذه الصفات السبع موجودة في المخلوقات؟! فقالوا: إن هذه الصفات السبع نثبتها على وجه لا يماثل فيه الخالق المخلوق ولا يشابهه، فلا يلزم من إثباتها التمثيل. فقال لهم أهل السنة والجماعة: وكذلك بقية الصفات يجب عليكم أن تثبتوها لله على وجه لا يماثل فيها الخالق صفات المخلوقين، فاسلكوا فيها ما سلكتم في الصفات السبع، فإذا كنتم تثبتون الصفات السبع على وجه لا يماثل الرب فيها صفات المخلوقين، فكذلك اثبتوا بقية الصفات على وجه لا يماثل فيها الرب صفات المخلوقين. فقالوا: إن هناك فرقاً بين الصفات السبع وبين غيرها، وهذا الفرق هو الذي حملنا على أن نفرق بينها فنثبت الصفات السبع ولا نثبت بقية الصفات، وهو أن الصفات السبع دل عليها العقل مع الشرع، فأثبتناها، وأما بقية الصفات فإنه لم يدل عليها العقل وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة وليست صريحة. وهذا الاستدلال مبني على قاعدتهم الفاسدة، وهي قاعدة لأهل البدع عموماً، وهي: أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأدلة القرآن والسنة دلالتها لفظية لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين هو دليل العقل، ويسمون الأدلة العقلية قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وأما دلالة النصوص فهي دلالة لفظية محتملة لا تفيد اليقين ولا القطع. وهذا من البلاء والمصائب، أعني اعتقاد أن دلالة النصوص ظنية لا تفيد اليقين، وقد جعله ابن القيم رحمه الله طاغوتاً، وحكم عليه بالكفر؛ لأنه منعهم من العمل بالنصوص والأخذ بها واعتقاد أنها تفيد اليقين، وهذا من أبطل الباطل، ويلزم بهذا لوازم فاسدة، منها أنه لا يوثق بالكلام ولا بالعقود، فإذا عقد الإنسان مع آخر عقد بيع فهذا لفظ يمكن ألا يتم به البيع، فله الفسخ، وإذا عقد عقداً للنكاح فإنه يقول: هذا عقد لفظي يمكن ألا يتم به النكاح، وهكذا. ويلزم منه فساد المعاملة، وفساد الدنيا والآخرة، ويلزم منه أن كلام الله وكلام الرسول لا يوثق بهما ولا يعمل بهما، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى. وهذا الطاغوت يجب كسره، وقد كسره ابن القيم رحمه الله تعالى. فالمقصود أن هذه الشبهة أو هذا الطاغوت يتعلق به جميع أهل البدع، فالأشاعرة يقولون: إننا أثبتنا الصفات السبع لأنها دل عليها العقل مع الشرع، والعقل دليل قطعي، بخلاف بقية الصفات، فإنها لم يدل عليها العقل، وإنما دل عليها الشرع، ودلالة الشرع ظنية محتملة، فلذلك لم نثبتها. فمثلاً: الفعل الحادث المتجدد يدل على القدرة، فهذا يخلق، وهذا يولد، وهذا يموت، وهذا نبات ينبت، وهذا يزول، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا عزيز، وهذا ذليل، وهذه دولة تزول، وهذه دولة تنشأ، وهكذا، فهذا الفعل الحادث يدل على القدرة وأن الله قادر، فلذلك أثبتنا القدرة. قالوا: وتخصيص بعض المخلوقات بخواص دون الأخرى يدل على الإرادة، فمثلاً: تخصيص هذا بالعلم، وهذا بالعقل، وهذا بالغنى، وهذا بالفقر، وهذا بالملك، وهذا بكونه مملوكاً، وهذا بالإمارة، وهذا بالوزارة، وهذا بالصعلكة، وهذا بكونه بطيء الغضب، وهذا بكونه سريع الغضب، هذا التخصيص يدل على أن الله مريده. وكون الأحكام في غاية السداد والملاءمة في الأحوال يُدل على العلم، فهذا لا يصدر إلا عن علم، فأحكام الله الشرعية، وأحكام الله الجزائية، وأحكام الله القدرية في غاية السداد والملاءمة للأحوال، وهي تدل على العلم. قالوا: فثبت لنا صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذه الصفات الثلاث تستدعي الحياة، فلا تصدر إلا عن حي، فثبتت بذلك صفة الحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك، والله له الكمال، فيتصف -إذاً- بالسمع والبصر والكلام. قالوا: فثبتت لنا الصفات السبع بالعقل مع الشرع، والدليل العقل دليل قطعي، فالعمدة عليه، والشرع جاء موافقاً له، فاعتمدنا إثبات الصفات السبع، وأما بقية الصفات السبع فإنها لم يدل عليها العقل، ودلالة النصوص عليها دلالة ظنية محتملة لا تفيد اليقين، ولذلك لا نجزم بأن هذه الصفات ثابتة لله.

رد أهل السنة على الأشاعرة في طريقة الاستدلال

رد أهل السنة على الأشاعرة في طريقة الاستدلال فقال لهم أهل السنة والجماعة: لنا جوابان عن هذا: الجواب الأول: جواب بالمنع، والجواب الثاني: جواب بالتسليم. فالجواب الأول -جواب المنع- نقول: نمنع أن يكون العقل قد دل على الصفات السبع ولم يدل على ما سواها، بل إن العقل يدل على الصفات السبع ويدل على بقية الصفات أيضاً، ونحن نثبت لكم أن العقل يدل على بقية الصفات كما دل على الصفات السبع، فمثلاً: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، فإذا كان الله تعالى ينفع عباده، ويحسن إليهم، فهذا يدل على الرحمة، فثبتت بذلك صفة الرحمة، وإكرام الله للطائعين ونصره لهم في الدنيا على أعدائهم يدل على المحبة، فثبتت لنا المحبة، وعقاب الله للكافرين وتسليطه المؤمنين عليهم يدل على البغض، وعقوبته لهم في الدنيا والآخرة يدل على البغض، فثبتت بذلك صفة البغض، والغايات المحمودة في مفعولات الله ومأموراته تدل على الحكمة البالغة، فحينما أوجب القصاص، وقطع يد السارق، وجلد الزاني، فهذه أراء محمودة تؤدي إلى الزجر عن المعاصي، فالغايات المحمودة في مأمورات الله الشرعية وفي مفعولاته تدل على حكمته البالغة، فثبتت الحكمة بالأصل، إذاًً فثبتت الرحمة والمحبة والحكمة بالعقل. فنقول لهم: فلماذا لم تثبتوها -مع أن العقل قد أثبتها- كما أثبتم الصفات السبع؟! فهذا منكم تفريق بين متماثلين، وهو مكابرة منكم. والجواب الثاني -وهو الجواب بالتسليم- أن يقال لهم: سلمنا تنازلاً مع الخصم أن العقل يدل على الصفات السبع ولا يدل على ما عداها، لكنه لا ينفي ذلك، وكون العقل لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الوقت، بل أثبت سبعاً وسكت عن الباقي، وإذا سكت عنها فليس معناه أنه ينفيها، بل قد دل دليل آخر عليها بأنها ثابتة، فالأدلة متعددة وليست محصورة في العقل، فإذا كان العقل لا يثبتها فهو لا ينفيها، وكونه لا ينفيها لا يدل على أنها ليست ثابتة في نفس الأمر؛ لجواز أن تكون ثابتة بدليل آخر، وهو الواقع هنا، فالعقل لم يثبتها لكن أثبتها الشرع، والشرع دليل مستقل بنفسه، كما أن العقل دليل مستقل، والطمأنينة إلى الشرع في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل، فإذا كان الدليل العقلي يثبت الصفات السبع والدليل الشرعي يثبت بعض الصفات، وهذا دليل وهذا دليل، وكلاهما دليل معترف به، والطمأنينة إلى الدليل الشرعي في باب الاعتقاد أقوى من الطمأنينة إلى العقل؛ فما الذي سوغ لكم نفي مدلول الدليل الشرعي مع أنه دليل ومعترف به؟! فإثباتكم للصفات السبع بالعقل ونفيكم لما عداها -مع أن بقية الصفات قد دل عليها دليل آخر مماثل للعقل- مكابرة منكم. وبهذا يبطل ما ذهب إليه الأشاعرة من التفريق بين الصفات من إثبات بعضها ونفي بعضها، ويتبين من هذا أن الأشاعرة متناقضون، فهم يفرقون بين الصفات مع أن الباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. ولهذا تسلط عليهم المعتزلة، فقالوا لهم: مذهبكم هذا غير معقول وغير متصور، بل أنتم مذبذبون، فكيف تثبتون بعض الصفات وتنفون البعض؟! فإما أن تثبتوا الجميع فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، أو تنفوا الجميع فتكونوا إخواناً لنا من جميع الوجوه. فليس لكم إلا واحد من أمرين: أن تنفوا السبع الصفات فتكونوا معتزلة مثلنا، أو تثبتوا بقية الصفات فتكونوا مشبهة مجسمة -لأنهم يسمون أهل السنة مشبهة ومجسمة- أما أن تبقوا مذبذبين فهذا لا يصح؛ لأنه تناقض.

دحض شبهة أهل التعطيل

دحض شبهة أهل التعطيل فالشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هي أنهم يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، والأجسام تتشابه، والله ليس له شبيه ولا مثيل، والأشاعرة يقولون: يلزم من إثبات الصفات -عدا الصفات السبع- التشبيه والتجسيم، والمعتزلة يقولون: يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتجسيم، بخلاف الأسماء، فإنه لا يلزم منه التشبيه أو التجسيم عندهم. والجهمية يقولون: يلزم من إثبات الأسماء والصفات جميعاً التشبيه والتجسيم؛ لأننا لا نرى متصفاً بهذه الصفات أو مسمى بهذه الأسماء إلا وهو جسم، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، لكنهم عموا عن آخر الآية: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهذه طريقة أهل البدع، فإنهم يقولون ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، فأخذوا بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وعموا عن قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ولما أصلوا هذه الشبهة واعتمدوا عليها، ثم جاءت النصوص في إثبات الصفات صاروا مترددين بين أحد أمرين: إما أن يسلكوا مسلك التفويض، وإما أن يسلكوا مسلك التحريف، وهذا يسمونه تأويلاً، والتفويض معناه: أن يسكتوا عن تفسير معناها ويعتقدوا أنها ليس لها معنى، ويفوضون المعنى إلى الله، فيقولون: لا نعلم معناها، فالعلم والقدرة والاستواء لا نعلم معناها، وطريقة التفويض هذه نسبوها إلى السلف زوراً وبهتاناً، والصحيح أنها ليست طريقة السلف، فالسلف يعرفون المعنى، وهؤلاء يفوضون ويقولون: لا نعلم معناها، فلفظ (استوى) والعلم والقدرة والسمع مثل الحروف الأعجمية، فكما أن العربي لا يفهم معنى الحروف الأعجمية فكذلك لا يفهم معنى (استوى) والقدرة والعلم والسمع والبصر إلى آخر الصفات. وهذه الطريقة يسمونها طريقة التفويض، وهي باطلة؛ لأنها ليست طريقة السلف، وطريقة السلف هي إثبات المعنى وتفويض الكيفية، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: معلوم معناه في اللغة العربية- والكيف مجهول، يعني أن الكيفية مجهولة، فلا نعلم كيف اتصف بهذه الصفة، فهذا هو الذي نفوضه إلى الله. ولهذا فسر العلماء الاستواء بالاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، لكن كيفية استواء الرب أمر مجهول، وهو الذي نفوضه؛ لأنه لا يعلم كيفية الاستواء إلا هو، ولا يعلم كيفية النزول إلا هو، ولا يعلم كيفية العلم إلا هو، ولا يعلم كيفية القدرة إلا هو، وهكذا يقال في جميع الصفات، فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، لكن هؤلاء سلكوا مسلك التفويض، فهم يفوضون المعنى لا الكيفية، وهذا غلط. الطريق الثاني: طريق التحريف، وهم يسمونه تأويلاً، وهو أن يخترعوا للصفات معاني يبتدعونها من عند أنفسهم، فمثلاً صفة اليد قالوا: معناها القدرة، والرحمة معناها: النعمة، والرضا معناه: الثواب أو الإنعام، والغضب معناه: العقاب، وهكذا، فهذه طريقة التحريف الذي يسمونه تأويلاً. ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقصدهم بطريقة السلف طريقة التفويض، وهذا من أبطل الباطل، فليست هذه ولا تلك طريقة السلف، بل طريقة السلف هي إثبات معاني الصفات، فهم يثبتونها، وإثباتهم لها على ما يليق بجلاله وعظمته، ويقولون: كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فنحن نقطع ونجزم بأن لله صفات لكنها صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فنحن نثبتها لله ونعلم معناها، لكن لا نعلم الكيفية هذه هي الشبهة التي يعتمد عليها أهل البدع، وقد رددنا عليها تفصيلاً، فقد رددنا على الجهمية، ثم على المعتزلة، ثم على الأشاعرة. وهناك جواب إجمالي -وهو نافع ومفيد- على هذه الشبهة التي يعتمد عليها جميع فرق المعطلة، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات، وأثبت لنفسه الأسماء، وكذلك أثبتها له رسوله، وفي المقابل نفى عن نفسه المشابهة والمثل فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. فالله تعالى نفى عن نفسه المشابهة والمماثلة، فلو كان يلزم من إثبات الصفات التشبيه والتمثيل لما أثبتها تعالى لنفسه، فالقرآن والسنة أثبتا الصفات، ونفيا التمثيل والتشبيه. ومع نفيه سبحانه عن نفسه المشابهة أثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهنا نفى عن نفسه المماثلة، ثم أثبت لنفسه الصفات فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] فنهى عن ضرب الأمثال له، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، فأثبت لنفسه العلم. فلو كان نفي المماثلة يستلزم نفي الصفة لما أثبت الله الصفة لنفسه، وللزم من ذلك التناقض في كلام الله وكلام رسوله، وحاشا أن يكون في كلام الله تناقض، فالله ينفي عن نفسه المماثلة ويثبت لنفسه الصفات في نص واحد، فلو كان إثبات الصفة تمثيلاً للزم التناقض في كلام الله؛ لأنه القائل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهذا نفي المماثلة، وقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ومن المعلوم أنه ليس هناك شيئان في الوجود إلا وهناك قدر مشترك بينهما، فيشتركان في مسمى الشيء، ووجوده في الذهن، فكل شيئين في الدنيا بينهما اشتراك في الذهن يشتركان فيه، لكن متى يكون هذا الاشتراك؟! يكون عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا لا يلزم منه المشابهة والمماثلة في الخالق، فليس هناك شيئان إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه في الذهن، فهناك تشابه لا بد منه في الذهن، ومن نفى التشابه فقد نفى وجود الله، ونفى صفاته، كما قرر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في رسالته: (الرد على الزنادقة)، وكما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن قال: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه فقد أنكر وجود الله، بل هناك وجه تحتمله المشابهة، وهو القطع عن الإضافة والتخصيص في الذهن لا في الخارج، وهو مسمى الشيء والوجود. فكلمة (شيء) وكلمة (موجود) تشملان الخالق والمخلوق، فالله شيء، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] والله موجود، والمخلوق شيء، وهو موجود، فهذا اشتراك في الذهن وليس في الخارج، ويزول هذا الاشتراك عند الإضافة والتخصيص، فنقول: وجود الله، ووجود المخلوق، فينتهي الاشتراك، فوجود الله أكمل من وجود كل موجود، ووجود المخلوق ناقص مسبوق بالعدم، وأيضاً يلحقه النقص من النوم والموت، بخلاف وجود الخالق سبحانه. إذاً: فليس هناك شيئان إلا وهما يشتركان في مسمى الشيء ووجوده، فلفظ (موجود) لا يلزم منه الاشتباه في مسمى الأمر ووجوده الذي هو أمر ذهني، ولا ينسحب هذا الاشتباه إلى الاشتباه عند وجوده في الخارج، وهذا هو أصل بلاء المعطلة الذين ظنوا أن الاشتباه الذي يكون في الذهن في مسمى الشيء والوجود ينسحب إلى المماثلة في الخالق، وهذا باطل. فالعرش والبعوضة والفيل تشترك في مسمى الشيء ووجوده، فالبعوضة شيء، والعرش شيء، والفيل شيء، فهل يقول عاقل: إن اشتراك البعوضة والفيل أو العرش في مسمى الشيء والوجود يلزم منه الاشتراك في الصفات؟ لا يقول بذلك أحد، وهذا عند القطع عن الإضافة والتخصيص، لكن إذا قلت: وجود الفيل، ووجود البعوضة، ووجود العرش، فلا اشتراك حينئذ؛ لأنك أضفت وخصصت، وإنما يوجد الاشتراك عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهو يكون في الذهن. وكذلك أسماء المخلوقين وصفات المخلوقين تشارك أسماء الله وصفاته عند القطع عن الإضافة والتخصيص، وهذا يكون في الذهن، فإذا قيل: هل لفظ العلم، ولفظ القدرة، ولفظ السمع، ولفظ البصر، فيها اشتراك؟ قلنا: نعم؛ لأن السمع يشمل سمع الخالق وسمع المخلوق، والبصر يشمل بصر الخالق وبصر المخلوق، والعلم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق، والقدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق، ويزول الاشتباه عند الإضافة والتخصيص، فتقول: علم الخالق، وعلم المخلوق، وقدرة الخالق وقدرة المخلوق، وهكذا بقية الصفات. وكذلك لفظ (الإنسانية) في الذهن يشترك فيه عمر وخالد وبكر، وعمر وخالد لا يشتبهان في الخارج، لكنهما يشتبهان في مسمى الإنسانية، فكل منهما إنسان. ومثله مسمى الحيوانية، ففيه اشتراك، فيدخل فيه الأسد والنمر والخيل والحمار والكلب والقرد، لكن إذا جئت إلى أوصاف هذه الحيوانات فلن تجد اشتباهاً بين القرد والفرس في الخارج.

ضلال أهل الكلام والفلسفة في إثبات توحيد الربوبية

ضلال أهل الكلام والفلسفة في إثبات توحيد الربوبية إن توحيد الأسماء والصفات أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، فالأسماء والصفات كلها ثابتة لله، وهذه الطوائف انحرفت في هذا التوحيد مع أنه فطري، كما أن توحيد الربوبية أمر فطري أيضاً، ومع ذلك انحرفت فيه هذه الطوائف، وأقر بهما المشركون ولم ينكروهما، وقد عرف الله تعالى العباد بنفسه وبصفاته وأفعاله، وعرفهم بعظيم حقه حتى يعبدوه، ولهذا فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الألوهية والعبادة، فالغاية هي توحيد الألوهية والعبادة، فقد خلق الله الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ويخلصوا له العبادة. ولهذا نجد القرآن الكريم يحتج على المشركين في إلزامهم بتوحيد الألوهية بتقريرهم بتوحيد الربوبية، فكما أنكم تقرون بتوحيد الربوبية فأقروا بتوحيد الألوهية، واعبدوا الله وأخلصوا له الدين، فهو يلزمهم بشيء يعتقدونه ويثبتونه. فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمران فطريان فطر الله عليهما جميع الخلق، إلا من شذ، وقد أثبتهما المشركون في أزمنة متعددة من الأزمنة الغابرة. مع ذلك فكثير من أهل الكلام، وكثير من أهل النظر، وكثير من أهل الفلسفة، وكثير من أهل التصوف قد تعبوا في إثبات توحيد الربوبية، حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن إثباته بالعقل، مع أنه أمر فطري أقر به المشركون، وأقر به قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وأقر به مشركوا العرب، كما في القرآن، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61]، وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84 - 88]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]. إذاً: فهؤلاء لم ينكروا توحيد الربوبية، ولم تنكره الأمم السابقة، ومع ذلك جاء أهل الكلام والنظر والفلسفة والتصوف فقالوا: لا نستطيع إثبات توحيد الربوبية بالعقل، وقالوا: إنما يتلقى بالسمع لا بالعقل. فالفلاسفة وفرق المتصوفة تعبوا وهم يقررون النظريات والمناهج الفلسفية ويؤلفون الكتب في إثبات توحيد الربوبية، فقد سئموا وتعبوا كثيراً حتى وصلوا إلى توحيد الربوبية، وظنوا أنهم بوصولهم إلى توحيد الربوبية قد وصلوا إلى الغاية والنهاية، فهم مع تعبهم العظيم وإضاعتهم للأوقات، وتفنيدهم للكتب والأوراق يصلون في النهاية إلى شيء قد سبقهم إليه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان أقروا بتوحيد الربوبية بكل يسر وسهولة، وليس عندهم فيه إشكال، وأهل الكلام والتصوف صعب عليهم توحيد الربوبية. وقال كثير من أهل الكلام: إن الدليل على وجود الرب هو دليل التمانع، وهو أمر فطري، قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:10] ففطر الله جميع الخلق على إثبات وجوده، وهؤلاء يقولون: الدليل على إثبات توحيد الربوبية دليل التمانع. ودليل التمانع عندهم هو دليل بطريقة السبر والتقسيم، فيقولون: لو كان للعالم خالقان وربان، فعند اختلافهما -كأن يريد أحدهما تحريك جسم والآخر يريد تسكينه، أو يريد أحدهما إحياء شيء والآخر يريد إماتته- لا يخلو الأمر من أن يحصل مرادهما، أو يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مرادهما جميعاً، والعقل لا يتصور أكثر من هذا التقسيم، فأما الأول فباطل تماماً، وهو أن يحصل مرادهما جميعاً؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المتناقضين، فيكون الشيء متحركاً ساكناً في نفس الوقت، أو يكون حياً ميتاً في نفس الوقت، وهذا مستحيل وممتنع، فبطل الأمر الأول. والثالث -أيضاً- مستحيل، وهو أنه لا يحصل مراد واحد منهما؛ لأنه يلزم منه رفع النقيضين معاً، فيكون الشيء غير متحرك ولا ساكن، ولا حي ولا ميت، وهذا مستحيل، فرفع النقيضين كالجميع بينهما، ويلزم منه عجز كل منهما، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً. ولم يبق إلا الأمر الثاني، وهو أن يحصل مراد أحدهما ولا يحصل مراد الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله القادر، والذي لا يحصل مراده عاجز لا يصلح للألوهية ولا للربوبية. قالوا: فهذا هو الدليل على إثبات الرب، فنقول لهم: لا حاجة إلى هذا؛ لأن إثبات الرب أمر فطري فطر الله عليه الخلق، وهو أمر ضروري لا يستطيع الإنسان أن ينكره. وبعضهم يظن أن هذا الدليل هو معنى قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية، وهذا باطل، فإن الآية ليست في دليل التمانع في الخالق، وإنما هي تمانع في الألوهية؛ لأن الله قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:22]. وهذا أيضاً إنما يكون بعد وجودهما؛ لأنه قال: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فهذا فساد بعد الوجود، فبين سبحانه وتعالى أنه لو كان فيهما معبودان لفسد نظام السموات والأرض، وأن الفساد يلزم من وجود إلهين، وأنه لا صلاح للسموات والأرض إلا بأن يكون فيهما معبود واحد، وأن يكون هذا المعبود هو الله وحده؛ لأن السموات والأرض إنما قامتا بالعدل، وأعدل العدل هو توحيد الله عز وجل، وأظلم الظلم هو الشرك. فأهل البدع يظنون أن هذه الآية تدل على توحيد الربوبية، وهذا خطأ، وإنما تدل على توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية.

أهمية العلم بالفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة

أهمية العلم بالفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة إن كثيراً من الناس لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويظنون أن الموحد هو الذي يثبت الرب ويثبت أسمائه وصفاته وأفعاله فقط، ولو لم يعبده، وهذا باطل. فالتوحيد الذي أثبته القرآن، والذي خلق الله الخلق من أجله، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، هو توحيد العبادة والألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، فالمعبود هو الخالق، والعاجز لا يصلح للعبادة، فالله تعالى معبود لكماله؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، فهو له الكمال المطلق؛ لأنه متصف بالأسماء الحسنى، ولأنه خلق الخلق وأوجدهم من العدم، ولأن هذا الكون قام به سبحانه، وهو الحي القيوم. إذاً: فالتوحيد الذي قرره القرآن هو توحيد العبادة، وهو الذي أنكره المشركون، لكن كثيراً من أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف لا يعرفون توحيد العبادة، ويظنون أن توحيد الربوبية هو توحيد العبادة، وأنه لا فرق بينهما، وأن من أثبت الربوبية فقد عبد الله، وهذا من أبطل الباطل، والأدلة على هذا كثيرة، وقد أخبر الله سبحانه عن الأمم السابقة أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وإنما حصل شركهم في العبادة، قال سبحانه وتعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وقد ثبت في صحيح البخاري وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء أن هذه الأسماء -وهي: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر- أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا وغلا فيهم من بعدهم لصلاحهم، وعكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. إذاً فشرك قوم نوح كان في العبادة، فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم نوحاً عليه السلام ليدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى توحيد وإخلاص العبادة له، فمكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى التوحيد. فالمطلوب هو توحيد العبادة، ولا يكفي توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية وسيلة إلى توحيد العبادة. وكذلك قوم صالح عليه السلام، فقد كانوا كفاراً، ومع ذلك كانوا يقرون بوجود الله، وكان كفرهم هو عدم توحيد الله، وعدم الاعتراف والإقرار والإيمان بنبوة صالح عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:48 - 49]، فهؤلاء التسعة الرهط من قوم صالح كانوا كفاراً، ومع ذلك أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام وأهله، فهم مقرون بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل:49]، وكان شركهم في العبادة، وقد دعاهم صالح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله ولم يدعهم إلى توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون بتوحيد الربوبية. وكذلك المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأمم السابقة، كأمة الهند والترك والبربر، كل شركها كان في العبادة، بدليل أن هذه الأصنام التي وجدت في قوم نوح انتقلت إلى العرب، كما ثبت ذلك عن ابن عباس، وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بالربوبية، وأن شركهم إنما هو في عبادة هذه الأصنام، قال الله تعالى عنهم وهم يطلبون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر:3] أي: قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فهم أشركوا في العبادة، فهم يطلبون القربى من الله بهذه الأصنام والأوثان، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]. وثبت في الصحيحين أن أم سلمة وأم حبيبة كانتا قد هاجرتا إلى الحبشة، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله). وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) لأن ذلك ذريعة إلى الشرك. وقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بخمس ليال: (لا تتخذوا القبور مساجد)، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً)، قالت عائشة: لولا ذلك لأبرز قبره عليه الصلاة والسلام. إذاً: فالتوحيد مطلوب من الأمم، وهو خلاصة دعوة الرسل وزبدتها، وأما أهل الكلام وأهل النظر وأهل الفلسفة وأهل التصوف؛ فلا يفرقون بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية، وهذا من البلاء، فلا بد من أن يكون طالب العلم على بصيرة من هذا الأمر، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولم يقل: أو يمسلمانه، فدل هذا على أنه مفطور على الإسلام. وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد -وهو حديث قدسي- يقول الرب عز وجل: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشيطان عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم). وأما توحيد الربوبية فهو أمر فطر الله عليه جميع الخلق، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:30 - 37]. ففي هذه الآيات مناقشة ومحاجة ومجادلة للمشركين، وإثبات لتوحيد الألوهية والربوبية، فلابد من معرفة هذا الأمر. وهؤلاء -أعني الفلاسفة وأهل التصوف وأهل النظر وأهل الكلام الذين غايتهم ونهايتهم توحيد الربوبية- إن لم يوحدوا الله في ألوهيته فهم مشركون من جنس أمثالهم من المشركين والوثنيين، فإذا ماتوا على ذلك فهم من أهل النار؛ لأن من مات وهو مثبت لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ولا يعبد الله ولا يوحده؛ فهو من أهل النار، ولا ينفعه هذا التوحيد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كفر المشركين، واستحل دماءهم وأموالهم مع أنهم كانهوا يقرون بتوحيد الربوبية. إن كثيراً من أهل الكلام -ومنهم بعض الأشاعرة- لا يفرقون بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويفسرون (لا إله إلا الله) بتوحيد الربوبية، ويقولون معناها: لا خالق إلا الله. وهذا غير صحيح؛ لأنه لو كان معناها (لا خالق إلا الله) لما امتنع المشركون من اعتقادها، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) امتنعوا وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:5 - 6] أي: اصبروا على عبادة الأصنام والأوثان، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6 - 7] أي: ما سمعنا بهذا الكلام في الأمم السابقة، فبعض الأشاعرة يقول: المعنى: لا خالق إلا الله. فيفسرون الإله بالخالق، وبعضهم يقول: لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا تفسير باطل، فمعنى (لا إله) ك لا معبود بحق (إلا الله)، وهذه هي كلمة التوحيد، وهي كلمة عظيمة لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وحقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، وانقسم الناس إلى فريقين: شقي وسعيد، فكيف يكون معناها: لا قادر إلا الله؟! إن عظمة هذه الكلمة لا تتبين، ولا يظهر منها أنها تنفي الألهية عن جميع المعبودات إلا إذا فسر الإله بالمعبود، فيكون معنى (لا إله)، أي: لا معبود، فـ (لا) نافية للجنس تعمل عمل (إن)، فتنصب الاسم وترفع الخبر، و (إله): اسمها، والخبر محذوف والتقدير: لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله. وأما تفسير بعض الأشاعرة وبعض أهل الكلام للإله بأنه القادر أو الخالق؛ فهو تفسير باطل؛ لأن معناه تفسير كلمة التوحيد بتوحيد الربوبية، وهذا باطل، فلو كان المعنى: (لا خالق إلا الله)، فهل يمتنع المشركون من أن يقولوا: لا خالق إلا الله وقد قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]؟! إن كثيراً من الصوفية لا يفرقون بين توحيد الر

الأسئلة

الأسئلة

اعتقاد الأشاعرة في ذات الله تعالى

اعتقاد الأشاعرة في ذات الله تعالى Q هل صحيح أن الأشاعرة يعتقدون أن الله في كل مكان؟ A المعروف عن المتقدمين من الأشاعرة أنهم لا يعتقدون هذا الاعتقاد، فـ أبو الحسن الأشعري وغيره لا يثبتون العلو، وقد يفسرون الاستواء بالقدرة. وأما متأخروا الأشاعرة -كـ الرازي - فقالوا بنفي النقيضين عن الله، وهذا القول أشد من القول بالحلول. والرازي أشعري، لكنه تحول بنفيه النقيضين عن الله إلى جهمي، فقرر في كتابه (أساس التقديس) وغيره أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه! وهذا أشد من القول بالحلول، والأشاعرة لا يقولون بالحلول، وإنما يقول بهذا الجهمية ومن تحول إليهم من الأشاعرة كـ الرازي. والجهمية -كما سبق- طائفتان: طائفة تقول بالحلول والاتحاد، وهم المتقدمون منهم، كعباد الصوفية، وطائفة تقول بنفي النقيضين عن الله، وهؤلاء أشد كفراً ممن يقول بالحلول والاتحاد؛ لأن هذا وصف لله بالممتنع، فمن كان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، فكيف سيكون؟! سيكون معدوماً، بل أشد من المعدوم، فإنه يمتنع ويستحيل وجود من يتصف بهذه الأوصاف. وأما الذين يقولون بالحلول والاتحاد فإنهم أثبتوا وجودين أحدهما حل في الآخر، وهذا كفر، ولكنه أقل كفراً من نفي النقيضين. فالمقصود أن الأصل في الأشاعرة أنهم لا يقولون بهذا، لكن من قال منهم بالحلول أو الاتحاد، أو قال بنفي النقيضين فإنه يتحول من كونه أشعرياً إلى كونه حلولياً أو اتحادياً.

الأشاعرة والقول بخلق القرآن

الأشاعرة والقول بخلق القرآن Q هل يقول الأشاعرة بخلق القرآن؟ A لا يقول الأشاعرة بذلك، والمعروف أن الذين قالوا بخلق القرآن هم الجهمية والمعتزلة، وأما الأشاعرة فيثبتون الكلام لله تعالى، لكن لا يثبتونه على الوجه الصحيح، فكلام الله عندهم معنىً قائم ليس بحرف ولا صوت؛ لأن الحرف والصوت عندهم مخلوقان، ويقولون: إن كلام الله تعالى في نفسه كالعلم، فلا يسمع، وإن جبريل عبر عن المعنى القائم في نفس الله بالقرآن، فالله تعالى اضطره حتى فهم المعنى الذي قام في نفسه، فعبر به. ويقولون أحياناً: إن الذي عبر بالقرآن هو محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن قول محمد وقول جبريل، فالمعنى من الله واللفظ من محمد وجبريل عليهما السلام، فجبريل فهمه من نفس الله، والله تعالى لا يتكلم بحرف ولا صوت؛ لأن الحرف والصوت حادثان، هكذا يقولون. وقال بعضهم: إن الذي تكلم بالقرآن هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ ولم يتكلم به الله، وعلى هذا فيكون القرآن الموجود بين أيدينا على مذهب الأشاعرة يسمى قرآناً مجازاً؛ لأن كلام الله تأدى بالقرآن، وكلام الله معنى تأدى بهذا النص؛ لأن الكلام معنى نفسي لا يسمع، لكن هذا القرآن تأدى به كلام الله، فيسمى كلام الله مجازاً. وهم أحياناً يقولون عند خصومهم: القرآن كلام الله، وأما عند المناظرة فيقولون: إن مقصودنا بذلك أنه كلام الله مجازاً، وقلنا: كلام الله لأنه تأدى به كلام الله. وعلى هذا المذهب تكون الحروف والأصوات مخلوقة، والمعنى غير مخلوق، فيكون مذهبهم نصف مذهب الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يقولون: إن القرآن مخلوق حروفه ومعانيه، والأشاعرة يقولون: إن المعاني ليست مخلوقة، وأما الحروف والألفاظ فمخلوقة. وصفة الكلام من الصفات السبع التي أثبتوها، لكنهم لم يثبتوها على وجهها، فالكلام عندهم معنىً قائم بالنفس لا يسمع، والحروف والأصوات دليل على ذلك المعنى، ويستدلون بقول الأخطل النصراني: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فالكلام في القلب، واللسان يعبر عما في القلب ويترجم عنه ويدل عليه فقط، فهذا القرآن الموجود في المصاحف ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله؛ لأنه تأدى به كلام الله تعالى، وهذا مذهب خطير. ولهذا تجرد الإمام ابن القيم رحمه الله في كثير من كتبه، وكذلك شيخ الإسلام وغيرهم من علماء السنة للرد على هؤلاء؛ لأن أمرهم ملتبس أكثر من التباس مذهب الجهمية والمعتزلة، ولأنهم يسمون كتبهم كتب أهل السنة.

الفرق بين طريقة إثبات الأشاعرة للسبع الصفات وطريقة أهل السنة

الفرق بين طريقة إثبات الأشاعرة للسبع الصفات وطريقة أهل السنة Q هل طريقة إثبات الأشاعرة للصفات السبع مثل طريقة أهل السنة؟ A ذكرنا أنهم يثبتون السبع الصفات بالعقل والشرع، ويقولون: إنه اجتمع فيها دليل العقل والشرع؛ فلذلك نثبتها، وأما بقية الصفات فيؤولونها، لأنها لم يدل عليها العقل وإن دل عليها الشرع. وأما أهل الحق -وهم أهل السنة- فيثبتونها لأن النصوص أثبتتها، ولا ينظرون إلى العقل هل أثبتها أم لا، لكن لا شك في أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح، وهذه قاعدة عند أهل العلم، فالعقل الصريح السالم من الشبهة والشهوة، والسالم من الإرادة الباطلة والهوى يوافق النقل الصحيح، ولا يمكن أن يوجد اختلاف بينهما، وإن وجد اختلاف فذلك لأحد أمرين: إما لأن العقل غير صريح، بل فيه انحرف بسبب شبهة أو شهوة، أو أن النقل غير صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنقل الصحيح -قرآناً كان أو سنة- لابد من أن يوافق العقل الصريح.

أقسام صفات الله تعالى

أقسام صفات الله تعالى Q هل يصح أن نقول: إن الصفات المأخوذة من أسماء الله صفات ذاتية لا تنقل عن الله تعالى؟ A الصفات عند أهل الحق على قسمين: صفات ذاتية لا تنفك عن الباري، كالعزة والقدرة والعظمة والكبرياء والعلم والسمع والبصر واليد والرجل والوجه. وصفات اختيارية، وتسمى فعلية، وهي التي تتعلق بالإرادة والمشيئة والاختيار، كالغضب، فالله تعالى يغضب إذا شاء، والرضا، فهو يرضى إذا شاء، وكذلك الكلام، فيتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، فالكلام من الصفات الذاتية الفعلية، فهو قديم النوع حادث الآحاد، فالرب سبحانه يتكلم متى شاء بما شاء، وهو يتكلم بقدرته ومشيئته سبحانه وتعالى.

القراءة في كتاب (نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين)

القراءة في كتاب (نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين) Q بعض أئمة المساجد يقرءون بعد العصر من كتاب (نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين)، فهل تصلح القراءة في هذا الكتاب على العامة؟ A كتاب (رياض الصالحين) كتاب عظيم ومبارك نفع الله به، فإذا قرأ الأئمة منه فهذا أمر طيب، وإذا كان الإمام عنده بصيرة فعلق عليه فذلك جيد، وهناك شروحات كثيرة على هذا الكتاب، منها: (دليل الفالحين)، (ونزهة المتقين)، وهذا الأخير مختصر، وعليه تعليقات مختصرة، وكذلك (دليل الفالحين) كتاب جيد، وعليه بعض الملاحظات، وأنا لي كلمات في شرح (رياض الصالحين) ألقيتها في الإذاعة، ثم كتبت بعضها ولم أكمل ذلك. وعلى كل حال فإن كتاب (نزهة المتقين) فيه تحليل وتفسير للألفاظ، ووقع فيه تأويل لبعض الصفات، وكذلك (دليل الفالحين) عليه بعض الملحوظات في الصفات، فيحذر من ذلك فيهما، والأصل المعروف الآن في المساجد هو قراءة كتاب (رياض الصالحين)، وهذا يكفي، وإذا كان الإمام طالب علم وعلق على بعض الأحاديث فهذا طيب، وهذا نور على نور.

تفسير المعية عند أهل السنة والجماعة

تفسير المعية عند أهل السنة والجماعة Q لماذا أهل السنة لا يمرون قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] على القاعدة، وهي إثبات المعنى لفظاً وتفويض الكيفية، ويقولون: إنه فوق العرش وهو معنا بعلمه؟ A أهل السنة والجماعة مدينون للنصوص، ويجمعون بينها، فحينما يقول الله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] فإنهم يستدلون بنفس النص على المراد بذلك العلم؛ لأن ذكر العلم جاء في مثل هذا النص، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فعلم أن معنى ذلك معية العلم. ثم إن أدلة إثبات الفوقية أدلة ونصوص محكمة واضحة لا لبس فيها، وهي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، مثل قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فليس فيه إشكال، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل الجارية -كما في صحيح مسلم -: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)، فهم يجمعون بين النصوص ويضمون بعضها إلى بعض، فدل ذلك على أن المعية هنا ليس معناها الاختلاط بالمخلوقات، وإنما هي معية علم واطلاع وإحاطة ونصر وتأييد وحفظ للمؤمنين. فالله تعالى فوق السموات وفوق العرش بذاته، وهو مع الخلق بعلمه واطلاعه وإحاطته وبصره ونفوذ قدرته ومشيئته وتصرفه في خلقه.

[6]

دروس في العقيدة [6] يتميز التصوف بانتشار واسع في بلاد المسلمين، ويكمن خطر هذا المذهب في بدع أصحابه وعقائدهم المفضية إلى الفناء المتمثل في الاكتفاء بتقرير توحيد الربوبية بمشاهدة قدرة الله ومشيئته في خلقه، وفي جعلهم الناس طوائف، فطائفة هم أصحاب الشريعة، وأخرى هم أصحاب الحقيقة، وثالثة هم أصحاب التحقيق، وإسقاطهم التكاليف عن طائفتي الحقيقة والتحقيق، وذهاب كثير منهم إلى القول بوحدة الوجود، مع ما يقررونه من بدع في طريق السلوك إلى الله تعالى.

تقرير توحيد الربوبية وبيان حال من ضل فيه

تقرير توحيد الربوبية وبيان حال من ضل فيه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن علم أصول الدين أشرف العلوم وأجلها، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعظيم حقه سبحانه على عباده، وقد افتتح الإمام الطحاوي رحمه الله رسالته بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. وهو يشمل أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية. وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الإلهية. وتوحيد الإلهية هو الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، فإذا عرفنا الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وجب علينا أن نخصه بالعبادة، وأن نفرده بها سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى فطر الخلق على الإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فتوحيد الربوبية أمر فطر الله عليه جميع الخلق إلا من شذ من بعض طوائف بني آدم، ومشركو الأمم السابقة يعترفون بهذا التوحيد ولا ينكرونه، كأمة الهند والترك والبربر، وكذلك الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الأنبياء السابقين، كقوم نوح وهود وصالح، كلهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويقرون به ولا ينكرونه، ويحلفون بالله، كما أخبر الله عن التسعة الرهط الكفار أنهم أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام. ومع كون توحيد الربوبية أمراً قد فطر الله عليه الخلق كلهم -إلا من شذ- فقد جاء أهل الكلام المتأخرين، وأهل النظر، وأهل الفلسفة، وأهل التصوف فتعبوا في إثبات هذا التوحيد وتقريره، فجعلوا يدأبون كثيراً ويتعبون، ويقررون النظريات، ويسوقون الأدلة لإثبات هذا التوحيد، مع أنه أمر فطر الله عليه الخلق جميعاً، ولهذا قالت الرسل لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، حتى الحيوانات العجماوات فطرها الله على معرفة ربها، وأن الله في السماء، وأنه في العلو، لكن الفلاسفة تعبوا في إثباته وتقريره، حتى قال بعض أهل الكلام وأهل النظر: إنه لا يمكن تقريره بالعقل، وإنما يتلقى من السمع. وكذلك الفلاسفة -مثل ابن سينا والفارابي - تعبوا في إثبات الخالق، ويدأبون كثيراً ويصلون في النهاية إلى أن هذا الوجود له موجد يسمونه واجب الوجود، والمخلوق يسمونه ممكن الوجود، فهم يعبون كثيراً، وفي نهاية المطاف يصلون إلى أمر برز عليهم فيه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان معترفون بوجود الله وليس عندهم إشكال، ولا تعبوا في معرفة هذا، بخلاف الفلاسفة، فقد تعبوا كثيراً، فيقررون ويذكرون الأدلة، وكذلك أهل الكلام وأهل النظر يركبون الأدلة في هذا حتى يصلوا إلى إثبات وجود الله.

الفناء وأنواعه عند الصوفية

الفناء وأنواعه عند الصوفية الصوفية يرون أن توحيد الربوبية هو النهاية والغاية، حتى إنهم إذا وصلوا إليه فنوا فيه، ومعنى أنهم يفنون فيه أنهم يستغرقون في توحيد الربوبية، وفي رؤية الله ووجوده، وتفرده بخلق الأشياء وملكها واختراعها، وأنه ما شاء الله كان، ويستغرقون في شمول مشيئة الله، وشمول ربوبيته للأشياء وقيوميته وقدرته، ونفوذ مشيئته، ويشهدون ما اشتملت عليه المخلوقات من قدرة الله عليها، وملكه لها، ونفوذ مشيئته وشمول قيوميته وربوبيته. وهذا الفناء يعده الصوفية غاية، ويعدونه نهاية التوحيد. وقد انتشر الصوفية في كل مكان من أرجاء الدنيا، فلابد من معرفة توحيدهم وفنائهم حتى يكون الإنسان على بصيرة، لاسيما أن العالم صار كحلقة واحدة، وكثير من الإخوان ابتلوا بالصوفية في بلادهم، فتجد في السودان صوفية، وفي الشام صوفية، وفي مصر صوفية، وفي المغرب صوفية، وفي ليبيا صوفية، وفي باكستان صوفية، وفي أفريقيا صوفية، على طرق متعددة، وكل طريقة لها شيخ، فالصوفية يفنون في توحيد الربوبية، ويرونه الغاية والنهاية.

الفناء عن وجود السوى

الفناء عن وجود السوى والفناء عند الصوفية ثلاثة أنواع: فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن مراد السوى. فالفناء الأول فناء عن وجود السوى، وهو الفناء في الوحدة المطلقة ونفي التكتل عنها بكل اعتبار، فلا يشهد غيراً، ولا يشهد رباً وعبداً، بل يشهد الرب نفس العبد، والعبد نفس الرب، بل ليس هناك رب ولا عبد، وهذا فناء الملاحدة والزنادقة، فناء أهل وحدة الوجود، والفناء عندهم هو الوحدة المطلقة، فيقولون: الخالق هو الواحد المطلق، أي: الذي لا يقيد بشيء، لا باسم ولا بصفة ولا بمكان ولا بزمان، فهو كل الأشياء، فهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وتكتسيه الماهيات كلها، فيفنون في الوحدة المطلقة، والواحد المطلق الذي ليس له اسم ولا صفة يكون في الذهن، وهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وعلى ذلك فلا يكون هناك عبد ورب، فأنت العبد وأنت الرب! نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو فناء الملاحدة والزنادقة، وهذا كفر وإلحاد، بل هو أعظم من كل كفر، وكفر كل كافر جزء من هذا الكفر، نسأل الله السلامة والعافية. ومن هؤلاء الملاحدة والزنادقة ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والقونوي وغيرهم من ملاحدة الصوفية الذين ينعقون بوحدة الوجود، ويقولون: الوجود واحد، وهؤلاء ألغوا عقولهم، نسأل الله السلامة والعافية، وإلا فهذا الكلام لا يتصوره عاقل. وكلمة الفناء كلمة يعنون بها تجريد شهود الحقيقة الكونية والغيب عن شهود الكائنات. فالمخلوقات كلها يغيب عنها وينساها، فلا يكون هناك إلا تجريد شهود الحقيقة الكونية، وهو الله، ويغيب عن شهود المخلوقات كلها، لكن الزنادقة من ملاحدة الوجود يغيبون عن وجود هذه المخلوقات، بمعنى أنهم ينكرون وجود المخلوقات، فلا يقولون: إن هناك خالقاً ومخلوقاً، بل كل ما تراه هو الخالق، فكل ما تراه من سماء وأرض ومتحرك وساكن وناطق هو الله، وهذا تجليه وأسماؤه وصفاته، وهو الوجود المطلق، وكل شيء يلبسه ويخلعه، نسأل الله السلامة والعافية.

الفناء عن شهود السوى

الفناء عن شهود السوى والفناء الثاني هو فناء عن شهود السوى، وهذه هي الدرجة المتوسطة بين ملاحدة وحدة الوجود وبين أهل الشريعة، وهي التي بنى عليها أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الصوفي الحنبلي كتابه (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، الذي شرحه العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فحقيقة هذا الفناء غيبة أحدهم عن سوى مشهوده. فمشهوده هو الله، فلا يشاهد إلا الله، ويغيب عما سواه، بل غيبته أيضاً عن شهوده نفسه، فيقول: أنا لا أشاهد إلا الله، ولا أنكر وجود المخلوقات، لكن أغيب عنها وأتناساها حتى لا تشوش علي، فأنا أوجه شهودي لله فقط، أما كوني أنظر إلى سماوات وأرضين وآدميين وحيوان ونبات فإنه يشوش علي، وأنا أريد أجمع همتي على الله، فلا أشهد إلا الله، وأغيب عما سواه، فيغيب بموجوده عن وجوده، ويغيب بمعبوده عن عبادته، ويغيب بمذكوره عن ذكره، فهو يغيب بالله عن المخلوقات فلا يراها، ويتناسى العبادة من أجل أنه لا يرى إلا المعبود فقط. وقد يقوى شهود القلب بمحبوبه حتى يغيب به، فيظن أنه اتحد به وامتزج، بل يظن أنه هو الله من شدة قوة الشهود، كما يحكى أن رجلاً كان له محبوب فغاب به ونسي نفسه، فألقى المحب نفسه في الماء، فألقى نفسه وراءه في الماء، فقال: أنا وقعت في الماء، لكن أنت ما الذي أوقعك في الماء؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أنا. يعني: نسيت نفسي، وأظن أنك أنا، فأنا أنت وأنت أنا. وهذا من قوة شهود القلب عند الصوفية بالمحبوب، حتى يغيب بالمحبوب عن نفسه وينسى نفسه، فيظن أنه هو المحبوب وأنه اتحد به وامتزج، وهذا يحصل للصوفية. ومن ذلك ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي أنه غاب بالله عن نفسه، فجعل يقول عن نفسه: سبحاني سبحاني، غاب بنفسه عن نفسه، وجعل ينقض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله. يعني نفسه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذه الأقوال لو صدرت من إنسان ومعه عقله فلا شك في كفره، لكن قد يكون زال عقله في هذه الحالة، ويكون مرفوعاً عنه القلم مثل المجنون، فإذا كان عقله معه فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، وإذا كان ليس معه عقل فقد رفع عنه القلم، ويلتحق بالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية. وهذا الكلام يعده الصوفية النهاية والغاية، وهو كمال التوحيد عندهم الصوفية.

الفناء عن مراد السوى

الفناء عن مراد السوى والفناء الثالث هو فناء مراد السوى، أي: الفناء عن إرادة ما سواه، فيكون فانياً بمراد محبوبه منه عن مراده هو فضلاً عن إرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد ربه، أي: المراد الديني الشرعي لا القدري الكوني، وهذا فناء خواص الأولياء والمقربين. ومن تحقيق هذا الفناء ألا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا في الله، ولا يوالي إلا في الله، ولا يعادي إلا في الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا الله، ولا يستعيذ إلا بالله، فيكون أمره كله باطنه وظاهره كله لله. فهذا فناء بمراد ربه عن مراده هو، فالله تعالى أراد منك أن تصرف له العبادة فأنت تقدم حقه، وأراد منك أداء الفرائض فتقدم حقه، وإذا نازعتك نفسك تقدم حق الله، فتفنى وتتناسى حقك من أجل تقديم حق الله، أراد منك ترك المحرمات فتتركها ولو نازعتك نفسك؛ لأنك فنيت بمراد ربك عن مراد نفسك، فتلغي مراد نفسك، بل ومراد الخلائق كلها، ولا تنظر إليه من أجل تقديم مراد الله وما يحبه الله من أداء الفرائض، والابتعاد عن المحارم، والاستقامة على دين الله. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان هناك اتحاد في العقل صحيح فهو اتحاد المرادين هذين، اتحد مراد العبد بمراد ربه، فكل شيء يريده الله فالعبد المؤمن يريده، وكل شيء يكرهه الله فالعبد المؤمن يكرهه، وكل شيء يحبه الله فالمؤمن يحبه، وهكذا. فيكون موافقاً لله فيما يحبه وفيما يكرهه وفيما يخافه، فيقدم مراضي الله ومحابه، ويبتعد عن مساخطه ومناهيه مهما كلفه الأمر، ولا ينظر إلى مراده هو ومطلوبه، بل يلغي مراده لمراد الله، ويلغي محبوبه لما يحبه الله، بمعنى: أنه يقدم المراد الديني الشرعي وما يحبه الله على ما تحبه نفسه، فضلاً عما يحبه غيره من الناس، فيكون دينه كله لله باطناً وظاهراً.

أقسام التوحيد عند الصوفية

أقسام التوحيد عند الصوفية وهذه الأنواع الثلاثة مبنية على أقسام التوحيد الثلاثة عند الصوفية، وهم يقسمون الناس إلى ثلاثة أقسام، ويقولون بناء على ذلك: التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، فالعامة هم أهل الشريعة، والخاصة هم أهل الحقيقة، وخاصة الخاصة هم أهل التحقيق. فالعامة هم الذين لهم الشريعة والتكاليف والأوامر والنواهي والطاعات والمعاصي، أما أهل الحقيقة فليس عندهم معاص، بل كل ما يصدر منهم طاعات؛ لأنهم ارتقوا درجة، ومرتبتهم أعلى من مرتبة العامة، ومن العامة عندهم جميع الأنبياء والمرسلين. أما أهل التحقيق -خاصة الخاصة- فما عندهم طاعات ولا معاص؛ لأنهم وصلوا إلى القول بوحدة الوجود، والعياذ بالله.

توحيد العامة

توحيد العامة فتوحيد العامة عند الصوفية هو الذي يصح بالشواهد، وهو الذي ينفي الشرك الأعظم، والشواهد هي الأدلة والآيات والبراهين، وهذه الأدلة نوعان: أدلة عقلية أو عيانية أو حسية، وهي ما يشاهده الإنسان ويحسه ويعقله، كالشمس والقمر والليل والنهار والسماوات والأرضين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يونس:3]، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فهذه كلها شواهد وأدلة على وحدانية الله. وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد والنوع الثاني: الآيات القرآنية التي أرشد الله بها العباد، فالله تعالى قد أرشد العباد إلى الأدلة العقلية. فقالوا: هذا التوحيد العام الذي يصح بالشواهد، وهو الذي ينفي الشرك الأعظم، وهذه الشواهد والأدلة عقلية وشرعية، فهؤلاء الموحدون هم العامة الذين يحتاجون إلى دليل، أما الخاصة فلا يحتاجون إلى أدلة على التوحيد كما سيأتي، ومن العامة عندهم جميع الأنبياء والمرسلين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأنواع الثلاثة، وقال تعليقاً على قولهم: (توحيد العامة): هذا التوحيد الذي يسموه توحيد العامة هو توحيد الأنبياء والمرسلين، وأكمل الناس في هذا التوحيد هم الأنبياء والمرسلون، وأكملهم -أي: الرسل- أولو العزم الخمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأكملهم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فإنهما قاما بهذا التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفة وحالاً ودعوة للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من التوحيد الذي جاءت به الرسل ودعت إليه، وإذا كان هذا هو توحيد العامة فهنيئاً للعامة أن يكون توحيدهم توحيد الأنبياء والمرسلين. ويقول الصوفية: إن هذا التوحيد -توحيد العامة- هو الذي ينفي الشرك الأعظم، وهذا يدل على كماله وشرفه، فقد قامت عليه الشواهد، ونادت عليه الأدلة، وهو ينفي الشرك الأعظم عن الله عز وجل، فيكون العبد مخلصاً لله عز وجل، فلظهور هذا التوحيد ووضوحه وانجلائه وشهادة العقول والفطر له بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فهو واضح لا لبس فيه، قامت عليه الأدلة، والشواهد والبراهين أثبتته، ونادت عليه، وأوضحته وبينته وقررته، وجاء به الأنبياء والمرسلون، ونفى الشرك الأعظم، وما عداه فإنه لا يقوم على الوضوح والبيان، وإنما يقوم على الرموز والإشارات والتعقيد.

توحيد الخاصة

توحيد الخاصة يقول الصوفية: إن النوع الثاني من التوحيد هو توحيد الخاصة، وهو الذين يثبت بالحقائق، وأما توحيد العامة فهو الذي يصح بالشواهد، وعندهم الثبوت أقوى من الصحة، والحقائق أقوى من الشواهد، والحقيقة أنه لا شواهد ولا أدلة على توحيد الخاصة، وإنما يقوم على رموز وإشارات وأمور خفية، والحقائق أمور اصطلاحية خاصة بهم تسمى: الكشف والقبض والبسط والمعاينة والاتصال والانفصال، وغير ذلك من الاصطلاحات التي اصطلحوا عليها، ولا يعرفها غيرهم، وهي أمور خفية ليست ظاهرة. وقالوا في تعريف توحيد الخاصة: هو إسقاط الأسباب الظاهرة، والصعود عن منازعة العقول، وعن التعلق بالشواهد، وهو: ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، فيكون مشاهداً سبق الحق بحكمه وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها، وتعليقه إياها بأحايينها، وإخفائه إياها في رسومها، ويتحقق معرفة العلل، ويسلك سبيل إسقاط الحدث، هذا هو توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء، ويصفو في علم الجمع، ويجلب إلى توحيد أرباب الجمع. إذاً: توحيد الخاصة عندهم هو إسقاط الأسباب الظاهرة، فتبطل الأسباب كلها، وليس هناك أسباب، والأسباب الظاهرة يحتمل أن يريدوا بها التي جعلها الله أسباباً، وجعل فيها قوى وطبائع، كالإحراق للنار، والقطع للسكين، والأكل سبب في الشبع، والشرب سبب في الري، والعين سبب في الإبصار، والأذن سبب في الاستماع، فهم يقولون: ليس هناك سبب، وتسقط الأسباب الظاهرة كلها، فليست النار فيها قوة الإحراق، ولا السكين فيها قوة القطع، ولا الأكل فيه قوة الشبع، ولا الشرب فيه قوة الري، ولا العين فيها قوة الإبصار، ولا الأذن فيها قوة الاستماع، ولا الكسر فيه قوة الانكسار، ولا العلم فيه قوة الاستدلال، هذه كلها ليست أسباباً. فإذا قيل لهم: كيف ذلك، فنحن إذا أشعلنا النار أحرقت، وإذا أجرينا السكين قطعت؟! قالوا: إن الله يوجد هذه الأشياء عند ملاقاتها لا بها، فالله تعالى يوجد الإحراق عند إشعال النار لا بالنار، ويوجد القطع عند إجراء السكين لا بالسكين، ويوجد الإبصار عند فتح العين لا بالعين، ويوجد الاستماع عند فتح الأذن لا بالأذن، ويوجد الاستدلال عند العلم لا بالعلم، حتى قالوا: إن المؤثر هو الله فقط؛ لأن موجتهم موجة متوسطة، فهم يريدون أن يصلوا إلى القول بوحدة الوجود. ويحتمل أن يريدوا بالأسباب أعمال العباد، فليست أعمال العباد من الطاعات والمعاصي سبباً في دخول الجنة، وليست المعاصي سبباً في دخول النار، وإنما دخول الجنة بمشيئة الله من دون حكمة، ودخول النار بمشيئة الله، هكذا يقولون، ولا شك في أن هذا مخالفة للنصوص، فالله تعالى يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32])) [المائدة:105]، والله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها، فالمسببات مربوطة بأسبابها في الدنيا والآخرة، واقتضت حكمة الله وإرادته أن يربط الأسباب بالمسببات، فإذا كانوا يسقطون الأسباب الظاهرة فهذا مخالفة للمشروع ومخالفة للعقل، وإن كانوا يريدون بالأسباب الطاعات والمعاصي، فليست أسباباً في دخول الجنة ولا دخول النار، فهذا -أيضاً- مخالف للنصوص الشرعية. وقالوا: (الأسباب الظاهرة) احترازاً من الأسباب الباطنة؛ لأنهم لو قالوا بإسقاط الأسباب الباطنة لوقعوا في الكفر؛ فإن الإيمان من الأسباب الباطنة، وهو سبب في دخول الجنة، والتوحيد سبب من الأسباب الباطنة، فمن قال: إنه ليس سبباً في دخول الجنة فقد انسلخ من الدين والإسلام، وخلع ربقة الإيمان، لكن قالوا: الأسباب الظاهرة. وعلى كل حال فالأمر خطير، وإسقاط الأسباب -سواء أكانت الأسباب العادية، أم كانت الطاعات والمعاصي -من الخطورة بمكان. والصعود عن منازعة العقول يعني أن لا تنازع بمعقولك ما جاءت به الرسل، وهذا ظاهره لا بأس به، وما أفسد أديان الرسل إلا أرباب منازعة العقول الذين ينازعون بمعقولهم ما جاءت به الرسل في إثبات ما أثبتوه، ونفي ما نفوه، وإيجاب ما أوجبوه، وتحريم ما حرموه. والصعود عن التعلق بالشواهد معناه ألا تتعلق بأي دليل، وألغ الأدلة كلها، فليس هناك دليل على التوحيد، وليس هناك أدلة على وجود الله. فتوحيدهم ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، أي: لا يرى على التوحيد أي دليل، فيكون توحيدهم توحيداً غامضاً ليس عليه دليل عقلي ولا شرعي، ولا يرى في التوكل سبباً، بل يلغي الأسباب، ويتوكل على الله، ويعتمد على الله من دون سبب، بل إنهم يقولون: إن هذه علل في مقامات الخاصة، فلا يكن مع التوكل شيء، بل يكفي أن تفوض أمرك إلى الله من دون أن تفعل شيئاً. بل قالوا: إن التوكل من مقامات العامة، والتوكل فيه علل، وهي أن المتوكل يشهد متوكِلاً، ومتوكَلاً عليه، ومتوكلاً فيه، ويشهد نفس توكله، وهذا عمل في طريق الخاصة، المتوكل على الله عنده أربع علل لابد من أن يبيحها: العلة الأولى: أنه يشهد نفسه متوكلاً. والعلة الثانية: يشهد المتوكل عليه، وهو الله. والعلة الثالثة: يشهد متوكلاً فيه، وهو الأمر الذي يتوكل على الله فيه. والعلة الرابعة: يشهد نفس توكله، وهذه كلها علل في طريق الخاصة تعميهم وترجعهم إلى الإسلام، فلابد من إزالتها، ولذا يبطلون التوكل. كما أن الخوف من الله فيه علل، والرجاء علة عند الخاصة من الصوفية لابد من أن يزال، ويقولون: ليس في الرجاء إلا فائدة واحدة، وهي أنه يبدد حرارة الخوف فقط، وإلا فهو علة يجب إزالتها، والدعاء كلك، وهكذا. فهذه كلها من مقامات العامة: الدعاء والتوكل والرجاء والخوف والصلاة والصيام والزكاة والحج، ومن العامة جميع الأنبياء والرسل، أما الخاصة فلابد من أن يزيلوا هذه العلل من طريقهم إلى الله بزعمهم، ولهذا قال: وهو ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، فلا يرى على التوحيد أي دليل عقلي ولا شرعي، ولا يرى سبباً مع التوكل، ولا يرى في النجاة من النار وسيلة، فالأعمال الصالحة ليست وسيلة في النجاة من النار، بل النجاة من النار بالمشيئة المحضة، ودخول الجنة بالمشيئة المحضة. وليس لله حكمة في ذلك، وليس في الأشياء قوى ولا طبائع ولا غرائز ولا أسباب ولا علل ولا حكم، وليس هناك إلا المشيئة الإلهية، ويقولون: المشيئة الإلهية تخبط خبط عشواء، فتجمع بين المتفرقات، وتفرق بين المتماثلات، فعن المشيئة الإلهية يصدر كل حادث، ويصدر مع الحادث حادث آخر مرتبط به ارتباطاً عادياً، لا أن أحدهما سبب في الآخر، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا هو منهج الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان. وعلى هذا فكل الشرائع عبث لا قيمة لها، والكتب السماوية عبث لا قيمة لها؛ لأن الأعمال ليست سبباً في دخول الجنة، ولا في النجاة من النار، وإذا كانت الأعمال الصالحة ليست سبباً في دخول الجنة، وكذلك الأعمال السيئة ليست سبباً في دخول النار؛ فما الفائدة من الشرائع؟! وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، ولجميع أديان الرسل، وهم في خاصة أنفسهم لا يستطيعون طرد هذا المذهب، بل يفعلون الأسباب، فيأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون وينكحون ويبذرون ويزرعون، وهذه كلها أسباب فطر الله الخلق على فعلها، وفطر الله الخلق على بطلان هذا المذهب الخبيث، ولو طردوا مذهبهم لما أكلوا؛ لأن الأكل سبب، وحينئذٍ يقال للواحد منهم: اجلس حتى يأتي إنسان فيفتح فمك ويضع فيه الأكل، ولا تشرب، ولا تبع ولا تشتر، ولا تتزوج، ولا تبذر، ولا تزرع، ولا تطالب بحقك إذا أخذ أو ضربت؛ لأن هذه كلها أسباب، والواقع أنهم يعملون بالأسباب في أمور الدنيا، لكن في أمور الدين يبطلونها. فهذه طريقة المتوسطة، ولهذا يقول: وهو ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة. إذاً: فماذا يعمل إذا كان التوحيد ليس عليه دليل، والتوكل ليس معه أسباب، وليس هناك وسيلة للنجاة من النار؟! يقولون: يكفيه مشاهدة الله فقط، فيكون مشاهداً سبق الحق لحكمه وعلمه، والحق هو الله، والله تعالى علم الأشياء قبل كونها، وكتبها في اللوح المحفوظ، وقدر وجودها في أوقاتها المحددة فيكفي أن تشاهد سبق الله بحكمه وعلمه بالأشياء، ووضعه الأشياء مواضعها، واخفائه إياها في رسومها، وتعليقه إياها بأحايينها، أي أن كل شيء معلق بأحايين هي الأزمان، فكل شيء له زمن وله مكان وله مادة تحمله، فيكفيك أن تشاهد أن الله سبق بحكمه وعلمه الأشياء، وأن كل شيء له زمن محدد، ومكان محدد، ومادة محدودة، فتكون مشاهداً سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وتعليقه إياها في أحايينها، وإخفائه إياها في رسومها، وهي هذه المادة الحاملة للشيء، ومادام أن كل شيء مكتوب الآن، وأن الله تعالى سبق علمه وحكمه بكل شيء، وأن هذا الشيء يقع في المكان المعين، وأخفاه في المادة المعينة، وهذا يدخل النار، وهذا يخرج من النار، وكل شيء محسوب؛ فلا حاجة إلى العمل، ولا إلى الأسباب، ولا إلى الغرائز، ولا إلى الطبائع، ولا إلى الاستناد على التوحيد، بل يكفيك أن تشاهد سبق الحق بحكمه وعلمه، وفي هذه الحالة تتحقق معرفة العلل، وهي العلل التي تكون حجر عثرة في طريقك إلى الله، فتحققها إذا وصلت إلى هذه الحالة، فتكون الأعمال كلها حجر عثرة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء هذه كلها أسباب تلغيها؛ لأنها حجر عثرة، فكل هذه علل في طريق الخاصة، فإذا عرفت العلل التي تقف في طريقك إلى الله، وتقف في طريق السالك والعارف إلى الله؛ تحققت معرفة العلل، وفي هذه الحالة تسلك سبيل إسقاط الحدث، وتمشي حتى تبحث فتسقط الحدث، والحدث هو كل ما سوى الله فأنت تسلك سبيل إسقاط المحدثات، وهي المخلوقات، وسبيل إسقاط الحدث هذا هو توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء، وهو أن يفنى ويغيب بالله عن المخلوقات فلايتناساها من الوجود، بل يتناسها من الشهود فلا يشهدها، فإذا وصل إلى المرتبة الثالثة التي هي مرتبة أهل وحدة الوجود يتناسها من الوجود وينكرها، لكن هو في طريقة متوسطة، فيغيب بالله عن المخلوقات فيتناساها ولا يشهدها، حتى لا تشوش عليه سيره إلى الله. هذا طريق أهل المعرفة وأهل الحقيقة عندهم، وهذا هو

توحيد خاصة الخاصة

توحيد خاصة الخاصة النوع الثالث من أنواع التوحيد: توحيد خاصة الخاصة، ويسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وهو التوحيد القائم بالقديم، أي: قائم بالله، وهو توحيد اختصه الحق بنفسه، واستحقه بقدره، أي: لا يوحده به غيره، فالتوحيد هو كلامه وصفته القائمة، كقوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} [الحشر:22]، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]. واستحقه بقدر كنهه الذي لا يبلغه غيره، وألاح منه لائحاً إلى أفراد طائفة من أهل خاصته، أي: أظهر منه شيئاً يسيراً إلى طائفة قليلة من الخلق هم أهل خاصته، وأخرصهم عن نعته، بمعنى أنه لا يقبل نعت المخلوقين له، كما لا يقبل لسان الأخرص الكلام، أو أن الله أسكتهم عنه غيرة وصيانة له. وأعجزهم عن بثه، أي: أعجزهم عن الإخبار به والبيان، فما هو هذا التوحيد؟! إنه توحيد أسره إلى طائفة من الخلق، وهم الذين حل بهم، والعياذ بالله، وهم طائفة قليلة هم أهل الحلول، أسر إليهم شيئاً من التوحيد، ومع ذلك أخرسهم عن نعته، وأعجزهم عن بثه، أي: لم يمكنهم من الكلام به. فما هذا الكلام الذي يدندن حوله هؤلاء الصوفية؟! وما هو التوحيد الذي لا يتكلم به الإنسان؟! إن الإنسان يتكلم إذا أعطاه الله القدرة على الكلام، وإن كان الناس يتفاوتون في البيان والإيضاح، لكن كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه باللسان وإن اختلفت العبارة وضوحاً وخفاء، ولهذا يقول الهروي في بيان توحيد خاصة الخاصة: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) يعني: ما وحد الله أحد سواه؛ لأن التوحيد الحقيقي هو الذي يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده، بخلاف العبد إذا وحد الله، فيكون توحيده تثنية ظاهرة، حيث يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذا الشرك عندهم، فالتوحيد الحقيقي هو الذي يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده، والذي تتلاشى فيه الأقوال، وتضمحل فيه الرسوم، والعبد المخلوق حينما يوحد ربه يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذا ليس بدقيق، بل التوحيد هو الذي تتلاشى فيه الرسوم، وتضمحل فيه الأكوان، ولا يبقى شيء إلا الله، وهذا حينما يكون الرب هو الذي يوحد نفسه بنفسه، فهو الموحِد وهو الموحَد، فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) (من) زائدة، أي: ما وحد الواحد أحد من الخلق. وقوله: (إذ كل من وحده جاحد) معناه أن كل من وحد الله من الخلق جاحد بحقيقة توحيده؛ فإن حقيقة التوحيد تتضمن شهود نفي الواحد وانفراده، وإذا وحد واحد من الخلق يكون توحيده تثنية. ثم أن كل من وحد الله من الخلق فقد وصفه بالصفات، وهذا جحود للتوحيد الذي هو عدم انحصار في الأوصاف، إذ لا يحتاج إلى وصف؛ فهو كل شيء، فإذا وحده فمعناه أنه وصفه بوصف، وحصره بوصف، وهذا شرك وليس بتوحيد، فالتوحيد يتضمن عدم انحصاره تحت الأوصاف، ولهذا قال: ما وحد الله من واحد إذ كل من وحده جاحد فكل من وحد من الخلق جاحد لحقيقة توحيده؛ لأنه يشاهد نفسه ويشاهد ربه، وهذه تثنية، ولأنه وصفه فجعله محصوراً، وهو لا يدخل تحت الأوصاف. وقوله: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) أي: كل من ينطق من البشر بنعت الله فنطقه ونعته عارية استعارها من الله، وهي مردودة على صاحبها كما تسترد العواري، وهذه العارية ترده إلى مالكها الحق وهو الله! فهذا التوحيد عارية أعارك الله إياها، ووحدة الله المطلقة من جميع الوجوه تبطل هذه العارية وتردها إلى مالكها الحق وهو الله، فيسقط المخلوق. وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: توحيده الحقيقي هو توحيد نفسه لنفسه، هذا هو التوحيد، فتوحيده إياه توحيد حقيقي، وهو توحيده لنفسه بنفسه، فلا تثنية، ولا تعدد، فهو الموحِد وهو الموحَد، ولا رسم ولا شرح ولا مكون ولا مخلوق. وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني: كل من ينعت الله فهو ملحد؛ لأنه أسند إلى ما لا يقوم به إسناده، ووصفه بما لا يليق به وصفه؛ فإن عين الأولية في الله تأبى نطق الحدث، فالله هو الأول، فعين الأولية تأبى أن ينطق كل مخلوق بما ينطق، فإذا نطق يكون ملحداً. ومحض التوحيد عند هؤلاء الملاحدة يأبى أن يكون للسوى أثر البتة، أي: ما سوى الله، فمحض التوحيد يأبى أن يكون للسوى أثر، فمحض التوحيد عند هؤلاء الملاحدة هو القول بوحدة الوجود، فهذه الأبيات تقرر مذهب وحدة الوجود لخاصة الخاصة، حيث قال: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فهؤلاء هم خاصة الخاصة يسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وليس عندهم طاعات ولا معاص ولا عمل، فالوجود عندهم واحد. فالصوفية يقسمون الناس إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: العامة، ومن العامة جميع الأنبياء والمرسلين، وهؤلاء يسمونهم: أهل الشريعة، فلهم طاعات ولهم معاص، ويحرم عليهم الشرك، ويجب عليهم أن يوحدوا الله، ويخلصوا له العبادة، ويأتمروا بالأوامر وينتهون عن النواهي. الطائفة الثانية: أهل الحقيقة الخاصة، وهؤلاء قد ارتفعوا دريجة -كما ذكر العلامة ابن القيم - فصارت المعاصي كلها في حقهم طاعات، وسقطت عنهم التكاليف، واكتفوا بالشهود والنظر إلى ربوبية الله ومشيئته، وشمول قيوميته، وانفراده بخلق الأشياء، وألغوا صفاتهم وأفعالهم وجعلوها صفات لله، فسقطت عنهم التكاليف، فصار جميع ما يصدر منهم طاعات. ثم يرتفعون درجة أخرى فيصلون إلى الطائفة الثالثة، وهم أهل وحدة الوجود، وهم خاصة الخاصة، ويسمون أنفسهم: أهل التحقيق، وهؤلاء ليس عندهم طاعات ولا معاص أبداً؛ لأن الوجود واحد، فالعبد هو الرب والرب هو العبد. إذاً: الصوفية يفنون في توحيد الربوبية حتى يصلوا إلى القول بوحدة الوجود، ولا يسلكون طريق توحيد العبادة والعياذ بالله، كما أن كثيراً من أهل النظر يظن أن توحيد الربوبية هو نفي العبادة، ومن ذلك الصوفية الذين يفنون في توحيد الربوبية، ويرون أن الفناء هو النهاية، وأن الشهود في هذا هو الفناء، وهو نهاية التوحيد، وهذا هو خلاصة التوحيد عند هؤلاء الملاحدة، نسأل الله السلامة والعافية.

فناء الصوفية في توحيد الربوبية

فناء الصوفية في توحيد الربوبية إن التصوف منتشر على نطاق واسع في كل زمان ومكان، ولاسيما في هذا الزمان، وهذه الأمور كلها موجودة، ولا تظن أن هذا خيال، بل ذلك موجود في طوائف متعددة، حيث تجد في البلد مائة طريقة، ولكل طريقة شيخ، ويقررون هذا، ويقولون: هذا هو التوحيد، ومن هؤلاء ابن عربي رئيس وحدة الوجود، الذي يسمونه: خاتم الأولياء، وكبير العارفين والمحققين والسالكين إلى الله، وهناك من يقدسه ويعظمه من الناس، وهناك مؤلفات كثيرة لهؤلاء الصوفية، فلابد من معرفة ما يقال، ولابد من معرفة حالهم. ومن قال: إن أحداً من الناس قد تسقط عنه التكاليف، وعقله معه، وهو ليس صغيراً ولا مخرفاً ولا مجنوناً غير الحائض والنفساء في الصلاة خاصة من قال ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ويفرد بالعبادة، فالله كلف العباد، فكان نبينا عليه الصلاة والسلام أشرف الرسل وأشرف الخلق وأعلى الخلق مكاناً عند الله، يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام، وهو أشرف وأكمل خلق، وأعلى الخلق مقاماً عند الله، فتقول له عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، فهو يفعل هذا عليه الصلاة والسلام تعبداً لله، وشكراً لله، ولتتأسى به أمته عليه الصلاة والسلام. فالرسل أعلى الناس مقاماً ومنزلة عند الله، وهم أطوع الناس لله، وأعرفهم بالله، وأخوفهم من الله، وأكثرهم عبادة وتقوى وخشية لله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لما جاء بعض الناس. فسألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر، فأخبروا بأن الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بعض الليل وينام بعض الليل، ويصوم بعض الأيام ويفطر بعض الأيام، ويتمتع بما أحل الله له، فيأكل اللحم، وله زوجات، قالوا: أين نحن من رسول الله؟! فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، أما نحن فما ندري عن حالنا، فلابد من أن نزيد على ما فعله الرسول، فقال أحدهم: أنا أصلي الليل ولا أنام على فراشي، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم زهداً، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وهؤلاء الملاحدة يرون أن الخاصة تسقط عنهم التكاليف، نسأل الله السلامة والعافية. فالواجب على طالب العلم أن يعتني بمعرفة توحيد العبادة وتوحيد الربوبية والفرق بينهما، ويعرف ما عليه هؤلاء الملاحدة من الانحراف والضلال حتى لا يقع في الشر، وحتى لا يقع في الشبكة. وقد كان حذيفة رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فلابد أن يعرف الإنسان ما عليه هؤلاء من الانحراف عن الصراط المستقيم حتى يَحذر ويُحذِّر؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن هؤلاء الصوفية على الحق والصواب، ويظنون أنهم من كبار العارفين، وبعض الصوفية يغلون في بعض شيوخهم، ويزعمون أن بعض الصوفية لهم تصرف في الكون، حتى قال بعضهم: إن الأبله -وهو ضعيف العقل- قد يكون ولياً من أولياء الله وأنت لا تشعر، وقد يكون قطباً من الأقطاب يتصرف في الكون وأنت لا تشعر، يقول: لا تدري لعل هذا الأبله الذي أظفاره طويلة، وعليه ثياب خلقة مشققة، ويجلس على زبالة، لا لعله ولي يتصرف في الكون، هكذا يقولون ويزعمون، ولقد قال بعضهم: هناك أقطاب وأوتاد يتصرفون في الكون غلواً فيهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا شرك في الربوبية أعظم من الشرك في الإلهية. ومنهم من يزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحضر حفل الصوفية ويكون معهم ويؤيدهم، ومنهم من يزعم أنه جاء إلى الرسول ومد إليه الكف وأعطاه كذا وكذا، ومنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره ببعض الأشياء ويقره على بعض الأشياء، ومنهم من يزعم أن الرسول يأتيه في المنام، وكل هذه أقوال باطلة، فلابد لطالب العلم من أن يكون على بصيرة. والمقصود أن هؤلاء الصوفية يفنون في توحيد الربوبية، أي: يكتفون بمشاهدة الرب، وبإثبات هذا التوحيد، وإثبات وجود الله، وأن الله تفرد بخلق أشياء ووجودها واختراعها وملكها، وأن ربوبيته وقيوميته وقدرته شاملة لها، ويكفي هذا الشهود، وهذا النظر هو نهاية التوحيد وغايته. وهؤلاء ألغوا عقولهم، وكلامهم هذا موجود الآن في كتب محققة منقحة في أوراق صقيلة، وهناك من يعتني به، ويعتبر قائليه من كبار العارفين والمحققين، ويعتبر هذا نهاية التوحيد، نسأل الله السلامة والعافية. وإثبات توحيد الربوبية أثبته عباد الأصنام والأوثان، وهم أحسن منهم في هذا، كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فالتوحيد الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، فالله تعالى عرفنا بنفسه وبأسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة، فمن حقه أن نعبده ونخصه بالعبادة، لا أن نكتفي بالشهود، أو نفنى في توحيد الربوبية، ولا يقف عند هذا أحد، وسيأتي الكلام على توحيد العبادة إن شاء الله تعالى. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

عقيدة ابن سينا

عقيدة ابن سينا Q هل ابن سينا كافر أم أنه رجع عن الفلسفة في آخر حياته؟ A ابن سينا من الفلاسفة المتأخرين، ويسمونه المعلم الثالث، والمعلم الأول أرسطو، والمعلم الثاني الفارابي، وأرسطو هو أول من ابتدع القول بقدم العالم، وخالف الفلاسفة الذين قبله، وكان الفلاسفة والأساطين قبل أرسطو يعظمون الشرائع والإلهيات، ويثبتون وجود الله، وأن الله فوق العرش، وأن العالم حادث خلقه الله، ومنهم أفلاطون شيخ أرسطو، فلما جاء أرسطو ابتدع قولاً عظيماً، ابتدع القول بأن العالم قديم كقدم الله، لم يخلقه الله بمشيئته وقدرته، ولم يثبت وجوداً لله إلا من جهة كونه مبدأً عقلياً للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، يقول: مبدأ الكثرة هو الله، وهو الذي يحرك الفلك، ثم جاء الفارابي -وهو أول من وضع علم صروف المنطق- وتوسع في علم المنطق، وصاروا يسمونه المعلم الأول، ولم يثبت وجوداً لله ولا للملائكة، ولا للكتب، ولا للرسل، ولا لليوم الآخر، ولا للقدر، ثم جاء أبو علي بن سينا -ويسمونه المعلم الثالث- فحاول أن يجمع بين الفلسفة والإسلام، وأن يقرب الإسلام من الفلسفة، لكن في محاولته الشديدة لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغالية في التجهم أحسن حالاً منه وأصح مذهباً، مع أن غالب الجهمية الغالية في التجهم لا يثبتون شيئاً من الأسماء والصفات، فلما جاء ابن سينا أثبت وجودين، فقال: هناك وجودان: وجود واجب ووجود ممكن، فالوجود الواجب هو وجود الله، والوجود الممكن هو وجود المخلوق، لكن الواجب ليس له اسم ولا صفة ولا علم ولا قدرة ولا سمع، ولا خلق الخلق بقدرته، بل وجوده مطلق في الذهن، وهذا من محاولته في التقريب إلى الإسلام. أما الفارابي وأرسطو فما أثبتا أي شيء أبداً، لكن ابن سينا حاول التقريب، ولذلك أثبت الملائكة على أنهم أشكال نورانية، وليسوا ذواتاً تصعد وتنزل، بل هم أشكال نورانية، وأثبت الإسلام على أنه عبارة عن أمور معنوية، أو هو القوى العقلية التي تبعث الخير، والكتب هي فيض معنى يسير من العقل الفعال على رجل عبقري، والرسول رجل عبقري توافرت فيه قوة الإدراك والتخييل والتأثير، وهذه الصفات يمكن أن يحصل عليها الإنسان المران والخبرة والكسب، وليست هبة من الله، بل هناك أعلى منها، فالفلسفة عنده أعلى منها، وكثير من الفلاسفة لا يرضى بالنبوة، ويقول: النبوة منزلة ليست عالية، بل هي منزلة هابطة، وهناك ما هو أعلى منها، وهو الفلسفة، فالنبوة فلسفة العامة، والفلسفة نبوة خاصة، والنبوة الخاصة أعلى من العامة، ولا يثبتون اليوم الآخر ولا البعث ولا النشور ولا الجنة ولا النار، ولا الشرائع، فليس هناك حلال ولا حرام، والرسل أمثال مضروبة لتهذيب العوام، والرسول رجل عبقري يفهم الناس، فيقول: هناك جنة ونار، وبعث وحساب حتى يعيش الناس بسلام، ولا يعلو أحد على أحد، وإلا فإن الواقع أنه لا يوجد جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور! هذا مذهب ابن سينا. ويسميه ابن القيم (إمام الملحدين) كما في إغاثة اللهفان في الجزء الثاني، وله كتاب (الإشارات)، كله إلحاد وزندقة، ونصير الدين الطوسي الذي تسبب في جلب التتار إلى بلاد المسلمين وسقوط بغداد أخذ كتاب (الإشارات) لـ ابن سينا وأراد أن يلغي القرآن، فحين لم يوافقه الناس قال: هذا قرآن الخواص -يعني كتاب ابن سينا - وهذا قرآن العوام! وحاول أن يختصر الصلوات الخمس إلى صلاتين، نسأل الله السلامة والعافية. ويقول ابن سينا عن نفسه: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، ودعوة الحاكم العبيدي رافضي خبيث، لا يؤمن بالله، ولا بملائكته، ولا بكتبه، ولا برسله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر. وبعض الناس يغتر فيقول: ابن سينا الفيلسوف الإسلامي! ويعتز به، وقد سميت باسمه مدارس ومؤلفات، صحيح أنه طبيب، وله كتاب القانون، فيه شيء من الطب وشيء من الصيدلة، لكن لا ينبغي أن يسمى باسم هذا الملحد، فهو ملحد ليس من الإسلام في شيء، لكن بعض الناس وبعض الأدباء وبعض المذيعين لا يعرفون حاله، فيعتزون به ويقولون: فلاسفة الإسلام الفارابي وابن سينا نعتز بهم! وهؤلاء ملاحدة زنادقة ليسوا من الإسلام في شيء. أما كونه رجع عن الفلسفة فلا ندري به، لكن كتبه ومؤلفاته في إنكار البعث موجودة، حيث ويقول: إن البعث للأرواح. وله كتاب (النجاة)، وإذا ثبت أنه رجع ووجد ذلك في كتاب وعرف تأريخه فلا بأس، وما يذكره بعض الناس في ذلك احتمالات تحتاج إلى دليل، فهذه مؤلفاته وهذا هو اعتقاده، نسأل الله السلامة والعافية.

الرد على مدعي اندثار فرق الضلال

الرد على مدعي اندثار فرق الضلال Q ما رأيك فيمن يقول: لماذا تدرسون أقوال المعتزلة والخوارج وغيرهما من الفرق مع أنها فرق قديمة مندثرة؟ A ليست مندثرة، ومن قال ذلك؟! بل امتلأت الأرض بهم، فالجهمية موجودة، وقد قال بعض الطلاب: إن بعض المدرسين يقول: ما أدري الله في السماء أو في الأرض! وهذا جهمي، فمن يقول: إنهم انقرضوا؟! فالأرض مليئهم بهم، وفي كل مكان جهمية ومعتزلة والأشاعرة.

حكم الصلاة خلف مبتدع ينكر النزول

حكم الصلاة خلف مبتدع ينكر النزول Q صليت في مسجد عدة مرات، وسمعت من بعض الإخوة أن إمام هذا المسجد ينكر النزول، فما حكم منكر ذلك، وما حكم الصلاة خلفه؟ A يحتاج إلى قيام الحجة عليه، ويمكن أن يكون جاهلاً لا يدري، فإذا كان ما يفعله مكفراً فلا تصح الصلاة خلفه، ويحتاج إلى قيام الحجة عليه، ونصوص النزول متواترة. والقاعدة أنه إذا كان الإمام الذي تصلي خلفه قد فعل مكفراً وقامت عليه الحجة، فلا تصح الصلاة خلفه، وإن كان فعله بدعة أو فسقاً فقد قال بعض العلماء: تعاد الصلاة، وقال آخرون: لا تعاد، والصواب أنك لا تعيد، فإذا أعاد المرء على قول بعض العلماء فذلك حسن، لكن الصواب أنه لا يعيد إلا إذا كان الإمام قد فعل مكفراً.

حكم قول (إني اعبد الله حبا له)

حكم قول (إني اعبد الله حباً له) Q ما رأيكم في قول بعضهم: إني أعبد الله لا رجاء في جنته ولا خوفاً من ناره، ولكن حباً له؟ A هذا قول الصوفية الملاحدة الزنادقة، وهذه العبارة مكتوبة في كتب الوعظ مثل كتب ابن الجوزي وغيرها، والبعض يقرؤها على الناس في المساجد. فبعضهم ينقلها من كتب بعضهم، ويقرأ هذا على الناس في رمضان وفي غيره، وينسبون هذا الكلام إلى رابعة العدوية، وهو أنها قالت: ما عبدت الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فأكون كأسير السوء، ولكن عبدته حباً لذاته وشوقاً إليه. تقول: أنا إذا عبدت الله خوفاً ورجاء فمعنى ذلك أنني أنفع نفسي فقط، وإنما أعبده حباً لذاته وشوقاً إليه، حتى قال بعض الصوفية: أنا أعبد الله، ولا أبالي أوضعني في النار أو في الجنة! بل بعضهم يفضل أن يجعل في النار على أن يجعل في الجنة، يقول: لأن نفسه تميل إليها ليتمتع، أما النار فهو بها يعاكس مراده، وهو يحب النار! نسأل الله السلامة العافية. فهذه المقالة مقالة الملاحدة والزنادقة، والعبادة لا تكون إلا بالحب والخوف والرجاء، فلابد من أن يعبد الإنسان ربه حباً وخوفاً ورجاء، كما أخبر الله تعالى بذلك عن أنبيائه ورسله الذين هم أفضل وأخص الناس وأعرفهم بالله، فلما ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإسحاق، ويعقوب، ونوحاً، وداود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، وعيسى، واليسع، وذا الكفل، قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، فقوله: ((رَغَبًا)) هذا الرجاء، ((وَرَهَبًا)) هذا الخوف، فكانوا يعبدون الله خوفاً ورجاء وهم أشرف الخلق. وقال في وصف عباده المتقين: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]. فلا تتم العبادة إلا بالحب والخوف والرجاء، ولهذا يقول العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري من الخوراج، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. وبعض الصوفية له كلام شنيع، يقول: إذا كان يوم القيامة فسوف ينصب خيمته على النار، ويمنع أصحابه وأصدقاءه من دخول الجنة، وهذا كلام -والعياذ بالله- كفري، نسأل الله السلامة والعافية.

نظرة في بيت النشيد (أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى)

نظرة في بيت النشيد (أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى) Q ما رأيكم في هذا البيت الذي ينشد: أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى وهل في ذلك إنكار الرؤية؟ A هذا مثل ما قال البلقيني عن الكشاف: استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش. ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} [آل عمران:185] قال: أي فوز أعظم من الجنة؟! وقصده بذلك إنكار الرؤية؛ لأن الرؤية أعظم أعلى نعيم يعطاه أهل الجنة؛ فلذا أقول: لا ينبغي قراءة هذا النشيد.

حقيقة الفناء عن مراد السوي

حقيقة الفناء عن مراد السوي Q ذكرتم أن القسم الثالث من فناء الصوفية: هو أن يقدم رضى الله على رضى النفس، ومراد الله على مراد النفس والناس، أليس هذا علم التوحيد، ومنهج الرسل والأنبياء؟! A هذا النوع الثالث من أنواع الفناء، وهو الفناء عن مراد السوى، وهو أن يفنى بمراد ربه عنه عن مراده هو، وهذا فناء خواص الأولياء والمقربين، وأكمل الناس في هذا الفناء توحيداً هم الأنبياء والرسل، لكن تسميته فناء من باب المقابلة، فالمعنى: أن يقدم محبة الله على محبته نفسه، ويقدم مراد الله على مراد نفسه، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كان في العقل اتحاد صحيح فهو هذا. وتسميته فناء من باب المقابلة للأقسام الأخرى، وإلا فإن أصل الفناء معناه أن تفني مادة في مادة، فإذا وضعت الدقيق في الماء فقد أفنيت الدقيق في الماء، وهذا الفناء هو فناء خواص الأولياء والمقربين، فخواص المؤمنين يقدمون مراد الله على مراد النفس ومراد الناس.

حكم الصلاة خلف إمام أشعري

حكم الصلاة خلف إمام أشعري Q هل تجوز الصلاة خلف إمام أشعري؟ A هذه مسألة خلافية، وهي مسألة الصلاة خلف الفاسق أو المبتدع هل تصح أو لا تصح؟ فبعض العلماء يرى أن الصلاة غير الصحيحة، فإذا صلى خلف المبتدع أو الفاسق فإنه يعيدها، وقال بعضهم: يصلي خلفه نفلاً ثم يعيدها، وذهب آخرون إلى أنها تصح، وهو الصواب، بشرط أن تكون بدعته أو فسقه لا تصل إلى الكفر، أما إذا كانت بدعته أو فسقه موصلة إلى الكفر فإن صلاته لا تصح، فإذا كان وثنياً يدعو غير الله ويذبح للأولياء وللصالحين، أو حلولياً أو اتحادياً لا تصح الصلاة خلفه، والدليل على ذلك أن الصحابة صلوا خلف الحجاج، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، ولما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم -يعني الأئمة- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)، لكن إذا وجدت غير الفاسق لا تصل خلف الفاسق، ولا ينبغي أن يكون إماماً للناس وهو فاسق أو مبتدع، وإذا وجد فاسق أو مبتدع يصلي بالناس فإنه يجب أن يرفع به إلى ولاة الأمور حتى يعزل ويعين مكانه إمام من أهل السنة والجماعة سلفي المعتقد، لا أشعري، ولا فاسق، بل عدل، لكن إذا بليت به وصليت خلفه فصلاتك صحيحة، أو لم تجد جماعة إلا جماعته فإنك تصلي خلفه، وإذا وجدت غيره فلا تصل خلفه، وصل خلف غيره، وإذا صليت خلفه فمعناه أنك أقررته على المنكر، ولهذا يقول العلماء: من صلى خلف فاسق وهو يجد غيره فإنه ما أنكر عليه المنكر، وأقل إنكار المنكر أنك لا تصلي خلفه، فإذا كنت لا تنكر المنكر باللسان فأقل شيء ألا تصلي خلفه، لكن لو صليت خلفه فالصلاة صحيحة في أصح قولي العلماء، بشرط ألا تكون هذه البدعة أو الفسق موصلة إلى الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر، أما إذا كانت البدعة أو الفسق توصله إلى الشرك الأكبر فلا تصح الصلاة، وإذا صلى أمرؤ خلفه يجب عليه إعادتها، كما لو صلى خلف من يدعو غير الله، أو صلى خلف من يذبح للأولياء، أو يطلب المدد منهم، أو ينذر للصالحين، أو ينكر وجود الله، أو يقول: إن الله حال في المخلوقات، أو: إن الله متحد في المخلوقات، فهذا لا يصلى خلفه، وإذا صلى امرؤ خلفه أعاد الصلاة.

غلو المحذرين من كتب ابن حجر والنووي

غلو المحذرين من كتب ابن حجر والنووي Q ما رأيكم فيمن يحذر الناس من كتب ابن حجر والنووي؛ لأن فيها شيئاً من التعطيل، بل ربما أمر بإحراقها ووصفهما بأنهما من أهل البدع؟ A هؤلاء -والعياذ بالله- عندهم غلو، وهؤلاء مخطئون خطأ عظيماً كبيراً، فكتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر كتاب عظيم، مازال العلماء في كل عصر ومصر بعده ينهلون من معينه، فهو من أعظم الكتب، وأما الأخطاء التي في العقيدة فيمكن تلافيها بأن ينبه عليها، ومازال العلماء ينبهون عليها، وهم لم يتعمدوها، فهم علماء كبار أجلاء نرجو أن يغفر الله لهم، فهذا ما نشئوا عليه، فصاروا يؤولون في بعض الصفات، لكن ليس معنى ذلك أن يهجر الكتاب، فهو كتاب عظيم. وكذلك النووي في شرحه لـ مسلم سلك هذا المسلك في الصفات، لكنه كتاب عظيم في معاني الأحاديث والاستنباطات والأحكام الفقهية. فكيف يهجر ما في هذه الكتب من العلم من أجل أشياء يسيرة يمكن تلافيها ويمكن التنبيه عليها؟! إن هذا غلط كبير، وهؤلاء الذين يفعلون ذلك يوصفون بالجهل والسفه، أما الأخطاء فليس هناك أحد يسلم منها، وليس هناك كتاب معصوم إلا كتاب الله عز وجل، فالغلط ينبه عليه وتؤخذ الفائدة، أما لو كان الكتاب أكثره فيه أغلاط وفيه أخطاء وأخطار عظيمة -مثل كتاب الزمخشري الكشاف، وكتاب مفاتيح الغيب للرازي - فإنه يؤثر على المبتدئ، فلا ينبغي للإنسان أن يقرأ الكشاف، ولا أن يقرأ مفاتيح الغيب؛ لأنه يدعوك إلى القول بالحلول وإنكار وجود الله وتعلم السحر، ولا يصلح أن يقرأ هذين إلا طالب العلم الذي عنده بصيرة. أما كتاب (فتح الباري) للحافظ ابن حجر فهو كتاب عظيم نفع الأمة، فرحمه الله رحمة واسعة وغفر له، وقد مكث في شرحه سبعة عشر عاماً، وهو من أحسن الكتب، ولا يستغني عنه طالب العلم، وكذلك النووي في شرح صحيح مسلم، فكيف تقال هذه المقالة؟! فتهجر الحسنات العظيمة والعلم العظيم في الكتاب من أجل أخطاء يسيرة في التأويل في الصفات، من يقول هذا؟! هذا لا يقوله إلا سفيه جاهل، والذي يعمل هذا فيحذر الناس أو يحرق الكتابين سفيه جاهل، ويجب أن يؤخذ عليه ويؤدب ويعزر حتى يترك هذا العمل المشين، ويرفع به إلى ولاة الأمور ليرتدع، فيرفع به إلى المحكمة ليرتدع عن هذا العمل بالسجن أو بالضرب، على حسب ما يراه القاضي، فهو يستحق الضرب والتأديب والسجن حتى يتوب من هذا العمل المشين، فكيف يحرق هذين الكتابين العظيمين اللذين تلقتهما الأمة والعلماء بالقبول والاستفادة؟!

الضابط في تكفير أهل البدع

الضابط في تكفير أهل البدع Q أي الفرق نستطيع القول بأنها خرجت من الإسلام؟ وما هو الضابط الشرعي في تكفير هذه الطوائف وغيرها؟ A الحلولية والجهمية من العلماء من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم بإطلاق، ومنهم من كفر الغلاة دون غيرهم، وعلى كل حال فإن من قال: إن الله حال في شيء من مخلوقاته، أو اتحد بمخلوقاته، وهو يعلم ذلك كافر بإجماع المسلمين لا شك فيه، أما من كان عنده شبهه مثل المعتزلة، فهناك خلاف في تكفيرهم، فمن العلماء من بدعهم، ومنهم من كفرهم، والمشهور تبديعهم، وكذلك الأشاعرة المبتدعة؛ لأن لهم تأويلاً وشبهة، وهناك فرق بين الجاحد والمتأول، فالمتأول لا يكفر، وهذا هو الضابط، فمن كان له تأويل فالأصل أنه لا يكفر، وأما الجاحد عن علم وبصيرة فإنه يكفر.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان Q هل الإيمان قول وعمل واعتقاد، أم قول واعتقاد، وما حكم الذي يقول: إن الإيمان اعتقاد وقول فقط؟ A هذا السؤال يحتاج إلى كلام طويل، والخلاصة أن الإيمان عند أهل الحق قول القلب، وقول اللسان، وتصديق القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، ومرجئة الفقهاء -وهم طائفة من أهل السنة- يقولون: الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وأما الأعمال فليست من الإيمان، لكنها مطلوبة، وأما المرجئة المحضة فيقولون: ليست مطلوبة، فأهل السنة من الأحناف وغيرهم من مرجئة الفقهاء يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، لكنها مطلوبة، والواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، لكن لا نسميها إيماناً، فالإنسان عليه واجبان: واجب الإيمان، وواجب العمل، أما المرجئة المحضة فقالوا: لا تؤثر الأعمال في الإيمان ولا تضر، وهذا هو الفرق بينهما، والصواب أن الإيمان قول باللسان، وقول بالقلب، وهو التصديق، وعمل القلب وعمل الجوارح، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، والنصوص الدالة على هذا كثيرة.

إقرار المشركين بتوحيد الأسماء والصفات

إقرار المشركين بتوحيد الأسماء والصفات Q ذكرت أن المشركين آمنوا بتوحيد الأسماء والصفات، فكيف نقول في قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]؟ A قد وجد منهم من جحد بعض الأسماء من باب التعنت والعناد أو من باب الجهل، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: الظاهر أن إنكارهم لصفة الرحمن من باب التعنت والعناد، وإلا فقد وجد في أشعارهم ما يثبت صفة الرحمن، قال الشاعر: (وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق). وكذلك في صلح الحديبية قالوا: لا نعرف إلا رحمن اليمامة، من باب التعنت، وإلا فالمعروف عنهم إثبات الأسماء والصفات، فإذا وجد شيء -مثل إنكارهم للرحمن- فهو إما جهل وإما من باب التعنت والعناد.

حكم قول (أمره بين الكاف والنون)

حكم قول (أمره بين الكاف والنون) Q ما رأيكم فيمن يقول: إن أمر الله بين الكاف والنون، إذا أراد أمراً فإنما يقول له: (كن) فيكون؟ A ينبغي أن يقال كما قال الله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فهو سبحانه يخلق بكلمة (كن)، أما (بين الكاف والنون) فلا أعرف هذا، إنما يقال: إن الله يخلق بكلمة (كن)، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وهذا هو الذي ينبغي، أما هذه العبارة فلا أعرفها.

حكم قول (الله بالعقل عرفناه)

حكم قول (الله بالعقل عرفناه) Q ما رأيكم فيمن يقول: الله بالعقل عرفناه؟ A عرفناه بالعقل وعرفناه بالفطرة، وعرفناه بالشرع، فالله تعالى فطر الخلق على معرفته وإثبات وجوده، وفطرهم أيضاً على الميل إلى الخير وحب الخير، لحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالله تعالى معروف بالعقل وبالفطرة، وأدلة الشرع أرشدت إلى هذا. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

[7]

دروس في العقيدة [7] توحيد الله تعالى منه ما هو علمي خبري، وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ومنه ما هو إرادي طلبي، وهو توحيد الإلهية والعبادة، وهو أعظم أنواع التوحيد، ولأجله خلق الله تعالى العباد، وينافي التوحيدين الشرك بالله تعالى، وهو كائن في الربوبية والإلهية والأسماء والصفات، ولا شيء أقبح منه، ولا ذنب أعظم منه، ولا ظلم مثله، لأنه تنقص لله تعالى، وصرف لخالص حقه عنه إلى غيره، ومن مات عليه فقد حرم الله عليه الجنة.

أهمية توحيد الإلهية

أهمية توحيد الإلهية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد. فإن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو توحيد العبادة والألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة. والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل ما أمر الله به وأمر به رسوله يفعله المؤمن إخلاصاً لله عز وجل وتعظيماً وخوفاً ورجاءً، وكل ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله يتركه المؤمن خشية لله وإجلالاً وتعظيماً ومحبة ورغبة ورهبة، وهذا التوحيد -أعني توحيد العبادة- هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وهو أول دعوة الرسل، وهو الذي وقعت بسببه الخصومة بين الأنبياء وأممهم في قديم الدهر وحديثه، وهو الذي من أجله خلق الله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، ولأجله حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، فجدير بالمؤمن أن يعتني بهذا التوحيد، وأن يهتم به، وأن يعرف حقيقته ومعناه حتى يعبد الله على بصيرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله ليعرفوه سبحانه، وليعلموا عظيم حقه وليعبدوه؛ فإن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة لتوحيد العبادة، وتوحيد العبادة هو الغاية التي من أجلها خُلِق الخلق، وهو الغاية المحبوبة لله والمرضية. وفي توحيد الربوبية اعتراف بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر، والاعتراف والإيمان بأسمائه وصفاته، فهو وسيلة إلى أن نعبده، فإذا عرفنا ربنا بصفاته وأفعاله وأسمائه وقضائه وقدره وحكمته خصصناه بالعبادة سبحانه، فتوحيد العبادة المطلوبة المرضية لله هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو الذي أنكره المشركون، وكذب فيه الكفار رسلهم حينما أتوا به ودعوهم إلى إخلاص العبادة لله، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:105 - 107]، فكذبوه في أنه رسول الله، وأنه جاء بتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:123 - 125]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:141 - 143]، فكذبوه في دعوى الرسالة والنبوة، وأنه أتى من عند الله بالتوحيد وإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:160 - 162]، وقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:176 - 178]. ومن كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين، لذا قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، مع أنهم لم يكذبوا إلا بنوح، لكن لما كان الرسل دعوتهم واحدة، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم؛ صار من كذب واحداً كمن كذب بالجميع. وكذلك كفار قريش أنكروا توحيد الإلهية، وكذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله من إخلاص الدين لله، وإخلاص العبادة والتوحيد له عز وجل، قال الله تعالى عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:4 - 5]، فأنكروا أن تكون الآلهة إلهاً واحداً؛ لأن المشركين ابتلوا بوجود آلهة متعددة يعبدونها من دون الله، ونشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وتوارثوا هذا عن آبائهم وأجدادهم، وصاروا يتبعون آباءهم وأجدادهم على الباطل، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله. تفلحوا)، عجبوا! كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:4 - 7]، فهذه هي الحجة الملعونة الشيطانية، وهي اتباع الآباء والأجداد على الباطل، واتباع القرون السابقة على الضلال، وهي حجة فرعون حينما قال لموسى: {َمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وهي حجة كفا قريش لما قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7].

معنى كلمة (لا إله إلا الله)

معنى كلمة (لا إله إلا الله) جدير بالمؤمن أن يعتني بتوحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهو معنى (لا إله إلا الله)، فإن معناها: لا معبود بحق إلا الله، وقد كان كفار قريش يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، ولذلك امتنعوا ورفضوا قولها؛ لأنهم يعرفون أن المراد ليس هو التلفظ بالحروف فقط، بل المعنى هو إخلاص التعبد لله، والبعد عن الشرك، فلذلك تواصوا بالصبر على آلهتهم والبقاء عليها، وامتنعوا عن قول: (لا إله إلا الله)، ثم جاء المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم ممن يتمسحون بالقبور ويعبدونها من دون الله، ويدعونها ويذبحون لها وينذرون لها؛ فصاروا لا يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، فصار الواحد منهم يقول: (لا إله إلا الله) وهو يدعو غير الله، ويذبح وينذر لغير الله؛ لأنه لا يعرف من معنى هذه الكلمة إلا مجرد الحروف، وبعضهم يفسرها بتوحيد الربوبية، كما بين ذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإمام المجدد في رسالة (كشف الشبهات)، فقد بين أن كثيراً من الناس في زمنه لا يعرف من معنى (لا إله إلا الله) إلا مجرد الحروف فقط، والذكي منهم الفطن يفسرها بتوحيد الربوبية، فيقول: (لا إله إلا الله)، أي: لا خالق إلا الله. والصواب أن الإله هو المعبود، ومعنى: (لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحق إلا الله، فالإله هو المعبود المطاع المتبع. فلا بد من العناية بمعنى هذه الكلمة، ولا تتبين عظمة هذه الكلمة، بأنها تنفي الشرك عن الله، وأنها تنفي جميع أنواع العبودية عن غير الله وتثبتها لله إلا إذا فسر الإله بالمعبود، وقدر الخبر بـ (حق)، أي: لا إله حق إلا الله، فـ (لا) نافية للجنس تعمل عمل (إن)، فتنصب الاسم وترفع الخبر، واسمها: (إله)، والإله: هو المعبود المطاع المتبع، والخبر محذوف تقديره: حق، أي: لا معبود حق إلا الله. أما المعبودات الموجودة فهي معبودة بالباطل، فالشمس والقمر والنجوم والأولياء والأنبياء والملائكة، كل هؤلاء عبدوا بالباطل، ولا يستحقون العبادة، وإنما المعبود بالحق هو الله وحده سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، أما من فسر الإله بأنه الخالق، فهذا قد وافق ما عليه المشركون، فإن المشركين يقولون: لا خالق إلا الله، وكذلك من قدر الخبر فقال: لا إله موجود إلا الله. فقوله ليس بصحيح، بل الآلهة متعددة وموجودة وكثيرة، وكلها معبودة بالباطل إلا الله، فهو المعبود بالحق سبحانه وتعالى.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد توحيد الألوهية يسمى توحيد العبادة، ويسمى توحيد القصد والطلب، ويسمى التوحيد الإرادي الطلبي، أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات فيسمى توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي، أو التوحيد الخبري، أو التوحيد القولي الاعتقادي؛ لأن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات الأصل فيهما أنهما نوع واحد؛ لأنه توحيد يتعلق بإثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره ومشيئته، فهو نوع واحد، لكن لما كثر الاختلاف حول الأسماء والصفات، وأثيرت الشبه فصل عنه، فصار توحيد الأسماء والصفات اسماً مستقلاً، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والعلامة ابن القيم أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، ولا مشاحة في الاصطلاح، وجعل توحيد المعرفة والإثبات هو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمى التوحيد العلمي الخبري، ويسمى التوحيد القولي الاعتقادي. والنوع الثاني: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الألوهية والعبادة، وهو التوحيد الإرادي الطلبي، ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فنوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالنوع الأول هو توحيد المعرفة والإثبات، أي: إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره وعموم مشيئته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وأول سورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول (الم تنزيل) السجدة، كما دل عليه قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وكما دلت على ذلك سورة الإخلاص بكمالها، وفي أول سورة الحديد بيان هذا التوحيد توحيد المعرفة والإثبات، قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد:1 - 2]، وفي آخر الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] إلى آخرها، وفي أول سورة (ألم تنزيل) {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]، وسورة (قل هو الله أحد) بكمالها. النوع الثاني: التوحيد الطلبي الإرادي، وقد تضمنته ودلت عليه سورة: (قل يا أيها الكافرون) بكمالها، وقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وكما في أول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وجملة سورة الأنعام. ثم يقول العلامة ابن القيم: وكل سورة في القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا هو التوحيد العملي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بحقوقه، فذلك من مكملات التوحيد وحقوقه، وإما خبر عن إكرامه لأوليائه وما حصل لهم في الدنيا من الكرامة والنصر والتأييد، وما يحصل لهم في الآخرة من العاقبة الحميدة والكرامة، فهذا جزاء أهل التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك، وما يحصل لهم في الدنيا من الهزيمة والخذلان، وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب السرمدي، فهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي الشرك وأهله وبيان الشرك والنهي عنه وجزاء أهله. فتوحيد العبادة هو التوحيد المطلوب، والغاية المرضية لله عز وجل، والذي من أجله خلق الخلق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وخلق من أجله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، فجدير بالعاقل اللبيب أن يعتني بهذا الأمر، وأن يهتم به، وأن يعرف معناه وحقيقته، وأن يعرف ما يضاده وينافيه أو ينافي كماله الواجب حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى يكون مؤمناً حقاً. جدير بك -أيها المسلم ويا طالب العلم- أن تعتني بهذا التوحيد، وأن تعرف حقيقته، فهو توحيد خلقك الله من أجله، وأرسل من أجله الرسل، وأنزل من أجل الكتب، وهو سبب السعادة، وتركه الشقاوة، جدير بك أن تعتني به، وأن تتعرف على معناه وحقيقته، وأن تعرف ما يضاده وينافيه، أو ينافي كماله الواجب. فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، وأن تفرد الله بجميع أنواع العبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج، وبر للوالدين، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، ودعاء وخوف ورجاء ونذر وتوكل واستعانة واستغاثة وطواف، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، واحذر أن يكون في عملك شرك، حتى لا ينتقض عليك هذا التوحيد الذي من أجله خلقك الله، فهذا هو التوحيد وضده الشرك والكفر والنفاق، فالذين انحرفوا عن هذا التوحيد هم المشركون والكفار والمنافقون بجميع أصنافهم وطبقاتهم، انحرفوا عن هذا الترتيب. فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وإخلاص الدين لله، وإخلاص التعلق لله، كما قال الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وهذا هو الأمر الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، وضده -وينافيه- الشرك، والكفر، والنفاق، وإذا كان الشرك لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر فإنه ينافي كماله، وكذلك الكفر إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله، وكذلك النفاق إذا كان أصغر فإنه ينافي كماله الواجب.

الشرك وأحكامه

الشرك وأحكامه

أنواع الشرك

أنواع الشرك الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، هذا هو الشرك الأكبر، فمن سوى غير الله بالله في الربوبية أو الأسماء والصفات أو الألوهية فقد أشرك. أما الشرك الأصغر فهو كل ما ورد تسميته من الذنوب شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر. ومن الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر ما يأتي: أولاً: الشرك الأكبر لا يغفره الله يوم القيامة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، ويخرج فاعله من ملة الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، ويحبط جميع الأعمال؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فمن مات عليه فهو غير مغفور له بنص القرآن {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]. ويخلد صاحبه في النار إذا مات عليه، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. أما الشرك الأصغر فإنه لا يغفر في أصح قولي العلماء؛ لدخوله في عموم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وقال بعض العلماء: يكون فاعله تحت المشيئة، كالكبيرة. ثانياً: يحبط العمل الذي فارنه فقط ولا يحبط جميع الأعمال. ثالثاً: لا يخرج من ملة الإسلام. رابعاً: لا يخلد صاحبه في النار، بل يدخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات، فإن رجحت الحسنات فإنه لا يعذب به، وإن رجحت السيئات عذب به.

بيان خطر الشرك

بيان خطر الشرك أولاً: الشرك بالله أعظم الذنوب؛ لأن الله لا يغفره لمن لقيه به، بخلاف غيره من الذنوب؛ فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ثانياً: الشرك بالله أظلم الظلم، وأقبح القبيح؛ لأن فيه تنقصاً لله، وصرفاً بخالص حقه لغيره، وعدلاً غيره به، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، فالمشرك عدل غير الله بالله، فهو أظلم الظلم، وأقبح القبيح، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلم أعظم من أن يضع الإنسان العبادة في غير موضعها؟! والمشرك وضع العبادة في غير موضعها، فعبد غير الله، فوقع في أظلم الظلم وأقبح القبيح، حيث عدل غير الله بالله، وتنقص رب العالمين. ثالثاً: الشرك بالله مناقض للمقصود بالخلق والأمر، إذ المقصود بخلق الخلق أن يعبدوا الله، والله تعالى أمرهم أن يفردوه بالعبادة، فالشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وهذا غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له والخضوع والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بها، فلا صلاح للعالم إلا بالتوحيد والإيمان، فمتى خلا العالم من الإيمان والتوحيد خرب وقامت القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله). إذاً: صلاح هذا العالم وبقاؤه بالتوحيد والإيمان، فإذا خلا من التوحيد والإيمان خرب، ولهذا فإنه في آخر الزمان تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات بريح طيبة تأتي من جهة الشام، وفي بعض الروايات: من جهة اليمن، حتى لو كان الواحد من المؤمنين في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه، فلا يبقى إلا الكفرة يتهارجون ويتناكحون في الأسواق تهارج الحمر والعياذ بالله، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ويتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادته، فعليهم تقوم الساعة، فتنفطر السماء وتنشق، وتنكدر النجوم، ويخرب هذا العالم بسبب خلوه من الإيمان والتوحيد، ومتى كان الإيمان والتوحيد موجودين فإن صلاح هذا العالم يبقى. رابعاً: الشرك بالله تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الربوبية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعليق الخوف والرجاء والدعاء والتوكل وسائر أنواع العبادة بالله عز وجل. خامساً: الشرك بالله هضم لجناب الربوبية، وسوء ظن برب العالمين، فإن من خصائص الألوهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون الخشية والتعظيم والدعاء وسائر أنوع العبادة لله عز وجل، وهذا واجب شرعاً وعقلاً وفطرة. وهذه الأمور التي يتبين بها خطر الشرك توجب للعبد شدة الخوف من الشرك، والحذر على نفسه من أن يقع في شيء من الشرك هذا الذنب العظيم والحوب الكبير.

خوف الصالحين من الشرك

خوف الصالحين من الشرك ثبت في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن من دعاء إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أنه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36]، فإبراهيم الخليل الذي فارق الناس من أجل الله، وسماه الله أمة وحده، ووقف كالجبل الأشم صامداً لا يتزعزع أمام أبيه وقومه، وكسر الأصنام بنفسه، وبقي وحده، وفارق الناس جميعاً، كان يخاف على نفسه وعلى بنيه من عبادة الأصنام! قال الله عنه وهو يدعو الله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وهو إبراهيم الخليل الذي بعثه الله أمة وحده، وسماه الله حنيفاً فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وقوله: (حنيفاً)، أي: مائلاً عن الشرك إلى التوحيد (ولم يك من المشركين)، وفارق الناس ووقف صامداً كالجبل العظيم أمام عباد الأصنام والأوثان، وكسرها كلها، ووضع الفأس على الصنم الكبير، وصبر حتى ألقوه في النار ليحرقوه، ومع ذلك يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36]، فإذا كان إبراهيم الخليل يخاف الشرك على نفسه وبنيه الأنبياء فما حالنا؟! وقد رزقه الله إسحاق وإسماعيل، وهما نبيان كريمان، وإسحاق رزقه الله يعقوب، وهو نبي، ويعقوب رزقه الله يوسف، وهو نبي، فهي سلالة أنبياء؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل). فإذا كان إبراهيم الخليل يخاف هذا الأمر، وهو الذي قال الله عنه لنبيه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فكيف بالواحد منا لا يخاف؟! ولهذا قال إبراهيم التيمي تعليقاً على هذه الآية: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟! إذا كان إبراهيم الخليل يخاف من عبادة الأصنام ويقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:35 - 36]، فمن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟! وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)؛ لأن الصحابة الذين عرفوا الشرك وخبروه، وذاقوا مرارته لا يقعون فيه، بخلاف من نشأ في الإسلام ولم يعرف الشرك، فقد يقع فيه ويظن أنه توحيد، مثل ما حصل لعباد القبور، فتجد أحدهم يطوف بالقبر، ويدعوه من غير الله، وينذر له، فإذا قلت له: إن هذا شرك، قال: ليس هذا شركاً، بل هذه محبة للصالحين، وتوسل بهم. بخلاف الصحابة الذين كانوا على الشرك قبل الإسلام ثم هداهم الله إلى الإسلام، فقد عرفوا الشرك وخبروه وذاقوا مرارته، فلا يقعون فيه، لكن من نشأ في الإسلام وهو لا يعرف الجاهلية ولا الشرك قد يقع فيه وهو لا يشعر. ومن هنا يتبين فضل الصحابة على أبنائهم فمن بعدهم، فهم عرفوا الشر ثم عرفوا الخير، فذاقوا مرارة الشرك وخبروه وعرفوه، فلا يقعون فيه، بخلاف من بعدهم؛ فإن من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية ولا الشرك وأنواعه قد يقع فيه ويظن أنه توحيد. فجدير بالإنسان أن يخاف الشرك على نفسه، وحقيقة الخوف من الشرك توجب للعبد الابتهال إلى الله، والتضرع إليه، وصدق الالتجاء إليه، وسؤاله أن يجنبه الشرك، والبحث عن الشرك ووسائله وذرائعه المفضية إليه حتى يحذرها ولا يقع فيها، هذه حقيقة الخوف من الشرك.

أثر الشرك في الآخرة

أثر الشرك في الآخرة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما مات على التوحيد ودخل الجنة. يعني: من تخلص من الشرك الأكبر والأصغر دخل الجنة، ومن مات على الشرك الأكبر دخل النار، ومن مات على الشرك الأصغر مع حسنات راجحة على سيئاته دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك، ومن رجحت سيئاته على حسناته عذب بهذا الشرك الأصغر. فالشرك يؤاخذ به الإنسان إذا كان أكبر أو كان كثيراً أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

أنواع شرك الربوبية

أنواع شرك الربوبية الشرك يكون في الربوبية، ويكون في الأسماء والصفات، ويكون في الألوهية، أي أنه يقابل أقسام التوحيد الثلاثة، والشرك في الربوبية نوعان: النوع الأول: شرك التعطيل، والنوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماء الرب وصفاته وربوبيته. ومن أمثلة شرك التعطيل: شرك فرعون، فإن فرعون أنكر الرب العظيم، قال الله سبحانه عنه: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، وقد أخبر الله أن فرعون قال لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وأخبر الله عنه في آية أخرى أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ففرعون عطل الرب، وأنكر الرب سبحانه وتعالى. ومن أمثلة شرك التعطيل شرك الفلاسفة المتأخرين كـ أرسطو والفارابي وابن سينا، إذا قيل: الفلاسفة فالمراد بهم المتأخرون الذين يتزعمهم أرسطو ويسمون الفلاسفة المشائين، بخلاف الفلاسفة الذين سبقوا أرسطو، فإنهم يعظمون الشرائع والإلهيات في الجملة، أما المتأخرون فيستثنون وجود الله والشرائع والإلهيات. وكان يتزعم أرسطو الفلاسفة المشائين، ويسمون بالمشائين لأنهم كانوا يدرسون نظرياتهم وهم يمشون، وهو الذي ابتدع القول بقدم العالم، وكان مشركاً يعبد الأصنام، فالفلاسفة شركهم من أمثلة شرك التعطيل، فهم يقولون بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يزل ولا يزال، والحوادث عندهم بأسرها مستندة إلى أسباب ووثائق اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس. إذاًَ: الفلاسفة يقولون بقدم العالم، ولا يقولون: إن الله هو الذي خلقه بقدرته ومشيئته، وإذا كان قديماً فلا خالق له، أي: ليس له أول وقدمه أبدي، فهم ينكرون وجود الله، فمذهبهم إثبات وجود الله مجرداً عن الماهية والصفة، بل هو الوجود المطلق لا يعرض لشيء من الماهيات، ولا يقوم به وصف، وهذا هو التوحيد عندهم. ومن فروع هذا التوحيد -الذي هو من أعظم الكفر- إنكار ذات الله سبحانه وتعالى، والقول بقدم الأفلاك، وإنكار أسماء الله وصفاته، والقول بأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب، ولا يعلم شيئاً من المعينات الموجودة البتة، ولا يوصف بالقدرة، فلا يقدر على شق الأفلاك ولا حرقها، ولا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم. ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الملائكة، واعتبار أن الملائكة عبارة عن أشكال نورانية، أي: خيالية. ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الكتب المنزلة، والقول بأنها عبارة عن فيض فاض من العقل الفعال، فهي أمور معنوية تفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية فيحصل لها تصورات بحسب ما قبلته منه. ومن فروع هذا التوحيد: إنكار النبوة والرسالة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة، وليست هبة من الله، وأن النبي رجل عبقري له صفات يحصل عليها بالمران والخبرة. ومن فروع هذا التوحيد: إنكار الشرائع، وأنه ليس هناك حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي. ومن فروع هذا التوحيد: إنكار البعث والجزاء والمعاد والجنة والنار، ويقولون: هذه أمثال مضروبة لتسليم العوام فقط. ومن أمثلة شرك التعطيل شرك أهل وحدة الوجود، ورئيسهم ابن عربي، حيث يقولون: الوجود واحد، والرب هو العبد والعبد هو الرب، والخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، هذا شرك تعطيل في الربوبية، ورؤساؤهم هم ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والقونوي وغيرهم من الذين تستروا باسم الإسلام وكسوا إلحادهم حلية الإسلام، ومزجوه بشيء من الحق حتى راج على ضعفاء الأبصار؛ لأنهم منافقون زنادقة، يتسترون باسم الإسلام، ومزجوا باطلهم بشيء من الحق حتى يخفى أمرهم على ضعفاء الأبصار. ومن أمثلة شرك التعطيل: شرك غلاة الجهمية والقرامطة الذين أنكروا أسماء الرب وصفاته. فهذه كلها أمثلة للنوع الأول من شرك الربوبية، وهو شرك التعطيل، ومنه شرك فرعون، وشرك الفلاسفة، وشرك طائفة أهل وحدة الوجود، وشرك غلاة الجهمية والقرامطة الذين أنكروا أسماء الرب وصفاته. النوع الثاني من الشرك في الربوبية: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماء الرب وصفاته وربوبيته، ومن أمثلته: شرك المجوس القائلين بخالقين وإلهين: النور والظلمة، وإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن أمثلته أيضاً: الشرك المثلث من النصارى القائلين: الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس. ومن أمثلة هذا النوع أيضاً: شرك الصابئة الذين يقولون: إن الكواكب العلويات مدبرة لأمر هذا العالم. ومن أمثلة هذا النوع من الشرك: شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف في هذا الكون، وأن روح الميت تخرج وتتصرف في هذا الكون فتجلب نفعاً، وتدفع ضراً، وتجيب من دعاها، وتحمي من لاذ بحماها واستجار بها، فهذا شرك في الربوبية. ومن أمثلة أيضاً: شرك من قال: مطرنا بنجم كذا أو نوء كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، وقد يقال: إن هذا داخل في شرك الصابئة.

أنواع شرك الأسماء والصفات

أنواع شرك الأسماء والصفات أما الشرك في الأسماء والصفات فهو نوعان أيضاً: النوع الأول: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الله عز وجل الإله الحق، كاشتقاقهم اسم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. النوع الثاني: شرك المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه، فيقول أحدهم: لله يد كيدي، واستواء كاستوائي، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، وهؤلاء المشبهة غالبهم من غلاة الشيعة، كالبيانية الذين ينسبون إلى بيان بن سمعان، والسالمية الذين ينسبون إلى سالم الجواليقي. قال بعضهم: إن الله على صورة الإنسان، وقال بعضهم: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل، ويصافح ويحاضر ويسامر ويعانق. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهؤلاء المشبهة كفرة؛ حيث شبهوا الله بخلقه، فهم أشركوا بأسمائه وصفاته، ومن شبه الله بخلقه فلا يعبد الله على الحقيقة، وإنما يعبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، وهو -أيضاً- مشابه للنصارى الذين عبدوا غير الله وقالوا بالتثليث، فلهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: من شبه الله العظيم بخلقه فهو النسيب لمشرك نصراني وكذلك أيضاً بين أن المشبه إنما يعبد وثناً، فقال: لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان فالمشبه لا يعبد الله حقيقة، وإنما يعبد وثناً خيله وصوره ونحته له فكره.

أنواع شرك الألوهية والعبادة

أنواع شرك الألوهية والعبادة

شرك المحبة

شرك المحبة الشرك في الألوهية والعبادة هو الشرك الأعظم، وهو شرك أهل الجاهلية، فالشرك يكون في الربوبية، ويكون في الأسماء والصفات، ويكون في الألوهية، فالشرك في الألوهية والعبادة هو الشرك الأعظم، وهو شرك أهل الجاهلية، وهو اعتقاد شريك لله تعالى في الألوهية والعبادة، أو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل. أما الشرك الأصغر في العبادة فإنه الشرك الذي لم يصل إلى حد الأكبر، وكل ما ورد تسميته شركاً لكنه لم يصل إلى حد الشرك، فلا يكون شركاً في العبادة ولا يكون ناقضاً من نواقض الإسلام. أما الشرك الأكبر فهو اعتقاد شريك لله في الألوهية والعبادة، أو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، وهذا هو الشرك الأعظم، وهو شرك أهل الجاهلية، وهذا له أمثلة وأنواع كثيرة لابد من أن يكون المؤمن منها على بصيرة، ومن هذه الأنواع: الشرك في المحبة. وهو أن يتخذ نداً من دون الله يحبه كما يحب الله، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فالذين آمنوا أشد حباً لله من محبة المشركين لله؛ لأن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة، أو المعنى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من محبة المشركين لآلهتهم، والشرك في المحبة هو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عن المشركين في النار أنهم قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، فسووا آلهتهم برب العالمين في المحبة والتعظيم لا في الخلق والرزق، فهم لا يقولون: إنها تخلق وترزق. بل سووهم بها في المحبة، ودليل هذا الشرك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، والمراد بالمحبة محبة العبادة التي يصاحبها خضوع وذل ورجاء وتعظيم وإجلال للمحبوب، وكل محبة مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، فالعبادة تتضمن غاية الحب لله وغاية الذل لله، فهذان الأمران يدور عليهما فلك العبادة، والذي يديره هو أمر الله ورسوله بالفعل وبالكف، ولا يقوم دين الله إلا بإخلاص العمل لله، وإحسان العمل وإتقانه بأن يكون موافقاً لشرع الله، والله تعالى إنما يرضى منا الإخلاص والإحسان، والعارف هو الذي يعتني بالإحسان والجاهل لا يبالي به، ولهذا يقول العلامة ابن القيم في أبيات عظيمة هي من أحسن ما قيل في بيان محبة العبادة، وأن عبادة الله إنما تكون على غاية الحب وغاية الذل، يقول رحمه الله: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما له أصلان لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان والناس بعدك مشرك بإلهه أو بابتداع أو له الوصفان والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان فالعارفون مرادهم إحسانه والجاهلون عموا عن الإحسان يقول رحمه الله: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان فقطبا العبادة غاية الحب لله مع غاية الذل والخضوع لله، وعليهما فلك العبادة دائر، ولذا قال: وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان وما الذي يدير هذا الفلك؟ قال: ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان فالذي يدير فلك العبادة أمر الله ورسوله، افعل، ولا تفعل، افعل الأوامر، ولا تفعل المنهيات، فغاية الحب لله تستلزم فعل الأوامر، وغاية الذل لله تستلزم ترك النواهي، قال: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان فغاية الحب تقتضي فعل الأوامر، وغاية الذل تقتضي ترك المنهيات، وأيضاً لابد من الإخلاص لإحسان العمل، لابد لعملك من إخلاص لله، فهذا أصل من الأصول، فإن كان لغير الله لم يقبل، فلا بد من أن يكون العمل موافقاً لشرع الله، ولهذا قال: فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما أصلان، فإذا وجد هذان الأصلان نجا العبد من غضب الله، وإلا فهو في غضب الله، ولذا قال: لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان فلا ينجو من غضب الله ولا ناره إلا من أخلص العمل لله، وكان عمله موافقاً لشرع الله ولهذا يقول الله تعالى في بيان هذين الأصلين: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فقوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، هذا هو الإحسان {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ} [الكهف:110]، هذا هو الإخلاص، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: من يسلم وجهه لله ويخلص، وهو محسن هذا الإحسان، قال سبحانه: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة:112]، فقوله تعالى: (أَسْلَمَ) أي: أخلص العمل لله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) المراد به إحسان العمل وإتمامه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: فقيام دين الله بالإخلاص والإحسان إنهما له أصلان لم ينج من غضب الإله وناره إلا الذي قامت به الأصلان والناس بعدك فمشرك بإلهه أو بابتداع أو له الوصفان فمن فقد الإخلاص فهو مشرك، وإذا فقد موافقة الشرع فهو مبتدع، فإما هذا وإما هذا، وإما له الأمران، قال: والله لا يرضى بكثرة فعلنا لكن بأحسنه مع الإيمان فليس المراد كثرة العمل، فقد يعمل الإنسان عملاً مبتدعاً لا يرضاه الله، لكن الله تعالى يرضى بأحسنه مع الإيمان، إيمان وإخلاص مع عمل حسن موافق للشرع. قال: فالعارفون مرادهم إحسانه. أي: العارفون مرادهم إحسان العمل وإتقانه، وموافقته للشرع، مع كونه خالصاً لله، والجاهلون عموا عن الإحسان. فالمراد بالمحبة محبة العبادة التي تقتضي كمال الذل وكمال المحبة. والرجاء كذلك لا بد منه؛ لأنه مستوجب للعبادة؛ لأن محبة العبادة مصحوبة بالخوف والرجاء، أما المحبة المنفردة عن الذل والخضوع فلا تكون عبادة، بل تكون محبة طبيعية، كمحبة المال والولد والزوجة؛ هذه تسمى محبة طبيعية ليست محبة عبادة، فمحبة العبادة هي التي تقتضي كمال المحبة وكمال الذل، أما إذا خرجت عن ذلك فلا تكون محبة عبادة، بل تكون محبة طبيعية، والمحبة الطبيعية يقسمها بعض العلماء إلى أربعة أنواع: النوع الأول: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء. النوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده. النوع الثالث: محبة تقدير واحترام وإجلال، كمحبة الولد لوالده. النوع الرابع: محبة أنس وألف، كمحبة المشتركين في صناعة أو تجارة، والطلبة بعضهم لبعض.

شرك الخوف

شرك الخوف النوع الثاني من أنواع الشرك في العبادة والألوهية: الشرك في الخوف، وهو: أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته، فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقاد للضر والنفع في غير الله، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، والمراد بالخوف خوف العبادة، وهو الخوف الذي يكون معه تعظيم وإجلال وخشية ورجاء للمخوف، هذا هو خوف العبادة، وهو المسمى بخوف السر، وهو الخوف الذي يكون فيما وراء الأسباب، كأن يخاف منه أن يقطع رزقه بسره لا بسبب ظاهر، أو يمرضه، أو يسلط عليه عدواً، أو يحرمه من دخول الجنة، أو يدخله النار، ويكون مع خوفه إجلال وتعظيم وخشية ورجاء له، فهذا الخوف الذي يكون فيما وراء الأسباب، فهو لا يخاف لأن أمامه سبب، بل يخاف لأنه يعتقد أن هناك سر يستطيع به أن يغفر ذنبه، أو يسلط عليه عدوه، أو يقطع رزقه، أو يميت ولده، أو يحرمه دخول الجنة، فهذا شرك أكبر. أما إذا خاف من شيء أسبابه ظاهرة فهذا لا يكون خوف عبادة، كأن يخاف من السباع فيبتعد عنها، أو من الحيات والعقارب، أو من عدو كسلطان ظالم، فهذا أسبابه ظاهرة، وهذا لا يكون شركاً، بل هو خوف طبيعي، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18] أي: خائفاً من فرعون، وهذا سببه ظاهر، فهو ملك ظالم كافر جبار، فيخشى أن يبطش به، ولهذا قال تعالى: {َجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21]، فهل هذا شرك؟! لا، بل هذا خوف طبيعي؛ لأن أسبابه ظاهرة أمامه، لكن الشرك أن تخاف من ميت، أو تعتقد أن الولي يمكن أن يقطع رزقك، أو يحرمك من دخول الجنة، أو لا يغفر ذنبك، أو يسلط عليك عدوك. ولهذا كان لابد من الخوف في عبادة الله مع المحبة والإجلال والتعظيم، فمن أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، ومن خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عابداً له، فلهذا لا يكون المرء عبداً لله حتى يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء، فمن أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، ومن خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عابداً له، كالعدو تخضع له لكن لا تحبه.

شرك الرجاء

شرك الرجاء النوع الثالث من أنواع الشرك في العبادة والألوهية: الشرك في الرجاء، وهو: أن يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ليحصل له مطلوب من جهته، ومثال ذلك الذين يقصدون الأموات فيدعونهم من دون الله، ويذبحون لهم وينذرون رجاء أن تحصل لهم مطالبهم من نصر أو رزق أو شفاعة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، قال علي رضي الله عنه: (لا يرجُوَنَّ عبدُ إلا ربه)، والمراد بالرجاء هنا رجاء الشرك الذي يكون فيما وراء الأسباب، كأن يرجو ميتاً أو غائباً بسره أن ينصره على عدوه، أو يدخله الجنة، أو يسلمه من النار، أو لا يحرمه دخول الجنة، فهذا يرجوه بسره لا بسبب ظاهر، فهذا شرك أكبر، والمراد الرجاء الذي يكون معه محبة للمرجو وذل وخضوع، وكل محب فهو خائف راج بالضرورة، فيرجو حصول المطلوب ويخاف من فواته، فهو راج خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون في أحب ما يكون إليه، فهذا رجاء العبادة، وهو الرجاء الذي يكون فيما وراء الأسباب، فهو ليس ظاهراً، بل يرجوه بسره لا بسبب ظاهر، فيرجوه أن ينصره على عدوه، ويغفر ذنوبه، ويوفقه، فهذا هو رجاء السر، وهو رجاء العبادة. أما من رجا حياً حاضراً فيما يقدر عليه فهذا ليس بشيء؛ لأنه رجاء عادي، كأن ترجو أخاك أن يصلح سيارتك، أو يبني بيتك، أو يقرضك مالاً، فهذا ليس شركاً؛ لأنه رجاء عادي أسبابه ظاهرة، لكن رجاء العبادة هو رجاء السر الذي يكون فيما وراء الأسباب، ولهذا فإن العبادة التي أمر الله بها هي التي تتضمن معنى الحب والخوف والرجاء، ولها ثلاثة أركان: المحبة والخوف والرجاء، ولابد من اجتماعها في العبادة، وهذه الأركان الثلاثة موجودة في فاتحة الكتاب في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فهذه هي المحبة، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] هذا هو الرجاء، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] هذا هو الخوف، فمن عبد الله بالمحبة والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد، ومن عبد الله بواحد منها وتعلق بواحد منها فليس بعابد لله على الحقيقة، فمن عبد الله بالحب وحده فهو صوفي زنديق، يقول أحدهم: ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن عبدته حباً لذاته وشوقاً إليه، فهذه طريقة الزنادقة، لا يعبدون الله بالخوف والرجاء، والله تعالى قال عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال عن أوليائه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وإذا عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، وإذا عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، وإذا عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الشراء من رجل صوفي

حكم الشراء من رجل صوفي Q إذا علمت أن البائع الفلاني من الصوفية، فهل يجوز الشراء منه؟ A ينبغي للمؤمن أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر على قدر الاستطاعة، ومن إنكار المنكر على الصوفي ألا تشتري منه، إلا إذا استطعت أن تنصحه، وأن يقبل نصيحتك، ثم تشتري منه تشجيعاً له، فلا بأس بذلك، وينبغي هجره، ومن هجره ألا تشتري منه، وإذا هجر أهل الخير والتوحيد والإيمان الصوفية سيؤثر ذلك عليهم، فالمقصود أنه ينبغي هجره، وكما أنك لا تجيب دعوته فكذلك لا تشتري منه، إلا إذا كان في شرائك منه فائدة، بأن تنصحه وتذكره بالله وهو يقبل منك ويستفيد، فهذا طيب.

مدى صحة تفسير كلمة التوحيد بإخراج اليقين الفاسد

مدى صحة تفسير كلمة التوحيد بإخراج اليقين الفاسد Q هناك من يفسر (لا إله إلا الله) بأنها إخراج اليقين الفاسد من ذات الأشياء، وإدخال اليقين الصادق بالله، فهل لهذا التعريف أصل؟ A لا أعرف هذا، لكن من شروط كلمة التوحيد اليقين المنافي للشك والريب، وأن تتيقن بمعنى هذه الكلمة، وأن معناها نفي العبادة عن غير الله، ولا شك في أن عبادة غير الله فاسدة، فلابد من أن تنفيها وتنكرها. واليقين الفاسد لا يسمى يقيناً، فالمؤمن ليس عنده يقين فاسد، بل المؤمن عنده يقين صحيح، وهو توحيد الله والإيمان به، فيكيف يقال: يخرج اليقين الفاسد؟! فالمراد أن ينفي العبودية عن غير الله بأنواعها، فيقول: (لا إله إلا الله) عن يقين لا شك فيه، فإن هذا من شروط كلمة التوحيد، أعني اليقين المنافي للشك والريب، فلا يكون عندك شك في استحقاق الله العبادة، وأن عبادة غيره باطلة.

حكم هجر المبتدع

حكم هجر المبتدع Q هل يهجر المبتدع؟ A إذا كان الهجر من باب إنكار المنكر ويستفاد منه فاهجره، وكذلك غيره من أصحاب المعاصي، فالعاصي إذا كان في هجره فائدة فاهجره حتى في الكلام، وإن كان ترك الكلام أو الهجر يسبب مفسدة فلا تهجره، بل داوم على نصيحته.

حكم الخوف من الحي الحاضر

حكم الخوف من الحي الحاضر Q هناك من يعمل السحر، وأريد أن أبلغ به، ولكني أخاف أن يلحقني ضرر، فهل هذا يدخل في شرك الخوف؟ A لا شك في أن هذا خوف من المخلوق، وقد يقال: إن هذا أسبابه ظاهرة، وهي الخوف من حي حاضر، لكن لا ينبغي لك أن تخاف منه، بل عليك أن تقوي رجاءك بالله، وأن تثق بالله، وأن تعتمد عليه وتتوكل عليه، ولن يضرك، ولتتحصن بالآيات القرآنية والأدعية الشرعية، ولن يضرك، وهو لا يعلم الغيب، فإذا كان المرء يعتقد أنه يضره، أو أنه يعلم الغيب فهذا شرك وكفر أكبر والعياذ بالله، فالواجب عليك أن تبلغ به، وأن ترفعه إلى ولاة الأمر، فحد الساحر ضربة بالسيف. فلا شك في أن هذا جبن وخور وضعف، وإذا كان يعتقد أن الساحر يعلم خبره، وأنه يضره بسحره أو بمشيئته وقدرته فهذا شرك أكبر، قال الله تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فلا يصيبك إلا ما قدر الله لك، فعليك أن تثق بالله وأن تلجأ إلى الله، وأن تعتمد على الله وتتوكل عليه، وأن تعلم أن هذه الساحر لا قدرة له، ولا يستطيع أن ينفعك ولا يضرك، وعليك أن تبلغ وأن ترفع به إلى ولاة الأمر حتى يحال إلى المحكمة الشرعية.

حكم الشرك الأصغر في الآخرة

حكم الشرك الأصغر في الآخرة Q قلتم: إن الشرك الأصغر لا يغفر، أي: سيعذب صاحبه، ثم قلتم: إنه داخل تحت الموازنة بين الحسنات والسيئات، فنرجوا الجمع بين القولين؟ A يعذب به إذا رجحت السيئات، فإن رجحت الحسنات لا يعذب، فالحسنات الكثيرة فيها توحيد كثير بجانب شرك قليل، فهو لا يغفر، فإما أن يعذب به، وإما أن يسقط بما يقابله من حسنات، فإذا كانت الحسنات كثيرة سقط ما يقابلها، وإذا كانت السيئات راجحة عذب به، وقال بعض أهل العلم: إنه كالكبائر تحت مشيئة الله، لكن ظاهر النصوص أنه داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].

حكم إطلاق لفظ الجسم على الله

حكم إطلاق لفظ الجسم على الله Q هل هناك نص يدل على إثبات الجسم لله؟ A إثبات الجسم ونفي الجسم لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولهذا سكت عنه السلف، فمن قال: إن الله جسم أو ليس بجسم فهو مبتدع عند أهل السنة، والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، وهو متصف بالصفات التي وردت في الكتاب والسنة، ومن قال: إن الله جسم عند أهل الحق يسأل، فإن كان مراده الحق فإنه قبل المعنى ورد اللفظ، وإن كان مراده باطلاً رد اللفظ والمعنى جميعاً.

إثبات اسم الإله لله عز وجل

إثبات اسم الإله لله عز وجل Q هل اسم (الإله) من أسماء الله؟ A هو سبحانه الإله، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ} [الزخرف:84]، فظاهر الأدلة أنه من أسماء الله تعالى.

حكم سؤال الله بجاه النبي

حكم سؤال الله بجاه النبي Q ما حكم سؤال الله بجاه محمد صلى الله عليه وسلم؟ A هذا من البدع عند أهل العلم، فمن قال: أسألك بجاه فلان، أو: بحق فلان، أو: بحرمة فلان، فقوله من البدع، وهو توسل بوسيلة غير شرعية، والذي ينبغي هو التوسل بأسماء الله وصفاته، وبالعمل الصالح، بالفقر والحاجة إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فلا تتوسل بحق فلان ولا بجاه فلان، ولكن توسل بأسماء الله وصفاته، وبالإيمان بالله وبالتوحيد، وبالعمل الصالح.

حكم ذبيحة من يدعو غير الله

حكم ذبيحة من يدعو غير الله Q هناك من يعمل في المسالخ وهو يدعو غير الله، فما حكم ذبيحته؟ A إذا ثبت أنه مشرك، وأنه يدعو غير الله، أو يذبح ولم يتب فلا تصح ذبيحته، ومن عرف شيئاً من ذلك فعليه أن يبلغ المسئولين حتى يُبعد عن المسالخ، فإذا كان يطوف بالقبور تقرباً إليها أو يذبح لغير الله أو ينذر أو يدعو غير الله، أو كان لا يصلي -على أحد قولي أهل العلم- فلا تجوز ذبيحته، وعلى من عرف ذلك أن يبلغ المسئولين حتى يبعد هذا المشرك عن الذبح.

حكم قول: (العمر الطويل لله)

حكم قول: (العمر الطويل لله) Q ما حكم من يقول: العمر الطويل لله؟ A لعل مقصوده: البقاء لله، وأن الله هو الباقي، وهذا حق، فهو الأول والآخر، لكن العبارة ليست بسليمة؛ لأن العمر محدد، فالله تعالى هو الأول وهو الآخر سبحانه وتعالى، وقد ثبت في الحديث الصحيح في دعاء الاستفتاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، فهذه الكلمة ليست سليمة؛ لأنها تشعر بالتحديد، إلا إذا كان مقصوده أن العمر من الله يعطيه المخلوق، فهذا شيء آخر على حسب مقصده، وبكل حال فالأولى تركه.

حكم قول: (حياك النبي)

حكم قول: (حياك النبي) Q بعض الناس إذا قال أحدهم: حياك الله يقول له الآخر: حياك النبي، فما حكم ذلك؟ A لا أعلم معنى هذه الكلمة، والذي ينبغي أن يرد عليه تحيته، ويقول: حياك الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام ميت، كما قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فكيف يقال: حياك النبي وهو ميت بالقبر لا يعلم؟! وقد يقال: إن هذه الكلمة تشعر بأنه يعتقد أن الرسول يعلم وأنه حي، وهذا غلط، والذي ينبغي أن يقول: حياك الله، ويرد عليه تحيته، ولا يقول: حياك النبي.

[8]

دروس في العقيدة [8] الشرك بالله تعالى أنواع كثيرة، فمنه شرك الدعاء، وشرك الاستعاذة، وشرك الرقى، وشرك الاستعانة، وشرك الاستغاثة، وشرك الرياء، وشرك التبرك، وشرك النذر. والواجب على المسلم أن يعلم هذه الأمور حتى لا يقع في مزالق الانحراف في توحيد الله تعالى.

أنواع من الشرك

أنواع من الشرك

شرك الدعاء

شرك الدعاء فإنه لا يزال الحديث موصولاً بالكلام على توحيد الألوهية -وهو العبادة- وما ينافيه من الشرك، وقد سبق أن استعرضنا بعض أمثلة الشرك في العبادة، وهي: شرك المحبة، وشرك الخوف، وشرك الرجاء. ومن الأمثلة كذلك: الشرك في الدعاء، وهو: أن يدعو الإنسان غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يدعو ميتاً أو غائباً أو حياً حاضراً أو جنياً أو شجرة أو قبراً أو ولياً أو ملكاً، أو غيرهم ممن هو عاجز لا يقدر، فيكون قد أشرك بالله عز وجل شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام. وسواء أكان هذا الدعاء طلباً للشفاعة أم لغيرها، كأن يسأل إنسان المدد، أو قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات، أو إغاثة اللهفات، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، يخبر الله تعالى عن المشركين أنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله، وأخلصوا له العبادة، وأخلصوا له الدعاء، فإذا نجاهم إلى البر أشركوا بالله عز وجل، ودعوا غيره، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال سبحانه: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وقال سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، يعني: المشركين. فقد حكم الله تعالى على من دعا غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه بالشرك قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14] فسماه الله شركاً، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. وقد حكم الله سبحانه وتعالى على من دعا غيره بالكفر، فقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر:3] يعني: قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، فحكم عليهم بالكذب، وكفرهم بهذا العمل في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وبين الله سبحانه وتعالى أن غيره من المدعوين لا يملكون للداعي شيئاً، ولا يستطيعون إجابة دعائه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]، والقطمير هو: اللفافة الرقيقة البيضاء على نواة التمرة، وقال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]، أي: لا يسمع؛ لأنه غائب، أو ميت قد بليت عظامه وصارت تراباً. {وَلَوْ سَمِعُوا} [فاطر:14] على الفرض والتقدير {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]. وهذا النوع من الشرك في الدعاء انتشر ووقع فيه كثير من المشركين قديماً وحديثاً، فأنت تجد في بعض القبور من يسميه بعضهم بالولي، فتسمع ارتفاع الأصوات بالضجيج والدعاء: يا فلان، يا فلان، يا عبد القادر الجيلاني! أغثني، مدد مدد! يا دسوقي! مدد مدد! يا سيدي البدوي أغثني المدد المدد! يا حسين! يا نفيسة! يا ابن علوان! وهكذا تسمع في كثير من الأماكن والبلدان في غير هذه البلاد قبوراً تدعى من دون الله. وبعض الحجاج حينما يأتون للحج، ومن ثم زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام تجدهم يقعون في الشرك، فيقول أحدهم: يا سيدي يا رسول الله أغثني! يا سيدي يا رسول الله! فرج كربتي! يا سيدي يا رسول الله! جئتك من بلاد بعيدة، لا تخيب رجائي! أنا في حسبك! أنا في جوارك! وبعضهم يقول: اغفر ذنبي! أدخلني الجنة! نجني من النار! وهذا شرك أكبر، وهو شرك أهل الجاهلية. والشرك الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، وقتال فاعله وتكفيره واستحلال دمه وماله هو شرك الدعاء الذي انتشر وعم وطم في كثير من البلدان، وفي كثير من الأقطار في الأزمنة القديمة، وفي العصور الحاضرة، فمن فعل ذلك فإنه يكون مشركاً وثنياً، إلا من تاب، ومن تاب تاب الله عليه، فمن دعا غير الله فقد أشرك، والمراد بالدعاء: الذي يكون فيما وراء الأسباب، أما إذا دعا حياً حاضراً قادراً معه أسباب ظاهرة فلا يكون دعاؤه شركاً، كأن يدعو شخصاً يطلب منه حاجة دنيوية فيقول: يا فلان! أعني على إصلاح بيتي، أعني على إصلاح سيارتي، يا فلان! ساعدني على إصلاح مزرعتي، أقرضني مالاً، أو كان غريقاً يطلب إنقاذه من غرقه، فهذا لا بأس به، وهذا بخلاف الميت، فإنه لا يستطيع؛ لأنه ليس معه أسباب ظاهرة، وكذلك الغائب، والحي الحاضر الذي لا يقدر.

شرك الاستعانة والاستغاثة

شرك الاستعانة والاستغاثة الشرك في الاستعانة هو: أن يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستعين بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يقول للميت: أعني على قضاء ديني، أو ينادي غائباً أن يعينه، أو يستعين بأسماء الملائكة، أو أسماء الجن، أو الأنبياء. والاستعانة لا تكون إلا بالله، قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فمن استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك، أما من استعان بحي حاضر قادر فلا بأس بذلك؛ لأن المراد بالاستعانة الممنوعة بالمخلوق: الاستعانة التي تكون فيما وراء الأسباب، أما إذا استعان بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فلا يكون ذلك شركاً، بل هذا جائز مباح، كأن يقول: يا فلان! أعني على إصلاح سيارتي، أعني على إصلاح مزرعتي، ساعدني على إنكار المنكر، ساعدني على الدعوة إلى الله، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. أما الشرك في الاستغاثة فهو: أن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستغيث بميت أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يستغيث بأسماء الملائكة، أو بأسماء الجن، أو بأسماء الأنبياء، أو يستغيث الغريق بالميت أن ينقذه فيقول: يا فلان! أغثني. يا سيدي البدوي! أغثني، أنقذني من الغرق! أو يا عبد القادر الجيلاني! أنقذني من الغرق، أو: أنفذني من الحريق! وهكذا. والاستغاثة لا تكون إلا بالله، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فإذا استغاث بميت، أو غائب، أوحي حاضرٍ فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك، والمراد بالاستغاثة الممنوعة الاستغاثة فيما وراء الأسباب، أما من استغاث بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فلا يكون ذلك شركاً، بل هذا جائز. ومثال ذلك: أن يستغيث غريق برجل أمامه يعرف السباحة، فيقول: يا فلان! أغثني. فهذا لا بأس به، أو استغاثة مَنْ وقع في كربة كحريق، فيستغيث بمن يستطيع إنقاذه، فهذا لا بأس به، قال الله تعالى في شأن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج فوجد قبطياً وإسرائيلياً يقتتلان، وكان الإسرائيلي من شيعة موسى، والقبطي من عدوه، قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، استغاث الإسرائيلي بموسى، فأغاثه موسى {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فهذه استغاثة بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة. والفرق بين الاستعانة والاستغاثة والدعاء من حيث العموم والخصوص: أن الدعاء والاستعانة أعم، والاستغاثة أخص؛ لأن الاستغاثة دعاء خاص لا تكون إلا ممن وقع في كربة أو شدة، فإذا دعا من هو في كربة أو شدة يقال لفعله: استغاثة، كالغريق إذا دعا من ينقذه من الغرق. أما الدعاء فإنه يكون ممن هو في كربة ومن غيره، وكذلك الاستعانة أعم، فهي تشمل الداعي في كربة وفي غيرها، فالدعاء والاستعانة كل منهما أعم من الاستغاثة، فالاستغاثة نوع من الدعاء، لكنها تكون من المكروب، والدعاء من المكروب يسمى استغاثة، والدعاء من غير المكروب يسمى دعاء.

شرك الاستعاذة

شرك الاستعاذة الشرك في الاستعاذة هو: أن يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستعيذ بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يقول: يا فلان -ينادي القبر-! أعذني، يا سيدي البدوي! أعذني من فلان، أعذني من العدو الفلاني، فيلوذ به ويلتجئ إليه، فهذا يكون شركاً؛ لأن الاستعاذة عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]. وثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك، فقال: (لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك)، فهذه استعاذت بالله، والاستعاذة بالله توحيد. والمراد بالاستعاذة الشركية: الاستعاذة فيما وراء الأسباب، أما من استعاذ بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فاستعاذته لا تكون شركاً؛ لأنه حي حاضر قادر أمامك، كأن تقول: يا فلان! أعذني من شر أولادك، أو يا فلان! أعذني من شر زوجتك؛ لأنها سليطة اللسان، أو: أعذني من شر خادمك، فلا بأس بهذا؛ لأنك تستعيذ بحي حاضر قادر يستطيع أن يمنع أولاده، ويستطيع أن يمنع خادمه، ويستطيع أن يمنع زوجته، فهذه استعاذة حسية أسبابها ظاهرة، فلا بأس بها.

شرك الرقى

شرك الرقى الرقى المقصود بها: الرقية التي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع، فإذا رقى شخص شخصاً بأسماء الملائكة، أو بأسماء الجن، أو بأسماء الأموات أو الغائبين أو غيرهم فهذا يقع في الشرك، أما إذا رقى شخصاً بآيات من القرآن، أو بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية لا محذور فيها فلا يكون فعله شركاً، بل هي رقية مستحبة أو جائزة. والرقية الشرعية لها ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن تكون الرقية بآيات من القرآن، أو بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية شرعية، أو بأدعية مباحة لا محذور فيها، كأن يقول -كما ورد في الحديث-: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك)، وكذلك: (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما). وكذلك: (أعيذك بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وكذلك: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم). الشرط الثاني: أن تكون بلسان عربي، فلا يرقية بلغة أجنبيه كالإنجليزية أو غيرها، ولا يكون فيها تمتمة، كحال بعض السحرة، أو المشعوذين إذا أراد أن يرقي فيتمتم بكلمات فلا تدري ما يقول، فلابد من أن تكون بلسان عربي مفهوم معلوم، أما تمتمة السحرة والمشعوذين فلا تجوز، وبعض المشعوذين والسحرة يقرأ أمامك، فيجهر بقراءة الفاتحة، أو (قل هو الله أحد)، حتى تطمئن إليه في أول الأمر، ثم يتمتم، فلا تدري ماذا يقول؟ فيحتمل أنه يرقي بأسماء الجن، أو الشياطين، فلا بد من أن تكون بلسان عربي مفهوم. الشرط الثالث: أن يعتقد بأنها سبب، والشافي هو الله. فإذا وجدت هذه الشروط الثلاثة فهي رقية شرعية.

شرك الرياء

شرك الرياء الشرك في الرياء هو: شرك النية والإرادة والقصد، وهؤلاء الذين يقعون في شرك الرياء على طبقتين: الطبقة الأولى: المنافقون الذين أسلموا لأجل الدنيا، وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وإنما أسلموا لأجل الدنيا، فهم يصومون ويتصدقون ويحجون مراءاة للناس، فهؤلاء أشركوا شركاً أكبر، وهم أهل الرياء الكثير. الطبقة الثانية: مؤمنون مسبحون، مؤمنون بالله واليوم الآخر، عملوا أعمالاً صالحة أرادوا بها الرياء، فهؤلاء وقعوا في الشرك الأصغر، فالرياء إذا كان كثيراً كان شركاً أكبر، وهذا الذي يكون من المنافقين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فيقع ممن معه ناقض من نواقض الإسلام كالمنافقين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فهم يصومون ويتصدقون ويحجون مراءاة للناس، كما كان يفعل ذلك عبد الله بن أبي زعيم المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون، ويحجون، ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم أحد رجع عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: إن محمداً لا يطيعني، فهو دخل في الإسلام نفاقاً فلم يكن مؤمناً بالله واليوم الآخر، وإن كان يصلي ويصوم ويتصدق. أما المؤمن بالله واليوم الآخر إذا صدر منه الرياء في العمل فهو شرك أصغر، أما إذا كان الرياء في العقيدة فهو شرك أكبر، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فهذه الآية في أهل الرياء الأكبر من الكفار، ولكن عمومها يتناول -أيضاً- أهل الرياء اليسير، وهم المؤمنون. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. فالمنافق يكثر منه الرياء في العقيدة؛ لأنه دخل في الإسلام رياءً ونفاقاً، وأهل الرياء الكثير أعمالهم حابطة، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. أما المؤمن فإنه يقع منه الرياء في العمل، كأن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، أو محمدة، أو جاهاً، كمن يحج ليأخذ مالاً، أو يجاهد ليأخذ مالاًَ، أو يتعلم العلم الشرعي ليأخذ مالاً، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يتعلم القرآن أو يحافظ على الصلاة لأجل وظيفة في المسجد، فهذا شرك أصغر ينافي كمال التوحيد، ويحبط العمل الذي قارنه فقط، وهو داخل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. وهناك صاحب الشائبتين، وهذا مسكوت عنه، وهو الذي يؤدي الواجبات إخلاصاً لله، ثم يعمل أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، كالمؤمن الذي يؤدي الصلوات الخمس، والزكاة، ويصوم، ويحج، ثم يعمل أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، كأن يحج فريضة الله عليه، ثم يحج بعد حجة الفرض لأجل الدنيا، فهذا صاحب الشائبتين، وهو مسكوت عنه، فالقرآن كثيراً ما يذكر أصحاب الجنة الخلص، وأصحاب النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، فهو لما غلب عليه منهما، فإذا غلب عليه قصد وجه الله فهو لما غلب عليه، وإذا غلب عليه قصد الدنيا فهو لما غلب عليه، وهو على خطر عظيم.

شرك التبرك

شرك التبرك الشرك في التبرك كالتبرك بالأشجار، أو الأحجار، أو أن يتبرك ببقعة أو غار أو عين أو موطئ أو أثر أو مقام كمقام إبراهيم أو صخرة بيت المقدس أو حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى التبرك: اعتقاد البركة ورجاؤه في هذا الشيء الذي يتبرك به. وهذا هو الذي وقع فيه المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يدعون أوثانهم، ويذبحون لها وينذرون ويرجون ويؤملون منها، فهؤلاء وقعوا في الشرك الأكبر، فإذا تبرك بشجر، أو بحجر، واعتقد أن البركة حاصلة في ذاتها؛ فقد وقع في الشرك الأكبر؛ لأن الله لم يجعل فيها تلك البركة التي يعتقدها. أما إذا اعتقد أن البركة من الله، ولكن الله جعل هذه الشجر سبباً للبركة، أو هذا الحجر سبباً للبركة، أو هذا المقام سبباً للبركة فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتقد أن البركة من الله، لكنه اعتقد أن هذا الشجر فيه بركة، أو أن هذا الحجر فيه بركة، أما إذا اعتقد أن البركة ذاتية فيها فهذا شرك أكبر. أما إذا كان الشخص فيه خير، وجعل الله على يديه خيراً ونفعاً وقيل له: أنت رجل مبارك، أو هذه من بركتك، فهذا لا بأس به، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين في قصة التيمم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات لما أراد الرحيل انقطع عند رحيله عقد لـ عائشة، فحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأرسل رجالاً يطلبون عقد عائشة، وذهبوا بعيداً فلم يجدوه، وحضرت الصلاة وليس عندهم ماء، ولم يكن شرع التيمم بعد، فصلوا بغير ماء ولا تيمم، فلما بعثوا البعير وجدوا العقد تحته، وأقسام الناس وليس معهم ماء، وحضرت الصلاة، فأنزل الله آية التيمم، فتيمم الناس، فقال أسيد بن حضير لـ عائشة رضي الله عنها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي: هذه من بركاتكم التي جعل الله فيكم حيث حبست الناس من أجل العقد، ثم أنزل الله آية التيمم. قال: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر -يخاطب عائشة - فو الله ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينه إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وللمسلمين منه خير وبركة. أو كما جاء في الحديث، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة. وهذه قصة فيها فوائد، منها: أولاً: أن فاقد الماء والتراب يصلي بغير ماء ولا تراب؛ لأن الصحابة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون العقد حضرت الصلاة وليس معهم ماء، ولم يشرع التيمم، فصلوا بغير تراب ولا ماء، فدل ذلك على أن فاقد الطهورين يصلي بغير ماء ولا تراب، مثل إنسان مريض في المستشفى لا يستطيع أن يتيمم وليس عنده تراب، ولا عنده أحد ييممه، ولا يستطيع الوضوء، فيصلي بالنية على حسب حاله، أو إنسان محبوس، أو مصلوب على خشبة لا يستطيع أن يتيمم، فيصلي بغير ماء ولا تراب. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ففيها الرد على من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب كما قاله بعض الطوائف التي غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون أنه يعلم الغيب، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري أين عقد عائشة، ولذلك أرسل رجالا ًيبحثون عنه، وذهبوا بعيداً يبحثون عنه ولم يجدوه، فلما بعثوا البعير وجدوا العقد تحته، فلو كان يعلم الغيب لما بحث عنه، ولا أرسل أناساً يبحثون عنه. وفي هذا الباب قصة أبي واقد الليثي رضي الله عنه أنه قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، وكنا حديثي عهد بشرك، فمررنا بالمشركين ولهم سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم -يعني: يعلقون بها أسلحتهم- يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، أي: اجعل لنا سدرة نتمسح بها ونتبرك، ونجعل عليها سلاحنا مثلهم، فأنكر ذلك عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (الله أكبر؛ إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138])، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل مقالة الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) كمقالة بني إسرائيل لموسى، فالعبرة بالمعنى. ولكن الصحابة لم يفعلوا الشرك، فهم قالوا ذلك عن جهل، واعتذر أبو واقد الليثي بقوله: (وكنا حديثي عهد بشرك) أي: أسلمنا قريباً، فلما زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم انزجروا وامتنعوا فلم يفعلوا الشرك، ففيه دليل على أن الإنسان إذا طلب أن يفعل الشرك جاهلاً ثم منع منه، وبين له فانزجر وامتنع لا يقع في الشرك، وكذلك بنو إسرائيل لم يقعوا في الشرك؛ لأنهم ما فعلوا، وإنما طلبوا عن جهل، فبين لهم نبي الله موسى عليه السلام وزجرهم عن ذلك، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين لهم أن هذه المقالة مثل مقالة بني إسرائيل، فلم يقعوا في الشرك، كما أن بني إسرائيل أيضاً لم يقعوا في الشرك. فالمقصود أن التبرك بالشجر والحجر وغيره إذا فعله الإنسان، واعتقد أن فيه بركة، فإن كان يعتقد أن البركة ذاتية منه فهذا شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه سبب، والبركة من الله، وأن الله جعله سبباً للبركة فهذا شرك أصغر. أما إذا استظل تحت الشجرة وعلق عليها سلاحه لا يقصد شيئاً من ذلك؛ فهذا لا شيء فيه.

شرك النذر

شرك النذر الشرك في النذر هو: أن ينذر لغير الله تقرباً لذلك الغير يرجو شفاعته، أو نفعه، كالذين ينذرون للقبور تقرباً إلى أصحابها؛ ليشفعوا لهم ويقضوا حوائجهم، أو ينذرون للأموات، كأن يقول: يا سيدي البدوي! إن شفى الله مريضي فلك علي كذا وكذا من الجنيهات أو من الدراهم يقسمها على روحه أو: إن شفى الله مريضي فلك ذبيحة أذبحها أتقرب بها إليك! أو ينذر أن يصلي له، أو ينذر أن يصوم له، فالنذر عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله، قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، وقال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]. ومن نذر وجب عليه الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فإذا نذر الإنسان طاعة لله -سواء أكان نذراً معلقاً أم غير معلق- أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وجب عليه أن يصوم، أو نذر أن يصلي عشرين ركعة وجب عليه الوفاء، أو نذر أن يحج وجب عليه كذلك. وهذا إذا كان نذر طاعة، أما إذا كان نذر معصية فليس له الوفاء به، مثل من نذر أن يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو نذر أن يعق والديه، أو يقطع رحمه، فلا يجوز له الوفاء به، وعليه التوبة والاستغفار، وعليه مع ذلك كفارة يمين، كما جاء في بعض الأحاديث (وعليه كفارة يمين) أما إذا نذر لغير الله فهذا شرك. وأصل النذر مكروه؛ لأنه يلزم نفسه بشيء، ويوجب على نفسه شيئاً عافاه الله منه، وقد لا يستطيع الوفاء به، وقد يشق عليه بعد ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن ينذر، بل ينبغي للإنسان أن يفعل الطاعة بدون نذر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إياكم والنذر؛ فإنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، فالبخيل هو الذي لا يخرج شيئاً إلا إذا نذر، لكن غير البخيل يتصدق، ويصوم، ويصلي، ولو لم يوجب على نفسه شيئاً، ولأن الناذر قد يتصور أن النذر هو السبب في قضاء حاجته، وهذا غلط كبير، فليس النذر سبباً في قضاء الحاجة، فالله تعالى يقضي الحاجة، سواء نذرت أو لم تنذر، وقد لا تُقضى حاجتك، سواء نذرت أو لم تنذر. فالنذر مكروه أو حرام، وبعض العلماء قال بأنه مكروه، لكن إذا نذر طاعة وجب الوفاء بها، وقد مدح الله الأبرار في وفائهم بالنذر، فإذا وقع النذر وكان طاعة فإنه يمدح الوفاء به، ويثنى على من وفى به، قال الله تعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. وقد ينذر الإنسان نذراً ثم يعجز بعد ذلك عن الوفاء به، فيكون وعد الله بشيء ثم لم يف بوعده، فيكون شبيهاً بالمنافقين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]. وقد يشق على الإنسان الوفاء بالنذر، ثم يذهب إلى عتبة كل عالم لعله يجد مخرجاً يخلصه من هذا النذر، فالذي ينبغي للإنسان ألا ينذر، بل يفعل الطاعة من دون نذر.

شرك الذبح

شرك الذبح الشرك في الذبح هو: أن يذبح لغير الله تقرباً لذلك الغير. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، فنفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات، فيجب أن تكون الصلاة، والنسك، والذبح، والحياة، والممات كلها لله لا شريك له في ذلك، قال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وفي حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض).

شرح التوبة

شرح التوبة الشرك في التوبة هو: أن يتوب العبد لغير الله فيما هو من خصائص الله وفيما لا يقدر عليه غير الله تعالى، وفي العبادات التي تخص الله عز وجل. فإذا تاب لغير الله، وطلب التوبة والمغفرة من غير الله فقد وقع في الشرك، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. وثبت في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: (أن أسيراً أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب لمحمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله)، قال الله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]، فالله أهل المغفرة وأهل التقوى، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. فمن تاب لمخلوق وطلب منه أن يغفر ذنبه، وأن يمحو سيئته؛ لأنه ترك شيئاً من أنواع العبادة فقد وقع في الشرك، وهذا يقع عند الصوفية، فالمريد يتوب عند الشيخ، فيتوب عليه ويغفر ذنبه، وهذا شرك؛ لأن التوبة عبادة كما أن الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والتوبة عبادة لا تكون إلا لله، وكذلك النصراني يتوب عند القسيس، فيغفر ذنوبه كلها، فهو قد فعل الجرائم كلها ثم يتوب منها. وبعض الشيعة يتوب عند الرئيس من الشيعة، ويعطيه صك المغفرة، وفيه فتوى بأنه مغفور له، وأنه يدخل الجنة، فهذا شرك بالله تعالى، كتوبته من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو ترك الصلاة، أو غير ذلك من العبادات، والمسلم يتوب إلى الله لتقصيره في الواجبات، أو اجتراحه لبعض المحرمات، فيتوب إلى الله، فلا أحدَ يُتابُ إليه في فعل شيء من المحرمات أو ترك شيء من الواجبات، فالتوبة من خصائص الله، وهي عبادة لا تكون إلا لله، فليس بعد التوبة النصوح إلا تكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، وقال الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. فلا يتاب إلا إلى الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يغفر الذنوب، فإذا قصرت في واجب فإنك تتوب إلى الله، وإذا فعلت محرماً تتوب إلى الله، وتندم على ما مضى، وحقيقة التوبة الندم على ما مضى، والإقلاع عن المعصية، والعزم على ألا تعود إلى المعصية مرة أخرى. وإذا كانت المعصية بينك وبين الناس فإنك ترد المظلمة إلى أهلها، فإن كانت مالاً ترده لأهله، أو كانت تتعلق بالبدن تسلم نفسك حتى يقتص منك، أو تُسامَح فيه، وإن كانت في عرض فإنك تتحلل منهم. فإذا كانت التوبة في حق المخلوق فلا بأس، أن تطلب منه أن يسامحك، فتقول: يا فلان! سامحني، فأنا تبت من تقصيري في حقك. فلو قصرت في حق والدك، أو حق صديقك فلا بأس بأن تتوب إليه فيما هو من حقه، وفيما هو من خصائصه. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: (أنها وضعت نمرقة فيها صور فتغير النبي صلى الله عليه وسلم وهتكها، قالت عائشة: ماذا أذنبت يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم) فهي تتوب إلى الله فيما هو من خصائص الله، وتتوب إلى الرسول فيما هو من حقه، أي: إن كنت قصرت في حقك فأنا أتوب إليك يا رسول الله مما وقعت فيه من التقصير في حقك، وأتوب إلى الله من المعصية إن كنت فعلت المعصية. وأما التوبة في العبادات والواجبات وترك المحرمات فإنها تكون إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، وقال سبحانه: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

الشرك في التوبة هو: أن يتوب العبد لغير الله فيما هو من خصائص الله وفيما لا يقدر عليه غير الله تعالى، وفي العبادات التي تخص الله عز وجل. فإذا تاب لغير الله، وطلب التوبة والمغفرة من غير الله فقد وقع في الشرك، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. وثبت في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: (أن أسيراً أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب لمحمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله)، قال الله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]، فالله أهل المغفرة وأهل التقوى، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. فمن تاب لمخلوق وطلب منه أن يغفر ذنبه، وأن يمحو سيئته؛ لأنه ترك شيئاً من أنواع العبادة فقد وقع في الشرك، وهذا يقع عند الصوفية، فالمريد يتوب عند الشيخ، فيتوب عليه ويغفر ذنبه، وهذا شرك؛ لأن التوبة عبادة كما أن الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والتوبة عبادة لا تكون إلا لله، وكذلك النصراني يتوب عند القسيس، فيغفر ذنوبه كلها، فهو قد فعل الجرائم كلها ثم يتوب منها. وبعض الشيعة يتوب عند الرئيس من الشيعة، ويعطيه صك المغفرة، وفيه فتوى بأنه مغفور له، وأنه يدخل الجنة، فهذا شرك بالله تعالى، كتوبته من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو ترك الصلاة، أو غير ذلك من العبادات، والمسلم يتوب إلى الله لتقصيره في الواجبات، أو اجتراحه لبعض المحرمات، فيتوب إلى الله، فلا أحدَ يُتابُ إليه في فعل شيء من المحرمات أو ترك شيء من الواجبات، فالتوبة من خصائص الله، وهي عبادة لا تكون إلا لله، فليس بعد التوبة النصوح إلا تكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، وقال الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. فلا يتاب إلا إلى الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يغفر الذنوب، فإذا قصرت في واجب فإنك تتوب إلى الله، وإذا فعلت محرماً تتوب إلى الله، وتندم على ما مضى، وحقيقة التوبة الندم على ما مضى، والإقلاع عن المعصية، والعزم على ألا تعود إلى المعصية مرة أخرى. وإذا كانت المعصية بينك وبين الناس فإنك ترد المظلمة إلى أهلها، فإن كانت مالاً ترده لأهله، أو كانت تتعلق بالبدن تسلم نفسك حتى يقتص منك، أو تُسامَح فيه، وإن كانت في عرض فإنك تتحلل منهم. فإذا كانت التوبة في حق المخلوق فلا بأس، أن تطلب منه أن يسامحك، فتقول: يا فلان! سامحني، فأنا تبت من تقصيري في حقك. فلو قصرت في حق والدك، أو حق صديقك فلا بأس بأن تتوب إليه فيما هو من حقه، وفيما هو من خصائصه. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: (أنها وضعت نمرقة فيها صور فتغير النبي صلى الله عليه وسلم وهتكها، قالت عائشة: ماذا أذنبت يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم) فهي تتوب إلى الله فيما هو من خصائص الله، وتتوب إلى الرسول فيما هو من حقه، أي: إن كنت قصرت في حقك فأنا أتوب إليك يا رسول الله مما وقعت فيه من التقصير في حقك، وأتوب إلى الله من المعصية إن كنت فعلت المعصية. وأما التوبة في العبادات والواجبات وترك المحرمات فإنها تكون إلى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، وقال سبحانه: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول (في ذمتك) أو (أمانة)

حكم قول (في ذمتك) أو (أمانة) Q ما رأيك فيمن يقول: في ذمتك، أو أمانة، يريد الحلف؟ A هذا ليس حلفاً، فالحلف يكون بحروف القسم، فيقول: والله وتالله وبالله، فهذا حلف بالله، فإذا قال: بفلان، أو بلحيتك كان هذا حلفاً بغير الله، أما إذا قال بذمتك، أو قال: في ذمتك، فهذه ليست من صيغ القسم، إلا إذا كان على تقدير محذوف، أي: في ذمتك يمين، أو في أمانك وعهدك، فهذا يحتمل، والمقصود أن الحلف يكون بحروف القسم، فإذا قال: بذمتك، أو: بذمتي يريد القسم، صار ذلك قسماً بغير الله، فلا يجوز الحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته.

تعريف بالسيد البدوي وقبره

تعريف بالسيد البدوي وقبره Q من هو السيد البدوي؟ A السيد البدوي قبر في طنطا بمصر، ويزار هذا القبر ويقع عنده أنواع من الشرك، حيث يدعى من دون الله، وتسمع ارتفاع الأصوات بالضجيج إذا قربت منه، كما حدثنا بذلك من شاهده، ويذبح عنده الذبائح، ويحجون إليه في وقت المولد، حتى إنه في بعض السنوات كما حُدِّثْتُ حَجَّ إلى قبر السيد البدوي ما يقارب المليونين، أي: أكثر من الحجاج الذين يحجون إلى بيت الله، وهذا من البلاء والمصائب، فهذا القبر يطوف به الناس كما يطوفون بالكعبة، وتسمع ضجيج الأصوات عنده، يا سيدي! البدوي! أغثني، أنا في حسبك! وبعض الجهال المصريين إذا جاء إلى مكة فإنه في بعض الأحيان لا يجد مواقف في الحرم، لكن قبر السيد البدوي فيه مواقف واسعة، فيقف الإنسان هناك بارتياح، ثم يأتي إلى القبر، ثم يقول: أنا أطوف، لكن لا أطوف سبعة أشواط، وإنما أطوف ستة أشواط أو خمسة، وهذا من الجهل، حيث يقارن بين مناسك الحج وهذا القبر. وبعضهم يقول: أنا أذبح عند السيد البدوي وأريد بذلك أن يأكل الفقراء. والمقصود أن هذه الذبائح يتقربون بها إليه، وهذا القبر يقال: إنه دفن فيه شخص، وقال آخرون: ليس فيه أحد، وقال بعضهم: دفن فيه حمار، فالمقصود أنه لو كان قبر نبي لم يجزالطواف به، ولا الذبح له، ولا النذر له، ولا دعاؤه من دون الله؛ فكل هذا من الشرك، حتى ولو كان قبر نبي من الأنبياء. وهذا من الشرك الذي ابتلي به الناس، وافتتن به كثير منهم، كما أنه يطاف بقبر الحسين، والدسوقي ونفيسة وابن علوان في اليمن، وعبد القادر الجيلاني في العراق، والكاظم، وفي كل مكان هناك قبور يطاف بها، في باكستان وليبيا وأفريقيا، ما عدا هذه البلاد التي سلَّمها الله، ونسأل الله أن يسلم أوطان المسلمين، وأن يبعد عنها الشرك، وأن يُكثِّر فيها دعاة الخير والإصلاح الذين يدعون إلى توحيد الله ويبصرون الناس بما يجب عليهم من حق الله، وينهونهم عن الشرك ووسائله وذرائعه.

حقيقة إجابة دعوة المستغيث بالقبر وداعيه

حقيقة إجابة دعوة المستغيث بالقبر وداعيه Q قد نرى من يطلب من الميت أن يشفي ابنه، ونرى أن ذلك يتحقق بعد دعائه له، فهل هذا يعتبر من الاختبار أم لا؟ A هذا من الشرك، فإذا طلب من الميت أن يشفي مريضه فهذا شرك، وإذا شفي المريض فهذا ابتلاء وامتحان له، وهذا الشفاء لمريضه مما وافق القضاء والقدر، فالله قدر أنه يُشفى في هذا الوقت، فلما دعا ثم شفي بعد ذلك ظن أن هذا بسبب دعاء الميت، فصار فتنة له واختباراً، وقد يكون هذا من الأسباب التي تغريه بالبقاء على الشرك. فبعض الناس قد يدعو الله عند قبر ثم يشفى مريضه، فيظن أن السر في القبر، وقد يكون السبب في إجابة دعائه أنه صاحب ضرورة، والله تعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. والمقصود أن هذا دعاء وافق القضاء والقدر، والله قدر لكل شيء قدراً، وفي اللوح المحفوظ أن هذا يشفى في الوقت الفلاني، فلما دعا وأشرك بالله وحصل الشفاء لمريضه ظن أن هذا بسببه، وصار فتنة له، نسأل الله السلامة والعافية.

شرك الدعاء

شرك الدعاء Q ما تعريف شرك الدعاء؟ A الشرك في الدعاء هو: أن يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، سواء أكان طلباً للشفاعة أم لغيرها، فيسأله المدد أو قضاء الحاجات وتفريج الكربات، كأن يدعو ميتاً أو غائباً أو حياً حاضراً فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل أن يقول: يا فلان أغثني! يا سيدي البدوي! أو: يا سيدي يا رسول الله! أو: يا سيدي الدسوقي! أو: يا نفيسة! أو: يا عبد القادر! أو: يا ابن علوان! أغثني، المدد المدد، فرج كربتي، خذ بيدي، لا تخيب رجائي، اشفع لي! فهذا كله شرك مع الله تعالى. أما من دعا حياً حاضراً أمامه ومعه أسباب ظاهرة فلا يكون ذلك شركاً، كأن يقول: يا فلان! أعني على إصلاح بيتي، أو: أعني على بناء بيتي، أو: إصلاح مزرعتي، أو: إصلاح سيارتي، أو: أقرضني مالاً، فهذا لا يكون شركاً؛ لأنه حي حاضر قادر أمامه، معه أسباب ظاهرة.

عقيدة الجيلاني

عقيدة الجيلاني Q هل كان عبد القادر الجيلاني على عقيدة أهل السنة والجماعة، وتلامذته هم الذين عظموه بعد وفاته؟ A نعم، فـ عبد القادر الجيلاني من الصالحين، وهو من علماء الحنابلة، ولكن الناس عكفوا على قبره وغلوا فيه ودعوه من دون الله، وهو لا يرضى بذلك، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأثنى عليه، وله كتاب (الغنية)، ومن ذلك أيضاً أن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر قصة له تبين أن الشياطين تستولي على بعض الناس فتغريهم بالشرك وتتسلط عليهم كما تتسلط على المشركين، فبعض الشياطين تدخل في القبور، وتخاطب من يدعوها من دون الله، ويسمع منها الصوت، مثل العزى كان يسمع منها الصوت، فيظن المشرك أنه إذا دعاه وأجابه أنه سيقضي له حاجته، وقد ينشق القبر ثم يخرج شيطان في صورة الميت ويسلم عليه، ويقول: أنا أقضي لك حوائجك، حتى يغريه بالشرك ويشده إليه، هكذا كان شيخ الإسلام يقول: ذكر لي شخص أنه رآني في صورتي في البلد الفلاني، وأنا في البلد الفلاني. ومن ذلك ما حصل لـ عبد القادر الجيلاني، حيث قال: رأيت عرشاً بين السماء والأرض، فنادني بصوت فقال: يا عبد القادر! أنا ربك قد أسقطت عنك الفرائض، وأبحت لك المحارم كلها. فقلت: اخسأ يا عدو الله، فتمزق ذلك العرش، وذهب ذلك النور، وقال: نجوت مني بحلمك وعلمك يا عبد القادر، وقد أغويت بهذه الفعلة سبعين صِدِّيقاً أو كما قال. ثم قيل له: كيف عرفت -يا عبد القادر - أنه الشيطان؟ قال: عرفت عندما قال: أسقطت عنك الواجبات وأبحت لك المحرمات، والأصل أن الواجبات لا تسقط عن أحد، فهي لا تسقط عن أحد إلا من فقد عقله، وقال: إنه لم يستطع أن يقول: أنا الله، وإنما قال: أنا ربك. فهذه من القصص التي ذكرها شيخ الإسلام عن عبد القادر الجيلاني، فالشيطان يتخذ عرشاً من نور بين السماء والأرض، فيخاطبه الشياطين، ولهم أفعال شيطانية كثيرة ولاسيما على من يتسلطون عليهم من عباد القبور وغيرهم، فيشجعونهم على البقاء على الشرك، حتى إنه إذا ترك العبد الشرك يأتيه الشيطان ويقوم بإيذائه والتسلط عليه حتى يفعل الشرك، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]، فالذي يتولاه يكون له عليه سلطان، حتى إن بعض عباد القبور يأتي يزحف، أو وهو ساجد حتى يصل إلى القبر، ويقول: إنه لا يستطيع أن يمشي وهو قائم، ولو أنه مشى قائماً لخبطه الشيطان حتى يعظم هذا الميت، ويمشي وهو راكع أو يمشي على ركبتيه، وهذا مشاهد وواقع في قصص كثيرة من هذا القبيل. وقد ذكر لي أحد المصريين الحجاج أنه يذبح للسيد البدوي، وبعضهم يقول: إنه يذبح في العام مرة، ويقول: عليه ذبيحة لأهل الله. وقال: إني أردت مرة أن أترك الذبح، أو تأخرت عن الذبح، فجاءني في الليل جمل قد فتح فاه يريد أن يأكلني، وما تخلصت منه حتى ذبحت له، فانظر كيف أن الشياطين تتسلط عليهم حتى يذبحوا للقبور، كما قال الله {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100].

حكم زيارة القبور في أول يوم من العيدين

حكم زيارة القبور في أول يوم من العيدين Q في منطقتي يذهب الناس في اليوم الأول من العيدين بعد صلاة الفجر إلى زيارة القبور، ويدعون لهم، فالابن يذهب إلى قبر أبيه وأمه وجده وغيرهم من الأقارب، فهل يوجد دليل شرعي على اختصاص زيارة القبور في مثل هذا اليوم الأول من العيدين؟ A لا أعلم دليلاً يدل على تخصيص يوم العيد بالزيارة، وإنما يزور الإنسان القبر في كل وقت شاء، فليس هناك وقت محدد، يزور الإنسان فيه قبر قريبه ويسلم عليه ويدعو له ويترحم عليه ثم ينصرف. والواجب إذا زار القبر ألا يقرأ شيئاً من القرآن، ولا يجلس عنده، ولا يصلي في المقبرة، فكل هذا من وسائل الشرك. والزيارة الشرعية فيها فائدتان: فائدة للحي، وفائدة للميت، ففائدة الميت أن تدعو له وتترحم عليه، وفائدة الحي أن يرق قلبك، وتتذكر الآخرة، وتتذكر مصيرك وأنك صائر إلى ما صار إليه، وتسلم عليه، فتقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تقبله برحمتك إلخ.

العمل شرط في صحة الإيمان

العمل شرط في صحة الإيمان Q هل العمل شرط لصحة الإيمان أم لا؟ A نعم، فالإيمان لا يكفي فيه الاعتراف والتصديق بالقلب فقط، بل لابد فيه من شرط الانقياد، والانقياد يكون بالعمل، وإلا صار كإيمان فرعون، فإيمانه إيمان بلا عمل. كما أن العمل لا يصح بدون تصديق القلب، وإلا كان كإيمان المنافقين، فالمنافقون يعملون وليس عندهم إيمان وتصديق بالقلب، فهم يصلون ويصومون ويتصدقون، لكن ليس عندهم إيمان، فالإسلام لا بد له من إيمان يصححه، والإيمان لا بد له من أعمال يتحقق بها. ومن يدعي الإيمان ولا يعمل فهو كفرعون الذي قال الله تعالى عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، وقال له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] فهو عالم معترف، لكن لم يعمل، فلابد من أن تكون الجوارح منقادة بالعمل، فمن شروط (لا إله إلا الله) الانقياد، والانقياد يكون بالعمل.

حكم تبرك المسلم بأخيه مزاحا

حكم تبرك المسلم بأخيه مزاحاً Q يقع من بعض الإخوان أن يتمسح بأخيه ويتبرك به من باب المزاح، مع اعتقاد جازم بأن هذا الشخص لن يضره ولن ينفعه، فهل هذا يقع عليه مثال الشرك بالتبرك؟ A إن كان يطلب البركة ويعتقد أن البركة من الله، وهذا سبب، وليس شخصاً مباركاً؛ فهذا من الشرك الأصغر، أما إذا كان شخصاً مباركاً فيه خير ونفع للإسلام والمسلمين، كعالم ينفع الله به الناس، أو محسن يتصدق وينفق أمواله لمساعدة الآخرين، فهذا لا بأس به، وإن كان يعتقد أن ذاته فيها بركة فهذا شرك أكبر، وإذا كان ذلك ليس عن عقيدة فلا يضر. فالمهم النية ومقصوده من هذا المسح، فإن كان مزاحاً فقط من دون نية، التبرك فهذا شيء آخر، أما إذا قصد التبرك فهذا على حسب التفصيل السابق.

حكم طروء الرياء في أثناء العمل وبعده

حكم طروء الرياء في أثناء العمل وبعده Q أحياناً أعمل بعض الأعمال أريد بها وجه الله تعالى، لكن بعد العمل أو أثناء العمل يدخل في قلبي شيء من الرياء، كفرحي بعلم فلان من الناس، أو حبي أن أمدح، فهل هذا من الرياء؟ وما العلاج لهذا؟ A إن كان ذلك في أثناء العمل فهذا فيه تفصيل: إن طرأ الرياء في أثناء العمل وكان خاطراً ودفعه فلا يضره، أما إذا استرسل فيه ففيه خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: يجازى بنيته الأولى؛ لأن نيته الأولى كانت لله، ومن العلماء من قال: إذا استرسل معه إلى نهاية العمل فإنه يحبط العمل. وأما إذا كان بعد العمل، ثم أثنى عليه الناس فهذا لا يضره؛ لأن تلك عاجل بشرى المؤمن، كما في الحديث: (تلك عاجل بشرى المؤمن)، لكن لا يتحدث هو بالعمل، لكن لو تحدَّث الناس بعمله، أو علم الناس به، ثم سره ذلك فلا يضره ذلك، فهذا من عاجل بشرى المؤمن، أما أن يتحدث بعمله ويقول: أنا أفعل كذا، وأنا أصوم، وأنا أصلي الليل، وأنا أصوم الإثنين والخميس؛ فهذا من الرياء كما ذكر العلماء. والإنسان إذا وقع في شيء من ذلك فليجاهد نفسه، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليدفع هذه الخواطر، وليعلم أن الناس لا ينفعونه ولا يضرونه.

كيفية زيارة القبور

كيفية زيارة القبور Q ما هي الصيغة المشروعة في زيارة القبور، وهل الداعي إذا دعا للميت يستقبل القبر؟ A نعم يستقبل القبر ويسلم عليه، ويقول: السلام عليك -يا فلان- ورحمة الله وبركاته، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليك يا رسول الله. ثم يتأخر ويقول: السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: السلام عليك يا أبتاه. ثم ينصرف. ولكن لا يجوز له أن يقرأ القرآن عنده، ولا يصلي عند القبر، فكل هذا من وسائل الشرك، ولا يطيل المكث، بل يدعو ثم ينصرف.

الجنيد والتيجاني والطرق الصوفية

الجنيد والتيجاني والطرق الصوفية Q من هو الإمام الجنيد، ومن هو التيجاني؟ A الجنيد من الصوفية، واسمه أبو القاسم الجنيد، وكان يثني عليه شيخ الإسلام رحمه الله، وتنتسب إليه الصوفية، لكنه من الصوفية المعتدلة، ولهذا نقل عنه شيخ الإسلام وابن القيم أنه قال: (علمنا -أي: الصوفية- مقيد بالكتاب والسنة) وهذا كلام عظيم. أما التيجاني فهو رئيس فرقة التيجانية، وتنتسب إليه التيجانية، وهي فرقة من فرق الصوفية، ومن الفرق الصوفية: القادرية والنقشبندية، وهناك طرق كثيرة موجودة في السودان وباكستان وأفريقيا والشام ومصر، وكل طريقة لها شيخ، ومن هذه الطرق ما يوصل إلى الكفر، ومنها ما يوصل إلى البدعة، ومن هذه البدع صلاة الفاتح، ويعتقدون أن صلاة الفاتح أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعتقدون أنها أفضل من القرآن، وكذلك الطريقة الشاذلية، وهناك كتب ومؤلفات في هذا، فعلى السائل أن يرجع إلى تفاصيل هذه الطرق في المؤلفات، ليرى الأذكار التي عندهم، وكيف أنهم يتمسحون بشيوخهم، وبعض هذه الطرق تعبد شيوخها، فالواحد منهم يقول له الشيخ: إذا أردت أن تعصي الله فاذكرني. يعني: خف مني ولا تخف من الله. ويقدمونهم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرضون كلام الرسول على كلامهم، فما وافق كلامهم قبلوه وما خالفه ردوه. وقد يكون في البلد الواحد أكثر من مائة طريقة، وكل طريقة لها شيخ، ولهم طريقة في الأذكار، ولهم طريقة في تقديس وتعظيم شيوخهم، ومنهم المبتدع، ومنهم الكافر، نسأل الله السلامة والعافية.

الفرق بين كمال التوحيد الواجب وكمال التوحيد المستحب

الفرق بين كمال التوحيد الواجب وكمال التوحيد المستحب Q ما الفرق بين كمال التوحيد الواجب وكمال التوحيد المستحب، مع ذكر مثال يوضح ذلك؟ A كمال التوحيد الواجب تنافيه المعصية، فمثلاً: إذا عصى الإنسان ربه نقص توحيده، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، فكونه لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ينقص كمال التوحيد الواجب أو كمال الإيمان الواجب، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، فإذا قدم شيئاً من محبة الولد أو الوالد فإنه ينقص كمال التوحيد الواجب، ومثل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فإذا قدم شيئاً من محبة الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو الأزواج أو العشيرة على الله ورسوله فإنه متوعد بهذا الوعيد، ويكون فاسقاً، لقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، أما إذا ترك شيئاً من المستحبات غير الواجبة، فهذا هو الذي ينقص كمال الإيمان المستحب. إذاً: هناك فرق، فمن ترك شيئاً واجباً فقد نقص كمال التوحيد والإيمان الواجب، وإذا ترك المستحب فهذا نقص في الكمال المستحب. فالزاني أو السارق فعله لهذه المعصية ينقص إيمانه الواجب، لا إيمانه المستحب، وكذلك إذا قصر في بعض الواجبات، كما إذا قصر في بره بوالديه أو صلته لرحمه، فيكون ناقص الإيمان وناقص التوحيد. أما إذا ترك شيئاً من المستحبات -كأن يترك بعض النوافل، مثل صلاة الليل- فقد ترك شيئاً مستحباً.

سماع الموتى كلام الأحياء

سماع الموتى كلام الأحياء Q هل الميت يسمع كلام أصحابه إذا حدثوه وهو في القبر؟ A الأصل أنه لا يسمع، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، فالأصل أن الميت لا يسمع، إلا ما ورد فيه الدليل بأنه يسمعه، كما جاء في الحديث أن الميت إذا دفنه أصحابه وتولوا عنه سمع قرع نعالهم، وكذلك أيضاً صناديد قريش الذين قتلوا يوم بدر وسحبوا وألقوا في قليب هناك، فناداهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؛ فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أناس هلكى؟! فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون) فالقتلى الذين سحبوا إلى القليب في يوم بدر سمعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

العذر بالجهل في ارتكاب الشرك

العذر بالجهل في ارتكاب الشرك Q هل يعذر بالجهل من يطوف بالقبر أو يفعل شيئاً من أعمال الشرك إذا كان يجهل أن ما يعمله شرك بالله عز وجل؟ A الذين وقع فيهم ذلك قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام هم أهل الفترة، وفيهم كلام لأهل العلم، وأما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد نزول القرآن، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله بعث الرسول، وأنزل القرآن، فهل يعذر المشرك إذا لُبِّس عليه أن يطوف بالقبور ويدعوها من دون الله، ويذبح لها، فصار مغطى عليه الحق ولا يبصر الحق ولا يعلمه بسبب تلبيس علماء السوء الذين يلبسون عليه ويحسنون له الشرك؟ قال بعض العلماء: إنه يعذر في هذه الحالة، ولكنه يعامل في الدنيا معاملة المشركين، فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، فحكمه حكم أهل الفترات. وهذا هو الذي ذهب إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حيث قال: لا نكفر أحداً حتى تقوم عليه الحجة. وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يعذر أحد بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] وقد بعث الرسول، وأنزل القرآن، والقرآن يتلى، والنصوص واضحة في بيان الشرك والتحذير منه، فلا يعذرون، فهما قولان لأهل العلم ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العمل الصالح والعلم النافع، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[9]

دروس في العقيدة [9] من جملة أنواع الشرك بالله تعالى الشرك في طاعة المتبوعين في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ومنها الشرك في الركوع وفي السجود وفي التوكل، وفي حلق الشعر، والشرك بأعمال السحر التي يتم فيها الاتصال بالشياطين، وكل تلك الأمور مخلة بجناب التوحيد، وعلى المسلم أن يتقي الوقوع فيها ليسلم له دينه.

ما ينافي كمال التوحيد الواجب من الشرك

ما ينافي كمال التوحيد الواجب من الشرك

الشرك في الطاعة

الشرك في الطاعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من أنواع الشرك في العبادة: الشرك في الطاعة، وهو أن يطيع مخلوقاً في معصية الله، من تحليل حرام، أو تحريم حلال، سواء أكان هذا المخلوق عالماً، أم عابداً أم رئيساً أم ملكاً أم غير ذلك، فهو أن يطيع مخلوقاً في معصية الله من تحليل حرام، أو تحريم حلال، فيكون بذلك قد اتخذه رباً من دون الله؛ لأن التحليل والتحريم من خصائص الربوبية، أي: من خصائص الله عز وجل. فالمشرع هو الله سبحانه، وهو المحلل والمحرم، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] والآية في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلى هذه الآية، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] فقال عدي بن حاتم رضي الله عنه -وكان نصرانياً فأسلم-: لسنا نعبدهم يا رسول الله!) أي: لسنا نعبد أحبارنا أو رهباننا، فلسنا نعبد العلماء أو العباد، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعتهم في التحليل والتحريم هي عبادتهم من دون الله، واتخاذهم أرباباً من دون الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه؟! ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فبين له صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم واتخاذهم أرباباً من دون الله إنما هي طاعتهم في التحليل والتحريم. يعني: يعتقد أن له حق التحليل والتحريم، فهذا العالم أو هذا العابد أو هذا الرئيس يأمره بالمعصية فيعتقد حلها، فيطيعه في تحليلها، فيحل له الخمر -مثلاً- فيعتقد حله، ويحل له الزنى فيعتقد حله، ويحل له نكاح المحارم فيعتقد حله، وهكذا. أما طاعتهم في المعصية من غير اعتقادهم حلها؛ فلا يكون عبادة لهم من دون الله، بل تكون معصية، فإذا أطاع العالم أو أطاع العابد أو الرئيس في معصية من دون اعتقاد حلها، وإنما أطاعه اتباعاً للهوى، وطاعة للشيطان، وهو يعتقد أنها ليست حلالاً؛ فهي معصية، وليست عبادة له من دون الله. والمقصود أن الشرك في الطاعة أن يطيع المخلوق في المعصية من تحليل حرام مع اعتقاد حله، أو تحريم حلال مع اعتقاد حرمته، أما إذا أطاعه في المعصية من دون اعتقاد حلها فإنه لا يكون مشركاً، ولا عابداً له من دون الله، وإنما يكون فعله معصية من جنس المعاصي، فإذا أمره بشرب الخمر فشربه يكون مرتكباً لكبيرة، وإذا أطاعه في تحليل الخمر يكون قد اتخذه إلهاً ورباً من دون الله، وفرق بين الأمرين: بين الطاعة في التحليل والتحريم، والطاعة في المعصية من دون اعتقاد حلها. فالطاعة في التحليل والتحريم تكون شركاً، وعبادة له من دون الله، وطاعته في المعصية من دون اعتقاد حلها معصية.

الشرك في الطواف

الشرك في الطواف ومن الأنواع والأمثلة للشرك في العبادة: الشرك في الطواف، وهو أن يطوف بغير بيت الله تقرباً لغير الله، كمن يطوف بقبر ولي، أو بقبر رجل، سواء أكان ولياً أم غيره، وسواء أكان صالحاً أم غيره، فيطوف به تقرباً له، فإن هذا يكون شركاً، فمن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يطوف بقبر البدوي تقرباً للبدوي، أو يطوف بقبر الحسين تقرباً للحسين، أو يطوف بقبر زينب تقرباً لـ زينب، أو يطوف بقبر نفيسة تقرباً لـ نفيسة، أو يطوف بقبر ابن علوان تقرباً لـ ابن علوان، أو يطوف بقبر عبد القادر تقرباً لـ عبد القادر، ففعله شرك أكبر. وهذا هو الشرك في الطواف؛ لأنه طاف تقرباً لغير الله، قال الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. ولا يطاف بغير بيت الله، ولا يطاف لغير الله، أما إذا طاف بغير الكعبة تقرباً لله لا لغيره، كمن طاف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى الله، وظن أنه لا بأس بأن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو طاف بقبر البدوي تقرباً إلى الله لا للبدوي، أو طاف بقبر الحسين تقرباً لله لا للحسين؛ فإن هذا يكون مبتدعاً لا مشركاً؛ لأنه لم يطف لغير الله، بل طاف لله، لكن المكان الذي طاف فيه لا يطاف به، وليس هناك شيء في الدنيا يطاف به إلا الكعبة، فإذا طاف لله في أي مكان غير الكعبة فإنه يكون مبتدعاً، وإن طاف لغير الله يكون مشركاً، حتى وإن طاف بالكعبة وهو لا يقصد أن يتقرب إلى الله، إنما يتقرب إلى غيره. والشرك في الطواف، والشرك في الدعاء، والشرك في الذبح، والشرك في النذر، هذه كلها منتشرة قديماً وحديثاً عند القبوريين، فهم يفعلونها كثيراً، فمن القبوريين من يفعل ذلك عند قبر من قبور من يسمونهم أولياء، أو يعظمونهم، فتجدهم يشركون بالله، ويصرفون إليهم الدعاء، ويرفعون أصواتهم بسؤال المدد، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويذبحون لهم الذبائح والقرابين، فهذا يذبح خروفاً، وهذا يذبح عجلاً، وهذا يذبح كذا، وهذا يذبح دجاجة، فيقدمون النذر لهم من دون الله، ينذرون لهم بأرواحهم، ويطوفون بقبورهم تقرباً إليهم.

الشرك في السجود

الشرك في السجود ومن الأمثلة والأنواع للشرك في العبادة: الشرك في السجود، كأن يسجد لغير الله، وذلك كسجود المريدين من الصوفية للشيخ، والصوفي تجده يسجد لمريده، فتجد المريد الصوفي يسمى السالك إلى الله، فهم يسمون أنفسهم المريدين والسالكين، فيسجد المريد للشيخ تقرباً إليه، فإذا قيل له في ذلك، قال: إن هذا وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فالصوفي يسجد لشيخه ويضع رأسه أمامه ويقول: إن هذا إنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال: العبرة بالمعاني والحقائق، ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود وضع الرأس قدام من يُسجَد له. ومن سجد للنجم أو للشجر أو للحجر أو للقبر فإنما يضع الرأس قدامه تقرباً إليه، فحقيقة السجود وضع الرأس أمام من يسجد له، فسجود المريد للشيخ، شرك من الساجد والمسجود له. أما الساجد فإنه أشرك حيث صرف السجود -وهو عبادة- لغير الله، وأما المسجود له حيث رضي أن يسجد له، ورضي بالعبادة، فيكون طاغوتاً من الطواغيت، فيكون الشيخ الذي رضي أن يسجد له طاغوتاً، والساجد عابداً للطاغوت، فسجود المريدين من الصوفية لشيوخهم من الشرك.

الشرك في الركوع

الشرك في الركوع ومن أنواع الشرك: الشرك في الركوع، كأن يركع لغير الله تقرباً إليه، كركوع أصحاب العمائم من الصوفية بعضهم لبعض عند الملاقاة، فإذا لقيه ركع له، فركوع أصحاب العمائم من الصوفية لبعضهم عند الملاقاة هو من الركوع لغير الله. وهذا الركوع يسمى سجوداً في اللغة، وفسر السجود بالركوع في قول الله تعالى في بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] والمعنى: ادخلوا الباب منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجبهة. فبنو إسرائيل أمرهم الله أن يدخلوا القرية منحنين، وأن يقولوا: حطة، أي: يا الله! حط عنا ذنوبنا، واغفرها لنا، فقوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة:58] المعنى: ادخلوا الباب منحنين ركوعاً، وإلا فإنه لا يمكن الدخول على الجبهة. ففسر السجود بالركوع في هذه الآية، لكن بني إسرائيل قوم عتاة، غيروا في القول والفعل، فقد أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً منحنين، فدخلوا يزحفون على أعجازهم، وهذا تغيير في الفعل، وفي القول قالوا: حنطة، بدلاً من أن يقولوا: (حطة)، فغيروا قولاً وفعلاً. والميل يسمى سجوداً في اللغة، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار: إذا أمالتها الريح. قال الله تعالى آمراً عباده أن يخصوه بالركوع والسجود والعبادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، فالركوع والسجود عبادة لا تكون إلا لله عز وجل.

الشرك في حلق الرأس

الشرك في حلق الرأس ومن الأمثلة والأنواع للشرك في العبادة: الشرك في حلق الرأس، وذلك كحلق الرأس للشيخ عند المريدين من الصوفية تعبداً له وتقرباً إليه، فإن المريد الصوفي من الصوفية يحلق رأسه للشيخ تقرباً إليه، وحلق الرأس عبادة لا تكون إلا في النسك خاصة لله عز وجل في الحج أو في العمرة، وهو من مناسك الحج، فإذا حلق رأسه لغير الله تقرباً إليه كما يفعل الصوفية -حيث يحلق المريد السالك من الصوفية رأسه تعبداً للشيخ، وتقرباً إليه- فقد أشرك. قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع، وأمر أصحابه أن يحلقوا رءوسهم، فحلق الرأس نسك من مناسك الحج، لا يكون إلا في النسك خاصة لله عز وجل.

الشرك في التوكل

الشرك في التوكل ومن أنواع الشرك وأمثلته في العبادة: الشرك في التوكل، وهو أن يتوكل على غير الله في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في حصول مطالبهم من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة، وهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه اعتماد على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. والذين يتوكلون على الأموات أصحاب القبور، ويعتمدون عليهم في حصول مطالبهم من نصر أو رزق أو حفظ أو شفاعة قد عبدوهم من دون الله، وأشركوهم في توكلهم على الله، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. أما التوكل على الحي الحاضر في الأسباب الظاهرة فلا يكون شركاً أكبر، وإنما يكون شركاً أصغر، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى أو غير ذلك، فهذا نوع من الشرك؛ لما فيه من ميل القلب واعتماده على غير الله، هذا إذا كانت الأسباب ظاهرة، أي: يتوكل على من أسبابه ظاهرة. أما إذا توكل على ميت أو غائب في رجاء ما يطلبه من نصر أو رزق أو حفظ فيما وراء الأسباب، فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه توكل على غير الله، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] فالتوكل على غير الله تعالى فيما وراء الأسباب يكون شركاً أكبر، والتوكل على غيره فيما أسبابه ظاهرة يكون شركاً أصغر؛ لما فيه من ميل القلب واعتماده على هذا المخلوق، والواجب على المسلم أن يفوض أمره إلى الله. والتوكل أقوى من الرجاء، فالرجاء يكون عادياً ويكون حسياً، لكن التوكل أقوى؛ لما فيه من اعتماد القلب وميله إلى المخلوق.

الشرك في السحر

الشرك في السحر ومن أمثلة الشرك في العبادة وأنواعه: الشرك بالسحر، والسحر: عبارة عن عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه، والساحر يأتي بعزائم ورقى وعقد يسحر بها بعض الناس فتؤثر فيه أو في قلبه بالمرض، أو بالقتل أحياناً، أو بالتفريق بين المتحابين كالزوجين أو الأخوين أو غيرهم. وقد يكون السحر عن طريق الأدوية والتدخينات، وسقي أشياء تضر، والساحر يتصل بالشياطين ويتقرب إليهم، ويأخذ عنهم، وهناك اتفاق بين الساحر وبين الشياطين، فيفعل هذه العزائم وهذه الرقى والعقد، فيحصل التأثير في القلب بالمرض أو القتل أو التفريق بين الاثنين بإذن الله الكوني القدري، ولا يمكن أن يضر أحد أحداً إلا بإذن الله، قال الله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] والمراد بالإذن هنا: الإذن الكوني القدري، وليس الشرعي. والساحر قد يصنع أدوية وتدخينات وأشياء تضر في الأبدان فيبتز أموال الناس. ويسمى فعله سحراً لأنه يشارك السحر في التأثير في الخفاء؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، فالشيء الخفي اللطيف السبب يسمى سحراً، ومنه سمي السَّحَر سَحَراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل، ومنه يسمى القول البليغ سِحْراً، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً). ومعلوم أن الرجل البليغ يؤثر في السامعين في الخفاء، ومنه سميت النميمة سحراً؛ لتأثيرها في الخفاء، وفي الحديث: (أنبئكم ما العضة؟ قالوا: بلى، قال: هي النميمة، القالة بين الناس) قال بعض السلف: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة. فالساحر يصنع عزائم ورقى وعقداً، ويستخدم الشياطين، وتؤثر هذه العزائم والرقى والعقد في القلوب والأبدان بالمرض أو القتل أو بالتفريق بين المتحابين. وقد لا يتصل بالشياطين، فيكون فعله سحراً عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر. واختلف العلماء في حكم الساحر هل يكفر أو لا يكفر؟ فذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة مالك وأحمد وأبو حنيفة - إلى أن الساحر يكفر، واستدلوا بقول الله تعالى في قصة الملكين: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، قالوا: فتعلم السحر وتعليمه كفر. قال أصحاب أحمد إلا أن يكون السحر بأدوية وتدخينات وسقي أشياء تضر، فلا يكفر. وذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- وجماعة إلى التفصيل، وقالوا: إذا تعلم السحر فإننا نقول له: صف لنا سحرك! فإن تضمن السحر ما يوجب الكفر كفر، وإن تضمن ما لا يوجب الكفر فإذا اعتقد إباحته كفر، فنقول له: هل تعتقد أنه حلال أو حرام؟ فإذا اعتقد إباحته كفر، وإن اعتقد تحريمه فلا يكفر، وإنما يكون مرتكباً لكبيرة ولأمر عظيم محرم. إذاً: الجمهور لا يفصلون، بل يقولون: إن السحر كفر مطلقاً، وأما الشافعي فإنه يفصل، فيقول: لابد من أن نسأل الساحر؛ فإن تضمن سحره كفراً كفر، وإن لم يتضمن كفراً نسأله ونقول: هل تعتقد أنه حرام أم حلال؟ فإن اعتقد حله كفر، وإن اعتقد تحريمه فإنه لا يكفر، ولكنه ارتكب محرماً وكبيرة يستحق عليها التعزير. والواقع أن الخلاف بين جمهور العلماء الذين يكفرون الساحر بإطلاق، وبين الشافعي الذي يفصل هو خلاف اصطلاحي. فالجمهور يرون أن السحر لا يسمى سحراً إلا إذا كان عن طريق الاتصال بالشياطين، فهذا هو السحر الاصطلاحي. وأما السحر الذي يكون عن طريق الأدوية والتدخينات، ولا يتصل صاحبه بالشياطين، فقالوا: هذا لا نسميه سحراً؛ لأنه يسمى سحراً من جهة اللغة، فهو سحر لغوي، فلذلك فلا يحتاج إلى تفصيل. إذاً: الجمهور لا يسمون السحر سحراً، إلا السحر الاصطلاحي الذي يتصل صاحبه بالشياطين، وهذا لا يكون إلا كفراً، أما السحر الذي لا يتصل بالشياطين فهذا لا يسمونه سحراً؛ لأن تسميته سحراً تسمية لغوية، فلا يحتاج إلى تفصيل. أما الشافعي وجماعة فإنهم أدخلوا سحر الأدوية والتدخينات وسقي الأشياء في مسمى السحر، فاحتاجوا إلى تفصيل، وعلى ذلك يكون الجمهور والشافعي على أن الساحر الذي يكون سحره عن طريق الاتصال بالشياطين كافر، وعلى هذا يكون السحر نوعين، النوع الأول: سحر يتصل صاحبه بالشياطين، وهذا كفر وردة، ولابد من أن يقع في عمل الساحر شرك.

جهة دخول الساحر في الشرك

جهة دخول الساحر في الشرك ويدخل الساحر الذي يتصل بالشياطين في الكفر من جهتين: الأولى: من جهة الاتصال بالشياطين، والتعلق بهم، والتقرب إليهم بما يحبونه، وبفعل الأعمال الخبيثة؛ ليقوموا بخدمته ومطلوبه، فقد يذبح لهم، وقد يدعوهم من دون الله، ويتقرب إليهم بما يحبونه، ويتصل بهم عن طريق الأفعال الخبيثة حتى يقوموا بخدمته، فهناك خدمة متبادلة بين الساحر وبين الشيطان الجني. إذاً: الساحر يخدم الجني بالكيفيات التي يتقرب بها إليه، كدعائه، والذبح له، والتقرب إليه بما يحب، والجني يخدم الساحر بما يطلبه منه، ويساعده على لطم المصروع، ويساعده على أعماله السحرية، وبينهما خدمة متبادلة. الجهة الثانية: دعوى الساحر لعلم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر وردة؛ لأن هذا مشاركة لله في علمه الذي اختص به، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، فهذا بالنسبة للساحر الذي يتصل بالشياطين. أما الساحر الذي لا يتصل بالشياطين فهذا يكون سحره عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر يأتي بها حتى يبتز أموال الناس. وبعض الناس لا يجد له حرفة، وإيمانه ضعيف، فيتصدر لعلاج الناس، ويأتي بأدوية وتدخينات، وبأصباغ وألوان، فإذا جاءه المريض أعطاه شيئاً من الأصباغ والألوان، وقال: استعمل هذا للشراب، وهذا للدهون، وهذا للاستنشاق، ويبتز أموال الناس، وقد تضر هذه الأدوية، وقد تقتل. فهذا يستحق التعزير البليغ من قبل الحاكم الشرعي، فإذا رفع إلى المحكمة، يجتهد الحاكم في تعزيره بالضرب أو السجن، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا كان شره لا يندفع إلا بذلك، هذا إذا كان الساحر لا يتصل بالشياطين، كسحر الأدوية والتدخينات، وسقي أشياء تضر.

حد الساحر

حد الساحر واختلف العلماء في حد الساحر، فذهب الجمهور إلى أن حد الساحر القتل، واستدلوا بحديث (حد الساحر ضربة بالسيف) وثبت أن عمر كتب إلى عماله أن: (اقتلوا كل ساحر وساحرة)، قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر. وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك جندب قال: حد الساحر القتل. فقتل الساحر ثابت عن ثلاثة من الصحابة: عمر وابنته حفصة وجندب. وقال بعض العلماء: إنه يحبس حتى يتوب أو يموت، واختلف القائلون بقتله، هل يكون قتله حداً أو كفراً؟ فالجمهور على أن قتله للكفر، فيقتل كافراً، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، هذا إذا كان سحره عن طريق الشياطين، أما إذا كان سحره عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر ولم يستحله، فهذا لا يكفر، وإذا استحله في إيذاء الناس بالمرض أو القتل وأكل أموالهم بالباطل كفر، أما إذا لم يستحله ولكن حمله على ذلك الهوى والطمع والجشع وحب المال، وحمله ذلك على أن صار يمتهن هذه المهنة، فهذا لا يكون كافراً. والسحر عن طريق الشياطين لا يأتي إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا جاء في الحديث (من سحر فقد أشرك) وسماه الله كفراً كما في قوله سبحانه في قصة الملكين: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]. واتفق العلماء على أن ما كان من الساحر الذي يتصل بالشياطين ويعبد الكواكب ويتقرب إليهم كفر وردة، ومن ذلك مناجاة الكواكب السبعة ومناداتها، وهي الشمس والقمر والزهرة والمريخ وزحل وعطارد والمشتري، فإذا كان يناجيها ويناديها، فهذا شرك.

حكم توبة الساحر

حكم توبة الساحر واختلف العلماء في قبول توبة الساحر، فقال بعض العلماء: تقبل، وقال آخرون: لا تقبل في أحكام الدنيا، والصواب أنه إذا سلم الساحر نفسه قبل أن يقبض عليه؛ فإن توبته تقبل في هذه الحالة؛ لأنه غير متهم، أما إذا لم يسلم نفسه حتى قبض عليه، ثم ادعى التوبة، فالصواب أنه لا تقبل توبته في هذه الحالة في أحكام الدنيا، بل لابد من إقامة الحد عليه، كالزنديق ومن سب الله ورسوله، أو استهزأ بالله أو برسوله أو بكتابه أو بدينه، فالصواب أنه يقتل، ولا تقبل توبته في أحكام الدنيا. وأما في الآخرة فأمره إلى الله، فإن كان صادقاً في توبته أو في دعواه التوبة فإن الله يقبل الصادقين، وإن كان كاذباً فلا يقبل الكاذبين. وكذلك الزنديق والمنافق، وكذلك من سب الله أو سب الرسول أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، فلا تقبل منه توبته، قال بعض العلماء: لأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وقال آخرون من أهل العلم: إنه تقبل منه التوبة، ويستتاب، فإن تاب خلي سبيله، وإن لم يتب قتل، لكن المعروف والمشهور والأرجح أن الزنديق ومن سب الله أو سب الرسول أو سب الدين، والساحر لا تقبل توبته في أحكام الدنيا، زجراً للناس حتى لا يتجرءوا على مثل هذا الكفر العظيم.

حقيقة السحر وخياله

حقيقة السحر وخياله واختلف العلماء هل السحر له حقيقة، أو كله خيال؟ فذهب بعض العلماء إلى أنه تخييل، وينسب هذا إلى قوم من المعتزلة، وإلى بعض الأحناف. والصواب أن السحر نوعان: نوع حق، أي: له حقيقة، والنوع الثاني: تخييل، والدليل على أن منه ما هو خيال قول الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] والضمير يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام في قصة السحرة لما وضعوا الحبال والعصي، ووضعوا عليها الزئبق، فصارت تتلون في الشمس، فموسى عليه الصلاة والسلام -كما قال تعالى عنه- {أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه:67] وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68 - 69] فألقى موسى العصا، فابتلعت جميع ما في الوادي من العصي والحبال التي وضعوها. فهذه عصي وحبال وضعوها، ووضعوا عليها الزئبق فجعلت تتلون، فخيلوا للناس أنها حيات وعقارب، ولهذا قال الله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]. وهذا النوع من الخيال يسحر الساحر به أعين الناس فقط، ويكون الشيء المرئي ليس على حقيقته. النوع الثاني: السحر الحقيقي، أي: له حقيقة تؤثر في القلوب والأبدان بالمرض والقتل وبتغيير العقل، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5]. فالنفاثات: السواحر اللاتي يعقدن العقد، وينفثن في عقدهن، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، وبما أن الخيال لا يؤثر إلا في العيون فقط لم يأمر الله بالاستعاذة منه، فلما أمر الله بالاستعاذة من السحر؛ دل على أن له حقيقة، فلو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير، وهو أن السحر نوعان: نوع له حقيقة، يؤثر في القلوب والأبدان ويمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ونوع هو خيال. وقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله)، وقد أنكر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وظن أن هذا يقدح في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهذا غلط؛ لأن هذا ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة، في وعاء طلع النخل، وجعل في صخرة أسفل بئر ذروان. والمشط معروف، والمشاطة: ما يحصل من الشعر حينما يمشط الشعر بالمشط، فيسقط بعض الشعر، وهذه تسمى مشاطة، وقد جعلهما الساحر في جف طلعة ذكر، وهو وعاء الطلع، ويسمى حبوب اللقاح الذي يلقح به النخلة. فأخذ هذا الوعاء -وعاء طلع الذكر- وجعله في مشط ومشاطة، وجعله في صخرة تحت بئر ذروان، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه شيء في جسده، وصار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله. ثم جاءه ملكان على صورة رجلين في رؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب. يعني: مسحور، والسحر يسمى طباً تفاؤلاً بالسلامة، كما يسمى اللديغ سليماً، تفاؤلاً له بالسلامة، فكذلك المسحور يسمونه مطبوباً تفاؤلاً له بالطيب والسلامة. قال: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، فسأله: في أي؟ قال: في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر، في بئر ذروان. فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستخرج السحر، فذهب إلى تلك البئر، واستخرج السحر، ثم أمر بالبئر فدفنت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! والله لكأن ماء هذه البئر نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين) فقالت له عائشة: أفلا تنشرت، فقال النبي: (أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن أثير على الناس شراً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج السحر، وفي بعضها أنه لم يستخرجه، وجمع العلماء بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج وعاء طلع النخل، ثم أزيل السحر؛ ولكنه لم يستخرج ما بداخله من المشط والمشاطة. ثم أمر بهذه البئر فدفنت، ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم اليهودي. وهذا السحر الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدح في عصمته، فلم يؤثر في عصمته ولا في عقله عليه الصلاة والسلام، ولا في تبليغه الرسالة، وإنما في شيء يتعلق بأمور الدنيا، ويتعلق بجسده، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، لكنه لم يتعلق بعقله، ولا بتبليغه الرسالة، ولا بعصمته عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا الذي أصابه من السحر نوع من المرض كسائر الأمراض، لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك بعض الناس، فالصواب أن ذلك لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام، وليس له تأثير على تبليغ الرسالة، ولا على عقله ولا فكره عليه الصلاة والسلام.

حكم النشرة

حكم النشرة وإذا أصيب أحد بالسحر فإنه يشرع له أن يتنشر، وأن يحل السحر، لكن عن طريق الرقية الشرعية، عن طريق قراءة القرآن، والأدوية المباحة، والأدعية، أما أن يتنشر ويحل السحر عن طريق السحرة فهذا لا يجوز، وقد بوب لهذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد باباً هو (باب ما جاء في السحر)، فالنشرة: حل السحر عن المسحور. وقد جاءت روايات أو آثار فيها المنع من النشرة، وآثار أخرى فيها الإباحة، وجمع العلماء بينهما بأن الرواية التي فيها المنع محمولة على حل السحر بسحر مثله، كما في الحديث: (لا يحل السحر إلا الساحر) والمراد: النشرة المحرمة، فلا يجوز لمن ابتلي بالسحر أن يحل السحر عن طريق السحرة، ولا يجوز له إتيان السحرة ولا سؤالهم ولا تصديقهم؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وسلم. فإذا سأله ولم يصدقه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإذا سأله وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السحرة قال: (ليسوا بشيء) يعني: أخبارهم لا يوثق بها، وفي الحديث: (ليس منا من تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، أو سحر أو سحر له)، فلا يجوز للمسلم أن يأتي السحرة، ولا يجوز له سؤالهم ولا تصديقهم، ولا المعالجة عندهم؛ لأن السحر لا يحله إلا سحر مثله، ولا يحل السحر إلا ساحر. لكن يجوز له أن يحل السحر وأن يتعالج عن طريق الأدوية المباحة، والرقية الشرعية، وهي آيات من القرآن تقرأ عليه، والأدعية الشرعية المباحة لا بأس بها، وهذا ما يحمل عليه كلام بعض السلف، كما سئل سعيد بن المسيب عن رجل به طب -أي: سحر- أيحل عنه أو ينشر؟ فقال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينهوا عنه. يعني: لا بأس بحل السحر؛ لأن حل السحر إنما يراد به الإصلاح، والمراد حل السحر عن طريق نشرة شرعية، وهي النشرة الشرعية التي لا محذور فيها.

كيفية رقية السحر

كيفية رقية السحر ذكر العلماء أمثلة للنشرة الشرعية، وهي أن يؤتى بسبع ورقات من السدر، فتدق في ماء، ويقرأ فيها الآيات التي فيها الحديث عن السحر، كالآيات الأربع من سورة الأعراف، ويه قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:118 - 122]، وآية في سورة طه، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وآيتين في سورة يونس، وهما قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82]. فهذه الآيات تقرأ في إناء في ماء، ثم يصب من فوق رأس المسحور، ويكرر هذا، ولابد من الثقة بالله عز وجل والاعتماد عليه، وسكون القلب عند قراءة الآيات، وتكون نفس المريض منفعلة وقابلة، فإذا وجدت الأسباب ووافق ذلك ما قدر الله فإنه يشفى بإذن الله. وكذلك الرجل الذي يحبس عن امرأته، فلا يتوق إلى جماعها، يؤتى له بسبع ورقات من السدر، وتوضع في الماء، ويقرأ فيها آية الكرسي، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وهذا مجرب، قد جربه العلماء، وجربه الكثير من مشايخنا، وجربته أنا أيضاً بنفسي، إذ أتي إلي مرات عديدة بعض الناس يقول الواحد منهم: إنه محبوس عن امرأته، ولا يستطيع أن يجامعها، فقرأت له آية الكرسي وغيرها مما ذكر فاستفاد والحمد لله، وشفاه الله، وآخر كذلك، وثالث، فهذا مجرب، وقال العلماء: إن هذا العلاج جيد في حبس الرجل عن امرأته. وعلى كل حال فإنه ينبغي للإنسان أن يثق بالله، وأن يعلق رجاءه بالله، وأن يعتمد عليه، ويفوض أمره إليه، ويدعوه ويتضرع إليه دائماً أن يشفيه، فالمريض يتضرع إلى الله ويبتهل إليه، وكذلك من حوله من أقاربه، لا ينسون الدعاء، فيتضرعون إلى الله، ويدعون الله له بالشفاء، فالدعاء سلاح المؤمن، فيدعو ربه ليلا ونهارا، ويسأل الله الشفاء، مع الأخذ بالأسباب، وقراءة الرقى الشرعية، والأدوية لا بأس بها، وكذلك العقاقير الطبية التي لا محذور فيها عند الأطباء، ومن الأدعية التي وردت أن يكثر من قوله: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)، و (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، و (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)، و (بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك)، و (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء والأرض، اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع). ويستعمل مع هذه الأدعية والرقى الأدوية المباحة التي لا محذور فيها عند الأطباء، أما هذه التي عند السحرة والمشعوذين فلا تجوز المعالجة بها، ولا يجوز الإتيان إليهم أبداً؛ لأن هذا رفع من شأنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليسوا بشيء)، ولأن من أتى إليهم متوعد بهذا الوعيد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)؛ لأنه قد يأمره بالشرك، وبعض الناس يذهب ليتداوى عند السحرة، فيقول له -وقد يكون جاهلاً-: علاج مرضك أن تأتي بكبش أو ديك أبيض أو كذا ثم تذبحه على كذا، ولا تسمي الله، أو لا تذكر الله، وبعضهم يصرح ويقول: هذا لشيوخ الجن، والعياذ بالله، وهذا من البلاء والمصائب. وإن أغلى ما يملكه الإنسان هو دينه، فلا يجوز للإنسان أن يأتي السحرة؛ ولهذا جاء الوعيد الشديد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، وفي الحديث الآخر: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وسلم، فالأمر جد خطير. فالعلاج له طريقان: طريق شرعي، وطريق محرم مسدود ممنوع، وهو الإتيان إلى السحرة، والطريق الثاني: مباح مشروع، وهو العلاج عن طريق الرقى الشرعية، والآيات القرآنية، والدعوات المباحة، والأدوية والعقاقير الطبية التي لا محذور فيها.

الأسئلة

الأسئلة

العلاقة بين الدعاء والقدر

العلاقة بين الدعاء والقدر Q هل الدعاء يغير القدر؟ A الدعاء من القدر، ولا يخرج عنه، والدعاء سبب من أسباب الإجابة، فالله قدر السبب والمسبب، فلا يخرج الدعاء عن القدر، وجاء في حديث آخر (الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض، فأيهما كان أقوى غلب صاحبه) والله تعالى قدر أن يكون شفاء المريض بهذا السبب وهو الدعاء، وقدر أن هذا لا يشفى بترك الدعاء. والمقصود أن الدعاء سبب من الأسباب، وهو من قدر الله، فلا يخرج عن القدر.

البحث عن العلم وطلبه لمحاربة الجهل

البحث عن العلم وطلبه لمحاربة الجهل Q في بلدنا أنواع من الشرك، والعامة ليس عندهم من يعلمهم إلا مشايخ الصوفية، فهل هؤلاء يعذرون بالجهل لعدم علمهم؟ A عليهم أن يبحثوا عن العلم، ولا ينبغي لهم أن يستسلموا للصوفية، بل عليهم أن يبحثوا عن العلماء، ولاسيما في العصر الحاضر، ووسائل الإعلام قد تعددت الآن، فبإمكانهم أن يتصلوا بالعلماء بطريقة الهاتف، أو عن طريق الإذاعة، وإذاعة القرآن فيها برنامج (نور على الدرب)، وفيها الفتاوى، ومن الممكن أن يتصلوا بالعلماء، أو يكتبوا لهم، ولو كان للإنسان حاجة دنيوية لبحث عنها حتى يحصل عليها، فلماذا لا يبحث عن دينه، ويسأل عن دينه، ويسأل عما أشكل عليه؟! فلابد من أن يتصلوا بالعلماء، فهم ليسوا مكتوفي الأيدي، والحمد لله، فلهم قدرة على الاتصال، والطرق متعددة، فيستطيعون أن يتصلوا بالعلماء وهم في بلادهم عن طريق الهاتف، وعن طريق المكاتبة، وعن طريق الإذاعة. والمقصود أنهم لا يعذرون بالاستسلام، فلا يستسلموا للجهل، بل عليهم أن يبحثوا ويسألوا حتى يتعلموا أمور دينهم، ويبحثوا عما أشكل عليهم، ويعبدوا الله على بصيرة.

حكم قول: (إني متوكل على الله ثم عليك)

حكم قول: (إني متوكل على الله ثم عليك) Q ما حكم قول بعضهم: إني متوكل على الله ثم عليك؟ A هذا لا بأس به، وإنما الممنوع أن يقول توكلت على الله وعليك، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا جاءت (ثم) فإنه يزول المحذور. لكن هذا اللفظ المقصود منه الوكالة، فتسميته توكلا غلط من قائله، والأفضل أن يقول بأن هذا وكالة، أي: وكلتك في هذا الشيء وأنبتك عني، فالعاصي يقول: أنا متوكل على الله، وبعضهم يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وهذا غلط، فالمقصود هو: الوكالة، وتسميته توكلاً خطأ.

حكم السجود أمام حجرة النبي صلى الله عليه وسلم

حكم السجود أمام حجرة النبي صلى الله عليه وسلم Q سجد رجل أمام حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فلما أنكر عليه قال: هذا سجود احترام مثل سجود أبوي يوسف ليوسف. فكيف يجاب عليه؟ A يجاب عنه كما أجبنا على الصوفي الذي يسجد لشيخه ويقول: إنما أضع الرأس قدام الشيخ احتراماً له وتواضعاً، فنقول له: هذا سجود ولو سميته احتراماً وتواضعاً، فما دام أنه قصد السجود للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا شرك، وكونه يقول: إن هذا احترام وتواضع لا يغير من الأمر شيئاً؛ لأن العبرة بالحركة والمعنى، وليست العبرة بالتسمية، فلو سمى الناس الخمر شراب الروح فهو خمر، ولا تزيل التسمية تحريمه، ولو سمى الناس الربا الفائدة أو العمولة أو الربح المركب فهو ربا؛ لأن العبرة بالمعاني والحقائق. فلو سمى سجوده للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للشمس، أو للقمر، أو للنجم تواضعاً واحتراماً؛ فهو سجود؛ لأن العبرة بالمعنى والحقيقة لا بالتسمية. أما سجود أبوي يوسف وأخوته له فهو سجود احترام، وهو جائز في شريعة يوسف وفي شريعة يعقوب، ولهذا لما رأى يوسف الرؤيا قال في أول الأمر عندما كان صغيراً: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] فقال هذا وهو صغير، ثم بعد ذلك لما كبر وولي خزائن مصر وأتاه الناس يكيل لهم، ثم أتاه إخوته، ثم أخذ أخاه، ثم بعد ذلك أرسل قميصه، وقال لإخوته: ائتوني بأهلكم أجمعين، جاء أبوه وأمه وأخوته وهم أحد عشر أخاً، فلما جاءوا رفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وهو سجود تحية واحترام لا سجود عبادة، وهذا جائز في شريعتهم، لكن شريعتنا أكمل الشرائع، فلا يجوز فيها سجود التحية. ولما سجد معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاء من اليمن، وقال: إنه رآهم يسجدون للملوك؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) من عظيم حقه عليها. فالمقصود أن السجود لا يجوز في شريعتنا، أما في شريعة يوسف ويعقوب فإنه جائز، وليس سجود عبادة، وإنما سجود تحية وإكرام، ولما سجدوا قال يوسف لأبيه: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] أي: وقعت الرؤيا، حيث رآها وهو صغير، ثم تحققت الرؤيا وهو كبير، فلما سجدوا له بالفعل قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]. ,التأويل بمعنى: الحقيقة التي يئول إليها الشيء، والتأويل يأتي بمعنى: التفسير، ويأتي بمعنى: الحقيقة التي يئول إليها الشيء.

حكم الانحناء للجماهير في المسرح ونحوه

حكم الانحناء للجماهير في المسرح ونحوه Q ما يفعله بعض اللاعبين من الانحناء لحكم المباراة، أو ما يفعله بعض الممثلين من الانحناء للجماهير أثناء صعوده إلى المسرح هل يدخل في الشرك؟ A إذا كان المقصود التعظيم لهم؛ فإنه يخشى على صاحبه من الشرك، مثلما يفعل الصوفية حينما يلقى بعضهم بعضاً، ويركع بعضهم لبعض. وعلى كل حال فإنه ينبغي ألا يفعل هذا، ولا ينبغي أن ينحني أحد أمام أحد، فإن هذا يخشى أن يكون من الركوع لغير الله.

منزلة اتباع الهوى

منزلة اتباع الهوى Q متى يكون إتباع الهوى شركاً، ومتى لا يكون؟ A إذا اُتبع الهوى بترك التوحيد وفعل الشرك والكفر صار شركاً، وإذا كان اتباع الهوى بالمعصية صار معصية، فإذا اتبع المرء الهوى فزنى أو سرق، أو شرب الخمر صار عاصياً، وإذا اتبع الهوى فذبح لغير الله أو نذر لغير الله، أو فعل شيئاً لغير الله صار مشركاً.

حكم استعمال السدر في رقية السحر

حكم استعمال السدر في رقية السحر Q ينكر بعضهم استعمال السدر في فك السحر، ويقولون: لا دليل على ذلك؟ A لا دليل على ذلك ولا منع؛ لأن أصله مباح، فأي شيء يستعمل ليس فيه محذور لا مانع منه؛ لأن الأصل فيه الإباحة، والسدر إذا كان فيه فائدة فإنه يستعمله، وإذا كان هناك شيء مفيد كالدواء وفيه تجارب فإنه يفعله، فإذا قلت: هات الدليل على كذا وكذا، قلنا: هات الدليل على أن العين يجعل فيها قطرة للدواء، هل عندك دليل على أن العين يجعل فيها قطرة؟! الجواب: لا دليل، لكن هذا مباح، والتجارب أثبتت أن هذا فيه فائدة والحمد لله، فكذلك السدر إذا كان فيه فائدة، فهو مثل القطرة التي تضعها في عينك، فهذا لا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل فيه الإباحة، ما لم يكن فيه محذور.

حكم هدم ما يقصد للطواف

حكم هدم ما يقصد للطواف Q يوجد في بعض البلاد عين تقصد ويطاف بها، وينذر لها، وهذه العين تقع في وسط الجبال، فهل لنا أن نذهب خفية فنهدمها، مع العلم أنه ربما يصيبنا من ذلك ضرر؟ A إذا لم يترتب على ذلك ضرر أكبر فهذا مشروع، أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر فلا يجوز، فإن كان هدمها عن طريق المسئولين، أو عن طريق أهل الحسبة، أو من له قدرة وسلطة، ولم يترتب على ذلك ضرر أكبر فإنه جائز. وإن من أجل القربات وأفضل الطاعات هدمها وإزالتها إذا كان لا يترتب على هذا ضرر؛ لأنه قد تزال هذه العين ثم يجعل غيرها، وتنصب معابد أكبر منها، كردة فعل، وهذا يترتب عليه منكر أكبر، فبعض الناس إذا أنكرت عليه المنكر زاد في منكره. فإذا كان لا يحصل ضرر أو منكر أكبر فهدمها طيب مشروع، وإن كان يحصل من ذلك ضرر أو منكر أعظم فلا تفعل، ولابد من المشاورة في هذا مع العقلاء في تلك الديار، والعلماء والسمحاء وأهل الخير، وإن كان هناك بعض المسئولين فيه خير فلا بد من التشاور معه، وكذلك إقناعه وأخذ رأيه وبيان عظم هذا الأمر، فيكون ذلك عن طريق الولاة الصالحين، أو طريق العلماء الصالحين، أو العقلاء، أو أعيان البلاد، فلابد من البصيرة في هذا الأمر، والنظر في عواقب الأمور.

حكم الأمر بحلق الشعر في المدارس ونحوها

حكم الأمر بحلق الشعر في المدارس ونحوها Q ما حكم حلق الطلاب الشعر إذا طلبت منهم المدارس ذلك، وحلق الجند في الدورات العسكرية؟ A هذا ليس فيه شيء، أما الصوفية فهم يحلقون رءوسهم تعبداً للشيخ وتقرباً إليه، أما حلق الرأس فهو مباح، والأفضل إبقاء الشعر. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترك شعره حتى يكون كالوفرة إلى كتفه أو إلى أذنه، ولا يحلق إلا في الحج أو العمرة، قال الإمام أحمد: هو سنة بقاء الشعر، لو نقوى عليه لاتخذناه، ولكن له كلفة ومشقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان له شعر فليكرمه) أي: يحتاج إلى غسل ودهن، فحلقه مباح على الصواب، وقال بعض العلماء بكراهته. لكن إذا كان إبقاؤه فيه تشبه ببعض الفساق والعصاة فعليه أن يحلقه حتى لا يتشبه بهم، والمقصود أن هذا لا محذور فيه، إنما المحذور الذي يفعله الصوفية، بأن يحلق الواحد رأسه تعبداً للشيخ وتقرباً، كما يتعبد الحاج بحلق شعره في العمرة أو في الحج، فإن حلق رأسه نسك من مناسك الحج والعمرة.

حكم تقديم المذاهب على النصوص

حكم تقديم المذاهب على النصوص Q هل يدخل في شرك الطاعة ما يفعله المتعصبون للمذاهب المعروفة من رد النصوص المخالفة لمذهبهم مع وضوحها؟ A قال بعض العلماء: إن هذا شرك، وهو أن يتعصب للمذهب حتى يترك نصاً من الآية أو الحديث لقول الشيخ أو إمامه، قال بعض العلماء: يخشى أن يكون هذا داخلاً في الشرك، حتى قال بعض متعصبي الأحناف: كل آية أو حديث يخالف المذهب فهو منسوخ أو متأول. فانظر إلى هذا التعصب، كل نص يخالف المذهب فهو متأول أو منسوخ! يعني: من دون تأمل، ومن دون تفكير، أي آية تخالف المذهب إما منسوخة أو متأولة، وأي حديث يخالف المذهب إما منسوخ وإما متأول. فجعل المذهب هو الأصل، والنصوص من الآيات والأحاديث تخضع للمذهب، والواجب العكس، والأصل هو الدليل من الآيات والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والمذهب يخضع للآيات، فإذا وافق المذهب النص أخذ بالمذهب، وإن لم يوافقه ترك وطرح. لكن هؤلاء المتعصبين عكسوا الأمر فقالوا: الأصل المذهب، وإذا جاء نص يخالف المذهب فهو إما منسوخ أو متأول، وهذا من البلاء ومن المصائب. قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم تعلم علم الأوراق

حكم تعلم علم الأوراق Q ما حكم من يتعلم علم الأوراق -كالجدي والميزان وما نراه في المجلات- بأن يدعي وصف حالة صاحب هذا البرج، وهل يجوز اقتناء الجرائد والمجلات التي تحتوي على هذه الأشياء؟ A إذا كان يتعلمها لدعوى علم الغيب، أو يتعلمها ليستدل بها على السعادة أو الشقاوة والنحاسة، أو المرض؛ فهذا من علم التنجيم، أما إذا كان يتعلم الحروف الأبجدية حتى يتهجاها ويكتبها بالجمل لمعرفة وفيات الأئمة والعلماء، فلا بأس بأن يتعلم هذه الحروف الأبجدية. أي: إذا كان يتعلم أن الألف واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، حتى يصل إلى عشرة، ثم الكاف عشرين فلا بأس بذلك، فإن بعضهم ضبط وفيات الأئمة الأربعة بالحروف الأبجدية، فقال: فنعمانهم (قان) و (طعق) لمالك وللشافعي (در) و (رام) لابن حنبل فـ أبي حنيفة النعمان (قان)، فالنون أربعون، والقاف مائة، والألف واحد، أي أن وفاته في مائة وواحد وأربعين، و (طعق) لـ مالك فالطاء تسعة، والعين سبعون، والقاف مائة، أي: في مائة تسعة وسبعين، وللشافعي (در)، فالدال أربعة، والراء مائتان، فوفاته في مائتين وأربعة، و (رام) للإمام أحمد، فالراء مائتان، والألف واحد، والميم أربعون، فوفاته في مائتين وواحد وأربعين. فهذا ضبط وفيات الأئمة بالحروف الأبجدية، ولا بأس إذا كان يستعملها لهذا، لضبط الوفيات، أو لولادة بعض العلماء، أو للتهجي، أما إذا كان يتعلمها ليدعي بها علم الغيب، أو ليعرف بها النحاسة والتعاسة، والسعادة والشقاوة، ويعرف حظه أو ما أشبه ذلك، فهذا من التنجيم المحرم.

الشرك التقليدي والشرك المتطور

الشرك التقليدي والشرك المتطور Q هل تسمى عبادة القبور والذبح لها شركاً بدائياً أو ساذجاً؟ A الشرك محرم، والشرك شرك، وتسميته بدائياً أو ساذجاً تسمية خاصة بقائلها، ومقصوده أن هذا شرك الأولين، أما شرك المتأخرين فلأنهم يعبدون الأشخاص، والرؤساء، أو النساء، أو الصور، وهذا هو الشرك المتطور، أما الطواف بالقبور والذبح لها فشرك بدائي، وهذا اصطلاح له، والتسمية لا تغير من الأمر شيئاً.

حكم قصود مياه العيون للاستطباب

حكم قصود مياه العيون للاستطباب Q توجد عين يذهب إليها الناس، فيغتسلون بها، ويلقون ثيابهم بعد ذلك، وقصدهم بذلك التطبب، وعامة من يأتيها من العوام، فهل ينكر عليهم ذلك، وما حكم ذلك؟ A نعم ينكر عليهم ذلك إذا كانوا يعتقدون أن فيها الشفاء لذواتهم، فهذا من جنس التبرك، فإذا اعتقدوا أن البركة فيها ذاتية فهذا هو الشرك الأكبر. أما إذا كان يعتقد أنها سبب، وأن الله يجعل فيها الشفاء؛ فهذا شرك أصغر، لكن بعض الناس يقول: إن فيها مواد مالحة، وإنها تفيد من هذه الجهة، لا لأنها شافية، ولا لأنها سبب، بل يستفاد من الأملاح التي فيها، أو المعادن التي فيها، فهذا شيء لا بأس به.

تقديم بر الوالدين على الجهاد الكفائي

تقديم بر الوالدين على الجهاد الكفائي Q أنا شاب عمري ستة عشر عاماً، وأنا متعلق بالجهاد، ووالداي يمنعاني منه، وحب الجهاد يزداد في قلبي شيئاً فشيئاً، فماذا أفعل لوالدي حتى أقنعهما بالذهاب إلى الجهاد؟ A الحمد لله، مادام أنهما منعاك فلتمتنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)؛ لأن الجهاد فرض كفاية، وبر والديك فرض عين، ففرض العين مقدم على فرض الكفاية. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وفق الله الجميع لما يرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

[10]

دروس في العقيدة [10] حذر الإسلام من الشرك وأهله، وسد كل الأبواب والذرائع الموصلة إليه، ووجه أتباعه إلى الاهتمام بالعقيدة الصحيحة ومحاربة السحرة والكهنة والمشعوذين وغيرهم، وحذر من إتيانهم فضلاً عن تصديقهم، وتوعد فاعل ذلك وسائله ومصدقه بالوعيد الشديد إن ماتوا على حالهم قبل التوبة.

أمثلة الشرك وأنواعه

أمثلة الشرك وأنواعه

الشرك في الكهانة

الشرك في الكهانة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الحديث لا يزال موصولاً عن أمثلة الشرك وأنواع الشرك في العبادة التي تنافي التوحيد، وقد استعرضنا فيما سبق بعض الأنواع والأمثلة، ومن الأمثلة والأنواع للشرك في العبادة: الشرك في الكهانة. والكهانة: هي ادعاء علم الغيب مع الاستناد إلى سبب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، فالكهان هم الذين يخبرون عن المغيبات في المستقبل من الزمان، ويأخذون عن مسترق السمع من الشياطين. والأصل في الكاهن أنه يأخذ عن مسترق السمع من الشياطين، والشيطان يلقي الكلمة في أذن الكاهن فيأخذها، فالكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وهو الذي يدعي علم الغيب عن طريق الاتصال بالشياطين والجن، فيتخذ له قريناً من الجن يأتيه ويخبره. وقد كثر الكهان قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف في كتب التاريخ وكتب السير. والكهانة التي عن طريق الاتصال بالشياطين شرك بالله عز وجل من جهتين: من جهة تقرب الكاهن إلى الوسائط التي يستعين بها على العلوم الغيبية بما هو من خصائص الله، فيتقرب إلى الشيطان بما يحب من الشركيات، فإما أن يدعوه، وإما أن يذبح له، وإما أن يفعل غير ذلك. والجهة الثانية: دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، فالكاهن يدعي علم الغيب فيكون كافراً، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وقال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، فالكاهن الذي يتصل بالشياطين كافر من جهتين: من جهة تقربه إلى هذه الوسائط التي يستعين بها على دعوى علم الغيب، ومن جهة ادعائه لعلم الغيب. والكاهن قد يسمى العراف، ولهذا قال البغوي رحمة الله: العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بالمقدمات، فيستدل بها على المسروق ومكان الضالة، وقيل: هو الكاهن, والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يدعي معرفة الأمور بهذه الطرق. وعلى كل حال فإنه يجمع هؤلاء شيء واحد، وهو دعوى علم الغيب، فمن ادعى علم الغيب فهو كافر، لكن إن كان دعوى علم الغيب عن طريق الإخبار عن المغيبات في المستقبل سمي فاعل ذلك كاهناً، وإن كانت عن طريق عقد العقد والنفث فيها والاستعانة بالشياطين سمي فاعل ذلك ساحراً، وإن كانت عن طريق الاستدلال على معرفة المسروق ومكان الضالة سمي فاعل ذلك عرافاً, وإن كانت عن طريق النظر في النجوم والاستدلال بها على علم الغيب سمي فاعل ذلك منجماً، وإن كانت عن طريق الخط في التراب أو الضرب بالحصى سمي فاعل ذلك رمالاً. وكل من ادعى علم الغيب فإنه يكون كافراً بأي طريق، سواء عن طريق العقد والنفث فيها، أو عن طريق الإخبار عن المغيبات في المستقبل، أو عن طريق ادعاء معرفة الأمور التي يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، أو عن طريق الإخبار عما في الضمير، أو عن طريق النظر في النجوم، أو عن طريق الخط في التراب أو الرمل أو الضرب بالحصى، أو عن طريق فتح الكتاب وإحضار الجن، أو عن طريق القراءة في الكف أو القراءة في الفنجان، فإذا ادعى علم الغيب بأي طريقة من هذه الطرق فإنه يكون كافراً مشركاً؛ فإن دعوى علم الغيب كفر أكبر وشرك أكبر، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم سؤال الكاهن وتصديقه

حكم سؤال الكاهن وتصديقه وقد ورد الوعيد الشديد على من أتى إلى الكاهن وسأله أو صدقه، فقد ثبت في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وهذا وعيد شديد إذا سأله ولم يصدقه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود وغيرهم, فإذا كان هذا حال السائل والمصدق فكيف بحال الكاهن نفسه؟! إذا كان السائل الذي يسأل الكاهن جاء في حقه هذا الوعيد فكيف بحال الذي يُصدَّق؟! فإذا سأله ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً؛ لأن سؤاله ميل إليه، ولأن سؤاله رفع لشأنه واهتمام به، ولا يجوز للإنسان أن يهتم بالكاهن، ولا أن يرفع من شأنه، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليسوا بشيء) أي: أخبارهم لا يوثق بها. وما يأخذه الكاهن على كهانته وما يأخذه الساحر على سحره سحت حرام، وليس بحلال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكهان خبيث)، ومهر البغي: ما تعطاه الزانية من أجرة على زناها، فهذا خبيث وسحت، وثمن الكلب خبيث، فالكلب لا يباع ولا يشترى، حتى ولو كان كلب صيد أو ماشية، ويجوز أن يقتنى كلب الصيد أو الماشية أو الحرث، لكن لا يباع، وإنما يهدى فقط، أما أن يُعطي من أجله ثمناً فليس للكلب ثمن، ولو كان كلباً أذن الشارع باقتنائه وهو كلب الصيد والماشية والحرث، لكن لو أعطاه كرامة وهدية من دون اشتراط ثمن فلا بأس. وحلوان الكاهن: أجرته على الكهانة، سمي حلواناً لأنه يأكله حلواً بدون تعب ولا مشقة، فالذي يأتي الكاهن ويسأله جاء في حقه هذا الوعيد، بأنه لن تقبل له صلاة أربعين يوماً؛ لأنه رفع من شأن الكاهن، وهو خبيث يدعي علم الغيب ويدعي مشاركة الله في علمه، فكيف تأتي إليه وترفع من شأنه وتهتم به؟! ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم قال: (ليسوا بشيء). أما إذا أتاه وصدقه ففيه وعيد آخر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما نزل على محمد) صلى الله عليه وسلم، واختلف العلماء في المراد بالكفر، فقال بعض العلماء: قد كفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، وتوقف آخرون من أهل العلم، فقالوا: نتوقف فلا نقول: إنه كفر أكبر أو كفر أصغر، والصواب أنه كفر أكبر إذا صدق دعوى الكاهن في دعوى علم الغيب؛ لأنه مكذب لله في قوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، هذا إذا صدقه في دعوى علم الغيب، أما إذا صدقه في قضية معينة، كأن يحتمل أن تكون هذه الكلمة سمعت من السماء، أو صدقه في شيء يتعلق بعلاج مريضه أو ما أشبه ذلك؛ فلا يعتبر كفراً أكبر، لكن إذا صدق الكاهن في دعوى علم الغيب فإنه يكفر والعياذ بالله؛ لأنه مكذب للقرآن، فإذا كان هذا حال المصدق للكاهن والذي يأتي إلى الكاهن فكيف بحال الكاهن؟! فالكهنة كذبة كفرة.

كيفية استراق الشياطين السمع وإلقائه في آذان الكهان

كيفية استراق الشياطين السمع وإلقائه في آذان الكهان وقد جاء في الحديث بيان كيفية استراق الشياطين السمع وإلقائه في أذن الكاهن، ثم كذب الكاهن معه، قد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله يفزعهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيأخذها مسترق السمع) ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه، أي: فرق بين أصابعه، فالشياطين يكونون واحداً فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء من دون ملاصقة، فبعضهم يكون فوق بعض، ولا يلزم من ذلك الملاصقة، هكذا وصف سفيان ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض، والله تعالى يتكلم بالأمر، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. وفي حديث آخر: (إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة شديدة-، فإذا سمع الملائكة كلام الله صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله بوحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق، فيقولون: قال الحق، ويتحدث أهل السماء ويتحدث كل سماء بما تكلم الله به من الوحي، حتى يصل إلى أهل السماء الدنيا، فيتحدث أهلها فيسمع الجني) وربما كانت الملائكة في العنان في السحاب وتكلمت بالوحي، ثم يسمع مسترق السمع الشيطان الأعلى كلام الملائكة، والكلمة التي سمعت من السماء كلمة حق من الوحي، فيلقيها الشيطان الأعلى إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى تصل إلى الشيطان الذي في أسفل الأرض، فيلقيها الشيطان الذي في الأسفل في أذن الكاهن، فيقرقرها كقرقرة الدجاجة (قر قر قر)، والشهب تلاحق هؤلاء الشياطين، وتحرق هؤلاء الشياطين، وأحياناً يصل الشهاب إلى الشيطان الذي في الأسفل قبل أن يلقي الكلمة في أذن الكاهن، وأحياناً يلقيها قبل أن يدركه الشهاب، فمرة ومرة، فربما أدركه الشهاب وأحرقه قبل أن يلقيها في أذن الكاهن، وربما ألقاها قبل أن يحرقه، وهذا يدل على أن الشياطين كثيرون، وأنهم يتناسلون، وكل إنسان معه قرين. فإذا وصلت الكلمة إلى أذن الكاهن كذب معها مائة كذبة أو أكثر، ثم يحدث الكاهن الناس بهذا الكذب الكثير ومعه كلمة واحدة سمعت من السماء، فإذا وقعت هذا الكلمة التي سمعت من السماء صدق الناس الكاهن بجميع كذبه من أجل الكلمة التي سمعت من السماء، فيقول الناس بعضهم لبعض: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فوقع ذلك؟! فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، ويصدق في الكذب الكثير من أجل كلمة واحدة وقعت؛ لأنها سمعت من السماء. قال العلماء: وهذا فيه دليل على قبول النفس للشر والباطل، فكيف يصدقونه بالكذب الكثير من أجل واحدة؟! فلا يعتبرون بالكذب الكثير، ويعتبرون بواحدة، والحكم للأغلب والأعم، فواحدة سمعت من السماء ووقعت، ومائة أو أكثر كلهن كذب، ومع ذلك يصدق هذا الكاهن بجميع كذبه من أجل أنها سمعت من السماء. فإذاً: فالكهان كفار، وكانت للعرب قبيل البعثة في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه، فكثروا، ثم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم شددت حراسة السماء، وكانوا قبل البعثة يسترقون السمع كثيراً ويلقونه في آذان الكهان، والكهان يتكلمون ويكذبون، فانتشرت الخرافة والكذب والدجل والتلبيس والكفر والظلم والطغيان قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان الناس في ظلام دامس، وكانوا في أشد الحاجة وأشد الضرورة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وفي وقت الحاجة والضرورة إلى بعثته، ومن الله تعالى ببعثته على الناس وعلى هذه الأمة ورحمها به، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. إذاً: هؤلاء الكهنة كفار كذبة، فلا يجوز الإتيان إليهم، ولا يجوز الأخذ عنهم، ولا يجوز سؤالهم ولا يجوز تصديقهم، ومن سألهم لزمه الوعيد الشديد، فلم تقبل له صلاة أربعين يوماً، ومن صدقهم في دعوى علم الغيب فقد كفر، فالأمر جد خطير، وكثير من الناس يتساهلون مع هؤلاء المشعوذين وهؤلاء السحرة وهؤلاء الدجالين، ولا يجوز التساهل معهم، بل يجب على من عرف أحداً منهم أن يرفع به إلى ولاة الأمر حتى يحال إلى المحكمة الشرعية، ويقام عليه الحد، وقبل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقد مر معنا ذكر الخلاف في قبول توبة الساحر، والصواب أنه لا تقبل توبته في أحكام الدنيا، بل يقام عليه الحد، أما في الآخرة فأمره إلى الله, فالله تعالى يقبل توبة الصادق، فإن كان صادقاً في توبته فالله يقبل توبته، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين. فهؤلاء الكهنة وهؤلاء المشعوذون وهؤلاء الدجالون يجب التبليغ عنهم، ويجب إيصالهم إلى ولاة الأمور حتى يقام فيهم حكم الله عز وجل، والمشعوذ الذي يعالج الناس -ولو لم يدع علم الغيب، ولكنه يبتز أموال الناس ويضرهم- يجب تأديبه وتعزيره من قبل ولاة الأمر؛ حتى يرتدع عن ظلم الناس وإيذائهم والإضرار بهم وابتزاز أموالهم.

الشرك في التنجيم

الشرك في التنجيم ومن أمثلة الشرك في العبادة: الشرك بالتنجيم. والتنجيم: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فيستدل بالأحوال الفلكية على شيء يقع في الأرض، أو: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الحوادث والكوائن التي لم تقع، مستندين في ذلك إلى علم النجوم، كاستدلالهم على أوقات هبوب الرياح، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار، ومجيء الحروب، وقيام الدول وزوالها، وموت عظيم أو ولادة عظيم، أو ما أشبه ذلك، فيستدلون على هذه الحوادث بالنجوم وينظرون فيها، ويستدل بها على وقوع حرب، أو غلاء أسعار، أو نزول مطر، أو ولادة عظيم، أو زوال عظيم، أو قيام دولة أو زوال دولة، أو ما أشبه ذلك، مستندين في ذلك إلى علم النجوم.

أقسام علم التنجيم

أقسام علم التنجيم علم التنجيم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ادعاء أن الكواكب فاعلة مختارة، وأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات، وأن الحوادث مركبة من تأثيرها، وهذا كفر بإجماع المسلمين وشرك أكبر بالله العظيم من غير خلاف، وهذا الشرك هو الذي وقع فيه الصابئة عباد الكواكب، وهم الذين بعث فيهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل السلام وأتم التسليم، وهذا شرك أكبر، وهو شرك في الربوبية. القسم الثاني: الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها، ويقولون: إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، وإن الله هو المسير وهو المقدر، لكن يستدلون على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب، فإذا سارت الكواكب أو اجتمعت أو افترقت استدل بذلك على وقوع حرب في الأرض، أو زوال دولة أو قيام دولة، أو ولادة عظيم أو موت عظيم، أو وقوع المطر، أو تغير الأسعار، أو ظهور الحر والبرد، أو هبوب رياح عظيمة، أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء يقولون: هذا بمشيئة الله وقدرته، وهو الذي خلق ذلك وأوجده وسيره، لكن يستدلون على ذلك بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها، فإذا سارت الكواكب أو اجتمعت أو افترقت استدل بها على حادث يقع في الأرض، وهذا -أيضاً- كفر وشرك أكبر؛ لما فيه من دعوى علم الغيب؛ لأن صاحبه يدعي علم الغيب. وهذا اقتباس من النجوم، وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)، فكلما زاد في تعلم علم النجوم زاد في اقتباس السحر. وقد اختلف المتأخرون في حكم متعلم هذا النوع، والصواب الذي ينبغي القطع به أنه كافر، فمن استدل على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها فهو كافر؛ لما فيه من دعوى علم الغيب، وقد نص الله سبحانه وتعالى على أنه لا يعلم الغيب إلا هو سبحانه فقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] ومن ادعى علم الغيب كفر، ومسير الكواكب واجتماعها ليس دليلاًُ على علم الغيب، فإنه لا يعلم الغيب إلا عن طريق الأنبياء والرسل، فما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم من علم الغيب قبلناه وصدقناه، أما الاستدلال على علم الغيب بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها فهو كفر أكبر، نسأل الله السلامة والعافية. وهذان النوعان والقسمان من علم التنجيم يسميان عند العلماء بعلم التأثير. النوع الثالث من علم التنجيم: علم التسيير، فيكون علم التنجيم قسمان: علم التأثير وهو قسمان كما سبق، والثالث: علم التسيير، وهو الاستدلال بمنازل الشمس والقمر على معرفة القبلة، ومعرفة الزوال ليعلم به وقت دخول الظهر، ومعرفة فصول السنة، أو الاستدلال به على معرفة أوقات البذور من الفلاحين، ومعرفة الطرق في البر أو في البحر حتى يستدل بها المسافرون، كأن ينظر في النجوم فيعرف النجم القطبي؛ لأن النجم القطبي نجم ثابت في جهة الشمال، وإذا تحددت جهة الشمال تحددت بقية الجهات، فيعرف المسافر الطريق ويمشي، ويستدل بالنجوم على معرفة سيره، فيعرف في أي جهة هو، وينظر إلى النجم القطبي فيستدل به، سواء أكان في البر أم في البحر، فهذا جائز عند جمهور العلماء، وهو الصواب، وهو علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر، وشيء يخبرك به الثقات، فتُعلم به جهة القبلة، ويعلم به وقت الزوال وأوقات الصلوات، ويعلم به معرفة الطرق، ويهتدي به المسافرون في البر أو في البحر، ويعرف به فصول السنة، فيعرف فصل الربيع وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الصيف، وتعرف أوقات البذور؛ لأن البذر يختلف، فهناك بذر في وقت الصيف، وبذر في وقت الشتاء، وبذر في وقت الخريف، فتنظر في النجوم حتى تعرف أوقات البذر، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهو الصواب، قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5]. فهذا يسمى علم التسيير عند أهل العلم، وهو تعلم منازل الشمس والقمر، والنظر في النجوم؛ ليستدل بذلك على معرفة جهة القبلة حتى يصلي المرء، أو يستدل بذلك على معرفة زوال الشمس، فإذا كانت الشمس أمامك فإنه تصلي، وإذا كانت بين الحاجبين فوقع وقت العصر فإنك تصلي، وتنظر في الشمس حتى تعرف جهة القبلة، وتعرف وقت الزوال، وتعرف أوقات فصول السنة، وأوقات البذر للفلاحين، وطرق المسافرين في البر أو في البحر أو في الجو، فالطيار في الجو قد يستدل بالنجوم، فهذا جائز عند جمهور العلماء، وهو الصواب. وذهب بعض العلماء إلى المنع منه، ومنهم قتادة بن دعامة السدوسي وسفيان بن عيينة، ذكر ذلك حرب الكرماني في مسند الإمام أحمد عنهما، وأنهما منعا من علم التسيير. ورخص في تعلم المنازل الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق بن راهويه، وهو رأي جمهور العلماء وهو الصواب. أما القول بأنه ممنوع فهو قول ضعيف؛ لأنه لا محذور فيه، ولأن الحاجة ماسة إلى معرفته، ولأن الفائدة ظاهرة، بل قد يضطر الإنسان إلى معرفته، بل قد يؤمر الإنسان بالنظر في الشمس والقمر والنجوم حتى يعرف جهة القبلة إذا أراد أن يصلي، ويعرف وقت الزوال، وكذلك المسافر ينظر في النجوم حتى يعرف جهة سيره في البر أو في البحر، وهذه فائدة محضة لا محذور فيها، ولهذا يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله مبيناً خلاف العلماء في هذا: والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير؛ فإنه باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لا حاجة إليه؛ لشغله عما هو أهم منه، وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، كما هو واقع من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً، وذلك يفضي اعتقاده إلى خطأ المسلمين في صلاتهم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله. إذاً: الحافظ ابن رجب رحمه الله يحكي الخلاف في هذا، ويقول: المأذون في تعلمه علم التسيير، أما علم التأثير فإنه باطل محرم قليله وكثيره، وقد سبق أن علم التأثير ينقسم إلى قسمين: إدعاء أن الكواكب فاعلة مختارة، أو ادعاء علم الغيب عن طريق سير الكواكب واجتماعها وافتراقها. قال: وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق، ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لا حاجة إليه، لشغله عما هو أهم منه، فكون الإنسان يتعمق في معرفة منازل الشمس والقمر والنجوم شيء زائد عن الحاجة يشغل عما هو أهم. قال: وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، كما هو واقع من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً، وذلك يفضي اعتقاده إلى خطأ المسلمين في صلاتهم. وهذا واقع الآن، فبعض الناس يتشدد إذا أراد أن يحدد جهة القبلة بالبوصلة بالشعرة، فيقول: هذه جهة القبلة، حتى إن بعض الناس قال: إن كثيراً من المساجد الآن مائلة عن جهة القبلة؛ لأنه ينظر إلى البوصلة بالدقة، وهذا تشديد لا وجه له؛ لأن ما بين الشمال والجنوب قبلة والحمد لله، وما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة ونحوهم، فالميل اليسير والانحراف لا يضر، فإذا كانت القبلة عندنا في مدينة الرياض على أربعة عشر، فمالت القبلة إلى خمسة عشر أو ثلاثة عشر فذلك لا يضر. يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: إن التعمق وتدقيق النظر في علم التسيير قد يؤدي إلى محذور، وهو إساءة الظن بمحاريب المسلمين، كما هو واقع من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً، فبعض الناس يتعمق وينظر إلى القبلة بالشعرة، فيرى القبلة مائلة عن أربعة عشر فيقول: القبلة مائلة، والقبلة ليست بصحيحة، هذا معنى قول الحافظ ابن رجب: وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين، وذلك يفضي اعتقاده إلى تخطئة المسلمين والعلماء السابقين والمسلمين في صلاتهم، يقول: مضت مئات السنين أو مائة سنة والمسجد هذا مائل عن القبلة، فالمسلمون الذين سبقوا أخطئوا في صلاتهم، هذا مراد الحافظ ابن رجب رحمه الله. إذاً: لا ينبغي التشدد في مثل هذا، فقد قال بعض الناس: كل المساجد القديمة مائلة عن جهة القبلة، وهذا غلط، فليست مائة عن جهة القبلة؛ إذ القبلة ما بين الجهتين، والميل اليسير لا يضر، إنما الذي يضر أن تستقبل الشمال أو تستقبل الجنوب وتنحرف انحرافاً واضحاً، أما كون الإنسان يقول: أن القبلة بالدقة وبالشعرة والدبوس لا تميل عن أربعة عشر فهذا غلط. وعلى كل حال فإن هذه النجوم خلقها الله سبحانه وتعالى وجعلها علامات يهتدى بها، كما قال الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] وخلقها الله زينة للسماء ورجوماًَ للشياطين، فلا ينبغي للإنسان أن يتجاوز هذا الحد ويستدل بها على دعوى علم الغيب، فهذا باطل، بل كفر وردة، ولهذا قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف مالا علم له. وهذا كلام سديد وجيد، وهذه الثلاث التي ذكرها قتادة رحمه الله دل عليها القرآن، فهي زينة للسماء ورجوم للشياطين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، فهذان أمران، وعلامات يهتدى بها، قال الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، فهذه الحكمة من خلق النجوم: زينة ل

الأسئلة

الأسئلة

حكم علاج السحر بالسحر

حكم علاج السحر بالسحر Q رجل صالح ابتلي بإصابة زوجته بالسحر، فعالجها بالرقية الشرعية فترة من الزمن عند كثير من القراء الصالحين، ولكنها لم تشف، وتراوده نفسه بعلاجها عند بعض السحرة؛ لأنهم قد ضمنوا له علاجها، وقد قيل له: يجوز ذلك عند الضرورة القصوى، فما رأيكم؟ A الذي أنصح به هذا السائل ألا يذهب إلى السحرة، وعليه أن يكرر العلاج بالقرآن والأدوية والدعوات المباحة والمشروعة، مع التضرع إلى الله والابتهال إليه وسؤاله العافية والشفاء، فإن الشفاء بيد الله، وهذا ابتلاء وامتحان، وعليه الصبر والتحمل، والمرض يكفر الله به السيئات ويرفع به الدرجات. ومعلوم أن النشرة -وهي حل السحر عن المسحور- نوعان كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله: نوع جائز ونوع محرم، وفي هذا تجتمع النصوص؛ فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وقال الحسن رحمه الله: لا يحل السحر إلا ساحر. وقال قتادة: قلت لـ ابن المسيب: رجل به طب أو يؤخر عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلا ينهى عنه. فهذه النصوص وهذه الآثار في بعضها جواز النشرة، وفي بعضها المنع من النشرة، والجمع بينهما: أن ما ورد من الآثار والنصوص في المنع محمول على النشرة المحرمة، وهي النشرة التي من عمل الشيطان التي تكون عن طريق الذهاب إلى السحرة، ولهذا قال الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان)، وقال ابن المسيب لـ قتادة لما سأله: رجل به طب أو يؤخر عن امرأته -يعني: يدخل على امراته فلا يصل إلى جماعها- أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلا ينهى عنه. فهذا محمول على النشرة الجائزة، ولهذا قال العلامة ابن القيم رحمه الله: النشرة نوعان: النوع الأول: محرم، وهو أن يعالج عن طريق حل السحر عن الساحر، وهو حله عن طريق الإتيان إلى السحرة؛ لأنه يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، وهذا طريق مسدود ومحرم؛ لأن الناشر والمنتشر يتقرب إلى الشيطان بما يحب من الشركيات فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة عن طريق الرقية الشرعية، وقراءة القرآن، والأدوية المباحة، والدعوات التي لا محذور فيها. فالسائل أنصحه أن يداوم على النشرة الشرعية، وليحذر من الإتيان إلى الكهنة والسحرة، وعليه أن يصبر ويحتسب ويتضرع إلى الله ويبتهل إليه في شفاء مريضه، وعليه مع ذلك أن يستعمل الأسباب الشرعية، وهذه من المصائب التي قدرها الله، وهي خير للمؤمن، تكفر بها السيئات، وترفع بها الدرجات، وقد ورد في الحديث الصحيح أن المؤمن يكون له الدرجة العالية من الجنة لا يبلغها بكثير عمل، وإنما بالمصائب التي أصيب بها واحتسب، وإذا رضي بالمصيبة صار له ثواب أعظم، وإذا اعتبرها نعمة وشكر الله عليها صار من عباد الله الخلص. فالناس حينما تنزل بهم المصائب والنكبات يكون على أقسام: القسم الأول: من يجزع ويتسخط، ويفعل ما حرم الله، ويلطم الخد ويشق الثوب، وينتف الشعر، ويدعو بالويل والثبور، فهؤلاء تسخطوا ولم يصبروا، فتركوا الصبر وهو واجب، ومن ترك الواجب فإنه يأثم، ولهذا جاء في الحديث: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) والسربال: ثوب من قطران، حتى يكون اشتعال النار به أشد، وتكسى ردعاً من جرب، ثم تشعل فيه النار والعياذ بالله، لأنها ناحت ولم تصبر، وإنما تسخطت، وهذا متسخط حصل على الإثم والوزر. القسم الثاني: من يصبر عند المصيبة، والصبر هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشفي، وحبس الجوارح عن فعل ما لا يرضاه الله، فلا يلطم خداً ولا يشق ثوباً، ولا ينتف شعراً، بل يصبر ويحتسب، فهذا أدى ما عليه. والقسم الثالث من الناس: من يصبر ويرضى, فيرضى بقضاء الله وقدره؛ لما يعلم من ترتب الأجر والثواب العظيم، فهذا له أجر الصابرين وله أجر الراضين، فتراه يصبر ويرضى ويشكر الله على هذه المصيبة، ويعتبرها نعمة، ولا فرق عنده بين المصيبة وبين غيرها، فهي نعمة يشكر الله عليها حيث قدرها عليه؛ ليرفع درجاته، ويكفر سيئاته، ولا يقوى على هذا ولا يصل إلى هذه الدرجة إلى عباد الله الخلص الصابرون الراضون الشاكرون لله. فنصيحتي لهذا السائل أن يصبر ويحتسب، ويتضرع إلى الله كثيراً ولا ييأس، وليكرر النشرة الشرعية من دعوات وآيات من القرآن وتعويذات شرعية، ولا ييأس، بل يصبر ويحتسب، وليكثر من دعاء الله وسؤاله الشفاء والعافية، ومن صدق مع الله فالله تعالى يصدقه, وربما كان في وقوع ذلك خير له، فقد ثبت في الحديث: (ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خلال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما يصرف عنه من الشر مثلها) أو كما جاء في الحديث، فهو على خير، سواء أجيبت دعوته، أو صرف عنه من الشر ما هو أعظم منها أو مثلها، أو أعطي من الخير ما هو أفضل، (قالوا: يا رسول الله! إذاً: نكثر؟ قال: الله أكثر) أي: الله أكثر عطاءً. إذاً: نكثر من الدعاء، وما دام أن الإنسان دعا بخير فلم يكن في دعوته إثم ولا قطيعة رحم فقد وجدت الشروط، فهذا إما أن تجاب دعوته، وإما أن يعطى من الخير ما هو أفضل، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم. فأنت -يا أخي- عليك أن تصبر وتحتسب وتكثر من التضرع والدعاء، وأنت على خير عظيم، وإياك أن تذهب إلى السحرة والمشعوذين، فإن هذا طريق مسدود ممنوع شرعاً.

حكم القيافة

حكم القيافة Q هل الذين يعرفون الأثر يعتبرون عرافين؟ A العراف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: العراف الذي يدعي معرفة الأمور في المقدمات، فيستدل بها على مكان المسروق ومكان الضالة، ويدعي علم الغيب، فهذه هي العرافة الممنوعة، وفاعلها يدعي علم الغيب. والثاني: العراف من القافة الذي يعرف الشبه، ويعرف الأثر، وهذا ليس داخلاً في ذلك، وقد كانت العرب تعرف هذا. وقد ثبت أن أسامة بن زيد وأباه زيد بن حارثة كانا ملتحفين بقطيفة، وقد بدت رجلاهما الأربع، وأحدهما رجلاه بيضاوان، والآخر رجلاه سوداوان، ومعلوم أن زيداً أنجب أسامة، لكنه خالفه في اللون، فطعن الناس في نسب أسامة، فقالوا: ليس أسامة ابناً لـ زيد؛ لأن اللون مختلف، فدخل مجزز المدلجي، وكان رجلاً يعرف القافة والشبه، وهو لا يدري من هذان اللذان التحفا بالقطيفة، وغطيا جسميهما ورأسيهما ولم يبد منهما إلا الأرجل، فقال مجزز المدلجي: إن هذه الأرجل بعضها من بعض، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه على عائشة، وقال يا عائشة: (ألم تري إلى مجزز المدلجي؟! دخل فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) تأييداً له، فهذا دليل على أن الإسلام يعتبر القافة والشبه، والأصل أن الولد للفراش، فالطعن بغير دليل لا يعتبر، فهذا مؤيد. وكذلك بعض الناس يعرف أثر القدم في الأرض، فهذه خاصية أعطاها الله لبعض الناس، وهي قوة معرفة، فليست من هذا الباب، إنما الممنوع العرافة التي يستدل بها على دعوى علم الغيب.

حكم اعتقاد تسبب تحول النجوم في إحداث تغير الجو

حكم اعتقاد تسبب تحول النجوم في إحداث تغير الجو Q عندما يحدث أحياناً تغير في الجو من رياح وغبار يقول بعض العامة: إن هذا بسبب دخول نجم أو خروج نجم، وهو لا يعتقد أن لهذا النجم تأثيراً، ولكن يجعل هذا علامة وسبباً، فما حكم ذلك؟ A قد يقال: إن هذا من جنس معرفة فصول السنة، وإن المراد أن الله أجرى العادة، وأنه إذا طلع النجم الفلاني فقد دخل الفصل الثاني، لكن كونه يقول: إن هذا سبب غلط، فلا ينبغي أن يعتبر هذا بسبب النجم، فالسببية هذه ممنوعة، لكن كونه يتعرف على النجوم وعلى فصول السنة، ويعرف أنه في هذا الوقت يدخل فصل الربيع أو فصل الخريف أو فصل الشتاء، ويكون الجو بارداً، وأن الله تعالى أجرى العادة بهذا، فهذا لا بأس به، لكن حين يقول: بسبب كذا فالسببية هذه لا ينبغي له أن يقولها، فلا ينبغي أن يجعل النجم هو السبب، وإنما الله تعالى هو الذي جعل ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى جعل علامات لفصول السنة، وطلوع النجوم وغروبها، أما السببية فلا ينبغي ذكرها، وسيأتي أن من قال: (مطرنا بنجم كذا)، إذا كان يعتقد أن الله أجرى العادة بنزول المطر عند طلوع النجم أو غروبه فهذا من الشرك الأصغر، فلا ينبغي أن يكون هذا بسبب النجم، لكن كونه يعرف الفصول ويتعرف على النجوم، ويعرف أنه دخل الفصل الفلاني، وهذا وقت البدر، وإذا طلع النجم الفلاني أو النجوم الفلانية دخل فصل الربيع أو فصل الشتاء أو فصل الخريف، من دون أن يقول: هذا سبب، فهذا لا بأس به.

حكم دراسة علم الفلك

حكم دراسة علم الفلك Q ما حكم دراسة علم الفلك؟ A إن كان يدرس فيه علم التسيير فلا بأس، أما علم التأثير فهذا حرام، وإن كان يدرس ليستدل به على دعوى علم الغيب أو اعتقاد أن النجوم لها تأثير في الأرض فهذا شرك، أما إذا كان يدرس علم التسيير ليتعرف به على وقت الزوال أو وقت القبلة أو وقت البذر ونحو ذلك، فهو علم جائز، وعلم التأثير محرم باطل -كما قال الحافظ ابن رجب - قليله وكثيره.

حكم قراءة الأبراج في الصحف والمجلات وحكم تصديقها

حكم قراءة الأبراج في الصحف والمجلات وحكم تصديقها Q هل من قرأ في باب الأبراج والحظ في الصحف والمجلات لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإذا صدقها فهل يكفر؟ A إذا صدقهم في دعوى علم الغيب يكفر، أي: إذا صدقهم في دعوى علم الغيب وأن هذه الأبراج سبب في الحظ وسبب في السعادة أو التعاسة، أو سبب في طول العمر وفي كثرة المال، أو أن هذا البرج الفلاني إذا طلع يكون حظ الإنسان سعيداً أو تعيساً، فمن ادعى ذلك أو صدق من يقول ذلك كفر؛ لأن هذا دعوى لعلم الغيب وتصديق في دعوى علم الغيب، وهذا معناه تنجيم، ومن قال ذلك فهو منجم، من قال: إذا طلع النجم الفلاني حصل لفلان حظ وحصل له سعادة، أو طال عمره، أو كثر رزقه، أو حصل له مال، فهذا منجم كافر، ومن صدقه في دعوى علم الغيب فهو كافر. أما إذا قرأها للرد عليها، أو للنظر وللعبرة في هذا، أو لإيصالها وتبليغها للعلماء حتى يردوا على القائل، أو للتعرف على خرافات هؤلاء المنجمين لا لتصديقها؛ فهذا لا بأس به، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ابن صياد -وكان دجالاً من اليهود- فقال: (ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب، فقال له: لقد خبأت لك خبأً، قال: هو الدخ. قال: اخسأ عدو الله، فلن تعدو قدرك)، أي: إنما أنت من إخوان الكهان، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يختل أن يسمع من ابن صياد قبل أن يراه، وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها رمرمة أو زمزمة، فرأت أمه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً، فقالت: أي صاف! هذا محمد، فثار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركته بين). فـ ابن صياد هذا سأله عليه الصلاة والسلام للتعرف على حاله والتحذير منه، ولهذا قال: (ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب) ثم قال في النهاية: (اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك).

بيان حال صلاة سائل الكاهن

بيان حال صلاة سائل الكاهن Q في الحديث أن من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فهل يترك الصلاة أربعين يوماً، أم يصلي وتكون صلاته بدون أجر؟ A لا يجوز للإنسان أن يترك الصلاة، بل عليه أن يصلي، لكن لا تقبل له صلاة من باب الوعيد، والمقصود أنه لا يثاب على صلاته أربعين يوماً، لكن صلاته مجزئة، ولابد من الصلاة، فيجب عليه أن يصلي، ولا أحد يقول: إنه لا يصلي، فيزيد الطين بلة، بل يؤمر بالتوبة والندم على ما مضى والاستغفار، وعدم الذهاب إلى الكهان، ويصلي ويتوب، ومن تاب تاب الله عليه، أما أن يترك الصلاة فهذا جهل عظيم، بل عليه أن يصلي ويتوب إلى الله، ويندم على ما مضى، ويعزم عزماً جازماً على أن لا يأتي الكهان ولا يصدقهم.

الموقف من تأثر العامة بالسحرة

الموقف من تأثر العامة بالسحرة Q يوجد في قريتنا شركيات كثيرة، وسحرة، وأخشى إذا ذهبت إليها أن يصيبوني بأذى، سواء بسحر أو بقتل أو غيره، علماً أنهم يعرفونني، فما واجبي تجاه العامة الذين تأصل فيهم تقديس هؤلاء السحرة؟ A الواجب عليك أن تتحصن بالأوراد الشرعية والأدعية والآيات من القرآن، فتقرأ بعد كل فريضة آية الكرسي، وتقرأها عند النوم، فإن من قرأها عند النوم لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه الشيطان حتى يصبح، فهؤلاء السحرة معهم شياطين، ولا يقربك الشيطان إذا صدقت مع الله، فتقرأها عند النوم، وتقرأها بعد كل فريضة كما ثبت في الحديث، وتقرأ (قل هو الله أحد)، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) بعد كل فريضة، وتقرأ هذه السور الثلاث بعد المغرب ثلاث مرات، وبعد الفجر ثلاث مرات، وعند النوم تقرؤها أيضاً، وتنفث بكفيك وتمسح وجهك ورأسك وما استطعت من جسدك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك عند النوم، وتتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، وتقول: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)، وتقرأ الآيتين من آخر البقرة في كل ليلة، وأبشر بالخير، ولن يضرك شيء. وعليك أن تعلم العامة أنهم سحرة وأنهم ليس بأيديهم شيء فالأمر بيد الله، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فلا يضرك شيء إلا شيء قدره الله عليك، فلا ينبغي للإنسان أن يكون جباناً رعديداً، بل تحصن بالأوراد الشرعية، وقو إيمانك بالله، وثق به وتوكل عليه، والله هو الحافظ وهو الواحد سبحانه وتعالى، وأفهم العامة ذلك، وبين لهم أن يعلقوا آمالهم وأن يثقوا بالله، وأن يتوكلوا على الله، وأن يتحصنوا بالآيات والأوراد الشرعية من شر هؤلاء الشياطين ومن غيرهم. فقوله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: جميع ما خلقه الله تستعيذ بالله من شره، وإلا فهناك بعض المخلوقات لا شر فيها، فالأنبياء والملائكة هم خير، فقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يعني: من شر المخلوقات التي فيها شر. وقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] أي: الليل إذا دخل؛ لأن أهل الشرور ينتظرون الليل فيظهرون، وتظهر شرورهم في ظلام الليل. وقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] أي: السواحر اللاتي يعقدن وينفثن في عقدهن، فاصدق مع الله، فإن هذه آيات عظيمة. وتقرأ قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6]. وكذلك آية الكرسي اقرأها بتدبر وتمعن، وفكر في معانيها، وثق بالله، وتوكل عليه، واعتمد عليه، ولن يضرك أحد إلا بشيء كتبه الله عليك لابد منه، فالقدرة والمشيئة ونفوذ القضاء والقدر لابد منه, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

حكم مصدق الكاهن الجاهل بالتحريم

حكم مصدق الكاهن الجاهل بالتحريم Q أصابني مرض نفسي، وبعد مدة جاء أخي بشخص وقال: إنه شيخ، فقال هذا الشيخ: إنني مصاب بعين، والذي أصابني بالعين أوصافه كذا وكذا، فذهب والدي إلى هذا الشخص الذي أصابني بالعين، فقال له: توضأ وأتى بوضوئه واغتسلت به، فهل أصبح أنا وأخي ووالدي ممن ينطبق عليهم الحديث، وهل علي ذنب وأنا لم أعلم ذلك إلا منك هذا اليوم؟ A إذا لم تعلم فالحمد لله، وعليك بالتوبة مع الاستغفار والندم، فلا لوم عليك؛ لأن الإنسان لا يكلف إلا بعد العلم، فعليك بالتوبة والندم، وفي المستقبل لا تذهب إلى هؤلاء الذين يدعون علم الغيب، فهذا الشخص مشعوذ، فكونه يقول: إن ذلك الشخص هو الذي أصابك ويجزم بدون دليل يدل على أنه مشعوذ في الغالب؛ لأنه ليس عنده دليل على هذا، إلا إذا كان قد حضر ورأى أو سمعه، لكن هذا رجل بعيد كما ذكرت وليس بقريب، وعلى كل حال فإنه إذا عُرف العائن فإنه يؤمر بالاغتسال، فيغسل أطراف القدمين وركبتيه ووجهه وداخلة إزاره، كما ثبت في الحديث أن رجلاً من الصحابة كان يغتسل فرآه عائن فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فعان الرجل وأصابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ استغسل له) أو كذا، والاستغسال معناه أن يغسل قدميه وركبتيه ويديه ووجهه وداخلة إزاره. وكذلك إذا عرف العائن وأخذ شيء من آثاره، كنوى التمر الذي كان يأكله، أو فنجان يشرب به، فهذا مجرب ونافع، هذا إذا عرف العائن، أما التخمينات بدون دليل فلا تجوز، وبعض الناس يوسوس في كل شيء أصابه ويقول: هذا عين أو جن، وهذا ليس بصحيح، بل لابد من دليل.

الموقف الشرعي عند حصول صدق الكاهن

الموقف الشرعي عند حصول صدق الكاهن Q أخبرني أحد الكهنة فيما مضى أني مشارع مع أهلي، وهذا صحيح، وأخبرني أن هذا بسبب سحر عمل لي، ولم آخذ الأمر بجدية، ولكن قد زاد الأمر الآن، فهل يجوز أن أذهب إلى أحد المشايخ وأسأله عن هذا السحر؟ A ليس لك هذا بسبب إتيانك إلى الكاهن، وليس لك أن تأتي إلى الكاهن كما سبق، فلا يجوز الإتيان إلى الكهان ولا سؤالهم، وعليك التوبة والاستغفار والندم على ما مضى، وإنما عليك أن تستعمل العلاج الشرعي، والكهان كذبة ولو صدقوا، ولو وافقوا الواقع، ومن طبيعتهم الكذب، فليس لك أن تأتي إليهم، بل عليك أن تلتجئ إلى الله عز وجل، وتعتمد عليه، وتتوكل عليه سبحانه، وتقرأ على نفسك أو يقرأ عليك بعض الإخوان، فيرقيك بالرقية الشرعية بآيات من القرآن، وأدعية شرعية، نحو: اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. ونحو: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك. ونحو: أعيذك بكلمات الله التامات من شر ما خلق. ونحو: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع. فهذه كلها رقى شرعية وردت منها غنية عن الحرام، وما أباحه الله من الرقية الشرعية والتعويذات والأدوية المباحة والعقاقير الطبية عند الأطباء التي لا محذور فيها يكفيك عن الحرام، وعليك بالتوبة والندم على ما مضى، واستعمال ما شرعه الله من الرقية الشرعية، والحذر من الإتيان إلى الكهنة والمنجمين والسحرة والعرافين.

حكم الأخذ من بول العائن ونعاله وثيابه لإذهاب العين

حكم الأخذ من بول العائن ونعاله وثيابه لإذهاب العين Q بعض الناس يأخذ من بول العائن ونعاله وثيابه ويغسلها ويشربها، فما حكم ذلك؟ A شرب البول حرام؛ لأنه نجس، ولا يجوز التداوي بالمحرم ولا بالنجاسات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي في ما حرم عليهم) وقال: (عباد الله! تداووا ولا تداووا، بالحرام) فلا يجوز التداوي بالنجاسات من البول، لكن إذا عرف أنه عائن فإنه يأخذ من سؤره من الفنجان الذي يشرب فيه ويغسله، أو ما أشبه ذلك، وغسل الثوب ليس بطيب، أما شرب البول فلا يجوز، بل هو حرام؛ لأنه نجاسة، وهذا من صفات الشيطان، فيدفعه إلى ذلك ويزين له أن يشرب البول، فالبول نجس لا يجوز التداوي به، لا بول نفسه ولا بول غيره، إلا الأبوال التي أباح الله شربها، وهي أبوال الإبل أو البقر أو الغنم، فلا بأس بها، فقد ثبت أن جماعة من العرنيين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا المدينة فأصابهم الوخم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوها وصحوا، لكنهم بعد ذلك قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وسملوا عينيه، وسرقوا الإبل وارتدوا عن دينهم، فأرسل صلى الله عليه وسلم في أثرهم وجيء بهم إلى المدينة، فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسملت أعينهم كما فعلوا بالراعي، وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فكل واحد قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم تركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا، قال الراوي: إن هؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بالله، وارتدوا عن دينهم، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم اعتقاد ارتباط الظواهر الكونية بالأحداث في الأرض

حكم اعتقاد ارتباط الظواهر الكونية بالأحداث في الأرض Q سمعت في برنامج علمي فلكي أنهم وجدوا علاقة بين الظاهرة التكوينية التي تسمى البقع الشمسية، وبين الكوارث والحروب التي تقع على سطح الأرض، وذلك بالملاحظة والمراقبة، فهل يجوز تصديق هذا القول من باب معرفة سنة الله عز وجل في الكون والاستفادة منها؟ A لا يجوز تصديق هذا القول، فهذا من التنجيم، وهذا من علم التأثير، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية أو بمسير الكواكب أو باجتماعها وافتراقها على حادث أرضي، فهذا من علم التأثير وهو باطل محرم قليله وكثيره، فإذا كان يُدعى أن هذه البقع الشمسية مؤثرة في الحروب والكوارث فهذا شرك أكبر في الربوبية، وهو شرك الصابئة، أما إذا كان يعتقد أن الحوادث والكوارث بإذن الله وبتقدير الله، لكن هذه البقعة الشمسية دليل عليها، فإذا حصل كذا صار كذا، فهذا من النوع الثاني من علم التأثير. وعلى كل حال فهذا محرم لا يجوز تصديقه، ولا يجوز تصديق من أخبر بذلك، ولا يجوز العمل بذلك، ولا يجوز النظر في ذلك ولا اعتقاد صحة ذلك، فكل هذا لا أساس له من الصحة، بل هو من علم التأثير الباطل المحرم.

حكم النشرات المتضمنوة بيان أحوال الطوالع وذكر حالات الطقس

حكم النشرات المتضمنوة بيان أحوال الطوالع وذكر حالات الطقس Q تصدر بعض الشركات جدولاً تبين فيه أحوال الطوالع على مدار السنة، بحيث إنه في الفترة الفلانية إلى الفلانية من المتوقع أن يكون الجو ممطراً، ومن الأفضل زراعة الفاكهة الفلانية، ويصدرون ذلك بقولهم: بمشيئة الله؟ A لا أعلم محذوراً في هذا، ومن ذلك ذكر أحوال الطقس التي يتوقع حصولها في الإذاعة، فإن هذا يبنونه على توقعات وعلى أشياء يشاهدونها ولا يجزمون بها، وإنما هو من باب التوقعات، وكذلك ما تصدره بعض الشركات من التقاويم التي فيها بيان مطالع النجوم وأوقات البذر وأوقات رأس السنة، فهذا كله من علم التسيير لا محذور فيه؛ لأنهم لا يدعون علم الغيب، وإنما يضعون جدولاً لبيان طلوع النجوم وأفولها، وما كان في سنة الله الكونية، فالتوقعات التي يذكرها أهل المراصد في نزول المطر بمشيئة الله إنما هي توقعات يبنونها على أشياء يرونها ولا يجزمون بذلك، فهم لا يجزمون بأن هذا الأمر سيقع وإنما يتوقع.

جهة استحقاق إقامة الحدود

جهة استحقاق إقامة الحدود Q جزاء الساحر القتل، فهل يجوز لي أن أقوم بهذا إن كنت قادراً عليه؟ A لا يجوز لك ذلك، إنما هذا من قبل ولاة الأمر، فليست المسألة فوضى، إذ بذلك يكون كل من أبغض شخصاً أو كان له عدو قتله وقال: هذا ساحر، والساحر يقتل، بل هذا يكون من قبل ولاة الأمر، فيرفع به إلى ولاة الأمور، ويرفع به إلى المحكمة الشرعية، وينظر فيه ويتحقق من الأدلة التي تدل على أنه ساحر، ثم يحكم عليه بما تقرر شرعاً، أما الأفراد فليس لهم أن يقيموا الحدود، وليس لهم أن يعملوا شيئاً، فالساحر الذي ثبت سحره، أو علم أنه يتعاطى هذه الأمور يرفع به إلى المحكمة، ويرفع به إلى الإمارة حتى يحال إلى المحكمة الشرعية، وحتى يصدر حكم شرعي في حقه، فإقامة الحدود والتعزيرات ليست للأفراد، وإنما هي لولاة الأمور.

التحذير من شراء المجلات الناشرة للتنجيم

التحذير من شراء المجلات الناشرة للتنجيم Q في إحدى المجلات ركن لأحد علماء النجوم يطلب القراء منه أن يحدد لهم النوم المفضل، والعطر المفضل، والطعام المفضل، وذلك عن طريق إعطائه الاسم والعنوان، ثم يجيبهم ويبين جميع الأشياء التي طلبها السائل، فما حكم ذلك وما حكم شراء هذه المجلة، وما توجيهكم تجاه ذلك؟ A لا أدري ما المقصود باللون المفضل والطعام المفضل، فإن كان يدعي أن هذا الطعام له تأثير، بحيث إذا طلع النجم الفلاني وأكل الإنسان الطعام الفلاني في النجم الفلاني يحصل له كذا وكذا، ويحصل له عافية وشفاء، أو إن حصل اللون الفلاني ربطه بشيء من دعوى علم الغيب، فهذا لا يجوز. والذي يظهر لي في هذا -والله أعلم- أنه لا يخلو شيء من هذا، فنصيحتي هي بالبعد عن هذه الأمور، ولا ينبغي شراء هذه المجلة والاعتناء بها، وينبغي الرفع بها إلى ولاة الأمر حتى تزال؛ لأن هذا من ادعاء علم الغيب، والذي يظهر -والله أعلم- أن هناك دعوى لعلم الغيب عن طريق اللون وعن طريق الطعام، وأن لها تأثيراً؛ لأنه ربط اللون وربط الطعام بالفلك وظهور النجوم.

حكم الاستشفاء بتراب المكان الذي سقط فيه المرء

حكم الاستشفاء بتراب المكان الذي سقط فيه المرء Q أحياناً عندما يسقط أحد في مكان ما على الأرض يصاب بمرض يسميه بعض العامة بالتعوير، فيقومون بمسح المكان الذي سقط فيه ويشرب منه المريض، فما حكم هذا. A لا يجوز مسح المكان والشرب، فما علاقة هذا المكان بالشرب؟! فهذا قد يكون سببه اعتقاد بعض الناس أنه سقط وأن الجن عوروه، فهم يريدون أن يشرب من هذا الشيء، وكأنه تقرب إلى الجن حتى لا يعوروه ولا يؤذوه، فهذا لا يجوز، فكيف يشرب من التراب، وما علاقة التراب بذلك؟! بل إذا حصل له مرض فإنه يعالج عند الأطباء بالعقاقير الطبية والأدوية المباحة، أو الرقية الشرعية، فيقرأ عليه آيات من القرآن والتعويذات الشرعية، أما شرب التراب فهو غلط كبير. والذي يظهر -والله أعلم- أن هناك اعتقاداً سيئاً فاسداً، وهو اعتقاد أن هؤلاء الجن هم الذين عوروه، فيشرب من المكان أو من التراب الذي سقط فيه حتى لا يؤذوه، وحتى يخففوا عنه التعوير وما أشبه ذلك، فإذا كان هذا الاعتقاد حاصلاً فهذا لا يجوز، بل هو حرام، وهذا تقرب إلى الجن وموافقة لهم، فلا يجوز هذا العمل؛ لأنه ناشئ عن اعتقاد فاسد، ويحتمل أنه أخبره أحد بهذا من كاهن أو غيره. فالمقصود أن هذا العمل لا يجوز، وهو محرم، ولا ينبغي هذا.

الموقف من الأقوال الكفرية المنشورة

الموقف من الأقوال الكفرية المنشورة Q ذكر بعض العلماء في كتبهم توبة أبي المعالي الجويني والشهرستاني والفخر الرازي وابن عربي، وأن بعضهم صرح بذلك قبل موته ولم يتمكن من الكتابة، وبعضهم تمكن من الكتابة، أي: الرجوع إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فما موقفنا من تلك الأقوال، أنصدقها أم نقول: إنها لم تثبت عنهم، علماً أن بعض العلماء ترحم عليهم ودعا لهم بالمغفرة؟ A الأصل المقصود هو بقاؤهم، وهذه كتبهم موجودة، حتى يثبت بنقل صحيح خلافها، فإذا ثبت بنقل صحيح عن الثقات، ووجدنا سنداً صحيحاً أنه تاب أو كتب فهذا لا بأس به، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الرازي تاب في آخر حياته وترحم عليه، وقد نقض كتابه أساس التقديس في مجلدات عظيمة، وهو بيان تلبيس الجهمية الذي وزع على ثمان رسائل دكتوراة، وكنت مشرفاً على الثمان كلها والحمد لله، وهو بيان تلبيس الجهمية في نقض التأسيس للرازي، وهو كتاب مخطوط من أعظم كتب شيخ الإسلام، رد فيه على الرازي، والرازي أشعري ولكنه جهمي ينفي النقيضين، ويقول: لا داخل العالم ولا خارجه، لكن شيخ الإسلام رحمه الله قال: إنه تاب في آخر حياته وترحم عليه، وشيخ الإسلام ثقة وإمام عظيم، فإذا أخبرنا فهو ثقة، وكذلك إذا وجدنا سنداً يدل على أنه تاب فلا بأس، أو أعلن ذلك في كتبه، وبعض الناس يقول: ابن سينا تاب، وفلان تاب، وابن عربي تاب. وعلى كل حال فإن من تاب تاب الله عليه، فإذا أشكل عليك الأمر فقل: إن لم يتب، لكن هذا لا يمنع من الرد على آرائه المنتشرة في الكتب وكفرياته وإلحاده وزندقته، فالإلحاد والزندقة والكفر منتشرة في الكتب والمؤلفات، فهل معنى ذلك أن نسكت لأن بعض الناس قالوا: إنه تاب؟ لا، بل يرد عليه، أما الشخص نفسه فقل: إن تاب غفر الله له، وإن لم يتب فعليه من الله ما يستحق. والمقصود أنه إذا وجد سند صحيح ثابت متصل أنه تاب أو أعلن ذلك في كتبه، أو أخبر عن ذلك إمام وثقة -كشيخ الإسلام ابن تيمية حينما ترحم على الرازي وقال: إنه تاب في آخر حياته- فإنا نقبل ذلك. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[11]

دروس في العقيدة [11] الشرك بالله تعالى دحض مزلة في الاعتقاد، ومنه الأكبر المخرج من الملة، ومنه الأصغر القادح في جناب التوحيد المتسبب في حصول الشرك الأكبر، والأصغر منه ما يكون في الألفاظ، ومنه ما يكون في الأفعال، ومنه ما يكون في الاعتقاد، وكل ذلك خطر على عقيدة المسلم، لا سيما الرياء الذي يخشى منه على المعاصي، ولخطر الشرك الأصغر عد خفياً، ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى استغفار الله مما عُلم المرء منه وما لم يعلم.

الشرك الأصغر

الشرك الأصغر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد سبق الكلام -فيما مضى- على الشرك بالكهانة والشرك بالتنجيم، وعرفنا أن الكهانة التي يتصل صاحبها بالشياطين يفسق صاحبها، وكذلك التنجيم، وعرفنا أن التنجيم المحرم هو علم التأثير، وأما علم التسيير فجائز عند جمهور العلماء، وهو الصواب، وهل تدخل معرفة وقت الكسوف والخسوف للشمس والقمر في المنهي عنه أم لا؟ الصواب أن كسوف الشمس والقمر يعرف بالحساب، وأن ذلك ليس من ادعاء علم الغيب، فالكسوف والخسوف كل منهما له سببان: سبب شرعي، وسبب حسي، فالسبب الشرعي هو ما جاءت به النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فاسعوا إلى الصلاة)، وفي لفظ: (يخوِّف الله بهما عباده)، فالسبب هو تخويف الله لعباده، ولهذا جاءت الأحاديث بالأمر بالاستغفار والصدقة والعتق والتوبة. والسبب الثاني: سبب حسي، وهو إدراك ذلك بالحساب، فإذا كان الحاسب متقناً فإنه يستطيع أن يدرك ذلك، وإذا لم يكن متقناً في الحساب فإنه يخطئ. فالمقصود أن معرفة الكسوف والخسوف ليست من دعوى علم الغيب، فذلك يدرك بالحساب. وقد سبق الكلام على الشرك الأكبر بأنواعه، والشرك في اللغة معناه: القسْم والنصيب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد قُوِّم عليه)، أي: نصيباً وقسماً وجزءاً. والمراد بالشرك الأصغر: ما ورد من الذنوب تسميته شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، أي أنه ليس شركاً في العبادة، ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، فإذا كان شركاً في العبادة فهو شرك أكبر، أما إذا كان من الذنوب التي سماها الشارع شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر -بأن لم يكن شركاً في العبادة، ولا ناقضاً من نواقض الإسلام- فإنه يكون شركاً أصغر. والشرك الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهو أكبر من الكبائر؛ لأن الشرك الأكبر يتعلق بالقلوب وصرفها عن الله، بخلاف الكبائر؛ فإنها طاعة للهوى والشيطان، فلذلك كان الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.

أنواع الشرك الأصغر

أنواع الشرك الأصغر

شرك الألفاظ والأقوال

شرك الألفاظ والأقوال والشرك الأصغر يكون في الألفاظ والأقوال ويكون في الأعمال، ويكون في الاعتقاد، ولكل واحد من هذه الأنواع أمثلة. فمن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: الحلف بغير الله، وذلك كأن يقول: وحياتِه، فيحلف بحياته، أو وحياةِ فلان، أو أن يقول: والنبي، أو يحلف بالأمانةِ، أو بالكعبةِ، أو يقول: بأبيك، أو بشرفك، أو بلحيتك، وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر الذي هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم، فإذا حلف بغير الله فهو مشرك شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به يستحق من التعظيم كما يستحق الله، أو أنه يستحق شيئاً من العبادة، فإنه يكون شركاً أكبر بهذا الاعتقاد، وإلا فالأصل أنه شرك أصغر. ومن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: التسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة، كأن يقول: ما شاء الله وشئت، فهذا تسوية بين الخالق والمخلوق، وهو من الشرك الأصغر؛ لأن الواو تكون لمطلق الجمع وللتشريك والتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، والتسوية بين الخالق والمخلوق شرك، فإن كان في الأصغر فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، ومن الشرك الأكبر التسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والتعظيم والخشية والإجلال والطاعة، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، فالتسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والعبادة شرك أكبر، والتسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة شرك أصغر، كأن يقول: ما شاء الله وشئت. فقد سوى بين الخالق والمخلوق في المشيئة. وثبت أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) من التنديد الأصغر، فالتنديد يكون أكبر ويكون أصغر، فالأكبر يكون في العبادة، والتنديد الأصغر كالتشريك والتسوية في المشيئة. وأما إذا أتى بكلمة (ثُمَّ) وقال: ما شاء الله ثم شئتَ؛ فهذا لا بأس به؛ لأن (ثُمَّ) تفيد العطف بتراخي ومهلة، فالمعطوف بـ (ثم) يأتي بعد المعطوف عليه بمهملة وتراخ، ولا تفيد التشريك والتسوية، فلذلك يجوز أن تقول: ما شاء الله ثم شئتَ. وقد ثبت في الحديث عن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: والكعبة، وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)، رواه النسائي بإسناد صحيح. وعلى هذا فتكون الحالات ثلاث: الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئتَ، وهذا ممنوع، وهو شرك أصغر. الحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، فهذا جائز. الحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذا هو الأكمل والأفضل. ومن الشرك الأصغر أن يقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ولولا أنت لم يكن كذا، فكل هذه الألفاظ من الشرك الأصغر؛ لما فيها من التشريك بين الخالق والمخلوق والتسوية بينهما بالعطف بالواو، وهذا ممنوع، فإذا قلتَ: هذا من الله ثم منك، فلا بأس، وكذلك: أنا بالله ثم بك؛ لأن (ثم) للعطف، والمعطوف بعدها يأتي بتراخ ومهلة، وكذلك لو قلت: لولا الله ثم أنت، فذلك لا بأس به، وأما: أنا متوكل على الله ثم عليك فلا يجوز؛ لأن التوكل في الأسباب الظاهرة من الشرك الأصغر، وكذلك الحسْب، كأن تقول: أنا في حسب الله ثم في حسبك، فالحسب والكفاية خاصان بالله تعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فالحسب والتوكل خاصان بالله تعالى. وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلية هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، فهذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم. فهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تفسير للأنداد في الآية، والتنديد ينقسم إلى قسمين: تنديد أكبر وتنديد أصغر، فهذا من التنديد الأصغر، وهو من الشرك الأصغر. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. فهل يسمع الإنسان أو يرى دبيب النملة السوداء التي تمشي على صخرة ملساء في ظلمة الليل؟! فالشرك أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو مثل أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، فتسند هذا إلى السبب، لكن لو قلت: لولا الله ثم كلبة هذا، ولولا الله ثم البط في الدار لأتانا اللصوص، جاز. وقد ثبت في سنن ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها أنه قال: (رأيت -يعني: في المنام- كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت على نفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)، وجاء في بعض الروايات أن الذي منعه عن أن ينهاهم أن يقولوا: (ما شاء الله وشاء محمد) هو الحياء، وهذا قبل أن يوحى إليه بالنهي، فلما أوحي إليه لم يمنعه شيء عليه الصلاة والسلام، بل نهاهم عن أن يقولوا ذلك، وقد كانت هذه الرؤيا سبباً في النهي، وقد كان الناس في أول الإسلام يقولون: ما شاء الله وشئت، وما شاء الله وشاء محمد، ثم مُنعوا من ذلك. وجاء -أيضاً- عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)، فدل هذا على أنه إذا أتى بالعطف بـ (ثم) فلا بأس به. وجاء عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوَّز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، وقال: قولوا: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان. فهذه النصوص كلها تدل على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وأنه من الشرك الأصغر، ولا تجوز التسوية بين الخالق والمخلوق بالواو في المشيئة، لكن إذا كان العطف بـ (ثم) فلا بأس به. ومن الشرك في الألفاظ والأقوال أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، أو بنوء كذا، معتقداً أن المنزِّل للمطر هو الله والنجم سبب في نزول المطر، أو أنه ليس بسبب ولكن يعتقد أن الله أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فهذا من الشرك الأصغر إن كان يعتقد أنه سبب؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، وإن كان لا يعتقد أنه سبب ولكن يقول: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا أيضاً من الشرك الأصغر على الصحيح؛ لأنه نسب ما هو من فعل الله الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر -وهو النجم- لا يضر ولا ينفع، ولو كان لا يعتقد أنه سبب؛ لأنه نسب ذلك إلى النجم، ولو على سبيل المجاز، فيمنع من ذلك حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، ولو كان بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها، فيمنع، فيكون كقوله: ما شاء الله وشئت. وإذا كان يعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر فهذا شرك أكبر، وأما إذا قال: مُطرنا في نجم كذا فلا بأس بذلك، والمراد: في وقت كذا، أي: في وقت الربيع، أو في وقت الخريف، أو في وقت طلوع النجم الفلاني، وعلى هذا تكون الحالات ثلاث في هذا الأمر:- الحالة الأولى: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر في الربوبية؛ لأنه جعل النجم مؤثراً ومدبراً، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، نعوذ بالله من ذلك. الحالة الثانية: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا، معتقداً أن مُنزل المطر هو الله، وأن النجم سبب، أو أنه ليس بسبب ولكن الله أجرى العادة في نزول المطر عند سقوط ذلك النجم، وهذا شرك أصغر لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، بل ولو لم يعتقد أنه سبب؛ لأن قوله: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم، ثم قوله: مطرنا بنجم كذا موهم أنه يجعله سبباً، فيُمنع؛ سداً لذريعة الشرك، وحماية للتوحيد. الحالة الثالثة: أن يقول: مُطرنا في نجم كذا، وهذا جائز لا بأس به. ومن الشرك في الأقوال أيضاً: التسميع، كأن يحسن صوته بالقراءة تسميعاً للناس، فهذا من الشرك في الألفاظ وإن كان من الرياء في الأقوال، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله مراءاة للناس وتسميعاً لهم، فهذا من الرياء في الأقوال، وقد جاء في الحديث: (

شرك الأعمال

شرك الأعمال النوع الثاني من أنواع الشرك الأصغر: الشرك في العمل، وهو أن يرائي بعمله، أو يحسن عمله من أجل الناس، أو يعمل العمل لأجل الدنيا، أو لأجل حظ نفسه، أو يتصنع للخلق مراءاة لهم بعمله، فيحسن صلاته إذا رأى رجلاً ينظر إليه، فتجده يتصنّع للخلق ولا يخلص لله في العبادة، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ويعمل لله تارة، ويعمل لأجل الدنيا تارة، فلله من عمله نصيب، ولغيره منه نصيب، وهذا الشرك شرك أصغر، فإذا كان خاطراً وطرده ودفعه فإنه لا يضره، وأما إذا استرسل فيه إلى نهاية العمل فإنه يُخشى أن يحبط العمل الذي وقع فيه. فالشرك في الأعمال كالرياء، والتصنع للخلق، وعدم الإخلاص لله في العبادة، فيعمل العمل لله تارة، وتارة يعمله لأجل حظ نفسه حتى يمدح ويثنى عليه، وتارة يعمله لأجل الدنيا. وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وفي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، فسئل عنه فقال: الرياء، يقوم الرجل يصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه)، رواه الإمام أحمد. وروى الطبراني والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، إذا كان يوم القيامة وجازى الله الناس في أعمالهم قال للمرائين: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!) أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي سعيد السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء)، ففي هذا الحديث كان يخاطب الصحابة، فإذا كان يخشى الرياء على الصحابة مع علمه بفضلهم فغيرهم من باب أولى، ولهذا قال العلماء: إن الرياء يخشى على الصالحين أكثر من غيرهم، فلا يخشى على الفساق؛ لأن الغالب أن الفساق والعصاة لا يراءون، لكن الرياء إنما يقع في قلوب الصالحين، فيراءون بأعمالهم، ويحسنون أصواتهم في القراءة، أو يدعون إلى الله، أو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مراءاة للناس حتى يمدحوهم ويثنوا عليهم، فيقال: فلان مستقيم يدعو إلى الله، فهذا يقع في القلوب، فلابد من أن يجاهد الإنسان نفسه، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويطرد هذه الخواطر الرذيلة، وليعلم أن الناس لا ينفعونه ولا يضرونه. ومن الشرك في العمل: التوكل على غير الله في الأسباب الظاهرة، وأما إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وذلك كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت؛ لحصول مطالبهم من نصر أو رزق أو شفاعة، فهذا شرك أكبر، لكن إذا توكل على غير الله في الأسباب الظاهرة -كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق، أو دفع أذى- فهذا نوع من الشرك الأصغر؛ لما فيه من ميل القلب إلى غير الله، فيجب أن تعلق القلوب بالله، ولا يجوز للإنسان أن يميل بقلبه إلى غير الله عز وجل. والتوكل يجمع شيئين: الأول: الأخذ بالأسباب، والثاني: تفويض الأمور إلى الله، والاعتماد بالقلب على الله في حصول النتيجة، وهذه من أعمال القلوب، أعني تفويض الأمر والاعتماد على الله، وأما فعل الأسباب الحسية فمن أعمال الجوارح، ولهذا كان التوكل على غير الله داخلاً في شرك العمل؛ لأن الأسباب هنا من أعمال الجوارح، وتفويض الأمر إلى الله والاعتماد عليه في حصول النتيجة من أعمال القلوب، فإذا توكل في الأسباب الظاهرة فهو شرك أصغر؛ لما فيه من ميل القلب إلى غير الله، وأما إذا وكل شخصاً نيابة عنه فهذه وكالة جائزة، وبعض الناس حين يوكل يقول: توكلت عليك -يا فلان- في كذا، وهذا خطأ، بل عليه أن يقول: وكّلتك، ولا يقل: توكلت عليك، وإنما يقول: وكلتك هذه النيابة والوكالة، لكن ليس معنى ذلك أن يعتمد على موكله في حصول ما وكله فيه، بل عليه أن يعتمد على الله في توكيل أمره الذي يطلبه بنفسه أو يطلبه بوكيله، فالاعتماد والتوكل هو على الله، وأما الوكالة فهي من جملة الأسباب التي يفعلها الإنسان ولا يعتمد عليها، فلا يعتمد على السبب، بل يعتمد على المسبب، وهو الله الذي بيده السبب والوكالة سبحانه وتعالى، وكذلك على الوكيل أن يعتمد على الله في تيسير أمره الذي يطلبه لنفسه أو لموكله؛ لأن الوكالة سبب، ولا يجوز الاعتماد على السبب، وإنما يكون الاعتماد على الله سبحانه وتعالى الذي بيده السبب والمسبَّب.

شرك الاعتقاد

شرك الاعتقاد النوع الثالث من الشرك الأصغر: الشرك في الاعتقاد، ومن أمثلة هذا: لبس الحلقة والخيط، ومن أمثلته: تعليق التمائم، ومن أمثلته التولة، والتطير والطيرة، فهذه كلها من أنواع الشرك الأصغر، وهذا إذا اعتقد أنها سبب ووسيلة لحفظه كما هو الغالب على من يفعل ذلك، وأن الأمر بيد الله تعالى، وأما إذا اعتقد أن الحلقة أو الخيط أو التميمة تؤثر بذاتها وبنفسها، وتجلب له نفعاً أو تدفع عنه ضراً فهذا شرك أكبر. وأما إذا اعتقد أن النافع والضار هو الله، وأن هذه الحلقة أو الخيط أو التميمة سبب ووسيلة لحفظه فهذا شرك أصغر؛ لأنها لم يجعلها الله سبباً، فالسبب الشرعي هو الرقية الشرعية والتعوذات والأدعية وسؤال الله ودعاؤه بأسمائه وصفاته، وأما الخيط والحلقة والتميمة فكل هذه ليست أسباباً، فلم يجعلها الله أسباباً، بل هي محرمة. وقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله بسند لا بأس به عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال: ما هذا؟! قال: من الواهنة. قال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، والواهنة: مرض يأخذ في العضد أو في المنكب، فهذا الرجل وجد النبي صلى الله عليه وسلم في عضده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال له: ما هذا؟ لماذا وضعتها؟! فقال: وضعتها لأجل الواهنة، أي: لأجل مرض الواهنة، يعني أنها وسيلة وسبب في الشفاء من هذا المرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً -أي: ضعفاً-، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً). وقد ثبت عن حذيفة رضي الله عنه -كما رواه ابن أبي حاتم -: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى -أي: وضعه من أجل الحمى-، فقطعه حذيفة رضي الله عنه وتلا قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فقطعه حذيفة إنكاراً لهذا من المنكر، وفي هذا دليل على أن للإنسان أن ينكر المنكر باليد إذا كان قادراً على ذلك ولم يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المنكر الذي أنكره، فإن عجز أنكره باللسان، وإن عجز أنكره بالقلب، كما ثبت في حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فـ حذيفة كان مستطيعاً على الإنكار باليد فأنكر وقطع الخيط، وتلا قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وهذه الآية نزلت في الشرك الأكبر، وإيمانهم بالله هنا هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك هنا هو الشرك في العبادة، وقد استدل حذيفة بهذه الآية على دخول الشرك الأصغر في عموم الشرك، وفيه دليل على أن الصحابة كانوا يستدلون على الشرك الأصغر بما نزل في الشرك الأكبر؛ لدخوله في عمومه. ومن أمثلة ذلك: تعليق الأوتار على الدواب؛ لدفع العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه من الشرك الأصغر. وثبت في الصحيح عن أبي البشير الأنصاري رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)، وهذا إذا وضعها من أجل العين، وأما إذا جعلها في رقبة البعير أو الدابة لأجل الزينة والجمال، أو لأجل أن يقودها بها فهذا ليس من الشرك ولا بأس به، لكن إذا وضعها من أجل اتقاء العين ودفع العين فهذا من الشرك. ومن ذلك التمائم التي تعلق في رقبة الإنسان، وأصل التميمة خرزات يعلقونها على الأطفال لدفع العين أو اتقاء العين، وهذا الذي يعلقونه قد يكون من الخرزات، وقد يكون من الحروز أو الحجب، وقد يكون من شعر الذئب أو غيره، فالتميمة التي تعلق لأجل دفع العين هي كل شيء يعلق في رقبة طفل، أو رجل، أو امرأة لأجل دفع العين وهي من الشرك، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلّق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلّق وَدَعة فلا ودع الله عليه)، وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)، فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من علق تميمة بأن الله لا يتم له أموره، (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله عليه) أي: لا جعله في دعة وراحة وسكون، والودَع: شيء يستخرج من البحر يشبه الصدف يعلقونه اتقاء العين، وقد تكون التميمة التي تعلق حرزاً كُتب فيه آيات من القرآن، وقد تكون من غيره، فإذا كان الحجاب أو الحرز أو التميمة التي تعلق فيها آيات من القرآن، أو تعوذات شرعية وأدعية لا محظور فيها فهذه قد أجازها بعض العلماء ورخص فيها، وقالوا: إنها آيات من القرآن، أو أدعية شرعية، فهي تعوذات شرعية، ويروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما نقل عن عائشة رضي الله عنها. والقول الثاني: المنع من تعليق التميمة ولو كانت من القرآن، وهذا هو ما روي عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة، وهو مذهب الجماهير، وهو الصواب، فيمنع تعليق التميمة -وهي الحرز والحجاب- ولو كانت من القرآن أو من الأدعية الشرعية؛ لأمور ثلاثة: الأمر الأول: أن النصوص عامة ولم تخصص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) ولم يُخص من ذلك شيء، بخلاف الرقى والتعوذات الشرعية، فإنه قد جاء فيها التخصيص، حيث جاء في الحديث الآخر: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)، وفي الحديث الآخر: (لا رقية إلا من عين أو حُمة)، فدل ذلك على أن الرقية إذا لم يكن فيها محظور من شرك، وكانت بلسان عربي، واعُتقد أن الشافي هو الله فلا بأس بها، وأما إذا كانت من الشركيات، أو كانت مجهولة فهذه ممنوعة، بخلاف التمائم، فلم يأت ما يخصصها، فدل ذلك على أن التمائم ممنوعة مطلقة، سواء أكانت من القرآن أم من غير القرآن؛ لأن النصوص عامة. والأمر الثاني: أن إباحة وإجازة تعليق التميمة من القرآن وسيلة وذريعة إلى تعليق التميمة من غير القرآن ومن الأدعية الشرعية، فالناس لا يقفون عند حد. والأمر الثالث: أن تعليق التميمة من القرآن أو من الأدعية النبوية وسيلة إلى امتهانها، فقد يدخل بها الحمام ومكان قضاء الحاجة، وهي آيات من القرآن، وفيها اسم الله، وفيها أدعية شرعية، فيكون ممتهناً لها بذلك، فالصواب هو المنع من تعليق التميمة مطلقاً، ويجب أن تعلق القلوب بالله عز وجل ولا تتعلق بغيره. وقد جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن. يعني: كان أصحاب عبد الله بن مسعود يكرهون التمائم، أي: كراهة التحريم. وجاء عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة. يعني: من وجد إنساناً قد علق تميمة في عنقه ثم قطعها كان أجره كمن أعتق رقبة، والصواب أن من قطع تميمة من إنسان أفضل ممن أعتق رقبة؛ لأن من قطع تميمة من إنسان فقد أعتقه من الشرك، وأما إذا أعتق رقبة فقد أخرجها من الرق، وإعتاق الإنسان من الشرك أفضل من إعتاقه من الرق. وأما التِوَلة فهي شيء يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، فهذا من الشرك الأصغر إذا اعتقد الإنسان أنه سبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتِوَلة شرك)، فهو من الشرك الأصغر إذا كان يعتقد أنه سبب في جلب المحبة، فيحبب المرأة إلى زوجها، ويحبب الزوج إلى امرأته، فهذا من الشرك ولا يجوز استعماله، وهذا إذا اعتقد أنه وسيلة وسبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، فلا يجوز للإنسان أن يعلق التميمة، ولا أن يستعمل التولة، ولا أن يلبس حلقة أو خيطاً لأجل رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، فيعتقد أنه سبب في رفع البلاء، فبعض الناس يلبس حلقة أو خيطاً ويعتقد أنها سبب في رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، وهذا غلط، فليست الحلقة والخيط سبباً، وهذا شرك أصغر إذا اعتقد أن ذلك سبب، أما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر. ومن الشرك في الاعتقاد: الطِّيَرة والتطير، والطيرة: اسم مصدر لـ (تطير يتطير تطيراً)، فالتطير مصدر، والطيرة اسم مصدر، مثل: تخير يتخير خيرة، والطيرة: هي التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات، أو التشاؤم بالأشخاص أو البقاع أو الأمكنة، فكل هذا من التطير المذموم، وهو من عمل أهل الجاهلية المشركين، قال تعالى عن آل فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131] أي: إذا أصابتهم حسنة من خصب وسعة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابتهم سيئة من جدب وقحط قالوا: هذا بسبب موسى ومن معه، فقد أصابنا هذا بشؤمهم، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]. وقال عن أصحاب القرية لما جاءتهم الرسل: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:18 - 19] أي: أمن أجل أن ذكرناكم ووعظناكم تطيرتم بنا؟! بل أنتم قوم مسرفون، فالطيرة من عمل أهل الجاهلية، ومن عمل أهل الشر

الأسئلة

الأسئلة

حكم نداء الواعظ أبطال الإسلام السابقين

حكم نداء الواعظ أبطال الإسلام السابقين Q هل من الشرك قول الشخص: أين أنت يا سعد بن معاذ، وأين غيرتك من حال المسلمين اليوم؟ أو يقول: أين أنت -يا عمر - من حال المسلمين اليوم؟ أو: أين أنت -يا خالد - من حال المسلمين اليوم؟ A الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه إذا قالها على سبيل التوجع لا على سبيل النداء، فيتوجع ويتمنى أن يكون في الأمة من الخيار كهؤلاء الصحابة فإنه لا بأس به، وأما إذا كان يناديهم ويدعوهم بقصد الاستغاثة بهم فهذا شرك، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن مقصوده التوجع على حال المسلمين، والتمني أن يكون في المسلمين مثل هؤلاء الأخيار الذين يقومون لله، ويجاهدون في سبيل الله، فإذا كان مقصوده التوجع والتمني فلا يظهر لي أن هذا فيه محظور، وأما إذا ناداهم ودعاهم من دون الله فهذا شرك.

حكم تعليق ما يعتقد فيه الحفظ للسيارة والربح في البيع ونحوهما

حكم تعليق ما يعتقد فيه الحفظ للسيارة والربح في البيع ونحوهما Q يوجد في الأسواق صندوق صغير يباع، وهذا الصندوق شكله جميل وهو مزخرف، ويعلق في مرآة السيارة الوسطى، وفي هذا الصندوق كتيب صغير مكتوب على غلافه: الحصن الحصين من كلام رب العالمين، وفي أول الكتاب آيات قرآنية، وفيه أن من علق هذا الصندوق في سيارته فلن يحصل له حادث، ومن علقه في بقالته فسوف يكثر عنده المشترون، وفي آخر الكتيب مربع صغير فيه رموز وطلاسم، فما حكم استعمال هذا الصندوق؟ A لا يجوز استعمال هذا الصندوق، فهذا من التميمة، وهي من الشرك، فإذا جعله في السيارة أو في البقالة لأجل الحفظ، فإن اعتقد أنه سبب فهو كالتميمة، وهو من الشرك الأصغر، وأما إذا اعتقد أنه يجلب الزبائن أو يكثر ماله بذاته فهذا شرك أكبر كما سبق. وهذه الرموز والطلاسم يخشى أن يكون فيها شرك أكبر، فيخشى أن يكون فيها مناداة أو توسل بأسماء الجن أو الملائكة أو الشياطين. ولا أظن أن أحداً يعتقد أن هذا الصندوق يحفظ بذاته أو ينفع بذاته، وأظن أنه يُعتقد أنه سبب، وهذه الطلاسم والرموز يخشى أن يكون فيها شرك أكبر، أو أن يكون فيها نداء أو تعوذات بالجن أو الشياطين أو الملائكة. ومن ذلك أن بعض الناس يضع المصحف في السيارة أو في البيت ويعتقد أنه وسيلة للحفظ، فهذا من جنس التمائم، والواجب أن تقرأ من المصحف، فاقرأ القرآن وتعوذ بنفسك، وأما أن تجعل المصحف تميمة فلا يصح ذلك، فاقرأ الآيات بنفسك، واقرأ التعوذات الشرعية. وأما إذا وضع المصحف في السيارة ليقرأ فيه، أو وضعه في الغرفة ليقرأ فيه في وقت الفراغ فلا بأس بذلك، وأما إذا وضع المصحف في الغرفة أو في السيارة للحفظ فهذا من التمائم ومن الشرك الأصغر.

حكم القول بتأثير النجم في مد البحر وجزره

حكم القول بتأثير النجم في مد البحر وجزره Q لقد ذكرت فيما سبق أن الشرك في التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فهل يدخل في ذلك قول من قال: إن النجم هو للعبرة، أي: من أجل المد والجزر، فله علاقة بالقمر، وهو السبب في ذلك؟ A إذا كان يعتقد أن القمر سبب في المد والجزر فهذا من الشرك، وأما إذا كان يعتقد أن الله أجرى العادة بأنه في منتصف الشهر أو في آخر الشهر يحصل مد وجزر؛ فهذا من جنس معرفة فصول السنة، ومعرفة أوقات البدر. وأما إذا اعتقد أن القمر نفسه مؤثر فهذا شرك أكبر. فالمقصود أن ذلك يكون على حسب الاعتقاد، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أن القمر مؤثر بذاته، أو أن القمر سبب في ذلك.

حكم تحسين الصوت بالقرآن لاستمالة قلب السامع

حكم تحسين الصوت بالقرآن لاستمالة قلب السامع Q هل إذا حسنت صوتي لكي يميل قلب الذي بجانبي يكون ذلك رياء؟ A هذا على حسب قصدك ونيتك، فإن كان قصدك أن ترائيه وتحسن صوتك من أجل أن يمدحك ويثني عليك فهذا رياء، وأما إذا كان قصدك أن تحسن صوتك حتى يستفيد وتستفيد أنت من غير أن يقع في قلبك شيء؛ فهذا مطلوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حسنوا أصواتكم بالقرآن)، وفي لفظ: (زينوا أصواتكم بالقرآن). وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى أبي موسى الأشعري وكان له صوت حسن، فقال النبي: لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى: لو رأيتني وأنا استمع لقراءتك البارحة، فقال له أبو موسى: لو علمت ذلك لحبرته لك تحبيراً) أي: بينته تبييناً، فهذا على حسب القصد، فإن كان قصدك أن ترائيه فهذا من الشرك الأصغر، وأما إن كان قصدك أن تحسن صوتك امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وحتى تستفيد وتفيد فهذا مطلوب ومشروع، وهذا شيء يقوم بالقلوب لا يعلمه إلا الله.

حكم توبة ساب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

حكم توبة ساب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم Q لقد سمعت منك أن من سب الله تعالى فليست له توبة في الدنيا، فأرجو أن توضح لنا ذلك، فإني قبل الاستقامة كنت مع جلساء السوء، وكنا نقول على الله سبحانه وتعالى ما لا يليق ونسبه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، والآن -والحمد لله- اتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحت سلفياً، ولله الحمد على الهداية إلى الطريق الصحيح، وقد عرفت أن هنالك آيات، مثل قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وأنا الآن قد تبت وندمت على تلك الكلمات، فهل توبتي صحيحة؟ وماذا أكفر به الآن عن تلك الكلمات التي كنت قلتها في حق الله تبارك وتعالى؟ A الحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة، فهذه نعمة عظيمة، فاحمد الله واشكره، واسأل الله الثبات والاستقامة، ونسأل الله أن يرزقنا وإياك التوبة النصوح، والثبات على دينه والاستقامة عليه حتى الممات، فمن تاب من أي ذنب تاب الله عليه، قال الله تعالى في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، قال العلماء: هذه الآية في التائبين، فمن تاب من أي ذنب تاب الله عليه، ألم تسمع إلى قول الله تعالى في عرضه التوبة على المثلثة من النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فعرض الله عليهم التوبة فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:73 - 74]، فذنبهم عظيم، فهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك عرض الله عليهم التوبة، فنقول: إن من سب الله أو سب الرسول أو سب الإسلام له توبة، فإذا تاب توبة صادقة تاب الله عليه، فعليك بالتوبة الصادقة، والإكثار من العمل الصالح، ومن تاب وأكثر من العمل الصالح بدل الله سيئاته حسنات، كما في سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، فإذا تاب توبة نصوحاً محا الله بها الذنب، وإذا أتبعه بالعمل الصالح بدل الله سيئاته حسنات فضلاً من الله وإحساناً. لكن نقول: لا تقبل توبته في أحكام الدنيا وليس في أحكام الآخرة، فإذا رفع إلى المحكمة شخص سب الله أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أنا تبت الآن، قلنا له: لا، توبتك هذه بينك وبين الله، فإذا كنت صادقاً قبلت توبتك، وأما في أحكام الدنيا فلابد من قطع رقبتك، أي أن من سب الله أو سب رسوله لا بد من قطع رقبته في الدنيا في أصح قولي العلماء، وهذا الأمر يعود إلى ولاة الأمر، فإذا ثبت عند المحكمة الشرعية أن فلاناً من الناس سب الله، أو سب الرسول، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو بدينه، وكذلك الساحر والزنديق والملحد، فكل هؤلاء الصواب أنه لا تقبل توبتهم في أحكام الدنيا، فلا بد من إقامة الحد عليهم إذا رُفع أمرهم إلى المحكمة الشرعية؛ حتى لا يتجرأ الناس على مثل هذا الكفر الوخيم، وأما فيما بينه وبين الله فالله تعالى يقبل توبة الصادقين، ويمحو الله ذنب التائبين، وأما في أحكام الدنيا فلا نقبل منه ذلك في أصح قولي العلماء. والقول الثاني للعلماء: أنه يستتاب أيضاً في الدنيا، فإن تاب قبلنا توبته، وإن لم يتب قتلناه، لكن الصحيح أنه لا تقبل توبته في أحكام الدنيا؛ زجراً له ولأمثاله. وقد ألف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة سماها: (الصارم المسلول على شاتم الرسول). وأما إذا تاب بينه وبين الله ولم يرفع إلى المحكمة فإنه تقبل توبته، وعلى هذا فإن السائل ما دام أنه قد تاب فإن الله يتوب عليه، والحمد لله، وتوبته مقبولة وصحيحة، ونسأل الله أن يمن علينا وعليه بالتوبة النصوح والعمل الصالح، والشأن كل الشأن في الصدق في التوبة، فإذا كان الإنسان صادقاً في التوبة فإن الله يَقبِل توبته من أي ذنب مهما كان.

توجيه قوله: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل)

توجيه قوله: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل) Q ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله العباس عن أبي طالب قال له: (يا عم! لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) أو كما قال، فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا)؟ A قوله في هذا الحديث: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) يحتمل أنه تصرف من بعض الرواة، ويحتمل أنه كان أولاً قبل المنع، ويحتمل أن هذا جائز ولكن الأولى تركه.

توجيه قول ابن القيم: (لولا الصحابة ما كان فينا مذنب)

توجيه قول ابن القيم: (لولا الصحابة ما كان فينا مذنب) Q قال ابن القيم في نونيته: لولا الصحابة ما كان فينا مذنب، ولم يقل: لولا الله ثم الصحابة. فما توجيهكم؟ هذا أيضاً من جنس سابقه، فيقال -والله أعلم-: إن هذا جائز، لكن الأولى والأكمل تركه كما ذكر سابقاً.

من تصح الاستعانة به من الأحياء الحاضرين

من تصح الاستعانة به من الأحياء الحاضرين Q ما هو ضابط وصف الحاضر الذي يستعان ويستغاث به؟ A الحاضر هو الحي القادر الذي يكون أمامك معه الأسباب التي تستعين به من أجلها، فإذا كان أمامك قلت له: أعني يا فلان. وكذلك استغاثة الغريق إذا استغاث بسباح يجيد السباحة ومعه أسباب ذلك، فهذا لا بأس به، وكذلك في الاستعانة، فيستعين بقادر حاضر، وأما إذا استعان بالجن، أو بغائب، أو بميت؛ فهؤلاء ليست معهم أسباب الإعانة، فالاستعانة بهؤلاء شرك. السؤال: الجن عالم حاضر، وهم يروننا ويسمعوننا ونتكلم معهم ونسمعهم فما حكم الاستعانة والاستغاثة بهم في بعض الحالات؟ الجواب: الاستعانة والاستغاثة بالجن شرك؛ لأنهم ليسوا حاضرين أمامنا، فأكثرهم غائبون ولا نراهم، وكذلك الاستغاثة بالملائكة، فلا تجوز الاستعانة والاستغاثة بهم؛ لأنهم غائبون ولا نراهم، فهذا هو الأصل، قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فلا يجوز للإنسان أن يستعين بهم، أو أن يقول: يا جن! خذوه، أو ما أشبه ذلك، فبعضهم يقول: يا جن! خذوه. وهذا لا يجوز؛ لأنه من الشرك، لكن لو كلم الجن أو كلموه فهنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الاستعانة بهم على ثلاثة أحوال: الأول: أن يستعين بهم في أمر محرم، كأن يستعين بهم في أن يسرقوا له، أو ما أشبه ذلك، فهذا محرم. الثاني: أن يستعين بهم في أمور مباحة، فهذا مباح. الثالث: أن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى الله، فهذا مطلوب ومشروع؛ لأنه يجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لا ينبغي للإنسان أن يتمادى في مثل هذا، فبعض الناس قد يتمادى، وبعضهم يدعي أن الجن يخاطبونه، وبعض القراء الذين يقرءون على المرضى يدعي أنه يكلم الجني، وأن الجني يخبره بالمرض الذي في المصروع الآخر، وأنه يستعين بهذا الجني على الجني الآخر، وهذا الفعل غير صحيح، فالجن لا يصدقون ولا سيما الفسقة منهم. والمقصود أنه ينبغي على الإنسان ألّا يتمادى في مثل هذا، فبعض الناس يتمادى ويتوسع في هذا الأمر، فلا يجوز للإنسان أن ينادي الجن ولا أن يستعين بهم، فهذا من الشرك؛ لأنهم غائبون ولا نراهم.

العلاقة بين الشرك الأصغر والشرك الخفي

العلاقة بين الشرك الأصغر والشرك الخفي Q ما الفرق بين الشرك الأصغر وبين الشرك الخفي؟ A الشرك الأصغر هو الشرك الخفي، وسمي خفياً لأنه يقوم بالقلوب، وسمي أصغر لأنه لا يصل إلى الحد الأكبر؛ لأنه ليس شركاً في العبادة، ولا ناقضاً من نواقض الإسلام. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[12]

دروس في العقيدة [12] الإيمان بالله تعالى وتوحيده لا يكمل إلا بانتفاء الكفر الأصغر والشرك الأصغر، ولا يصلح ولا يثبت إلا بانتفاء الشرك الأكبر والكفر الأكبر المخرج من الملة، ككفر التكذيب والجحود، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر الشك، وكفر النفاق ونحو ذلك. والواجب على المسلم أن يسعى في صفاء قلبه من أدران الكفر والشرك الأصغر والأكبر.

الكفر الأكبر والأصغر وعلاقتهما بالإيمان والتوحيد

الكفر الأكبر والأصغر وعلاقتهما بالإيمان والتوحيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الطحاوي رحمه الله افتتح رسالته في العقيدة بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره]. ويدخل في هذه الجملة أنواع التوحيد الثلاثة التي هي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. والتوحيد ضده الشرك والكفر والنفاق، نسأل الله السلامة والعافية، ولا يكون الإنسان موحداً لله حتى يحذر الشرك بأنواعه، ويحذر الكفر بأنواعه، ويحذر النفاق بأنواعه، وحتى يكون موحداً كامل التوحيد والإيمان، أما إذا فعل شيئاً من أنواع الشرك الأصغر، أو من أنواع الكفر الأصغر؛ فإن توحيده يكون ناقصاً، وإيمانه يكون ناقصاً، أما إذا فعل الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر أو الكفر الأكبر؛ فإنه ينتقض منه الإيمان وينتقض التوحيد بالكلية، فلا يمكن أن يجتمع توحيد وإيمان مع شرك أكبر، ولا يجتمع توحيد وإيمان مع كفر أكبر، ولا يجتمع توحيد وإيمان مع نفاق أكبر، فإذا وجد أحدهما زال الآخر، إذا وجد الكفر الأكبر زال التوحيد والإيمان، وإذا وجد التوحيد والإيمان زال الكفر الأكبر، وإذا وجد التوحيد والإيمان زال الشرك الأكبر، وإذا وجد الشرك الأكبر والنفاق الأكبر زال التوحيد والإيمان. لكنه قد يجتمع مع التوحيد والإيمان نفاق أصغر أو كفر أصغر أو شرك أصغر؛ لأن النفاق الأصغر والكفر الأصغر والشرك الأصغر لا يخرج من الملة، لكنه ينقص التوحيد والإيمان ويضعفه، والنفاق الأصغر والشرك الأصغر والكفر الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر. وقد استعرضنا بعض أنواع الشرك الأكبر وأمثلته التي تنافي التوحيد والإيمان، ثم استعرضنا بعض أنواع الشرك الأصغر التي تنافي كمال الإيمان الواجب، ومن ذلك الحلف، فالحلف بغير الله من الشرك الأصغر، كأن يحلف بالكعبة أو بالنبي أو بالأمانة أو بغير ذلك، فهذا شرك أصغر. وقد يكون أكبراً إذا اعتقد أن المخلوق يستحق شيئاً من التعظيم والعبادة التي لا يستحقها إلا الله سبحانه وتعالى، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر؛ لأنه يتعلق بالقلوب وصرفها عن الله، بخلاف الكبائر فإنها طاعة للهوى والشيطان؛ ولأن الشرك الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً)، وهذا من فقهه رضي الله عنه وتقواه؛ لأن الحلف بالله -وإن كان الشخص كاذباً- يعتبر توحيداً، بخلاف الحلف بغير الله وإن صدق، فهو شرك، فحلفه بالله كاذباً معه حسنة ومعه سيئة، معه حسنة التوحيد ومعه سيئة الكذب، والحالف بغير الله صادقاً معه حسنة ومعه سيئة، فمعه حسنة الصدق وسيئة الشرك، وإذا قارنت بين حسنة التوحيد وحسنة الصدق تجد أن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وإذا قارنت بين سيئة الشرك وسيئة الكذب وجدت أن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه هذه المقالة: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً).

الفرق بين الكفر الأكبر والأصغر

الفرق بين الكفر الأكبر والأصغر أما الكفر فإنه يتنوع وينقسم إلى قسمين: كفر أكبر وكفر أصغر، فالكفر الأكبر مخرج عن الملة - نسأل الله السلامة والعافية- ويحبط الأعمال، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويوجب الخلود في النار، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:10]، فالكافر كفراً أكبر مخلد في النار، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]. فهذه أحكام الكفر الأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويُخرج من الملة، ويحبط جميع الأعمال، ويخلد صاحبه في النار إذا مات عليه من غير توبة. أما الكفر الأصغر فهو ما ورد تسميته من الذنوب كفراً ولم يصل إلى حد الأكبر، فهو تحت مشيئة الله، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار. فالكفر بالنسبة للحكم ينقسم إلى قسمين: كفر أصغر وكفر أكبر, ولكل منهما أحكام، فمن أحكام الكفر الأكبر أن الله لا يغفره إلا بالتوبة، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة مفتوحة للعبد، لكن بشرط أن تكون مستكملة ومستجمعة لشروطها، وشروطها: الإقلاع عن الذنب وعن الكفر العظيم، والندم على ما مضى، والعزم الجازم الصادق على ألا يعود إلى هذا الذنب، ولا بد من أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، أي: قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، فإن وصلت الروح إلى الحلقوم فلا توبة. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18]. ولا بد من أن تكون التوبة قبل معاينة العذاب وقبل نزول العذاب، فإذا عاين العذاب ونزل العذاب فلا ينفع الإيمان ولا تنفع التوبة، ولهذا يعد فرعون من أكفر خلق الله، فقد ادعى الربوبية والألوهية وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ثم تاب لما رأى العذاب، لكن توبته وقعت في وقت لا تصح فيه ولا تقبل، وهو عند نزول العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، قال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]. فأخبر الله أنه عند رؤية العذاب لا تنفع التوبة، ولم يستثن الله إلا أمة واحدة هي قوم يونس، فهؤلاء نفعهم أيمانهم عند رؤية العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. ومن شروط صحة التوبة: أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فإذا طلعت الشمس من مغربها فلا توبة، ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث، فهذه الشروط لا بد منها في صحة التوبة وقبولها. ويزاد شرط آخر، وهو أنه إذا كانت المعصية والمظلمة بينك وبين الناس فلا بد من رد المظلمة إلى أهلها إن كانت تتعلق بالبدن، فيسلم نفسه إن قتل لأولياء القتيل للقصاص، أو يسلم نفسه لقطع طرف، أو لضرب حتى يقتص منه أو يعفى عنه بالدية أو يعفى عنه بغير ذلك، وإن كانت المظلمة مالاً -كالسرقة أو الغصب أو الخيانة أو الغش أو الخداع- فلا بد من رد المال إلى صاحبه بأن يرسله إليه بنفسه أو بوكيله، ولا يشترط أن يقول: هذا مال سرقته أو غصبته، بل يقول: هذا حق لك، أو يرسله عن طريق وكيل، وإن كانت المظلمة في عرض فإنه يتحلله ويستسمح منه، فإن كان يترتب على ذلك شر فإنه يدعو لهم بظهر الغيب، ويدعو لمن اغتابه بظهر الغيب ويستغفر له، ويذكر محاسنه وصفاته في الأماكن التي اغتابه فيها ولا يكذب، بل يخبر بالواقع، فهذه الشروط لا بد منها لقبول التوبة، ومن تاب تاب الله عليه، سواء أكان هذا الذنب كفراً، أم كان دون الكفر، أم دون الشرك، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. قال العلماء: هذه الآية في التائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، بخلاف الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ففي هذه الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه غير مغفور، وعلق ما دونه بالمشيئة، وهذه في غير التائبين، وأما آية الزمر فهي في التائبين. فالمقصود أن الكفر الأكبر لا يغفر إلا بالتوبة بهذه الشروط، فإن مات صاحبه من غير توبة فإنه لا يغفر، ويحبط عمله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، ويُخرج من ملة الإسلام، ويوجب الخلود في النار. أما الكفر الأصغر فليس له هذه الأحكام، بل صاحبه تحت المشيئة، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار.

أقسام الكفر الاعتقادي

أقسام الكفر الاعتقادي ينقسم الكفر بالنسبة إلى ذاته إلى قسمين: كفر اعتقادي، وكفر عملي. والكفر الاعتقادي خمسة أنواع: النوع الأول: كفر تكذيب وجحود. النوع الثاني: كفر إباء واستكبار مع التصديق. النوع الثالث: كفر الإعراض. النوع الرابع: كفر الشك والظن. النوع الخامس: كفر النفاق. فهذه الأنواع الخمسة أنواع للكفر الاعتقادي، والكفر الاعتقادي بأنواعه الخمسة من أقسام الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، نسأل الله العافية، ويوجب الخلود في النار إذا مات صاحبه عليه من غير توبة، ويحبط جميع الأعمال، وإذا فعل المرء واحدة من هذه الأنواع الخمسة فإنه يحبط عمله ويخرج من ملة الإسلام وإذا مات على ذلك صار من أهل النار، نسأل الله السلامة والعافية.

كفر التكذيب والجحود

كفر التكذيب والجحود أما النوع الأول من أنواع الكفر الاعتقادي -وهو كفر التكذيب والجحود- فهو كاسمه، يكون صاحبه مكذباً ويكون جاحداً لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا النوع من الكفر قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68] وكفر التكذيب والجحود ينقسم إلى أقسام باعتبارات: فينقسم بالنسبة إلى جهة التكذيب إلى قسمين: القسم الأول: تكذيب بالقلب واللسان، وهو اعتقاد كذب الرسل وجحد ما جاءوا به، فيكذب ويجحد ما جاءت به الرسل بقلبه ولسانه، وهذا القسم قليل في الكفار، ونادر جداً، وقد لا يوجد، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الرسل من الآيات والبراهين والحجج والأدلة الواضحة على صدقهم وصدق ما جاءوا به ما يتبين به صدقهم لكل أحد، حتى قامت الحجة وانجلت المعذرة، قال الله سبحانه وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فهذا الكفر قليل؛ لأن حجج الرسل وأدلتهم تدل على صدقهم، وهي واضحة نيرة لكل أحد، وأوضح من الشمس في رابعة النهار. القسم الثاني: تكذيب باللسان مع اعتراف القلب وتصديقه، وهذا القسم كثير في الكفار، وهو الغالب على أعداء الرسل، ومن أمثلة هذا النوع كفر فرعون وقومه، فإن فرعون وقومه معترفون بصدق موسى عليه الصلاة والسلام وأنه رسول من عند الله، لكنهم كذبوا بألسنتهم فصاروا مكذبين وجاحدين، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، فقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] يعني: بألسنتهم، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فنفوسهم مستيقنة مصدقة، أخبر سبحانه وتعالى عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] فقال له: {عَلِمْتَ} [الإسراء:102]، والعلم هو اليقين، ففرعون متيقن، لكنه كذب وجحد بلسانه عناداً للحق وتكذيباً للحق الواضح البين. ومن أمثلة ذلك أيضاً: كفر ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحاً، قال الله سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11]، أي: بسبب طغيانها، فالطغيان هو الذي حملهم على التكذيب بألسنتهم وإن كانوا مصدقين ومعترفين ببواطنهم وقلوبهم. وكذلك كفار مكة ومشركو قريش كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وهم متيقنون في الباطن معترفون بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} [الأنعام:33] يعني كفار قريش، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلمن يعني: لا يكذبونك بقلوبهم، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: يجحدون بألسنتهم، فنفى عنهم التكذيب وأثبت لهم الجحود؛ لأن الجهة منفكة، فجهة الجحود غير جهة الاعتراف والتصديق، فهم لا يجحدون بقلوبهم ولكن يجحدون بألسنتهم، ولهذا قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] يعني: بقلوبهم، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وهذا القسم كثير في الكفار. وينقسم كفر التكذيب والجحود انقساماً آخر أيضاً، فينقسم بالنسبة إلى المكذب به إلى قسمين: تكذيب مطلق عام، وتكذيب مقيد خاص، فالأول كأن يكذب بجميع ما أنزل الله به من الكتب وبجميع ما أرسل الله به الرسل، وهذا تكذيب مطلق عام، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] أي: اليهود، فقد أنكروا الرسالات كلها وقالوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]، قال الله تعالى رداً عليهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]، فمن عتوهم وعنادهم أنهم قالوا: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]. القسم الثاني: كفر مقيد خاص، كأن يجحد أو ينكر فريضة من فرائض الإسلام، كأن ينكر وجوب الصلاة، أو ينكر وجوب الزكاة، أو ينكر وجوب الحج، أو ينكر البعث بعد الموت، فهذا لم ينكر كل شيء ولم يجحد كل شيء، وإنما أنكر شيئاً خاصاً، فيكون كافراً خارجاً من الملة؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فإنه لا خلاف في وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإذا أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه كَفَر، وإذا قال: الصلاة غير واجبة كفر ولو صلى، أو قال: الزكاة غير واجبة كفر ولو زكى، أو قال: الصوم غير واجب كفر، أو قال الحج غير واجب كفر؛ لأن هذه فرائض وواجبات معلومة من الدين بالضرورة وليس فيها خلاف. ومثال ذلك أيضاً: أن ينكر تحريم محرم من محرمات الإسلام، كأن ينكر تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم شرب الخمر، أو تحريم عقوق الوالدين، أو تحريم قطيعة الرحم؛ لأن هذه محرمات معلوم من الدين بالضرورة تحريمها، ولم ينازع فيها أحد من العلماء، فيكون كافراً، بخلاف ما إذا أنكر شيئاً فيه خلاف بين أهل العلم، فهذا لا يكفر، كما لو أنكر الوضوء من لحم الإبل، فهذا لا يكفر؛ لأن المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يرى الوضوء من لحم الإبل وبعضهم لا يرى ذلك، أو أنكر تحريم الدخان؛ لأن الدخان قيل فيه: إنه ليس بحرام، والصواب أنه حرام، لكن بعض الناس قال: إنه ليس بحرام، فمن أجل الشبهة لا يكفر، بخلاف الخمر فإنه مجمع على تحريمه، ولم يقل أحد: إن الخمر حلال بخلاف الدخان، وإن كان الصواب أنه محرم، وقد اتفق العلماء في المملكة على تحريم الدخان، لكن بعض العلماء في خارج المملكة أفتوا بعدم تحريمه، فمن أجل ذلك لا يكفر من أنكر تحريم الدخان لأجل الشبهة. ومثال ذلك أيضاً: أن ينكر صفة وصف الله بها نفسه أو يجحدها، كأن يجحد قدرة الله، أو علم الله، أو سمع الله أو بصره، أو ينكر خبراً أخبر الله به، كالجنة والنار، فينكر الجنة أو ينكر النار أو ينكر البعث أو غير ذلك مما أخبر الله به. ومن ذلك: أن يقدم قول أحد من الناس على قول الله أو قول رسوله لغرض من الأغراض، ويكون في ذلك كله عالماً متعمداً لا جاهلاً ولا متأولاً تأويلاً يعذر فيه. فالذي جحد فريضة من فرائض الإسلام، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام، أو جحد صفة وصف الله بها نفسه، أو جحد خبراً أخبر الله به، وأنكر ذلك متعمداً لا عن جهل ولا عن تأويل يعذر فيه، بل عن عناد وعن علم وعن مكابرة كافر فيه أما إذا جحد شيئاً من ذلك جاهلاً فهذا معذور حتى يعلم وتقوم عليه الحجة، أو أنكره متأولاً تأويلاً يعذر فيه، مثل بعض الأشاعرة حين تأولوا بعض الصفات فتأولوا الرضا بالثواب، وهناك فرق بين الجاحد وبين المتأول، فالجاحد المنكر يكفر، فالذي يجحد قدرة الله، أو علم الله، مكذب لله في إثباته العلم لنفسه وقدرته، وهذا بخلاف المتأول، فالمتأول يقول: أنا أثبت الاستواء لكن معناه الاستيلاء, وأثبت الرضا لكن معناه الثواب. فهذا متأول، وفرق بين المتأول وبين الجاحد، فالجاحد يكفر والمتأول يعذر بتأويله ولا يكفر. ومثال ذلك: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة الرجل الذي قال لبنيه: إنه لم يبتئر خيراً، يعني: لم يعمل خيراً، وأوصى بنيه أنه إن مات فعليهم أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروه في الريح، وفي بعض الألفاظ: ثم يذروا بعضه في البر وبعضه في البحر وقال: (فوالله لئن قدر الله علي وبعثني ليعذبني عذاباً عظيماً) والحديث له طرق وله روايات. وجاء في الحديث: (أن الله تعالى يأمر البر فيجمع ما فيه والبحر فيجمع ما فيه، ثم يقول له: كن، فإذا هو قائم بين يدي الله، فيقول الله تعالى: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رب! خوفك، قال: فغفر الله له ورحمه)، فهذا الرجل أنكر قدرة الله على بعثه، لكن ليس عن عناد ولا عن تكذيب، وإنما عن جهل بسبب الخوف العظيم من الله، فغفر الله له ورحمه، والحديث -أيضاً- فيه كلام لأهل العلم، فبعض أهل العلم يقول: إن هذا فيمن كان قبلنا، وإنه خاص بهم، والصواب ما ذهب إليه المحققون -مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- أن هذا الرجل إنما أنكر ذلك عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، وليس عن عناد ولا تكذيب، فلو أنكر مكذباً جاحداً لكفر، ونلحظ في هذه القصة أموراً: الأمر الأول: أن هذا الرجل ما أنكر قدرة الله، ولا أنكر البعث، فهو يرى أن الله قادر على بعثه، ويؤمن بالبعث، إلا أنه ظن أنه إذا أحرق وسحق وذري في البر والبحر فإنه الله لا يقدر عليه، لكن لو لم يحرق ولم يذر فإن الله سيبعثه ويقدر عليه، فهذا الرجل ما أنكر البعث ولا أنكر قدرة الله، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، حيث ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة من الحرق والسحق فإن الله لن يقدر على بعثه. ثانياً: أن هذا من الأمور الدقيقة الخفية وليس من الأمور الجلية الواضحة، وفرق بين من ينكر أمراً واضحاً جلياً وبين من ينكر أمراً دقيقاً خفياً، وهذا أمر دقيق خفي بالنسبة له. ثالثاً: أنه لم يجحد ما جحده عن عناد ولا عن تكذيب، بل هذا الذي قاله مبلغ علمه، فهو عن جهل. رابعاً: أن الحامل له على ذلك هو الخوف العظيم من الله، فاجتمع الأمران: الجهل مع الخوف العظيم من الله،

كفر الإباء والاستكبار

كفر الإباء والاستكبار النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، وهو: أن يتلقى أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإباء واستكبار لا بتكذيب، ويكون في ذلك مصدقاً، فهو مصدق لكنه يتلقى أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإباء والاستكبار، فيكون كافراً بإبائه واستكباره وإن كان مصدقاً، ومن أمثلة ذلك كفر إبليس، فإبليس ما قابل أمر الله بالتكذيب والرد، وإنما قابل أمر الله بالاستكبار والإباء والاعتراض، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار والاعتراض على الله، ولهذا اعترض على الله وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فهذا اعتراض على الله، وقد عارض أمر الله بالقياس الفاسد، وأول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس، ولهذا يقول بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وأول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس. والقياس أو الرأي في مقابل النص فاسد عند أهل العلم. فإبليس عنده نص، وهو أمر الله {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الإسراء:61]، لكنه قال: كيف أسجد لآدم وعنصري أحسن من عنصر آدم؟! فآدم عنصره الطين وعنصري النار، والنار أحسن من الطين، ولهذا قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، فأنا أفضل منه ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول، وهذا اعتراض على الله ورد لأمر الله، وقياس فاسد في مقابل النص، وما علم الأبله أن عنصر آدم خير من عنصره، فإن عنصر آدم الطين والتراب، والطين والتراب فيه الدعة والسكون والثبات والاستقرار، وما حوله ينبت ويزهو، وأما عنصر إبليس فهو النار، والنار من طبيعتها الخفة والطيش والعلو وأكل ما حولها، كما قال تعالى: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28]، فمن قال لك -أيها الأبله-: إن عنصرك أحسن من عنصر آدم؟! فإبليس قابل أمر الله بالإباء والاستكبار والاعتراض لا بالإنكار والتكذيب. ومن أمثلة ذلك: فرعون وقومه، فكفرهم -أيضاً- كان بالإباء والاستكبار، قال الله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:45 - 47]، فهذا إباء واستكبار، فقولهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:47] يعني موسى وهارون {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، وسبق أن فرعون كفر بالتكذيب والجحود، كما كفر بالإباء والاستكبار، فاجتمع في فرعون الأمران، فهو مكذب جاحد بلسانه أحياناً، وهو -أيضاً- مستكبر، فاجتمع فيه النوعان: كفر الإباء والاستكبار، وكفر التكذيب والجحود، وهذا هو الغالب على أعداء الرسل من الأمم الذين أبوا واستكبروا عن اتباع الرسل، كما حكى الله عنهم بقوله: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10]، فهذا إباء واستكبار، حيث قالوا: كيف نؤمن لكم وأنتم بشر مثلنا؟ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:11]. وأخبر سبحانه وتعالى عن عاد قوم هود بأن كفرهم كان إباءً واستكباراً فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:13 - 15]. وكذلك ثمود استكبروا وكفروا، وأبوا، قال الله تعالى في بيان دعوة صالح عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:74 - 76]. فكفروا بالاستكبار، كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:76]. وكذلك اليهود كفرهم كان بالإباء والاستكبار؛ لأنهم كفروا عن علم ومعرفة لا عن جهل بالحق، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم لا يشكون في صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، بل يعترفون بأنه نبي الله وأنه رسول الله حقاً، ويعرفونه من كتبهم كما يعرفون أولادهم، ولهذا قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146] يعني محمداً عليه الصلاة والسلام {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، بل قد اعترف بعض اليهود وقال: نعرف محمداً أكثر من معرفة أبنائنا؛ لأن ابناءنا قد يتطرق الشك إلى الواحد منا هل هو ابن له أو ليس بابن له، بخلاف محمد، فلا يتطرق إلى شخص شك في أنه نبي الله وأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، واليهود قوم بهت، ومعروف عنهم العتو والعناد والاستكبار، ولم يسلم منهم إلا القليل، ولهذا جاء في بعض الآثار في عتو اليهود أنه: (أنه لو أسلم عشرة من اليهود لتبعهم بقيتهم) أو كما جاء، بخلاف النصارى؛ فإنه يسلم منهم ألوف، ونحن نسمع عن الذين يعلنون إسلامهم من النصارى في مكاتب الدعوة وفي المحاكم في المملكة وفي غيرها، فهم ألوف مؤلفة، أما اليهود فما سمعنا أن أحداً أسلم منهم إلا قلة، ومن هذه القلة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فإنه صحابي جليل وبادر بالإسلام، وكان سيداً مطاعاً في اليهود، فأسلم ولم يعلم اليهود بإسلامه في أول الأمر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت فإن يعلموا بإسلامي يبهتوني، لكن اسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي. فدخل عبد الله بن سلام واختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء اليهود ودخلوا عليه وهم لا يعلمون بإسلام عبد الله ولا يعلمون أن عبد الله عند النبي صلى الله عليه وسلم قد اختفى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. وجعلوا يثنون عليه، فقال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا في الحال: شرنا وابن شرنا، وجعلوا يسبونه)، وهذا من بهتهم، نسأل الله السلامة والعافية. ومن أمثلة كفر الإباء والاستكبار كفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن أبا طالب معترف بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حق، ومعترف بأن دينه خير الأديان، وقد قال في قصيدته المعروفة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً فقد بين المانع له من الدخول في الإسلام، وهو أن يلومه الناس، والحذر من أن يسب دين آبائه وأجداده، ولهذا لما حضرته الوفاة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام، فذكراه الحجة الملعونة، وقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا عليه، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات على الشرك، فهو مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه وأجداده وأسلافه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات على الكفر، وكفره بالإباء والاستكبار، لكن خف كفره بسبب حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يذود عنه، فشفع له النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة خاصة، لكنها شفاعة تخفيف، وهي شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بـ أبي طالب، فلا يشفع في أحد من الكفار إلا في أبي طالب، ثم هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشفع أحد غيره في كافر، وهي -أي

كفر الإعراض

كفر الإعراض وهو: أن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يواليه ولا يعاديه ولا يصدقه ولا يكذبه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة، فهو معرض عن دين الله، لا يتعلم دين الله ولا يعبد الله، فهذا كفر الإعراض، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]. وهذا كما يقول بعض الناس فلان لاديني. أي: معرض فلا يتدين بدين، ومثال ذلك قصة ابني عبد ياليل، فإن أحدهما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إلى الإسلام فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك، ثم مضى وتركه، فليس عنده استعداد لأن ينظر فيما جاء به الرسول، فهو يقول له: يحتمل أن تكون صادقاً وأن تكون كاذباً، فإن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك. ثم مضى وتركه، فهذا معرض. وإعراض المرء عن دين الله بحيث لا يتعلم دين الله، ولا يعبد الله كفر وردة، كمن يقول بعض الناس عنه: إنه لاديني، أي: لا يتدين بدين، فهو معرض.

كفر الشك

كفر الشك وهو ألا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، بل يشك في أمره، فليس عنده جزم بالصدق ولا بالكذب، بل يشك في أمره، وهذا الشك إنما يكون في أول الأمر، ولا يبقى الشك؛ لأنه إذا تأمل في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته والأدلة التي تدل على الحق وعلى وجوب توحيد الله وإخلاص الدين له فإنها لا بد من أن تدله على الحق واليقين وتوصله إلى الصدق، فهي مستلزمة للصدق بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كالشمس في رابعة النهار. فالشك يكون في أول الأمر ولا يكتمل؛ لأنه حينما يشك إما أن ينظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وإما ألا ينظر، فإن لم ينظر صار معرضاً والتحق بالقسم السابق، وهو قسم الإعراض، وإن نظر فلا بد من أن يتبين له الحق، وحينئذ يكون له أحوال: فإما أن يؤمن ويصدق فيكون مؤمناً بالله ورسوله، وإما أن يعترف ويصدق بقلبه ويجحد بلسانه، فيكون مكذباً جاحداً، وإما أن يصدق بقلبه ولسانه لكن يستكبر ولا يقبل، فيكون كفره بالإباء والاستكبار. فالشك يكون في أول الأمر، وبعد ذلك لا بد من أن يكون له موقف آخر، والدليل على هذا النوع من الكفر -وهو كفر الشك والظن- كفر صاحب الجنتين الذي قص الله علينا قصته مع صاحبه في سورة الكهف فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:32 - 36]، فهذا الشك شك في الساعة وقيامها، قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ} [الكهف:35 - 37]، فأخبر أنه كفر بهذا الشك، {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف:37 - 39]، ثم أرشده إلى الإيمان فقال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ َتَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:39 - 43]. ومثال ذلك أيضاً قول الله تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:49 - 50] فهذا شك {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]. والمقصود بالإنسان في قوله تعالى: {يَسْأَمُ الإِنْسَانُ} [فصلت:49] أي: الكافر، بدليل أنه شك في الساعة. إذاً: لا يكون هناك إيمان مع الشك، بل لابد من الجزم واليقين، فإذا شك الإنسان أو تردد فليس بمؤمن.

كفر النفاق

كفر النفاق وهو: أن يظهر الإيمان والتصديق بلسانه وينطوي قلبه على التكذيب والكفر، كحال المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كـ عبد الله بن أبي وغيره من المنافقين، فإنهم كانوا يظهرون الإيمان بألسنتهم والتصديق، بل ويعملون بجوارحهم فيصلون ويحجون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قلوبهم منطوية على التكذيب والكفر، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]، وكفر النفاق ضد كفر التكذيب والجحود، فكفر التكذيب والجحود يكون قلب صاحبه مصدقاً واللسان جاحداً، أما كفر النفاق فالقلب جاحد واللسان مصدق، فهذا ضد الآخر. والكفر الاعتقادي بجميع أنواعه من قسم الكفر الأكبر الذي يخرج من الملة، وهو يوجب الخلود في النار. نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعافينا وأن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن يجنبنا الكفر بأنواعه والشرك بأنواعه والنفاق بأنواعه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العصمة، والثبات على دينه، والاستقامة عليه، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

منزلة العمل من الإيمان

منزلة العمل من الإيمان Q هل العمل شرط في صحة الإيمان أو في كماله؟ A لا بد من العمل وانقياد الجوارح في الإيمان، فمن زعم أنه مؤمن مصدق ولم يعمل فليس بمؤمن؛ لأنه إذا لم يعمل ولم ينقد بجوارحه صار إيمانه كإيمان فرعون، ففرعون كان مصدقاً، ولهذا أخبر الله تعالى عن موسى أنه قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ} [الإسراء:102] أي: بأن دينه حق، فلا بد للإيمان من انقياد الجوارح ومن عمل يتحقق به هذا الإيمان، وإلا كان كإيمان فرعون، كما أن الإسلام لا بد له من إيمان يصح به وإلا كان كإسلام المنافقين، فالمنافقون يعملون بجوارحهم وعندهم عمل، لكن ليس عندهم إيمان باطن يصح به هذا الإسلام، فعندهم إسلام في الظاهر لكن ليس عندهم إيمان يصححون به إسلامهم. فلا بد للإيمان من عمل يتحقق به، ولا بد للإسلام والعمل من إيمان يصح به، فمن صدق ولم يعمل فليس بمؤمن؛ لأن إيمانه كإيمان فرعون، ومن عمل بجوارحه ولكنه لم يصدق في الباطن فليس بمؤمن؛ لأن إسلامه ليس معه إيمان يصححه.

ضابط المعلوم من الدين بالضرورة

ضابط المعلوم من الدين بالضرورة Q ما هو ضابط المعلوم من الدين بالضرورة؟ A ضابطه كاسمه، فهو معلوم من الدين بالضرورة يعرفه الخاص والعام، فكلهم علموا وجوب هذا الشيء أو تحريم هذا الشيء، ولم ينازع في هذا أحد من المسلمين ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم، كوجوب الصلاة، فلم يقل أحد من الناس: إن الصلاة غير واجبة، لا من العلماء ولا من غيرهم، بل أجمع المسلمون على أن الصلاة واجبة، فمن أنكر وجوبها كفر، وكذلك الزكاة، فلم يقل أحد: إن الزكاة غير واجبة، وكذلك الصوم والحج، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة إيجابه، فإذا أنكره شخص كفر، ولو فرضنا أن هناك شخصاً نشأ في بلاد بعيدة ولا يدري ففي هذه الحالة لا بد من أن يعلم، وكذلك ما هو معلوم من الدين بالضرورة تحريمه، مثل تحريم الزنا، فلم يقل أحد من الناس: إن الزنا حلال فالزنا حرام بإجماع الأمة كلها، فمن استحل الزنا كفر، وكذلك الربا، فلم يقل أحد: إن الربا حلال، لكن الخلاف في التفاصيل، ولو فرضنا أن أحداً أسلم في بلاد بعيدة أو في مجتمع ربوي يتعامل بالربا وهو لا يدري وقال: هو حلال، فهذا لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة وتبين له النصوص، فإن أصر كفر، وكذلك الخمر، فلم يقل أحد من الناس: إن الخمر حلال، بل الخمر مجمع على تحريمه، وكل أمر معلوم من الدين بالضرورة تحريمه أو إيجابه من أنكر تحريمه أو أنكر إيجابه كفر.

حكم اتباع الهوى

حكم اتباع الهوى Q ما معنى هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]؟ وهل كل من اتبع هواه كافر؟ A إذا اتبع هواه فعمل الكفر فقد كفر، وإذا اتبع هواه فعمل معصية فإنه يكون عاصياً، فاتباع الهوى قد يصل به إلى الكفر، فيكذب الله أو يكذب رسوله أو يعبد غير الله، فيفعل ناقضاً من نواقض الإسلام فيكون كافراً، وقد يتبع الهوى فيعصي، كأن يزني أو يشرب الخمر ولا يستحله، فيكون عاصياً ومرتكباً لكبيرة.

حال الحسنات بعد التوبة من الردة

حال الحسنات بعد التوبة من الردة Q إذا كفر العبد وكان له قبل كفره حسنات ثم تاب ورجع، فهل ترجع إليه حسناته؟ A إذا كان الإنسان مؤمناً ثم ارتد -والعياذ بالله- ثم من الله عليه بالإسلام فإنه يحرز حسناته وأعماله السابقة بإيمانه وإسلامه، ولا تحبط أعماله السابقة، إلا إذا مات على الردة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، فاشترط الله سبحانه وتعالى لحبوط العمل الموت على الكفر، فإذا مات على الكفر حبطت الأعمال، أما إذا من الله عليه بالإسلام ورجع فإنه يحرز أعماله السابقة، بل حتى إذا أسلم وكان له أعمال صالحة كان يعملها قبل إسلامه فإنه يحرزها. وقد ثبت أن حكيم بن حزام رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أعتق في الجاهلية مائة من العبيد، فهل ينفعه ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما أسلفت من خير). فـ حكيم بن حزام رضي الله عنه أعتق مائة في الجاهلية وأعتق مائة في الإسلام رضي الله عنه وأرضاه.

حكم الشك في وجود الله بسبب وسوسة الشيطان

حكم الشك في وجود الله بسبب وسوسة الشيطان Q هل يدخل في كفر الشك والظن ما يعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان من الشك في أشياء اعتقادية، كوجود الله وغيره لوسوسة الشيطان؟ A على الإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان ومن وساوسه، وأن يدافعها ولا تضره إذا دافعها واستعظمها، ولهذا استعظم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الشيء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه شيئاً لا يستطيع أن يتكلم به -يعني: من عظمه- لأن يخر من السماء خير له من أن يتكلم به -وفي بعض الروايات: لأن يكون حممة- أي: فحمة -تحترق ولا يتكلم به- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وجدتموه؟! ذاك صريح الإيمان) يعني: أن كتم الوسوسة ودفعها واستعظام التكلم بها هو طريق الإيمان، فهذا عدو الله يريد أن يتعب الإنسان، فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وجاء في الحديث الآخر: (أن الشيطان لا يزال بالإنسان يوسوس له، ثم يقول: هذا خلقه الله وهذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته) يعني: ليقطع الشك فيه، ولينظر في عمله، فإذا وجد شيئاً من ذلك قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقطع الشك فيه، وجاء في بعضها (ويقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]). وفي بعضها (يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]). والمقصود أن الإنسان إذا وجد شيئاً من ذلك فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وينتهي، ولا يسترسل في التفكير، ولينظر في عمله، ويقرأ سورة (قل هو الله أحد)، وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ} [الحديد:3] ولا يضره ذلك إن شاء الله.

حكم إحراق الميت بعد موته

حكم إحراق الميت بعد موته Q إذا كان من شأن الرجل الذي أمر بإحراقه بعد موته ما علم، فهل يجوز فعل ذلك الآن خوفاً من الله؟ A لا يجوز ذلك؛ لأن هذا فعله عن جهل، ولا يقول بهذا أحد، فالإنسان المسلم يغسل ويصلى عليه ويقبر مع المسلمين في مقابرهم كما شرع الله، لكن هذا كان فيمن قبلنا، وهذا فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم. فمن اعتقد أن الله لا يبعثه، وأمر بأن يحرق حتى لا يبعثه الله عناداً وتكذيباً كافر مرتد بإجماع المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.

[13]

دروس في العقيدة [13] مما يناقض التوحيد الكفر العملي المخرج من الملة، وأمثلته كثيرة، فمنه بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقاد وجود هدي أحسن من هديه، وسب الله تعالى وسب رسوله، ونحو ذلك، ومما ينافي كمال التوحيد الكفر الأصغر، ويقع بجملة من الأمور، منها قتال المسلم، وتكفيره، وتصديق الكاهن في مسألة بعينها صحت منه، ونحو ذلك من الأمور التي يجب على المسلم أن يحذرها على توحيده.

الكفر العملي

الكفر العملي

الكفر العملي المخرج من الملة

الكفر العملي المخرج من الملة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن مما ينافي التوحيد ويناقضه: الشرك والكفر، وقد سبق الكلام على أنواع الشرك وأمثلة الشرك، وسبق الكلام على الكفر، وأنه ينقسم إلى اعتقادي وعملي، وأنواع الكفر الاعتقادي كلها تنافي التوحيد وتناقضه بالكلية، وأما الكفر العملي فهو نوعان: النوع الأول: ينافي الإيمان ويناقضه بالكلية. والنوع الثاني: ينافي الكمال الواجب. فالنوع الأول من الكفر العملي ينافي الإيمان وينقضه بالكلية، وهو ما إذا كانا شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام، وهذا له أمثلة، فمن أمثلته: قتل النبي، كما فعل بنو إسرائيل، فإنهم قتلوا كثيراً من أنبيائهم، قال الله سبحانه وتعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] فمن قتل نبياً فقد كفر، وكذلك سب النبي، فمن سب نبياً فقد كفر، أو سب الله، أو سب دين الله، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه أو بثوابه أو بعقابه، فإنه يكفر؛ لأن هذا ناقض من نواقض الإسلام، وكذلك إذا استهان بالمصحف بأن داسه تحت قدميه مستهيناً به أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر فهذا كفر عملي والعياذ بالله. وكذلك من سجد للصنم أو للشمس أو للقمر، فإذا فعل ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه يكفر؛ لأن نواقض الإسلام كثيرة، وقد ذكرها العلماء وبوّبوا لها في كل مذهب من المذاهب، كالحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، فكلهم يبوبون في كتب الفقه باباً يسمونه: (باب حكم المرتد)، وهو الذي يكفر بعد إسلامه.

نواقض الإسلام

نواقض الإسلام ونواقض الإسلام كثيرة، منها عشرة ذكرها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وهي: الأول: الشرك بالله، فمن فعل أي نوع من أنواع الشرك التي سبقت أمثلتها فقد انتقض دينه وإسلامه. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم قضاء الحاجات أو الشفاعة أو يتوكل عليهم كَفَر إجماعاً. الثالث: من شك في كفر المشركين أو اليهود أو النصارى أو الوثنيين أو لم يكفرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر بالله. أي: لو قال مثلاً: اليهود والنصارى وغيرهم لا أقول فيهم شيئاً، فهذه كلها أديان لا أحكم فيهم بشيء، فأنا أعبد الله ولا أقول فيهم شيئاً! فهذا يكفر؛ إذ لابد من أن يحكم عليهم بالكفر، فمن لم يكفر اليهود أو النصارى أو المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر. الرابع: من اعتقد أن هناك هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر. فلو قال: هدي فلان من الناس -ولو كان من الصحابة أو من التابعين- أفضل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكفر. الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد علمه ومعرفته في الشريعة فإنه يكفر، قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر، وكذلك إذا استهزأ بشيء من دين الإسلام أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. السابع: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين بالرأي أو بالسلاح أو بالمال. فإذا ساعد الكفار على المسلمين أو عاونهم على المسلمين بالمال أو بالسلاح أو بالرأي كفر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. الثامن: من اعتقد أن هناك أحداً يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر. فمن اعتقد أن هناك أحداً يجوز له أن يخرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أن الخضر جاز له الخروج عن شريعة موسى فهذا يكفر؛ لأن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين: الجن والإنس، وهو آخر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، أما شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فليست عامة، فلذلك وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، ثم إن الخضر -على الصحيح- هو نبي أوحي إليه، بدليل أنه فعل أموراً لا يمكن فعلها إلا عن طريق الوحي، حيث خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] ففعله عن أمر الله، فهو نبي يوحى إليه، وقال كثير من العلماء: ليس بنبي، وإنما هو رجل صالح. وعلى كل حال فإنه -ولو كان رجلاً صالحاً- ليس من بني إسرائيل، ولم يرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام، فوسعه الخروج عن شريعة موسى، أما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فلا يسع أحداً الخروج عن شريعته؛ لأنه آخر الأنبياء، وشريعته عامة لجميع الثقلين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]. فمن خصائص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم العموم والشمول لكل أحد، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما ذكر خصائصه: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة). التاسع: السحر، فمن تعلمه أو علمه أو رضي به كفر، ومن ذلك الصرف والعطف، فهو داخل في السحر، قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، أي: فلا تكفر بتعلم السحر. العاشر: الإعراض عن دين الله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]. ونواقض الإسلام كثيرة، وليست محصورة في هذه العشر، فمن فعل ناقضاً من نواقض الإسلام فإنه يكفر، سواء أكان عملاً أم اعتقاداً أم قولاً أم شكاً، فقد يكون الكفر بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالاعتقاد، وقد يكون بالشك. فيكون الكفر بالقول إذا تكلم بكلمة الكفر، كأن سب الله، أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو سب الإسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، ومن ذلك ما قص الله علينا في كتابه في وصف بعض المنافقين: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]، فأثبت لهم كفراً بعد الإسلام، بسبب قولهم كلمة، فغزوة تبوك تكلم أناس بكلام على وجه المزاح، حيث استهزءوا بقراء الصحابة، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فأثبت لهم بقولهم كفراً بعد الإيمان. ويكون الكفر بالفعل كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف أو تلطيخه بالنجاسة. ويكون بالشك كما لو شك في البعث، أو شك في الجنة، أو شك في النار، أو شك في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، أو شك في وجود الملائكة، أو شك في وجود العرش، فإنه يكفر بهذا. ويكون الكفر بالاعتقاد، فإذا اعتقد أن لله صاحبه أو ولداً، أو أن له شريكاً أو أن هناك أحداً يستحق العبادة مع الله؛ فهذا كفر مخرج من الملة، وهذه كلها من أنواع الكفر. ومن أنواع الكفر ونواقض الإسلام: اعتقاد أن هناك نبياً بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس خاتم النبيين، وسيأتي بعده نبي، أو قال: إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب، وليست لجميع الناس؛ فهذا كافر؛ لأنه مكذب بقول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، ولهذا قاتل الصحابة بني حنيفة وهم يصلون ويؤذنون ويلتزمون بشرائع الإسلام؛ لأنهم سمعوا منهم كلمة واحدة، وهي أنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فلما رفعوا مسيلمة إلى مقام النبوة كفروا. ومن ذلك -أيضاً- ما حدث في عهد علي رضي الله عنه، فإنه عاقب الذين غلوا فيه ورفعوه إلى مقام الألوهية، فخذ لهم أخاديد وأضرمها وأججها ناراً، ثم ألقاهم وأحرقهم فيها، رغم أنهم كانوا يصلون ويصومون ويتعلمون العلم من الصحابة؛ لأنهم فعلوا ناقضاً من نواقض الإسلام، فكل من غلا في شخص وجعل فيه نوعاً من الإلهية أو ادعى أنه يستحق أن يعبد أو يدعى من دون الله أو يذبح له أو ينذر له أو أنه إله فقد كفر بالإجماع. ومن ذلك ما فعله بنو عبيد القداح في آخر القرن الثالث الهجري وأول القرن الرابع، حينما ملكوا المشرق والمغرب وهم يصلون الجمعة والجماعة، ويخطب لهم على المنابر، لكن لما أظهروا شيئاً من نواقض الإسلام أجمع العلماء على كفرهم، وقاتلهم المسلمون واستنقذوا ما بأيديهم من بلاد المسلمين؛ بسبب ما كانوا يعتقدونه من اعتقاد باطل، وهو الغلو في آل البيت، فمن اعتقد من الرافضة أن أحداً من آل البيت يستحق شيئاً من العبادة، أو أنه يتصرف في الكون، أو أن القرآن طار ثلثاه ولم يبق إلا الثلث -كما تعتقده بعض الرافضة- أو سب الصحابة كلهم أو كفرهم فقد كفر؛ لأن سب الصحابة وتكفيرهم جميعاً سب للدين وللذين حملوه، فمن الذي حمل إلينا الدين؟ فإذا كان الصحابة الذين حملوا الدين كفاراً فكيف يوثق بهذا الدين؟! بل استنبط الإمام مالك رحمه الله كفر من سب الصحابة جميعاً من قول الله تعالى في سورة الفتح في وصف الصحابة: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، فقال: من أبغض الصحابة فهو كافر بنص القرآن. فهذه كلها نواقض من نواقض الإسلام، فلابد المسلم -ولاسيما طالب العلم- من الاعتناء بها ومراجعتها دائماً وأبداً، فمن فعل ناقضاً من نواقض الإسلام كفر وانتقض إسلامه ودينه، ولا ينفعه ما كان يفعله من الصلاة والصوم والحج، إلا إذا تاب قبل الموت وقبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، فمن تاب تاب الله عليه. ومن أمثلة الكفر الذي يخرج من الملة: من قال: مُطرنا بنوء كذا أو بنجم كذا. معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سماه كفراً؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، فإذا قال: مطرنا بنوء كذا أو بنجم كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب. لكن هـ

الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة

الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة النوع الثاني من أنواع الكفر العملي: الذي لا يخرج من الملة، وهو كل ما ورد من الذنوب تسميته كفراً ولم يصل إلى حد الكفر الأكبر، فهو ليس شركاً في العبادة ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، بل هو ذنب من الذنوب ورد في النصوص تسميته كفراً، فهذا يكون كبيرة من الكبائر، لكنه لا يخرج من الملة، ولا يخلد صاحبه في النار، ولا يحبط الأعمال، بل صاحبه تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. والكفر العملي الذي لا يخرج من الملة له أمثلة، فمن أمثلته: قتال المسلمين بعضهم بعضاً، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع قال في خطبته: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فسمى قتال المسلمين بعضهم بعضاً كفراً، فهو كفر عملي، إلا من استحل، فمن استحل قتل أخيه ورآه حلالاً فإنه يكفر كفراً أكبر، لكن إذا كان قتاله نتيجة الهوى وطاعة للشيطان فهذا يكون ذنباً، أما إذا كان يرى أن قتال المسلمين حلالاً فإنه يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة، وقتال المسلم -ولو كان واحداً- من الأعمال الكفرية، أما سب المسلم فهو فسوق، قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). ومن أمثلة الكفر الأصغر: أن يرمي أخاه بالكفر، فيقول: يا كافر، وهذا من الأعمال التي تعتبر كفراً أصغر؛ لما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وثبت في حديث آخر أن الإنسان إذا رمى أخاه بالكفر أو لعنه فإنها تصعد إلى السماء، ثم ترجع إلى الذي لُعن أو رمي بالكفر، فإن كان أهلاً لها وقعت عليه، وإن لم يكن أهلاً لها رجعت إلى الذي قالها وتكلم بها، وهذا يفيد الحذر، فينبغي للإنسان أن يحذر من شر اللسان. ومن أمثلة الكفر العملي: إتيان المرأة في دبرها، فإذا أتى الرجل زوجته في دبرها فهذا كفر أصغر؛ لأن الجماع في الدبر حرام، وهو من الأعمال الكفرية؛ لما ثبت في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد)، فالجماع يكون في الفرج الذي هو محل الحرث، أما الجماع في الدبر فهو من كبائر الذنوب، وهو من الأعمال الكفرية. ومن أمثلة الكفر العملي: تصديق الكاهن؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا فيه اختلاف كما سبق، فهل تصديق الكاهن كفر يخرج من الملة أو لا يخرج من الملة؟ فمن العلماء من قال: إنه يخرج من الملة بإطلاق، ومن العلماء من قال: إنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، ومن العلماء من توقف، والصواب أنه يخرج من الملة إذا صدقه في دعوى علم الغيب، فإذا صدق الكاهن في دعوى علم الغيب فإنه يكفر كفراً أكبر، ويكون من الكفر العملي الذي يخرج من الملة؛ لأنه مكذب لله في قوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله} [النمل:65]، أما لو صدقه في قضية معينة، كأن تكون هذه الكلمة التي قالها الكاهن سُمعت من السماء، فوقعت كما قال فصدقه؛ لأنه سمع من السماء، أو تتعلق بعلاج مريضه أو ما أشبه ذلك؛ فهذا لا يخرج من الملة. ومن أمثلة الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة: انتساب الإنسان إلى غير أبيه وإلى غير قبيلته؛ لما ثبت في الصحيحين: (ما من رجل ينتسب إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كفر)؛ لما فيه من التلبيس، ولما فيه من كفر النعمة، فأبواه هما السبب في وجوده، ثم ينتسب إلى غيرهما، أو ينتسب إلى غير قبيلته، كأن يكون من قبيلة المطير فينتسب إلى قبيلة هذيل، أو إلى قبيلة شمر أو قبيلة عنزة، فإذا أنكر قبيلته فهذا من الأعمال الكفرية. ومن أمثلة الكفر العملي: انتساب العبد والمولى إلى غير مواليه، كما جاء في الحديث: (من انتسب إلى غير مواليه فقد كفر) أو ما معناه. وجاء في آية نسخ لفظها وبقي حكمها: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم)، وهي من الآيات التي نسخ لفظها وبقي حكمها. ومن أمثلة الكفر العملي: كفر النعمة، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

الحكم بغير ما أنزل الله ومنزلته من الكفر

الحكم بغير ما أنزل الله ومنزلته من الكفر ومن أمثلة الكفر العملي: الحكم بغير ما أنزل الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وقد اختلف العلماء في الحكم بغير ما أنزل الله هل هو كفر يخرج من الملة أو كفر لا يخرج من الملة؟ اختلف العلماء في هذا على أقوال: فمن العلماء من تأول الآية على الكفر الأصغر، وقال: إن الحكم بغير ما أنزل كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهذا روي عن ابن عباس وعطاء، قال ابن عباس رضي الله عنه في آية الحكم بغير ما أنزل الله: ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وقال عطاء: هو كفر دون كفر. هذا القول الأول. ومن العلماء من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهذا تأويل عكرمة، لكنه تأويل مرجوح ضعيف؛ لأن نفس الجحود كفر، سواء حكم أو لم يحكم، فإنه إذا جحد ما أنزل الله كفر ولو لم يحكم. ومن العلماء من تأول الآية على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله، ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام، فيكون كفراً أكبر، وهذا تأويل عبد العزيز الكناني، وهذا أيضاً قول ضعيف وتأويل مرجوح؛ لأن الله سبحانه وتعالى توعد من حكم بغير ما أنزل الله، والوعيد يتناول ترك الحكم بجميع أو ببعض ما أنزل الله، فهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه أو ببعضه. ومن العلماء من تأول الآية على الحكم بمخالفة النص عمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل، وقد حكى هذا القول البغوي عن العلماء، ويكون كفراً أكبر، وهذا -أيضاً- تأويل مرجوح؛ لأن هذا تقييد ليس عليه دليل. ومن العلماء من تأول الآية في أهل الكتاب، وقال: إن هذه الآية خاصة بأهل الكتاب: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44] أي: من أهل الكتاب: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وهذا -أيضاً- قول مرجوح، وهو قول قتادة والضحاك، وهو تأويل مرجوح؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، فلا يصار إليه إلا بدليل، ولأن العبرة بعموم اللفظ، والآية عامة. ومن العلماء من أخذ بإطلاق الآية وقال: إن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر ينقل عن الملة مطلقاً. فهذه ستة أقوال لأهل العلم، والتحقيق والصواب في هذه المسألة أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر، وذلك بحسب حال الحاكم، فقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر، وقد يكون كفراً أصغر، بحسب حال الحاكم، فإذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله من الآراء والقوانين الوضعية معتقداً أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه يجوز له أن يحكم بالآراء والقوانين، أو أنه مخير بين أن يحكم الآراء والقوانين وبين أن يحكم بما أنزل الله؛ فهذا كفر أكبر يخرج من الملة، سواء حكم بالقوانين والآراء معتقداً أنها أحسن من الحكم بما أنزل الله، أو مماثلة للحكم بما أنزل الله أو أقل من الحكم بما أنزل وأن الحكم بما أنزل الله أحسن، فمادام أنه يرى أنه يجوز له الحكم بالقوانين والآراء الوضعية؛ فإنه يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة، سواء اعتقد أن القوانين والآراء مماثلة للحكم بما أنزل الله أو أحسن أو أقل، وكذلك لو استهان بحكم الله مع تيقنه أنه حكم الله. أما إذا لم يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله وحكم بغير ما أنزل الله طاعة للهوى والشيطان؛ فإنه يكفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، وعلى ذلك يكون الحاكم بغير ما أنزل الله ممن يحكم بالآراء والقوانين الوضعية له حالات: الحالة الأولى: أن يحكم بالآراء والقوانين الوضعية معتقداً أنها أحسن من الحكم بما أنزل الله، وأن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر الحاضر، وإنما يناسبه الحكم بالآراء والقوانين الوضعية، فهذا كفر أعظم، وهذا من أعظم الكفر، وهو أسوأ الحالات وأعظمها كفراً، قال الشيخ محمد أحمد شاكر رحمه الله: وهذا مثلما ابتلي به الذين درسوا القوانين الأوربية من رجال الأمم الإسلامية ونسائها الذين أشربوا في قلوبهم حبها والشغف بها والذب عنها، فأذاعوها وحكموا بها لما ربوا من تربية أساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الإسلام، ومنهم من يصرح ومنهم من يتوارى، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فهذا مثال يمثل به الشيخ محمد أحمد شاكر رحمه الله. فهؤلاء الذين درسوا القوانين الأوربية وأذاعوها وحكموا بها وأشهروها هم أعظم الناس كفراً. الحالة الثانية: أن يحكم بالآراء والقوانين الوضعية معتقداً أنه يجوز الحكم بها ويجوز الحكم بما أنزل الله، ويعتقد أن الحكم بالآراء والقوانين مماثل لحكم الشريعة، فهما على حدٍ سواء، وأنه مخير بين أن يحكم بالآراء والقوانين الوضعية أو يحكم بالشريعة، فهذا -أيضاً- كافر كفراً أكبر بسبب هذا الاعتقاد. الحالة الثالثة: أن يحكم بالآراء والقوانين الوضعية معتقداً أن الحكم بما أنزل الله أحسن وأفضل من الحكم بالآراء والقوانين الوضعية، لكنه يعتقد أنه لا مانع من الحكم بالآراء والقوانين الوضعية، وأنه يجوز الحكم بالآراء والقوانين الوضعية وإن كان الحكم بالشريعة الإسلامية أحسن، فهذا -أيضاً- كفر أكبر؛ لأنه جوز الحكم بغير ما أنزل الله واستحله، ومثله مثل من استحل الزنا، لكن لا يكون المستحل كافراً إلا إذا استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، فكذلك إذا استحل الحكم بالآراء والقوانين الوضعية كفر ولو كان يعتقد ويرى أن الحكم بالشريعة أحسن. الحالة الرابعة: أن يحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة معتقداً أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه عاصٍ لله مستحق للعقوبة، ولكنه إنما حَكَم بغير ما أنزل الله طاعة للهوى والشيطان وطمعاً في مال أو طمعاً في رياسة أو لأجل رشوة دفعت له، أو لأجل أن ينفع المحكوم له؛ لأنه صديق له أو قريب له، أو لأجل أن يغر بالمحكوم عليه، أو خوفاً من سلطان أو من شخص هدده، فحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه عاصٍ بهذا وأنه مستحق للعقوبة، ويعتقد أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل، فهذا يكفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة. الحالة الخامسة: أن يحكم بغير ما أنزل الله بعد بحثه عن حكم الله واستفراغ وسعه وبذل جهده في تعرف حكم الله، لكنه اجتهد وبحث، وبذل جهده، واستفرغ وسعه ليعرف حكم الله، فجهل وأخطأ وحكم بغير ما أنزل الله خطأً بعد البحث واستفراغ الوسع، فهذا خطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده؛ لما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). وعلى ذلك نقول: الحاكم بغير ما أنزل الله له خمس حالات، يكفر كفراً أكبر في ثلاث منها، ويكفر كفراً أصغر في الرابعة، وأما في الحالة الخامسة فخطؤه مغفور، بل له أجر على اجتهاده. هذه هي حالات الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا التفصيل هو الصواب، وهو مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه والحسن، وروي عن ابن مسعود والحسن أنه قال: إذا حكم بغير ما أنزل الله مستحلاً له فهو كافر، وإذا حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أنه آثم فهو من فساق المسلمين. وبهذا تكون أقوال العلماء في الحكم بغير ما أنزل الله سبعة أقوال: القول الأول: أنه كفر أصغر مطلقاً. القول الثاني: أنه كفر أكبر مطلقاً. القول الثالث: أن الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] محمولة على من جحد الحكم بما أنزل الله. القول الرابع: أن الآية محمولة على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله. القول الخامس: أنه إذا حكم بغير ما أنزل الله وخالف النص عمداً من غير جهل ولا خطأ في التأويل. القول السادس: أن الآية محمولة على أهل الكتاب. القول السابع: التفصيل الذي هو مروي عن ابن مسعود والحسن، وهو أنه يكفر كفراً أكبر إذا حكم بغير ما أنزل الله مستحلاً للحكم بالآراء والقوانين، سواء اعتقد أنها أحسن من الحكم بما أنزل الله أو مماثلة له أو أقل. وهذا هو الصواب، والحمد لله. ونحن في هذه البلاد -المملكة العربية السعودية- التي قامت على التوحيد والإسلام نعتز بالشريعة والحكم بالشريعة، حيث أقيمت المحاكم الشرعية التي تحكم بشرع الله، وهذا من فضل الله علينا، فالمحاكم الشريعة -والحمد لله- موجودة في هذه البلاد، وتحكم بشريعة الله، وتقام فيها الحدود، فيقتل القاتل، وتقطع يد السارق، ويقام الحد على المحارب، وكثيراً ما نسمع في بيانات وزارة الداخلية إقامة الحدود، وهذا من فضل الله تعالى على هذه البلاد، حيث قامت هذه البلاد -بلاد التوحيد- على الإسلام منذ أن نشأت ومنذ أن تعاقد الإمامان: الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود، والدولة -والحمد لله- قامت على التوحيد والإسلام، وتحكم بشريعة الله، وهي تعتز بالإسلام والحمد لله، حيث أقامت المحاكم الشرعية التي تقيم حدود الله وتحكم بشريعة الله، فكان ذلك سبباً في استتباب الأمن. ومن محاسن ولاة الأمر فيها السماح بهذه الدروس وهذه الدورات العلمية التي نفع الله بها، فنسأل سبحانه وتعالى أن يوفق ولاة أمورنا في هذه البلاد إلى كل خير، وأن يوفقهم للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يزيدهم من الهدى والتوفيق، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، وأن يريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه، وأن يجعلنا من أعوانهم وأنصارهم في الحق، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على دعوى كون الكفر بالاعتقاد دون العمل

الرد على دعوى كون الكفر بالاعتقاد دون العمل Q ظهرت شبهة متأخرة وأيدت بالأدلة، وهي أنه لا يخرج من الإسلام إلا من كفر كفراً اعتقادياً قلبياً، وأن الكفر لابد فيه من الاعتقاد، وأنه محصور في التكذيب والاستكبار، وأن الإنسان لو سجد للصنم لأجل مال فإنه لا يكفر، وكذلك إذا سب الله ورسوله فإنه لا يكفر حتى يعتقد، وأن الآية التي نزلت في حكم السب مخصوصة بالمنافقين ويقولون: إن السب علامة على الكفر لا أنه كفر، فهل هذا القول هو قول لأهل السنة؟ A هذا القول قول فاسد، فهو مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة، وقد سبق أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على قتال بني حنيفة؛ لأنهم قالوا: إن مسيلمة نبي. وقد كانوا يؤذنون ويصلون ويصومون، وكذلك قول الله تعالى في الذين تكلموا بكلمة الكفر: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]، وهي كلمة قالوها، وكذلك الذين في غزوة تبوك تكلموا بكلمة قالوها على وجه المزاح، وجاءوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم الكفر بعد إيمانهم، فجاء هؤلاء يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ما نعتقد القول به، وإنما نحن نمزح ونتحدث حديث الركب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، فكان لا يزيد على تلاوة هذه الآية: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فلو كان الإنسان لا يكفر إلا بعقيدة القلب لما كفر الله تعالى هؤلاء. بل أجمع أهل السنة على كفر من سب الله وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مجمع عليه من قبل أهل السنة والجماعة، وهناك كتاب لـ شيخ الإسلام رحمه الله في هذا سماه: (الصارم المسلول على شاتم الرسول). فهذا كلام ليس بصحيح، فالكفر يكون بالتكذيب والجحود، ويكون بالإباء والاستكبار، ويكون بالإعراض عن دين الله، ويكون بالشك، ويكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون بالعقيدة. والاعتقاد لابد منه؛ لأن الإنسان إذا سجد للصنم فلابد من أن يكون في اعتقاده أنه ما سجد له إلا تعظيماً له، ولو قال: إنه يحترمه مع أنه لا يعبده، فهذا كفر، فلابد من أن يكون هناك قصد، ولا يحصل السجود للصنم من دون قصد، ولهذا فإن بعض الصوفية يسجد لشيخه، فإذا سألته قال: هذا ليس سجوداً، وإنما هو وضع الرأس أمام الشيخ احتراماً له وتواضعاً. فمادام أنه قصد السجود للشيخ فهو كافر حتى ولو لم يعتقد، وكذلك يكفر -أيضاً- من سجد للصنم أو للنجم ووضع الرأس أمامه احتراماً وتواضعاً، فالمهم أن يكون هناك قصد، فلو داس المصحف بقدميه وقال: أنا ما قصدت شيئاً، أو: ليس عندي اعتقاد أن أستهين بالمصحف، لكن أنا أقصد أن أضعه على قدمي؛ فهذا يكفر ولو لم يعتقد، لأن هذا العمل يكفر صاحبه، فلو قال: أنا أعتقد أن القرآن كلام الله، ولا أعتقد أنه ليس من كلام الله، ثم بال على المصحف فإنه يكفر بهذا الأمر مادام قد قصده، بخلاف لو كان خلفه مصحف ثم رجع القهقرى وهو لا يدرك ثم وطئ المصحف وهو لا يدري، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا ليس له قصد. فالمقصود أنه إذا قصد الفعل فلا يشترط الاعتقاد، وكلام هؤلاء كلام فاسد، وهذا الذي ظهر من هؤلاء لا عبرة به، وليسوا أهلاً لأن يؤخذ بقولهم، وإنما يؤخذ بما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما أجمع عليه وأقره أهل العلم المعروفون بالرسوخ في العلم قبل مجيء هؤلاء الذين لا علم عندهم ولا بصيرة، فلا يؤخذ بأقوال هؤلاء.

حكم الاحتكام إلى القوانين الوضعية في بلاد الكفار

حكم الاحتكام إلى القوانين الوضعية في بلاد الكفار Q بعض المسلمين يعيش في بعض البلدان التي تحكم بالقوانين الوضعية، وقد يلجأ إلى هذه المحاكم لإثبات حق ضائع له، فهل تحاكمه إلى مثل هذه المحاكم كفر؟ A لا؛ لأنه إذا أراد أن يأخذ حقه فإنه مضطر إلى ذلك، لكن لا يجوز له أن يزيد على حقه، فإذا أعطوه زيادة على حقه فلا يأخذ، وهو مضطر إلى أن يأخذ حقه من باب المطالبة بأخذ الحق، فله أن يطالب بأخذ حقه، فإذا أعطوه حقه أخذه، وإذا زادوه عليه فلا يأخذ الزيادة.

حكم القول بوحدة الأديان

حكم القول بوحدة الأديان Q هل يكفر من يقول بوحدة الأديان ويدعو إليها؟ A إذا قال: إنه ينبغي أن تتوحد الأديان، ويرى أنها كلها على حق، وأن اليهودية والنصرانية والإسلام كلها نزلت من عند الله، واعتقد أن الإنسان مخير بين أن يتدين باليهودية أو بالنصرانية أو بالإسلام، فهذا كفر وردة بإجماع المسلمين، فمن لم يكفّر المشركين أو اليهود أو النصارى أو صحح مذهبهم أو شك في كفرهم فهو كافر بالإجماع. فلو قال إنسان: أنا أصوم وأصلي وأتعبد وأوحد الله، لكن ليس لي كلام في اليهود والنصارى، ولا أقول فيهم شيئاً، وهم على دين، والنصارى كذلك لا أقول فيهم شيئاً؛ فهذا يكفر؛ إذ لابد من أن يعتقد كفرهم، فإذا لم تعتقد كفرهم أو شككت في ذلك فإن هذا يكون كفراً وردة، والحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصاً له الدين، وأن تكفر بالطاغوت؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): لا معبود بحق إلا الله، فلابد من النفي والإثبات، فالإثبات: إثبات التوحيد لله، والنفي: نفي جميع أنواع العبادة لغير الله، والكفر بالطاغوت، وهو كل ما يُعبد من دون الله، فكل دين سوى دين الإسلام باطل، ولابد من أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وبطلان الأديان غير دين الله، وتتبرأ منها وتنكرها وتنفيها وتبغضها وتعاديها، فهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، فانظر إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4]، فلابد من البراءة، ولابد من أن تكفر بما عليه اليهود والنصارى من الأديان، وتعاديهم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله، فكل ما سوى دين الإسلام فهو طاغوت، ولابد من أن تعتقد الكفر بالطاغوت، أي: أن تعتقد بطلانه وتنفيه وتنكره وتتبرأ منه ومن أهله، هذا هو الكفر بالطاغوت، ولا يحصل إيمان إلا بالكفر بالطاغوت مع الإيمان بالله، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)، فـ (لا إله) كفر بالطاغوت، (إلا الله) هذا هو التوحيد، وهو إثبات العبادة لله، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27]. فهذا هو معنى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، فهو الكفر بالطاغوت، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] وهذا هو التوحيد، فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] هو معنى (لا إله)، وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] هو معنى (إلا الله).

حكم استعمال الكفار

حكم استعمال الكفار Q من استخدم عمالاً كفاراً من بلاد غير مسلمة، وفضّلهم على المسلمين مع إمكانية استخدام المسلمين، فما حكم ذلك؟ A هذه معصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يخرج اليهود من جزيرة العرب، فقال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وقال: (لا يبقى في جزيرة العرب دينان). فينبغي أن تكون جزيرة العرب سالمة من الأديان الأخرى إلا دين الإسلام، ولا يكون فيها إلا دين الإسلام؛ لأن الجزيرة هي منشأ الإسلام، والإسلام قام على صفات العرب، أما غيرها -مثل العراق والشام ومصر- فلا بأس ببقائهم فيها مع الحذر من شرهم، أما في جزيرة العرب فلا يستخدم هؤلاء، وينبغي أن يستخدم الإنسان من إخوانه المسلمين، وينبغي أن يكون بره ونفعه ومصرفه من المال لصالح المسلمين، حتى ولو كان عندهم بعض الجهل، فيمكن توجيههم؛ لأن هذا على دينك ويمكنك أن توجهه، بخلاف الكافر، فليس على دينك، والذي ليس على دينك لا يعينك، فلا ينبغي للإنسان أن يستخدم الكافر، وإذا فضل الإنسان هؤلاء الكفار فهذا يدل على ضعف إيمانه، فبعض الناس عنده ضعف، إذ يقول: غير المسلمين أحسن! وبعضهم يقول عن الكافر: إنه نشيط، بل أنشط من المسلم، وهذا من صور تلاعب الشيطان والعياذ بالله، وبعضهم يقول: إن المسلم لا يريد أن يعمل وقت الصلاة؛ لأن المسلم يذهب ليصلي، وهذا يعمل في وقت الصلاة فهو أحسن! وهذا يدل على ضعف إيمانه. وإذا فضل العامل من أجل دينه فقد كَفَر، أما إذا فضله طاعة للهوى والشيطان، وحمله على ذلك حب المادة، أو زعم أنه أنشط من المسلم، فهذا فسق ومعصية، ويدل على ضعف الإيمان.

توجيه سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم

توجيه سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم Q لا شك في أن من سجد لصنم أو لشيء غير الله فقد كفر، فما تعليقكم على سجود معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم؟ A قد سبق أن قلنا: إن هذا كان أولاً ولم يعلم بحرمة ذلك، ثم نهاه النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى، ومثل ذلك قول الصحابة: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. ثم زجرهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقد استنبط من ذلك الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب أن من فعل الكفر ثم نُبّه فتاب من ساعته فلا يكفر؛ لأنه فعل هذا عن جهل ثم تاب من قريب، وكذلك سجود معاذ كان عن جهل، ثم بين له النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه فانتهى، أما من تعمد السجود مع العلم فإنه يكفر.

الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر

الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر Q ما الضابط الدقيق في التفريق بين الكفر المخرج من الملة وبين الكفر الأصغر؟ A سبق أن قلنا: إنه إذا كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام صار كفراً أكبر ينقض التوحيد والإيمان، أما إذا كان ذنباً من المعاصي، وليس ناقضاً من نواقض الإسلام، ولكن سماه الشرع كفراً فهو كفر أصغر، وقد سبقت أمثلة نواقض التوحيد والإيمان، مثل: من سب الله أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، والسخرية بالدين، والسحر، واعتقاد أن هناك هدياً أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يسعه الخروج عن شريعته وعن دينه، فكل هذه نواقض تخرج فاعلها من الدين إن كان قاصداً، أما إذا كان الفعل لا يفضي إلى حد الناقض وليس شركاً في العبادة وإنما هو معصية من المعاصي -مثل من أتى امرأة في دبرها، ومثل الطعن في النسب، والنياحة على الميت، ونحو هذا مما وقعت تسميته كفراً- فهو كفر أصغر.

[14]

دروس في العقيدة [14] من الكفر العملي ترك الصلاة، ولا شك أن تاركها داخل في باب عظيم من الخطر، ولم يزل النزاع قائماً بين العلماء في تكفير تارك الصلاة، الأمر الذي يدل على أن التفريط فيها ليس بالهين، ولذا يجب على العبد المحافظة عليها ليسلم دينه ولينجو من عذاب ربه.

الرد على حاصري الكفر في التكذيب والاستكبار

الرد على حاصري الكفر في التكذيب والاستكبار الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن مما ينافي التوحيد والإيمان الشرك والكفر، وقد سبق الكلام على مباحث الكفر، وأن الكفر ينقسم إلى قسمين: كفر اعتقادي، وكفر عملي، وأن الكفر الاعتقادي بأنواعه الخمسة يخرج من الملة، ويحبط الأعمال، ويخلد صاحبه في النار، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، نسأل الله العافية. وأما الكفر العملي فإنه ينقسم إلى قسمين: كفر يخرج من الملة، وكفر لا يخرج من الملة، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض الناس يقول: إن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب أو الجحود أو الإباء أو الاستكبار فقط، وهذا القول ليس معروفاً عن السلف ولا عن العلماء ولا عن الأئمة، وإنما هو قول للجهمية المرجئة. وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام المجتهد رحمه الله تعالى إجماع العلماء أن من قدر على أن ينطق بالشهادتين فلم ينطق فإنه كافر، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء. وذهبت المرجئة إلى أنه لا يكون كافراً في الباطن، بل يكون كافراً في الظاهر، وهذا قول جهمية المرجئة، كـ الجهم والصالحي، فيقال: إن هذا القول قول مبتدع لم يقله أحد من العلماء ولا الأئمة، وإنما هو قول مبتدع قالته الجهمية المرجئة، ومن المعلوم أن التكلم باللسان عمل، فالقول بأن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب والجحود، أو بالإباء والاستكبار قول باطل لا وجه له، وإنما هو قول المرجئة الجهمية كـ الجهم بن صفوان والصالحي، فهؤلاء هم الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل قال الجهم: إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر: هو جهل الرب بالقلب، فلا تضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة. وعند المرجئة -أيضاً- أن الإنسان إذا لم ينطق بالشهادتين وهو مصدق في الباطن فإنه يكون مسلماً، وهذا قول باطل كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، فقد نقل اتفاق وإجماع العلماء على أن من لم ينطق بالشهادتين مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو عند السلف وجماهير العلماء كافر باطناً وظاهراً، وعند المرجئة كافر ظاهراً لا باطناً، وقال: وهذا قول مبتدع لا أصل له، فينبغي أن يعلم أن هذا القول وهذه الشنشنة التي نسمعها من بعض الناس، وهي أن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب والجحود أو الإباء والاستكبار قول باطل، وهو قول المرجئة والجهمية، والصواب أن الكفر يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالاعتقاد ويكون بالشك، كما في قول الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] أي: كفروا بالحلف، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم كفراً بعد الإيمان بالاستهزاء، وهو عمل، فالقول بأن الكفر لا يكون بالعمل ولا يكون بالقول وإنما يكون بالجحود فقط قول لم يقله أحد من العلماء، بل إذا قدر على التكلم بالشهادتين ولم يتكلم فهو كافر. وكذلك من سب نبياً من الأنبياء، أو قتله، أو استهان بالمصحف قاصداً ذلك، أو لطخه بالنجاسة، أو بال عليه، فهو كافر باتفاق العلماء، ولم يخالف في هذا إلا المرجئة، والمرجئة والجهمية لا عبرة بخلافهم، فينبغي أن يعلم أن هذا القول -وهو أن الكفر لا يكون إلا بالجحود والإباء والاستكبار- قول باطل لا أساس له من الصحة، وهو مخالف لاتفاق العلماء ولما قرره الأئمة، ومخالف لما قرره السلف، وإنما نبهت على هذا الأمر لأهميته.

صور من الكفر العملي

صور من الكفر العملي والكفر العملي كما ثبت ينقسم إلى قسمين: قسم يخرج من الملة إذا كان شكاً في العبادة، أو ناقضاً من نواقض الإسلام. والقسم الثاني: لا يخرج من الملة كما سبق.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة ومن الكفر العملي: ترك الصلاة كسلاً وتهاوناً لا جحوداً لوجوبها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، فأخبر أن ترك الصلاة كفر، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، واختلف العلماء في هذا الكفر: هل هو كفر أكبر يخرج من الملة، ويوجب الخلود في النار، أو هو كفر أصغر يوجب استحقاق الوعيد ولا يوجب الخلود في النار؟ واتفق العلماء على أنه إذا جحد وجوب الصلاة عن علم ولم يكن مثله يجهل ذلك فإنه يكفر بالاتفاق، وكذلك إذا جحد وجوب الزكاة، أو جحد وجوب الصوم، أو جحد وجوب الحج، فإنه يكفر إذا كان عالماً، أما إذا كان مثله يجهل ذلك كأن يكون في بلاد بعيدة؛ فإنه لا يكفر حتى يستتاب وتقام عليه الحجة، فإذا أقيمت عليه الحجة وأصر حكم بكفره؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك لو أنكر تحريم شيء مجمع على تحريمه وهو معلوم من الدين بالضرورة، كأن ينكر تحريم الفواحش، أو تحريم الزنا، أو الربا، أو شرب الخمر، أو تحريم السرقة، فهذا يكفر، إلا إذا كان مثله يجهل ذلك، بأن نشأ في بلاد بعيدة، أو أسلم حديثاً وهو لا يعلم الحكم، فهذا لا يحكم بكفرة حتى تقام عليه الحجة، ويبين له ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً. وأما إذا لم يجحد وجوب الصلاة وإنما تركها كسلاً وتهاوناً؛ فهذا هو موضع الخلاف، أو ترك الزكاة بخلاً وتهاوناً، أو ترك الصوم كسلاً وتهاوناً، أو ترك الحج كسلاً وتهاوناً، فهذه الأركان الأربعة إذا تركها كسلاً وهو مؤمن بها مصدق فللعلماء فيها أقوال، وهي روايات عن الإمام أحمد رحمه الله: القول الأول: أنه يكفر إذا ترك واحدة من هذه الفرائض الأربع، ولو كان مقراً بوجوبها؛ لأن هذه مباني الإسلام العظيمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر في الصحيحين: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)، فجعل هذه الأركان الخمسة مباني الإسلام، فإذا ترك واحدة منها كفر، فهذا هو القول الأول للعلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد. القول الثاني: أنه لا يكفر بترك واحدة منها كفراً أكبر، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً. القول الثالث: أنه يكفر بترك الصلاة فقط، وأما إذا ترك غيرها تهاوناً فلا يكفر، لكن يرفع به إلى ولاة الأمر ويعزر، وتؤخذ منه الزكاة قهراً، ويعزره الحاكم بالضرب والسجن، حتى يزكي ويصوم ويحج. القول الرابع: أنه يكفر إذا ترك الصلاة والزكاة دون الصوم والحج، وهي رواية عن الإمام أحمد. القول الخامس: أنه يكفر إذا ترك الصلاة وكذلك إذا ترك الزكاة وقاتل عليها الإمام، وهذا هو الأقرب عندي، فإنه إذا ترك الزكاة وقاتل عليها فإنه يكفر، والدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه والصحابة قاتلوا الذين منعوا الزكاة واعتبروهم من المرتدين؛ لأنهم منعوها وقاتلوا عليها، فإذا منع الزكاة وقاتل عليها دل ذلك على إنكاره وجحوده لها، فيكون كافراً، أما إذا منعها ولم يقاتل عليها فلا يكفر، وإنما تؤخذ منه قهراً. فالصواب أنه لا يكفر إذا ترك الزكاة إلا إذا قاتل عليها، ولا يكفر إذا ترك الصوم أو الحج، وإنما يكون مرتكباً لكبيرة، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فعلق الأخوة في الدين على التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فدل على أنه إذا لم يفعل واحدة من هذه الثلاث فلا يكف عنه، ولا يكون أخاً لنا في الدين. فأما الزكاة فقد جاء ما يخرجها من هذا، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفح له يوم القيامة صفائح من النار، فيكوى به جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرر تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)، فدل هذا على أنه ليس بكافر، ولو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة، إلا إذا قاتل الإمام عليها، فإن ذلك يدل على كفره وجحوده.

قتل تارك الصلاة

قتل تارك الصلاة وقد اختلف العلماء فيمن ترك الصلاة: هل يقتل أو لا يقتل؟ فمن العلماء من قال: إنه يقتل، وهذا مذهب الجماهير من العلماء، واختلفوا في كيفية قتله، فالجمهور على أنه يقتل بالسيف، وقال بعضهم: يقتل بالخشب حتى يموت، وقال بعضهم: ينخس بالسيف نخساً حتى يموت. وذهب بعض العلماء من الأحناف وغيرهم إلى أنه لا يقتل، وإنما يحبس حتى يصلي أو يموت، والصواب أنه يقتل، ويكون قْتله بالسيف؛ لأن القتل بالسيف أحسن القتلات، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)، فإذا ترك الصلاة فإنه يقتل بالسيف؛ لأن المرتد يقتل بالسيف، وأما الزاني المحصن فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، وهذه القِتلة من أشنع القتلات؛ لأمرين: الأمر الأول: أن الزاني وصلت اللذة المحرمة إلى جميع أجزاء جسده، فعاقبه الله تعالى بعقوبة يصل الألم فيها إلى جميع أجزاء جسده. الثاني: أن الداعي إلى الزنا قوي، فجعل الله العقوبة قوية؛ حتى تكون رادعة وزاجرة، ولأن هذا الحد يذكر بما فعل الله تعالى بقوم لوط، حيث إن الله أمر جبريل فرفع مدائنهم وقراهم إلى السماء ثم نكسها عليهم، ثم أتبعوا بحجارة من سجيل مسومةٍ، كما قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74]، {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فأمطر الله عليهم حجارة، فهذه العقوبة تذكر بما فعل الله بقوم لوط. فالصواب أن تارك الصلاة يقتل، وهل يستتاب أو لا يستتاب؟ ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يستتاب، وهؤلاء هم الذين قالوا: إنه يقتل حداً، حيث اختلفوا فيه: هل يقتل حداً أم كفراً؟ فقال بعضهم: يقتل كفراً، وقال آخرون: يقتل حداً، ومن قال: يقتل حداً قال: إنه لا يستتاب؛ لأن هذا حد، فما دام أنه ترك الصلاة فإنه يقتل بتركه لها، كما أن الزاني يجلد لفعله الزنا، وكما أن السارق تقطع يده لفعله السرقة، فإذا وصل إلى الحاكم الشرعي فلا بد من قتله وإن قال: إنه قد تاب. وأما من قال: إنه يقتل كفراً فإنه يقول: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهل يقتل إذا ترك صلاة واحدة حتى خرج الوقت، أو إذا تضيق وقت الثانية التي تجمع إليها، بحيث ترك صلاة الظهر لا يقتل حتى يضيق وقت العصر قرب غروب الشمس؟ وهذا الثاني هو الأقرب؛ لأن الظهر يجمع مع العصر، والمغرب مع العشاء، فإذا تضيق وقت الثانية واستتيب ولم يتب فإنه يقتل، والدليل على قتل تارك الصلاة ما ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه: (أنه أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة من اليمن فقسمها بين أربعة من رؤساء القبائل يتألفهم على الإسلام، فقال له رجل: اتق الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ألست أحق الناس أن يتقي الله؟! فقال له خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يصلي؟ فقال: يا رسول الله كم من مصل وما في قلبه يخالف ظاهره -أو كما قال في الحديث- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم)، وفي الحديث الآخر: (نهيت عن قتل المصلي)، فدل على أن غير المصلي يقتل، فالذين لا يصلون لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم. وثبت -أيضاً- في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وغيره وبعض أهل السنن: (أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يساره ويستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: بلى ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: بلى ولا شهادة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر بقتل المصلين) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فدل على أن من لم يصل فإنه يقتل، وهذه أدلة واضحة.

النزاع في كفر تارك الصلاة

النزاع في كفر تارك الصلاة

القائلون بعدم كفر تارك الصلاة وأدلتهم

القائلون بعدم كفر تارك الصلاة وأدلتهم وأما كفر تارك الصلاة فهذه مسألة عظيمة ومسألة مهمة، ولذلك أفردت الكلام عليها؛ لعظم شأنها، ولكثرة من ابتلي بترك الصلاة، فكثير من الناس ابتلي ببعض الأقارب ممن لا يصلي، أو بعض الأبناء، أو بعض الإخوان، فلا بد من تحقيق هذه المسألة العظيمة، فأقول: اختلف العلماء في تارك الصلاة: هل يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة، أو يكون كفره كفراً أصغر لا يخرج من الملة؟ فذهب جمهور الفقهاء -ومنهم الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله- إلى أنه يكفر كفراً أصغر يوجب استحقاق الوعيد، ولا يوجب الخلود في النار، واختار هذه الرواية من الحنابلة ابن بطة وقال: إن المذهب على هذا، ولم نجد فيه خلافاً فسره، وفي المغني والشرح الكبير أنه يكفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، واستدلوا على ذلك بأدلة: أولاً: قالوا: إن تارك الصلاة مصدق، وقد دخل في الإسلام بيقين، فلا يخرج من الإسلام إلا بيقين، هو مصدق يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس جاحداً ولا مكذباً، فقد دخل في الإسلام بيقين، فلا يخرج من الإسلام إلا بيقين، واستدلوا -أيضاً- بحديث عتبان الطويل، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وتارك الصلاة يقول: (لا إله إلا الله)، فهو داخل في هذا الفضل. واستدلوا -أيضاً- بحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وتارك الصلاة يشهد هذه الشهادة. واستدلوا -أيضاً- بحديث أنس رضي الله عنه: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة)، فهذا يدل على أن تارك الصلاة لا يخلد في النار. واستدلوا -أيضاً- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وفي رواية (صدقاً من قلبه)، وهذا ينطبق على تارك الصلاة. واستدلوا -أيضاً- بحديث معاذ أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال له: (يا معاذ! قلت: لبيك وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العباد، وحق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وتارك الصلاة يعبد الله موحداً وليس بمشرك، فهو داخل في هذا العموم. واستدلوا -أيضاً- بحديث البطاقة، وفيه (يؤتى برجل يوم القيامة فيخرج له تسعة وتسعون سجلاًً كل سجل مد البصر، وكلها سيئات، فيقال له: هل لك حسنة؟ فلا يجيب، فيقول الله له: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، فيؤتى ببطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، فقال: وماذا تفعل هذه البطاقة مع هذه السجلات، فوضعت البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فغفر الله له)، قالوا: ومعلوم أن تارك الصلاة له هذه البطاقة، فهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وغير ذلك من النصوص التي تدل على فضل التوحيد والإيمان.

القائلون بكفر تارك الصلاة وأدلتهم

القائلون بكفر تارك الصلاة وأدلتهم أما القول الثاني -وهو القول بأن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة، ويوجب الخلود في النار- فهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول عبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وحكاه الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله عن أربعة من الصحابة: عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة، وحكاه عبد الحق الإشبيلي عن جماعة كثيرين من الصحابة أيضاً، وهو قول سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبي عمرو الأوزاعي وإبراهيم النخعي وأيوب السختياني وإسحاق بن راهويه وغيرهم في جماعة من العلماء ومن السلف، واختار هذه الرواية من الحنابلة أبو إسحاق بن شاقلا وابن عقيل وابن حامد، فهؤلاء السلف كلهم ذهبوا إلى أن تارك الصلاة يكفر كفراً أكبر يخرج من الملة ويخلد في النار، فيكون من الكفر العملي الذي ينافي الإيمان ويناقض الإيمان بالكلية، وقد نقل عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة وقال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. إذاً: فالصحابة أجمعوا على كفر تارك الصلاة، كما نقله عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله. وأدلة القائلين بكفر تارك الصلاة أدلة كثيرة من القرآن ومن السنة، فمن القرآن قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى أخبر أنَّه لا يخلى سبيل المشركين حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فمفهومه أنهم إذا لم يتوبوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فلا يخلى سبيلهم، بل يقاتلون، فدل على كفر تارك الصلاة، وأما تارك الزكاة فإخراجه في الحديث السابق، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) فبقي المشرك وتارك الصلاة، فدل على أن تارك الصلاة لا يخلى سبيله؛ لأنه كافر، ومن الأدلة قول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فعلق الله تعالى الأخوة في الدين على ثلاثة أشياء: على التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فدل على أنه إذا لم يصل فليس أخاً لنا في الدين؛ لكفره. ومن الأدلة قول الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:31 - 32] فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] ومفهومه أن من لم يقم الصلاة فهو من المشركين. وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] وهذا وصف الكفار، فمن لم يركع ولم يسجد لله فليس بمسلم. وأخبر سبحانه وتعالى عن الكفار أنهم يُسألون في النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] فذكروا أوصافاً أولها ترك الصلاة {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43 - 44]، فترك الصلاة من أوصاف أهل النار التي استحقوا بها دخول النار. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]، والصلاة من أعظم ذكر الله، فمن لم يسجد فليس بمؤمن، فقد أخبر الله أن المؤمن هو الذي إذا ذكر بآيات الله خر ساجداً، فدل على أن من لم يسجد لله فليس بمسلم. وقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43]، فأخبر سبحانه وتعالى أنهم يدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون؛ لأنهم دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا، فدل على كفرهم. ومن السنة: ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ترك الصلاة حداً فاصلاً بينه وبين الإسلام، فإذا أتى بها فهو مسلم، وإذا تركها فليس بمسلم، والبينية حد فاصل تفصل بين الشيئين، فبين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فالبينية تفصل هذا من هذا، فترك الصلاة كفر، وفعل الصلاة إيمان، فمن لم يصل فليس بمؤمن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بالكفر، فقال: (بين الرجل وبين الكفر) و (أل) للاستغراق، ولهذا قال في القاموس: إن المراد به الكفر المستغرق وهو الكفر المخرج من الملة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: المراد به الكفر الأكبر؛ لأنه أتى بلفظ (الكفر)، بخلاف الكفر المنكر، مثل: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) فالكفر المنكر لا يخرج من الملة، أما الكفر المعرَّف؛ الذي جاء بـ (أل)، (بين فإنه يدل على أن المراد به كفرٌ أكبر مستغرق؛ لأن (أل) للاستغراق. ومن الأدلة أيضاً: ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فجعل ترك الصلاة كفراً، وهي العهد الذي بيننا وبين غيرنا، فمن تركها فليس منا؛ لأنه كافر، ومن صلى فهو منا. ومن الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في ترك القتال الشهادة لله بالوحدانية، والشهادة لنبيه بالرسالة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وقال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فدل هذا على كفر تارك الصلاة. ومن الأدلة ما ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بكروا بصلاة العصر، فمن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله هو الكافر، فدل على أن من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله بكفره، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، وبقية الصلوات حكمها حكم صلاة العصر، وإنما خصت العصر بالذكر لشرفها وفضلها. ومن الأدلة -أيضاً- ما ثبت في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فنهى عن قتال الأمراء إذا أقاموا الصلاة. وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج عن الأمراء وولاة الأمور ما معناه: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) فنهى عن الخروج إلا إذا وجد الكفر البواح، فإذا ضممت هذا الحديث إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) فمفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يقاتلون، وفي الحديث الآخر نهى عن قتالهم إلا إذا وجد الكفر البواح، فدل على أن ترك الصلاة كفر بواح، وهذا من أقوى الأدلة في كفر تارك الصلاة. فجمهور فقهاء المتأخرين الذين يقولون: إن تارك الصلاة لا يكفر مادام مصدقاً، ومعه أصل التصديق بماذا يجيبون عن هذه الأدلة التي استدل بها هؤلاء العلماء؟ يجيبون عنها فيقولون: هذه الأدلة محمولة على كفر النعمة لا كفر الجحود، أو أن المراد: قارب الكفر، يعنون قوله: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فتأولوا فصار المعنى: قارب الكفر، أو أن ذلك محمول على كفر النعمة، مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] فتارك الصلاة كافر بالنعمة، لكن لا يخرج من الملة، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) فالطعن والنياحة كفر لا يخرج من الملة، فكذلك تارك الصلاة، ومثل قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر)، ومثل قوله: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم الرمي ثم تركه فهو نعمة كفرها)، ومثل قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) فمن رغب عن الانتساب إلى أبيه فقد كفر، فهذا كفر لا يخرج من الملة، ومثل قول ابن عباس لما سئل عن ا

ترجيح الإمام ابن القيم رحمه الله

ترجيح الإمام ابن القيم رحمه الله ساق العلامة ابن القيم رحمه الله الأدلة في هذه المسألة في كتابه (رسالة في الصلاة)، وساق أدلة القائلين بكفر تارك الصلاة كفراً أكبر يخرج من الملة، وساق أدلة القائلين بأنه يكفر كفراً أصغر لا يخرج من الملة، ثم عقد فصلاً للحكم بينهم فقال: فصل في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين. يريد أن يحكم بينهم، ثم قال: معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك، ثم ذكر رحمه الله كلاماً تستخلص منه الأصول الآتية: الأصل الأول: أن الإيمان والكفر متقابلان، فمتى زال أحدهما خلفه الآخر، فإذا زال الإيمان خلفه الكفر، وإذا زال الكفر خلفه الإيمان، فالكفر والإيمان متقابلان، فمتى زال أحدهما خلفه الآخر. الأصل الثاني: أن الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، والكفر أصل له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى كفراً. الأصل الثالث: أن شعب الإيمان متفاوته، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، فالأصل الثالث: أن شعب الإيمان متفاوتة، فأعلاها شعبة الشهادة، وأدناها شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وكذلك الكفر شعب متفاوتة. الأصل الرابع: أن الإيمان قسمان: قول وعمل، وكذلك الكفر قسمان: قول وعمل، وأن الإيمان قد يحصل بشعبة قولية، كشعبة الشهادة، وقد يحصل بشعبة فعلية، كشعبة التصديق. وكذلك الكفر قد يحصل بشعبة قولية، كالإتيان بكلمة الكفر اختياراً، وقد يحصل بشعبة فعلية، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف. الأصل الخامس: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو التصديق والاعتقاد، وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام، وعمل القلب: وهو نيته وإخلاصه واعتقاده، وعمل الجوارح، فحقيقة الإيمان مركبة من قول اللسان، وقول القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فإذا وجدت هذه الحقيقة المركبة من هذه الأمور الأربعة، وجد الإيمان بالاتفاق، وإذا فقدت هذه الأربعة، فقد الإيمان بالاتفاق، وإذا وجدت، وتخلف التصديق والاعتقاد، فإنه لا تنفع بقية الأجزاء؛ لأن التصديق شرط في صحتها، وإذا وجد التصديق، وانتفى عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، ومحبته وانقياده، فهذا موضع الخلاف والمعركة، بين أهل السنة وبين المرجئة، فأهل السنة يقولون: لا يحصل الإيمان، والمرجئة يقولون: يحصل الإيمان. الأصل السادس: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد، أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد، أن يسمى كافراً وإن كان ما قام به كفراً. الأصل السابع: أن سلب اسم الإيمان عن تارك الصلاة، أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم سلب الإيمان عن مرتكب الكبائر، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فسلبه عن تارك الصلاة أولى، وسلب اسم الإسلام عن تارك الصلاة أولى، من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فالذي لم يسلم المسلمون من لسانه ويده سلب عنه الإسلام، فسلب الإسلام عن تارك الصلاة أولى. الأصل الثامن: أنه إذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب -وهو المحبة والانقياد- فغير مستنكر أن يزول الإيمان بزوال أعظم أعمال الجوارح، وهي الصلاة. ثم بعد ذلك عند التأمل قال: هل ينفع تارك الصلاة ما معه من التصديق، في عدم الخلود في النار أولا ينفعه؟ فتارك الصلاة معه شعبة واحدة من الإيمان، وهي شعبة التصديق، فهل ينفعه ما معه من الإيمان؟ وهل تنفعه هذه الشعبة -وهي التصديق- في عدم الخلود في النار أو لا تنفعه؟ والجواب أن يقال: تنفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره، أما إذا كان المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره فإنها لا تنفعه، ولهذا لم تنفع الشهادة لله بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ شرط في صحة الشهادة لله بالوحدانية، ولم تنفع الصلاة لمن صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن الوضوء شرط في صحة الصلاة؛ لأن شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض؛ تعلق المشروط بشرطه، وقد لا يكون كذلك، فالصلاة هل تتعلق بالإيمان تعلق المشروط بشرطه؟ أي: هل هي شرط في صحته أو لا؟ هذا هو سر الاختلاف. والأدلة الكثيرة التي سبقت وغيرها؛ تدل على أنه لا يقبل شيء من أعمال العبد إلا بفعل الصلاة، وأن الصلاة هي رأس مال ربح الإنسان، ومحال بقاء الربح؛ مع ضياع رأس المال، فإذ خسر الصلاة خسر أعماله كلها، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع) وقوله: (أول ما ينظر من عمل العبد الصلاة، فإن جازت له نظر في سائر عمله، وإن لم تجز له لم ينظر في سائر عمله)، وهي أول ما يحاسب العبد عنه، إذا وضع في قبره، فالأدلة الكثيرة تدل على أن ترك الصلاة، ملزوم بعدم محبة القلب وانقياده، وعدم محبة القلب وانقياده، ملزوم بعدم التصديق الجازم، وعدم التصديق الجازم، ملزوم بالكفر، فيلزم من ترك الصلاة، عدم محبة القلب وانقياده، ويلزم من عدم محبة القلب وانقياده، عدم التصديق الجازم، ويلزم من عدم التصديق الجازم، الكفر. هذا هو ترجيح الإمام العلامة ابن القيم، فقد توصل إلى أنه يلزم من ترك الصلاة، عدم محبة القلب وانقياده، ويلزم من عدم محبة القلب وانقياده، عدم التصديق الجازم، ويلزم من عدم التصديق الجازم، الكفر. ثم يصور رحمه الله صورة واقعة لتارك الصلاة، فيقول فيمن يقول إن تارك الصلاة لا يكفر: ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على ترك الصلاة، ودعي إلى فعلها على رءوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وعصبت عيناه، وشد للقتل، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، فهل يقع الشك في كفر هذا؟! يقول: أنا مصدق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن الصلاة واجبة، ولكني لا أصلي، فاقتلوني ولن أصلي أبداً، فهل يقع الشك في كفر هذا؟! يقول: ومن لا يكفر تارك الصلاة، ويقول في هذا الرجل الذي عصبت عيناه، وشد للقتل، ويرى بارقة السيف على رأسه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبداً، يقول: هذا مسلم مؤمن، يغسل ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين في مقابرهم؟ ثم يقول: وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، فإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، فهؤلاء هم المرجئة، فالمرجئة يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب. ثم قال: أفلا يستحي مَنْ هذا قوله من إنكاره كفر من شهد بكفره الكتاب والسنة، واتفاق الصحابة؟! والله الموفق. فهذه صورة لتارك الصلاة: رجل عصبت عيناه، وشد للقتل، وامتنع من الصلاة، فهل يكفر أو لا يكفر؟ فمن لا يكفر تارك الصلاة يقول: لا يكفر، وهل يعقل أن يكون شخص استقر الإيمان في قلبه، ويعرف الوعيد على ترك الصلاة، والفضل العظيم على فعلها، ثم يبقى طول دهره، وبقية عمره، لا يصلي، ويكون في قلبه إيمان؟! هل يعقل هذا؟! لا فلو كان في قلبه إيمان لصلى لله، فأين الإيمان؟! وهل يعقل أن يكون هناك شخص يقول: إنه مصدق، وإنه في قلبه إيمان، ويعترف بوجود الصلاة، ويعرف الأدلة على وجوبها، والفضل العظيم لمن أدى هذه الصلاة، والوعيد الشديد على من تركها، ثم يبقى دهره لم يصل، ولم يسجد لله سجدة واحدةً ويقول إنه مؤمن؟! هل يعقل هذا؟! لا يمكن ولا يعقل. فلا ومن أقوى الأدلة ما ذكره ابن القيم رحمه الله وهو حديث الأمراء، والنهي عن الخروج عليهم إلا عند الكفر البواح، أما حديث عوف بن مالك الأشجعي في النهي عن الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة، وهذا من أقوى الأدلة، فنهى عن الخروج إلا عند الكفر البواح، وفي حديث عوف بن مالك نهى عن الخروج ما داموا يقيمون الصلاة، فدل على أنهم: إذا لم يقيموا الصلاة؛ فقد أتوا كفراً بواحاً، وكذلك حديث البخاري (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) والذي يحبط عمله، هو الكافر، ثم إجماع الصحابة أيضاً، وكذلك حديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) فقد جعل حداً فاصلاً بين الكفر وبين الإيمان، فالبينية تفصل بين الشيء وغيره. ومن الأدلة أيضاً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف). ففيه أن من لم يحافظ عليها يحشر مع أئمة الكفر، مع قارون، ومع فرعون الطاغية؛ الذي ادعى الربوبية والألوهية، {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ومع هامان وزير فرعون، وقارون الذي خسف الله به الأرض، وأبي بن خلف تاجر الكفار بمكة، يحشر مع هؤلاء الكفرة، فالذي يحشر مع هؤلاء الكفرة هل هو مؤمن؟! لا يمكن ذلك، فدل على كفره، فلولا أنه كافر لما حشر مع هؤلاء الكفرة الذين هم رءوس الكفر، ففرعون هو الذي ادعى الألولهية، وهامان وزير فرعون، وقارون صاحب الأموال الكثيرة الذي خسف الله به الأرض، وأبي بن خلف تاجر كفار مكة. قال العلماء: إن كون تارك الصلاة يحشر مع هؤلاء الأربعة لأنَّه إما أن يتركها لأنه اشتغل بملكه، أو يتركها اشتغالاً بماله، أو يتركها

الأسئلة

الأسئلة

بيان كينونة الشيء سببا في غيره

بيان كينونة الشيء سبباً في غيره Q تحدثتم فيما مضى عن السبب، وقلتم في معرض كلامكم: إذا اعتقد أن هذا الدواء سبب في العلاج أو الشفاء فإن ذلك شرك أصغر، ولكن الواقع يقتضي أن الدواء سبب للعلاج، كما أن حرث الأرض سبب للزرع، فهل إذا اعتقد المرء ذلك مفوضاً أمره إلى الله يدخل في الشرك الأصغر؟ A السبب الذي إذا اعتقده يكون شركاً هو الذي لم يجعله الله ولا رسوله سبباً، أي: ليس سبباً شرعياً ولا سبباً عقلياً ولا سبباً حسياً، فالسبب الشرعي جعله الله سبباً، فالرقية سبب شرعي، فإذا اعتقد أن الرقية سبب شرعي فهذا لا بأس به، لكن إذا اعتقد أن النجم سبب لإنزال المطر فهذا باطل وشرك؛ لأنه ليس سبباً شرعياً، والدواء كذلك، فإذا كان مباحاً فهو سبب شرعي، فأنت مأمور بالتداوي ولا بأس بذلك، وكذلك -أيضاً- حرث الأرض وبذرها، فهو سبب حسي، وقد فطر الله عليه الخلق، إنما يكون السبب شركاً إذا لم يجعله الله سبباً حسياً ولا شرعياً. أما إذا جعله الله ورسوله سبباً؛ فلا يكون شركاً، فالرقية والتعويذات وقراءة الآيات أسباب شرعية، وبذر الأرض وحرثها وشقها أسباب حسية في النبات، وفي الزرع وفي حصول الثمرة، فهذا لا يكون شركاً. أما إذا اعتقد أن النجم سبب لإنزال المطر، -والحال أنه ليس سبباً شرعياً ولا حسياً- فيكون ذلك شركاً؛ لأنه إذا اعتقد شيئاً سبباً ولم يجعله الله ورسوله سبباً فقد أشرك. فالسبب الشرعي: هو ما جاء من الشرع ما يدل على أنه سبب فهذا مشروع، وكذلك إذا كان الحس والعقل يدل على أنه سبب: مثل: بذر الأرض وشقها، فهذا سبب حسي فطر الله عليه الخلق، أما إذا لم يكن هذا ولا هذا، فهذا هو الذي يكون شركاً، كما لو اعتقد أن النجم سبب في إنزال المطر.

حكم المتعمد ترك صلاة الفجر إلى طلوع الشمس

حكم المتعمد ترك صلاة الفجر إلى طلوع الشمس Q هل الذي يترك صلاة الفجر فقط يعتبر كافراً، فإننا نرى كثيراً من الناس قد ابتلي بذلك؟ A يخشى عليه إذا تركها متعمداً متهاوناً بها، بحيث إنه لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس دائماً، فإنه يخشى عليه من الكفر، وهذا أمر خطير جداً، وسمعت شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله يقول: إن من يترك صلاة الفجر باستمرار، وعادته ذلك كافر؛ لأنه تعمد ترك الصلاة، بينما يهيئ يشغل منبه الساعة لفطوره وعمله، فهذا معناه أنه تعمد ترك الصلاة، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم الدعاء لمن ترك الصلاة

حكم الدعاء لمن ترك الصلاة Q رجل كان والده لا يصلي في عمره إلا صلوات معدودة، علماً بأنه قبل موته لم يصل قرابة ستة أشهر، فهل يجوز له أن يدعو لوالده، وإذا كان لا يجوز فهل في قوله: اللهم اغفر لي ولوالدي -وهو يقصد والدته- محذور؟ A إذا تحقق أنه ترك الصلاة متعمداً ستة أشهر وهو غير متأول فإنه يخشى عليه؛ لأن بعض المرضى يتأول بأنه مريض في المستشفى، ويظن أنه لا يصلي حتى يشفى من مرضه، وأن ثيابه نجسة، فهذا لا يكفر، أما إذا تركها عمداً من غير تأويل فإنه يخشى عليه. فينبغي أن يعلم المرضى في المستشفى بأن المريض يصلي على حسب حاله، فإن استطاع أن يلبس ثوباً طاهراً لبسه، وإلا صلي بثوبه، وإن استطاع أن يتوضأ، وإلا فإنه يتيمم أو ييممه غيره، فإن لم يستطع صلى على حسب حالته من غير ماء ولا تراب، وإن استطاع أن يوجه السرير إلى القبلة وجهه، وإلا صلى إلى غير القبلة، ولا تؤخر الصلاة عن وقتها. فالمريض الجاهل بالأحكام الشرعية أو المتأول لا يكفر، لكن الذي ترك الصلاة متعمداً بدون عذر ولا تأويل هذا هو الذي يخشى عليه، والخلاصة في هذه المسألة أن ترك الصلاة كفر، ومن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة قوله سبحانه وتعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]؛ لأن الإيمان: تصديق الخبر والانقياد للأمر، أي: تصديق خبر الله ورسوله، وانقياد لأمرهما، وعدم التصديق هو التكذيب، وترك الصلاة هو التولي، قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، فإذا كذب كفر، وإذا تولى عن الصلاة كفر. وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم:59 - 60]، فاشترط في توبة من أضاع الصلاة الإيمان، فدل على أن تارك الصلاة ليس بمؤمن. وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، أي: يسهون على الصلاة فيؤخرونها عن وقتها. فالمقصود أنه إذا كان قد ترك الصلاة عمداً بغير تأويل؛ فإنك لا تستغفر له ولا تدع له، وأمره إلى الله، وإذا كنت تدعو لوالدتك فقل: اللهم اغفر لوالدتي فقط.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (يخرج من النار قوم لم يعملوا خيرا قط)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (يخرج من النار قوم لم يعملوا خيراً قط) Q هناك دليل يتمسك به القائلون بعدم كفر تارك الصلاة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: (ثم يخرج من النار قوم لم يعملوا خيراً قط)؟ A ليس في هذا دليل؛ لأن معنى: (لم يعملوا خيراً قط) أي: لم يعملوا زيادة على التوحيد والإيمان، والصلاة شرط في صحة الإيمان، فإذا تركها فليس بمؤمن، فهؤلاء القوم ليس عندهم إلا التوحيد والإيمان، ولا يتم الإيمان والتوحيد إلا بالصلاة، فمن تركها فلا يكون عنده شيء من التوحيد والإيمان.

حكم رفع الصوت داخل المسجد

حكم رفع الصوت داخل المسجد Q رجل يقوم بعد كل صلاة ويرفع صوته على الإمام ويقول له: إنك تتغيب عن المسجد، ويحدث فوضى في المسجد، فما نصيحتكم لهذا الرجل؟ A هذه المسألة تعالج بالنصيحة للرجل، فيجتمع أهل المسجد ويتكلمون مع هذا الرجل فيبينون له أنه لا ينبغي رفع الصوت، وأن الأمور تعالج من غير رفع الصوت، وإذا كان الإمام عليه شيء فإنه ينصح فيما بينه وبينهم من دون رفع صوت.

مسألة التكفير والتساهل فيها

مسألة التكفير والتساهل فيها Q نرجو من فضيلتكم التنبيه على مسألة التكفير والتساهل فيها من بعض طلبة العلم؟ A لا ينبغي للإنسان أن يكفر إلا عن بصيرة، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، ثم إن الشخص المعين إذا كان له شبهة لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، فقد يتكلم الإنسان بكلام كفري، فيقال في هذه المقالة: إنها كفرية، والشخص لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة؛ لأنه قد يكون له تأويل، وقد يكون له قصد آخر، فلا يكفر الإنسان إلا عن بصيرة، فإذا قامت عليه الحجة وأصر وعاند والأمر واضح ليس فيه لبس ففي هذه الحالة يكفر.

[15]

دروس في العقيدة [15] رغب الإسلام المسلمين في تحقيق التوحيد لرب العالمين، والحذر من كل ما يقدح فيه بنقص أو نقض، وقد ذكر القرآن الكريم كل ما على المسلم أن يحذر منه، خاصة النفاق الذي تعرضت لذكره كثير من آيات القرآن، فوصفت حال أهله وكشفت عوراتهم وأبانت عن سرائرهم.

القوادح في جناب التوحيد

القوادح في جناب التوحيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد سبق الكلام على التوحيد وما يناقضه وينافيه، وينافي كماله، وعرفنا أن التوحيد يناقضه وينافيه الشرك والكفر، والشرك يتنوع إلى أنواع، كما أن الكفر يتنوع إلى أنواع، فالشرك نوعان: أكبر وأصغر، والكفر نوعان: أكبر وأصغر. وكذلك الظلم نوعان: ظلم أكبر، وظلم أصغر، وكذلك الفسق يتنوع إلى نوعين: فسق أكبر وفسق أصغر، وكذلك النفاق نوعان: نفاق أكبر ونفاق أصغر.

الظلم وأنواعه

الظلم وأنواعه فالظلم نوعان: الأول: ظلم أكبر، وهو الشرك والكفر، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فجعل الشرك ظلماً، فهذا ظلم أكبر يخرج من الملة، وقال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، فالكفر ظلم أكبر يخرج من الملة، ويوجب الخلود في النار، ويحبط جميع الأعمال ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وقال تعالى: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] أي: من المشركين. والنوع الثاني: ظلم أصغر، وهو ظلم الإنسان نفسه بالمعاصي، فهذا تحت مشيئة الله، ولا يحبط الأعمال ولا يخرج من الملة ولا يوجب الخلود في النار، وهذا كقوله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر النكاح والرجعة والخلع والطلاق: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]، فجعل من تعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً. ومثله قوله تعالى عن الأبوين -آدم وحواء-: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فالأكل من الشجرة معصية وهي ظلم. ومثله قوله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] أي: غفر له المعصية. ومثله خبر الله تعالى عن يونس أنه قال وهو في بطن الحوت: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فظلم نفسه، فهذا ظلم المعصية.

الفسق وأنواعه

الفسق وأنواعه وكذلك الفسق ينقسم إلى قسمين: الأول: فسق أكبر، وهو فسق كفري، وهذا يخرج من الملة، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويحبط جميع الأعمال، ويخلد صاحبه في النار، ومثال ذلك قول الله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:26 - 28]، فجعل الفسق كفراً بالله، فهذا فسق الكفر. ومثاله أيضاً قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99]، أي: فسوق كفر، ومثاله أيضاً قول الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] أي: فسق فسقاً كفر أخرجه من الملة، وهو كفر الإباء والاستكبار والعياذ بالله. والنوع الثاني: فسق أصغر، وهو فسق المعاصي، وهذا لا يوجب الخلود في النار، ولا يخرج من الملة، ولا يحبط الأعمال، ويكون صاحبه إذا مات عليه من غير توبة تحت مشيئة الله، ومثاله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] أي: فسق بكذبه في الخبر. ومثله قوله سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] يعني: لا فسوق بمعصية في الحج. ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] أي: فسوق معصية لا يخرج من الملة.

الجهل وأنواعه

الجهل وأنواعه وكذلك الجهل ينقسم إلى قسمين: الأول: جهل أكبر، وهو جهل الكفر، وهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويخرج من الملة، ويحبط الأعمال، ويخلد صاحبه في النار، والعياذ بالله، ومثاله قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] أي: الجاهلين جهل كفر، وهو مثل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. وهذه الآية مثل قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89]، أي: اصفح عن المشركين، وهذا قبل أن يؤمر بالجهاد عليه الصلاة والسلام. والثاني: جهل أصغر، وهو جهل المعصية، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، فكل من عصى الله فهو جاهل ولو كان عالماً بالمعصية.

النفاق وأنواعه

النفاق وأنواعه وكذلك النفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق أكبر، ونفاق أصغر. فالنفاق الأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ويخرج من ملة الإسلام، ويحبط جميع الأعمال، ويوجب لصاحبه الخلود في النار في دركها الأسفل تحت اليهود والنصارى والوثنيين، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. والنفاق الأكبر: هو أن يظهر الإنسان إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وهو في الباطن منصرف من ذلك كله، فلا يؤمن بالله في الباطن، ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ولا بالقدر، ولا يؤمن بالقرآن وأن الله تكلم به، وأن الله أنزله هداية للناس، وشفاء لما في الصدور، وأن الله أنزله للإنذار والبشارة، ففيه بشارة المؤمنين وإنذار لبأس الله وعقابه. والنوع الثاني: نفاق أصغر، وهذا النفاق الأصغر تحت مشيئة الله، وقد يكون معصية من المعاصي، وقد يغفره الله، ولا يخرج من ملة الإسلام، ولا يحبط الأعمال، ولا يوجب الخلود في النار. والفرق بين النوعين: أن النفاق الأكبر يكون في القلب، والنفاق الأصغر يكون في العمل، فالنفاق الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فمن مات على ذلك فهو كافر مشرك لا يغفر له، وهو خارج من ملة الإسلام، وأعماله كلها حابطة، وهو من المخلدين في النار في دركها الأسفل، نسأل الله السلامة والعافية. وهو أن يكون للإنسان باطن وظاهر، فباطنه الكفر وظاهره الإسلام، ففي الظاهر يصلي مع الناس ويصوم ويحج ويجاهد ويتصدق، وقد يتكلم بكلام طيب نفاقاً، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكنه في الباطن كاذب، وقلبه غير منقاد، وإن صدق وعرف الحق لكنه ليس مقراً ولا معتقداً به.

صور من الكفر الأكبر

صور من الكفر الأكبر والكفر الأكبر الذي يخرج من الملة له أنواع وأمثلة: النوع الأول: تكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب أحدهما. الثاني: تكذيب بعض ما جاء عن الله، أو بعض ما جاء عن رسول الله، ومن أدلة ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:10]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]. الثالث: بغض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو بغض أحدهما. الرابع: بغض شيء مما جاء عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه أربعة، وإن شئت جعلتها ثمانية فقلت. أولاً: تكذيب الله تعالى. ثانياً: تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: تكذيب بعض ما جاء عن الله. رابعاً: تكذيب بعض ما جاء عن رسول الله. خامساً: بغض الله. سادساً: بعض رسول الله. سابعاً: بغض شيء مما جاء عن الله. ثامناً: بغض شيء مما جاء عن رسول الله. تاسعاً: المسرة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: السرور والمحبة لضعف الإسلام والمسلمين، فإذا ضعف المسلمون وانخفض دين الإسلام فرح المنافق واستبشر وسره ذلك. عاشراً: الكراهية لانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمنافق يكون عنده كراهية وأسف إذا انتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو انتصر الإسلام والمسلمون، فإذا انتصر الإسلام والمسلمون كره ذلك وساءه ذلك، فهذا منافق في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله. الحادي عشر: اعتقاد عدم وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره، أي: يعتقد أنه لا يجب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره، أو يعتقد أنه لا يجب تصديق الله ولا تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي جاءت في القرآن وفي السنة، فيقول: يجوز أن تصدق خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لكنه ليس بواجب، أي: إن شئت فصدق، وإن شئت فلا تصدق، فأنت بالخيار، إن شئت أن تصدق خبر الله وخبر رسوله فافعل، وإن شئت أن تصدق كلام المنجمين أو غيرهم فافعل، فهذا نفاق، فلابد من أن يعتقد وجوب تصديق الله والرسول صلى الله عليه وسلم في أخبارهما. الثاني عشر: اعتقاد عدم وجوب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أنه تجوز طاعة الله ورسوله، لكنها ليست واجبة، فهذا نفاق. الثالث عشر: أن يطلب العلم بالله من غير أخبار الله ورسوله، فيطلب معرفة الله بأسمائه وصفاته عن طريق الفلاسفة، أو يطلبها عن طريق التقليد. الرابع عشر: أن يطلب العمل لله من غير أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل لله ويتقرب إلى الله، لكن من غير أوامر الله وأوامر رسوله، بل من طريق الوجد أو الذوق أو القياس أو التقليد، فهذا نفاق.

النفاق وخطره

النفاق وخطره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد سبق الكلام على التوحيد وما يناقضه وينافيه، وينافي كماله، وعرفنا أن التوحيد يناقضه وينافيه الشرك والكفر، والشرك يتنوع إلى أنواع، كما أن الكفر يتنوع إلى أنواع، فالشرك نوعان: أكبر وأصغر، والكفر نوعان: أكبر وأصغر. وكذلك الظلم نوعان: ظلم أكبر، وظلم أصغر، وكذلك الفسق يتنوع إلى نوعين: فسق أكبر وفسق أصغر، وكذلك النفاق نوعان: نفاق أكبر ونفاق أصغر.

صور من الكفر الأكبر

صور من الكفر الأكبر قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً أن الأربعة الأنواع الأخيرة من النفاق: ثم هنا نفاقان: نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة. فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه، كأن لا يرى وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في خبره، ولا وجوب طاعته في أمره، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علماً وعملاً، وأنه يجوز تصديقه وطاعته، لكنه يقول: لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً، وأنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وبغير متابعته، كما هو قول الصابئة الفلاسفة، يقولون: تحصل السعادة والنجاة بمتابعة الرسول صلى الله وسلم وبغير متابعته، إما من جهة الفلسفة والصبو، أو من جهة التهود والتنصر، فإنهم وإن صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعوه لكنهم لا يوجبون ذلك، ولا يرون وجوب ذلك على أهل الأرض جميعاً، بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذباً، بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك، قال: وهذا دين التتار ومن دخل معهم. أي: وبيان هذا النفاق أنه لا يرى أنه يجب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتجب طاعته، بل يجوز أن تصدقه ويجوز أن تطيعه، والسعادة والنجاة تحصل من طريق الرسول ومن غير طريقه، كطريق الفلسفة أو الصبو أو التهود أو التنصر، فهؤلاء منافقون ولو صدقوا الرسول وأطاعوه؛ لأنهم لا يرون وجوب تصديقه ولا يرون وجوب طاعته على الناس جميعاً، بحيث لا يكون الذي لم يصدق الرسول ولم يتبعه معذباً، بل يرون طاعة الرسول مثل التمسك بمذهب إمام من الأئمة، أو مثل الدخول في طريقة شيخ من الشيوخ، أو مثل الدخول في طاعة ملك من الملوك، وهذا دين التتار ومن دخل معهم. ثم قال رحمه الله: فأما النفاق الذي هو دون هذا كأن يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فإنهم يوجبون تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ويوجبون طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكاً آخر، إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد، وإما من جهة التقليد. قال رحمه الله: فانظر نفاق الصنفين مع اعترافهم باطناً وظاهراً بأن الرسول أفضل الخلق وأكمل الخلق، وأنه رسول وأنه أعلم الناس، لكنهم لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته، فقد كفروا. وإذا أرادوا أن يعلموا ما يتصف به الله من الصفات؛ فلا يأخذون ذلك من الكتاب والسنة، وإنما يأخذونه عن طريق العقل أو عن طريق مناهج أهل الفلسفة، فهذا هو النفاق الأكبر الذي يخرج من الملة ويحبط الأعمال ولا يغفره الله ويوجب الخلود في الدرك الأسفل من النار.

صور من النفاق الأصغر

صور من النفاق الأصغر أما النوع الثاني من النفاق: فهو نفاق أصغر لا يخرج من الملة ولا يحبط الأعمال ولا يوجب الخلود في النار، بل هو معصية من المعاصي، وضابطه أنه يكون في العمل، وهو كل ما ورد من الأعمال تسميته نفاقاً، وهذا له أمثلة، منها: الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في العهد، والإعراض عن الجهاد، والكسل عند القيام إلى الصلاة، والمراءاة للناس في العمل، وعدم ذكر الله في الصلاة إلا قليلاً، وتأخير الصلاة عن وقتها، ونقرها كنقر الغراب، والتخلف عن صلاة الجماعة، فكل هذه أمثلة للنفاق الأصغر، ولها أدلتها من الكتاب والسنة. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية - أي: علامة- المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي صحيح مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، يعني: وزعم أنه مسلم حقاً، فليس إسلامه حقيقياً، وإنما إسلامه ناقص. وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر). قال بعض العلماء تعليقاً على هذا الحديث: هذه الخصال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم الأربع قد تجتمع مع أصل الإسلام أو الإيمان، ولكنها إذا استحكمت وكملت فقد ينسلخ صاحبها من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذا الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، وقد تجتمع كلها في العبد ويكون عاصياً، لكنها إذا بلغت الغاية والنهاية في الاستحكام والكمال فهي تدل على النفاق الأكبر وتجره إليه، لأنه لو لم يكن منافقاً نفاق كفر لما استحكمت وكملت، فلما استحكمت وكملت وبلغت الغاية والنهاية دل ذلك على أن صاحبها ليس عنده شيء من الإيمان وأنه منافق خالص، وإلا فالأصل أنها معاص. والدليل على أن الإعراض عن الجهاد من النفاق: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، فالإعراض عن الجهاد خصلة من خصال النفاق. والدليل على أن الكسل والرياء وعدم ذكر الله إلا قليلاً من النفاق قول الله تعالى عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]. والدليل على أن تأخير الصلاة عن وقتها ونقرها كنقر الغراب من صفات المنافقين ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)، فهو يؤخر صلاة العصر إلى غروب الشمس، وينقرها كنقر الغراب. والدليل على أن التخلف عن الجماعة من صفات المنافقين، أو من النفاق العملي ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق). فقوله: (ولقد رأيتنا)، يعني الصحابة، (وما يتخلف عنها)، يعني: عن صلاة الجماعة في المسجد، ثم قال: (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). فـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يذكر أنه لا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق.

خوف الصالحين من النفاق

خوف الصالحين من النفاق والنفاق قد خافه الصحابة رضوان الله عليهم على أنفسهم لكمال علمهم بالله، وكمال معرفتهم بربهم، وكمال تعظيمهم له، وكانوا يخشون من النفاق على أنفسهم، حتى قال عبد الله بن أبي مليكة رحمه الله تعالى -وهو تابعي جليل-: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه! ما منهم من يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. وهذا النفاق الذي خشيه الصحابة على أنفسهم هو النفاق العملي؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا يخشون من الكفر، وإنما يخشون من النفاق أن يكون في الأعمال، ومثله قول عمر رضي الله عنه لـ حذيفة: هل تعلم فيَّ شيئاً من النفاق؟ وفي رواية: هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً أبداً. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمراد بالنفاق النفاق العملي. والنفاق الأكبر هو الذي يخرج من الملة ويحبط الأعمال ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه ويوجب الخلود في النار في دركها الأسفل. فهذا النفاق داء عضال، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: قد يكون الرجل ممتلئاً منه وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي، أي أنه خفي على الناس وقد يتلبس به الإنسان وهو لا يشعر، فيظن أنه مصلح وهو مفسد.

كيف يعامل المنافقون

كيف يعامل المنافقون ولقد هتك الله سبحانه وتعالى أستار المنافقين، وكشف أسرارهم وجلّى صفاتهم وأمورهم لعباده المؤمنين حتى يكونوا منهم على حذر، فإن المنافقين كثيرون ويعيشون بين المسلمين في كل زمان ومكان، وبلية الإسلام منهم عظيمة، وفتنتهم شديدة، وهم يعيشون بين المسلمين ويتظاهرون بالإسلام وينسبون إليه وإلى أهله، ويظهرون أنهم ينصرون الإسلام، وهم يكيدون له ولأهله، وهم أعداء الإسلام في الحقيقة، يتلونون بكل لون، ويظهرون كفرهم في قالب متنوع ومتلون، في قالب العلم والصلاح وهو الجهل والإلحاد. وكفر المنافقين أشد من كفر الكفار باطناً وظاهراً، والمنافقون كفار في الباطن مسلمون في الظاهر، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر إذا لم يظهروا نفاقهم، فهم يغسلون إذا ماتوا ويصلى عليهم، ويدفنون مع المسلمين في مقابرهم، ويرثون ويورثون، لكن من أظهر منهم نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة الكفار، فإذا أخفى نفاقه ولم يظهر لنا إلا الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام على المنافقين في زمنه، فإن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين كان يصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعظ الناس ويقول: احمدوا الله واشكروه على هذا النبي واتبعوه. فلما كان بعد غزوة أحد وانحاز بثلث الجيش تكلم بعض أصحابه وقال: عرفناك يا عدو الله، أو كلمة نحوها، فخرج وجعل يتكلم وهو يمشي ويقول: أنا أريد أن أشد أمره، وهو يريد أن يعليه. أو كما قال. ولما مات عبد الله بن أبي ووضع في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرجه من القبر وألبسه قميصه ونفث فيه من ريقه، وقام ليصلي عليه، فجره عمر وقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد قال كذا وكذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا عمر، فإني خيرت، فقيل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80]، فو الله لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت على السبعين)، وهذا ثبت في صحيح البخاري، ثم صلى عليه، وذلك قبل النهي عن الصلاة عليهم، ثم بعد ذلك نزلت الآية، وهي قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فلم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بعد ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما استخرج عبد الله بن أبي من قبره وكفنه قميصه ونفخ فيه من ريقه فعل ذلك رجاء أن ينفعه الله بذلك، ومراعاة لابنه عبد الله وللأوس والخزرج؛ فإن عبد الله بن عبد الله بن أبي من أصلح عباد الله، وألبسه قميصه مكافأة له؛ لأنه أعطى العباس عم النبي قميصاً، وكان العباس رجلاً طويلاً، فلم يوجد للعباس ثوب يناسبه في الطول إلا ثوب عبد الله بن أبي، فأعطاه إياه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم وألبسه قميصه، وصلى عليه؛ لأنه ما نهي عن الصلاة عليه، ولعل الله أن ينفعه. فالمنافقون تجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر، وفي الآخرة إذا كانوا كفاراً فهم في الدرك الأسفل من النار، فإن أظهروا شيئاً من كفرهم كالعمل أو القول الكفري فإنهم يقتلون من قبل الحاكم الشرعي، أو من قبل ولاة الأمر.

المنافقون في القرآن

المنافقون في القرآن والله سبحانه وتعالى جلّى لعباده صفات المنافقين ليكونوا منهم على حذر؛ لشدة فتنتهم وشدة الابتلاء بهم، ولكونهم يعيشون بين المسلمين، وهم يكيدون للإسلام وأهله، فالله تعالى ذكر صفاتهم في بعض سور القرآن، فقد ذكرهم الله في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، وفي سورة التوبة، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة محمد، وفي سورة الفتح، وفي سورة المنافقون.

صفات المنافقين في سورة البقرة

صفات المنافقين في سورة البقرة افتتح الله تعالى سورة البقرة ببيان طوائف الناس الثلاث، فذكر أن الطوائف ثلاث: الطائفة الأولى: مؤمنون ظاهراً وباطناً، وقد ذكرهم الله في أربع آيات. الطائفة الثانية: كفار ظاهراً وباطناً، وقد ذكرهم الله في آيتين. الطائفة الثالثة: كفار باطناً مسلمون ظاهراً، وهم المنافقون، وقد ذكرهم الله في ثلاث عشرة آية، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2 - 5]، فهذه صفات المؤمنين باطناً وظاهراً، فهم يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل على الرسول وما أنزل من قبله، ويصدقون بالآخرة. ثم ذكر أوصاف الكفار ظاهراً وباطناً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]. ثم ذكر المنافقين الذين هم كفار في الباطن ومسلمون في الظاهر في ثلاث عشرة آية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]. فالوصف الأول: أنهم يؤمنون باللسان ويكفرون بالقلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان بالقول، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} ونفى عنهم الإيمان في القلب، فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. والوصف الثاني: الخداع، قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]. ومن أوصافهم حصول الشك والنفاق في قلوبهم، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10]، أي: مرض الشك والنفاق: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]. ومن أوصافهم أنهم يفسدون في الأرض ويسمون إفسادهم إصلاحاً، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، فرد الله عليهم: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]. ومن أوصافهم أنهم يسمون الإيمان سفهاً والمؤمنين سفهاء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13]، فرد الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13]. وقال تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. فالمنافق له وجهان: وجه مع المؤمنين وآخر مع الكافرين، فإذا لقي المؤمنين قال: أنا مؤمن، وإذا ذهب إلى المنافقين والكفار قال: أنا أستهزئ بأولئك المؤمنين وأسخر منهم، وأنا معكم. قال الله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16]. ثم ضرب الله لهم مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، فالمثل الناري قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18]، فهم عرفوا الحق، ورأوا النور ثم عموا عنه وتركوه، كمثل الذي استوقد ناراً فأضاءت ما حوله ثم ذهب الله بنورهم. ثم ضرب الله لهم المثل المائي فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:19 - 20]، أي: ليس عندهم ثبات واستقامة، بل عندهم شك وتردد؛ لأن النفاق يتفاوت فيهم، فمنهم من نفاقه مستحكم، ومنهم من عنده شك، ومنهم من يؤمن مرة ويكفر مرة أخرى، كالذي يمشي في ليلة ممطرة فيها ظلمات ورعد وبرق، فكلما أضاء البرق مشى، وإذا أظلم وقف، أي: عنده شك وتردد، نسأل الله السلامة والعافية. وذكرهم الله تعالى في سورة البقرة فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، أي: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، فيتكلم بكلام طيب حتى تغتر به وتطمئن إليه، ويشهد الله على ما في قلبه أنه صادق، وهو كاذب ومن ألد الخصام! ومن أعمالهم ما ذكرها الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، فهذه من أوصاف المنافقين، وكذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].

صفات المنافقين في سورة آل عمران

صفات المنافقين في سورة آل عمران وذكر الله تعالى أوصافهم في سورة آل عمران، ففي غزوة أحد لما حصل للمسلمين ما حصل، وكان في أول الأمر النصر للمسلمين، ثم لما ترك الرماة الموقف وحصل ما حصل بين الله حال المؤمنين وحال المنافقين، فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} [آل عمران:153] أي: إذ تهربون {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:153 - 154]، فالله تعالى أنزل النعاس على المؤمنين لتطمئن قلوبهم. ولهذا قال العلماء: النعاس في الحرب من الله، بخلاف النعاس في الصلاة، فإنه من الشيطان، فالنعاس فيها يكون من النفاق، أما النعاس في الحرب فهو يدل على الإيمان، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]، وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154] وهم المؤمنون، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، وهم المنافقون، فليس عندهم نعاس، بل عندهم رعب وخوف وهلع، وهل يمكن للإنسان أن يكون عنده رعب وخوف وهلع ويكون عنده نعاس؟! وجاء في تفسير قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] أن الكفار ظنوا أن الدائرة ستكون لهم، وأنهم سوف يقضون على الإسلام قضاء مبرماً، وقد بين الله هذا الظن في سورة الفتح بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، فظنوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة لا يرجعون إلى المدينة، وسيقضون عليهم قضاء مبرماً وينتهي الإسلام. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، وهذا الكلام قاله عبد الله بن أبي، حيث قال: على أي شيء نخرج ونقتل أنفسنا؟! فرد الله عليهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]. وقال سبحانه بعد آيات في بيان غزوة أحد وما أصاب المسلمين: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166 - 167] أي أن الهزيمة بإذن الله، ولأجل أن يعلم المؤمنين أنه إنما يظهر الإيمان ويستقر بعد المحنة والامتحان والابتلاء، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166 - 167] أي: لأجل أن يخرجوا ما في نفوسهم من كراهية للإسلام والمسلمين، ولهذا فإن النفاق لم يظهر إلا بعد غزوة بدر، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167]، وهذا من صفات المنافقين، فهم يقولون كلاماً يخالف ما في قلوبهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167]. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران:168] وهم المنافقون حينما قعدوا عن الجهاد وقالوا لإخوانهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]، أي: قالوا للذين خرجوا من المدينة للقتال: لو أطاعونا في عدم الخروج للقتال ما قتلوا. قال الله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]، أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. ولا يستطيعون.

صفات المنافقين في سورة التوبة

صفات المنافقين في سورة التوبة وفي سورة التوبة جلّى الله تعالى كثيراً من أوصاف المنافقين، وبينها وأوضحها وهتك أستارهم وكشفها، ولهذا تسمى هذه السورة بالفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وخاف منها المنافقون خوفاً عظيماً، حتى خافوا أن يسموا بأسمائهم من كثرة ما بين الله من أوصافهم بقوله: (ومنهم)، (ومنهم)، (ومنهم). ومن ذلك قول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، فقد أمر الله بالنفير والجهاد بالمال والنفس، وبين أن هذا خير لهم، ثم بين حال المنافقين عند النفير للجهاد، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42]، فلو كان هناك غنيمة والسفر ليس متعباً، كما لو كان غير طويل، وكان على الرواحل وعلى الإبل فإنهم سيتبعونك، أما السفر إلى تبوك فسفر طويل والوقت شديد، وبينها وبين المدينة مفازات، فهذا لا يصبر عليه إلا من عنده إيمان، أما المنافق فلا يصبر على هذا، ولذلك تختلف كثير من المنافقين، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حلفوا أن لهم أعذاراً، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم على نياتهم ووكل سرائرهم إلى الله. وقوله تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] أي أنهم لم يخرجوا للجهاد لعدم وجود الاستطاعة والقدرة، قال الله: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42]. ثم قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وبين سبحانه أن الذي يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم الذهاب إلى الجهاد إنما ذلك بسبب النفاق في قلبه، أما المؤمن فلا يستأذن، قال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:44 - 45]، فالمنافقون يستأذنون في عدم الخروج إلى الجهاد بسبب عدم الإيمان بالله ورسوله، ففي قلوبهم ريب وشك في الله ورسوله. قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، فبين الله تعالى أنه كره خروجهم إلى الجهاد لما يترتب عليه من المفاسد، ثم بين الله المفاسد التي تحصل من خروج المنافقين، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] أي: شراً وفساداً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] يعني: يعملون الشر بينكم وفي أوساطكم، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: من ضعفاء البصائر والإيمان فيكم من يسمع لهم: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:47 - 48]. ثم قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49]، وهذا من أقوال بعض المنافقين، وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لقتال بني الأصفر -وهم النصارى الرومان- جاء بعض المنافقين وقال: ائذن لي يا رسول الله؛ فإني إذا رأيت نساء بني الأصفر أخشى على نفسي من الفتنة، فلا أستطيع أن أصبر عنهن، فأقع في الفاحشة، قال الله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. ثم بين الله سبحانه وتعالى أن من أوصافهم أنه إذا أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نصر ساءهم ذلك، وإذا أصابهم ابتلاء وامتحان سرهم ذلك، قال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]، قال الله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:51 - 52]. ثم قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:54 - 55]، أي: لا تغتر بأموالهم الكثيرة ولا بأولادهم الكثيرين، فهذا المال عذاب معجل في الدنيا، ثم لهم عذاب في الآخرة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وهذا واضح؛ فإنك تجد صاحب الأموال الطائلة الكثيرة معذباً في جمعه للأموال، فليست عنده راحة ولا طمأنينة في الغالب، فتجده لا يستطيع أن يأخذ راحته من النوم من كثرة الاتصالات وكثرة المشاغل وكثرة الأعمال الإدارية، فهذا عذاب، ثم يأتيه عذاب بعد جمعه، بخلاف من رزقه الله كفافاً، فهذا مستريح، وكذلك من رزقه القناعة في قلبه. وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]، أي: يحلفون بالله إنهم من المسلمين والمؤمنين وليسوا منهم. وقال تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57]، أي: لو يجدون شيئاً يلوذون به عن الجهاد للاذوا به. وبين الله تعالى أن من أوصافهم أنهم يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتقدونه في الصدقات فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. وبين الله سبحانه وتعالى أن من أوصافهم أنهم يؤذون النبي: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] قال الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]. وبين الله أن من أوصافهم أنهم يحلفون للمؤمنين حتى يرضوا، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، وقال أيضاً: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، فهم يحلفون للمؤمنين ليرضوهم في الظاهر وهو مخالف لما عليه بواطنهم. وبين سبحانه أنهم يحذرون من أن تنزل سورة تنبئ المسلمين بما في قلوبهم فقال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]. ومن أوصافهم السخرية والاستهزاء بالله وبكتابه وبرسوله وبدينه، كما قال الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] وبين الله من أوصافهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ولا يتصدقون، بل أيديهم مقبوضة، ولا ينفقون؛ لأنه ليس عندهم إيمان، قال تعالى: {وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]، وإذا أنفقوا أنفقوا شيئاً يسيراً مع الكراهة وعدم انشراح الصدر، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:67 - 68]. ومن أوصافهم أنهم عاهدوا الله لئن أعطاهم من فضله مالاً فإنهم سيتصدقون ويكونون من الصالحين، فلما أعطاهم الله المال بخلوا وامتنعوا، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَا

صفات المنافقين في سورة الأحزاب

صفات المنافقين في سورة الأحزاب ومن أوصاف المنافقين ما ذكر الله تعالى في سورة الأحزاب لما تحزب الكفار وتجمعوا من قبائل العرب ورموا المسلمين عن قوس واحدة وجاءوا حول المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي، فقد حصلت شدة على المؤمنين وبلاء وفتنة عظيمة، فثبت الله المؤمنين، أما النفاق فقد نجم وظهر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]، أما موقف المنافقين فقد قال الله عنه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، فالمنافقون ليس عندهم إيمان ولا صبر ولا تحمل. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:13 - 14] يعني: المدينة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:14 - 19] أي: القتال: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] والمراد بالخير الغنيمة، فإذا ذهب الخوف عنهم جاءوا ليشاركوكم في الغنيمة، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19]. ثم قال الله سبحانه: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20]، فهم يحسبون أن الأحزاب -وهم الكفار الذين تحزبوا على المسلمين- لم يذهبوا، وإذا أتى الأحزاب يودون لو أنهم في البادية والبرية يستمعون الأخبار، أي: يستمعون أخباركم ما الذي حصل بكم؟ أما المؤمنون فقد ثبتهم الله، فقال في المؤمنين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:22 - 23].

صفات المنافقين في سورة محمد

صفات المنافقين في سورة محمد وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين أيضاً في سورة محمد، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]؛ لأن من صفات المنافقين كراهة وبغض ما أنزل الله، وهذا سبب في حبوط عملهم وكفرهم وردتهم. وذكر من أوصافهم قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]. وقال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد:20] أي: مرض الشك والنفاق: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21] فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال أصابهم هلع وقلق وجبن، فهم ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)) لعدم وجود الإيمان في قلوبهم وعدم تحليهم بالصبر. وبين سبحانه وتعالى أن من أوصافهم أنهم يكرهون ما أنزل الله ويتبعون ما أسخط الله فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:24 - 29] والمراد بالمرض: مرض النفاق، {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30].

صفات المنافقين في سورة الفتح

صفات المنافقين في سورة الفتح وبين سبحانه وتعالى -أيضاً- أوصافهم في سورة الفتح، ومنها أنهم يظنون بالله ظناً سيئاً، وهو أنهم سيقضون على الإسلام والمسلمين وستكون الدائرة للكفرة، قال سبحانه: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11]، هكذا المنافق يقول بلسانه ما ليس في قلبه: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:11 - 12] أي: ظن المنافقون في غزوة أحد أن لن يرجع الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وأن الدائرة للكفار على المؤمنين، وأنه سيقضى على الإسلام والمسلمين، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13]. وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16].

صفات المنافقين في سورة المنافقون

صفات المنافقين في سورة المنافقون وفي سورة المنافقون جلّى الله تعالى أوصافهم، وبين سبحانه وتعالى أنهم يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لكن قلوبهم منكرة ومكذبة وليس عندهم الانقياد، وإن كان عندهم معرفة في القلب، لكن ليس عندهم انقياد ولا محبة ولا نية ولا إخلاص، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] أي: الله يشهد أنهم كاذبون بقلوبهم، وإن كانت ألسنتهم مصدقة، كما قال في أول سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] يعني: بألسنتهم: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] يعني: بقلوبهم. ثم قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2] أي: اتخذوا أيمانهم سترة يستترون بها عن القتل {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:2 - 4] أي: إذا رأيت أجسامهم أعجبتك لجمالها ونظرتها، وأن سمعت مقالتهم فإنها خلابة وفيها كلام لين، كأنهم خشب لا ثمر لها، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون:4 - 5]؛ لأنَّه ليس عندهم إيمان، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]، ثم قال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، يقول بعضهم: لا تنفقوا على هؤلاء المؤمنين حتى ينفضوا من حوله ويتركوه، قال الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:7 - 8]، وهذه المقالة قالها عبد الله بن أبي، وسمع بذلك ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان من أصلح عباد الله، وأبوه رئيس المنافقين، واسمه عبد الله، ولا بأس بأن يسمي ابنه باسمه، وبعض الناس يظن أن هذا لا يجوز، وأنه لا يسمى به إلا إذا مات، فـ عبد الله بن عمر سمى ابنه عبد الله وسمى الآخر عبيد الله وهو حي. فقال: عبد الله بن عبد الله بن أبي لأبيه: والله لا تدخل المدينة حتى تكون أنت الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز. فهذا استعراض سريع لبعض أوصاف المنافقين التي ذكرها الله في كتابه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا وإياكم من صفات المنافقين ومن صفات الكفرة والمشركين والوثنيين، ونعوذ به من أحوال أهل الضلال، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الاستقامة على دينه، والثبات عليه حتى الممات، إنه على كل شيء قدير.

الأسئلة

الأسئلة

توحيد الاتباع

توحيد الاتباع Q ما حكم من يقول: إن القسم الرابع من أقسام التوحيد هو توحيد الاتباع؟ A لا مشاحة في الاصطلاح، وليست العبرة بالتقسيم، إنما العبرة بالمعنى، وتوحيد الاتباع هو توحيد العبادة، فليس هو قسماً رابعاً، إنما هو توحيد العبادة، لكن لا أعلم أن أحداً جعله قسماً رابعاً.

حكم إنكار الحديث المتواتر

حكم إنكار الحديث المتواتر Q هل من أنكر حديثاً متواتراً في الأحكام أو في الاعتقاد يكون فعله من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A إذا كان مثله يعلم هذا؛ لأنَّه ليس كل أحد يعلم الحديث المتواتر، والمعروف عند العلماء أن الإنسان إذا أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، كتحريم الزنا أو السرقة أو شرب الخمر، أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وليس له شبهة، وهو يعلم ذلك فقد كفر، أما الحديث المتواتر فإنه يخفى، وما كل أحد يعلم الحديث المتواتر، ولا يعرفه إلا الخاصة.

حكم الدعاء بـ (الحمد لله حمد الشاكرين)

حكم الدعاء بـ (الحمد لله حمد الشاكرين) Q ما رأيكم فيمن يدعو فيقول: (الحمد لله حمد الشاكرين) في الصلاة وبعد الفراغ من الطعام وفي غيرهما؟ A إذا دعا بهذا الدعاء بعد الفراغ من الطعام فلا بأس، فهذا الدعاء نوع من أنواع الذكر، والذكر الأمر فيه واسع، وإذا أتى بالأذكار المشروعة فهو أفضل، وإذا أتى بالأذكار والتي لا محذور فيها فلا حرج، والذكر لا ينافي الصلاة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يأتي إلا بذكر مشروع، لكن لو قال: سبحان الله والحمد لله في الصلاة فهو ذكر، ولا ينافي الصلاة.

ما يستدل به من نزول المطر عند دفن الميت

ما يستدل به من نزول المطر عند دفن الميت Q مات رجل في طريقنا وقد أصيب بمرض أو غيره من المصائب، ونسبوه إلى الصلاح، فلما مات بعد الظهر ذهب بعض الناس يحفرون له القبر، وكان الجو حاراً، وبينما هم يحفرون القبر كان في السماء غيوم، ونزل المطر أثناء الحفر والدفن، فهل هذا دليل على حسن خاتمته كما قال بعضهم؟ A لا أعلم أن هذا يدل على شيء، ولا أعلم بدليل يدل على أن هذا يدل على فضيلة هذا الميت.

الفرق بين الكفر والشرك

الفرق بين الكفر والشرك Q ما هو الفرق بين الكفر والشرك؟ A لا فرق بينهما، فكل كافر مشرك، وكل مشرك كافر؛ لأنه عبد هواه، ومن عبد الهوى والشيطان فهو مشرك، وهو كافر؛ لأنه جحد التوحيد وجحد الحق، لكن إذا كان فعله يتعلق بالجحود فهذا خاص بالكفر، وإذا كان يتعلق بالإشراك في العبادة فهو خاص بالشرك.

حكم من قال: إنه يعرف الله بالعقل

حكم من قال: إنه يعرف الله بالعقل Q ما حكم قول كثير من العامة: ربنا بالعقل عرفناه؟ A نعم عرفنا ربنا بالعقل والفطرة والشرع، قال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فالله سبحانه وتعالى معروف بالعقول والفطرة والسمع والشرع، وفطر الله العباد والمخلوقات كلها على معرفة الله ووجوده وأنه في السماء وأنه فوق العرش سبحانه وتعالى.

] 16 [

دروس في العقيدة] 16 [ لقد وصف الله تعالى نفسه بصفات عليا، وأخبرنا بأن له الأسماء الحسنى، وذلك أمر يجب علينا اعتقاده وتصديقه، وحذو منهج السلف الصالح فيه، فمنهجهم قائم على أسس عظيمة في العقيدة في أسماء الله وصفاته، ومن جملتها صفة الكلام، وهي صفة عظم النزاع فيها بين أهل السنة وغيرهم، وتعددت فيها الأقوال التي يقرب بعضها من قول أهل السنة، ويوغل بعضها في الشذوذ فيدخل في الكفر، والذي يلزم المسلم أن يتبع فيها وفي غيرها منهج سلف هذه الأمة ومن تبعهم من الأئمة والهداة.

أقسام الذنوب والمعاصي

أقسام الذنوب والمعاصي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد سبق الكلام على التوحيد وما ينافيه ويضاده من الشرك والكفر والظلم والفسق والنفاق، وذكرنا أن الشرك يتنوع إلى أصغر وأكبر، وكذلك الكفر يتنوع إلى أصغر وأكبر، وكذلك الظلم، وكذلك الفسق، وكذلك النفاق. والنفاق أصل اشتقاقه من جهة اللغة، كما قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقاً لإظهاره غير ما يضمر، تشبيهاً له بحجر اليربوع، ويقال له: النافقاء، ويقال له: القاصعاء، وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد أن يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب وباطنه حفرة، وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر، هذا هو أصل الاشتقاق اللغوي للمنافق. وبعد هذا ننتقل إلى البدع والمعاصي التي تنقص كمال التوحيد وكمال الإيمان، وتضعف توحيد العبد وإيمانه، والمعاصي تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر. فالصغائر يكفرها الله تعالى بفعل الفرائض واجتناب الكبائر، فإذا أدى الإنسان المسلم الفرائض التي فرضها الله عليه وانتهى عن الكبائر كفر الله عنه الصغائر بذلك فضلاً منه وإحساناً، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]. وثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنب العبد الكبائر كفر الله عنه الصغائر بالصلوات الخمس والجمعة ورمضان. أما الكبائر فإنه لابد لها من توبة، ولا تغفر إلا بالتوبة. والكبائر اختلف العلماء فيها، وأصح ما قيل في تعريف الكبيرة هو: أنها كل ذنب توعد عليه بالنار، أو ذكرت عليه اللعنة أو الغضب، -قال بعضهم: أو نفي عن صاحبه الإيمان في الدنيا- أو وجب فيه الحد في الدنيا، مثل أكل الربا، ومثل الزنا، ومثل السرقة، ومثل شرب الخمر، ومثل عقوق الوالدين، ومثل قطيعة الرحم والغيبة والنميمة، فهذه كلها كبائر، لا تغفر إلا بالتوبة، ولا تغفر بفعل الفرائض كالصغائر، وصاحبها تحت مشيئة الله، وليست كالشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذا مات صاحبها من غير توبة فهو تحت مشيئة الله، إن شاء سبحانه وتعالى غفر له بتوحيده وإيمانه وإسلامه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه تبارك وتعالى عذبه بقدر جريمته ومعصيته، ثم في النهاية يخرج من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين. فإذا اجتنب الإنسان الكبائر وأدى الفرائض فهو موعود بدخول الجنة من أول وهلة، وإذا فعل الكبائر ومات عليها من غير توبة فهو على خطر أن يعذب في قبره، وهو على خطر من الأهوال التي تصيبه في موقف القيامة، وهو على خطر من دخول النار، فهو تحت مشيئة الله، لكن الكبيرة لا تخرج الإنسان من ملة الإسلام، بل يكون ناقص الإيمان وضعيف الإيمان، ويقال فيه: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته أو كبيرته. والمسلم لا تخرجه المعصية من الملة ولا تحبط جميع أعماله، بل هو مسلم، ولا يخلد في النار، وهو تحت مشيئة الله، فإن شاء ربنا سبحانه غفر له وإن شاء عذبه، وفي النهاية مآله إلى الجنة والسلامة ولو مكث مدة طويلة، فإن بعض العصاة -عصاة الموحدين- يمكثون في النار مدة طويلة ثم يخرجون منها، فإذا خرج العصاة بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين أطبقت النار على الكفرة، فلا يخرجون منها أبد الآباد، قال الله تعالى {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤصَدَةٌ} [الهمزة:8] يعني: مطبقة مغلقة لا يخرجون منها، يعني: جميع أنواع الكفرة وجميع أصنافهم من اليهود والنصارى والمنافقين والوثنيين وغيرهم.

البدعة وأقسامها

البدعة وأقسامها أما البدع فهي أشد من الكبائر، وهي أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن صاحب البدعة يظن أنه على حق وعلى صواب، فلا يتوب، بخلاف العاصي والزاني والسارق وشارب الخمر؛ فإنه يعرف ويعلم أنه عاصٍ، فقد يوفق للتوبة، أما المبتدع فلا يعترف بأنه على خطأ، ففي الغالب أنه لا يتوب. والبدع كثيرة، منها بدع تكون في الصلوات، وفي الأذكار، وفي الوضوء، وما أشبه ذلك، فالتلفظ بنية الصلاة بأن يقول: نويت أن أصلي خلف هذا الإمام، أو أن يأتي بأذكار بعد غسل اليدين وغسل الوجه، كل هذا ليس له أصل، وهو من البدع، وهكذا بدعة المولد. وأشد البدع البدع التي تكون في باب أسماء الله تعالى وصفاته، فهذه أعظم البدع وأشدها. والبدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة مكفرة وبدعة غير مكفرة، أي: قد توصل البدعة صاحبها إلى الكفر، والمبتدع الذي وصلت بدعته إلى الكفر حكمه حكم الكافر كما سبق. وأما البدعة التي لا توصل إلى الكفر فهذه حكم صاحبها حكم أهل الكبائر، فهو تحت مشيئة الله، فهو مؤمن ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان، لكن البدعة أشد من الكبيرة، وهي أحب إلى الشيطان من الكبيرة؛ لأن صاحب الكبيرة معترف بخطئه، فقد يوفق إلى التوبة، وهو حري بأن يوفق للتوبة، أما صاحب البدعة فلا يعترف بأنه مخطئ، بل يظن أنه على صواب، ولذلك كان الغالب أنه لا يتوب. وسنعرض لبعض البدع في باب الأسماء والصفات لعظم خطرها. وأعظم البدع في صفات الله تعالى: الأقوال البدعية في كلام الله عز وجل، والأقوال البدعية في علو الرب سبحانه وتعالى.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات وقبل أن نتكلم عن البدع سنذكر مقدمة في تعريف توحيد الأسماء والصفات ومنهج السلف فيه، والأسس التي يقوم عليها مذهب السلف في باب أسماء الله وصفاته. فتوحيد الأسماء والصفات: هو أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسله نفياً وإثباتاً، فيوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به المرسلون، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه المرسلون.

منهج السلف في باب الأسماء والصفات وأسسه

منهج السلف في باب الأسماء والصفات وأسسه ومنهج السلف في باب الأسماء والصفات أنهم يثبتون لله من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل, هذا هو منهج السلف في باب الأسماء والصفات. ومذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم في الأسماء والصفات ينبني على أسس سليمة ويرتكز على قواعد متينة ودعائم، فمذهب السلف في باب الأسماء والصفات مذهب ثابت له دعائم وله ركائز يرتكز عليها، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على إلمام ومعرفة بهذه الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف الصالح في باب الأسماء والصفات. فالأساس الأول من الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن أسماء الله وصفاته توقيفية، ومعنى (توقيفية) أن إثبات الأسماء والصفات موقوف على ما وردت به النصوص، فما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات مثبتاً لله وجب إثباته، وما جاء في الكتاب والسنة منفياً عن الله وجب نفيه، وما لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته فإنه يجب التوقف فيه، مثل: الجسم والحيز والعرض والجهة وغير ذلك من الألفاظ التي ابتدعها أهل البدع، فهذه الألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة، فلا تثبت ولا تنفى، ولكن من أطلقها نفياً وإثباتاً فإنه يُستفصل ويُسأل عن مراده، فإن كان مراده معنىً صحيحاً قبل المعنى ورد اللفظ، ويعبر بلفظ سليم؛ لأن المعنى سليم، لكن اللفظ غير سليم، وإن كان المعنى الذي أراده غير سليم فإنه يرد اللفظ والمعنى جميعاً. إذاً: الأساس الأول والقاعدة الأولى من القواعد التي ينبني عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن أسماء الله وصفاته توقيفية. الأساس الثاني: أن ما وصف الله عز وجل به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق على حقيقته ليس فيه ألغاز ولا تعمية، بل هو حق على حقيقته، فتثبت ألفاظ الصفات ومعانيها التي دلت عليها هذه الأوصاف، ولا ينفى إلا الكيفية، فالكيفية هي اتصاف الرب بالصفات استأثر الله بعلمها، أما ألفاظ الصفات ومعانيها فهي معلومة، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. إذاً: المنفي هو الكيفية فقط، أما ألفاظ الصفات ومعانيها فهي معلومة، فهي من قبيل المحكم لا من قبيل المتشابه، ومن نسب إلى السلف أنهم لا يعرفون المعنى وأنهم يفوضون معاني الصفات فقد كذب عليهم، فليس هذا مذهب السلف، بل مذهب السلف أنهم يثبتون الألفاظ والمعاني، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن كله، ولم يستثن شيئاً، وحضنا على تعقله وتفهمه، كما قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] ولم يقل: إلا آيات الصفات فلا تتدبروها؛ فإن معانيها غير معلومة. بل معانيها معلومة، فنحن نعرف أن السمع غير البصر، وأن العلم ضد الجهل، والاستواء نعرف أن معناه الاستقرار والصعود والعلو والارتفاع؛ فهذه معانيها في اللغة، لكن كيفية استواء الرب مجهولة لنا لا يعلمها إلا هو، وهكذا كيفية علمه، وكيفية سمعه، وكيفية بصره. الأساس الثالث من الأسس التي يقوم عليها مذهب السلف في باب الأسماء والصفات: أن إثبات الصفات لله إثبات بلا تمثيل للصفات ولا تكييف لها، فلا نقول: إن صفات الله مثل كذا أو كيفيتها كذا؛ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فإثبات الصفات لله إثبات بلا تمثيل ولا تكييف. الأساس الرابع: أن تنزيه الله عن النقائص والعيوب تنزيه بلا تعطيل. فتنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص والعيوب تنزيه بلا نفي للصفات ولا تعطيل لها، ولا تأويل لمعانيها ولا تحريف لألفاظها عن مدلولها الذي دلت عليه، فالسلف الصالح لم يغلوا في الإثبات ولم يغلوا في النفي، بل تجنبوا الغلو في الإثبات، فلم يصلوا إلى التشبيه، وتجنبوا الغلو في النفي، فلم يصلوا إلى التعطيل، فهم وسط بين التشبيه والتعطيل، فسلموا من الإفراط والتفريط. الأساس الخامس: أن الإجمال يكون في النفي، والتفصيل يكون في الإثبات، فالسلف يثبتون الصفات لله تعالى على وجه التفصيل، وأما النفي -نفي نقائص العيوب- فإنهم ينفونها عن الله على وجه الإجمال، كما في آية الكرسي في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فأثبت (الحي القيوم)، وكما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] فالإثبات يكون تفصيلياً بأن نثبت جميع الصفات، فنثبت العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والعزة، والعظمة، والكبرياء، ونثبت جميع الصفات والأسماء التي وردت في الكتاب والسنة. أما النفي فإنا ننفي على وجه الإجمال، كما نفى الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وهذا مجمل، وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. ويجب أن يعلم أن النفي الوارد في باب الأسماء والصفات ليس هو النفي المحض الصرف، وإنما هو النفي الذي يتضمن إثبات ضده من الكمال، كما في قوله سبحانه: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته، وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3] لكمال علمه، وقوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] لكمال قوته واقتداره، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لكمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، فليس هو نفياً محضاً، لكن يتضمن إثبات ضده من الكمال. فالنفي ليس نفياً صرفاً، ولكنه نفي يتضمن إثبات ضده من الكمال، بخلاف النفي الصرف المحض، فإنه لا مدح فيه؛ لأنه يوصف به المعدوم، والمعدوم لا يمدح، وهذا مثل قول الشاعر يذم قبيلة من القبائل: قُبيلةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فهو ينفي فيقول: ولا يغدرون بالذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل، ومقصده الذم، بدليل أنه صغرهم فقال: قُبيّلةٌ، وهذا للتحقير، يعني: لمهانتهم وضعفهم، فهم لا يغدرون لا لكمالهم، بل لكونهم عاجزين عن الغدر، وإلا فلو قدروا لغدروا، (ولا يظلمون الناس حبة خردل) لعجزهم، ولو قدروا لظلموا، فهذا نفي صرف، وهذا مذموم. ومثل هذا قول الشاعر الآخر يذم قبيلته: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا يقول: إن قومي ليسوا من الشر في شيء ولو كان قليلاً، ومع ذلك يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة، فإذا ظلمهم أحد غفروا له، ويجزون بالإساءة إحساناً؛ لعجزهم وضعفهم، وذلك لأن هذا الشاعر الجاهلي سرقت إبله فاستنجد بقومه فلم ينجدوه، فقال: إنهم لا يستطيعون لضعفهم ومهانتهم، ولو كنت من قبيلة مازن لأنجدوني وأسعفوني، فيقول قبل هذه الأبيات: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا فهم وإن كان عددهم كثيراً لا يستطيعون نجدته، فليسوا من الشر في شيء ولو كان قليلاً، ولذا قال: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ومن إساءة أهل السوء إحسانا فهذا نفي محض صرف، وهذا لا يرد في باب الأسماء والصفات؛ فلا يرد النفي في باب الأسماء والصفات إذا كان صرفاً، بل النفي الذي يأتي في باب الأسماء والصفات هو نفي بتضمن إثبات ضده من الكمال، بخلاف النفي الصرف المحض كما في هذه الأبيات؛ فإنه لا مدح فيه، بدليل أنه يوصف به المعدوم، والمعدوم لا يمدح.

أنواع البدع في باب الأسماء والصفات

أنواع البدع في باب الأسماء والصفات أما البدع في باب الأسماء والصفات، فهي بدعتان: البدعة الأولى: بدعة المشبهة. والبدعة الثانية: بدعة المعطلة. فبدعة التشبيه وقال بها المشبهة، وبدعة التعطيل قال بها المعطلة. والمشبهة والمعطلة فرقتان كافرتان على وجه العموم بقطع النظر عن التفصيل وعن الأشخاص؛ فالمشبهة كفرة وكذلك المعطلة كفرة. ولهذا يقول العلماء: المشبه يعبد صنماً ولا يعبد الله في الحقيقة، وإنما يعبد شيئاً في ذهنه يتخيله، فهو يعبد صنماً ولا يعبد الله، والمعطل الذي نفى كل شيء عن الله ولم يثبت شيئاً يعبد عدماً لا وجود له. فيقول العلماء: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً. فالبدعة قد تصل إلى الكفر وقد لا تصل، فقد تكون كبدعة الأشاعرة، وهذه بدعة لا تصل إلى الكفر، وقد تكون كبدعة الجهمية فتصل إلى الكفر. والمشبهة: هم الذين شبهوا الله بخلقه ومثلوا صفاته بصفات المخلوقين، وأصل ضلالهم وبلائهم من الغلو في الإثبات، فإنهم غلوا في إثبات الأسماء والصفات وقالوا: إن لله أسماءً وصفات، لكنهم زادوا وغلوا في هذا الإثبات حتى قالوا: إن صفات الخالق تشبه صفات المخلوق، فيقول أحدهم: علم الله كعلم المخلوق، ورحمة الله كرحمة المخلوق، وسمع الله كسمع المخلوق، وهكذا. وأول من قال: إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي وبيان بن سمعان التميمي الذي تنسب إليه البيانية من غالية الشيعة، وأكثر المشبهة من غلاة الشيعة البيانية، وكان بيان بن سمعان التميمي يقول: إن الله على صورة الإنسان. ومن المشبهة هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي وأتباعهم، وهؤلاء غلوا في الإثبات حتى قالوا: إن الله يرى في الدنيا بالأبصار، وهؤلاء المشبهة قالوا: إن الله يرى في الدنيا بالأبصار، وقال بعضهم: إن الله ينزل عشية عرفة على جمل، وأنه يرى ويحاضر ويسامر ويصافح. وقال بعضهم: إنه يندم ويحزن ويبكي، كما قالت اليهود، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، نسأل الله السلامة والعافية. والتشبيه مذهب باطل قد جاء الكتاب العزيز والسنة المطهرة بنفيه ورده وإبطاله والنهي عنه؛ قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وقال سبحانه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وقال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، ومن يشبه الله بخلقه ويقول: إن الله يشبه المخلوقات فإنه في الحقيقة ليس عابداً لله، وإنما يعبد وثناً صوره له خياله ونحته له فكره، فهو من عُباد الأوثان لا من عُباد الرحمن. ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان ومن شبه الله بخلقه فقد شابه النصارى في عبادتهم للمسيح ابن مريم من دون الله. ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: من شبه الله العظيم بخلقه فهو النسيب لمشرك نصراني فهؤلاء المشبهة لم يعبدوا الله في الحقيقة، وإنما عبدوا وثناً فصوروه وتخيلوه، وأما رب العالمين فهو فوق ما يظنون وأعلى مما يتوهمون، فلله ذات لا تشبه الذوات، وله صفات لا تشبه الصفات. قال نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من ذلك تشبيه. أما المعطلة -وهم الطائفة الثانية- فهم الذين عطلوا الله من صفاته وأسمائه. وسموا معطلة من العطل، وهو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45] إذا خلت من الماء ومن الدلاء، قال الراغب: التعطيل: فقدان الزينة والشغل، ويقال: امرأة عطل وعاطل: إذا لم يكن عليها زينة، وقوس عطل: لا وتر عليه، وعطلت الإبل عن راعيها والدار عن ساكنها، قالوا: إذا تعطلت الدار عن الساكن فهي معطلة، وكذلك الإبل إذا تعطلت عن راعيها، ويقال لمن يجعل العالم فارغاً بزعمه عن صانع أتقنه وزينه: معطل، ومن أنكر وجود الله فهو معطل ملحد، عطل هذا الكون من خالقه. وسمي جاحدو الصفات معطلة لأنهم عطلوا الله من صفات كماله، فالمعطلة هم الذين نفوا الأسماء والصفات، والمشبهة هم الذين شبهوا الله بخلقه.

أقسام صفات الله عز وجل

أقسام صفات الله عز وجل وصفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية وصفات فعلية. القسم الأول: صفات ذاتية لا تنفك عن الباري، كالعلو، والقدرة، والسمع، والبصر، والعظمة، والعزة، والكبرياء، وغير ذلك من الصفات التي لا تنفك عن الباري. القسم الثاني: صفات فعلية تتعلق بمشيئة الله وإرادته واختياره، مثل الاستواء، والمجيء، والنزول، والقول، وغيرها. وهناك صفات اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين المخالفين لهم من أهل الكلام، حيث إن أهل الكلام ابتدعوا بدعاً في هذه الصفات، وهذه البدع منتشرة وكثيرة، فلا بد لطالب العلم من أن يكون على إلمام بها فهي موجودة في المؤلفات والكتب.

ذكر مذاهب الطوائف في صفة كلام الله عز وجل

ذكر مذاهب الطوائف في صفة كلام الله عز وجل وأعظم الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين المخالفين من أهل البدع وابتدع أهل البدع فيها بدعاً عظيمة صفة الكلام لله وصفة العلو، فهاتان الصفتان اشتد النزاع فيهما بين أهل السنة وبين المخالفين لهم، والمخالفون ابتدعوا في هذه الصفات بدعاً قد تصل إلى الكفر وقد لا تصل. أما صفة الكلام فقد اختلف الناس في كلام الرب سبحانه وتعالى وفي حقيقة كلام الرب: على مذاهب متعددة، لكن أبرز المذاهب والأقوال ثمانية، فسبعة كلها باطلة والقول الثامن هو القول الحق، ولكن هذه الأقوال السبعة منتشرة في العالم، يقول العلامة ابن القيم: والعجب أن هذه المذاهب السبعة منتشرة بين الناس وبين فضلاء العالم لا يعرفون غيرها، وهي كلها باطلة. فلابد لطالب العلم والمسلم من أن يكون على إلمام بهذه البدع حتى يحذرها، فهي موجودة ومنتشرة في المؤلفات والكتب، حتى إن بعض هذه الأقوال المبتدعة يقولها غير المسلمين.

مذهب الحلولية والاتحادية

مذهب الحلولية والاتحادية القول الأول في المراد بكلام الله -وهو أشدها وأعظمها خطراً وأفسدها- هو القول بأن كل كلام يسمع في الوجود فهو كلام الله، فأصحاب هذا القول يقولون: كل كلام يسمع في الوجود فهو كلام الله سواء تكلم به إنسان، أو حيوان، أو طير، أو دابة، وسواء أكان حقاً أم باطلاً، وسواء أكان شعراً أم نثراً، فجميع ما يسمع في الوجود فهو كلام الله، وهذا مذهب الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهؤلاء كثير في أهل الأرض، ومن المعلوم أن هؤلاء كفار، لكن أتينا بقولهم لأن الاتحادية الآن ينسبون إلى الإسلام، بل إنهم يقولون: إنهم هم العارفون، ورئيسهم ابن عربي يقولون عنه: رئيس العارفين، وهناك من يقدسهم ويعظمهم ويحترمهم ويرى أنهم هم أهل الحق وهم أهل المعرفة الصحيحة، ولهم مؤلفات تطبع بورق فاخر وتحقق ويدافع عنها، وهي موجودة منتشرة، وإن كانت في غير بلادنا، لكن توجد في مصر وفي غيرها من البلدان. فالاتحادية يقولون: إن كلام الرب هو كل كلام يسمع في هذا الوجود حقاً كان أو باطلاً، زوراً أو بهتاناً، شعراً أو نثراً. وهذا القول المبتدع في كلام الرب مبني على مذهبهم في القول بوحدة الوجود؛ لأن مذهبهم أن الوجود واحد، وأنه ليس هناك عبد ورب، بل العبد عين الرب، والرب عين العبد، والخالق عين المخلوق، والمخلوق عين الخالق، وما ثم خالق ولا مخلوق ولا رب ولا عبد، فتفرع عن مذهبهم في القول بوحدة الوجود: القول بأن كل كلام يسمع في الوجود فهو كلام الله، والعياذ بالله. وأصل هذا المذهب -وهو مذهب القول بوحدة الوجود- نشأ عن إنكار مسألة المباينة والعلو، فهم أنكروا أن يكون الرب مبايناً لهذه المخلوقات ومنفصلاً عنها، وأن يكون فوقها، أنكروا هذا وقرروا أن الرب ليس مبايناً لهذا العالم وليس عالياً عليه ولا فوقه، فلما أنكروا مسألة المباينة والعلو صاروا بين أمور ثلاثة: الأمر الأول: أن يقولوا: إن الخالق معدوم والرب معدوم، وليس لهذا الكون خالق، وهذا استبشعوه، وقالوا: لا أحد يقبل هذا الإنكار الصريح، وهو نفي الرب وإنكار الرب. الأمر الثاني: أن يقولوا: إنه موجود، لكن لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، قالوا: وهذا لا يقبله عقل ولا تسيغه فطره ولا يقبل منا، ولا يمكن أن يكون هذا إلا معدوماً، بل هو ممتنع. فاختاروا الأمر الثالث، وهو أن يقولوا: الخالق هو نفس مخلوق، فأنت الرب وأنت العبد، وأنت الخالق وأنت المخلوق، فاختاروا هذا القول الذي فيه تلبيس، وكسوه وحلوه بشيء من الحق حتى راج أمره على ضعفاء البصائر وظنوا أنه الحق، فهم يقولون: نحن لا ننكر الخالق، لكن الخالق هو المخلوق، والرب هو العبد، فلما قرروا أن الرب سبحانه هو العبد والخالق هو المخلوق ثبت عندهم أنه عين هذه الموجودات. إذاً: فثبت له كل حسن أو قبيح، وكل صفة كمال أو نقص، وكل قول حتى الباطل، والعياذ بالله. وقالوا: لما ثبت أن هذا الخالق هو المخلوق ثبت إذاً أن كل اسم في هذا الوجود فهو لله، سواء أكان حسناً أم قبيحاً، وكل صفة في هذا الوجود فهي لله، سواء أكانت صفة كمال أم نقص، وكل قول فهو قول الله، وكلام الله، سواء أكان حقاً أم باطلاً، سحراً أم كذباً، والأغاني والفحش والرجس وغير ذلك من جميع الأقوال الباطلة وغير الباطلة هي كلام الله. وهذا مذهب باطل وشنيع، وهو من أعظم الكفر، بل إن كفر كل كافر جزء من كفر الاتحادية والعياذ بالله، فهل يجرؤ عاقل على أن يقول: إن كل كلام يسمع في هذا العالم هو كلام الله، بما فيه من الفحش وبما فيه من الخلاعة والمجون والسحر والرجس وغير ذلك؟! فهذا من أعظم البدع التي قيلت في كلام الله، وهي بدعة كفرية مبنية على مذهب كفري، بل إن الاتحادية أكفر خلق الله، وكفر كل كافر جزء من كفرهم.

مذهب الفلاسفة

مذهب الفلاسفة المذهب الثاني: مذهب الفلاسفة: وهو أن كلام الله معنى يفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية، أي: ليس فيه حرف ولا صوت، فالاتحادية يقولون: هناك حرف وصوت، لكن كل ما تسمع من الحروف والأصوات فهو كلام الله، أما هؤلاء فيقولون: الكلام معنى لا يسمع، وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته النفس، وهذا مذهب الفلاسفة المتأخرين كـ الفارابي وابن سينا، تبعاً لمعلمهم الأول أرسطو، وقد يتبعهم بعض المتصوفة، فإنهم يقولون: الكلام معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، والنفس الفاضلة هي نفوس الأنبياء، فنفوس الأنبياء نفوس شريفة فاضلة زكية صافية، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب قبولها من هذا المعنى، وتختلف على حسب صفائها واستعدادها ونقائها، فيحصل لها تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته، ومذهبهم هذا في الكلام مبني على مذهبهم في القول بقدم العالم، وأن العالم قديم ليس حادثاً وليس له أول ولا بداية، بل هو قديم بقدم الله، وهذا معناه القول بإنكار وجود الله، فمن قال: إن العالم قديم فقد أنكر وجود الله، فهم يقولون: إن العالم قديم ليس له أول ولا بداية، وأرسطو يقول: لا يثبت وجود الله إلا من كونه مبدأً لهذه الكثرة، فمبدأ هذه الكثرة هو الله وهو علة غائية لحركة الفلك! ويقول: إن العالم لازم لله أزلاً وأبداً لا ينفك عنه، فلم يكن الله خلق الخلق بقدرته ومشيئته، والخلق لازم له كلزوم الضوء للسراج، فهل السراج ينفك عن الضوء؟! وهل له اختيار في الضوء؟! فيقول: إن العالم لازم لله كلزوم الضوء للشمس، لا يستطيع الفكاك عنه! تعالى الله عما يقول. وأصل هذا المذهب نشأ من عدم الإقرار بالرب الذي عرَّفت به الرسل ودعت إليه، وأنه الخالق، وأنه فوق عباده، وأنه فعال لما يريد، وأنه متكلم سبحانه وتعالى بما يشاء إذا شاء كيف شاء، وهذا أصل البلاء، فهم لا يقرون برب خالق، بر فوق العباد، متكلم، لا يقرون بهذا، فلما لم يقروا بذلك نشأ عن ذلك القول بقدم العالم. ولما قالوا بقدم العالم قالوا: إن الكلام معنى يفيض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية، وهذا مذهب كفري، وهؤلاء الفلاسفة كفرة لا يؤمنون بالله ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره. والمراد بالفلاسفة عند الإطلاق الفلاسفة المتأخرون أتباع المعلم الأول أرسطو والمعلم الثاني الفارابي والمعلم الثالث ابن سينا. أما الفلاسفة القدامى من قبل أرسطو فإنهم في الجملة يعظمون الشرائع والإلهيات ويثبتون وجود الرب وعلوه، ويقولون: إن العالم مخلوق لله بمشيئته، ومن أولئك أفلاطون شيخ أرسطو، لكن لما جاء أرسطو خالف شيخه أفلاطون وابتدع القول بقدم العالم، فأول من قال بقدم العالم أرسطو قبحه الله، وكان مشركاً يعبد الأصنام، فهذه بدعة كفرية ناشئة عن مذهب كفري.

مذهب السالمية

مذهب السالمية المذهب الثالث: مذهب السالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي ومن تبعهم من أتباع الأئمة الأربعة وبعض أهل الحديث، وهؤلاء يقولون: إن كلام الله معانٍ وألفاظ وحروف وأصوات قائمة بذات الرب لم تزل ولا تزال، لكن الكلام لا يتعلق بقدرة الرب ومشيئته، فلا يتكلم بقدرته ومشيئته، فالكلام لازم لله أزلاً وأبداً لا يتعلق بالقدرة والمشيئة، بل الرب لم يزل ولا يزال يتكلم، وكلام الرب حروف وأصوات، لكن حروف وكلمات الرب لا يسبق بعضها بعضاً، بل هي مقترنة، فمثلاً: (بسم الله الرحمن الرحيم) لا يقولون: إن السين بعد الباء والميم بعد السين، بل يقولون: الحروف مقترنة دفعة واحدة يتكلم الرب سبحانه بها دفعة واحدة، فالباء مع السين مع الميم، لكن بالنسبة لسمع الإنسان يسمعها متعاقبة مرتبة، لكن الرب تكلم بها دفعة واحدة، ولهذا تسمى هذه الطائفة بالاقترانية، لأنهم يقولون: الحروف مقترنة ليست متعاقبة، ويسمون -أيضاً- بالسالمية. وهذا المذهب مبني على القول بأن الكلام لابد من أن يقوم بالمتكلم، وبأن الرب ليس محلاً للحوادث، قالوا: الكلام لابد من أن يقوم به متكلم، فالله لم يزل ولا يزال يتكلم بحروف وأصوات وألفاظ ومعانٍ. وكلام الله نوعان: بواسطة وبغير واسطة، بواسطة كما سمع الصحابة كلام الله وكما سمعه الرسول عليه الصلاة والسلام، وبغير واسطة كما سمع موسى كلام الله وكما سمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، لكن قالوا: الرب لا يتكلم بقدرته ومشيئته، فالرب لم يزل يتكلم منذ الأزل، فقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ليس بقدرته ومشيئته، والحروف مقترنة، قالوا: لأن الكلام لابد له من متكلم، ولأن الله ليس محلاً للحوادث، فلو قلنا: إن الله الرب يتكلم إذا شاء فمعناه أنه حدث الكلام في داخله، والذي يحدث الكلام في داخله هو المخلوق، والمخلوق هو الذي يكون محلاً لالحوادث، أما الرب فليس محلاً للحوادث. وكذلك قالوا: لو قلنا: إن الحروف متعاقبة للزم من ذلك أن يحدث الحرف في ذاته، ففراراً من ذلك قالوا: إن الحروف مقترنة، وهذا مذهب باطل ومذهب فاسد. وهذه بدعة في باب كلام الرب، والكلام صفة كمال، وإذا لم يكن الرب متكلماً بقدرته ومشيئته فهذا تعطيل له من الكمال، ولأن الكلام الذي يعرفه العقل ويشهد به الشرع هو الكلام الذي يكون بقدرة المتكلم ومشيئته. وقولهم: إن الحروف مقترنة -فالسين مع الميم مع الباء- وليست متعاقبة تخليط وهذيان مخالف للحس والفطرة، فلا تقبله فطرة، وتصوره كافٍ في بطلانه وفساده؛ لأن الكلمة إذا كانت مركبة من حرفين فالحرف الثاني لابد من أن يكون بعد الحرف الأول، ولا وجود للحروف أصلاً بدون التعاقب، وعلى ذلك تصل إلى الآذان فتسمعها وتميزها، فهذه بدعة في كلام الرب عند هؤلاء، وهي قولهم: إن الكلام لا يتعلق بمشيئته. أما قولهم: إن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات هذا حق، لكن قولهم: لا يتعلق بقدرته ومشيئته، وقولهم: إن الحروف مقترنة، قول باطل.

مذهب الكرامية

مذهب الكرامية المذهب الرابع: مذهب الكرامية: والكرامية هم أتباع محمد بن كرام السجستاني، وهم يقولون: إن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قائمة بذات الرب، والكلام يتعلق بقدرته ومشيئته سبحانه وتعالى، فهو يتكلم متى شاء إذا شاء كيف يشاء، وكلام الله نوعان: بواسطة وبغير واسطة، لكن كلام الرب حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، بمعن: أن الرب كان معطلاً عن الكلام، بل كان الكلام ممتنعاً عليه ولا يستطيع الكلام في الأزل، ثم انقلب فجأة فصار ممكناً، قالوا: إن هناك فترة كان الرب لا يستطيع فيها أن يتكلم، بل إن الكلام ممتنع، أي: يستحيل على الله، ففي الأول كان الكلام ممتنعاً ثم انقلب فجأة فصار ممكناً. وشبهتهم في ذلك أنهم قالوا: لو قلنا: إن الكلام قديم النوع، وإن الرب لم يزل متكلماً للزم من ذلك التسلسل في الحوادث، فتكون الحوادث والمخلوقات متسلسلة في الأزل، وإذا تسلسلت انسد علينا طريق إثبات الصانع، فلا نستطيع أن نثبت وجود الله وأنه هو الأول، ففراراً من ذلك قالوا: هناك فترة لا يتكلم فيها الرب، فليس فيها كلام ولا حرف ولا فعل حتى يكون هو الأول، ثم بعد ذلك تكلم الرب وتسلسلت الحوادث، فلو قلنا: إن الرب لم يزل متكلماً للزم من ذلك تسلسل الحوادث والمخلوقات، وإذا تسلسلت الحوادث والمخلوقات انسد علينا طريق إثبات الصانع، فلا نستطيع أن نثبت أن الله هو الأول. وهذا مذهب باطل، والقول بأن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف بأصوات متعلق بقدرته تعالى ومشيئة هذا حق، لكن قولهم: إن الكلام كان ممتنعاً عن الرب هذا باطل؛ لأن الكلام صفة كمال، فكيف يخلو الرب من الكمال في وقت من الأوقات؟! ولأن الرب إذا كان حاله قبل وبعد سواء ولم تتجدد له صفة الكلام من غيره فلماذا كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً؟! وما السبب في امتناعه ثم في إمكانه؟! وما تحديد الفترة التي كان فيها ممتنعاً؟! لا تستطيعون أن تحددوا فترة، وكل ما يتصوره الإنسان من الأزمنة فالإنسان سابق لذلك، وهذا كلام باطل. أما شبهة قولهم: إنه يلزم تسلسل الحوادث، فنقول: الرب فعال وخلاق، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ} [الحجر:86] يعني أن الرب لم يزل خلاقاً وفعالاً، والخلق والفعل صفة كمال، فلا يعطل الرب من هذا الكمال في وقت من الأوقات. وأما إثبات الفترة وأن هناك فترة فلا دليل عليه، فإنهم يثبتون فترة كان الرب سبحانه معطلاً فيها من الكلام والخلق، وهذا لا دليل عليه، ونحن نقول: إن كل مخلوق من المخلوقات، وكل فرد من أفرادها مسبوق بالعدم، وليس له من نفسه وجود ولا عدم، بل الله أوجده بعد أن كان عدماً، ولا يلزم من ذلك أن هناك فترة، بل كل فرد من أفراد المخلوقات مسبوق بالعدم، والله تعالى أوجده بعد أن كان معدوماً، ويكفي هذا، أما أن نثبت فترة يعطل فيها الرب فهذا لا دليل عليه، وهو باطل. فهؤلاء الكرامية وجه الغلط عندهم هو كونهم أثبتوا فترة عطلوا فيها الرب عن الكلام، ولو لم يقولوا بالفترة هذه لصار مذهبهم موافقاً لمذهب أهل السنة.

مذهب الكلابية

مذهب الكلابية المذهب الخامس مذهب الكلابية: وهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولقوة حجته وجداله سمي كلاباً، وهم يقولون: إن الكلام معنى قائم بنفس الرب ليس بحرف ولا صوت، والكلام لازم لذات الرب كلزوم العلم ولزوم الحياة والسمع والبصر، وهو أربعة معانٍ في نفسه: الأمر، والنهي، والخبر، والاستفهام. أما الحروف والأصوات فليست من كلام الله، فليس كلام الله حرفاً ولا صوتاً، بل الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله دالة عليه، وأما الكلام فليس بحرف ولا صوت، بل هو معنى قائم بنفس الرب، لكن هذه الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله تدل عليه حكاها جبريل أو حكاها محمد، وهو أربعة معانٍ في نفسه: الأمر، والنهي، والخبر، والاستفهام. وهذا مذهب باطل؛ لأنه لو كانت الحروف والأصوات حكاية له لوجب أن يماثل الحرف والصوت المعنى؛ لأن حكاية الشيء تكون مماثلة له، تقول: حكيت الحديث بعينه: إذا رويته بغير زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، والحروف والأصوات مختلفة عن المعنى. ثانياً: يلزم على قولهم: إن الحروف والأصوات حكاية لكلام الله أن صفات الله محكية، وهذا تجسيم. ثالثاً: لو كانت الحروف والأصوات حكاية عن كلام الله للزم من ذلك أن يكون الخلق قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! وحينئذٍ كيف يطلب تحديهم وقد تحدى الله البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]؟! فإذا كانت الحروف والأصوات حكاية له فمعناه أنه بطل التحدي، فيكون الناس قد أتوا بمثل كلام الله. وأيضاً نقول لهم: يلزمكم أن يحكى بحرف وصوت ما ليس بحرف ولا صوت، فكيف يحكى بحرف وصوت ما ليس بحرف وصوت؟!

مذهب الأشاعرة

مذهب الأشاعرة المذهب السادس: مذهب الأشاعرة: وهو قريب من مذهب الكلابية، وهو مذهب منتشر، فهم يقولون: إن الكلام معنى واحد قائم بنفس الرب، ليس بحرف ولا صوت، فوافقوا الكلابية، ثم قالوا: لا ينقسم هذا المعنى ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتكثر ولا يتجزأ، ولا ينقسم بنوع ولا جزء، والحروف والأصوات عبارة تدل عليه. والكلابية يقولون: إنه حكاية، وهؤلاء يقولون: إنه عبارة تدل عليه، فالقرآن الذي في المصحف يقول الأشاعرة عنه: هذا عبارة عن كلام الله عبر به جبريل أو محمد، أما كلام الله فهو معنى في نفسه لا يسمع؛ لأنه لازم لذات الرب، ولكن يسمى ما في المصحف كلام الله لأن كلام الله تأدى به، فيسمى كلاماً مجازاً، فالأشاعرة يقولون: القرآن كلام الله، لكن عند المناظرة يقولون: مقصودنا أنه مجاز وليس بحقيقة، لكن سميناه كلام الله لأن كلام الله تأدى به، ولأنه دل على كلام الله، وإلا فكلام الله في نفسه. هذا مذهب الأشاعرة في الكلام، وهو صفة من الصفات السبع التي أثبتوها الكلام، فمن الصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة الكلام، ومع ذلك يقولون: كلام الله معنىً واحد لا يتبعض ولا يتعدد ولا يتجزأ ولا ييتكثر، ولا نقول: إنه أربعة أنواع كما تقول الكلابية: أمر ونهي وخبر واستفهام، بل هو معنى واحد لا ينقسم ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا تكثر، والتقسيم إنما هو في العبارات والدلالات، فهو معنى واحد، إن عبرت عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبرت عنه بالعبرانية فهو التوراة، والعبرانية لغة اليهود، وإن عبرت عنه بالسريانية فهو الإنجيل، والسريانية لغة النصارى، فهو واحد والتقسيم في العبارات على حسب العبارة. وكونه ينقسم إلى أمر، ونهي، وخبر، واستفهام قالوا عنه: هذه صفات إضافية لذلك المعنى، وهو معنى واحد، فهذا المعنى صفته أنه يكون أمراً ويكون نهياً ويكون خبراً، كما يكون الشخص له صفات متعددة، فأنت واحد ولك صفات متعددة، فأنت إذا نسبت إلى أبيك فأنت ابن، وإذا نسبت إلى ابنك فأنت أب، وإذا نسبت إلى ابن أخيك فأنت عم، وإذا نسبت إلى ابن أختك فأنت خال، وأنت واحد: خال وعم وابن وأب، على حسب الإضافة والنسبة، فكذلك المعنى والقرآن، فكلام الله معنى واحد، وكونه أمراً ونهياً وخبراً واستفهاماً هذه صفات إضافية، وكونه توراة وإنجيلاً وقرآناً إنما هو تقسيم للعبارات التي تدل عليه. هذا هو مذهب الأشاعرة، وهو مذهب كثير من الأحناف، ومذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم. وهذا المذهب أقرب المذاهب إلى أهل السنة، لكنه مذهب الأشاعرة، فهم يقولون: إن القرآن الموجود في المصاحف عبارة عن كلام الله عبر به جبريل أو عبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: إن الله تعالى اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه فعبر عنه، ومنهم من يقول: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ ولم يتكلم الله به، وهذا مذهب منتشر ملأ الأرض. ومذهب الكلابية والأشاعرة مبني على أن الكلام لابد من أن يقوم بالمتكلم، وعلى أن الرب ليس محلاً للحوادث، قالوا: فلو قلنا: إن الحروف والأصوات من كلام الله للزم من ذلك أن يكون الله محلاً للحوادث، والرب ليس محلاً للحوادث، فالحروف والأصوات حادثة تحدث، وكلما تكلم الإنسان بالحرف والصوت حدث الكلام، فيلزم من ذلك حدوث الحوادث في ذات الرب، والرب منزه عن حلول الحوادث، ففروا من ذلك فقالوا: الحروف والأصوات ليست من الكلام.

مذهب الجهمية

مذهب الجهمية المذهب السابع: مذهب الجهمية: وتحول إلى المعتزلة فنسب إليهم، وهو أن كلام الله ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات، وهي تتعلق بمشيئته وقدرته، لكنه مخلوق خارج ذاته، فالله تعالى خلق هذه الحروف والأصوات والمعاني خارج ذاته فنسبها إلى نفسه، فصار بها متكلماً، فكلام الله مخلوق من مخلوقات الله نسبه إلى نفسه للتشريف والتكريم، وقالوا عن تكليمه تعالى لموسى: خلقه في الهواء، أو في الجسم، فمن ذلك الجسم بدأ. فهذا مذهب الجهمية، ثم تحول إلى المعتزلة، فهم يقولون: كلام الله ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات، لكنها مخلوقة خارج ذاته، ونسبها إلى نفسه للتشريف والتكريم، كما نسب الناقة إليه فقال: ناقة الله، والعبد إليه فقال: عبد الله، والرسول إليه، فقال: رسول الله، وهذا مبني على شبهة، وهي إنكار أن يتصف الله بالصفات؛ فراراً من التشبيه والتجسيم، فإنهم قالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم والمخلوق يتكلم لصار في ذلك تشبيه وتجسيم، ففروا من التشبيه والتجسيم فقالوا: إن الكلام مخلوق خارج ذاته. فهذه المذاهب السبعة يقول عنها ابن القيم: هي الدائرة بين الناس، وفضلاء العالم لا يعرفون غيرها، وهي كلها باطلة.

مذهب أهل السنة والجماعة

مذهب أهل السنة والجماعة المذهب الثامن: المذهب الحق: وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو قول الرسل وأتباعهم الذين تلقوا هذا الباب عنهم، وهو أن الله متصف بالكلام، وأن الكلام من صفاته سبحانه وتعالى الذاتية لاتصافه به أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية، فهو سبحانه وتعالى يتكلم إذا شاء بما يشاء كيف يشاء؛ لأن الكلام صفة كمال، فلا يخلو الرب من الكمال في وقت من الأوقات، والكلام متعلق بمشيئته وقدرته سبحانه، وكلام الرب بحرف وصوت يسمع، وهو قديم النوع حادث الآحاد، فنوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وكلام الرب صفة من صفاته، والرب سبحانه بذاته وصفاته بائن من خلقه ليس متحداً بهم وليس حالاً فيهم، وكونه سبحانه وتعالى يتكلم بمشيئته وقدرته هو من لوازم ذاته المقدسة. والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف، وأصوات العباد وحروفهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله عز وجل. فمذهب أهل السنة والجماعة أن كلام الرب من صفاته الذاتية ومن صفاته الفعلية، من صفاته الذاتية لاتصافه به أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته وقدرته، والرب سبحانه لم يزل متكلماً ولا يزال؛ لأن الكلام صفة كمال، فلا يخلو الرب من الكمال في أي وقت من الأوقات، وهو يتكلم إذا شاء بما شاء كيف يشاء، والكلام قديم النوع حادث الآحاد، فنوعه قديم وإن لم يكن الصوت معيناً وقديماً، وهو بحرف وصوت يسمع، والرب سبحانه بائن من الخلق بذاته وصفاته، وكلام الرب ليس متحداً بهم وليس حالاً فيهم، والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف. هذه هي المذاهب في هذه المسألة، وتلك هي البدع في هذه الصفة العظيمة، وكلها باطلة، ومنها بدع كفرية كما ذكرنا، ومنها بدع لا تصل إلى الكفر، والقول الحق والقول الصواب هو قول أهل السنة. وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على بقية البحث. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العمل الصالح الذي يرضيه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله تعالى: (ولله المثل الأعلى)

معنى قوله تعالى: (ولله المثل الأعلى) Q يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فما معنى هذه الآية؟ A أي: الوصف الأحسن هو له سبحانه وتعالى.

حكم سؤال الناس عن مثلهم الأعلى

حكم سؤال الناس عن مثلهم الأعلى Q هل يجوز سؤال بعض الناس عن مثلهم الأعلى؟ وهل في ذلك تطاول على الذات الإلهية؛ لأن بعضهم عندما يسأل عن مثله يقول: مثلي الأعلى هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو والدي، أو غير ذلك؟ A إذا أراد بمثله الأعلى صفته التي يتصف بها وتليق به، فلا بأس بذلك، أما قوله: مثله الرسول أو أبوه، فما أدري ما معناه، فإذا كان مقصوده أن قدوته الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بأس بذلك، وهذا طيب، وأما كون قدوته أباه، فإذا كان أبوه مستقيماً فهو قدوته في الخير، لكن القدوة والأسوة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وأما أبوه فإنه يخطئ ويصيب، فالمثل الأعلى يفسر بقصده، فإن كان قصده أن القدوة والأسوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا حق.

ميزان الحكم على البدعة

ميزان الحكم على البدعة Q أرجو توضيح الفرق بين البدع العملية اللفظية، والبدع الكبيرة والبدع الصغيرة الاجتهادية، حيث إن بعض العلماء يقول في مسألة: هذه بدعة، وبعضهم يقول: هذه سنة؟ A المرجع في هذا الكتاب والسنة، ما خالف الكتاب والسنة وما أحدث مما يخالف الكتاب والسنة فهو بدعة، قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فكل ما خالف الكتاب والسنة وابتدع فهو بدعة، هذا هو الضابط، فالمرجع في هذا والميزان هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما أقوال الناس فإنها توزن بالكتاب والسنة.

حكم الدعاء والحلف والاستعاذة بصفات الله

حكم الدعاء والحلف والاستعاذة بصفات الله Q ما رأيكم في الدعاء بصفات الله والحلف والاستعاذة بصفات الله، كقولنا: بيد الله إن لم تفعل كذا فعلت بك كذا وكذا، وهكذا في جميع صفات الله؛ إذا قد ذكر البخاري باباً في كتاب الإيمان سماه باب الحلف والاستعاذة بصفات الله، وهل يدخل في ذلك أفعال الله؛ لأنها من صفاته؟ A أما الاستعاذة فقد ورد فيها: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات)، وورد: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، فلا بأس، وكذلك القسم قال الله تعالى عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وفي الصحيحين في قصة الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجاً وآخر أهل الجنة دخولاً أنه قال: (وعزتك لا أسألك غيرها)، فالقسم والحلف بالعزة -وكذلك الاستعاذة- لا بأس به. أما سؤال الصفة، كأن يقول: يا رحمة الله! ارحميني، فهذا ممنوع، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا من الكفر، أي: نداء الصفة، مثل: يا رحمة الله! ارحميني، يا رضا الله إلى آخره، فهذا السؤال ممنوع. والدعاء عبادة، والعبادة توقيفية، فلا يتعبد الإنسان إلا بما ورد به الشرع، ولم يرد سؤال الصفة وحدها، كقول: يا رحمة الله! ارحميني، ما ورد، فلا يتعبد الإنسان إلا بما ورد به الشرع.

موقف الاتحادية من القرآن الكريم

موقف الاتحادية من القرآن الكريم Q كيف يفسر أصحاب وحدة الوجود قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]؟ A أصحاب وحدة الوجود -والعياذ بالله- من أعظم الناس كفراً، وكفر كل كافر جزء من كفرهم، وهم لا يعتبرون القرآن، ولهذا لما قيل لبعض الصوفية الملاحدة: إن القرآن يخالف ما قلتم، قالوا: القرآن كله من أوله إلى آخره شرك، والحق ما نقوله! وهم يفسرون القرآن برموز، فـ ابن عربي له رموز معروفة في القرآن، فهؤلاء لا يأخذون بالقرآن ولا يعتبرون القرآن شيئاً حتى يسألوا عنه، ولهم رموز وأشياء خاصة يفسرون بها القرآن.

اختلاف التنوع واختلاف التضاد في العقيدة

اختلاف التنوع واختلاف التضاد في العقيدة Q ما هو اختلاف التنوع واختلاف التضاد في العقيدة؟ A اختلاف التنوع هو الذي تكون الألفاظ فيه مختلفة والمعنى واحد. واختلاف التضاد: هو الذي يكون فيه القول مخالفاً للقول ومنافياً له، كأن يثبت هذا وينفي هذا. ولا مثال لاختلاف التنوع في باب العقيدة، واختلاف التضاد في العقيدة معروف، مثل ما سبق في مبحث الكلام، فإن الأقوال في كلام الرب مختلفة متضادة. أما اختلاف التنوع فيكون في التفسير، مثل تفسير معنى صفة الاستواء، فقد فسره العلماء بأنه الاستقرار والصعود، فقالوا: (استوى) بمعنى: استقر وعلا وارتفع وصعد، وهذا من اختلاف التنوع، وكلها ألفاظ معناها واحد، ولهذا فسر العلماء الاستواء بهذه المعاني الأربعة: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، فإذا قيل لهذا: اختلاف تنوع، فلا بأس.

الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة

الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة Q ما هو الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة مع التمثيل لكل نوع؟ A دعاء العبادة هو العبادات التي يتعبد بها المسلم لربه، مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبر الوالدين، وصلة الرحم، فكل هذا يسمى دعاء عبادة، وسمي دعاء عبادة لأن الإنسان يتعبد به طالباً الثواب من الله، فهو سائل في المعنى. أما دعاء المسألة فهو مثل قول الإنسان: رب اغفر لي، رب ارحمني، اللهم اغفر لي ولوالدي، اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، هذا دعاء المسألة. أما دعاء العبادة فهو العبادات التي تعبد الله بها، فإذا صمت فقد دعوت الله دعاء عبادة؛ لأنك صائم لله وأنت تدعو الله في المعنى، فإنك ترجو الثواب من الله، والحج دعاء عبادة؛ لأن الحاج يطلب الثواب من الله، فهو سائل في المعنى، بخلاف دعاء المسألة، فحينما يقول العبد: رب اغفر لي، رب ارحمني، اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فهو سائلً باللفظ، فهذا دعاء المسألة، وذاك دعاء عبادة.

حكم نسبة نزول المطر إلى الكواكب

حكم نسبة نزول المطر إلى الكواكب Q لما تحدثتم عن الشرك الأصغر قلتم: إذا اعتقد أن من عادة الكوكب الفلاني -مثلاً- نزول المطر فيه، أو أن نزول المطر كان بسبب الكوكب الفلاني فذلك شرك أصغر، فإذا قال المكلف: إن من عادة الكوكب الفلاني نزول المطر فيه بإذن الله، فهل هذه العبارة فيها محذور؟ وما تعليقكم على ما يذكر في التقويم الهجري عن بروج السنة وأحوالها، فهل هذا من الشرك الأصغر والتكهن بالغيب؟ A إذا قال الإنسان: من عادة الكوكب نزول المطر؛ فالكوكب ليس له عادة، وهو خلق من الخلق ليس له من الأمر شيء، فهذا من الشرك الأصغر، وأما الطوالع التي تذكر في التقويم فليس فيها شيء، وإنما هي من باب بيان دخول السنة، وبيان ما يحصل في هذه الأوقات مما أجراه الله من المطر ونحوه من أحوال الجو، كالحرارة والبرودة والرطوبة، وأوقات البذر، وأوقات الزرع، وليس فيه نسبة، وليس فيه نسبة ذلك للكوكب ولا لعادة الكوكب، أما إذا قال من عادة الكوكب، فالكوكب ليس له عادة وليس له من الأمر شيء.

الطريقة المثلى لتثبيت المعلومات

الطريقة المثلى لتثبيت المعلومات Q ما هي الطريقة المثلى لمراجعة ما يؤخذ في الدورات العلمية؟ وكيف يمكن تثبيت المعلومات التي تؤخذ، إذ إن بعض الدورات تكون مدتها قليلة والمتون فيها كثيرة، فكيف يستطيع الإنسان أن يراجع ما أخذه؟ A طالب العلم ينبغي له أن يستمر في طلب العلم، ولا يمل ولا يسأم، فلابد من قراءة ما كتبه العلماء، ولاسيما ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كالعقيدة الواسطية، والتدمرية، والحموية، ومجموع الفتاوى، وكذلك الطحاوية وشرحها، وتوحيد ابن خزيمة وغيرها، فلا بد من مراجعة كتب أهل العلم، ولا بد من الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عما أشكل والبحث معهم، ولا بد من الصبر والاستمرار.

حكم التصريح باسم الله في النذر

حكم التصريح باسم الله في النذر Q هل يلزم في النذر التصريح باسم الله سبحانه، بمعنى أنه إذا قال: إن نجحت صليت ليلة كاملة، ولم يصرح باسم الله، يلزمه نذر؟ A نعم هو نذر؛ لأن المعروف في شأن المسلم أنه يصلي لله وينذر لله، هذا المعروف، ولكن إذا كان وثنياً ينذر للإصنام فهذا يلحق بعادته، وإذا كانت عادته أن ينذر للأصنام وينذر للقبور، فإن نذره يكون لها، أما إذا كان مسلماً معروفاً عنه أنه موحد لا ينذر إلا لله فنذره لله، فالعبرة بالقصد والنية والحال.

[17]

دروس في العقيدة [17] كلام الله تعالى صفة من صفاته التي يجب على المسلم أن يثبتها لربه كما أثبتها تعالى لنفسه من غير تحريف ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وقد أفرزت الحيدة عن هذا المنهج النبوي السلفي أقوالاً ضالة فيما يعتقد في صفة كلام الله تعالى يصل بعضها إلى الكفر، ومن جملة تلك الأقوال ما يعتقده المعتزلة والأشاعرة وهم منتشرون إلى اليوم.

أقسام البدع وخطرها

أقسام البدع وخطرها بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد ذكرنا أن المعاصي والبدع تنقص كمال التوحيد وتضعف الإيمان، وذكرنا أن المعاصي الصغائر تكفَّر بأداء الفرائض واجتناب الكبائر، وأما الكبائر التي تُوعِّد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، أو كان فيها حد في الدنيا، أو نفي عن صاحبها الإيمان؛ فإنه لا بد لها من توبة، فإن مات صاحبها عليها فهو تحت مشيئة الله. وتنقسم البدع إلى قسمين: القسم الأول: بدع توصل صاحبها إلى الكفر، وهذه حكمها حكم الكفر، وقد سبق الكلام على الكفر وأنواعه. القسم الثاني: بدع لا توصل إلى الكفر، وهذه كالكبائر بل هي أشد من الكبائر، وأحب إلى الشيطان من المعاصي والكبائر، لأن صاحب الكبيرة معترف بالخطأ، فحري به أن يوفق للتوبة، بخلاف صاحب البدعة فإنه غير معترف بالخطأ، ولذلك فإن صاحب البدعة لا يتوب في الغالب إلا من وفقه الله، والبدع كثيرة، وهي موجودة في الأذكار، وفي الصلوات، وفي الصيام، وفي الحج، لكن أشد البدع وأعظمها البدع التي ابتدعت في أسماء الله تعالى وصفاته، والبدع التي ابتدعت في كلام الرب سبحانه وتعالى، وفي علوه، وقد ذكرنا أشهر البدع التي قيلت في كلام الرب سبحانه وتعالى، وذكرنا أنها سبعة أقوال كلها مبتدعة، وأن بعضها يوصل إلى الكفر -والعياذ بالله- وبعضها دون ذلك.

ذكر ما قيل في صفة كلام الله تعالى

ذكر ما قيل في صفة كلام الله تعالى إن أعظم بدعة قيلت في كلام الله هي بدعة الاتحادية الذين يقولون: كل كلام يسمع في الوجود هو كلام الله، سواء أكان حقاً أم باطلاً، شعراً أم نثراً، ولهذا يقول ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فقوله: (وكل كلام في الوجود كلامه). يعني: كلام الرب، وهذا مبني على مذهبهم في القول بوحدة الوجود، نسأل الله السلامة والعافية. والبدعة الثانية: البدعة التي قالها الفلاسفة المتأخرون كـ ابن سينا والفارابي تبعاً لمعلمهم الأول أرسطو، وتبعهم على ذلك بعض من المتصوفة، وهي أن الكلام معنىً يفيض من العقل الفعّال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتحقيقات بحسب ما يفيض إليها، وهذا مبني على مذهبهم في القول بقدم العالم، وهذا قول كفري أيضاً. البدعة الثالثة: بدعة السالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي، وهي أن الكلام -وإن كان ألفاظاً ومعاني وحروفاً وأصواتاً- لا يتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذه بدعة، وقول خطأ، فالرب لم يزل ولا يزال يتكلم، وسبق الكلام على شبهتهم، وأنهم بنو مذهبهم على القول بأن الكلام لا بد من أن يقوم بالمتكلم. البدعة الرابعة: بدعة الكرَّامية، فهم يقولون: إن الكلام حادث في ذات الرب، كائن بعد أن لم يكن، وهذا كلام باطل، ويقولون أيضاً: إنه ألفاظ ومعان وحروف وأصوات تتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذا كلام حق، ولكن قالوا: إنه كلام حادث في ذاته، فهو حادث النوع كائن بعد أن لم يكن، وقالوا: إن الرب لم يكن متكلماً، بل كان الكلام يمتنع عليه، ثم انقلب فجأة فصار الكلام ممكناً له، فنعوذ بالله. وشبهتهم في هذا أنهم يقولون: لو قلنا: إن الرب يتكلم لكان يخلق بالكلام، فتتسلسل الموجودات والحوادث، وإذا تسلسلت الموجودات والحوادث في الماضي انسد علينا طريق الفهم الصحيح، فلا نستطيع أن نثبت وجود الله، وهذا باطل لأمور. أولاً: أن الله سبحانه هو الأول فليس قبله شيء. ثانياً: أن كل فرد من أفراد هذه الموجودات والمخلوقات مسبوق بالعدم، وهو كائن بعد أن لم يكن. ثالثاً: أن هذا فيه تنقص لله تعالى، ووصف له بالعجز عن الكلام، ومعلوم أن الكلام صفة كمال فكيف يخلو الله عنها في وقت من الأوقات؟! والرب هو الخلاق، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:86]، وقال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، فالقول بأن هناك فترة لا يتكلم فيها الرب ولا يخلق ولا يفعل فيه تنقص للرب سبحانه، وهو قول مبتدع ليس عليه دليل، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل الكلام والبدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، فقالوا: إن هناك فترة لم يتكلم فيها الرب، ولم يخلق ولم يفعل، فلا تتسلسل الحوادث في الماضي، ولكنها تتسلسل في المستقبل. وللناس في سلسل الحوادث أقوال: القول الأول -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، فالرب لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يريد في المستقبل، فلا يزال يحدث لأهل الجنة نعيماً بعد نعيم إلى ما لا نهاية، ويحدث لأهل النار عذاباً بعد عذاب إلى ما لا نهاية، وكذلك في الماضي لم يزل الرب يخلق ويفعل، فأهل السنة والجماعة يقولون بتسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل. القول الثاني: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي لكنها متسلسلة في المستقبل، وهذا قول كثير من أهل الكلام وأهل البدع. القول الثالث: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا أفسد الأقوال، وهو قول الجهم بن صفوان، فيقول: إن الحوادث لا تتسلسل في الماضي ولا في المستقبل؛ لأن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة، فينتهي الخلق، وهذا من أفسد الأقوال. وقد أنكر أهل السنة على الجهم هذا القول وبدعوه وضللوه من أجله. وأما القول بأن الحوادث متسلسلة في الماضي دون المستقبل فهذه صورة عقلية لم يقل بها أحد. فتكون الصور العقلية في التسلسل أربع: ثلاث صور قيل بها، وصورة لم يقل بها أحد، وهذه الصور هي: الأولى: أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، وهذا قول أهل السنة. الثانية: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهمية. الثالثة: أن الحوادث متسلسلة في المستقبل دون الماضي، وهذا قول أهل الكلام. الرابعة: أن الحوادث متسلسلة في الماضي لا في المستقبل، وهذه لم يقل بها أحد. فإن قيل: هل يتصور العقل أكثر من هذه الصور الأربع؟ ف A أنه لا يتصور أكثر من ذلك. والمقصود أن الكرامية يقولون: إن الرب معطل عن الكلام والفعل فترة، وهذا قول باطل؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذه الفترة، ولأن هذا تنقص للرب، فالرب خلاق وفعال، ولا يصح أن يكون في وقت من الأوقات معطلاً، عن ذلك. وأما قولهم: إن هذا يسد علينا طريق إثبات الخالق، فهو باطل؛ لأن الله هو الأول فليس قبله شيء، وهذه المخلوقات كلها حادثة وكائنة بعد أن لم تكن، فكل فرد من أفرادها كائن بعد أن لم يكن. البدعة الخامسة: بدعة الكلابية، وهي القول بأن الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن الحروف والأصوات حكاية له دالة عليه. والبدعة السادسة: بدعة الأشاعرة، وهي القول بأن الكلام معنىً واحد لا يتجزأ ولا يتعدد. أما الكلابية فيقولون: الكلام أربعة أنواع في نفسه: أمر ونهي وخبر واستفهام. البدعة السابعة: بدعة الجهمية والمعتزلة، وهي القول بأن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات متعلقة بقدرته ومشيئته، إلا أنه مخلوق خارج عنه. القول الثامن -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة الذين تلقوا مقالتهم عن الرسل، وهو أن الكلام صفة ذاتية وفعلية، أي أن الكلام من صفات الرب الذاتية لاتصافه بها أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية لكونه واقعاً بقدرته ومشيئته، فهو قديم النوع حادث الآحاد، وكلام الرب صفة من صفاته، فالرب ليس حالاً في خلقه تعالى الله عن ذلك، بل هو مباين لخلقه بذاته وصفاته، فكلامه يتعلق بقدرته ومشيئته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، فليس كلام الله الحروف فقط دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف. فهذه هي الأقوال المشهورة في كلام الرب تعالى، وهناك أقوال أخرى غيرها.

أصل الخلاف في صفة كلام الله تعالى

أصل الخلاف في صفة كلام الله تعالى إذا نظرت إلى هذه الأقوال وجدتها تدور على أصلين لا تخرج عنهما، الأصل الأول: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، أم أنه بغير مشيئته وقدرته؟ الأصل الثاني: هل كلام الرب قائم بذاته وهو متصف به، أم أنه خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟ فأما الأصل الأول -وهو: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته أم بغير مشيئته وقدرته- فقد قال فيه بعضهم: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف: فقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وإنما هو معانٍ تفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتفسيرات بحسب ما قبلت منه، وهذا قول الفلاسفة. وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهذا قول السالمية. وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً قائم بالنفس جامع لأربعة معانٍ هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهذا قول الكلابية. وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، والحروف والأصوات عبارة دالة عليه، وهذا قول الأشاعرة. وقال بعضهم: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف: فطائفة قالت: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم حقه وباطله، وصدقه وكذبه، وهم الاتحادية. وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، لكنه خلق الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة. وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية. وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، فهو يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهم أهل السنة والجماعة. فصارت هذه الأقوال كلها داخلة في الأصل وهو: هل يتكلم الله بمشيئته وقدرته أم لا؟ وأما الأصل الثاني وهو: هل كلام الرب قائم بذاته متصف به، أم هو خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟ فالجواب فيه: أن الناس اختلفوا في هذا الأصل، فقال بعضهم: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهم ثلاث طوائف: فطائفة قالت: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو معنى يفيض منه على نفس فاضلة شريفة تتكلم به، وهم الفلاسفة. وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، حقه وباطله صدقه وكذبه، وهم الاتحادية. وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، ولكنه خلق هذه الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة. وقال بعضهم: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهم خمس طوائف: فقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهم السالمية. وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى جامع لأربعة معان في نفسه هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية. وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشعرية. وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية. وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة. فصارت هذه الأقوال كلها ترجع إلى هذين الأصلين.

ذكر ما قيل في الصوت

ذكر ما قيل في الصوت الذين أثبتوا الصوت في كلام الله خمس طوائف: فقالت طائفة: إن كلام الرب بصوت لم يزل ولا يزال، وهم السالمية. وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، وهم الاتحادية. وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو مخلوق خارج ذاته، وهم الجهمية والمعتزلة. وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت حادث في ذاته، وهم الكرامية. وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة. فالذين أثبتوا الصوت لكلام الله هم السالمية والجهمية والمعتزلة والكرامية والاتحادية وأهل السنة. والذين لم يثبتوا الصوت لكلام الله ثلاث طوائف: فقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى يفيض على النفس الشريفة التي تتكلم به، وهم الفلاسفة. وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى جامع لأربعة معان في نفسه: وهي الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية. وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت, بل هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشاعرة. والصواب الذي تدل عليه النصوص أن كلام الرب بحرف وصوت قائم بذاته. فإن قيل: هل الصوت المسموع من كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: فيه تفصيل: فإن أريد به المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق، وإن أريد به المسموع عن المبلِّغ ففيه تفصيل: فإن أريد به الصوت الذي روي به كلام الله فهو مخلوق، وإن أريد به الكلام المؤدى بالصوت فهو كلام الله.

ذكر ما قيل في اللفظ والمعنى في كلام الله تعالى

ذكر ما قيل في اللفظ والمعنى في كلام الله تعالى هل يسمى الكلام حقيقة في اللفظ أو حقيقة في المعنى؟ اختلف الناس في ذلك على أقوال، فقيل: إن الكلام حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وهذا قول الأشاعرة. وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى، وهذا قول المعتزلة. وقيل: إن الكلام حقيقة في كل من اللفظ والمعنى، فإطلاقه على المعنى وحده يعد حقيقة، وإطلاقه على اللفظ وحده يعد كذلك حقيقة، وهذا قول أبي المعالي الجويني. وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ والمعنى على سبيل الجمع، فإطلاقه على أحدهما إطلاق على جزء المسمى، وإطلاقه عليهما جميعاً بدلالته على اللفظ والمعنى بالمطابقة، ودلالته على اللفظ وحده أو على المعنى وحده بالتضمن، وهذا هو الذي عليه أكثر العقلاء، فكما أن مسمى الإنسان هو اسم لروحه وجسده جميعاً، فكذلك مسمى الكلام هو اسم للفظ والمعنى جميعاً. ولا يخفى على مسلم أن قول الاتحادية قول باطل كفري لا إشكال فيه، وكذلك قول الفلاسفة قول باطل كفري، وكذلك قول السالمية قول باطل أيضاً لا يخفى على أحد، وكذلك قول الكرامية والكلابية، وبعضهم يرى أنه لا فرق بين مذهب الكلابية والأشاعرة. فقال بعض الكلابية: لا فرق بين المذهبين؛ لأن كلاً من المذهبين قد اتفقا على أن كلام الرب معنى قائم بذاته، وأن الحروف والأصوات ليست من كلام الله، أما القول بأن الحروف والأصوات حكاية أو عبارة فهذا لا يتعلق به غرض علمي، ولهذا يرى بعضهم أن المذهب واحد.

بيان المنتشر اليوم من العقائد في صفة الكلام

بيان المنتشر اليوم من العقائد في صفة الكلام الأقوال المنتشرة الآن والسائدة في الكتب والمؤلفات هي أقوال هذه الطوائف الثلاث: قول الأشاعرة وقول المعتزلة الذي هو قول الجهمية فتحول إليهم، وقول أهل السنة والجماعة، فهذه هي الأقوال الثلاثة المنتشرة، وأما الأقوال الأخرى فبطلانها وفسادها واضح، وقول الأشاعرة منتشر الآن في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (مفاتيح الغيب) للرازي، فقد نشر هذا المذهب ودعا إليه، وقول المعتزلة موجود في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (الكشاف) للزمخشري، فقد نشر مذهب الاعتزال في تفسيره. أما قول أهل السنة والجماعة فهو القول الحق. إذاً: فلا بد للمسلم ولطالب العلم على وجه الخصوص من أن يعرف حقيقة هذه المذاهب الثلاثة، وأن يعرف القول الحق الذي تقتضيه النصوص الشرعية. وتشهد له العقول والفطر، وهو قول أهل السنة والجماعة. ولا بد من أن يعرف شبه المعتزلة، وشبه الأشاعرة؛ لأن لهم شبهاً يلبسون بها على الناس، والأشاعرة قد يسمون أنفسهم بأهل السنة، والمعتزلة أيضاً يرون أنهم على الحق. ونريد أولاً أن نقرر حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة الذين تلقوا هذا الباب عن الرسل، فحقيقة مذهب أهل السنة والجماعة أن كلام الله محفوظ في الصدور ومقروء بالألسن ومكتوب في المصاحف، وهو حقيقة في هذه المواضع كلها، فإذا قيل: في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: في المصحف مداد كتب به فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قولك: في المصحف السماوات والأرض وموسى وعيسى، وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قولك: فيه كلام الله، ومن لم يتنبه لهذه الفروق ضل ولم يهتد للصواب. وكذلك لا بد من التنبه للفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ وبين المقروء الذي هو كلام الباري سبحانه وتعالى، فمن لم يتنبه ضل ولم يهتد للصواب.

استدلال الإمام البخاري على إثبات صفة الكلام لله تعالى

استدلال الإمام البخاري على إثبات صفة الكلام لله تعالى لقد استدل الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) بنصوص التبليغ على خلق أفعال العباد، وأن التلاوة من أفعالهم، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهذا يدل على رسوخ الإمام البخاري في العلم. والتبليغ يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ: أحدهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه، إذ لو كان أنشأ كلاماً لم يكن مبلغاً وإنما سيكون منشئاً مبتدئاً. والأصل الثاني: أن التبليغ فعل المبلغ، وتبليغه هو تلاوته للصوت نفسه، وحقيقة التبليغ أن يورد إلى الموصل إليه ما حمله إياه غيره، فله مجرد إيصاله. وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) فقال: باب قراءة الفاجر والمنافق وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم، فأراد من هذا أن تلاوتهم من أفعالهم وهي مضافة إليهم. وحقيقة كلام الله الخارجية أنه: ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع وعلمه وحفظه فكلام الله له مسموع معلوم محفوظ، وإذا قرأه القارئ فكلام الله له مقروء متلو، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، لا يصح نفيه، ولو كان مجازاً لصح نفيه، كأن يقال: ما قرأ القارئ كلام الله ولا كتب الكاتب كلام الله، وهذا قول باطل.

أنواع الحقائق في الوجود

أنواع الحقائق في الوجود الحقائق لها وجود لفظي، ووجود عيني، ووجود ذهني، ووجود رسمي، فالحقائق تعلم ثم تذكر ثم ترسم، فلها أربعة أنواع من الوجودات: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الرسم. فالوجود في الأعيان: كالسماء تراها عيناً قائمة، فهذا وجود عين. والوجود في الأذهان: بأن تتصورها في ذهنك. والوجود في اللفظ: حينما تقول: السماء. والوجود في الرسم: حينما تكتب: (السماء). فهذه أنواع الوجود الأربعة. وقد تتداخل أحيانا هذه الأنواع من الوجود ويعسر التمييز بينها، وليس بين وجودها في الرسم ووجودها في الكلام واسطة؛ لأن مرتبة الكلام تليها مرتبة الرسم، فوجود الكلام العيني واللفظي يتساوى ويعسر التمييز بينهما، والفرق بين كون كلام الله في زبر الأولين، أو في رق منشور، أو في لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون واضح، فإن معنى قوله سبحانه عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، يعني: ذكره، فذكر القرآن والإخبار عنه ووصفه موجود في زبر الأولين، أي: في كتبهم؛ لأن القرآن لم ينزل على الأولين كموسى وعيسى، وإنما نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78]، وقوله: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22]، وقوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3]، فيعني أنه مكتوب في رق منشور وفي لوح محفوظ. فهذه الأنواع من الوجود لا بد لطالب العلم من أن يعلمها جيداً، وأن يعلم أن كلام الله موجود في المصاحف حقيقة، وهو في الصدور حقيقة، ويقرؤه القارئ حقيقة، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة والجماعة- في كتابه الذي سماه (الفقه الأكبر) وما يتعلق بأصول الدين، قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق. وما ذكر الله تعالى في القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام وعن فرعون وعن إبليس فذلك كلام الله أخبرنا به، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، وكلام الله ليس ككلامنا، وسمع موسى عليه الصلاة والسلام كلام الله، فلما كلمه كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ولم يزل به قائماً، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، فهو يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو كلام عظيم.

أدلة أهل السنة على إثبات صفة الكلام لله عز وجل

أدلة أهل السنة على إثبات صفة الكلام لله عز وجل

ذكر القول والتكليم

ذكر القول والتكليم من أدلة أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه وتعالى يتكلم حقيقة، وأن الكلام بحروف وأصوات وألفاظ ومعان: قوله سبحانه: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وقوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه رحمه الله في سننه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فنادى: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا كذلك حتى يتوارى عنهم وتبقى بركته ونوره). وهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- له شواهد تقويه، ففيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات صفة العلو؛ لأنهم يرفعون رءوسهم والله يكلمهم من فوقهم، وفيه إثبات صفة الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم، وصفة الرؤية والكلام والعلو من أعظم الصفات، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع. وهذه من الصفات الفارقة بين أهل السنة وغيرهم، وأعظم نعيم يلقاه أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى وسماعهم لكلامه. وإنكار الكلام إنكار لأعلى نعيم يعطاه أهل الجنة الذين ما طابت لهم الجنة إلا بذلك. وأهل البدع -والعياذ بالله- أنكروا كلام الله وعلوه وأنه يُرى في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

الإخبار بأن الله لا يكلم أعداءه يوم القيامة

الإخبار بأن الله لا يكلم أعداءه يوم القيامة ومن الأدلة على إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى مما فيه الرد على أهل البدع: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، ووجه الدلالة أن الله أهانهم بترك تكليمهم، وأنه لا يكلمهم كلام تكريم؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يكلمهم كلام غضب فقال: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فدل على أنه يكلم عباده المؤمنين في الرضا، ولو كان لا يكلم عباده المؤمنين لتساووا مع وأعدائه في عدم الكلام، ولم يكن في الإخبار بأنه لا يكلم أعداءه فائدة، فلما أخبر أنه لا يكلم أعداءه دل على أنه يكلم أولياءه في الرضا.

الاستعاذة بكلمات الله تعالى

الاستعاذة بكلمات الله تعالى ومن الأدلة على إثبات الكلام للرب سبحانه وتعالى: ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ بهذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) ولو كان كلام الله مخلوقاً لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بالمخلوق، فدل على أن كلام الله منزل غير مخلوق، وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) بقوله: (باب كلام الرب سبحانه وتعالى مع أهل الجنة وغيرهم)، وذكر في ذلك عدة نصوص.

ثبوت وصف الكمال في الكلام

ثبوت وصف الكمال في الكلام ومن الأدلة العقلية على أن الله يتكلم: أن الوصف بالتكلم كمال وضد التكلم نقص؛ كما قال تعالى عن العجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، وقال سبحانه في الآية الأخرى: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) يعني العجل {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]، فدل على أن نفي رد القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم إلهية العجل، فالله تعالى بين أن هذا العجل لا يتكلم ولا يرد القول ولا يسمع ولا يملك ضراً ولا نفعاً فكيف يعبد من دون الله؟! وكيف تعبدون عجلاً لا يسمع ولا يرد القول ولا يتكلم؟! فدل على أن عدم التكلم نقص يستدل به على عدم إلهية العجل. وبنو إسرائيل الذين عبدوا العجل -مع كفرهم- هم أعرف بالله من المعتزلة في هذه المسألة؛ لأنهم لم يردوا على موسى ويقولوا: وربك لا يتكلم أيضاً، فهذا يدل على أنهم يثبتون الكلام، أما المعتزلة فقالوا: إن الله لا يتكلم، فنعوذ بالله؛ فالذين عبدوا العجل في هذه المسألة صاروا أحسن من المعتزلة.

الأدلة على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد

الأدلة على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد من أدلة أهل السنة والجماعة على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأن الله يتكلم بكلام حادث، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء، وفيه رد على الأشاعرة وعلى الكلابية والسالمية الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بقدرته ومشيئته، من أدلتهم قول الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال سبحانه في الآية الأخرى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5]، فقوله: (محدث) صريح في حدوث آحاد كلام الله، فآحاد الكلام حادثة، ومعنى (محدث) جديد، ولا يلزم من ذلك حلول الحوادث في ذات الرب كما توهمته السالمية أو الكلابية والأشاعرة؛ لأن كلام الرب ليس ككلام المخلوق الذي يلزم منه الحوادث، فإذا تكلم المخلوق لزم أن تحل الحوادث في ذاته، أما الرب فلا يلزم منه ذلك؛ لأن كلام الرب لا يشبه كلام المخلوق. ومن الأدلة قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، فهذه المرأة المجادلة هي خولة بنت ثعلبة، لما ظاهر منها زوجها جاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن لي صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فقد ظاهر مني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أراك إلا قد حرمت عليه، فجعلت تجادل الرسول وتراجعه، وقالت: أشكوا إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فنزل القرآن والوحي بقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]، قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات؛ إني قريبة من المجادلة ويخفى علي شيء من كلامها. وهي تجادل النبي صلى الله عليه وسلم، والله سمع كلامها من فوق سبع سماوات وأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1])، والتعبير عن سماع كلام المرأة التي تجادل بـ (سمع) يدل على أن المجادلة سبقت نزول الآية، ويدل على سبق المجادلة للخبر، فالمُجَادِلة جادلت النبي صلى الله عليه وسلم ثم تكلم الله فأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1]، وهذا يدل على أن كلام الله حادث بعد أن جاءت المجادِلة تتكلم، ولا يصح أن يقال: إن الله لم يزل يقول ويتكلم في الأزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1]؛ لأن المجادلة ما خلقت بعد، فلما خُلقت المجادلة وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية. ومثله قول الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121]، والغدو: هو الخروج أول النهار، فالتعبير بالغدو هو إخبار عن خروج النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار بلفظ الماضي، فيدل على سبق الغدو للخبر، وأن غدو النبي صلى الله عليه وسلم كان أولاً ثم نزلت الآية: ((وَإِذْ غَدَوْتَ))، ولا يصح أن يقال: إن الله لم يزل يقول في الأزل: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ))؛ لأن الغدو والخروج لم يخلقا بعد، فلما خلق الخروج والغدو أنزل الله هذه الآية: ((وَإِذْ غَدَوْتَ)). ومثله قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]، فقوله: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) حدث بعد خلق آدم، وبعد أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، فلما خلق الله آدم أمر الله الملائكة فسجدوا له إلا إبليس، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} [الأعراف:11]. وهذا يدل على أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، فنوع كلام الله قديم، وأما أفراده فهي حادثة، فهو يتكلم سبحانه وتعالى إذا شاء، ومتى شاء، يتكلم بمشيئته وقدرته، وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.

أدلة المعتزلة وشبههم في القول بخلق الكلام

أدلة المعتزلة وشبههم في القول بخلق الكلام

شبهة استلزام إثبات الكلام التشبيه والتجسيم والرد عليها

شبهة استلزام إثبات الكلام التشبيه والتجسيم والرد عليها أما المعتزلة الذين تحول إليهم مذهب الجهمية فيقولون: إن الكلام مخلوق، وإن الرب لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة بنفسه، بل إن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات تتعلق بقدرته ومشيئته، لكن الله خلق هذا الكلام خارجاً عن ذاته، بأن خلقه في الهواء أو في الجسم ثم نسبه وأضافه إليه تشريفاً وتكريماً. ولهم في هذا شبه عقلية وشبه شرعية، فمن شبههم العقلية أنهم يقولون: لو قلنا: إن الله يتكلم وإن الكلام صفة قائمة بذاته للزم من ذلك التشبيه بالمخلوقات والتجسيم، فيكون الله مشابهاً للمخلوقات التي تتكلم، والله ليس كمثله شيء، وللزم من ذلك أن يكون جسماً كسائر الأجسام، والله ليس بجسم ولا مماثل للمخلوقات، فقالوا فراراً من ذلك: إن الله لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة بذاته، وإنما يتكلم بكلام خارج عنه. وأجاب أهل السنة عن هذه الشبهة بقولهم: إن الله يتكلم بكلام لا نعلم صفته ولا يشبه كلام المخلوقين، فلا يظن من ذلك التشبيه والتجسيم كما تقولون، بل إن الله يتكلم بكلام يليق بجلاله وعظمته لا يشبه كلام المخلوق، فالمخلوق له كلام يخصه والخالق له كلام يخصه، وبذلك تزول هذه الشبهة وتنتهي. ثم نقول أيضاً: إننا نرى بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، والله تعالى أخبر أن الجلود تنطق يوم القيامة وتتكلم، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21]، فالجلد يتكلم بكلام لا نعرف كيفيته، وأخبر الصحابة أن الأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وقال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، فكيف تتكلم الأيدي والأرجل والجلود؟ وهل لها لسان وأضراس؟ وهل لها شفة عليا وشفة سفلى؟! فكيف تتكلم؟! لا نعلم كيف تتكلم. وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعلم حجراً يسلم علي)، وهذا من الكرامات، وثبت أيضاً أن الطعام سبح بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحصى، وثبت أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم صاح كما يصيح الصبي وكاد أن ينشق لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وتركه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يهدئه رويداً رويداً حتى سكت كالطفل الذي يُهدَّأ. فإذا كان هناك بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، وكل ذلك بلا صوت ولا حروف ولا أضراس ولا شفه عليا ولا شفه سفلى، وليس الكلام معتمداً على مقاطع الحروف؛ فالله تعالى أولى بأن يتكلم ولا نعلم كيفية كلامه. وبهذا تبطل هذه الشبهة، وهي قولهم: إن الله إذا تكلم أشبه كلامه كلام المخلوقين. وهم يقولون: إن الكلام مخلوق، فقال بعضهم: في محل، وقال بعضهم: مخلوق لا في محل، فنقول للذين قالوا: إنه مخلوق لا في محل: محال أن تقوم الصفة بنفسها! فهل رأيت علماً يقوم بنفسه، أو كلاماً يقوم بنفسه؟! فهذا محال، ولا بد من أن تقوم الصفة بالموصوف. ونقول للذين قالوا: إنه يتكلم في محل: محال أن تقوم الصفة بغير الموصوف، فكيف يتكلم الله تعالى بكلام يقوم بغيره ويكون صفة له؟! لا يمكن ذلك، فمحال أن تقوم الصفة بغير الموصوف، ولو جاز أن ينسب إليه الكلام وهو لم يقم به لجاز أن ينسب إلى الله وأن يضاف إليه ما في المخلوقات من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر، ولجاز أن تنسب هذه كلها إلى الله، وهذا باطل، ولو كان الكلام منسوباً إلى الله وهو في غيره لجاز أن ينسب إلى الله أيضاً ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وما خلقه من الكلام في الحيوانات، بل لجاز أن ينسب كل كلام إلى الله، كما قال بذلك الاتحادية، وهذا باطل. ولو كان كلام الله قائماً بغيره وينسب إليه لجاز أن يقال: إن كلام فرعون حينما قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] حق وصدق؛ لأنه كلام الله قام بفرعون، وهذا من أبطل الباطل.

شبهة إضافة التشريف والرد عليها

شبهة إضافة التشريف والرد عليها من شبه المعتزلة أنهم يقولون: إن كلام الله مخلوق لكنه أضيف إلى الله إضافة تشريف وتكريم، كما أضيفت الناقة إلى الله، فقيل: ناقة الله، وكما أضيف البيت الحرام (الكعبة) إلى الله، فقيل: بيت الله، وكما أضيف العبد إلى الله، فقيل: عبد الله، وكما أضيف الرسول إلى الله، فقيل: رسول الله، وكما أضيف عيسى إلى الله، فقيل: روح الله، فهذه إضافة تشريف وتكريم. ويجاب عن هذه الشبهة بأن هذا تلبيس من الجهمية والمعتزلة فإن الإضافة نوعان: النوع الأول: إضافة أعيان قائمة بنفسها، كالعبد والرسول والناقة، فهذه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ لأنها عين قائمة بنفسها، وتقتضي هذه الإضافة التشريف والتكريم، لما امتاز به ذلك المضاف من الصفات. النوع الثاني: إضافة معان وصفات لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من شيء تقوم به، فهذه إضافة الصفة إلى موصوفها، وتقتضي هذه الإضافة قيام هذه المعاني بالمضاف إليه واختصاصه بها، وهذا فرق بدهي. فهذه شبه المعتزلة العقلية، وهي موجودة الآن ومنتشرة في الكتب والمؤلفات.

الاستدلال بقوله تعالى: (الله خالق كل شيء) ونقضه

الاستدلال بقوله تعالى: (الله خالق كل شيء) ونقضه ومن شبه المعتزلة من ناحية الأدلة التي يستدلون بها على أن كلام الله مخلوق، قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، قالوا: ووجه الدلالة أن لفظة (كل) من صيغ العموم، فيدخل فيها كل شيء حتى صفات الله ومنها الكلام، فيقولون: كلام الله شيء من الأشياء فيكون مخلوقاً. و A أولاً: إن هذا الاستدلال استدلال باطل؛ فإن الخالق سبحانه بذاته وصفاته هو الخالق، ولا يتصور انفصال صفاته عن ذاته، فليست صفاته شيئاً غيره، بل هو الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق. فكيف تجعلون صفات الله في المخلوقات وتخرجون أفعال العباد عن هذا العموم، وتقولون: إن أفعال العباد غير مخلوقة؟! وهذا يدل على الهوى والزيغ. فهم يقولون: العقل هو الذي دلنا على أن أفعال العباد غير مخلوقة، أما كلام الرب الذي هو صفة من صفاته فأدخلوه في هذا العموم وقالوا: وهو مخلوق، وهذا يدل على الزيغ والعياذ بالله. ثانياً: أن كلام الله صفة من صفاته وبه تكون المخلوقات، فالله تعالى يخلق بالكلام، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلو كان الكلام مخلوقاً لكان مخلوقاً بكلام آخر، ولكان ذلك الكلام مخلوقاً بأمر آخر إلى ما لا نهاية، وهذا يؤدي إلى الدور والتسلسل، وقد فرق الله بين الخلق والأمر بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ثالثاً: أن عموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف هذا من القرائن، ولذلك لما قال عن الريح التي أهلكت عاداً: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] علمنا أن مساكنهم لم تدمر وهي شيء من الأشياء، فالمراد بقوله: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) يعني: تدمر كل شيء مما يستحق التدمير، فكذلك المراد هنا: الله خالق كل شيء مخلوق، وصفة الله ليست مخلوقة. رابعاً: أن هذا المذهب في صفات الله يوصل إلى الكفر الصريح، فأنتم تقولون: إن كلام الله مخلوق، وكلام الله صفة من صفاته، فلو قلتم هذا في جميع الصفات لوصلتم إلى الكفر الصريح، فإذا قلتم: علم الله مخلوق وقدرته مخلوقة وحياته مخلوقة صار ذلك كفراً صريحاً، فحياة الله صفة من صفاته، والكلام صفة من صفاته، فكيف تفرقون بينهما؟! فإن قلتم: كلها مخلوقة كفرتم، وإن قلتم: كلام الله مخلوق وحياته غير مخلوقة فرقتم بين الصفتين.

الاستدلال بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) ونقضه

الاستدلال بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) ونقضه من أدلة المعتزلة على أن كلام الله مخلوق قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، قالوا: الضمير في قوله: ((جَعَلْنَاهُ)) يعود على القرآن، فقالوا: إن (جعل) بمعنى (خلق)، والمعنى (خلقناه قرآناً عربياً)، وهذا يدل على أن القرآن مخلوق، وأجيب بأن هذا استدلال فاسد، لأن (جعل) هنا تعدت إلى مفعولين، فلا تكون بمعنى (خلق)، وإنما تكون (جعل) بمعنى خلق إذا تعدت إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، أي: خلق، {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، فهذه بمعنى (خلق)، أما إذا تعدت إلى مفعولين فلا تكون بمعنى خلق، كقوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]، وقوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، فلا يصح أن تقول: وقد خلقتم الله كفيلاً! أو الذين خلقوا القرآن عضين! أو ولا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم! فهذا يفسد المعنى. فهذه الآية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] تعدت إلى مفعولين، فلا تكون بمعنى (خلق).

الاستدلال بقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) ونقضه

الاستدلال بقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) ونقضه من أدلة المعتزلة على أن القرآن مخلوق وأن كلام الله مخلوق قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، فقوله: (إنه) يعني: القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، قالوا: هذا دليل على أن الرسول هو الذي أحدث نظم القرآن، فدل على أن القرآن مخلوق؛ لأنه قول رسول كريم، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وأجيب عن هذا بأجوبة: أولاً: أن الله قال: (قول رسول) والرسول هو الذي يبلغ كلام مرسله، ولا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو يبلغ كلام مرسله والله هو الذي أرسله. وهذه النكتة في التعبير بقوله: (رسول) ولم يقل: (إنه قول نبي)، ولا: (قول ملك)؛ لأن الرسول يبلغ كلام مرسله. ثانياً: أنه قال (أمين) والأمين: هو المؤتمن الذي لا يزيد على تبليغ ما أرسل به ولا ينقص. ثالثاً: أن الرسول في هذه الآيات مختلف فيه، فقد جاء في بعض الآيات ذكر الرسول وأريد به جبريل، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، فهذا المقصود به جبريل في سورة (التكوير)، أما قوله تعالى في سورة الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40 - 42]، فالمراد به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فأخبر الله أن القرآن قول جبريل وقول محمد، فأيهما الذي أحدث نظم القرآن؟ فإن أحدثه محمد امتنع أن يحدثه جبريل، وإن أحدثه جبريل امتنع أن يحدثه محمد، وهذا يبطل قولكم: إن الرسول أحدث نظم القرآن، فدل على أنه كلام الله وإنما الرسول هو الذي يبلغ كلام الله. رابعاً: أن الله تعالى توعد من قال: إن القرآن كلام البشر بأن يصليه سقر، فقال سبحانه عن الوليد بن المغيرة: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:22 - 26]، ومحمد صلى الله عليه وسلم من البشر، فمن قال: إن القرآن كلام محمد أحدثه فقد قال: إن القرآن كلام البشر، وله نصيب من هذا الوعيد الذي توعد به سبحانه، فنسأل الله السلامة والعافية.

الاستدلال بآيات إنزال بعض المخلوقات ونقضه

الاستدلال بآيات إنزال بعض المخلوقات ونقضه قال أهل السنة للمعتزلة: إن الله قد أخبر أن القرآن منزل، كما في قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194]، والمنزل غير مخلوق. فاعترض المعتزلة على هذا فقالوا: إن الإخبار بأن القرآن منزل لا يمنع أن يكون مخلوقاً؛ لأننا نجد أن الله قد أخبر عن بعض المخلوقات بأنها منزلة، كما قال الله تعالى في الحديد: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، فأخبر بأن الحديد منزل وهو مخلوق، وقال سبحانه: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، فأخبر أن الأنعام منزلة وهي مخلوقة، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون:18]، فأخبر أن المطر منزل من السماء وهو مخلوق، فكذلك القرآن أخبر الله أنه منزل وهو مخلوق، فإنزال القرآن نظير إنزال الحديد وإنزال الأنعام وإنزال المطر من السماء. وأجاب أهل السنة عن هذه الشبهة بالفرق، فقالوا: هناك فرق بين إنزال القرآن وإنزال الحديد والأنعام والمطر، فإن الله صرح بأن القرآن نزل من عنده، كما قال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، وقال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، وقال عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102]، وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]، فهذه الآيات صريحة في أنه منزل من عند الله، أما إنزال الحديد والأنعام فليس فيه إخبار بأن الله أنزلهما من عنده، فلم يقل: وأنزلت الحديد مني أو من عندي، بل قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25] فهو مطلق، وذلك أن الحديد إنما يؤخذ من المعادن التي تكون في الجبال وينزل، وكلما كان الحديد في مكان أعلى كان معدنه أجود، فيتنزل الحديد من الجبال، فهذا هو المراد بالإنزال، وكذلك الأنعام إنما تخلق بالتوالد، والتوالد يستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها في أرحام الإناث، ثم تنزل الأجنة من بطون الأمهات على وجه الأرض، هذا هو معنى الإنزال، وأما المطر فقد أخبر الله بأنه منزل من السحاب، فقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] والمعصرات: هي السحاب، وفي الآية الأخرى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة:69]، والمزن هو السحاب، فتبين بهذا الفرق بين إنزال المطر والأنعام والحديد وبين إنزال القرآن.

أدلة الأشاعرة وشبههم في صفة كلام الله تعالى

أدلة الأشاعرة وشبههم في صفة كلام الله تعالى أما الأشاعرة -وهم الذين انتشر مذهبهم انتشاراً واسعاً في الكتب والمؤلفات، والذين يسمون أنفسهم بأهل السنة- فلهم شبه قوية، وبعضهم يكفر أهل السنة والجماعة. فالأشاعرة يقولون: إن كلام الرب معنى قائم بنفسه، فهو لازم لذات الرب كلزوم العلم والحياة والسمع والبصر، لا يُسمع أبداً، لكن هذا القرآن الموجود في المصاحف عبارة عن كلام الله، ويسمونه أحياناً كلام الله فيقولون: هذه التسمية من باب المجاز، فإذا جئت إلى الأشعري وقلت له: المصحف كلام الله؟ يقول: نعم كلام الله، وعند المناظرة والتبين يقول: لا، فأنا مرادي أنه مجاز عن كلام الله، فأنا أسميه كلام الله؛ لأن كلام الله تأدى به، ولأنه عبارة عن كلام الله، أما كلام الله فهو معنى قائم بنفسه لا يسمع، فليس بحرف ولا صوت، وهذا هو مذهب الأشاعرة. ومذهب الأشاعرة منتشر انتشاراً واسعاً، وهو أقرب المذاهب إلى أهل السنة، لكن خلافه خلافٌ قوي.

الاستدلال بقوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم) ونقضه

الاستدلال بقوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم) ونقضه من أدلة الأشاعرة على أن الكلام معنى قائم بالنفس: قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8]، ووجه الدلالة أنهم قالوا: إن الله أخبر أن القول إنما يكون في النفس، فدل على أن الحرف والصوت ليس من القول، وهذا يدل على أن كلام الله معنى قائم بنفسه لا يسمع. وأجاب أهل الحق عن استدلالهم بهذه الآية بجوابين: الجواب الأول: جواب بالمنع، والجواب الثاني: جواب بالتفنيد. فالجواب الأول: أننا نمنع أن يكون المراد بالقول في الآية هو القول في النفس، بل المراد بقوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ)) أي: يتكلمون بألسنتهم سراً، وهذا هو الذي عليه أكثر المفسرين؛ فإن اليهود كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: (السام عليك) بدل أن يقولوا: السلام عليك، ويعنون بالسام الموت، فهم يوهمون بأنهم يقولون السلام عليك، وهم يقولون: السام. ثم إذا خرجوا من عنده يقول بعضهم لبعض سراً: لو كان نبياً لعذبنا الله بقولنا له ما نقول. فأنزل الله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8]، وهذا هو الذي عليه أكثر المفسرين، ويؤيد ذلك الحديث القدسي الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه عز وجل: (إن الله سبحانه قال: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)، فقوله: (من ذكرني في نفسه) يعني: سراً، وليس المراد ذكر القلب دون اللسان، بل المراد: ذكرني بلسانه سراً. والجواب الثاني: جواب بالتفنيد، فنقول: سلمنا أن القول في الآية: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ)) هو القول في النفس والقلب من دون تكلم باللسان، لكن القول في هذه الآية مقيد بأنه في النفس، حيث قيده الله فقال: ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ)) وإذا قيد تقيد، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فقوله: (عما حدثت به أنفسها) قيد بأنه في النفس، وإذا قُيد تقيد، لكن النصوص الكثيرة التي جاءت بإثبات صفة الكلام ليس فيها تقييد بأنه في النفس، كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فلم يقل: وكلمه في نفسه، وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، ولم يقل: وكلمه في نفسه، فكيف تقيدونها؟!

الاستدلال ببيت الأخطل النصراني ونقضه

الاستدلال ببيت الأخطل النصراني ونقضه ومن أدلة الأشاعرة على أن الكلام معنى قائم بالنفس بيت من الشعر منسوب إلى الأخطل، وهم يعتمدون على هذا البيت، وهو قوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قالوا: وجه الدلالة أن هذا البيت قاله الأخطل، وهو عربي، والقرآن نزل بلغة العرب، وقد أثبت في البيت أن الكلام في الفؤاد، فدل على أن الكلام إنما يكون في النفس، وأما ما يقوله اللسان فهو دليل عليه، ولهذا قال: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وهذا يدل على أن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأما الحروف والأصوات والقرآن الذي بأيدينا فإنما هو دلالة وعبارة تدل على كلام الله وليس هو كلام الله. وأجاب العلماء عن استدلال الأشاعرة بهذا البيت بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا البيت مصنوع مختلق لا يعرف له قائل، فهو منسوب إلى الأخطل ولا يوجد في ديوانه، فكيف تستدلون ببيت من الشعر لا يعرف له قائل، وكثير من العلماء والأدباء أنكروا نسبته إلى الأخطل. والإنسان إذا أراد أن يستدل فعليه أن يستدل بدليل واضح معروف قائله، فهذا لا يؤمن من أن يكون قد اختلقه واحد من الأشاعرة أو من غيرهم حتى يستدل به على مذهبه. الثاني: سلمنا جدلاً أن هذا البيت قاله الأخطل، فـ الأخطل واحد من الناس، فهو خبر واحد، ولا يقبل قوله حتى يوافقه أهل اللغة، وإذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل حتى يصح سنده وتثبت عدالة رواته، ولا يكون شاذاً ولا معلاً؛ فكيف يستدل بقول واحد من الناس يخالفه أهل اللغة جميعاً ولا يوافقونه على هذا القول؟! الثالث: سلمنا أن البيت قاله الأخطل وأنه صحيح، وسلمنا أنه يستدل بقول الواحد، لكن ليس المراد بقوله: (إن الكلام لفي الفؤاد): المعاني العارية عن الحروف والألفاظ، وإنما مراد الشاعر: الكلام الحقيقي الذي له تأثير، فهو الذي يقدره الإنسان في نفسه ويهيئه ويزنه بعقله قبل أن يتلفظ به، وهذا هو الكلام الذي له تأثير، بخلاف الكلام الذي يجري على اللسان من دون ترو وتقدير، فإنه يشبه كلام النائم والهازل، ولهذا روي البيت برواية أصح من هذه الرواية: إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وهذا هو الأصوب، فالبيان يكون في الفؤاد، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما توفي أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة للبيعة، وأسرع إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فأراد عمر أن يتكلم وقال: زَوَّرت -يعني: هيأت- في نفسي كلاماً خشيت ألا يبلغه أبو بكر، فأسكته أبو بكر وتكلم بأبلغ منه، فقال: أتى على ما في نفسي وزيادة. فالشاهد قول عمر: (وزورت في نفسي كلاماً خشيت ألا يبلغه أبو بكر)، فالكلام المهيأ في النفس ليس كالكلام الذي يجري على اللسان من دون تقدير ومن دون ترو. الرابع: سلمنا صحة البيت وأنه قول الأخطل، وسلمنا قبول خبر الواحد، وسلمنا أن مراد الشاعر الكلام العاري عن الحروف والألفاظ، لكن الأخطل نصراني، فكيف يستدل بقول نصراني؟! والنصارى قد ضلوا في نفس معنى الكلام، وقالوا: إن عيسى نفس كلمة الله، وإن فيه جزءاً من الله وجزءاً من البشر اتحدا وصارا شيئاً يقال له: المسيح، فالمسلمون يقولون: إن عيسى خلق بكلمة (كن)، لكن النصارى يقولون: عيسى هو نفس الكلمة، فكيف يستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعرف من معنى الكلام من كتاب الله وسنة رسوله ولغة العرب؟! الخامس: سلمنا صحة البيت، وأن الأخطل قاله، وسلمنا قبول خبر الواحد، وسلمنا أن مراده الكلام العاري عن الحروف والألفاظ، وسلمنا الاستدلال بقول النصارى، لكن يلزم منه معنى فاسد، وهو أن يسمى الأخرس متكلماً؛ لقيام الكلام بنفسه وإن لم ينطق به، وتسمية الأخرس متكلماً باطل شرعاً وعقلاً وعرفاً؛ لأنه لا توجد لديه آلة للنطق أصلاً.

حقيقة مذهب الأشاعرة في كلام الله ووجه شبهه بقول النصارى

حقيقة مذهب الأشاعرة في كلام الله ووجه شبهه بقول النصارى حقيقة مذهب الأشاعرة: أن كلام الله مكون من شيئين: معنى قائم بالنفس. وهذا هو الكلام الحقيقي، وحروف وأصوات وهذه عبارة دالة عليه، فنصف الكلام مخلوق وهو الحروف والأصوات، ونصفه غير مخلوق، وهو المعنى القائم بالنفس، وهذا هو نصف مذهب المعتزلة، فالمعتزلة يقولون: الكلام بحروفه وألفاظه مخلوق، والأشاعرة يقولون: الكلام حروفه وألفاظه مخلوقة ومعانيه غير مخلوقة. فقول الأشاعرة: إن الكلام معنى قائم بالنفس والحروف والأصوات مخلوقة له شبه بقول النصارى الذين عبدوا المسيح، وقالوا: إن عيسى نفس كلمة الله، وقالوا: إن عيسى مكون من جزأين: جزء إلهي وهو كلمة (كن)، وجزء من الناس وهو عيسى، فاتحدا وامتزجا وصارا شيئاً يقال له: المسيح، ولهذا عبدوه من دون الله، ومذهب الأشاعرة في كلام الله فيه شبه بمذهب النصارى؛ لأن الأشاعرة يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه لا يسمع إلا بواسطة الألفاظ والحروف، فالنظم الموجود في المصاحف مخلوق والمعنى القائم بنفس الرب غير مخلوق، ولا يمكن أن يفهم المعنى القائم بنفس الرب إلا بواسطة النظم المخلوق، فإفهام المعنى القائم بنفس الرب بواسطة النظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه! كما أن قول الأشاعرة: إن القرآن الموجود عبارة عبّر به محمد صلى الله عليه وسلم له شبه بقول الوليد بن المغيرة، حينما قال عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فمن قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عبر بهذا القرآن فله نصيب من الوعيد الذي توعد الله به الوليد بن المغيرة، فالأشاعرة يقولون: إن كلام الرب معنى قائم بنفسه، وقال بعضهم: إن الله تعالى اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه فعبر عنه، وقال آخرون: إن التعبير إنما هو من محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ.

جملة من الردود تتضمن بطلان مذهب الأشاعرة في صفة كلام الله

جملة من الردود تتضمن بطلان مذهب الأشاعرة في صفة كلام الله من المناقشات التي يناقش بها الأشاعرة في قولهم: إن الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتعدد ولا يتكثر أن يقال لهم: أنتم مسلمون تقرون بأن الله كلم موسى وأن موسى سمع كلام الله، وأنتم تقولون: إن المعنى واحد قائم بنفس الرب لا يتجزأ ولا يتعدد، فهل سمع موسى جميع المعنى أم بعض المعنى؟ فإن قلتم: سمع موسى جميع المعنى فقد زعمتم أنه سمع جميع كلام الله وهذا ظاهر الفساد، وإن قلتم: سمع بعض المعنى فقد قلتم بالتبعيض وهذا خلاف مذهبكم. ويلزم أيضاً على قول الأشاعرة أن يكون الكلام معنى وإنما الاختلاف في العبارات والدلالات، لأنهم يقولون: الكلام معنى قائم بالنفس، وكونه أمراً ونهياً وخبراً واستفهاماً هذه صفات إضافية، وكونه قرآناً أو توراة أو إنجيلاً هذا تقسيم للعبارات، ويلزم على هذا أن يكون معنى قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، ويلزم أن يكون معنى (آية الدين) هو معنى (آية الربا)، وأن يكون معنى (سورة الإخلاص) هو معنى سورة (تبت يدا أبي لهب)، وهذا باطل. ولو كان ما في المصحف ليس هو كلام الله -كما يقوله الأشاعرة- لما حرم على المحدث مس المصحف ووجب عليه الوضوء، ولو كان القارئ لا يقرأ كلام الله وإنما يقرأ عبارة عن كلام الله؛ لما حرُم على الجنب قراءة كلام الله، وكذلك الحائض عند كثير من الفقهاء. ويقال للأشاعرة: أنتم تقولون: إن الكلام معنى قائم بنفسه وأما القرآن الذي بين أيدينا فليس فيه كلام الله، فنقول: إن الله تعالى تحدى البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، فالإشارة بقوله: (أن يأتوا بمثل هذا القرآن)، هل هي إلى ما في نفس الله أو إلى هذا المتلو المسموع المقروء؟! لاشك في أنها إلى هذا المتلو المسموع المقروء، وأما ما في نفس الله فغير مشار إليه، وكذلك قوله ((لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ))، فالضمير يعود إلى ما بين أيدينا من كلام الله. فما في نفس الله غير متلو ولا مشار إليه ولا مسموع، وما في نفس الله لا حيلة إلى الوصول إليه، فكيف يتحدى بأن يؤتى بمثله؟! ومن الأدلة على بطلان مذهب الأشاعرة قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فقال: ((فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) ولم يقل: فأجره حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. ومن الأدلة على بطلان مذهب الأشاعرة: ما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله)، وقد أجمع العلماء على أن الإنسان لو تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحة بطلت صلاته، وأجمعوا على أن ما يقوم في قلب الإنسان من تحدث بأمور دنيوية أو غيرها لا يبطل الصلاة، فأنت تصدق وتكذِّب وتطلب وتأمر وتنهى في نفسك، فهذا لا يبطل الصلاة، فدل على أن الكلام هو الذي يكون بحرف وصوت. ومن الأدلة في الرد عليهم: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل)، ووجه الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين حديث النفس وبين الكلام، فأخبر أن حديث النفس معفو عنه، وأن الكلام والعمل غير معفو عنه، فدل على أن الكلام هو ما يقوم باللسان وينطق به ويتكلم به. ومن الردود: ما ثبت أيضاً في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ معاذ: (يا معاذ! كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- فقال معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!)، فأخبره بأن الإنسان إنما يؤاخذ بما يتكلم به بلسانه وينطق به، فدل على أن الكلام لفظ ومعنى، وحرف وصوت، وأن كلام الله معانٍ وحروف وأصوات قائمة بذاته سبحانه وتعالى. والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها من كلام الله، وكلام الله لا يتناهى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، فلو كان هذا البحر مداداً يكتب به ومد بسبعة أبحر وكانت الأشجار كلها أقلاماً يكتب بها؛ لتكسرت الأقلام ونفد الماء ولم ينفذ كلام الله، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].

واجب المسلم تجاه بدعتي الأشاعرة والمعتزلة

واجب المسلم تجاه بدعتي الأشاعرة والمعتزلة إن بدعة الأشاعرة وبدعة المعتزلة في كلام الله من أقوى البدع في باب الأسماء والصفات، وهما بدعتان عظيمتان منتشرتان، ولهما من يروج لهما في الكتب والمؤلفات والمحاضرات والندوات، خاصة بدعة الأشاعرة، فقد عمت الأرض، ولها من يروج لها ويدافع عنها ويسمون أنفسهم أهل السنة، ويقولون: إن هذا هو الحق، ويكفرون أهل السنة والجماعة، فحين قال أهل السنة: إن الرب يتكلم وإن كلامه بحرف وصوت، قالوا: أنتم تتنقصون الله وتجعلونه جسماً، وتحلون الحوادث في ذاته، كما أن إثباتكم العلو تنقص للرب وإثبات بأنه جسم وأنه متحيز. فينبغي للمسلم وطالب العلم خاصة أن يكون على إلمام بهذه الشبه، وأن يعرف حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة ومعتقدهم في هذا الباب، وأن يعرف حقيقة مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة في هذا الباب حتى يكون على حذر. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

نتيجة الخلاف في القول بخلق القرآن

نتيجة الخلاف في القول بخلق القرآن Q ما هي نتيجة الخلاف في القول بخلق القرآن؟ A نتيجة الخلاف واضحة، فالقول بخلق القرآن إنكار لأن يكون الله متكلماً بالكلام، وإنكار صفة من صفات الله واعتقاد أن صفاته مخلوقة، وهذا كلام عظيم وباطل، فالله تعالى أثبت صفاته وأثبت أنه يتكلم ونسب الكلام إلى نفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرد على شبهة سبق القرآن حدوث أفعال العباد

الرد على شبهة سبق القرآن حدوث أفعال العباد Q عندما خلق الله القلم أمره بكتابة كل شيء كائن إلى يوم القيامة، أي أنه علم أفعال العباد قبل خلقهم، والقرآن في اللوح المحفوظ قبل حدوث أفعال العباد، فعلى هذا كيف يكون كلام الله عز وجل حادثاً بعد حدوث الفعل كما أخبرتم؟ A الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، لكن أفعال العباد خلقها في الوقت الذي قدر أن تنزل فيه، ومن يقول: إنه خلقها في الوقت الذي كتب فيه القلم؟! فالقلم كتب المقادير، والله تعالى علم الأشياء قبل كونها، وعلم ما كان وعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، وأما كلام الله فهو يتكلم به في وقته، وهو قديم النوع حادث الآحاد كما في النصوص، فلما جاءت المجادِلة وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم تكلم الله، وأفعال العباد خلقها الله في الوقت الذي قدر أن توجد فيه، فأفعال العباد خلقها الله في وقتها، وإلا فهل تخلق أفعالك قبل أن تخلق أنت؟! إن الأفعال لا تكون إلا بعد خلق العباد.

بيان أوجه القربة بالقرآن

بيان أوجه القربة بالقرآن Q قرأت كلاماً في كتاب (معارج القبول) للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله ينقل فيه كلاماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، يقول فيه الإمام أحمد رحمه الله: يتوجه العبد إلى الله بالقرآن على خمسة أوجه: تلاوة بلسان، وكتابة بيد، وسماعاً بأذن، ونظراً بعين، وتدبراً بقلب، فالمتلو غير مخلوق والتلاوة مخلوقة، والمسموع غير مخلوق والسمع مخلوق، والمكتوب غير مخلوق والكتابة مخلوقة، والمنظور غير مخلوق، والنظر مخلوق، والتدبر مخلوق، والمتدبر غير مخلوق، فما صحة نسبة هذا الكلام إلى الإمام أحمد؟ A النقل والكلام صحيح، وقد ذكرناه في شرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة، فالقرآن محفوظ في الصدور، فهو محفوظ في صدرك وصدرك مخلوق، ومكتوب في المصاحف، فالأوراق مخلوقة وكلام الله غير مخلوق، وكذلك تكتب القرآن وأنت مخلوق فكتابتك ومخلوقة والقرآن المكتوب كلام الله غير مخلوق. فالمقصود أنه يتوجه الإنسان إلى الله بهذه الأشياء، فالقرآن محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف، ومنظور في المصاحف، فأما الصدر والأوراق والمداد والكاتب فهذه كلها ليست كلام الله، فالمصحف به أوراق مخلوقة، وفيه خط فلان، وفيه مداد كتب به، وفيه كلام الله، كما بينا هذا.

معنى تسلسل الحوادث

معنى تسلسل الحوادث Q ما معنى تسلسل الحوادث؟ A معناه الاستمرار، فكل حادث يسبقه حادث في الماضي، وكل مخلوق يسبقه مخلوق، وفي المستقبل كذلك، فتسلسلها يعني: استمرار حادث بعد حادث.

أزلية صفات الله تعالى الذاتية والفعلية وحدوث أفراد الصفات الفعلية

أزلية صفات الله تعالى الذاتية والفعلية وحدوث أفراد الصفات الفعلية Q من المعلوم أن كلام الله أزلي أبدي، وهذا ينطبق على جميع الصفات التي تليق بالله سبحانه بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل هناك دليل يمكن أن نستدل به على ذلك، أم أننا نلتزم بما ورد عن السلف؟ A كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وقد ذكرنا الأدلة في هذا، وصفات الله أزلية وأبدية، وصفات الله تتجدد، ولم يحدثها له أحد من المخلوقين، والكلام من الصفات الذاتية؛ لاتصاف الله بها أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية؛ لكون أفراده حادثة، فهو أزلي أبدي وأفراده حادثة، فلا منافاة بينهما وقد سبقت الأدلة.

[18]

دروس في العقيدة [18] من صفات الله تعالى الدالة على كماله وجلاله علوه على خلقه، فهو العلي ذاتاً، والعلي قدراً وشأناً، والعلي قهراً وسلطاناً، وقد أثبت تعالى لنفسه هذه الصفة وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلائل ذلك قد تفوق الحصر نقلاً وعقلاً وفطرة، ولذا يجب الإيمان بها وإثباتها لله تعالى كما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.

صفة العلو للعلي القهار

صفة العلو للعلي القهار بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد سبق الكلام على بعض البدع في صفات الله سبحانه وتعالى، وذكرنا أن أشد البدع وأعظمها هي البدع في أسماء الله وصفاته، وأن من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين مخالفيهم من أهل البدع صفة الكلام. وعرفنا البدع القولية في هذه الصفة، وأن منها ما يصل إلى حد الكفر، ومنها ما لا يصل. ومن الصفات التي اشتد النزاع فيها أيضاً بين أهل السنة وبين أهل البدع صفة العلو. والعلو في اللغة: الارتفاع، وهو وصف ذاتي لله سبحانه وتعالى، فالله ذاته عالية -سبحانه وتعالى- فوق العرش، وهناك ثلاثة أنواع من العلو يتصف بها الرب سبحانه وتعالى، وهي: علو الذات، وعلو القدر والشأن، وعلو القهر والسلطان، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران وصفة العلو للناس فيها مذاهب وأقوال، والقول الحق والصواب هو قول سلف الأمة وأئمتها، وقول أهل السنة والجماعة، وهو أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، فهذا هو القول الصواب الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحق الذي قرره الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء من أهل السنة والجماعة.

ذكر أقوال المبتدعة في صفة العلو

ذكر أقوال المبتدعة في صفة العلو في صفة العلو أقوال مبتدعة ثلاثة، وهي أقوال كفرية والعياذ بالله: القول الأول: أن الله ليس متصفاً بالعلو وليس فوق العرش، وإنما هو حال في مخلوقاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهذا قول حلولية الجهمية، فهم يقولون: إن الله ليس فوق العرش، ولا هو فوق السماوات، بل هو في كل مكان، وهذا ما تقوله النجارية وغيرهم. القول الثاني المبتدع: أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وهذا قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهو أشد كفراً من القول الذي قبله، وبهذا قال أكثر المعتزلة، وبعض الأشاعرة المتأخرين كـ الرازي، فقد قرر هذا في كثير من كتبه، فهؤلاء ينفون عنه الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن واحد منهما، ويستحيل أن يكون هناك موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا مخالط له؛ لأن النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان معاً، فالموجود إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارجه، فالذي لا داخل العالم ولا خارجه لا وجود له، والذي ليس فوقه ولا تحته، ولا متصل به ولا منفصل عنه معدوم، بل ممتنع، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا أشد كفراً من القول الذي قبله. القول الثالث من الأقوال المبتدعة: أن الله فوق العرش بذاته، وهو في كل مكان بذاته، وهذا قول طائفة من السالمية والصوفية، وهؤلاء أرادوا بزعمهم أن يجمعوا بين نصوص العلو ونصوص المعية. فهذه الأقوال الثلاثة كلها أقوال كفرية، ومع ذلك فهي منتشرة الآن في الكتب والمؤلفات، ولها أصحاب يدافعون عنها، ولهم شبه، ويعتقدون أنهم ينزهون الله في ذلك، وأنهم أهل الحق، ولهم مؤلفات تحقق وتدرس الآن، فالذي ينبغي على المسلم -وخصوصاً طالب العلم- أن يكون على بينة من هذا الأمر العظيم.

أدلة أهل السنة النقلية الدالة على علو الله

أدلة أهل السنة النقلية الدالة على علو الله وقد استدل أهل السنة والجماعة -رحمة الله تعالى عليهم- على ما قرروه من أن الله فوق خلقه وفوق السماوات بذاته، وأنه مستوٍ على عرشه، استدلوا على ذلك بالنقل الصحيح، والعقل الصريح، والفطرة السليمة. وقد ذكر العلامة ابن القيم وغيره أن أفراد الأدلة النقلية الدالة على علو الله على خلقه تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وهناك أنواع من الأدلة العامة ترجع إليها هذه الأفراد، وسوف نستعرض بعض هذه الأنواع، فكل نوع من الأدلة تحته أفراد كثيرة.

التصريح باستواء الله على العرش بلفظ (على)

التصريح باستواء الله على العرش بلفظ (على) النوع الأول من أنواع الأدلة: الإخبار والتصريح بأن الله استوى على العرش، وهذا في سبعة مواضع من كتاب الله بلفظ (على) الدالة والصريحة على علو الله على عرشه، وذلك في سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد. قال الله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقال سبحانه في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3]، وقال سبحانه وتعالى في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]، وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]، وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]. فهذه السبعة المواضع ذكرت نوعاً واحداً من الأدلة، وهو تصريح بأن الله استوى على العرش، وكلها بلفظ (على) الصريحة والدالة على علو الله على عرشه.

التصريح بعلو الله سبحانه

التصريح بعلو الله سبحانه النوع الثاني من الأدلة: التصريح بأن الله في العلو، كقوله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقوله سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].

التصريح بالعروج إليه

التصريح بالعروج إليه النوع الثالث: التصريح بالعروج إليه، والعروج إنما يكون من الأسفل إلى الأعلى، كقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4].

التصريح بالصعود إليه

التصريح بالصعود إليه النوع الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].

التصريح برفع بعض المخلوقات إليه

التصريح برفع بعض المخلوقات إليه النوع الخامس: التصريح برفع بعض المخلوقات إليه، والرفع إنما يكون من الأسفل إلى الأعلى، كقوله في المسيح عليه الصلاة والسلام: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وثبت في الأحاديث والآثار أن دعوات المظلومين والمضطرين ترتفع إلى الله.

التصريح بتنزيل الكتاب منه

التصريح بتنزيل الكتاب منه النوع السادس: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، والنزول إنما يكون ممن هو عال.

التصريح بأن الله في السماء

التصريح بأن الله في السماء النوع السابع: التصريح بأن الله في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]، وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء رقية المريض الذي رواه أبو داود: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمه)، والمراد بالسماء هنا العلو، والله سبحانه له أعلى العلو، فهو فوق العرش، وإذا أريد بالسماء الطباق المبنية فتكون (في) بمعنى: على، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: على جذوع النخل، وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] أي: على الأرض.

الإخبار بأنه تعالى رفيع الدرجات

الإخبار بأنه تعالى رفيع الدرجات النوع الثامن: الإخبار عن رفعته وارتفاع عظمته سبحانه، وأنه رفيع الدرجات، كقوله سبحانه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، والمعنى: مرفوعة درجاته؛ لارتفاعه هو وعلو شأنه سبحانه وتعالى، فـ (رفيع) على وزن (فعيل) بمعنى مفعول، وليست (رفيع) هنا بمعنى رافع كما قالت المعطلة الذين يقولون: (رفيع) بمعنى رافع درجات المؤمنين. وهذا باطل؛ لأن سياق الكلام يأباه، فإن الله قال قبل ذلك: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، ثم قال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15]، فالضمير يعود إلى الله، أي: مرفوعة درجاته هو؛ لارتفاعه وعظمته وعلو شأنه، ونظير ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:3] أي: المصاعد التي تصعد فيها الملائكة إلى الله جل شأنه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

التصريح بأن بعض المخلوقات عنده

التصريح بأن بعض المخلوقات عنده النوع التاسع: التصريح بأن بعض المخلوقات عنده، كقوله سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، وقوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه -فهو عنده فوق العرش-: إن رحمتي سبقت غضبي)، والإخبار بأن بعض المخلوقات عنده يدل على العلو، ولو لم يدل ذلك على العلو لما كان للتعبير بالعندية فائدة، ولكانت المخلوقات كلها في القرب والعندية سواء، فلما أخبر بأن بعض المخلوقات عنده دل على أن لها خصوصية وأنها في العلو، أما الملك فالله مالك لكل شيء، ولهذا قال: ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: ملكاً وتصريفاً وتدبيراً، ((وَمَنْ عِنْدَهُ)) أي: في العلو، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ).

الإخبار بأن من أسماء الله الظاهر

الإخبار بأن من أسماء الله الظاهر النوع العاشر: الإخبار بأن من أسماء الله سبحانه الظاهر، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الاسم بنفي فوقية أيّ شيء عليه، كقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، فهذه أربعة أسماء متقابلة، فالأول والآخر اسمان لأبديته وأزليته، والظاهر والباطن اسمان لفوقيته وعلوه وعدم خفاء شيء عليه، وأنه لا يحجبه شيء من مخلوقاته سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) فسر (الظاهر) بنفي فوقية أي شيء عليه، وهذا يدل على علوه سبحانه وتعالى، وذلك لأن الظهور والعلو متلازمان، فكلما علا الشيء ظهر وبان، كما أن السفول والخفاء متلازمان، فكلما سفل الشيء خفي واستتر، فالله تعالى هو الظاهر وليس فوقه شيء.

إشارة النبي بأصبعه إلى السماء في خطبته

إشارة النبي بأصبعه إلى السماء في خطبته النوع الحادي عشر: الإشارة، أي: إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى السماء في خطبته في حجة الوداع عندما كان يستشهد الله على الناس قائلاً: (ألا هل بلغت؟! قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد)، فقد كان يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكتها إلى الناس ويقول: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد) فإشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه إلى السماء دليل صريح على أن الله في العلو. وأما المعطلة من الجهمية وغيرهم فهم ينكرون الإشارة بالأصبع، فلو رفعت أصبعك عند جهمي واستطاع قطعها لقطعها؛ لأنه يقول: إن الله في كل مكان، والإشارة إليه تنقص له، فإذا جعلته فوق فقد تنقصته وجعلته محدوداً في جهة محددة، وهو في كل مكان.

النصوص المتواترة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

النصوص المتواترة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة النوع الثاني عشر: ما ثبت في الآيات القرآنية والأحاديث المتواترة من رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقوله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)، وفي لفظ: (كما ترون الشمس والقمر)، فهذه النصوص دلت على أن المؤمنين يرون ربهم من فوقهم. والرؤية المعقولة عند جميع بني آدم تقتضي مواجهة الرائي للمرئي ومباينته له، فهذا يدل على أنه ليس مختلطاً بخلقه، فهذا فيه بطلان لقولهم: إنه مختلط بالمخلوقات.

سؤال الرسول للجارية عن الله بـ (أين)

سؤال الرسول للجارية عن الله بـ (أين) النوع الثالث عشر: ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية عن الله بـ (أين) كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما صك الجارية وعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يعتقها، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (أين الله؟، قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، والسؤال عن الله بـ (أين) يدل على أن الله في العلو؛ لأن (أين) يسأل بها عن المكان. والجهمية يجيبون عن حديث الجارية بأن هذه الجارية أعجمية لا تفهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم خاطبها على قدر عقلها وفهمها، فسألها سؤالاً فاسداً يناسب حالها وأقرها على جواب فاسد؛ لأن هذا هو المناسب لحالها، لذلك فهم يقولون: إن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم (مَنْ الله؟) وليس مراده (أين الله) و (من) يطلب بها السؤال عن الحقيقة. هكذا جعلوا الرسول عليه الصلاة والسلام عاجزاً عن أن يقول: (مَن الله) فقال: (أين الله) وعلى هذا يكونون قد اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الشريعة، وأنه سأل سؤالاً فاسداً وأقر على جواب فاسد، وأنه لم يبين الحق، نسأل الله العافية، وهذه تهمة عظيمة، وطعن في النبي صلى الله عليه وسلم. فتلك أنواع من الأدلة، وكل نوع تحته أفراد من الأدلة.

موقف المعطلة من النصوص الدالة على علو الله

موقف المعطلة من النصوص الدالة على علو الله ما موقف المعطلة الذين أنكروا علو الله بذاته على الخلق من هذه النصوص؟ فهل سكتوا؟ وهل وقفوا مكتوفي الأيدي؟ أم أجابوا عليها واعترضوا عليها؟ A اعترض نفاة العلو على هذه النصوص، فقالوا: إن المراد بالعلو والفوقية في هذه النصوص ليس فوقية الذات، وأن ذاته فوق العرش، بل المراد بها فوقية الخيرية والأفضلية، فقوله سبحانه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، أي: هو خير من العرش، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، أي: هو خير من عباده وأفضل، فالمراد بالفوقية إما فوقية الخيرية والأفضلية، أو فوقية القهر والسلطان؛ لأن المعطلة يثبتون نوعين من العلو: علو الخيرية والأفضلية، وعلو القهر والسلطان، والذي ينكرونه هو علو الذات، فهم يقولون: لا نوافق أن الله بذاته فوق العرش، بل المراد أن قدره عال وعظمته عاليه، ولهذا تأولوا النصوص وقالوا: إن هذا يلزم منه معنى فاسد، وهو أن يكون الله محدوداً ومتحيزاً، وهذا تنقص لله، وأيضاً قالوا: واللغة العربية تدل على ما ذهبنا إليه، فالعرب تقول: الأمير فوق الوزير، فهل معنى ذلك أن الأمير راكب فوق الوزير؟! لا، بل المعنى أنه خير وأفضل منه، وقولهم: الدينار فوق الدرهم، يعني أن الدينار أفضل من الدرهم، وقولهم: الذهب فوق الفضة، يعني: أن الذهب خير من الفضة، فالمراد فوقية الخيرية والأفضلية لا فوقية الذات.

ردود أهل السنة على المعطلة في مسألة علو الله

ردود أهل السنة على المعطلة في مسألة علو الله وقد أجاب أهل الحق على اعتراضات المعطلة على نصوص العلو وتأويلاتهم بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن تأويلكم لنصوص الفوقية بفوقية الخيرية والأفضلية، أو بفوقية القهر والسلطان على خلاف الحقيقة، فالتأويل هو صرف للفظ عن حقيقته إلى المجاز، والأصل في الألفاظ الحقيقة، وحقيقة الفوقية أن تكون ذات الشيء فوق الشيء، ولا يجوز صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز إلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فإذا وجدت قرينة فلا مانع، بل ليس هناك قرينة تدل على صرف الفوقية في هذه النصوص إلى فوقية الخيرية والأفضلية، لكن إذا وجدت قرينة فنعم، كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، فهذه فوقية قهر وغلبة، والقرينة أن فرعون ومن معه كانوا كلهم على الأرض مستوين عليها، فليس فرعون أعلى منهم، بخلاف الفوقية في هذه النصوص والآيات، فليس الله مستوياً مع خلقه في الأرض حتى تؤولوها وتصرفوها إلى فوقية القهر والغلبة، بل الله فوق مخلوقاته بذاته. الجواب الثاني: أن تفضيل الله على خلقه لم يأت في النصوص ابتداءً، وإنما جاء ذلك في سياق الرد على من اتخذ مع الله نداً، وعبده مع الله، وأشركه في الإلهيه، فتأتي النصوص للرد على هؤلاء وبيان أن الله خير من ذلك الند وأفضل، كما في قوله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، فهذه الخيرية جاءت في سياق الرد، وذلك أنه يحسن في الخطاب الداحض لحجة الخصم وإلزامه بالحجة والرد عليه ما لا يحسن في الابتداء، وهذا أمر واضح لا ينكره إلا غبي. الجواب الثالث: أن تأويل النفاة والمعطلة لنصوص العلو والفوقية بفوقية الخيرية والأفضلية تأويل باطل يفسد به معنى الآيات، حيث تشمئز منه العقول السليمة، وتنفر منه القلوب الصحيحة، وليس في هذا التأويل مدح ولا تمجيد ولا ثناء على الله، والله تعالى لم يمدح نفسه بأنه خير من العرش وأفضل منه، وبأنه خير من عباده وأفضل منهم، فلا مقارنة بين الخالق والمخلوق حتى يقال: إن الخالق خير من المخلوق وأفضل، بل إن المخلوقات المتفاوتة في الخلق لو قارنت بينها وفضلت بعضها على بعض لتنقصت الفاضل، فلو قال قائل: الشمس أفضل من السراج لتنقص الشمس، أو قال: السماء أعلى من سطح الدار، أو: السماء أكبر من الرغيف، أو: الجبل أثقل من الحصى، أو: رسول الله أفضل من اليهود، أو: السيف أحسن من العصا وأقوى، فكل هذا تنقص، كما قال الشاعر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وإذا كان يقبح كل القبح -ويضحك من ذلك العقلاء- لو قلت: الجوهر أفضل من قشر البصل؛ فكيف تؤول آيات الفوقية بأن الرب خير من المخلوق وأفضل من المخلوق؟! فهذا باطل وهذا تنقص لله. الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الفوقية المطلقة، وهي تشمل فوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة، وفوقية الخيرية والأفضلية، فمن أثبت بعضها ونفى بعضها فقد جحد ما أثبته الله لنفسه وتنقّص الله عز وجل. وإثبات الفوقية لله عز وجل لا يستلزم محذوراً، ولا يوجب نقصاً، فالله تعالى لا يحتاج إلى العرش، ولا إلى حملة العرش، ولا إلى شيء من مخلوقاته، فالله هو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]، وهذه الشبه موجودة ومقررة، بل هناك من يعتنقها الآن ويدافع عنها ويقررها، فهناك من يدرس في التفسير والفقه والحديث ويقرر أن الله ليس فوق مخلوقاته، بل يقول: إن الله حال في مخلوقاته، أو يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه. فمن هنا تكون الحاجة ماسة وملحة إلى معرفة هذه الشبه وإبطالها وردها ودحضها.

أدلة أهل السنة العقلية الدالة على علو الله

أدلة أهل السنة العقلية الدالة على علو الله استدل أهل الحق على ما ذهبوا إليه من أن الله فوق السماوات وفوق العرش بذاته بالعقل الصريح، وذلك عن طريق السبر والتقسيم، والسبر والتقسيم عند أهل الأصول وأهل المنطق هو أن تحصر الأقسام التي يتصورها العقل ثم تبطلها واحداً بعد واحد وتثبت القول الحق، فقالوا: لما خلق الله الخلق فلا يخلو من أن يكون خلقهم داخل ذاته، أو يكون خلقهم خارج ذاته، أو يكون خلقهم لا خارج ذاته ولا داخلها، فهذه ثلاث صور عقلية لا يمكن للعقل أن يتصور أكثر منها، أما الأولى -وهو كون الله خلق الخلق داخل ذاته- فباطل، لأنه يلزم منها أن يكون الله محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك، وهذا قول الحلولية، وهو كفر وباطل بالاتفاق. وأما الثانية -وهي أن الله خلقهم لا داخل ذاته ولا خارجها- فباطل أيضاً؛ لأنه يلزم منها نفي الله وعدم وجوده بالكلية، ولأنه يلزم منها وصف الله بارتفاع النقيضين، وهذا غير ممكن، وهو قول معطلة الجهمية، وهو كفر. وأما الثالثة -وهي أن الله خلق الخلق خارج ذاته- فلا يخلو إما أن يكون خلقهم خارج ذاته من فوقهم، أو خلقهم خارج ذاته من تحتهم، أو خلقهم خارج ذاته أمامهم، أو خلقهم خارج ذاته خلفهم، أو عن أيمانهم، أو عن شمائلهم. وأليقها بالله جهة العلو، فثبت أن الله خلق الخلق خارج ذاته من فوقهم، ويلزم من ذلك أن الله عليٌ على عرشه فوق مخلوقاته. وقد اعترض النفاة والمعطلة على هذا الدليل فقالوا: لا نسلم بأن هذا دليل عقلي واضح وبدهي تثبته العقول وتقرره، بل هو قضية وهمية خيالية، بدليل أن جمهور العقلاء أنكروا بداهته ولم يقولوا: إنه معروف. فأجاب أهل الحق عن هذا الاعتراض بقولهم: إذا كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أعظم وأولى بأن يكون حقاً، وإن كان قولنا باطلاً بحكم العقل فقولكم أعظم رداً، وعامة فطر الناس توافقنا على هذا، فإن قبلتم فطرهم ترجحنا عليكم، وإن رددتم فطر جميع الناس بطلت عقلياتنا، فيبطل دليلنا ودليلكم العقلي؛ لأنهما تعارضا فتساقطا، وحينئذ نرجع إلى النصوص الشرعية، فالعقل مشترك بيننا وبينكم, ونحن متمسكون بالأدلة السمعية هنا. أما قولكم: إن أكثر العقلاء ينكرون بداهة هذا الدليل فهذا القول باطل، فليس أكثر العقلاء هم الذين ينكرون هذا؛ بل الذي يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه طائفة قليلة من النظار، وأول من قال بذلك الجهم بن صفوان. الدليل العقلي الثاني: دليل عقلي بطريقة الملازمة والاستثنائية، قال أهل الحق: لو لم يكن الرب متصفاً بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مختلط بالعالم لكان متصفاً بضدها، وهو السفول؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، والسفول مذموم على الإطلاق، وهو مستقر إبليس وجنده، فدل على أنه قابل للفوقية. واعترض هؤلاء النفاة فقالوا: لا نسلم أن الله قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، بل نقول: إن الله ليس قابلاً للفوقية حتى تلزمونا بأنه إذا لم يكن فوق كان أسفل. وقد أجاب أهل الحق على هذا بجوابين: الجواب الأول: أنه لو لم يكن قابلاً للفوقية مع أنه قائم بنفسه وموجود، ووجوده خارجي؛ لكان قابلاً لضدها، فلو لم يكن قابلاً للفوقية لم يكن له ذات قائمة بنفسها، فكل موجود في الخارج لا بد من أن يكون قابلاً للفوقية أو للسفول، فمتى أقررتم بأن لله ذاتاً وأنه قائم بنفسه وأنه موجود في الخارج وليس وجوده ذهنياً لزمكم قبول الفوقية. الجواب الثاني: لو لم يكن قابلاً للفوقية لكان كل عال على غيره أكمل منه، فإن من يقبل العلو والفوقية أكمل مما لا يقبل، والفوقية صفة كمال لا تستلزم نقصاً ولا توجب محذوراً ولا تخالف كتاباً ولا سنة ولا عقلاً، فنفيها يكون عين الباطل.

دليل الفطرة الدال على علو الله تعالى

دليل الفطرة الدال على علو الله تعالى استدل أهل الحق على أن الله فوق العرش بالفطرة السليمة، فقالوا: إن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء إلى السماء، ويتوجهون عند التضرع إلى الله تعالى، وهذا شيء يجدونه في نفوسهم من غير أن يتلقوه من المرسلين، بل يجدون طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو، فالجارية الأعجمية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله عليها، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وشهد لها بالإيمان. ولما كان أبو المعالي الجويني -وهو معروف ومن الأشاعرة- يقرر في درس له أن الله ليس فوق العرش وليس فوق السماوات، وجعل يأتي بالشبه التي فيها أن الله ليس فوق العرش، بل هو في كل مكان، قام أحد التلاميذ وقال: يا أستاذ! دعنا من هذا الكلام، أخبرنا عن هذه الضرورة التي يجدها الإنسان في نفسه، ما قال قائل قط: يا ألله إلا اتجه إلى العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ فلطم الشيخ نفسه وجعل يقول: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني. فتحير ولم يستطع أن يرد عليه، وهذا هو الدليل الفطري.

اعتراض النفاة على دليل الفطرة والرد عليهم

اعتراض النفاة على دليل الفطرة والرد عليهم وقد اعترض النفاة على الدليل الفطري باعتراضين: الاعتراض الأول: قالوا: إن رفع اليدين عند الدعاء إلى السماء ليس لأن الله في السماء؛ بل لأن السماء قبلة للدعاء كما أن الكعبة قبلة للصلاة. وبعضهم يقول: إن الإنسان يرفع يديه في الدعاء لأن المطر ينزل من فوق، ولأن الأنوار تأتي من فوق، ولأن الملائكة تنزل من فوق. وأجاب أهل الحق على هذا القول بأجوبة: الجواب الأول: أن ادعاءكم أن السماء قبلة للدعاء ادعاء باطل لم يرد به كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وعلمائها، وهذا من الأمور الشرعية، فكيف يخفى على سلف الأمة وأئمتها؟! الجواب الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن ادعى أن السماء قبلة للدعاء أو أن هناك قبلتين: قبلة للدعاء، وقبلة للصلاة، فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. الجواب الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العبد بوجه لا ما يستقبله بيديه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة ويتوجه إلى القبلة في مواقف كثيرة، في الدعاء وفي الذكر وفي الذبح، فقبلة الدعاء هي قبلة الصلاة. رابعاً: لو كانت السماء قبلة للدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع. الجواب الخامس: أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأمر الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر لا يقبل النسخ ولا التحويل. سادساً: أن المستقبل إلى الكعبة يعلم أن الله ليس هناك، بخلاف المتوجه إلى السماء، فإنه يعلم أن الله هناك، فهو يرجوه ويتضرع إليه ويرجو أن تنزل الرحمة من عنده. وبهذا يبطل الاعتراض الأول. الاعتراض الثاني: اعترضوا على الدليل الفطري فقالوا: إن دليلكم منقوض بوضع المصلي جبهته على الأرض، والله ليس في جهة الأرض، فهل معنى ذلك أن الله في الأرض؟! فكذلك إذا رفع يديه في الدعاء فلا يدل ذلك على أن الله في السماء. وأجيب على هذا الاعتراض بأن وضع المصلي جبهته على الأرض إنما قصده الخضوع لمن فوقه، والذل والخشوع له، وليس قصده بأن يميل إليه لأنه تحته، فهذا لا يخطر في قلب إنسان إلا من انتكست فطرته وعميت بصيرته، كـ بشر المريسي، فقد سُمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل، قبحه الله وأخزاه.

شبه نفاة العلو والرد عليهم

شبه نفاة العلو والرد عليهم

استلزام إثبات العلو للجهة

استلزام إثبات العلو للجهة إن نفاة العلو الذين نفوا أن الله فوق العرش وفوق السماوات ليس لهم أدلة من الكتاب ولا من السنة، وإنما لهم شبه عقلية، وبيانها على النحو الآتي: الشبهة الأولى: أنه يلزم من إثبات أن الله فوق العرش وفوق السماوات أن يكون الله في جهة، ويلزم أن يكون محتاجاً إلى الجهة، ويلزم أن يكون جسماً، ويلزم أن يكون محدوداً ومتحيزاً. وأجاب أهل الحق عن هذه الشبهة بجوابين: جواب مجمل وجواب مفصل. الجواب المجمل أن نقول: إن أردتم بالجهة الجهة الوجودية التي هي خلق من المخلوقات، بمعنى أنها تحويه وتحصره وتحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا باطل، فالله أعلى من ذلك وأجل؛ لأنه سبحانه لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات، وإن أردتم بالجهة ما وراء العالم فالله فوق العالم بعد أن تنتهي المخلوقات، هذا هو الجواب المجمل. والجواب التفصيلي من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: قولكم: إنه يلزم من إثبات العلو الجهة إن أردتم بالجهة جهة وجودية كالعرش وأن الله داخل السماء فهذا باطل، فليس الله داخل العرش ولا داخل السماء، بل هو بائن من خلقه لم يدخل في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، فهو سبحانه وتعالى بائن من خلقه منفصل عنهم. الثاني: إن أردتم بالجهة السماء وأن المراد بكونه في السماء، أي: على السماء؛ فهذا حق، وحينئذ لا يكون هناك جهة وجودية حتى يقال: إنه محتاج إليها أو غير محتاج إليها. الثالث: إن أردتم بالجهة ما فوق العالم، فهذه جهة عدمية، وما وراء العالم نهاية المخلوقات، فالمخلوقات سقفها عرش الرحمن، والله فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات، وليس فوق العرش جهات وجودية. الرابع: أنه لا يلزم من كون الله فوق العرش أن يكون محتاجاً إلى العرش، أو إلى شيء غيره، ولا يلزم من كون الشيء فوق الشيء أن يكون محتاجاً إليه، فالله تعالى جعل هذه المخلوقات بعضها فوق بعض ولم يجعل العالي محتاجاً إلى السافل، فالهواء فوق الأرض وليس الهواء محتاجاً إلى الأرض، والسحاب فوق الهواء وفوق الأرض وليس محتاجاً إلى الهواء ولا إلى الأرض، والسماء فوق السحاب وفوق الهواء وفوق الأرض وليست السماء محتاجة إليها، والسماء الثانية فوق السماء الأولى وليست محتاجة إليها، إلى السماء السابعة، والكرسي فوقها وليس محتاجاً إليها، والعرش فوق الكرسي والسماوات وليس محتاجاً إلى الكرسي ولا إلى السماوات، فإذا كانت المخلوقات بعضها فوق بعض ولا يكون العالي محتاجاً إلى السافل، فكيف يقال: إن الله إذا كان فوق العرش يكون محتاجاً إلى العرش؟! تعالى الله عن هذا، فالله فوق العرش ولا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته. فهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]. الخامس: قولكم: إنكم تثبتون الجهة والحيز والحد والعرض والجسم، نقول: كل هذه ألفاظ اصطلاحية فيها إجمال وإيهام وإبهام، فالمعارضة بها ليست معارضة بدلالة شرعية؛ لأن هذه الألفاظ لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ولا قالها أحد من السلف، فلا يجوز إثباتها ولا نفيها. وقد وقف علماء الإسلام من أهل الكلام موقفاً واضحاً، وأنكروا عليهم إطلاق هذه الألفاظ وبدعوهم، وقال فيهم الإمام الشافعي رحمة الله عليه: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وصح عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة رحمه الله أنه قال: من لم يؤمن بأن الله فوق سماواته على عرشه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وطرح على مزبلة. أي: قمامة. وفي لفظ: حتى لا يتأذى به أهل السنة ولا أهل الذمة. فهذا يدل على أنه ارتد، وكفره أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى كفرهم أخف، لذلك يجوز بقاؤهم مع دفع الجزية، وتحل نساؤهم وذبائحهم، أما هذا فهو وثني مرتد لا تحل ذبيحته، فليس له إلا الإسلام أو السيف، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.

شبهة استلزام إثبات العلو لكون الله في السماء وخلقه نفسه

شبهة استلزام إثبات العلو لكون الله في السماء وخلقه نفسه الشبهة الثانية من شبه نفاة العلو شبهة وردت على لسان الرازي، وهو من علماء الأشاعرة المتأخرين، لكنه اعتنق مذهب الجهمية وصار من النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، وقد وقرر هذا في كثير من كتبه، مثل كتاب (مفاتيح الغيب) وكتاب (السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم)، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر أنه تاب في آخر حياته وترحم عليه. وهذه الشبهة مكونة من مقدمتين ونتيجة، والقاعدة عند أهل الكلام وأهل المنطق أنه إذا كان الدليل مكوناً من مقدمتين أن تأتي بالمقدمة الأولى ثم تسلمها، ثم تأتي بالمقدمة الثانية ثم تسلمها، فإذا سلمت للمقدمة الأولى وسلمت للمقدمة الثانية لزمتك النتيجة. لكن الطريقة السليمة أن تعارض المقدمة الأولى أو تعارض المقدمة الثانية أو تعارض المقدمتين حتى ينقض الدليل. يقول الرازي في هذه الشبهة التي يبطل بها أن الله فوق السماوات وفوق العرش: لو كان الله في جهة فوق لكان السماء، هذه المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية: ولو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، فكونه في جهة فوق محال، وكونه مخلوقاً لنفسه محال. ففي المقدمة الأولى: لو كان الله في جهة فوق لكان السماء قال: عندي دليلان يثبتانها: الدليل الأول من اللغة، وهو أن اشتقاق السماء من السمو، وكل شيء سماك فهو سماء، وهو كذلك في عرف القرآن، فهذا الدليل الأول الذي أثبت به هذه المقدمة. والدليل الثاني عقلي: قال: لو كان الله فوق العرش لكان من جلس في العرش ونظر إلى فوق لم ير إلا نهاية السطح الأخير من ذات الله، فكانت نسبة نهاية السطح الأخير من ذات الله إلى سكان العرش كنسبة السطح الأخير من السماوات إلى سكان الأرض، فثبت من ذلك أنه لو كان فوق لكان سماءً. المقدمة الثانية: ولو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، قال: الدليل على ذلك أن السماء مخلوقة بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54]، فالسماء مخلوقة، فلو كان السماء لكان مخلوقاً لنفسه، وكونه مخلوقاً لنفسه محال، فثبت أن كونه فوق العرش محال. ويرد على هذه الشبهة بأنه لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين في عهد النبوة أن الله هو العلي الأعلى؛ كان هذا هو المفهوم من النصوص، كقوله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فالمفهوم أن الله في العلو من غير تخصيصه بالأجسام وحلوله فيها، فالجارية التي قال لها النبي: (أين الله؟ قالت: في السماء) مرادها أن الله في العلو من غير تخصيصه بالأجسام وحلوله فيها، ولو قدر أن المراد بالسماء الأفلاك تكون (في) بمعنى على، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، أي: على السماء، وكقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: على جذوع النخل، وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، أي: على الأرض، ويقال: فلان في السطح وإن كان على السطح. الجواب الثاني: أن من فهم من قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أن السماء تحيط بالله وأن الله داخل السماء فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد من أهل العلم. ولو سئل سائر المسلمين عن قول الله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء) فهل سيفهمون من قوله: (في السماء) أن الله داخل السماء؟! بل لبادر كل واحد منهم قائلاً: لعل هذا لا يخطر ببال واحد منا، وإذا كان كذلك فمن التعسف والتمحل أن يحمّل النص معنى فاسداً لا يحتمله، ثم يريد أن ينفي النص ويبطله. الجواب الثالث: أن الأصل في ما ورد في النصوص من قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء)، الأصل أن المراد بالسماء العلو، وهذا هو المعروف في اللغة، وتكون (في) للظرفية، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، أي: من في العلو. فالسماء اسم جنس للعالي، فهو اسم للعرش، والعرش يسمى سماء؛ لأنه علو، فالعرش وما دونه كله علو، ولكن قد يفهم بعض الناس أن المراد بالسماء الطباق المبنية، وحينئذٍ فلابد من قرينة، وإذا أريد بها الطباق المبنية فتكون (في) بمعنى على، كقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، أي: من على السماء، وكقوله {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، أي: على الأرض، وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2]، أي: على الأرض، وقوله عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: على جذوع النخل، فليس المعنى أنه يدخلهم في وسط الجذوع، بل المراد على جذوع النخل. ولكن لا حاجة إلى هذا؛ لأن السماء اسم جنس للعالي والعرش فما دونه، والله تعالى له أعلى العلو وهو فوق العرش، وهو العلي الأعلى سبحانه وتعالى. وبهذا ينتهي البحث في هذه المسألة العظيمة، وهي مسألة العلو، وهي محل نزاع ومفترق طرق، فمن أثبت العلو لله فهو من أهل السنة، ومن نفاه فهو من أهل البدعة ومن أهل التجهم، وهناك بدع أخرى في صفات أخرى. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العمل الصالح الذي يرضيه، ووفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح، وجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الثبات على دينه والاستقامة عليه حتى الممات، إنه على كل شيء قدير.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكفير منكري علو الله على عرشه

حكم تكفير منكري علو الله على عرشه Q هل يكفر من أنكر صفة العلو كالجهمية وغيرهم؟ A هذه مسألة مختلف فيها، فمن العلماء من كفرهم بإطلاق، وقال بكفر كل من أنكر العلو، ومنهم من قال: لا يكفرون بإطلاق، ومنهم من قال: العامي المقلد لا يكفر وإنما يكفر علماؤهم وخاصتهم، ولعل هذا هو الأقرب، ولكن لا بد من أن تقوم عليه الحجة، وقد ذكر العلامة ابن القيم كما سبق أنه كفر الجهمية من العلماء خمسمائة عالم، فقال في نونيته: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل حكاه قبله الطبراني وعلى كل حال فالجاهل الذي لا يعلم لا بد من إقامة الحجة عليه، بخلاف الخاصة الذين عندهم علم ومعرفة وقامت عليهم الحجة.

أهمية معرفة حقيقية التوحيد

أهمية معرفة حقيقية التوحيد Q نرجو إلقاء الضوء على أهمية التوحيد، ووجوب العناية به تعلماً وعملاً وتعليماً؛ لما لهذا الأمر من أهمية عظيمة؟ A لا شك في أن معرفة حقيقة التوحيد أمر مهم؛ لأنه أمر عظيم، ولأنه الأمر الذي خلق الله من أجله الخلق، وبعث من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وهو الذي يترتب عليه السعادة والشقاوة، فجدير بالمسلم وطالب العلم خاصة أن يعلم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزله به كتبه، وأن يدرس كتب العلماء المحققين، وأن يدرس على أيدي علماء الشريعة ويسأل عما أشكل عليه، ويبحث حتى يتبين له الحق، ويفرق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ويعلم أن توحيد الربوبية والأسماء والصفات توحيد فطري، قد فطر الله عليه الخلق وأقر به المشركون، ولكن النزاع في توحيد العبادة أو الإلهية، لا سيما أن هناك بعض المخرفين من المحاضرين والأساتذة وغيرهم يسبون أهل التوحيد، ويسمونهم أهل التلحيد. فعلى طالب العلم أن يكون على علم وإلمام بهؤلاء، فليس كل من تكلم أو استطاع أن يتكلم وأن يحاضر طالب علم عنده تحقيق، بل قد يكون مخرفاً، ولهذا حذر الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من علماء المشركين، وقال: إن علماء المشركين عندهم علوم وفهوم وشبه، لكن على باطل، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83]، فعندهم علم لكنه مزيف، وهناك كثير من المخرفين من المحاضرين والدكاترة، وكثير من المؤلفين في الساحة يقررون الشرك ويقولون: إن دعاء الموتى والذبح لهم والنذر لهم ليس شركاً. فهم يقررون مذهب الصوفية. إذاً: فلا بد لطالب العلم من أن يكون على حذر، ولا بد من أن يدرس العلم الشرعي من معادنه ومنابعه الصافية، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدرس على أهل العلم المعتبرين من أهل السنة والجماعة، أهل الحق الذين يوثق بهم؛ لأن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. فاختر أهل العلم العارفين بالله الواقفين عند كتاب الله وسنة رسوله، الذين يأخذون بكتاب الله وسنة رسوله وبأقوال سلف الأمة وأئمتهم من الصحابة والتابعين؛ لأنهم أفضل الناس وأعلم الناس بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذي قرره السلف من الصحابة والتابعين والعلماء والأئمة من كتاب الله وسنة رسوله هو الحق، وإياك وبنيات الطريق، وإياك أن تنحرف، فما أكثر المنحرفين! وما أكثر دعاة الضلال! وما أكثر المخرفين من المؤلفين والمحاضرين والدكاترة والمدرسين في الجامعات والأندية وفي الندوات، وفي الأمكنة العامة وفي كل مكان! فكن على حذر، وخذ دينك عمن تثق به، وادرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخذ العقيدة الصحيحة الصافية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم إنما يؤخذ من أفواه العلماء، فلا يكفي طالب العلم أن يطلب العلم من الكتب؛ لأنه لم يكن هناك طالب علم أو عالم ناشئ من الكتب أبداً، والعلماء والأئمة لهم مشايخ كانوا يأخذون العلم عنهم. وجلسة واحدة تجلسها مع شيخ تعدل ساعات طويلة وأياماً طويلة تقرؤها بنفسك من الكتب، وهذا شيء مجرب ومعروف، والدروس في المساجد فيها خير وبركة، فالإنسان إذا قصد المسجد وأخلص نيته لله فهو على خير عظيم، والملائكة تحفه وتدعو له، وهو في روضة من رياض الجنة، وكذلك الدروس في الجامعات والكليات فيها خير وبركة إذا أخلص الإنسان فيها نيته.

الموقف من رؤية الله تعالى يوم القيامة

الموقف من رؤية الله تعالى يوم القيامة Q نرجو توضيح مسألة الرؤية، وما يدور حولها من نزاع؟ A مسألة الرؤية من المسائل العظيمة التي اشتد النزاع فيها، وكذلك مسألة الاستواء، وكذلك مسألة المعية والقرب، فكلها تحتاج إلى وقت طويل، وتحتاج إلى دروس حتى يبين الحق فيها ويبين مواقف أهل البدع. والخلاصة أن أهل الحق يثبتون رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، وأن الله يرى في الآخرة، وأما أهل البدع من المعتزلة والجهمية فيقولون: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم يقولون: إن إثبات الرؤية يلزم منه الجهة؛ لأن المرئي يكون في جهة، والله ليس في جهة، وهم ينكرون العلو كما سبق، أما الأشاعرة فإنهم يثبتون الرؤية وينكرون الجهة، فصاروا مذبذبين، فيقولون: إن الله يرى، لكن ليس في جهة، وهذا غير معقول وغير متصور، ولذلك تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: يجب عليكم أن تثبتوا الجهة حتى تكونوا أعداء لنا، أو تنكروا الجهة حتى تكونوا أصدقاء لنا في الجميع، أما أن تكونوا هكذا مذبذبين وتقولون: رؤية بدون جهة فهذا غير معقول وغير متصور. فالمقصود أن إثبات الرؤية من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدعة، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن أنكرها فهو من أهل البدعة.

كتب العقيدة

كتب العقيدة Q نرجو منكم ذكر بعض المراجع التي تبين مذهب أهل السنة في الاعتقاد وتبين مذاهب أهل البدع وترد عليها؟ A المراجع موجودة كثيرة، فكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكتب العلامة ابن القيم من أشهر الكتب في ذلك، كمجموع الفتاوى في الأجزاء الأولى، وكذلك رسالة (العقيدة الواسطية)، فهي رسالة عظيمة ومختصرة، أوصي بقراءتها ودراستها، ثم (الحموية)، ثم (التدمرية)، وكذلك (الطحاوية) وشرحها، وكذلك ما كتبه العلماء قديماً، مثل كتاب (التوحيد) لـ ابن خزيمة، وكذلك كتب الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مثل (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، وكتاب (كشف الشبهات)، والرسائل المتعددة، ورسائل أئمة الدعوة، والدروس السنية، وشرح كتاب التوحيد المسمى بـ (تيسير العزيز الحميد) و (فتح المجيد)، وهما كتابان عظيمان، وهناك كتب كثيرة من طلبها وجدها.

وجه شبهة المنكرين لأسماء الله وصفاته

وجه شبهة المنكرين لأسماء الله وصفاته Q هل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة يعترفون بأسمائهم هم؟ وإذا كانوا يعترفون بذلك فكيف يعترفون بأسمائهم ولا يعترفون بأسماء الله وصفاته؟ A نعم يعترفون بأسمائهم، وهذا معروف، وهم يناقشون بهذا، لكن لهم شبهة، فهم يقولون: إن الله ليس كمثله شيء، وإثبات الصفات والأسماء يلزم منه التشبيه، فإذا كان المخلوق له أسماء وصفات والخالق له أسماء وصفات شابه الخالق المخلوق، والله ليس كمثله شيء. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1