دروس الهجرة - عطية سالم

عطية سالم

الهجرة النبوية [1]

الهجرة النبوية [1]

مقدمة في فضل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة

مقدمة في فضل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وبعد: فإن أنسب ما يتناوله المتحدث ويناوله الناس في هذه الآونة، بل وفي هذا الوقت، مواضيع تتعلق بأحداث الساعة، وقد تحدثت بها الإذاعات والصحف ومجالس الناس، وأحاديث عن حدث الهجرة، وما فيها من مواعظ ودروس وعبر، وحيث أن الكل له أهميته، ويرغب البعض الآن أن يكون الحديث عن الهجرة النبوية، فتحقيقاً لهذه الرغبة نقدم ما يسر الله في أمر الهجرة.

أهمية الحديث عن الهجرة النبوية

أهمية الحديث عن الهجرة النبوية لنعلم جميعاً أن الحديث عن الهجرة والحديث عن أي حدث من أحداث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو جزء من سيرته العطرة، والسيرة النبوية بصفة عامة تعتبر التطبيق العملي لتعاليم الإسلام بكاملها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطبق والمنفذ لما أوحي إليه من ربه، والله سبحانه جعله صلى الله عليه وسلم أسوة للأمة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه من البشر، وتجري عليه أحكام البشر، ويطبق عملياً ما يمكن للبشر أن يطبق. والهجرة عند الدارس المتأمل تعتبر همزة الوصل التي تصل بين شقي الزمن: شق الماضي وشق المستقبل، والماضي نوعان: ماض بعيد في عهد النبوات والمرسلين، وماض قريب ابتداءً من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت الهجرة نقلة انتقلت الدعوة من مهدها الأول بعد ثلاث عشرة سنة، وجاءت إلى المدينة لعشر سنوات فقط وبها تمت الرسالة. أما ما قبل البعثة فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله نظر إلى العالم فمقتهم؛ لما كانوا عليه من عبادة الأصنام ومن جاهلية جهلاء، وصفها جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه عند النجاشي رضي الله تعالى عنه حينما خرج مهاجرون من المسلمين إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة وذلك بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما تأتي الإشارة إليه، فأرسلت قريش -لتنتقم من المسلمين- أرسلت إلى النجاشي تستعيد وتسترد أولئك المهاجرين الأولين، وقالوا: إن طلبتنا وثأرنا بالحبشة. ويهمنا في كلمات جعفر عند النجاشي: كنا في جاهلية جهلاء: يأكل قوينا ضعيفنا، نأتي المحرمات، نقطع الأرحام، نغدر بالعهود -أشياء كثيرة ذكرها في جاهليتهم- فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ونسبه وولادته، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، ونهانا عن الكذب، وأمرنا بصلة الأرحام، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن كل منكر وعدد محاسن الأخلاق.

إرادة الله الخير للناس ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم

إرادة الله الخير للناس ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت الحياة في مكة على ما وصف جعفر، ولما أراد الله سبحانه وتعالى الخير لبني آدم أو للإنسانية جمعاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وبعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم تاريخها طويل، وذلك أن الله سبحانه بعلمه وقدرته وإرادته ورحمته رسم ذلك من قبل أن يوجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وقبل أن توجد هذه الأمة، وأخذ العهد على جميع الأنبياء أنه إذا جاءهم ليؤمنن به ولينصرنه، وجاء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأعلن البشارة بمجيئه صلوات الله وسلامه عليه لقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] فسماه باسمه. بل إن المولى سبحانه يسجل لرسول الله حق الرسالة، ويسجل لأصحابه الذين معه صفاتهم ومثلهم في الأمم الماضية قبل مجيئهم، وذلك في أواخر سورة الفتح في أمر الحديبية من أول السياق: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي} [الفتح:27 - 28] (هو) ضمير الشأن راجع إلى المولى سبحانه: {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] و (الدين) اسم جنس أي: على الأديان كلها: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]. لاحظوا يا إخوان هذا السياق: جاء في سورة الصف: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وفي سورة الفتح: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] وفي سورة التوبة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وتذييل القرآن الكريم على السياق الواحد بتذييلين متغايرين يدل على مغايرة الموقف؛ لأن الموقف في سورة الفتح تكريم لرسول الله ولأصحابه معه؛ لأنه بعد السياق: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] أي: على هذا الوعد: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [الفتح:27 - 28] يعني: هو الذي يتولى أمره، ولم يكله إليكم، أي: ما دام هو الذي أرسله سيتولى تمديد وإبلاغ تلك الرسالة بتأييد من عنده. وكفى بالله شهيداً على إتمام ذلك وإنفاذه، ثم تأتي شهادة من عند الله بالجملة الاسمية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] وهذا ردٌ على ما جاء به سهيل بن عمرو حين جاء يفاوض وكتبوا الاتفاقية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي: هذا ما صالح أو عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا تكتب! لو كنت أعلم أنك رسول الله ما صددتك عن البيت، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، اكتب اسمك واسم أبيك، فكأن المولى تعالى يقول: إذا هم لم يشهدوا أنك رسول الله، فإن الله يشهد أنك: (محمد رسول الله) ولو أبى أولئك الناس.

صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في القرآن

صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في القرآن إن الله ذكره باسمه فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] فالرسالة اصطفاء واختيار، والله قد اصطفاه من قبل أن يولد ويولد آباؤه، وبشر به عيسى بني إسرائيل من قبل، ولكن الذين معه أفراد في الأمة، ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكن القرآن يأتي بذكرهم في معرض التكريم، وبيان عظيم الشأن ورفعة المكانة: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]. (محمد رسول الله) إخبار من الله بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يتناول من معه، بعض العلماء يقول: تلك المعية (معه) أي: في الحديبية، أو معه في عصره من عموم الصحابة، أو معه على الإسلام أي: أن المعية هنا إما عامة أو خاصة أو أخص. عامة: في كل مسلم مع رسول الله على الإسلام، خاصة: في الصحابة الذين في عصره، أخص من ذلك كله: الذين شهدوا الحديبية؛ وكل ذلك محتمل. يهمنا (والذين معه) ما شأنهم؟ هذه الطبقة التي اختارها الله لتكون مع رسوله، كما جاء في بعض الآثار في كنز العمال أو في غيره: إن الله اصطفى رسوله واصطفى معه أصحابه. {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] الشدة والرحمة متغايران ومتنافيان، فحيثما وجدت الشدة فلا رحمة، وحيثما وجدت الرحمة فلا شدة، ولكن يقول علماء البحث والمناظرة: إذا اختلفت الجهة -انفكت الجهة- وتغاير المتعلق فلا مانع، والشدة والرحمة ليستا متوجهتين على متعلق واحد، وإنما على متعلقين متغايرين (أشداء) على الكفار، (رحماء) على المؤمنين، (رحماء بينهم). إذاً: هم لهم جانبان، والجانبان لهما متعلقان: جانبٌ خارجي: علاقتهم بالكفار الشدة: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]. وجانب داخلي: علاقته فيما بينهم رحماء، وفي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) فيجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الوصفين بهذين الاعتبارين المتغايرين، ولذا قال في الموطن الثاني: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، فهم على الكافرين أعزة بقوة لا يلينون معهم، ولا يخضعون إليهم، ولكن فيما بينهم أذلة، وليس معنى الذل الهوان! بل كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] لأن الرحمة والرأفة تعتبر مدحاً في حق الشخص، وبعض الناس ربما يعتبر لين بعض الأشخاص ضعفاً؛ لأن الرحمة إذا كانت عن قوة تكون مدحاً، أما إذا كانت عن خوف ربما لو تنازل عن حقه يكون غصباً عنه. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] كأنه يتلطف مع المؤمن ويعامله في صورة المتذلل له، وذلك مبالغة في إكرامه والتلطف به، ثم يصفهم بوصفهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] ما قال: راكعين ساجدين، باسم الفاعل، قال: (رُكّعاً) (سُجّداً) على وزن (فُعّلْ) وهي من صيغ المبالغة، كأنه يصفهم بإقام الصلاة المفروضة وزيادة، يصلون النوافل مع الفرائض: {رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29]. وبين حقيقة مقصدهم وشهد الله لهم بأنهم صادقون في ركوعهم وسجودهم: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] وينبه العلماء هنا في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] على أنه ما قال: يبتغون أجراً من الله؛ لأن الذي يبتغي الأجر يعتد ويحتسب بعمله، يقول: أنا عملت لك عملاً فأعطني أجرة؛ لكن عندما يأتي ويقول: أعطني من فضلك، هل يعتد لنفسه عندك بعمل أم يعتبرك متفضلاً عليه بما تعطيه؟! إنما يطلبك من واسع فضلك وإحسانك، وهكذا المؤمن يقدم الطاعة والعبادة لله، ويبتغي فضل الله لا يحتسب بعمل يعده على الله يطالبه بمقتضاه، فانظر الدقة واللطافة في أسلوب القرآن الكريم! {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29] يعني: يعملون لمرضات الله، وإن كان كل إنسان يرغب في الأجر، ولكن فرق بين أن تقول: أعطني أجري وقد ركعت وسجدت، وبين أن تقول: أنا أديت الواجب الذي فرضته عليّ وأنا أسألك من فضلك. وهناك شفافية! وإعجاز في كتاب الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] السيماء: العلامة، والسيماء من الوسم، والوسم عند العرب: هو الوسم الذي يميز إبل القبيلة عن إبل قبيلة أخرى، وكذلك الاسم للإنسان وللبلد وللكتاب ولغيره علامة تميزه عن غيره، (علي ومحمد وحسن وحسين) هذه أسماء تميز هذا عن هذا، وإلا فالكل إنسان بعينين وفم سواء، فالأسماء هي التي تميز الأشخاص، والكل من السمو والارتفاع، بل اسمك شيء سما وعلا، أي: علا صاحبه، مثلما تأتي بلوحة وتعلقها على المحل، فإنها تميز هذا المحل عن ذاك المحل، وأنت علقتها فوق ما رميتها في الأرض. سيماهم يعني: علاماتهم، وهل المراد: بالسيماء في وجوههم كما يظن بعض الجهلة أنه كلحة أو شيء في الجبين مثل الكلع، كما يقولون: تكلع البعير؟ لا، إنما هي بشاشة، ونور، وحلاوة، وارتياح، كما قال بعض العلماء: الولي لله من إذا رأيته ذكرك بالله، لأنك: تجد على وجهه سماحة وارتياحاً، وكما جاء: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)، فالسيما إنما هي سماحةٌ وطلاقة ونور في الوجه يعلوه لما كان منهم من كثرة الركوع والسجود. {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] التوراة أنزلت على نبي الله موسى، وهو نبي بني إسرائيل، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه مثلهم في التوراة ينزل وحياً على موسى فيكتبه الله في الألواح، ويقرؤه بنو إسرائيل؛ بأن أصحاب محمد الذين سيكونون معه هذه صفاتهم، فأي منزلة أعلى من هذه؟! ثم يأتي مثل آخر: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] والإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام، وعيسى من أنبياء بني إسرائيل. قال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] وهذه صورة عجيبة جداً! فالحبة تدفن، ثم يطلع العود الأول، ثم يرتفع من الأرض قليلاً، وقبل أن ينضج تخرج منه عيدان صغار، هذه الأعواد الصغار تلتف حول العود الأصلي، فيؤازر بعضها بعضاً، ويلتف هذا الزرع بعضه ببعض حتى يستوي على سوقه، ومع التفافه يكون في نظارته وحسنه وروائه ونمائه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:29] لأن الزراع هم الذين يعرفون حسن الزرع وجماله ونجاحه، ثم يبين: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] أي: في التفافهم وتآزرهم وتعاونهم وترابطهم. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] وهذا تفضل من الله.

الفرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنصارى

الفرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنصارى من إعجاز القرآن في أسلوبه وسياقه لا في ألفاظه أن ذكر مثلين لأصحاب رسول الله: الأول: (ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا). والثاني: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى). فقوله: {رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29]، جعل مثلاً لأصحاب موسى الذين هم اليهود، والثاني لأصحاب عيسى الذين هم النصارى، وكلا المثالين ثابتان لأصحاب رسول الله، ولو أخذنا المثالين ونظرناهما في التوراة والإنجيل لم يختلف وصف أصحاب محمد، فالوصفان ثابتان، ولكن هذا التوزيع المدرج شيء مقصود متلائم مع سياقه. ولهذا يجب علينا أن نتوجه إلى الله العلي القدير أن يشرح صدورنا لفهم كتاب الله، إذا نظرنا إلى المثل الأول نستطيع أن نجعل له عنواناً: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] عبّاداً راكعين ساجدين يبتغون فضلاً من الله، كأنهم زهاد في الدنيا. وإذا جئت للمثل الثاني فإذا هو: زرع وماء ورواء وشدّ! وكأنها عملية استثمار وإنماء، وعملية إعمار للأرض، فكأنهم مشغولون بالدنيا. وكلا المثالين لأصحاب رسول الله في كمال المدح؛ لأنهم جمعوا بين أمر الدنيا والدين معاً، في الدنيا زرع ونماء، وفي الدين ركّع سجّد، بخلاف اليهود والنصارى، فاليهود كان موقفهم من أمور العبادات ما قص الله في قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] فاستحلوا ما حرم الله بالحيل، وكانت تغلب عليهم الماديات، حرم الله عليهم العمل يوم السبت، وامتحنهم في الحيتان: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] فألقوا الشباك يوم الجمعة وذهبوا، وجاءت الحيتان يوم السبت شُرّعاً ووجدت الشباك فأمسكتها، وتركوها في الشباك ثم يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك، فهل عملوا يوم السبت شيئاً؟ قالوا: ما عملنا شيئاً، احتالوا على ما حرم الله، فكانت الماديات غالبة عليهم. فعندما يأتيهم مثل أصحاب محمد (ركعاً سجدا) وأنه يكون هذا المثال في الأمة التي ستأتي بعدهم، ويأتي ذكرها على سبيل المدح، فإنه يكبح جماحهم في الماديات، ويأتيهم بالمثل المثالي الذي ينبغي أن يرجعوا إليه، وأن يؤدوا حق الله في العبادة تأسياً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين سيأتون فيما بعد. والنصارى أصحاب عيسى كانت طبيعتهم الروحانيات، قال تعالى {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] كان الغالب على النصارى القبوع في الأديرة وعدم التعرض للدنيا، وحتى كانوا يقولون: (إذا ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن!). فتركوا الدنيا ورضوا بالذلة؛ ولذا غلب عليهم اليهود، فهؤلاء يأتيهم مثل لا ليزيدهم في الرهبانية (ركعاً سجداً)، بل ويأتيهم المثل الذي يقول لهم: اخرجوا وانتشروا وامشوا في الأرض، وذللوها واستخرجوا ثمارها وازرعوا. إذاً: المثل الذي ضربه الله لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم للنصارى يتناسب معهم ليرشدهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه، وكلا المثالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعهما كان لهم الكمال؛ لأن اليهود غلبت عليهم المادية، أي: أن الإنسان من روح وجسد، والروح تتطلب إلى غذائها، وغذاء الروح العبادات، والجسم غذاؤه النباتات، فهذا الجسم هو من الطين ويرجع إليه، والروح من أمر الله، أمرها علوي إلهي رباني، فهي تسمو وتصعد إلى الله. فاليهود غلبوا جانب الجسم وأشبعوه بالمادة وخنقوا الروح، والنصارى أمعنوا في جانب الروح وأضعفوا الجسم، والجسم هو وعاء الروح التي تسكنه، وإذا كنت تسكن بيتاً قويا فسيحاً فإنك تنشرح وتنشط، وإذا كنت تسكن في عشة أو في بيت متهاوٍ فتكسل وتضيق، فجاء الإسلام وجمع بين الحسنيين، فأعطى الجسم حقه دون إفراط ولا تفريط، وأعطى الروح حقها دون إفراط ولا تفريط. ولذا جمع سبحانه بين الأمرين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:9 - 10] أي: أنهيتم مهمة العبادة وإجابة الداعي وسعيتم إلى ذكر الله، وقضيتم هذا الواجب الحق عليكم لله {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}، لا تمكثوا في أماكنكم، {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الجمعة:10] ابتغوا من فضل الله بعمل الدنيا من بيع وزراعة وصناعة واذكروا الله، أي: اجمعوا بين الأمرين، ولا تلتهوا بالدنيا، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] وهم من هذه الأمة الإسلامية.

صور من مواقف البطولة لدى الصحابة رضوان الله عليهم

صور من مواقف البطولة لدى الصحابة رضوان الله عليهم هيأ الله سبحانه وتعالى للمصطفى صلى الله عليه وسلم خير رفقة كما قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] إلى آخر السياق.

موقف خديجة رضي الله عنها

موقف خديجة رضي الله عنها فلما بعث صلى الله عليه وسلم، وأتى إلى خديجة، وذكر لها ما رأى في غار حراء، ويقول وهو ترتعد فرائصه: زملوني! دثروني! قالت: قم معي، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة، قالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، والعرب تقول لابن العم أو للمقارن أخ. فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني أكون جذعاً فأنصرك حينما يخرجك قومك! قال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي. وكم من الأنبياء قتل، في سبيل الدعوة إلى الله!! إذاً: عندما جاء صلى الله عليه وسلم إلى الناس بأمر بعيد عنهم حين ذلك كانت المجابهة والمصادمة، ولكن الله سبحانه من بادئ الأمر جاء بمثل هؤلاء الذين معه، والذين ادخرهم الله لصحبة رسوله، من هؤلاء الذين يساندونه ويقفون معه، فتأتي خديجة زوجه، وتكون أول من وازره وسانده. وهذا الموقف منها عظيم عندما يأتيها كزوج ترتعد فرائصه وخائف، ما جعلته ينام وتغطيه، بل تأملت في الأمر، فإذا به شيء على غير العادة! فقالت: نذهب ونسأل ونتعرف، فلما ذهبت وأخبرت تبين الحق بأن هذا ليس أمراً شيطانياً، وأن هذا مما كان ينزل به الوحي على الرسل من قبله، وأنه بدأ طريقاً جديداً. وجاء أمر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم بدأ كل يدعو من كان معه، وجاء عثمان عن دعوة أبي بكر، وجاء طلحة وفلان وفلان {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} [الفتح:29] شخص وراء شخص حتى خرجوا واختفوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم.

موقف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

موقف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ثم أسلم حمزة، وكان إسلامه على أمر عجيب أيضاً! فـ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم شاب قوي ذو حمية، كان من أهل القنص، والذي يهوى القنص والصيد لا يكون إلا صاحب الفروسية النشط من الشباب، وكان إذا خرج إلى قنصه ورجع قبل أن يذهب إلى بيته يأتي إلى الكعبة، فيطوف بها ويسلم على الأندية أو على مجموعات حول الكعبة من قريش فإذا سلم عليهم ذهب إلى بيته. وفي يوم من الأيام جاء من قنصه متوشحاً قوسه ومر على محل الصفا الآن فإذا بأمة تقول: يا أبا عمارة: لو سمعت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم؟! أبو الحكم هو أبو جهل، كان كنيته عند قريش أبو الحكم، والرسول كناه أبا الجهل؛ قالت: لقد أسمعه ما يؤذيه وما أجاب محمد بشيء، ومضى لسبيله، انظر الحكمة! يسبه ويتكلم عليه وهو لم يجبه بشيء. فذهب أبو عمارة ووقف على أبي جهل في نادي قومه، وقال: أبلغ بك أن تؤذي ابن أخي وتسمعه ما يكره، أما علمت أني على دينه؟ وضربه بالقوس على رأسه فشجه، ثم قال: فُردّ عليّ قولي إن استطعت؟! قال: أنا على دينه، وقبل هذا ما كان على دينه لكنها إرادة الله، إذا أراد كرامة إنسان سبب له الأسباب، واستمر حمزة على ذاك، كان أولها حمية لابن أخيه، ولكن صارت هداية إلى النهاية. فلما ضرب أبا جهل وهو سيد القوم وفي وسط ناديه قام نفرٌ ليكفوا حمزة عنه قال: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد أغلظت القول لابن أخيه، اعترف بخطئه! فلما أسلم حمزة رضي الله تعالى عنه سأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هو مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فذهب إليه. إنها إرادة الله تسير القدر لهذا الكون وفق الخطة التي رسمها المولى سبحانه قبل أن يوجد هذا العالم، الدولة اليوم عندما تجتهد تضع ميزانية وتقول: الخطة الخماسية أي: مقيدة بخمس سنوات؛ ماذا نفعل فيها؟ وتنفذها سنة سنة، خطوة خطوة، المولى سبحانه وضع خطة العالم قبل أن يخلقه -كما جاء في بعض الروايات- بخمسمائة عام.

إسلام عمر بن الخطاب أعز الله به الإسلام

إسلام عمر بن الخطاب أعز الله به الإسلام كان عمر بن الخطاب كان أشد الناس على أصحاب رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين عمرو أبو الحكم -الذي هو أبو جهل - وعمر بن الخطاب). فيقدر الله أن يدخل عمر على الرسول صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يمشي في شوارع مكة يريد أن يقتل محمداً قال له أحدهم: اذهب وانظر أختك وزوجها الذين صبئوا! فذهب إلى أخته فسمع هينمة قبل أن يدخل، فإذا عندهم أحد الصحابة يعلمهم الإسلام سراً، فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها؟ قالت: لم تسمع شيئاً، قال: بلى سمعت، وما هذه الصحيفة التي في يدك، ولطمها فأسال دمها، فلما رأى ما وقع لأخته أمامه تأثر، وقال لها: أعطيني الصحيفة التي كانت بيدك، فقالت: لا أعطيك أنت رجلٌ نجس، وهذا كتاب الله (لا يمسه إلا المطهرون) فاذهب واغتسل وسأعطيك إياها. ذهب واغتسل، ثم جاء وأخذ الصحيفة، فقرأها فإذا فيها من كتاب الله سورة طه أو غيرها، فقال: ما أحسن هذا! أين يوجد رسول الله؟ ذاك الصحابي الذي كان يعلم أخته وزوجها وكان مختبئاً، لما نظر إلى هذا الإقبال من عمر قال: يا عمر! إلحق لعل دعوة رسول الله تصيبك، والله لقد سمعته يقول: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، إلحق وأدركها، قال: أين هو؟ قال: في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فذهب عمر إلى دار الأرقم، ولما طرق الباب جاءوا ونظروا من شق الباب فإذا هو عمر! البيت كله ضجّ: ما يريد عمر؟! فقال حمزة -وكان موجوداً وأسلم قبل عمر بثلاثة أيام: ما بالكم؟ قالوا: عمر على الباب، فقال: وإن كان! إن يرد خيراً فهو له، وإن يريد غير ذلك قتلناه. وقتلُ عمر ما هو بالشيء الهين، لأن وراءه قريشاً بكاملها؛ لأنه كان السفير إلى القبائل، لكن انظر القوة والتأييد من الله! قال: افتحوا له الباب، وتقدم حمزة وأخذ بيده وأخذ آخر بيده الأخرى، ولما دخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اتركوه، ثم أجلسه وقال: (أما آن لك أن تسلم يا ابن الخطاب؟!) انظر القوة! كلهم خائفون منه. حتى إن بعض الصحابة كان يستبعد أن يسلم عمر ويقول: لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب، مستبعدين ذلك منه جداً، فلما جذبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يقولون: كان إسلام عمر تتمة الأربعين رجلاً. فنحن يا إخوان عرجنا على هذه النواحي ولابد أن نلفت الأنظار إلى تراجم وسير الصحابة، فلهم حق كبير علينا، وهم أسوتنا. ولما أعلن عمر إسلامه، قال: يا رسول الله! على ماذا الاختفاء؟ ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: لماذا لا نخرج، قال: لأنا قلة، قال: لا بد من خروج. يقول بعض علماء السيرة والتاريخ: فاصطفوا صفين، وكان حمزة في مقدمة أحد الصفين، وعمر في مقدمة الصف الثاني، انظر المنظر! حمزة في مقدمة صف، وعمر في مقدمة الصف الثاني! وخرجوا صفين منتظمين. وكانوا في عزة لم يجرؤ أحد على الاعتراض لهم، لأن حمزة وعمر لا يستطيع أحد أن يتقدم على هذه الصفوف وهما فيها؟! وانظر أيضاً إلى التنظيم والاحتياط، وهذا الواجب على المسلمين في مبادرة، ومجاهرة بأمرٍ له خطره، والعدو له وزنه. نقول: هؤلاء الصحب الكرام الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرفهم للأمم الماضية في التوراة وفي الإنجيل؛ فنحن أحق بتلك المعرفة، ويجب على كل مسلم أن يعرف من ترجمة أصحاب رسول الله وسيرتهم ومناهجهم أكثر مما يعرف عن أبيه وأمه.

ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وما حصل له

ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وما حصل له مكث صلى الله عليه وسلم إلى السنة التاسعة وهو في حماية عمه أبي طالب، ومعاونة زوجه خديجة بمالها وجاهها، وفي سنة تسع توفي عمه وتوفيت خديجة، فكان يسمى عام الحزن، اشتد الأمر على رسول الله، وتجرأ المشركون عليه وأصحابه بما لم يكونوا يجرئون به من قبل، فلما رأى الشدة على أصحابه أذن لهم وقال: (إن بالحبشة ملكا عادلا، أو ملكا لا يظلم أحدٌ بجواره، فلو ذهبتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا)، فخرجوا الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم شاع وذاع خبر إسلام بعض الناس، لما قرأ صلى الله عليه وسلم سورة النجم، وسجد وسجدوا معه، فرجع بعض الناس، ثم وجدوا أن القضية على خلاف ذلك، فبضعهم رجع إلى الحبشة وبعضهم بقي.

من أحداث الطائف

من أحداث الطائف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة إلى الطائف لعله يجد عند ثقيف من يناصره ويساعده على تبليغ الدعوة، ولعله يجد موطناً للدعوة خيراً من مكة، فما كان من ثقيف إلا أن أساءوا استقباله، وسلطوا عليه سفهاءهم وكان منهم ما كان، ورجع صلى الله عليه وسلم بعدما أصابه ما أصابه، ولكن الله عوضه. ومن أحداث الطائف ما حدث في عودته صلى الله عليه وسلم: أنه هو وزيد بن حارثة دخلا بستاناً لابني ربيعة عتبة وشيبة فأشفقا عليه، وأرسلا غلاماً عندهما اسمه عدّاس من نينوى من العراق بقطف عنب، قالوا: اذهب إلى ذاك الرجل وصاحبه وأعطهما هذا القطف، فأخذاه، ولما تناول منه صلى الله عليه وسلم قال: باسم الله، فسمع ذلك عدّاس فقال: إن هذه الكلمة لا يعرفها أهل هذا الحي من العرب، فمن أين جئت بها؟ قال: ومن أين أنت؟ قال: من نينوى، قال: بلد النبي الصالح يونس! قال: وكيف تعرفه؟ قال: (هو نبي وأنا نبي) يعني: نحن إخوة (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد) وأبناء العلات: الإخوة لأب والأمهات مختلفة، فالشرائع متنوعة ولكن مصدر الوحي للجميع واحد، فأكب عليه عدّاس وقبّله وأسلم، فلما رجع إلى شيبة وأخوه عتبة قال أحدهما للآخر: والله لقد رجع غلامك بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به! (سيماهم في وجوههم) فقد كان وجهه وجه كافر مشرك، والآن أصبح وجه مسلم. إذاً: نواة الإيمان في القلب، الشمعة اشتعلت وأضاءت، فكم من شمعة مطفأة، فلما أوقدت بنور الإيمان أصبح لها وضاءة في الوجه، وهذا يا إخوان شيء نشاهده نحن الآن، ما يمر شهر في المحكمة إلا ويأتي اثنان أو أربعة أو عشرة أو عشرون من العمال الموجودين في المدينة الشرق الأوسط أو شرق آسيا، فيعلنون إسلامهم، فأول ما يقدمون تجري معهم الإجراءات وينطقون بالشهادتين ويقرءون بعض الآيات أو بعض العبارات، يشهد الله ويعلم الله أننا نرى التغير في وجوههم في الحين، فعندما يأتون ويجلسون أمام اللجنة نرى وجوهاً، وبعدما تنتهي الإجراءات وينطقون بالشهادتين ويقرءون الفاتحة وبعض السور الصغيرة نرى وجوهاً أخرى، نحس بتغير! نحس بطلاقة الوجه وسماحته؛ نحس بآثار الإيمان فعلاً تظهر على وجوههم. يقول: لقد رجع إليك غلامك بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به، وهذا صحيح.

ملك الجبال يأتي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم

ملك الجبال يأتي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من البستان، وفي طريقهما إلى مكة، أتى جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال فقال: (يا محمد! هذا ملك الجبال معي، لقد ضجّت الملائكة مما لقيت من ثقيف، وأذن الله لملك الجبال أن يكون رهن طلبك إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) والأخشبان جبلان يحيطان بمكة، فماذا يقول صلى الله عليه وسلم وهو في حاجة الضيق والشدة؟ الناس الآن يقولون: إذا كان هناك اعتداء وظلم وبغي ولم تجد إلا نصرة من الشيطان فلا مانع من أن تتعاون معه؛ لأنه ينصرك على الظالم الباغي المعتدي، والظالم الباغي المعتدي إذا لم ترده قوة لم يرجع إلى صوابه، إذا لم يسمع إلى كلمة الحق، ولم يستجب إلى نداء الآخرين ماذا نفعل معه؟ ليس إلا القوة، وإذا لم نجد إلا قوة الشيطان تردعه، إذاً: يأتي ملك الجبال ويعرض النصرة على رسول الله، فيقول: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) فيصبر ويتحمل رجاء أن يولد من أصلابهم فيما بعد قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، بينما نبي الله نوح لما اشتد به الأمر ويئس من قومه قال {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، حتى يئس ممن سيولد، والرسول صلى الله عليه وسلم ما يئس، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله). ولذا قال في حديث الشفاعة: (لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فدعا ربه بها، وادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) اللهم اجزه عنا أحسن الجزاء، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وقلنا: إنه تضرع إلى المولى قبل مجيء ملك الجبال فقال: إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أو إلى بعيد ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، فتضج السماء بالملائكة وينزل جبريل ومعه الملك ويعرض عليه النصرة فيأباها ويأتي إلى نخلة ويقول: نصلي في الليل ويعوضه الله خيراً من ثقيف.

الجن يسلمون على يد النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف

الجن يسلمون على يد النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من الطائف قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]. سبحان الله ما أحسنهم أدبا! {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف:204] ماذا؟ {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] هذا من الأنفس. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] سمع {سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2]. إذاً في تلك الليلة أو في تلك الرحلة، إن لم تأت ثقيف فقد جاءت الجن وهم أحد الثقلين، والله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، التقديم والتأخير في القرآن له دلالة فلماذا قدم الجن؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ} [الذاريات:56] الإنس لا شك أنهم أفضل من الجن، ولكن قدم الجن لماذا؟ تقدم ذكر الجن مراعاة للتقدم التاريخي، لأن الجن أسبق في الوجود بالخلقة من الإنس. ولذلك الملائكة لما عرض الله عليهم خلق آدم وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] من أين أتوا بهذا؟ لما رأوا من الجنّ والبن قبل الإنس من الإفساد في الأرض، قالوا: قد جربنا ونظرنا؛ {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] فتقديم الجن هنا: لأنهم أسبق في الوجود. إبليس كانوا يقولون له: عبد الله السجّاد، يقولون: ما من شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، لكن لما جاء آدم وجاء الحسد والتكبر، وكانت هذه سيئة، فترتبت عليها سيئة أكبر منها حتى طرد من رحمة الله. إذاً: كان في تلك الرحلة والعودة منها: استجابة أحد الثقلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلاقهم دعاةً إلى الله، فأصبحت الرحلة كاسبة، لا كلفوه قتالاً ولا آذوه ولا شيء، بل إنه صلى الله عليه وسلم أخبر بليلة الجن فقال لصحبه: (الجن أحسن منكم استماعاً)، لأنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن، كان كلما قرأ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، ولما قرأها على المسلمين كانوا ساكتين، فقال لهم: (الجن أحسن منكم)، فهذه رحلة موفقة.

الرسول يمنع من دخول مكة بعد عودته من الطائف

الرسول يُمنع من دخول مكة بعد عودته من الطائف جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة يريد أن يدخل، فمنع من ذلك؛ لأنه طلب من ثقيف أن يكتموا عنه فامتنعوا وأرسلوا لقريش بالخبر. إذاً: قريش منعته أن يدخل، يقولون: خرج ليستعين علينا بغيرنا والآن جاء! فلن يدخل مكة، حتى اضطره الحال أن يدخل في جوار رجلٍ من أهل مكة. الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وبالأمس كان معه ملك الجبال يمكن أن يطبق عليهم الأخشبين، يمكن أن يدخلها بالقوة رغماً عنهم، ولكن تلطف معهم وطلب جوار رجل منهم، ودخل في جوار رجل مشرك. إذاً: لا مانع من الاستعانة برجل مشرك ما دام في ذلك نصرة للحق، وليس فيه اعتداء ولا ظلم ولا بغي على جهة أخرى، فيأتي رجل مشرك وهو مطعم بن جبير وعنده أربعة أولاد ويلبس السلاح، وكل واحد من أولاده يقف عند ركن من أركان الكعبة، ويأتي هو مع رسول الله ويطوف به ويقول: أجرت محمداً.

الهجرة النبوية [2]

الهجرة النبوية [2]

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأعمال التي قام بها

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأعمال التي قام بها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل كأحسن ما يكون الاستقبال، وقيل في ذلك: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر تلك الأبيات.

بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد

بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد قال أنس رضي الله تعالى عنه: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فاستنارت وأنار منها كل شيء، وتوفي صلى الله عليه وسلم فأظلمت وأظلم منها كل شيء). استقر النبي صلى الله عليه وسلم ببيت أبي أيوب، ثم اشترى أرض هذا المسجد وبناه، ثم جدده بعد عودته من خيبر في السنة السابعة، ثم توالى التجديد عليه. وهناك بعض الجزئيات ربما يتساءل عنها بعض الناس في خصوص هذا المسجد نشير إليها إشارة خفيفة، بعد أن بينا ارتباط المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، في اختصاصها بشد الرحال إليها ومضاعفة الأجر فيها، وسواء كان في الصلاة أو غيرها على ما هو مدونٌ في تاريخها. مما يتعلق بسؤال البعض وخاصة المالكية في مضاعفة الأجر في هذا المسجد، والحديث المكتوب على الجدار الأعلى في السقف في الواجهة هنا: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام). ويتطلع البعض إلى كلمة: (مسجدي هذا) ما حكم الزيادة التي طرأت على هذا المسجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وتلك الزيادة بدأت من زمن عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، ثم بعد ذلك الخلفاء والملوك والأمراء، وقد وضح ذلك عمر رضي الله تعالى عنه حينما رأى بعض الناس يتجنبون الصلاة فيما زاده، وقد زاد فيه من جهة الغرب وجهة الجنوب، ولم يزد من الشمال ولا من الشرق، فقال لهم: (والله لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الزيادة ما زدته، ثم إن المسجد ضاق بالمسلمين ثم قال: والله إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة). وبعضهم يذكر رواية: (ولو امتد إلى صنعاء) فهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضاعفة الصلاة موجودة لمن صلى في أي طرف من أطراف المسجد. واتفق العلماء على أن كل ما كان محجوراً بسور لا يدخل إليه إلا عن طريقه، فإنه من المسجد تصح فيه الجمع، وتنعقد فيه الجماعة، ويصح فيه الاعتكاف وله أحكام المسجد من تجنب الجنب والحائض.

إبرام النبي صلى الله عليه وسلم للمعاهدات مع بعض الطوائف في المدينة

إبرام النبي صلى الله عليه وسلم للمعاهدات مع بعض الطوائف في المدينة ثم توجه النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الأمة، وذلك كما أشرنا أنه صلى الله عليه وسلم واجه في المدينة تيارات متعددة بخلاف مكة، مكة كان أمامه فيها تيار الشرك والوثنية، وكانت أمة فطرية ساذجة قوية في عقيدتها، فإذا وجدت الحق سرعان ما انتقلت إليه، وتقدمت لنا النماذج والأمثلة في موقف عمر وحمزة وغيرهم. عمر يذهب إلى أخته وزوجها لينتقم منهم ويعذبهم على إسلامهم، فيخرج من عندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، وما ذلك إلا أنه سمع من كتاب الله وقرأ من الوحي المنزل شيئاً من سورة طه. وهكذا لما جاء مصعب بن عمير إلى المدينة مع أهل العقبة الثانية، وكان يزور الأوس والخزرج على مياههم وجاء إلى بني عبد الأشهل في العالية، وجاءه سعد بن عبادة وقال: اذهب عنا لا تفسدنّ علينا شبابنا ونساءنا وسفهاءنا، والحربة بيده، فما كان منه إلا أن قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس وأسمعك مما عندي، فإن وجدت شيئاً تقبله فبها ونعمت، وإلا كففت عنك، قال: أنصفت -وهذا هو العقل- فجلس وقرأ عليه من كتاب الله، فما كان منه إلا أن شهد شهادة الحق. وجاء سعد بن معاذ وقال: ما أغنيت عني شيئاً، ماذا فعلت مع الرجل؟ قال: قلت له الذي قلت لي، فقال: لم تغن عني شيئاً، وجاء بنفسه وهو سيد القوم، فقال جليس مصعب: اصدق الله في هذا الرجل، فإنه إن يسلم يسلم قومه كلهم. فجاء متوعداً ومهدداً فقال له مقالته الأولى: تسمع فإن وجدت شيئاً يرضيك فبها ونعمت، وإلا كففت عنك؟ قال: أنصفت، فجلس وسمع من كتاب الله وقرأ عليه آيات؛ فما كان منه في الحال إلا أن قال: ما أحسن هذا! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل غسل الجنابة ويتشهد شهادة الحق، فذهب واغتسل وتشهد وذهب إلى قومه وقال: يا معشر بني عبد الأشهل! ماذا تعرفونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وأميرنا، قال: كلامكم عليّ رجالكم ونسائكم حرام حتى تسلموا جميعاً، يعني: ذاهب يهدد ويتوعد فينقلب داعية إلى الله! كان الأمر عندهم عناداً، لكن الإقناع إن يسر الله كان سهلاً. لكن كان في المدينة أصحاب ديانة سابقة، وأصحاب حقد وحسد: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] إذاً فيواجه عدواً لدوداً حاسداً حاقداً، والحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة التي عندك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]. فهنا وثنيون مثل الذين كانوا في مكة، لكن انظروا إلى اليهود فهم أهل كتاب، ثم نبتت نابتة نفاق، ويوجد أقلية مسلمة، فأصبح الآن جو المدينة مركباً من مسلمين قلة، ومن مشركين من العرب، ومن يهود من أهل الكتاب، ومن منافقين بين هذا وذاك، إذاً: كيف يواجه صلى الله عليه وسلم تلك التيارات ويضمن السلامة للقلة المؤمنة؟! كتب المعاهدة، ومن أراد من طلبة العلم أن يرجع إليها فهي في كتب السيرة لـ ابن هشام أو ابن كثير أو غيرهم، ومضمونها أنه صلى الله عليه وسلم جمع الجميع وقال: هذا كتاب محمد صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة، أن كل قبيلة تحمل مسئوليتها، أي: أن كل فرد من قريش ومن لف لفها قومٌ ومن جنى منهم جناية فهم المسئولون عنه، والأوس قوم، ومن جنى جناية منهم فهم مسئولون عنه، وكذلك أهل الكتاب، وكل قبيلة حملها مسئولية بعضها البعض، أي: فإذا جنى إنسان جناية من قبيلة فقبيلته مسئولة عنه، يعقل بعضهم عن بعض، وهو الموجود الآن من أن دية قتل الخطأ على العاقلة. ومن جنى جناية أو دفيعة ظلم فلا يحق لأحد أن يخفيه ولو كان ولد أحدهم، وما تنازعوا في شيء فمرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهد على الجميع بأن الكلمة والمرجع في إدارة المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا: أمن شرور أولئك الطوائف وتلك الاتجاهات المتعددة، بعدما تم ذلك وأصبحت المدينة موحدة سياسياً.

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار

مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار توجه النبي عليه السلام بعد ذلك إلى بناء الأفراد، فآخى بين المسلمين، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة مولاه، ليس هناك شرف نسب ولا علو الحسب، فـ حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بينه وبين مولاه زيد بن حارثة، وبينه وبين علي. الشاهد: آخى بين المهاجرين أنفسهم وبين المهاجرين والأنصار، وأصبحت تلك الأخوة بمثابة أخوة النسب، بل مقدمةٌ عليها إذا لم يكن الإسلام موجوداً، فلو أن شخصاً آخى بينه وبين شخص آخر وهما مسلمان، ولأحدهما أخ كافر، فإن الأخوين بالمؤاخاة في الإسلام يتوارثان، والأخ الكافر لا يرث أخاه المسلم، فحلت المؤاخاة محل النسب إلى أن نزلت آية المواريث: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6]. السؤال هنا: كيف سلك الإسلام طريق المؤاخاة وماذا جنى من ورائها؟! المتأمل في منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في المنهج العلمي، لإيجاد الأخوة بين أبناء المسلمين، ونتائج تلك الأخوة يجدها وحيدة لم توجد قبل الإسلام، ولم توجد أي طائفة ولا أي نظام ولا أية دعوة في العالم كله وصلت إلى ما وصل إليه الإسلام في تلك المؤاخاة، ولا جنى أحد من وراء أي مؤاخاة ولا ارتباط كما جنى الإسلام من تلك المؤاخاة.

الإنسان وفطرته المكونة من عنصرين

الإنسان وفطرته المكونة من عنصرين ماذا فعل الإسلام؟! لكي نعلم ماذا فعل نجد أن الإسلام دين الفطرة، ولا يكلف الإنسان إلا بمقتضى ما افترض الله عليه؛ لأن الذي يطلب من إنسان خلاف فطرته يكلفه بشيء غير مستطاع؛ لأنك تطلب منه غير ما جبل عليه، تطلب من الحديد ذهباً؟ لا. تطلب من الرمال فضة؟ لا يمكن، لكن تطلب من اللبن جبناً، وتطلب منه زبدة؟ نعم؛ لأنها موجودة في ذاته، افعل الطريقة التي تخلص بها الزبدة من الحليب وهكذا. فطرة الإنسان في ذاته مكونة من عنصرين: العنصر الأول: العنصر المادي، الماء والطين، وهذا موجود من أول ما خلق الله آدم عليه السلام، حيث كان العنصر المادي من تراب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] والطين: تراب وماء، ثم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]. إذاً: الإنسان من أول ما خُلق خُلق من مادة وروح، وهكذا إلى اليوم وإلى ما شاء الله، كل مولود مكون من عنصرين: مادة وروح، المادة ترجع إلى أمور الماديات في الدنيا، طعام وشراب وزواج وتكاثر، والروح مرجعها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. كان منهج الإسلام على أساس هذا التكوين الفطري للإنسان، أما عنصر الروح فهذا كما قال تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وما دام أنه من أمر ربي فليس للبشر التصرف في الأرواح، فلا يستطيعون تكييفها وتمزيجها أبداً، ومردها إلى الله: (الأرواح جنودٌ مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). وكانت منحة وهبة وعطاء من المولى سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] وقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]. إذاً جانب الروح موكولٌ إلى الله، والله سبحانه امتن على هذه الأمة وذكرها بهذا الامتنان وتلك النعمة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103] إلى مائة سنة كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (في حرب طاحنة ما وضعت أوزارها ولا توقفت رحاها إلا قبل الهجرة بخمس سنوات) وتقول أم المؤمنين رضي الله عنها: كانت تمهيداً لمقدم رسول الله فقد كرهوا حياة القتال، وكرهوا الحروب التي ظلت لمدة مائة سنة، يعني: يولد المولود فيها ويشب ويقاتل ويموت ويأتي ولده من بعده أيضاً شرير؛ إذاً: (كنتم أعداء) تلك العداوة سببها أمور الدنيا، لا يوجد دين يتقاتلون عليه، فالله سبحانه وتعالى امتن عليهم وألف بينهم وأصبحوا بنعمته إخواناً، تلك النعمة هي نعمة الإسلام حينما ذهب نفر منهم إلى الحج في موسم الحج قبل الهجرة وبعد البعثة، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام فقبلوه، وقالوا: لا تسبقكم اليهود عليه، فكانت تلك النعمة أولى أبواب الرحمة التي فتحها الله لهم، وكانوا بنعمته سبحانه إخواناً. الجانب المادي: لو نظرت إلى الكون بكامله، لا تجد فيه فردا مطلقاً قط إلا المولى سبحانه وتعالى، فهو واحد أحد فرد صمد، أما ما عداه فهو مفتقرٌ إلى غيره. وكما يقول علماء الاجتماع: فالإنسان مدني بطبعه، يعني: طبيعته أن يعيش مع غيره، يتعاونون على أمور الحياة، وكما يقولون في العصر الحجري -أو ما قبله على ما يسمونه تسمية من عندهم- في أعماق التاريخ قبل أن يسكن الإنسان البيوت كانت الكهوف، والله تعالى أعلم، فكان يخشى الإنسان عادية الوحوش، فيتجمعون ليحمون أنفسهم، ثم جاءت الحراثة والصناعة، هذا يحرث وهذا يطحن وهذا يخبز وهذا كذا، إلى أن تعاون الأفراد في حياتهم، وأنت الآن تجد الناس من القمة من رئيس الأمة ومن أولي الأمر والخليفة والملك إلى رجل الشارع إلى البواب في عمارته وأبواب قصره، الكل يتعاون في حياته، لا الملك يستغني عن البواب عند الباب، ولا البواب مستغن عن الملك، هو يعطيه المكافأة، وهكذا الحياة معاوضة، إذا جئت إلى الكائنات الأخرى تجد المزاوجة ولا تجد الفردية، تجد سماء يقابلها أرض، بحار يقابلها جبال، تجد النباتات تلقيح ما بين ذكورة وأنوثة، حتى الكهرباء الآن سالب وموجب، ما في واحد منها يستقل بذاته. إذاً: التضامن والتآخي وجمع الأجناس أمرٌ كوني فطري يقوم العالم عليه، والقاعدة قبل هذا: الناس للناس من بدو وحاضرة بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم وكل محتاج إلى الآخر في أمور الدنيا، الروح من عند المولى سبحانه، بقيت أمور الدنيا يأتي القرآن الكريم فيرد الناس إلى الأصل ويربطهم بالمنبت الأول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحجرات:13] ما قال: يا أيها المؤمنون، أو الذين آمنوا أو الأتقياء، بل (يا أيها الناس) عربكم وعجمكم، مسلمكم وكافركم، شرقيكم وغربيكم: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] ولذا يقول علي رضي الله تعالى عنه: الناس من جهة التكوين أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء وهذا التفاخر من جانب أمور مقاييس الحياة، والله قد جعل مقياساً ثابتاً فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] وليست مجرد دعوى، ولهذا الأصل لو رد كل إنسان إلى أصله إذاً أنا وأنت أخوان، أنا وأنت أبونا وأمنا آدم وحواء وإن بعدت المسافة بيننا، لكن هناك خيوط مثل خيوط الشبكة، فكذلك كل فردٍ في العالم يجره خيط فيربطه بآدم وحواء. وجاءت قصة عن معاوية مع الأعرابي الذي دخل عليه وقال: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أعطيتني عطائي، فقال معاوية: رحم بيني وبينك وأنا قاطعه؟! قال: نعم، قال: والله أخطأنا، لكن لا أعرف رحماً بيني وبينك حتى أقطعه، وقد نسيت، فذكرني! قال: الرحم الذي بيني وبينك في آدم وحواء، فقال، نعم. هذا رحم ثابت، ما أستطيع أن أنكره وهذا يستحق الصلة، فكتب له بدرهم، وأخذ الكتاب وذهب إلى بيت المال وهو فرحان، فإذا ببيت المال يعطيه درهماً، فيقول: الخليفة يكتب العطاء بدرهم! قال: هذا الذي كتب لي، قال: ارجع إليه، فرجع وقال: ما هذا يا معاوية! أنت بنفسك تكتب وتتعب نفسك لبيت المال بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لقد سألتني برحم لو أنني وصلت هذا الرحم كله بدرهم ما بقي في بيت مال المسلمين درهم. ما قال له: ليس بيننا رحم، لكن قال: الرحم موجود ولكن العطاء بقدره.

الإخاء في ظل شريعة القرآن

الإخاء في ظل شريعة القرآن القرآن الكريم في تشريع الإخاء رد الأفراد إلى الأصل، فإذا كنت أنا أخاك وأنت أخي، إذاً أنا وأنت من أصل واحد، يبقى النتيجة أن نتآخى أو نتعادى، ثم جاء إلى هذا الأصل وأبعد عنه عوامل تقطيعه، ومن جانب آخر سلط عليه روافد تغذيه. وأنتم تعلمون في زراعة الشجرة أنه توضع بذرة صغيرة، ثم إنك تراقبها دائماً، وتنظر إليها إذا نبت نبات آخر فتأخذه، وإذا كان هناك حشرة حولها تقتلها، ودائماً تتعاهدها بالماء لماذا؟ تحافظ عليها مما يضرها، وتمدها بما ينميها، وهكذا كل مشروعٍ في العالم. فهذه الشجرة شجرة الإخاء وجدنا القرآن الكريم يحوطها بسياج الحفاظ عليها، ويمدها بأنواع الغذاء الذي ينميها، ويحوطها مما يضرها، انظر إلى ألواح العداوة فيه كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فحرّم الإسلام على المسلم دم أخيه وعرضه وماله، يعني: سدّ عليه أبواب النزاع؛ لأن النفوس لا تتشاح إلا في واحدة من هذه الثلاث. بل كما قيل: الضروريات الخمس، حفظ المال وجعل فيه حد القطع، وحفظ الأنساب وجعل فيه حد الرجم والجلد، وحفظ الأعراض وجعل فيه حد القذف، وحفظ الدماء وجعل فيه القصاص، وحفظ العقول فشرع حد الخمر، وحفظ الدين وجعل فيه القتل للردة. فحفظ على المسلمين كل ما به قوام وجودهم، فإذا حفظ عليهم أديانهم ودماءهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم وأنسابهم وأموالهم، وأصبح كل في حده لا يعتدي على الآخر، فلن يقع بين الناس نزاع. ثم يقول الله في هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]، وأيضاً: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، فرتب ثلاثة أمور: لا تظن السوء بأخيك، وإن غلب عليك الشيطان وأدخل إلى ذهنك ظن السوء فلا تتجسس حتى تتأكد مما ظننت، فإن تجسست ووقفت على مكروه، فلا تنقل بذلك وتغتابه عند الناس.

حفظ القرآن لدماء المسلمين

حفظ القرآن لدماء المسلمين كل ما سبق شرع لحفظ ما بين الأفراد من نوازع الشر التي تقع بينهم، وإذا تأملتم ما قبلها: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، سبحان الله! هذا الوقت الذي يأتي متزامناً مع مشكلة الخليج، لو أن العالم الإسلامي طبق هذه الآية، والله ما كنا في حاجة إلى هذا المأزق، وقد كتبت هذه المحاضرة سنة ثلاث وثمانين، وألقيت في الجامعة الإسلامية، وهذه الآية هيئة أمم إسلامية، وبوليس دولي من كتاب الله الطائفتان تقتتلان، نصلح بينهما، من الذي يصلح؟ محكمة عدل إسلامية. {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، من الذي يقاتل؟ دولة ضعيفة؟ أم دولة واحدة؟ وهل تدخل في شئون الغير؟ لا، بل قوة من العالم الإسلامي تقوم باسم الإصلاح، فتكون هي التي تقاتل هذه الفرقة الباغية. لو كان هذا قد حدث في أول حركة لبنان، وكانت تخرج قوات من البلاد العربية والإسلامية وفيها قوة الردع لتردع الباغي، فلو أن العالم الإسلامي لمؤتمر مكة في عهد الملك خالد رحمه الله، تبنى الكويت هذا المشروع، وعرض على المؤتمر وأقر، لكنه ما حرك ولا خرج إلى حيز التنفيذ. فلو أن العالم الإسلامي عاد إلى كتاب الله وإلى تشريع رسول الله، وإلى ما جاء عن الله لمصلحتهم، والله ما احتاجوا إلى أحد بعد ذلك. (فقاتلوا)، إذاً: قتال الباغي واجب على المسلمين، لكن من الذي يقاتل؟ المعتدى عليه عاجز عنه، وهل دولة تتحمل هذا القتال؟ فإنها لا تقدر، ولا تستطيع، وقد يكون الباغي أقوى منها، وقد يكون ذلك من باب التدخل في شئون الآخرين، لكن باسم الأمة الإسلامية، وباسم ردع الباغي، وتمويل القتلا يكون على جميع الأمة الإسلامية، ويعسكر فيما تختاره الأمة العربية، ولا يكون خاضعاً لقيادة دولة معينة حتى لا يكون جيش احتلال. فلو نفذ هذا من تاريخ عام ثلاثة وثمانين إلى الآن، وهو ما يقارب حوالي تسعة عشر عاماً لانعكست الحال تماماً. إذاً يا إخوة: لو أخذنا هذه الآية: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9]، ليس كهيئة الأمم يستخدم فيها حق الفيتو فينقض القرار العادل لمصلحة جهة من الجهات، لا {بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: لوجه الله، وتنفيذاً لأمر الله.

صون القرآن للأعراض

صون القرآن للأعراض قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ} [الحجرات:11] كأنه يقول بعد أن انتهى القتال مع الأمة الباغية، إن من أسباب القتال أو من تبعات القتال {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] كأن السخرية تأتي بالقتال. وقال: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، وسوء الظن مع الآخرين يدفع للتجسس، والتجسس يحمل على الغيبة.

رعاية الإسلام لشجرة الأخوة

رعاية الإسلام لشجرة الأخوة أيها الإخوة! حرم الله على المسلمين أفراداً وجماعات الاعتداء، وجعل كل عنصر من عناصر الحياة الحيوية الستة راجعاً عليها، فحفظ للأمة كيانها، ومن جانب آخر: جاءت الروافد التي تغذي تلك الشجرة العظيمة التي تستظل فيها شعوب العالم، انظروا إلى بداية السيرة النبوة، وبداية ظهور الإسلام، هل كان الإسلام عربياً؟! لا، فإن الله قد اختص واصطفى من العالم العرب، واصطفى من العرب بني هاشم، واصطفى من بني هاشم محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكن هل جعله للقرشيين، أو للهاشميين، أو للعرب؟ لا. بل للناس كافة، ولهذا وجدنا تلك الدوحة الرائعة بأغصانها المورفة، وظلالها الناعمة؛ يستظل فيها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، بأي معنى من المعاني وصلوا لهذا؟ أبعرق القومية العربية، أو بعرق التربة والأرض؟ لا والله، إنما هو بإخوة الإسلام. ولما اختلف الأنصار مع المهاجرين بشأن سلمان في حفر الخندق، وذلك حينما جعل صلى الله عليه وسلم راية للمهاجرين وراية للأنصار، جاءوا في سلمان واختلفوا، هؤلاء يقولون: سلمان منا؛ لأنه مهاجر من بلاد الفرس إلى المدينة، وهؤلاء يقولون: لا؛ لأنه كان هنا ينتظر قدوم رسول الله حتى جاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يفض النزاع بينهم، فيقول: (سلمان منا آل البيت)، بأي معنى يصبح من آل البيت؟ أبشهادة ميلاد؟ أم بحفيظة وبطاقة شخصية؟ لا والله، لا بعرق ولا بدم ولا بجن ولا بإنس ولا بشيء، إلا بالإسلام، ولهذا كان يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم ما رجع للعنصر الفارسي، بل قال: أبي الإسلام لا أب لي سواه، ولذا قيل: لقد رفع الإسلام سلمان فارس كما وضع الكفر النسيب أبا لهب سلمان فارس رفعه الإسلام، والكفر وضع أبا لهب صاحب أعلى نسب في قريش. إذاً: جعل الله الروافد لتلك الدوحة ليستظل بها وينعم فيها جميع شعوب العالم، وتلك الروافد التي تغذيها كل يوم وكل شهر وكل سنة، بل وكل لحظة، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فتلتقي أنت وأخوك هناك، هذا في السوق الشرقية، وهذا في الغربية، وهذا في الشمال، وهذا في الجنوب، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أتيتم تسعون لذكر الله. في اليوم يعلن خمس مرات: حي على الصلاة حي على الفلاح، فيلتقي أهل الحي كل يوم خمس مرات، ويلتقي أهل القرية كل أسبوع مرة، ويلتقي أهل المدينة كلهم في كل يوم عيد فطر وأضحى، ويلتقي أبناء العالم الإسلامي في كل حج في عرفات ومنى، هذه كلها روافد تغذي تلك الشجرة، ويلتقي المسلمون في كل موعد من تلك المواعيد. ويأتي الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، لسنا نحن فقط بل نحن وغيرنا حتى يربطنا بالأمم الماضية، وكذلك الصلاة: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وكذلك الزكاة حق للمسكين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24]، تلاحم وترابط وتعاون وتعاطف يفرض الإسلام على الغني حصة من ماله (2. 5%) للفقير المحتاج، أي نظام في العالم يربط الأفراد بعضهم ببعض بالمال إلى هذا الحد؟ لا يوجد، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، هم تطهرهم وهم تزكيهم؟ هل هذا المعنى المزدوج موجه لطائفة واحدة وهي المأخوذ منها المال، أم أنه غير موزع على الطائفتين المأخوذ منها والمأخوذ لها؟ يقول المحققون من العلماء: إنها موزعة على طبقات الأمة الأغنياء والفقراء سواء؛ لأن الفقير حينما يرى المال عند الغني وهو محروم منه يحصل في قلبه حقد عليه، إذ كيف يأخذ المال ويتنعم به وهو محروم منه بالكلية؟ فإذا ما عدل الغني وأعطى الفقير حقه من هذا المال طابت نفسه وذهب منه الحقد. مثلاً: بستانك مثمر وجارك ليس له شيء، يرى النخيل يزهر، ثم يراه يرطب، ثم يراه يتمر، ثم تجنيه في الليل وتدسه في بيتك ولم ير منه شيئاً، ماذا سيقول؟ يقول لك: الله يحرقه عليك، يقول: إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر، لكن إذا كان موقفك أول ما تظهر الثمرة وتزهي أن تقول: خذ هذا العذق، وإذا أرطبت قلت: خذ هذا الصندوق، وإذا جنيت، نظرت كم وسقاً فيه، ثم أخرجت اثنين ونصف في المائة حق الفقير، ماذا سيكون موقف هذا الفقير من بستانك؟ إذا قام في الليل ورأى النار فيه، هل يقعد ينظر؟ بل يكون أسبق منك إلى إطفائها؟ إذاً حينما يأخذ الصدقة تطيب نفسه.

رعاية القرآن للأخوة بالجانب المالي

رعاية القرآن للأخوة بالجانب المالي حادثتان عجيبتان في هذا الباب يُذكر بها الإخوة أصحاب الأموال؛ ليعلموا أن أداء حق الله هو الخير والبركة والحفظ والنماء. كلنا يقرأ في سورة القلم قصة أصحاب الجنة، قال الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:17 - 28] يعني: تستثنون حق المسكين، أبوهم كان يخرج حق المساكين كل سنة، ولما مات استكثروه. فمنعوا الفقراء، فلما بيتوا النية كان أمر ربنا أقرب، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]. وانظر إلى الجانب الثاني في الحديث الصحيح: (بينما رجل يمشي في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في السحاب يقول: اسقي حديقة فلان). سبحان الله! في قصة أصحاب الجنة: (طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم)، وهنا: (يا سحابة اسقي مزرعته)؛ فيمشي الرجل في ظل السحابة حتى توقفه على رجل قد أمطرت على أرضه ونزل الماء، وإذا برجل يحول الماء في حياضه، فأقبل عليه: يا فلان، فإذا به رجل غريب يعرف اسمه، فسأله عن اسمه وقال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: لماذا تسألني؟ فأخبره، قال: إن كان كذلك فإني أقسم ثمرتها أثلاثاً، ثلث أدخره لي ولعيالي، وثلث أعيده فيها السنة الثانية، وثلث أتصدق به. قال: بهذا سقيت. الفرق بين الاثنين: أن حديقة أصحاب الجنة قائمة مثمرة منتجة، لكن لما بيتوا النية بأن يحرموا المساكين {طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20]، وهذا لما كان يعطي حق المسكين، كان المولى يتولى مزرعته ويسقيها. الآن بعض الآبار يبست، وهم يحفرون الآبار والماء غائر، أما هذه فيأتيها السقي من السماء. إذاً: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103]، تطهر بها قلوب الفقراء، فإذا أصبحت طاهرة وتوجهت إلى الله بالدعاء كانت حرية أن يستجاب لها. جعل الله الزكاة من روافد إمداد شجرة الأخوة في الإسلام لنمو وتقوية التعاطف بين المسلمين، ولهذا لما عطل الناس هذا المرفق، وسدوه عن شجرة أخوتهم تحول وجاء ما فيه مادة محرقة جاءت الاشتراكية، وقالوا: نحن شركاؤكم في هذا المال، وجاءت مبادئ هدامة أفسدت على الناس حياتهم الاقتصادية، والآن تبدأ روسيا تتراجع ويعلن رئيسها أنه يفكر في السماح للإنماء الفردي بعد تجربة طويلة استمرت أربعين أو خمسين سنة. فالزكاة من أقوى عوامل الإخاء؛ لأن عدم الزكاة تجعل الناس طبقات؛ واحدة في الثريا والأخرى في الثرى، لكن الزكاة تنزل من في علياء الثريا وترفع من في حضيض الثرى ويلتقيان معاً على صعيد واحد، نعم توجد مفارقة درجات، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] هذا نظام الحياة، لكن إذا حفظ الغني حق الفقير عنده طابت نفس الفقير ورضيت. وهكذا أيها الإخوة يأتي الصيام فتجوعان معاً وتجتمعان على منظر لا يوجد في العالم إلا في هذا المسجد النبوي، تمد السفرة ويجلس من لا يعرف بعضهم بعضاً إلا باسم الإسلام، والكل صائم لله ينتظر الله أكبر ويتناول الطعام، إخاء عملي، ممن بالمشرق ومن بالمغرب في هذا الشهر. ثم يأتي العامل المتكرر اليومي، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وقال: (تهادوا تحابوا)، هذه الأخوة التي أوجدها الإسلام في الدنيا بين أفراده تصحبهم إلى أن يدخلوا الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، حتى من كانت بينه وبين غيره حزازة وخصومة وحقوق في الدنيا زال عنه الحقد ونزع، وعادت القلوب إلى فطرتها، وأصبحت الصدور سليمة {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].

ربط القرآن بين المؤمنين وغيرهم من المخلوقات

ربط القرآن بين المؤمنين وغيرهم من المخلوقات هذه الأخوة -كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه- لم تقف عند حد البشر، بل تعدت ووصلت بين حملة عرش الرحمن وبين مؤمني هذه الأمة، كما قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُو} [غافر:7]، يعني: أخوة الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين حملة العرش {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. وهذه نصيحة للدعاة، وللإخوة الذين يدعون الآخرين فيما يمكن أن يرطب القلوب أو يفسح المجال، يمكن أن نقول: تلك الأخوة ربطت بين الإنسان والحيوان، بل أيضاً بين الإنسان والملائكة حملة العرش. وفي السير أن سفينة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان راجعاً من غزوة، فإذا بالأسد قد حاصر الناس على الطريق الأسد على الطريق ولا أحد يقدر أن يمشي، فقال: ابتعدوا، فتقدم إلى الأسد، وقال: أيها الأسد! أنا صاحب رسول الله قد عزمت عليك لتفسحن لنا الطريق، فما كان من الأسد إلا أن ابتعد وتنحى عن الطريق وتركهم يمشون. ويقولون: بعض الملوك في عصر من العصور جاءه بعض العلماء ينصحه، وكان قد تجاوز الحد، فكان من طغيان هذا الملك أنه أراد أن يقتل من نصحه، لكن لمكانة هذا الرجل أراد أن يتشفى بقتله، وكان عنده من أنواع الوحوش الشيء الكثير، فعمد إلى أسد من الأسود وجوعه ثلاثة أيام، ثم جاء بالرجل في ميدان ليطلق عليه الأسد ويرى هو وأعوانه كيف يفترس الأسد هذا الشيخ الضعيف، فلما جاء بالعالم إلى هذا الميدان، وعرف العالم مجيئه إليه قام يصلي، ثم وهو في حالة سجوده يأتي الأسد يدور حوله ويشمشم، وإذا به يأتي بجانبه يمد يديه، فلما سلم الرجل أخذ بدون خوف أو هلع! ثم قالوا له: بعدما رفعت من السجود رأيناك تفكر، ففيم كنت تفكر؟ قال: والله كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس فيفسد عليّ صلاتي؟ قيل له: ما تفكر في الموت والخوف؟ قال: لا. ربي سبحانه وتعالى يحميني. فما الذي ربط بين هذا الأسد وهذا الرجل؟. ورابطة العبد بربه آخت بين الإنسان والجماد، أبو العلاء بن الحضرمي لما ذهب لفتح البحرين وعلم أهل البحرين أنه آتيهم حازوا السفن إلى جزيرتهم، وإذا به عند شط البحر ليس معه إلا سفينة البر وهي الجمال، فقال لأصحابه: إني عزمت على شيء. قالوا: ماذا؟ قال: نخوض البحر، لقد أراكم الله آية في البر وهو قادر على أن يريكم آية في البحر. وكانوا قبل ذلك وهم في الصحراء قد نفد ماؤهم وكادوا يموتون عطشاً، ينتظرون الموت، فإذا في القائلة يرون سحابة من بعيد تقصدهم، والسحابة ما دامت آتية فسوف تمر وتذهب، فلما أظلتهم أمطرت وشربوا وسقوا دوابهم، وملئوا أوعيتهم بحمد الله ومشوا تلك آية، فقال: إن الله قادر على أن يريكم آية كذلك في البحر. قالوا: على بركة الله. فتقدم قائدهم ووقف وخاطب البحر قائلاً: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله -إن القاسم المشترك بينهم أنهم كلهم لله- عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله. ثم قال: اعبروا باسم الله. يقول ابن كثير في البداية والنهاية في إيرادها: ما ترجل الفارس، ولا احتفى المنتعل، وكأنهم يمشون في الصحراء، وعبروا وقاتلوا وانتصروا ورجعوا. إذاً: ارتباط العبد بالله، والمؤاخاة بين الفرد والآخر لم تقتصر على الإنسان والإنسان، بل امتدت إلى عالم الملائكة، والحيوان، فعليك أن تقوي صلتك بالله، وعليك أن تحافظ على تلك الأخوة بينك وبين إخوانك. أيها الإخوة الكرام: إن هذا المنهج العملي في الإسلام هو الذي يهمنا، وليس مجرد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. ثم كيف توصل النظام الإسلامي إلى أن يوجد أخوة بين المسلمين؟ أولاً: ردهم إلى أصلهم {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، {شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]. ثانياً: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103]، جانب المادة في الجسم حافظ على حقوقه وحرم الاعتداء على تلك الحقوق، وسلط روافد الخير التي تنمي وتغذي دوحة الإخاء. وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعلنا من المتحابين في الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهجرة النبوية [3]

الهجرة النبوية [3]

أحداث في طريق الهجرة

أحداث في طريق الهجرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: أيها الإخوة! لا زلنا مع أحداث الهجرة النبوية الكريمة، وقد تقدم مجمل القول عن نقاط الهجرة الأربع: دوافع الهجرة، مقدمات الهجرة، المنهج العملي للهجرة، النتائج التي ترتبت على تلك الهجرة النبوية الشريفة. وانتهى بنا الحديث ونحن في طريق الهجرة من بيت النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى الغار، إلى أحداث الغار وما كان فيه.

أبو بكر يتحمل مسئولية الهجرة

أبو بكر يتحمل مسئولية الهجرة وموقف الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الكريمة في وصف الموقف: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وأشرنا إلى النقطة البلاغية الكريمة في المعية، عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. على أن هناك موقفاً آخر للكليم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما أمر أن يخرج بقومه ويسير بهم، قال: وإلى أين؟ قال: في ظل السحابة أينما سارت، فخرج وإذا بالسحابة تسير حتى ساقتهم إلى ساحل البحر. ولما خرج بنو إسرائيل ليلاً وعلم فرعون بخروجهم، بات في المدائن يجمع جنده، فسار على إثرهم، فإذا بموسى ومن معه بين خطرين، البحر أمامهم والعدو وراءهم، فأيقن القوم بالهلاك، فقالوا: إنا لمدركون، لا طريق أمامنا، وهذا العدو وراءنا، ولكن نبي الله موسى الذي خرج بأمر من الله موقن بنصر الله فقال: كلا -ولو نطقت بكلمة كلا أربع أو خمس مرات لأحسست بالآلام؛ لأنها كلمة قوية يزلزل صوتها الفم- {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أي: سيدلني، وأشرنا إلى الفارق بين (إن الله معنا)، و (إن معي ربي)، بأن موقف الصديق رضي الله تعالى عنه كان جزءاً من المسئولية في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أعد الرواحل، وكان يصحبه في عرضه على القبائل، وهيأ له الطريق، وخرج معه رفيق الهجرة. ولما خرج كان تارة يسير أمامه، وتارة وراءه، فيسأله: ما لي أراك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فقال له: أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر؟ قال: بأبي أنت وأمي، إن أهلك وحدي فأنا فرد من الناس، أما أنت فمعك الرسالة. فـ أبو بكر يسهم في الحفاظ على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أشرنا في قصة سراقة لما لحقهم فكان منهم قاب قوسين، فأنذر أبو بكر رسول الله، قال: (الطلب أدركنا يا رسول الله، وبكى، قال: ما الذي يبكيك يا أبا بكر؟ قال: والله لا أبكي على نفسي ولكن عليك أنت ... ) من هنا كان قد تحمل جزءاً من مسئولية الهجرة، وكان له شق من تلك المعية {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. ولم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر مع رسول الله لما جاء الفرج وخرجوا من البحر {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أعوذ بالله من الشيطان! الآن ما خلصكم إلا التوحيد وحده، فهل الأصنام هي التي أنجتكم من فرعون، وجلعت الماء جامداً والطريق يابساً؟ سبحان الله العظيم! إذاً: لم يكن في قوم موسى من يعادل أبا بكر رضي الله تعالى عنه.

تقدير الصحابة لموقف أبي بكر في الهجرة

تقدير الصحابة لموقف أبي بكر في الهجرة جاء رجل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنه وهو يطعن في خلافة أبي بكر ويشيد بـ علي رضي الله تعالى عنه، قال: على رسلك، أما تقرأ قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] من ثاني رسول الله؟ قال: أبو بكر {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40] وهما في الغار، من صاحبه؟ قال: أبو بكر، {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] مع من؟ مع رسول الله وأبي بكر. قال: أعطني واحدة من هذه لـ علي؟ ولذا عمر رضي الله تعالى عنه كان يقول: (لليلة من أبي بكر في الغار تعدل آل الخطاب جميعاً). كان الصديق رضي الله عنه خائفاً ويقول: (لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا) ورسول الله يطمئنه: (ما بالك باثنين الله ثالثهما) بينما في غزوة بدر الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد في الدعاء حتى يسقط رداؤه من طول ما يرفع يديه إلى السماء، وأبو بكر يقول: (حنانيك يا رسول الله، إن الله ناصرك، إن الله منجز وعده)، الرسول مجتهد في الدعاء وأبو بكر يطمئنه، على عكس ما كان في الغار، لماذا؟ لأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لم يكن لنفسه ولا مخافة على شخصه، بل من أجل الأمة التي جاء بها للعير وقابلت النفير، ولذا أعلنها وقال: (إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فكان اجتهاده في الدعاء وضراعته إلى المولى من أجل تلك العصابة والجماعة. إذاً: خرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار وقد عرفا ما يقع في مكة لأن عبد الله بن أبي بكر كان يبيت في مكة ويأتيهم بالأخبار، فهو قسم الإعلام في الأمة، وكان راعي غنم أبي بكر يأتي في الصباح الباكر يحلب لهم من الغنم، ويسير بالغنم على آثار عبد الله بن أبي بكر حتى لا يعلم المشركون من جاء ومن ذهب خطة، تدبير، سياسة، أمن وأمان، كل ما يمكن أن يفكر فيه الإنسان اجتمع في التحفظ والسرية، وفي مباشرة أمر الهجرة فيما يكون في استطاعة البشر.

عبر من موقف سراقة مع النبي عليه الصلاة والسلام

عبر من موقف سراقة مع النبي عليه الصلاة والسلام خرج صلى الله عليه وسلم يمشي، ثم يدركهم في الطريق سراقة، وكان سراقة لما علم بأن قريشاً جعلت مائة من الإبل لمن يأتي بهما حيين أو ميتين، وسمع من يقول: رأيت سواداً بذاك الطريق، فكان جالساً مع قومه، فقام على السطح وأمر جاريته أن تدني له فرسه وراء البيت، ونزل من السطح على فرسه حتى لا يعلم به أحد، وأخذ في ذاك الطريق، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له أبو بكر: (الطلب وارءنا يا رسول الله، قال: لا تخف، قال: الطلب قاب قوسين، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفنيه بما شئت). هذا الدعاء يذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الغلام مع ملك نجران الذي اقترف حادثة الأخدود، وهي: أنه كان الملك له ساحر، فقال له الساحر: قد كبرت سني، فاختر غلاماًً أعلمه السحر ليكون ساحراً عندك، وكان الغلام يمر في الطريق براهب يتعبد، فإذا مر عند الراهب سمع ما يقرأ فأعجبه، فعلم به الراهب فكان يدخله ويعلمه الدين، وكان يذهب عند الساحر أيضاً، فكان يتأخر على الساحر فيضربه، وإذا جاء عند الراهب يغيب على أهله فيضربونه فيصبر، فاشتكى للراهب، فقال له: إذا جئت إلى الساحر وقال لك: لم تأخرت؟ قل: حبسني أهلي، وإذا جئت إلى أهلك وقالوا: لم تأخرت؟ قل: حبسني الساحر، فنجا من الضرب، وبقي الغلام على هذه الحالة -التعليم المزدوج- ثم في يوم قال للراهب: أريد أن تعلمني الاسم الأعظم الذي تسأل الله به فيجيبك؟ قال: لا يصلح لك يا ولدي ولا تقدر عليه. وسأل رسول الله فقال: (أسألك باسمك الأعظم) الذي هو ذكر ألفاظ، وسأل ربه وأجابه، وجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها وقالت: (يا رسول! علمني الاسم الأعظم، قال: لا يصلح لك يا عائشة) وفي بعض الروايات قال: (يا عائشة أما تعلمين أن الله قد أعلمني بالاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، قالت: بأبي أنت وأمي علمنيه. قال: لا يصلح لك يا عائشة) لأنها سوف تفتن به، فحزنت وقامت تصلي، وقالت: (اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى التي هي كذا وكذا وما سئلت به أجبت، وأنزلت في كتابك، وعلمت أحداً من خلقك، إلا غفرت لي)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه فيما ذكرت). الذي يهمنا أن الراهب قال للغلام: لا يصلح لك يا ولدي، فقام الغلام وبذكاء، وأخذ الأسماء التي عرفها كلها من الراهب، واحدة واحدة ثم يلقيها في النار مكتوبة فتحترق إلا واحدة لم تحرقها النار، ثم أعاد كتابتها وألقاها في اليم فغرقت كلها إلا واحدة، هي تلك التي لم تحرقها النار، قال: هذا هو الاسم الأعظم. فجاء في يوم من الأيام يدعو إلى الله في جلساء الملك، وكان من جلساء الملك رجل أعمى، فقال له: أما لك أن يرد الله بصرك؟ قال وكيف ذلك؟ قال: الله! قال: إله غير الملك؟ قال: نعم، الله الذي خلقنا وسوانا، الله الذي يقدر على أن يرد إليك بصرك الذي خلقه فيك أولاً، الله الذي خلق السماوات والأرض، فآمن الأعمى، فدعا له الله بالاسم الأعظم فإذا بالرجل مبصر. ومن الغد رآه الملك في مجلسه مبصراً، فقال له: من الذي شفى بصرك؟ قال: الغلام، فدعا الغلام وقال: أبلغ بك من السحر أنك تبرئ الأعمى، قال: لا والله ليس سحراً، ولكنه ربي الذي خلقني وخلقك وخلقه هو الذي رد بصره إليه، قال: ألك إله غيري؟ قال: بلى، فهم به أن يقتله وهو صغير، وإذا برجل أبرص، وبرجل كذا، وكل يدعوه إلى الإسلام ويدعو له بالاسم الأعظم فيشفى. حينها شعر الملك بمن يخالفه في مجلسه، إن قتله قالوا: قتل صغيراً، ماذا يفعل؟ أمر جماعة من جنده وقال: خذوه واذهبوا به في البحر، فإذا توسطتم اللجة فألقوه في الماء وارجعوا، لا يريد أن يتحمل تبعته، وهذا من الضعف. فلما توسطوا وأرادوا إلقاءه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت -نفس الدعاء- فاضطرب القارب وتناثروا وسقطوا وبقي هو في القارب، ومن الغد إذا به في مجلس الملك يروي له ما حدث عندما أرادوا قتله، وأن الله أنجاني منهم، وكفانيهم بما شاء، قال: الله أيضاً؟ ثم جاء بجماعة آخرين كي يذهبوا به إلى قمة الجبل، قال لهم: إذا صعدتم الجبل فارجموه من قمة الجبل فلما ذهبوا به ووصلوا إلى القمة وأرادوا رميه قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل فتناثروا وبقي جالساً، ومن الغد جاء إلى مجلس الملك، ثم انتهى الأمر إلى ما تعلمون من قتله من كنانة الصبي. إذاً: اللهم اكفنيهم بما شئت، قالها صلى الله عليه وسلم حينما جاء سراقة، ثم ماذا حدث لـ سراقة؟ يقول ابن كثير: فغاصت قوائم فرسه الأربع في الأرض، وكانت أرض صلبة وليست رملية، ولا طيناً تلزق، ولا ماء بل قاعاً صلبة جامدة، فإذا بها تتفتح لقوائم الفرس، وتنزل قوائم الفرس إلى أسفل، وفي بعض الروايات الأخرى: (فعثرت به فرسه، فسقط عنها، وما كان من خلقها)، وفي بعض الروايات: أخذ الأقداح وعمل القرعة، هل أدركه أو أتركه، فخرج (أتركه)، فلم يقبل لأنه يريد المائة من الإبل، والسهام التي يحملها وأقداحه في الجاهلية تقول له: اتركه، وهو غير قابل بهذا، فلما دنا غاصت قوائم فرسه في الأرض، أو عثرت به وسقط عنها. المهم نادى: يا محمد! ادع ربك كي ينجيني مما أنا فيه ولن يصيبك مني أذى. هناك عرف بأن لمحمد رباً أحسن من ربه، وعرف الحق، فلما دعا له النبي قام، فتعجب سراقة مما رأى، وقام يعرض عليهم الزاد فقالوا: نحن في غنى عن ذلك. قال: خذ هذا السهم من كنانتي وستمر بغنمي، فاعرضه على الراعي وخذ من غنمي ما شئت. قال: يغنينا الله عن غنمك. ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أتعجب يا سراقة من هذا؟ كيف بك يا سراقة إذا أنت لبست سواري كسرى؟ قال كسرى أنوشروان؟!) أمر مذهل ما استطاع سراقة أن يتحمل، فهذا شخص أخرجه قومه، كما قال الله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ويمكر به قومه، ثم هو وصاحبه فقط ويعد سراقة بأن دينه سيظهر، وأنه سوف يأخذ عرش كسرى، وأن سراقة يلبس سواريه. هذا وقد اختفيت في الغار ثلاثة أيام، وأنت خائف من قومك إلى قوم آخرين يؤوونك، وتبحث عن مأوى جديد لدعوتك، ومع هذا تعدني بسواري كسرى؛ فقال: اكتب لي كتاباً بسواري كسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب له يا أبا بكر، فكتب له) فرجع سراقة، وكلما رأى طلباً يطلب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارجعوا اطلبوه في غيره فقد كُفيتم تلك الجهة، وانظر إلى التعبير في الحديث والصدق في الكلام؛ لأنه أعطى عهداً: لقد كفيتم تلك الجهة! هذا سراقة الآن يفي الله سبحانه وتعالى له بوعد رسوله، ففي زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يفتح الله على المسلمين المدائن، ويؤتى بلباس كسرى وله سواران من الذهب، وله تيجان وصولجان وأشياء عجيبة جداً، فنظروا فإذا هو لباس طويل لرجل ضخم، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يريد أن يراه كي يعطيه من يرتديه، فأخذوا يستقرئون الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فلبس والصك في جيبه، وتذكر: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى). فلبس ورآه الناس، ثم قالوا له: انزع، فقال: لا، هذا أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، وأعطاني عليه كتاباً، أما عمر رضي الله تعالى عنه الملهم الذي يفر الشيطان من طريقه، كما في الحديث: (لو كان فيكم ملهمون لكان عمر) ونزل الوحي مصدقاً ومطابقاً لما قال عمر في عدة مرات، قال عمر: يا سراقة! إنما قال: (إذا أنت لبست) فقد لبست، وما قال تملكت، وأخذه منه عمر بالمحاكمة إلى كتابه، وعدك بأن تلبس فقد لبست، وكونك تلبسه لا يملكك، فانتزعه منه. يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لـ سراقة: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى) وهذه لها نظائر كثيرة في السنة كما حدث في غزوة الخندق عند الكدية، وأشياء أخرى.

نزول النبي صلى الله عليه وسلم في خيمة أم معبد

نزول النبي صلى الله عليه وسلم في خيمة أم معبد بعدما أمن الرسول صلى الله عليه وسلم الطلب وبعد عن مكة، مر على امرأة تسمى أم معبد، وهي امرأة في طريق المسافرين تكرم الضيوف. فلما نزلوا عليها قال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هل عندك من لحم شراء أو قرى، إن تبيعي نشتري، وإن تقرينا نقبل) قالت: يا هذا! إن كنت تريد القرى واللحمة فعليك بشيخ القبيلة، أنا امرأة عجوز في الطريق. فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة في البيت، وفي بعض الروايات: أنه نزل بجانبها في الظل، فلما وجدتهم جالسين ووجوههم وجوه خيرة، دعت غلامها وقالت: يا غلام! خذ هذه الشاة الكنوز والشفرة، واذهب بها إليهما وقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا منها. هنا تأتي معجزة أخرى ويأتي موقف يحتاج إلى تأمل وتعمق: أنتم طلبتم لحم قرى أو شرى وجاءكم اللحم، فإذا بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، إذا بالرحيم والرحمة المهداة حينما يكون في طريقه إلى خطوات الدعوة وارتياد موطن آخر، يأبى أن يريق دماً في طريقه ولو كان لشاة، يقول: يا غلام! رد الشفرة، وائتني بقدح. فقالت العجوز: قل له: إنها كنوز وليس فيها شيء. قال: قلت له. قالت له: خذ، وأخذ الإناء وذهب إليهما، فأخذ صلى الله عليه وسلم العنز ومسح ضرعها ودعا الله، فدر ضرعها، وحلب وملئ الإناء، وقال: اسقها أولاً، قالت: لا والله أنت أحق بالسقيا أولاً، فشرب صلى الله عليه وسلم، وشرب أبو بكر، وشربت المرأة، وشرب الغلام، وبقي الإناء ملآن باللبن، ثم دعا الله فانكمش الضرع وعاد كما كان. فلما جاء أبو معبد، قال: من أين لكم هذا اللبن؟ قالت: من شاتنا. قال: أليست بكنوز؟ قالت: بلى، فقد مر بنا رجل، لئن كان ساحراً لهو أسحر الناس على وجه الأرض، ولئن كان صالحاً لهو أصلح الناس على وجه الأرض. قال: لعله رجل قريش، قالت: لا أدري، ومضى صلى الله عليه وسلم في طريقه حتى وصل إلى قباء.

أعمال النبي عليه الصلاة والسلام في قباء

أعمال النبي عليه الصلاة والسلام في قباء من غرائب الصدف أو الترتيبات الإلهية أن أهل قباء تسامعوا بخروج رسول الله إليهم، فكانوا كل يوم ينتظرونه من جهة الجنوب وهي جهة مكة، وإذا اشتد عليهم حر الشمس يرجعون إلى بيوتهم، وهكذا كل يوم ينتظرون المجيء فلم يأت. وفي يوم من الأيام بعد أن رجعوا إلى بيوتهم ولم يبق أحد، إذا برجل يهودي على أطمة يرى نبينا صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فيعرفهما، فيقول: يا بني قيلة! هذا جدكم قد حضر. الجد بمعنى: الحظ، وبنو قيلة: هم الأوس والخزرج. وسموا بذلك لأن أمهم الأخيرة كانت تسمى قيلة. فقاموا إليه سراعاً، وما كانوا رأوا رسول الله، ولا يعرفون رسول الله من صاحبه، فلما ارتفعت الشمس وقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، عندها عرفوا رسول الله، فتقدموا إليه، وجاء صلى الله عليه وسلم ونزل بقباء. الموقف هنا: من الذي كان يقود الركب؟ كان رجلاً مشركاً، ومن الذي أعلن عن وصول رسول الله إلى المدينة؟ يهودي، وهذا من باب الإرهاص بأن الله سبحانه ناصر دينه، ومستخدم المشرك واليهودي لخدمة هذا الدين، وإرادة الله فوق كل شيء. وصل صلى الله عليه وسلم قباء، ويتفقون بأن وصوله كان في يوم الإثنين، كما أن خروجه من مكة كان يوم الإثنين أيضاً. ثم صعد من قباء يوم الجمعة التالية أو الجمعة التي بعدها -يختلفون في ذلك- والذي يهمنا أنه في الجمعة الأولى، وفي مدة أربعة أيام بنى مسجد قباء.

عناية الإسلام بالمساجد

عناية الإسلام بالمساجد عناية الإسلام قبل كل شيء بالمسجد؛ لأن المسجد هو قصبة البلدة، وبيت الأمة، والمجمع الأكبر، ويكفي فيه قوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، فأول شيء وضع هو المسجد، ولكن لم وضع؟ بعضهم يقول: وضع للعبادة، ووضع لكذا، نقول: بل وضع للعمران، أول بناء وأول حضارة وأول استقرار إنما هو للبيت الحرام، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم أول ما وصل قباء باشر بناء المسجد؛ لأن المسجد قاعدة تجمع، ومن ثم يكون الانطلاق. وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه كان على هذا المنهج، فلما أراد أن يبني الكوفة قال لقائدها: اختر مكاناً رابياً -أي: مرتفعاً؛ لأنه أنقى للهواء- ثم اختر رجلاً رامياً يقف وسط المكان ويرمي إلى الجهات الأربع، وعليه فخط المسجد حيث وقف، واجعل بناء البيوت حيث وقعت السهام، واجعل ما بين البيوت والمسجد ميداناً عاماً. أين تخطيط المدن على هذا المنوال؟ نحن عندنا إمكانيات لبناء شوارع متسعة، ولكن بعد خمس عشرة سنة نريد أن نوسعها؛ وذلك بسبب قصر النظر، فهذا التخطيط الذي فعله عمر كان لمئات السنين، أما تخطيطنا فلعصرنا ولوقتنا، شارع عرضه مائة متر، ويخطط على مائة متر، وينفذ على خمسين، والأراضي واسعة، وأنت تأخذها ثم تتركها حتى تقام العمائر، ثم تهدم وتوسع. عمر اعتبر المسجد قصبة القرية الجديدة والبيوت من حوله. فعني صلى الله عليه وسلم بمسجد قباء، ويتفق علماء السيرة والتاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس وقال: من يركب الناقة؟ قالوا: فلان، وبعضهم يقول: هذا في حلبها، وبعضهم قال: أمر رجلاً أن يركب القصواء وترك لها زمامها، فاستدارت دورة كاملة يخط على أثرها المسجد؛ فخط المسجد، وعند وضع المحراب، وليس هو بمحراب مبني؛ يقولون: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله وأراه المكان حتى رأى الكعبة، وقد وضعت قبلة المسجد على ما رأى. ثم كانت فضيلة هذا المسجد (أن من خرج من بيته متطهراً إلى قباء، فصلى في المسجد ركعتين كان له كأجر عمرة) ولا نناقش في سند هذا الحديث؛ فهذا عند جمهور المحدثين معمول به.

أحداث في الطريق من قباء إلى المدينة

أحداث في الطريق من قباء إلى المدينة أخذ صلى الله عليه وسلم ينزل من قباء إلى المدينة، وكانت القرى ومساكن القبائل تمتد من الجنوب إلى الشمال، فأخذ يسير على راحلته، ووقعت أحداث في قباء من مجيء العزاب العوائل إلى آخره خرج رسول صلى الله عليه وسلم على راحلته. وكان كما يقول ابن كثير وغيره: واستشرف على البيوت أهل المدينة حتى العذارى والنسوة والصبيان والكبار والصغار، يريدون أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مر بقبيلة من قباء إلى المدينة إلا وخرجوا إليه وأمسكوا بزمام الراحلة، وقالوا: هلم إلينا يا رسول الله، هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة. لمْ يقولوا: على الطعام الطيب والرطب، والمجلس اللين؛ لأنه خرج من مكة على بيعة أهل المدينة من قبل السبعين الذين بايعوه على أن يمنعوه، فدعوه إلى المنعة والعدد ليفوا بما بايعوا عليه: هلم إلى العَدد والعُدد والمنعة، أي: على ما بايعناك عليه، فقال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) أي: أنا ليس لي اختيار في موطن نزولي؛ فإن الناقة مأمورة بأن تنزل في المكان الذي يريده الله. سبحان الله! إن جئنا من جهة العادة والطبيعة: وأرحم خلق الله، وأفهم خلق الله، وإذا جئنا إلى الناحية الأخرى: رسول يوحى إليه من الله: خلوا سبيلها، اتركوها تمشي، كيف هذا؟ نبي يوحى إليه، آتٍ لكي يبلغ رسالة يقول هذا، ولكن وراء ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله. ومر على أخواله من بني النجار، فقالوا: هلم إلى أخوالك يا رسول الله! وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) فمرت حتى جاءت إلى هذا الحي ونزلت الناقة وبركت، ثم لم ينزل عنها، بل الناقة بعد أن بركت ودارت واستدارت، وتلفتت ثم رجعت إلى مكانها الأول وبركت فيه، يقول ابن كثير: كالمتحقق من معالم يديه، يعني: مثل مهندس حكيم نبيه عنده خارطة لمنْجَم، أو لأمانة، أو لموقع، وهو ماضٍ على الخارطة من أجل أن يصل إلى الهدف الذي يريده، وهذه المأمورة سارت في طريقها إلى المكان الذي أراده الله لها ثم نزلت، ولما رجعت ونزلت المرة الثانية مدت عنقها، فقال صلى الله عليه وسلم ({هو المنزل إن شاء الله).

نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري

نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري وصلنا إلى المكان، والمكان فيه عدة بيوت، منها بيت أبي أيوب الأنصاري، وكان رجلاً عاقلاً ما زاحم الناس، بل ذهبب إلى الرحل وأدخله إلى بيته، فقال الرسول: (أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: المرء مع رحله). هنا موقفان: الأوس والخزرج استمروا في حرب لمدة مائة سنة، وما انتهت إلا قبل مجيء رسول الله بخمس سنوات، وكانا كفرسي رهان يتسابقان فيما يفعلانه لرسول الله، وجاء رسول الله على بيعة منهما معاً عند العقبة، فعندما يأتي المدينة وهما متنافسان عند من ينزل؟ إن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم علينا، وإن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم من أول الأمر علينا، فيوجد الصدع لأول لحظة، فكان الأفضل أن يترك الاختيار للمأمورة، وإن كان أردوا أن يعتبوا فليعتبوا على الناقة وهو يقول: والله أنا تركت أمري لله، والله ساق المأمورة، وهي التي نزلت حيث أمرت، فطابت النفوس بذلك. ثم المكان الذي نزل فيه به بيوت متجاورة، ينزل عند من منهم؟ لو اختار بيتاً على بيوت الحي لأثار أيضاً تساؤلاً: لماذا اختار بيت فلان؟ لكن عندما تكون من أحدهم بدون أن يشعر رسول الله ولا يشعر الجماعة ويلتفت صلى الله عليه وسلم: (أين رحلي؟ ثم قال: المرء مع رحله) من هو هذا؟ إنه أبو أيوب، وكان اختيار بيت أبي أيوب من عند رسول الله؟ وهل حابى وجامل فيه على حساب الآخرين؟ لا. وينكشف الغيب عن سر وعن معجزة أخرى، ما هو سر بيت أبي أيوب؟ تاريخ بيت أبي أيوب يرجع إلى زمن ما قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين جاء تبع من اليمن واستولى على المدينة في طريقه إلى غزو إفريقيا، وخلف ولده ملكاً عليها، وفي يوم من الأيام ذهب هذا الولد وصعد النخلة ليجني منها، فجاء صاحبها وضربه بالمنجل فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّر. فلما رجع الملك وجد ولده قتيلاً، فأراد أن ينتقم لولده، فقاتل أهل المدينة فلم يغلبهم، وحاصرها فاستمر الحصار طويلاً، حتى نفد زاد الملك والجيش، فقال أهل المدينة فيما بينهم: والله ما أنصفنا عدونا! نقاتلهم حتى إذا أتى الليل أوينا إلى بيوتنا وزوجاتنا وطعامنا وفراشنا، وعدونا يبيت طاوياً جائعاً ونصبح نقاتله، أخرجوا إلى الجيش طعامهم، فقال الملك: واعجبا لأهل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويقروننا ليلاً. إذاً: الأصالة في المدينة من قبل الهجرة، واستمرت تلك الأصالة حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. فقال الملك: إن أمر هذه البلدة لعجيب، فخرج إليه حبران، وقالوا: ما تريد يا أيها الملك من هذه القرية؟ قال: أريد أن أهدمها، قالا: لن تقدر، ولن تسلط عليها؛ لأنها مهاجر آخر نبي يأتي إليها، قال: وبم تشيران عليّ؟ قالا: أن تبني له بيتاً إذا ما نزل فيه، فبنى البيت وكتب كتاباً، وأعطاه لأحد أبناء الحبرين، وكان من نسلهما أبو أيوب الأنصاري، فجاء النبي ونزل في البيت الذي بناه الملك لينزل فيه النبي إذا جاء المدينة. ولعلنا نقف عند بيت أبي أيوب الأنصاري، ولنا مجلس آخر إن شاء الله نبدأ فيه بنتائج الهجرة، وكيف قابل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والهجرة المجتمع المدني -إن صحت هذه التسمية- وبالله تعالى التوفيق حديث الهجرة حديث عميق، ودروسها دروس عظيمة؛ لأنها كما أسلفنا بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، والذي ينقل من الجاهلية إلى الإسلام ومن الجهل إلى العرفان، والحديث عن الهجرة له جوانب نحددها، وأرجو من كل طالب علم أن يمعن النظر في تلك الجوانب ويتأمل ترابط بعضها ببعض. أولاً: أن الهجرة سنة الأنبياء، والهجرة هي وسيلة انتشار الدعوة ووصولها إلى الأمم، فالخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هاجر إلى مصر ثم إلى الحجاز، ثم قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، ثم هجَّر من ذريته هاجر وإسماعيل، وكان بهذا التهجير ميلاد أمة جديدة نقلت دعوة من أرض النبوات بالشام، وعن أمة بني إسرائيل إلى أرض الحرمين الأمة العربية. وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هاجر، وخرج مرتين، المرة الأولى حين أتاه الآتي وقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، فخرج خائفاً يترقب، ثم بعد ذلك رجع، وتحمل الرسالة وجاء إلى فرعون، وخرج مهاجراً ببني إسرائيل. ولوط عليه السلام أيضاً خرج وهاجر وترك القرية وكان من أمرها ما كان. فهجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً وليست جديدة، بل هي على سنن الرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

جوانب الهجرة النبوية

جوانب الهجرة النبوية والجوانب التي نحددها للحديث عن الهجرة هي: أولاً منها: دوافعها، بمعنى: أسبابها ولماذا كانوا يهاجرون؟ ثانياً: مقدماتها، أي: الأحداث التي تسبق عملية الهجرة مباشرة. ثالثاً: منهجها، طريقتها، كيفيتها. رابعاً: نتائجها. وإذا جئنا إلى ما ذكرنا من هجرة الأنبياء نجد أن الأسباب والدوافع هي: تجنب إيذاء الأعداء والمشركين ليتمكن المؤمنون من وطن يؤدون فيه حق الله بحرية.

أسباب الهجرة النبوية

أسباب الهجرة النبوية من أسبابها ودوافعها: الفرار بالنفس والسلامة من القتل، ولا يكون ذلك إلا بعد الصبر والتحمل.

أسباب هجرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

أسباب هجرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كم تحمل من قومه، وكم صابر مع أبيه! إلى حد أنهم جمعوا له الحطب وأوقدوا له النيران وألقوه فيها، وهو صابر لم يفر. ويذكر ابن كثير وغيره أنهم حينما صعب عليهم إلقاءه في النار مباشرة لعجزهم وعدم استطاعتهم الدنو منها لشدة لهيبها، جاء الشيطان وأوحى إليهم بعمل المنجنيق، والمنجنيق يرمي بالثقل إلى مسافة بعيدة، إلى أن جيء بإبراهيم ووضع في المنجنيق وهو صابر، ويأتيه جبريل ويقول: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم. كلمات موجزة، وهذا كما يقولون: لكل مقام مقال؛ لأن الوقت ضيق، ولا حاجة لكثرة الشكوى ولكثرة الكلام، وكأنه يقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي، وهل حالي خاف عليه حتى أقول له: ارحمني؟! فإنه مطلع وعالم وراءٍ، وهو يعلم. فصبر وتحمل وقاوم إلى أقصى حد، فكانت نتيجة صبره ونتيجة اتكاله على الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] كوني برداً ومع البرد سلام؛ لأن البرد قد يقتل، فتأتي القدرة الإلهية وتسلب النار خاصية إحراقها التي تذيب الحجر وتصهر الحديد؛ لأن الذي خلق إبراهيم وخلق النار واحد، وهو الذي أعطاها قوة الإحراق واللهيب وهو الذي يسلبها منها، بعد هذا خرج هو وسارة وكانت قضيتهما طويلة. نأتي إلى موسى عليه السلام، فإنه لما خرج إلى المدينة، وجد واحداً من شيعته وآخر من عدوه يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته، فضربه فقتله، ثم خرج وقابل الرجل الصالح أو النبي شعيباً، وتزوج ثم رجع، وجاء وكان من أمره أن الله سبحانه وتعالى في عودته يناديه ويناجيه ويبعثه إلى فرعون، فماذا كانت النتيجة؟ فرعون يذبح الأبناء ويستحيي النساء من قبل، والجو جو قاتل، وجاء موسى بالآيات، ولكن فرعون كابر أمام تلك الآيات {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فما كان من موسى عليه السلام وبني إسرائيل وقد أدركهم الضغط والتعذيب والتشريد والإيذاء من فرعون وجنوده إلا أن أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج، فماذا كانت النتيجة؟ البحر أمامهم وفرعون يكاد أن أدركهم، فيقول أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، ولكن موسى موقن بالله، فقد خرج بأمر من الله، وهو يعلم بأن الله لن يتخلى عنه {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء:62]، وما دام معه ربه فلم يخاف من فرعون؟ ولم يخش البحر؟ {سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، أي: يرشدني ماذا أعمل؛ لأن قوة موسى أمام قوة فرعون ليست بشي. أيضاً تأتي المعجزة والقدرة الإلهية فتتدخل، فأوحى ربك إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77] الماء الرجراج السيال، البحر المتلاطم، فيجمد الماء ويصير طرقاً، والأرض يابسة، وبنو إسرائيل كلهم اثنا عشر سبطاً، كل سبط لهم طريق مستقل يسيرون فيه، والطود الذي بين هذا الطريق وذاك الطريق فيه نوافذ حتى يطمئنوا على بعض، ولا يحدث قلق. صار الماء جامداً وفيه نوافذ، والذي سلب النار إحراقها سلب الماء سيلانه وأعطاه خاصية اليبوسة والجمود، وترك الطريق لفرعون ولمن جاء، وأغراه الشيطان فدخل، وكانت النتيجة إهلاك فرعون. إذاً: الرسل هاجروا، وما هاجروا إلا بعد أن أوذوا وصبروا، ولم يبق من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل لكن إلى متى؟ فكانت الهجرة.

هجرة المؤمنين هربا من إيذاء المشركين

هجرة المؤمنين هرباً من إيذاء المشركين أيضاً من أسباب الهجرة ودوافعها في الإسلام: إيذاء المشركين للمؤمنين، وكلنا يعلم ما كان عليه بلال وصهيب وعمار وآل ياسر: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة). بلال يؤتى به في الصحراء في القائلة، في شدة الحر على الرمضاء، لا تقدر أنت أن تمسها بقدمك، ويجرد هو ويطرح عليها، ويؤتى بصخرة حارة وتلقى على بطنه، ويقال له: ارجع عن دين محمد، فيقول: (أحد أحد). ما الذي كان يقيه هذا الحر؟ ويحمل عنه هذه الصخرة؟ إيمانه بالله ويقينه، كما قال هرقل لـ أبي سفيان: أيرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: هكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب. أي: الإيمان إذا خالط القلوب فلا يمكن أن ينزع، ولا تقدر أن تخرجه. فاشتد إيذاء المشركين للمسلمين، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سلم من إيذائهم، فقد كانوا يعتدون عليه، ويأتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويدافع عنه، وفي بعض المرات جاء أبو بكر يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، فتوجهوا إلى أبي بكر وأخذوا يضربونه حتى صرع، وأغمي عليه من كثرة الضرب الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة، وعندما يسجد يأتي أشقاهم ويقول: إن بني فلان نحروا جزوراً اليوم فليذهب أحدكم ويأتي بسلا الجزور ويضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد. وفي بعض كتب السيرة: أنه وضع قدمه على رقبته وهو ساجد، والمولى يمهله، ويذهب الذاهب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويخبرها، وتأتي فترفع الأذى عن كتفيه. عثمان بن مظعون كان في جوار رجل من سادات المشركين، فكان يمشي في مكة ويأتي إلى الكعبة، فيرى إخوانه المستضعفين يعذبون من قبل صناديد قريش، فحز هذا في نفسه، قال: أنا أنعم بالطمأنينة والأمن بجوار رجل مشرك وإخواني يعذبون؟! انظروا المروءة والإحساس: أنا آمن وأنعم في أمن رجل مشرك وإخواني في العقيدة يعذبون! ما دام أننا إخوان في العقيدة فيجب أن نكون إخواناً في كل شيء، فذهب للذي أجاره وقال: يا فلان جزيت خيراً، جئت أرد عليك جوارك، قال: لماذا يا ابن أخي، هل آذاك أحد؟ هل تعرض لك أحد؟ قال: لا، ولكني رأيت نفسي أنعم في جوارك وإخواني يعذبون فأردت أن أكون معهم، قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد أن ترد علي جواري فائت علانية في نادي قريش كما أجرتك علانية في نادي قريش، فجاءه في نادي قريش وقال: يا أبا فلان! وفت ذمتك؛ إنك لوفي كريم، ولكني أريد أن أرد إليك جوارك، قال: يا ابن أخي إنك في مأمن، وما السبب؟ قال: أردت أن أكون مثل إخواني يصيبني ما يصيبهم، قال: قبلت. وخرج من عنده، ويمر بناد من أندية قريش وفيهم لبيد الشاعر المعروف ينشدهم الشعر فجلس، فقال لبيد كلمته المشهورة: ألا إن كل شيء ما خلا الله باطل فقالوا: صدقت. ثم أكمل البيت: وكل نعيم لا محالة زائل قال له: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، الشاعر يقول ذلك على مقتضى قياس الدنيا؛ لأنه لا يؤمن بالجنة ولا بنعيمها، فالشاعر صادق في معتقده، والناقد للشعر أو للمقالة أو للكلمة يجب أن يراعي جميع الملابسات من كل جهة، ولكن الذي رد عليه لم ينظر من نفس الزاوية وبنفس الفكر الذي نظر به الشاعر، بل بمنظار جديد ألا وهو منظار الإيمان باليوم الآخر؛ فلما رد عليه وقال: كذبت! قطع الشاعر الشعر وقال: ما هذا يا معشر قريش! والله ما سبق أن أحداً رد على قولي قبل اليوم، وجعلها إهانة كبيرة جداً في حقه. وكانت الشعراء في السابق لهم الكلمة، وكأنه وزير الإعلام في الدولة، وكانت القبيلة تفخر بنبوغ شاعر أو ظهور فارس، لأن هذا يدافع عنها بالكلمة، وهذا يدافع عنها بالقوة، فيحميانها باللسان والسنان. فقام رجل حمية ولطم عثمان رضي الله عنه على عينه فخضرها، وذلك لأن الكدمة تجعل الدم يحتبس تحت الجلد، فإذا احتبس الدم تحت الجلد اخضر الجلد، ثم بعد زمن يتشرب الجلد الدم، وكان الذي أجاره موجوداً فقال: والله يا ابن أخي لقد كنت في غنىً عن هذا، قال: لا والله! لعيني الأخرى في حاجة لمثل ما أصاب أختها! ما هؤلاء الرجال؟! يضرب على عينه ومجيره يقول: (لقد كنت في غنىً عن هذا، فيقول له: لا، إن عيني السليمة في حاجة لمثل ما أصاب هذه)، وذلك لأنه يعلم أنه أوذي في سبيل الله. فوقع رضي الله عنه في الشدة والتعذيب مع المسلمين، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان في جوار عمه أبي طالب، وقد أعلنها: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً فكان عنده من يحميه، وأما المسلمون فلم يكن عندهم من يحميهم، فأشفق عليهم ووجههم للهجرة إلى الحبشة، وسيأتي الحديث عنها إجمالاً.

حصار قريش للمسلمين

حصار قريش للمسلمين توفي عم النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها. كانت الشدة التي وجدت في مكة حينئذ لم يسبق لها نظير في العالم، فقد تآمرت قريش على بني هاشم خاصة ليقاطعوهم، وكتبوا الصحيفة الظالمة في خيف بني كنانة، وفيها: لا نزوجهم ولا نتزوج منهم، ولا نبيعهم ولا نبتاع منهم. فوقع عليهم حصار اقتصادي واجتماعي، وانحصروا في الشعب، هل هناك مضارة أكثر من هذا؟ يقول ابن هشام وغيره: حتى إن بعضهم كان يأكل ورق الشجر خديجة التي كانت ذات أموال طائلة لا تقدر أن تحصل على شيء منها، وكان الرجل يأتي في ظلام الليل إلى فم الشعب بالبعير عليه الطعام ويضربه لينطلق في الشعب! والحصار الاقتصادي من أشد ما يكون على الناس، سواء كان على الأفراد أو الجماعات أو الأمم؛ لأن الإنسان -كما قيل- مدني بطبعه، وقانون الحياة مبناه على المعاوضة، فلو صدق المسلمون في استخدام هذا الحصار لنجحوا، وهو أشد سلاح. لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وجاء الثلاثة الذين خلفوا يعتذرون، أوقع عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حصاراً، فمنع الناس من الكلام معهم، ثم أمرهم أن يرسلوا زوجاتهم إلى بيوت أهاليهن، قال كعب بن مالك: (أتيت إلى ابن عم لي في بستانه فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام! فقلت له: هل أنا مؤمن أو منافق؟ فما رد علي، فقلت: أتعلم أني أحب الله ورسوله، أم لا؟ فما رد علي، فكانت هذه أشد علي من غيرها. ابن عمه لا يرد عليه حتى السلام! فالكل قاطعهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما حكى الله عنهم. إذاً: حينما يفرض حصار على أمة، ويشدد هذا الحصار، فهو أصعب ما يكون عليها؛ لأنك تعطل فيها الجبلة الإنسانية؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، وأنت تقطع عنه هذه المدنية، وتجعله في ضيق شديد، لا يحيا حتى كما يحيا الحيوان، فالحيوان يمكن أن يأكل من أي شيء، لكن إذا منعته المرعى والماء أصبح في طريقه إلى الموت. كتبت الصحيفة، وقوطع بنو هاشم، وكان البلاء أشد ما يكون على المسلمين، ولما أراد الله إظهار معجزة لرسوله، جاء الرسول إلى عمه وقال: (يا عم! إن الصحيفة التي كتبوها سلط الله عليها الأرضة!). وفي بعض الروايات: (فأكلت منها لفظ الجلالة!)؛ لأن الصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن يكون لفظ الجلالة في صحيفة ظالمة. وفي بعض الروايات: (فأكلتها إلا لفظ الجلالة) لأن لفظ الجلالة محترم، ولا تسلط عليه الأرضة، على كل سلط الله الأرضة على الصحيفة، والأرضة هي: حشرة دون النمل الأبيض كما يقولون، فأكلت الصحيفة، وميزت بين لفظ الجلالة وبين غيره، سواء أكلته أو تركته. فجاء أبو طالب إلى سادات قريش وقال لهم: الآن أفصل بينكم وبين محمد: لقد أخبرني محمد عن الصحيفة بكذا، فافتحوا الكعبة وانظروا فيها الصحيفة فإن كان صادقاً فعليكم أن ترجعوا عن المقاطعة وعليكم أن تنقضوا الصحيفة، وتعلموا أنكم ظالمون في ذلك، وإن كان كذب فيما قال أسلمتكم إياه، وشأنكم به. وتآمر معهم أيضاً أربعة نفر من الكفار بالليل، فقالوا: كيف نقاطع أبناء عمنا وأرحامنا وأقاربنا، نحن نأكل ونشرب مع زوجاتنا وهم جائعون! فاتفقوا على الدعوة إلى نقضها، وأبو طالب لا يدري ما خبرهم، وهم يدرون عن خبر أبي طالب. وفي الصباح جاء واحد من هنا، وواحد من هنا، بطريقة منظمة، وقام أحدهم وقال: يا معشر قريش! ما هذه الصحيفة التي كتبناها على بني عمومتنا، إنها لصحيفة ظالمة، ولا ينبغي أن تستمر، فقام الثاني وقال: نعم، إن هذا الحصار لباطل، وقام الثالث من هناك وقال: نعم، هذا الكلام الذي قالوه حق، ونحن لا نرضى بالصحيفة، وقام الرابع فقال مثل مقالتهم، فقال أبو جهل وكان داهية: هذا أمر دُبِّر بليل، أي: ليس وليد الساعة، بل هذا أمر متفق عليه من قبل، فلما قالوا تلك المقالة؛ قام أبو طالب وقال: أنا أكفيكم المهمة، لقد أخبرني ابن أخي بأن الصحيفة سلطت عليها الأرضة، وأخبرني بكذا وكذا، فقاموا إلى الصحيفة فوجدوها كما قال صلى الله عليه وسلم، فانفك الحصار. قبل الهجرة وقعت شدائد، منها تعذيب الضعفاء: كـ بلال وعمار وياسر وأم عمار، وعندما توفي أبو طالب وتوفيت خديجة اشتد عليهم الأمر وقالوا: هذه سنة الشدة؛ لأن الأمر اشتد فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه المشركون بما لم يكونوا يجرءون عليه من قبل. وفي هذه السنة ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وكان من أمر الطائف ما ذكرنا من قبل، ثم رجع ودخل في جوار رجل مشرك، له أبناء أربعة، فأخذ يطوف مع رسول الله ويعلن جواره له، وأبناؤه بالسلاح عند أركان البيت، وجاء أبو سفيان لما رأى هذا المنظر، فقال له: أمجير أم تابع؟ أي: أنت تطوف مع محمد، فهل اتبعته وصرت معه تناصره علينا، أم أنت ما زلت مشركاً معنا وإنما أجرته؟ قال: بل مجير، يعني: وهو لا زال مشركاً، فقال: قد أجرنا من أجرت. وكان دخوله صلى الله عليه وسلم في جوار رجل مشرك عين الحكمة، ولم يدخل في جوار مسلم حتى لا تكون القضية قضية حماس وحمية، وتقوم حرب أهلية في مكة، والمسلمون في قلة لا يمكنهم أن يقابلوا المشركين، ولو قاتلوهم حينئذ لانتهت الدعوة.

تآمر المشركين على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم

تآمر المشركين على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تآمرت قريش بكاملها على الضربة الأخيرة، فقد عجزوا عن رسول الله، وبعض أصحابه قد ذهبوا إلى الحبشة، ولم يبق معهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة ليتآمروا في ذلك. وعند اجتماعهم طُرِق عليهم الباب، فإذا بشيخ يرتدي ثياب أهل نجد فقالوا: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، علمت باجتماعكم ولن تعدموا مني رأياً، فسمحوا له بالدخول، وكانوايعرفون أن أهل نجد أهل رأي ومشورة، وكان هذا شيطاناً في صورة إنسان، فقال: علمت أنكم اجتمعتم من أجل محمد، قالوا: نعم، قال: ماذا عندكم؟ قال واحد منهم: نحبسه ونقيده ونتركه حتى يموت، وقال آخر: نخرجه بعيداً عنا ونستريح منه، فإذا بهذا يقول: كل هذه آراء غير سليمة، فقال آخر: نقتله ونستريح، قال: بنو هاشم لا يتركون دمه، وإذا أنتم حبستموه فسيأتي بنو هاشم ويخلصونه، وإن أنتم أخرجتموه فبحلاوة كلامه وطلاوة لسانه سيألب الناس عليكم، ثم يعود ويغزوكم بمن معه، وإن قتلتموه قاتلتكم بنو هاشم، قالوا: ما هو الرأي عندك؟ قال: الرأي عندي أن تندبوا عشرة شباب من عشرة قبائل، ويبيتونه على باب بيته، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن تقاتل القبائل كلها، فإذا تفرق دمه في القبائل فسيقولون: نريد دم ولدنا، فتقولون: نحن كلنا قتلناه، فيتركون طلب القصاص، ويرضون بالدية، والدية دية واحدة، قالوا: هذا هو الرأي. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] يثبتوك أي: يحبسوك، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} صفة المكر من حيث هي مجردة هي صفة ذم؛ ولكن عندما تقول: فلان مكر بفلان، لكن فلان كان أمكر منه، يكون هذا من المدح، أي: كان أذكى منه، وكان أقدر منه على المكر، فتصير صفة مدح للثاني؛ لأنه أبطل مكر الأول، وهنا يقول علماء الكلام وعلماء البلاغة: هذا من أسلوب المشاكلة، ولذا أجمع علماء الكلام على أنه لا يجوز أن تسمي الله بالماكر؛ لأنه قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في مقابل. (ومكروا)، لا تقلها وحدها، بل قلها مع أختها، حتى يتبين الفرق ويتبين فيها المدح، واستدلوا بقول الشاعر شاعر: قالوا اختر طعاماً نجد لك طبخة فقلت اطبخوا لي جبة وقميصاً كان هذا الشاعر في الشتاء، فقال له قوم: نكرمك بالأكل والشرب، فكأنهم يريدون إكرامه وإظهار الجود عليه، فقالوا اختر طعاماً نجد لك طبخه، أي: اختر الطعام الذي تريد أن نطبخه لك، فقال لهم: اطبخوا لي جبة وقميصاً، والجبة والقميص لا تطبخ، ولكن هذا في مقابل قولهم: نجد لك طبخه، أي: أنتم ترون هذا البرد وتقولون: اختر طعاماً، فقوله: اطبخوا لي، وقعت بدلاً من خيطوا لي، وهو في مقابل قولهم: نجد لك طبخه، وهنا قال الله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فهذه صفة جلال وكمال لله؛ لأنه أبطل مكر الآخرين. اتفق المشركون على ذلك، فماذا كانت النتيجة؟ رب العزة لم يتخل عن رسوله، وجاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تبت في فراشك الليلة) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ينام مكانه، وخرج صلى الله عليه وسلم تحت ظلال تلك السيوف، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، وكانوا عشرة قد ألقى الله عليهم النعاس، وكانوا واقفين مستندين على الجدران، والسيوف في أيديهم، فمر من أمامهم ولم يره أحد منهم، ولم يخرج ويتركهم في حالهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم وجعله على رءوسهم، زيادة في إذلالهم، واعتزازاً بدين الله، وبتأييد الله له. إن إيذاء المشركين للمسلمين جعلهم يهاجرون، والإيذاء كما وقع على أفراد المسلمين، كذلك وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر ذلك الإيذاء التآمر على قتله! لم تكن الهجرة هروباً بدون موجب، ولا خروجاً بدون صبر، بل تحملوا وصبروا إلى أقصى ما يمكن، عثمان بن مظعون الذي قال: إن عيني السليمة في حاجة إلى ضربة مثل الثانية، هل يوجد صبر أكثر من هذا؟ وآخر يطرح في الصحراء في الرمل الحار وتوضع الصخرة عليه ليرجع عن الدين فيقول: (أحد، أحد و) أم عمار تُغرّق في الماء وتعذب، ثم تقتل بالحربة بطعنة في فرجها! فصبروا إلى ما لا نهاية، وبعد هذا جاء الفرج. إذاً: الهجرة من سنن الأنبياء، ونحن لماذا نشرح السيرة بهذا الأسلوب؟ أنا أرجو أن يكون هذا الأسلوب أخف ما يكون لطلبة العلم، وعامة لكل الحاضرين والمستمعين؛ لأن الهجرة ليست مجرد أرقام، أو سرد أحداث، أو مجرد وقت نمضيه، بل في كل جانب من جوانبها دروس وعبر، وسبق أن كتبنا في الثمانينات معالم على طريق الهجرة، وذكرنا في كل خطوة منها معلماً إسلامياً للدعوة، وعرفنا أن الهجرة من سنن الأنبياء، وعرفنا أن الهجرة سببها الإيذاء، وإذا كان المسلم يعيش في جو إيذاء وإرهاب فهل يستطيع أن يؤدي عبادة الله؟ لا يقدر، إذاً: عليه أن يطلب موطناً آخر يمكن أن يؤدي فيه حق الله بطمأنينة.

مقدمات الهجرة

مقدمات الهجرة انتهينا من الدوافع والأسباب، بقيت المقدمات. والفرق بين المقدمات والأسباب: أن المقدمات أحداث وقعت إبان الهجرة ساعدت عليها، أما الأسباب فهي الأمور التي دفعت للتفكير فيها، وجعلتهم يهاجرون، فالمقدمات هي الأحداث التي واكبت بداية الهجرة، وقبل وقوعها وساعدت عليها، وهيأت الجو لها. أقرب لك الموضوع بضرب مثال: لو تريد أن تبني بيتاً، ما هو سبب بنيانك للبيت؟ قد يكون السبب هو السكن، لأنك جربت بيوت الإيجار؛ قد يقول لك صاحب البيت: اخرج، أو يقول: زد في الأجرة، فهذه أمور تجعلك تفكر بأنك تبني لك بيتاً. ثم من المقدمات لذلك صندوق التنمية، فاقترضت منه، الآن هذا ليس سبباً بل مقدمات، وبعد أن تقترض تعمل مخططاً، وتنظر مواد البناء، فهذه مقدمات موجودة تساعد على إقامة البنيان على حسب المخططات، وعلى حسب مرادك، ثم النتيجة: تسكن وأنت آمن، لا أحد يقول لك: اخرج. الهجرة لها دوافعها وأسبابها، وقد انتهينا منها على سبيل الإجمال، وطالب العلم له أن يبحث عن المزيد ويضيفه إلى ذلك.

بيعة العقبة

بيعة العقبة كانت قضية الطائف تجمع بين الأسباب والمقدمات، لكن من المقدمات الفعلية: أن النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج كان يأتي القبائل في منازلها، وكانت منى والمزدلفة وعرفة أسواقاً من أسواق العرب، وكانت عرفة وذو المجاز وعكاظ على طريق اليمن، والقبائل تأتي إلى عكاظ من الطائف، فمنى كلها أسواق تجارية للعرب تجتمع فيها، ويعلنون فيها انتاجهم الأدبي، فالشاعر ينشد قصيدته، والخطيب يلقي كلمته، والتاجر يبيع سلعته من الحيوانات أو غيرها من المبيعات، ويتبادل الناس السلع والأغراض في تلك الأسواق. فالمشاعر كانت أسواقاً في الجاهلية، وكانت أيضاً أماكن عبادة في الحج، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويأتي القبائل في منازلها، ويقول لهم: أنا رسول الله، هل فيكم من يحميني حتى أبلغ دعوة الله؟، مرة قال له رجل: أنا أحميك فماذا لي من بعدك؟ قال: لك ما للمسلمين، قال: لا؛ بل يكون لي الأمر من بعدك، قال: ما هي مساومة ولا ميراث. فكان يعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل، وقبل الهجرة بسنتين جاء نفر من الأوس أو الخزرج ومعهم سيدان من ساداتهم، قال: من أنتم؟ قالوا: من الخزرج، قال: من حلفاء يهود؟ قالوا: بلى، قال: ألا تجلسون أُحدثكم؟ قالوا: نعم، فجلسوا، فحدثهم وقال: أنا رسول الله، ألا تتبعونني! ألا تؤمنون بي، ألا تبلغوا قومكم. فلما سمعوا كلمة: (رسول الله) كان ذلك شيئاً جديداً عليهم. وكان من المقدمات السابقة للهجرة أن أهل المدينة كانوا أصنافاً متعادين: اليهود ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وأما العرب فكانت: الأوس والخزرج، وأحياناً تقوم حروب بين الأوس والخزرج، وبعضهم يستنصر بقبائل اليهود، وأحياناً تقوم الحرب بين العرب وبين اليهود، فلما تضيق الضائقة على اليهود يقولون: سيبعث نبي آخر الزمان، ونتبعه ونقاتلكم معه، ثم نفنيكم كما أفنيت عاد وثمود، يهددونهم بالنبي الذي سيأتي، فلما سمعوا كلمة: أنا نبي، وهم كانوا موجودين في الحرم، قال بعضهم لبعض: لعل هذا هو النبي الذي يتوعدكم به اليهود، وعندهم خبره، واليهود لا يدرون من هو هذا النبي، ومتى يكون، لكن هذه إرهاصات ومقدمات. فكان عندهم خيال وسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم يجدون النبي أمامهم، فقالوا: لا تسبقكم يهود إليه، فتعاهدوا معه ورجعوا إلى المدينة خفية، وانتشرت الأخبار خفية عن اليهود، وفي العام الثاني يذهب من المدينة من الأوس والخزرج سبعون بدل السبعة، وتواعدوا أن يجتمعوا عند العقبة في آخر الليل، وكان صلى الله عليه وسلم قد أرسل مصعب بن عمير ليعلم أهل المدينة، وقصته طويلة. فجاءوا بعد نصف الليل إلى العقبة، وجاء مع رسول الله العباس رضي الله تعالى عنه يستوثق له، فقال لهم: أتبايعونه على الهجرة إليكم؟ قالوا: نعم، وله علينا عهد أن نحميه مما نحمي منه أنفسنا وأولادنا، فقال: يا معشر الأوس والخزرج! إن كنتم واثقين من أنفسكم وبيعتكم فذاك، وإن كنتم تخشون أن تتكالب عليكم العرب وتتراجعون عنه فإنه في منعة من قومه، فقالوا: نحن على عهدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أخرجوا لي اثني عشر نفراً منكم، يكونون نقباء عليكم. فأخرجوا له اثني عشر رجلاً، وكانوا نقباء على قومهم، ومن العجيب أن هذا العدد -اثني عشر نقيباً- يعادل عدد أسباط بني إسرائيل! كما قال الله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]، فكانوا اثني عشر سبطاً، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل عند العرب، فكانوا اثني عشر نقيباً، ونصبهم نقباء على هؤلاء، وتمت البيعة. تمت البيعة في آخر الليل والناس بمنى نائمون، لا أحد منهم يعلم بالبيعة، هنا يأتي موقف على طالب العلم، بل وعلى كل رجل سياسي، بل وعلى كل شخص مسئول، يقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسئولية، ويقدر الأبعاد، وكان الرسول يعرض نفسه على القبائل، ولم يواجه أحداً، فهؤلاء بعد البيعة -وهم عدد لا يستهان به- قالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا) بدون فوضى، بل يلتزمون بالأمر، ويستمعون ويطيعون، ولا يتصرفون إلا بعد الأمر قالوا: (ائذن لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا)، وهم وإن كانوا سبعين فقط، والقوم سبعة آلاف نياماً وآمنين، فالقلة المسلحة التي تأتي على تبييت نية وغدر؛ يمكن أن تقتل الآلاف، فماذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: هيا خذوا حقي، هيا انتصروا؟! لا والله! بل قال: (إنا لم نؤمر بحرب) أي: مثل ما استئذنتموني فأنا أستئذن ربي، إذاً: المسألة ليست فوضى، هم يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبون الأمر والإذن منه، وهو ينتظر الأمر من الله، وهكذا الكون، وهكذا النظام، وهكذا تكون الأمة ويستقر أمرها، أمة ضاربة بين يدي رسول الله، ولكن مع القوة الضاربة حلم وعقل ورشاد وثبات وصدق ومنهج. فإذا كان الداعية في أمة ووجد شباباً متحمساً ومندفعاً فلا يدفعهم؛ لأنك إذا كنت على سفح جبل، وأمامك صخرة فلن تقدر على أن تحركها، لكن إذا جاء سيل ودفعها من فوق فإنك تستطيع دفعها ولو كنت ضعيفاً، لكن مع الدفع الشديد الذي حركها إذا أردت أن تدفعها؛ زدت في اندفاعها. فالشباب المتحمس لا ينبغي أن نزيد في حماسه وندفعه على غير هدى، بل يجب توفير ما يقولون عنه: عوامل الضمان، ولذا فمسيرة الدعوة إلى الله تحتاج إلى قوة وحماس وشجاعة وتضحية، ومعها عقلية، وحلم، وروية، ونظر، وتجاوب، وقيادة حكيمة؛ لأن القوة بدون قيادة حكيمة مثل الوحش، ولكن: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني ولولا الرأي يدبر الشجاع لألقى بنفسه إلى التهلكة، ولا قيمة له! يتقدم هؤلاء ويعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة ضاربة وحماساً لا نظير له، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الوقت لم يحن، وكل شيء له أوان. تمت البيعة، وذهب مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم الناس الإسلام، وكان يأتيهم على مياههم، وانتشر الإسلام في المدينة. وكان هناك مهاجرون في الحبشة، وقد أشرنا إلى موقفهم، ولنتعد هذه الحلقة، ونبقى في المقدمات! إذاً: من مقدمات الهجرة: مجيء نفر من المدينة من الأوس والخزرج، وقد سمعوا من جيرانهم اليهود بمبعث نبي فيقاتلونهم معه، فسبقوهم إليه.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج ومن المقدمات أيضاً: الإسراء والمعراج فكان له دور من التأييد، والطمأنينة، ومن زيادة الإيمان واليقين وعلى ما هو عليه صلى الله عليه وسلم. كان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة وأشهر، وكيف يكون الإسراء والمعراج مقدمة للهجرة؟ كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ في مكة، يريد الله سبحانه وتعالى في تلك الأزمة بعد عودته من الطائف -على المشهور عند علماء السيرة- أن يكرمه، رجع الرسول من الطائف إلى مكة وهو مكسور الخاطر، ونتلطف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبارة؛ لأن كل ما أصابه كان في سبيل الله. إذاً: رجع من الطائف بغير ما كان يتوقع، وكان دخوله مكة بصورة لا نرضاها لأنفسنا، ولكن رضيها صلى الله عليه وسلم لنفسه من أجل مصلحة المسلمين، فكان الموقف موقف شدة، وتضييق وإساءة، فكان الإسراء والمعراج، فيه غرضان: الغرض الأول: مواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما ناله من أهل الطائف. الغرض الثاني: إطلاعه على الملأ الأعلى، وعلى مستقبل الدعوة. كأنه قال له: الطائف أساءت إليك وأدمت قدميك، فلا تحزن وهلم إلى بيت المقدس، فهو خير من الطائف ألف مرة، ومنعوك من الدخول إلى مكة إلا وأنت في جوار رجل مشرك، فلا تحزن، هلم فإن أنبياء الله ورسله، سيستقبلونك. ثقيف وقريش لم يستقبلوه، والله جمع له الأنبياء ليستقبلوه في بيت المقدس. ومر على موسى عليه السلام وهو في قبره يصلي عند الكثيب الأحمر كما في الحديث، ويجده أيضاً مع الأنبياء عندما استقبلوه، الآن عندما يأتي ضيف للدولة يكون في استقباله سمو كذا ومعالي كذا وفضيلة كذا، وكبار الشخصيات، لأنه ضيف الحكومة، فالرسول كان في ضيافة المولى، فكان الأنبياء في استقباله عند قدومه بيت المقدس، فهذه تعوض عليك أحسن مما فات. وكأن الله قال لرسوله: سلطوا عليك السفهاء، وحن عليك عتبة وشيبة بقطف عنب، فهذه ثلاثة أوان: إناء من لبن، وإناء من ماء، وإناء من خمر، اختر؟ فيلهمه الله أن يختار اللبن، فيقول له جبريل: (هديت إلى الفطرة، ولو أخذت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو أخذت الخمر لغويت وغوت أمتك، ولكن هديت إلى الفطرة) فصار هذا أحسن من كرامة ثقيف وضيافتهم. يأتي أمر الصلاة، وما هو وقت صلاة الفريضة، فإنها لم تفرض، ولكن النافلة موجودة، نريد أن نصلي فمن يؤمنا؟ آدم أبو البشر موجود، نوح موجود وهو أبو البشر الثاني، إبراهيم أبو الرسل موجود، موسى الكليم موجود، عيسى كلمة الله موجود، فمن الذي يتقدم هؤلاء؟ نحن نعرف في شرعنا -وإن كان شرعنا لا يدل على شرع من قبلنا: - (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه)، فإذا كنت ضيفاً عند أحد ولو كنت المفتي، فليس لك حق في أن تتقدم عليه وتصلي به -لأنه صاحب البيت- حتى يأذن لك. نعم هناك حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، لكن الحق في البيت لصاحب البيت، فإذا قدم صاحب البيت غيره، فهذا يدل على أن صاحب البيت تنازل عن حقه، وأكرم من قدمه. فجميع الأنبياء كانوا في موطنهم؛ لأن الشام بلد الأنبياء، ما بعث الله نبياً إلا من أرض الشام وحول بيت المقدس، حتى انتقلت النبوة إلى الحجاز، وبعث إسماعيل، ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من ذريته، فيكون من التكريم العظيم استقبال الأنبياء لسيد المرسلين، وتقديمهم له عليهم ليصلي بهم، فهل كان في هذا تعويض عن الذي فات أم لا؟ هل فيه مؤانسة عن تلك الإساءة أم لا؟ نعم بلا شك. ثم يكون من بيت المقدس العروج إلى السماء، وهنا وقفة: إذا كان في نهاية الرحلة عروج إلى الملأ الأعلى، ويقولون: إن مكة والكعبة أعلى نقطة على وجه الأرض إلى جهة السماء، أي أقرب، فلماذا لم يكن العروج من مكة إلى السماء مباشرةً؟ قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو عرج به من مكة إلى السماء ثم نزل، لم يكن عنده ما يقوله لأهل مكة؟ وهم غير مصدقين، لكن لما يؤخذ من بيت أم هانئ في ليلة يذهب فيها إلى بيت المقدس، ويصلي بالأنبياء، ثم يعرج به إلى السماء ويرى ملكوت الله الأعلى، ويريه الله من آياته الكبرى، ثم ينزل ويرجع بالبراق ويأتي إلى أهل مكة، ويقول لهم: ذهبت السماوات العلى عن طريق بيت المقدس، فسألوه: كيف بيت المقدس؟ فيجد في يده ما يقدمه إليهم من بينات على تلك الرحلة، وإذا أثبت لهم الذهاب إلى بيت المقدس والعودة في تلك الليلة فممكن أن يثبت ما بعده! إذاً: كان الذهاب من مكة إلى بيت المقدس لأن الله فتح له بيت المقدس، ويريد المولى سبحانه أن يقيم البرهان لـ هرقل على ذلك الحدث، فـ هرقل كان ينظر في النجوم، ولما جاءه خطاب رسول الله بعد الهجرة: (أسلم تسلم)، سأل أبا سفيان عن رسول الله عدة أسئلة. فـ هرقل علم أن هذا نبي حقاً، فأراد أبو سفيان أن يرمي إلى بركة العسل حجراً، فيعكرها، فقال: ألا أخبرك بخبر تعلم كذبه؟! قال: ما هو؟ قال: أُخبرنا بأنه جاء إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلة واحدة، ونحن نضرب له أكباد الإبل شهراً! فقال سادن المسجد الأقصى: والله لقد علمت بتلك الليلة، وقص خبره.

الهجرة النبوية [4]

الهجرة النبوية [4]

حال الأوس والخزرج قبل الهجرة

حال الأوس والخزرج قبل الهجرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة: تقدم الكلام على موضوع الهجرة، وتقدم بيان أن الحديث يتناوله من عدة جهات، وذكرنا الدوافع والأسباب التي أدت إلى الهجرة، سواء كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو هجرة الأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكان ملخص ذلك: اشتداد إيذاء الكفار للمسلمين، وتضييقهم عليهم، وعدم تمكينهم من أداء عبادتهم لله على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الأرض كلها لله، والإسلام لا يعرف وطناً. ثم ذكرنا من مقدمات الهجرة: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهو من الأسباب والمقدمات، وكان من أقوى المقدمات مجيء أناس من الأوس والخزرج كانوا يسمعون من اليهود بقرب مبعث نبي سينتمون إليه، ويقاتلون العرب معه ويستأصلونهم، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على العرب في مواسم الحج وفي أسواق العرب، فعرض نفسه على هؤلاء النفر وعرفوه، ثم رجعوا إلى المدينة وفشا الخبر بها، وفي العام الثاني تضاعف العدد، وكانت بيعة العقبة من المقدمات. وأيضاً مما قوى ودعم تلك المقدمات: ما جاء في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كانت الحرب بين الأوس والخزرج مائة سنة، كلما أخمدت اشتعلت، وما انتهت إلا قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، فكانت تهيئة لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم ملوا الحرب. وفعلاً -يا إخوان- الحرب دمار وضياع، والمنتصر فيها خسران، وكما يقولون: الحرب في أوائلها تقبل كفتاة تدل بجمالها وبشبابها وبروائها، فتغري المغرورين الذين ينخدعون بزخرفها ومطامعها، وخاصة إذا كانت لديهم العدة والعتاد، فعند نشوة القوة لا يفكرون في العواقب، ولكنها بعد فترة تقف كعجوز شمطاء قد ذهب شبابها، وذبل رواؤها، وانطفأ جمالها، وتقوس ظهرها! ظلت الحرب بينهم مائة سنة، وملها الناس، وأخذ كل يبحث عن الخلاص، وكان اليهود إذا غُلبوا يتوعدون العرب ببعثة نبي آخر الزمان وأنهم سوف يتبعونه، فكان الجو في المدينة مهيأً، وأري النبي صلى الله عليه وسلم دار هجرته كما قال: (أريت دار هجرتي، أرضاً سبخة ذات نخيل، وأُراها هجر أو يثرب). هجر هي: الأحساء، ويثرب هي: المدينة، والذي يعرف البلدين يجد الشبه بينهما -في التربة والمناخ والأشجار- قوياً جداً، ثم أراد الله الكرامة والشرف والخير للمدينة.

حادثة الإسراء والمعراج

حادثة الإسراء والمعراج الحديث عن الإسراء كمقدمة للهجرة نوجزه في الآتي:

بداية الإسراء

بداية الإسراء كان صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ -كما في رواية البخاري - مستلقياً على ظهره، فإذا بسقف البيت انفرج، ودائماً ننبه أن السيرة النبوية ليست مجرد قصص أو روايات، بل يجب على المسلم أن يقف عند كل جزئية وكل حدث ليستخلص العبرة. انفرج السقف ونزل ملكان بصورة رجلين فأخذاه إلى الحطيم إلى زمزم، وشقا صدره، وأخرجا قلبه وغسلاه بماء زمزم، وملآه إيماناً وحكمة، ثم كانت الرحلة المباركة. نقف وقفة: هل هذه أول مرة يأتيه ملك أو ملكان، أو أن جبريل وغيره كانوا يأتون إليه مراراً؟ وهل كانوا يرونه موضع مجيئهم؟ لا. لم يكن يشعر إلا وجبريل عنده، يأتي من الجدار أو الباب أو السقف أو الأرض، لا يدري إلا وجبريل أمامه، لكن في هذه المرة بالذات تغاير مجيء الملك عن المرات الأخرى، في المرات المتقدمة كان يأتي جبريل ويوحي إليه بما أوحاه الله إليه، يجيء مجيئاً سلمياً تعليمياً، لكن هذه المرة كان فيها شق الصدر، والصدر دم ولحم وهو إنسان، فلكي لا يجزع صلى الله عليه وسلم أراه الله هذا السقف ينفرج وهو جماد من جذوع النخل أو من خشب الشجر، وينزل من نزل منه ثم يعود فينطبق، فإذا رأى الجماد الذي لا يحس ولا يلتئم ولا يلتحم؛ إذا رأى بعينه انفراجه والتحامه، فلا يشق عليه إذا أسند ووسد ليشق صدره، والصدر دم ولحم, وكم من عضو ينجرح ثم يلتئم؛ لأن الجسم فيه حيوية وقابلية لالتئام الجروح، فالتئام الجرح بعد الشق أقرب وأيسر من التئام السقف وهو من الجماد؛ فكانت هذه كما يقال: عملية تنبيه وطمأنينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: قد سبق أن شق صدره وهو رضيع في بني ساعدة عند حليمة رضي الله تعالى عنها؟ نقول: نعم، ولكن كان طفلاً صغيراً، ولما جاء أخوه من الرضاعة إلى أمه وقال: أدركي أخي! فإن رجلين أخذاه فأضجعاه وشقا صدره! أي: غصباً عنه، والآن هو كبير، بعد البعثة، وهو وفي درجة النبوة عندما يشق صدره، إذاً: كان انفراج السقف بمثابة الطمأنينة، وشق صدره لم يكن عملية جراحية فيها تخدير، بل يرى بعينه، ويدرك بقلبه وشعوره.

شق الصدر ليلة الإسراء ودوره في التهيئة للمعراج

شق الصدر ليلة الإسراء ودوره في التهيئة للمعراج هنا وقفة أخرى: ما الحاجة إلى شق الصدر، وغسل القلب بزمزم، وملؤه إيماناً وحكمة ويقيناً؟ السلف كانوا يقولون: من باب التبرك، وزيادة الإيمان واليقين، أما نحن الآن فنستطيع أن نضيف شيئاً جديداً؛ لأننا في زمن غزو الفضاء، وفي زمن تدريب وتهيئة رجال الفضاء، فهم تأخذهم الدول، وتجري لهم التجارب، وتعمل لهم الاحتياطات في زمن طويل، ثم تلبسهم من اللباس ما يقاوم الطقس الجوي، ويقاوم عملية الاحتكاك، ويضعونهم في مركبات خاصة، ولولا ذلك المركب لاحترقوا من سرعة وقوة احتكاكهم بالهواء وبالأجرام من حولهم. كان ذاك العمل يحول من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بشر عادي إلى بشر فوق العادي من الناحية المادية والجسمانية، ليستطيع أن يقاوم وأن يخترق هذا الفضاء مع سرعة الانتقال وشدة الاحتكاك دونما ضرر عليه. ومن جانب آخر -وهو أقوى وأهم- تهيئة يقينية معنوية روحية ليقوى على القيام في ذاك المقام الذي ذكره القرآن: بالتنويه عنه {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:12 - 14]، ثم {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18]. فتلك الآيات الكبرى يزيغ بصر الإنسان العادي عنها، ولا يقوى على تصورها، ويطغى فؤاده فلا يقوى على إدراك ما هو أمامه، أي: تأخذه دهشة الموقف، ولكن ما سبق لرسول الله جعله رابط الجأش، ثابت القدم، حاد البصر، ثابت الجنان، قوي القلب، ما زاغ بصره عما رأى من سدرة المنتهى {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]. (ما) هنا للتنكير وللتعظيم، كقوله: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2]، وأمام هذا الذي غشي السدرة ما زاغ البصر، وما زاغ الفؤاد، مع أنه رأى من آيات ربه الكبرى! إذاً: كان هذا الإعداد ليتهيأ وليقوى على ذلك الموقف، وقد جاء في الحديث: (أن سدرة المنتهى ينتهي عندها خبر الأرض، وينتهي إليها خبر السماء، ووقف جبريل عندها وقال: هذا منتهاي يا محمد؛ تقدم أنت!)، إذاً: الموقف يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى تهيئة، فكان ذلك بشق الصدر وملئه إيماناً وحكمة. وجيء بالبراق، والبراق -كما وصفه صلى الله عليه وسلم- دابة دون الفرس وفوق الحمار، يضع حافره حيث انتهى طرفه، أي أن خطوته مد البصر، كما يقال في عرف الوقت الحاضر: سرعة الضوء، وسرعة الضوء تتضاعف أضاعفاً على سرعة الصوت، إذاً: لا نستنكر الذهاب في لحظات، والعودة في لحظات. قُرِّب البراق فلم يثبت، فقال له جبريل: (اثبت! فما ركبك خير منه) صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن إبراهيم ركب البراق، وكان يأتي من الشام إلى مكة عليه لكي يزور هاجر وإسماعيل، وهي شهر ذهاباً وشهر إياباً! فيذكرون أن البراق كان في الأمم الماضية ولكن: ما ركبه خير منه صلى الله عليه وسلم، فثبت البراق، وتصبب عرقاً، وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بصحبة جبريل إلى بيت المقدس.

الربط بين أحداث السيرة

الربط بين أحداث السيرة من واجب أحداث السيرة والتاريخ: الربط بين الصور المتقاربة، أو الجمع بين المتماثلات، ففي رحلة الإسراء مر صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وببيت لحم وغيرها إلى بيت المقدس، وبين الهجرة والإسراء سنة وبضعة أشهر. ففي الإسراء يأتي البراق ويأخذه من مكة إلى بيت المقدس في سرعة كسرعة الضوء، وبرفقة جبريل، بعد هذا جاءت الهجرة، والهجرة: انتقال الدعوة إلى موطن جديد، وكان الصديق رضي الله تعالى عنه تارة يمشي أمام رسول الله، وتارة من ورائه، وتارة يميناً، وتارة يساراً، فرأى منه رسول الله هذه الحالة فقال: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي، وتارة ورائي، وتارة عن يميني، وتارة عن شمالي؟) أي: لماذا أنت غير مستقر على حالة واحدة؟ وانظر الفداء الصحيح، وانظر إلى الإيمان بالله؛ قال: (أتذكر الرصد فأكون أمامك) أي أخاف أن يكون هناك من يرصد الطريق فأكون أنا أمامه، (وأتذكر الطلب) أي: من يلحقهم من روائهم، (فأكون خلفك)، وكذلك عن اليمين واليسار. ولذا يجب على ولاة الأمور والقادة عند الأمور العظيمة الخطيرة أن يأخذوا أهبتهم لها، وأن يعدوا العدة، ولا يكونوا غافلين، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! أتود لو كان شيء أن يكون فيك دوني؟ قال: بلى يا رسول الله أريد ذلك!)، حقاً لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح عليها، وقال معللاً لذلك: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، إن أصب أصب وحدي -أي: أنا فرد من الناس- أما أنت فصاحب الرسالة) أي: لست فرداً من الأمة، بل أنت تحمل رسالة الله إلى الخلق، إذاً: من واجب الخلق جميعاً أن يفدوا رسول الله بأنفسهم وأموالهم. خرج رسول الله، ودخل الغار، ومكث فيه ثلاثة أيام، بينما في الإسراء والمعراج كان بصحبة جبريل، فذهب في لحظات ثم رجع، لماذا لم يأت البراق في رحلة الهجرة كما جاء في حلة الإسراء والمعراج. فتلك رحلة سماوية وهذه رحلة أرضية، فكان الإسراء بالبراق وبصحبة جبريل، والهجرة كانت على الأقدام وعلى الرواحل، وباختفاء وبدخول إلى الغار، وبقيادة رجل مشرك، وهو عبد الله بن أريقط وهو على دين قومه. أما المغايرة فلأن رحلة الإسراء كانت رحلة تكريم، ورحلة اطلاع {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] فهي رحلة محاطة بالبركة والخير (لِنُرِيَهُ)، وهذه الرؤية البصرية لها آثارها فيما بعد على ما سيظهر في درس الهجرة. في الهجرة تشريع لكل الدعاة المسلمين، ولكل المصلحين أن يأخذوا الأهبة، ويعدوا العدة، ويلتزموا هذا المنهج، أما حدث الإسراء فكان فوق العادة، وحدث العادة في قانون البشر وفي استطاعة المخلوق أن يصدقه وأن ينفذه. ثم ننبه على قضية قد يثيرها بعض الناس وهي: الاستعانة بالكافر، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ومكة مليئة بالرجال الخبيرين بالصحراء، ولكن لما لم يوجد مثل هذا الرجل المشرك خريتاً في الطريق أميناً على السر، فاستأجره رسول الله؛ لأنهم كانوا يخفون الهجرة، فائتمنوه على الرواحل، وواعدوه بعد ثلاثة أيام، فأتاهم إلى الغار، وانطلقوا على بركة الله. وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: الاستعانة بالكافر فيما لا علاقة له بالدين والتشريع والحلال والحرام لا بأس به، ما دام يحقق مصلحة للمسلمين، والعالم الإسلامي كله بأجمعه من شرقه إلى غربه، قاصيه ودانيه إلا من شاء الله، حينما يأتي موسم الحج، يأتون في البواخر والطائرات، ويقودها رجال غير مسلمين من جهة شركة فرنسية، أو روسية، أو إنجليزية، ولا مانع أن يكون قائد الطائرة الذي يوصلنا إلى الحرمين كافراً، ولا نقول: نحن لا نسافر بالطائرة إلا أن يكون الطيار مسلماً وموحداً وسنياً وسلفياً، فما علينا من هذا، وهذه المسألة يأتي التعليق عليها في محلها إن شاء الله.

قصة أبي سفيان مع هرقل

قصة أبي سفيان مع هرقل هرقل حينما راسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة يدعوه إلى الإسلام قال لأعوانه: لقد ظهر نجم نبي الختان، فأي الأمم تختتن؟ قالوا: العرب، قال: جاءني خطاب من رجل من العرب يدعي النبوة، وقد ظهر نجم نبي الختان. يعني: تطابق ما يعرفه في النجوم وما جاءه من الكتاب. ونحن لا نؤمن بعلم النجوم، وكذب المنجمون ولو صدقوا. قال: فإذا جاء وفد من العرب فآذنوني، فجاء أبو سفيان وكان هو قائدهم في الحرب والتجارة، فأجلسه بين يديه، وأجلس من معه خلفه، وقال: إني سائله فإن صدق فصدقوه، وإن كذب فكذبوه، فأخذ يسأله: هذا الذي بعث فيكم أكان له أب أو جد ملكاً عليكم؟ قال له: لا. قال: أكان له أب أو جد أو عم يدعو إلى ما دعا إليه؟ قال: لا. قال: أجربتم عليه الكذب؟ قال: لا. قال: من يدخل في دينه أيخرج عنه رغبة عنه؟ قال: لا. قال: أيتبعه الأغنياء أم الفقراء؟ قال: الفقراء. قال: أوقع بينكم وبينه حرب؟ قال: نعم، قال: كانت الدائرة لكم أو عليكم؟ قال: تارة لنا وتارة علينا؛ لأنه لم يقع بينهم إلا بدر وأحد إلى آخر الأسئلة. فقال للترجمان: أخبره أنه لو كان لآبائه ملك، لقلنا: يدعو إلى ملك آبائه باسم الدين، ولو كان في قومه من يدعو إلى النبوة وفشل فيها لقلنا: قلد من كان قبله، فأقول لك: إذا ترك الكذب عليكم فلأن يدع الكذب على الله من باب أولى، وأقول: إن الدين لا يدخله ولا يتمسك به إلا الفقراء، وهم أتباع الأنبياء؛ لأن الأغنياء يخافون على سلطانهم. وأقول: إن الذي يدخل الإيمان قلبه لا يرتد عنه إذا خالطت حلاوة الإيمان بشاشة القلوب، ثم قال: والله ليملكن موضع قدمي هاتين!! حينئذ سقط في يدي أبي سفيان؛ لأنه كان يتمنى أن يستنهض ملك بني الأصفر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففتش في سجلاته، وعاد الخداع السياسي والدعايات الكاذبة، والعواطف المثيرة. وإثارة العواطف والحرب الباردة يستعملها العدو دائماً.

قصة عمرو بن العاص مع النجاشي

قصة عمرو بن العاص مع النجاشي عمرو بن العاص استخدم هذا عند النجاشي لما أرسلته قريش ليسترد المهاجرين إليها انتقاماً لغزوة بدر. ولما دخل على النجاشي ركع له كما يفعل أتباعه، وجلس عنده باحترام، وأخبره بأن جماعة جاءوا إليكم، وخرجوا عن دين آبائهم، ولم يدخلوا في دينك، فلما استدعاهم وبينهم جعفر، دخلوا عليه فلم يسجدوا له، قال: انظر إنهم لم يسجدوا لك، ولم يعتبروك عظيماً، يريد إثارة الملك عليهم، فقال: ما لكم لم تسجدوا لي كما يسجد الآخرون تحية؟ قالوا: ما كنا لنسجد لغير الله، وكانت هذه صفعة على عمرو، ثم قال: وما هذا الدين؟ قال: كنا في جاهلية وكنا وكنا فرحمنا الله وبعث فينا رجلاً منا، نعرف مولده ونشأته ونسبه، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، وصلة الأرحام، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، ولا نغدر بقريب أو بعيد، ولا ننقض العهد مع الجار والبعيد. حينئذ كانت أيضاً صفعة من جهة ثانية على عمرو، فقال: اسأله: ماذا يقول صاحبهم في عيسى بن مريم؟ النصارى يقولون في عيسى: ابن الله، وبعضهم يقولون: ثالث ثلاثة، وبعضهم يقولون: الأب والابن وروح القدس، أشياء كثيرة يقولونها، فقال: ماذا يقول صاحبكم في عيسى بن مريم؟ قال جعفر: والله! لقد اشتد الأمر عليّ، ولكن لا أقول إلا ما قال الله في كتابه وأنزله على رسوله: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول وروح منه. فأخذ النجاشي بيده عوداً من الأرض -أي: قشة صغيرة- وقال: والذي أنزل التوراة والإنجيل! ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى ولا مثل هذه، اذهبوا سيحوا في أرضي ما شئتم، وأسلم رضي الله عنه، فكان عمرو بن العاص يحب أن يصطاد في الماء العكر، ويثير النجاشي على المسلمين حتى يقول له: خذهم وردهم إلى مكة، فكانت النتيجة بالعكس. أيها الإخوة إن المولى سبحانه وهو رب الحق وهو رب الدين يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ويقول في آية الفتح: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]، وفي الصف قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] فهذا تحد. أبو سفيان لما رأى أن الملك موافق ومصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعد بأن محمداً سيملك موضع قدميه، قال: أيها الملك! لأخبرنك بأمر تعرف به كذبه، قال: ما هو؟ قال: لقد أخبرنا أنه في ليلة جاء إلى مسجدكم هذا، وصلى فيه، ورجع إلينا من ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً! وفي عرف السياسيين هذه تعتبر كذبة كبيرة، كيف نحن نضرب إليه أكباد الإبل أياماً وهو ذهب ورجع في ليلة؟ هذا شيء لا يمكن تصوره في العقل أبداً، ولكن الأمور فوق العقل، الأمور إما أن تنسب إلى العبد المخلوق، وإما أن تنسب إلى الخالق رب القدرة ورب الكون، الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون، حينما قال أبو سفيان هذه المقالة، وقبل أن يفرغ هرقل من التعجب ومن الاستبعاد، نطق قائم على رأس هرقل وقال: نعم، لقد علمت بتلك الليلة. ما هذه المفاجأة! هرقل فوجئ بخبر أبي سفيان، فإذا به يفاجأ بما هو أكبر! لو وقفنا عند هذه الأحداث نحلل ونتأمل، هل نقرأ السيرة على أنها أحداث؟ لا والله، هذه إرادة الله لتبرز حقيقة الرسالة المحمدية فتسخر لها أعداء الإسلام، فإذا بالملك ينتبه ويقول: وما أدراك بهذه الليلة؟ قال: كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، وأذهب بالمفاتيح، وفي تلك الليلة جاءني الخدم وقالوا: إن الباب الفلاني -سماه باب العمود أو باب كذا- استعصى علينا إغلاقه، فذهبت فإذا بالخشبة التي تحتها قد منعت الباب من أن يغلق، هذه عجيبة، وما هي بالسحر ولا هي مغناطيس، ينظرون بأعينهم أن الخشب قد منع الباب والخشب لا ينكسر فلم يبق إلا أن يهدموا الجدار، قال: فدعوت النجاجرة ولم يقل: النجارين، وهذه عبارة ابن كثير في البداية والنهاية، فدعوت النجاجرة، يعني: هم عمال لخدمة المسجد، إن احتاج نجارة أو سباكة أو أي عناية ببيت المقدس، فعالجوه فعجزوا عنه فقالوا: لقد أمسى الليل، ولا نستطيع معالجته الآن، فلندعه إلى الصباح وفي ضوء النهار نصلحه، فقلت: لا بأس، فغدونا في الصباح فوجدنا الخشبة قد رجعت محلها! والباب قد رجع إلى ما كان عليه! فعرفت أن بابنا لم يمسك إلا لنبي، فهذه دلالة قوية على صدق ما قال. ماذا يقول أبو سفيان؟ أبو سفيان قدم هذه من أجل أن تكون حجة له على كذب محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك، فإذا بها تنقلب عليه! فصارت حجة عليه، وليس من واحد من أهل مكة من جماعته بل من خاصة الملك.

الإيمان بالغيب في الإسراء والمعراج

الإيمان بالغيب في الإسراء والمعراج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت بموسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ولو كنت هناك لأريتكم قبره) يعني: هو متأكد وليست بأوهام أو رؤى، بل يقول: لو كنت موجوداً الآن في محل ذاك الكثيب الأحمر لقلت لكم: هنا قبر موسى، وهنا كان يصلي! معالم في طريقه تنفي الادعاء والتوهم، وحقائق يقينية، ثم إذا به يرى موسى مع الأنبياء في استقباله، ويراه أيضاً في السماء السادسة، كان في الأرض ثم هو في السماوات!! كيف هذا؟! مر عليه بالبراق وهو يصلي، فإذا به يجده أمامه في السماء!! اسحبوا الكيف، فالكيف هنا ملغي، فلا يورد السؤال بالكيف والتشبيه والتكييف على ما كان فوق العادة وما كان خارقاً من المعجزات، لا تقل: كيف نبع الماء من أصابعه؟ كيف سبح الحصى في كفه؟ كيف حن الجذع إليه؟ كيف بردت النار على إبراهيم؟ لأن الكيف لا يسأل به عن الله ولا صفاته ولا أفعاله! إذاً: موسى كان يصلي في قبره، وهل الذين دفنوا موسى جعلوا له حجرة كبيرة، لأنه سيقوم ويقف ويصلي، أو أن هذا عالم البرزخ؟ هذا عالم البرزخ، وعالم البرزخ لا يخضع للمعقولات ولا للمنطق، إنه وراء المعقول، وقد قال صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى- (القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار) وجاء في الحديث أيضاً: (ويمد له فيه مد البصر) التراب كم فيه من الملايين؟ ولو مد لاثنين أو ثلاثة أو واحد مد البصر أين البقية؟! إذاً: لا تقل: كيف، فإنه قادر على كل شيء. يقول ابن كثير في تاريخه في وقعة البحرين: لما ذهب العلاء بن الحضرمي ووجد العدو قد حاز السفن إلى الجزيرة قال لجنده: (إني عازم على أمر، قالوا: وما هو؟ قال: أن أخوض البحر ونعبره لنقاتل العدو!! -ليس عنده سفن ويريد أن يمشي على الماء- وقد أراكم الله في البر آية، وهو قادر على أن يريكم في البحر آية). والآية التي أراهم الله تعالى في البر أنهم كانوا في صحراء الدهناء، وتلك المنطقة تبعد عن الرياض حوالي سبعمائة كيلو وكلها رمال، حينها نفد ماؤهم ولم يبق إلا الموت، فإذا بهم في ساعة اليأس والشدة ينظرون بأعينهم في وضح النهار إلى سحابة تأتي من بعيد حتى تقف فوقهم، وتمطر عليهم. سبحان الله! ما الذي أوقفها عندهم؟! لماذا لم تحط حملها هناك؟ لماذا لم تتعداهم؟ فقد كان معها توقيت، كما قال الله: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57] فالله هو الذي يسوق السحاب ويسخره ويرسله، ثم أمطرت عليهم بأمر الله، فكيف تكون فرحتهم؟ لم يكونوا نائمين وقاموا ورأوا الماء، بل كانوا يرونها بأعينهم.

من معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم

من معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وكما وقع في هذا المسجد في المدينة عندما جاء الأعرابي يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم ربه، فقال: ادع لنا ربك، ماتت البهائم، وجف الضرع إلى آخر ما قال، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو على المنبر في خطبة الجمعة، ويطلب من الله السقيا، يقول الراوي: فما بيننا وبين سلع من دار ولا بيت. انظروا تخطيط المدينة كيف كان! فقد كان جبل سلع عند الباب الشامي، من المسجد إلى جبل سلع لم يكن يوجد بيوت. فنشأت سحابة من وراء سلع قدر الترس، والترس مستدير قطره تقريباً (70%)، يتترس به الفارس ويتقي به ضربة الخصم، فنشأت سحابة كالترس صغيرة من وراء جل سلع، وكان وراء سلع أرض حارة قاحلة ولا يوجد بحر وراء سلع، وهذه نشأت من وراء سلع، حتى استقلت في سماء المدينة وانتشرت، وكانت مثل الترس فما الذي زاده؟ إنه الله سبحانه {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12]، ينشئه إنشاءً من العدم، فأمطرت قال الراوي: (فوالله! ما رأينا الشمس سبتاً)، السبت كناية عن أسبوع، أي: بقت هذه السحابة التي كانت قدر الترس وانتشرت أسبوعاً وهي تمطر، لا نريد أن نتكلم مع أصحاب الجغرافيا، وأصحاب تبخير البحار، وتبخير وتكاثف الماء، فالله الذي يسوقه حيث شاء إلى بلد ميت فيخرج به نباتاً فيحيي به الأرض بعد موتها. ثم جاء الأعرابي يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك السحاب عن المطر، يا سبحان الله! إن عطشنا اشتكينا، وإن شبعنا وارتوينا اشتكينا، هكذا الإنسان؛ فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل الله أن يمسكها عنهم، فتمسك ويخرجون يمشون في الشمس ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سأل الله فأجابه. نرجع إلى العلاء بن الحضرمي، قال: إن الله قادر أن يريكم آية في البحر كما أراكم آية في البر، فذكرهم واستدل لهم على قدرة الله بما وقع لهم في البر، فكانت القدرة تخطط بمقدمة لكي تعطيهم البصيرة، والنموذج. قالوا: توكل على الله ونحن معك؛ لأن الذي أنبع لنا الماء في الصحراء قادر على أن يجعل البحر أرضاً يبساً. فيتقدم ويخاطب البحر ويرجع إلى الله: (أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند نقاتل في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر عليك حتى نقاتل أعداء الله، ثم قال لهم: امضوا باسم الله على بركة الله. يقول ابن كثير: ما ترجّل فارس ولا احتفى منتعل، فالراكب سار على فرسه، والراجل سار على رجليه، أقول: ليس ذلك على بساط الريح ولا على بساط البحر، بل على بساط القدرة، وذهبوا وقاتلوا وانتصروا وفتح الله عليهم وعادوا غانمين. بعدما رجعوا أصيب قائدهم العلاء ومات، فحفروا له ودفنوه، وبعدما دفنوه إذا بقوم من أهل تلك الأرض أتوهم بعدما نفضوا أيديهم فقالوا لهم: إن هذا الذي دفنتموه إن كان يعزّ عليكم لا تتركوه هنا، إن هذه الأرض تلفظ موتاها! وهذا أمر عجيب، الأرض تلفظ موتاها، والأرض لها طبيعة وإدراك، فهناك أشجار تمتص الدماء، وهناك أشجار تأكل الحشرات، فهؤلاء قالوا: إن طبيعة هذه الأرض أنها تلفظ الموتى، فهل يوجد جيولوجي يستطيع أن يذكر لنا السبب؟ فقالوا: ما حق ابن الحضرمي أن نتركه نهباً للسباع، فعزموا على نبش قبره ونقله إلى أرض لا تلفظ الموتى، فرجعوا إلى قبره، فنبشوه القبر فلم يجدوا فيه أحداً، ووجدوا القبر مد البصر. ولا نقول: إن هذه تجربة لتصديق حديث رسول الله، فإن الصادق المصدوق لا يحتاج إخباره إلى التجارب، فقد يخطئ الشخص في إجراء التجربة، وقد يخطئ في مقاييسه وموازينه، وهذا من باب التقريب لفهم حديث النبي عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى. إذاً نرجع إلى موسى فقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام قائماً في قبره، إذاً: قبر موسى متسع يقوم فيه وينام. سعيد بن المسيب من خيرة وأفاضل كبار التابعين، يقولون في ترجمته: مضت عليه أربعون سنة ما نظر في قفا رجل في الصلاة؛ فقد كان يصلي في الصف الأول: وعشرون سنة لم يؤذن المؤذن للصلوات الخمس إلا وهو في المسجد، فلم يكن حمامة من حمائم المسجد، بل قل إن شئت: طوبة من طوب المسجد، بل ركناً من أركان المسجد. في وقعة الحرة -إي والله إنها كانت حرة شديدة وشديدة الحرارة- خلت المدينة وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي عن أذان وإقامة ثلاثة أيام إلا من سعيد بن المسيب، فقد كان يأتي في أوقات الصلوات، كما في شرح العقيدة الواسطية لـ ابن الرشيد وابن تيمية وغيرهم يقولون: إنه سئل: كيف تصلي؟ قال: كنت أسمع الأذان من داخل الحجرة! فمن يؤذن هناك؟ وهل هذا نخضعه للعقل؟ لا؛ لأنه أمر خارق للعادة، وما كان معجزة لنبي فهو فوق العادة، وما كان كرامة لولي فهو تابع لمعجزة النبي، لأن هذا الولي الذي جاءت الكرامة على يده ما جرت لشعوذة ولا لمعصية، إنما جرت على يده لأنه على طريق صاحب المعجزة. إذاً: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات وإلى الملأ الأعلى، حتى وصل به جبريل عليه السلام إلى سدرة المنتهى، وقال: يا محمد هذا منتهاي فتقدم، ذاك الموقف ليس لأحد أن يجتهد فيه، ولا أن يقيس عليه، إنما هو أمر خارق للعادة فوق المعقول، ويقف كل إنسان على المنقول فيه. تقدم صلى الله عليه وسلم، وكان كما قال سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:9 - 11] وأوتي صلى الله عليه وسلم هناك الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، وسورة الفاتحة ثم رجع، فلما رجع لقيه موسى وقال: بم رجعت يا محمد؟ قال: بخمسين صلاة. قال: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من ذلك وهم أقوى أبداناً فعجزوا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فالتفت الرسول إلى جبريل كأنه يستشيره قال: نعم ارجع، فرجع وخفف عنه من خمس إلى خمس حتى صار الخمسون خمساً. هناك {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، فقد رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه وببصره لا ببصيرته، الجنة وما فيها من نعيم، ورأى النار وما فيها من جحيم عياذاً بالله، ورأى نتائج أعمال الأمة من عملٍ صالح وعمل طالح، ويدخل الجنة ويحدثنا عن أحداثها ومشاهدها، ويذكر بعض فضائل عمر وزيد بن حارثة وبلال وأشياء عديدة. وقد ساق أخبار الإسراء والمعراج ابن كثير في تاريخه وتفسيره، وذكر حوالي أربعين حديثاً فيما رأى صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة، والذي رآه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة هو منهج عملي لنتائج الأعمال من تشريع وأخلاق وتوجيه وعقائد، ثم رجع إلى الأرض. أقول: أيها الأخوة! الذي شاهد الجنة وما فيها ورأى نتائج أعمال الأمة، يزداد يقيناً بأن دعوته ماضية، وأن رسالته منطلقة وكاملة ونتائجها أمامها، فحينما يرجع إلى الناس فإنه يدعوهم وكله ثقة ويقين بما وعده الله. ولهذا لما تآمروا على قتله ليلة الهجرة خرج في ظلال عشرة سيوف ولم يبال بها، وأخذ التراب ووضعه على رءوسهم، لأنه مطمئن مستيقن بنصر الله، ولما كان في الغار وأبو بكر خائف يقول: (لو نظر أحدهم أسفل قدميه لأبصرنا فيقول: ما بالك باثنين الله ثالثهما) فكان في غاية الطمأنينة، وفي غاية اليقين، على ما سيأتي إن شاء الله. ثم يرجع وما بين بيت المقدس إلى مكة يعطيه الله الوثائق والمستندات التي يقدمها للمنكرين في تلك الرحلة، يقول: خذ هذا الإثبات، وهذه الأدلة على تلك الرحلة الصادقة، فمن ذلك: أنه مر على قوم نيام، معهم ماء في إناء فيأخذ الماء ويشربه ويضع الإناء ويمضي. ويمر على قافلة يتقدمها جمل أورق عليه غرارتان صفتهما كذا. ثم يأتي وقبل أن يطلع الصبح، وتخرج أم هانئ فتجده جالساً مستغرقاً في التفكير فتقول له: (بم تفكر يا رسول الله، قال: لقد أُسري بي هذه الليلة إلى بيت المقدس، وعرج بي إلى الملأ الأعلى، وعدت في صبيحة يومي) أو قال: (أرأيت مبيتي هذا عندك! لقد عرج بي إلى السماء، قالت: يا رسول الله! لا تحدث به القوم فيكذبوك، فقال عليه الصلاة والسلام: بل لأحدثن به). ويخرج من عندها إلى البيت الحرام، ويجلس منعزلاً كجلسته عند أم هانئ، فمر عليه أبو جهل فقال له: (يا محمد هل من جديد؟ -من باب الاستهزاء- قال: نعم. قال: وما ذاك؟ قال: قد أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس وعرج بي وعدت في الصباح، فقام أبو جهل يصفق ويصفر، وقال: أتقول هذا القول إذا دعوت قومك إليك؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: هلموا يا قريش فاسمعوا من محمد ما يقول، وجاءوا إليه يهرعون، فأعاد عليهم المقالة). هذا وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهجرة النبوية [5]

الهجرة النبوية [5]

مواجهة الرسول لقريش بخبر الإسراء

مواجهة الرسول لقريش بخبر الإسراء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: أيها الإخوة! وصل بنا الحديث في قضية الهجرة إلى بيان أسبابها ومقدماتها، ومن تلك المقدمات: الإسراء والمعراج، وقد أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج به، وعاد من الإسراء وأخبر أم هانئ رضي الله تعالى عنها، فأوصته الكتمان مخافة أن يكذبه قومه، وذلك استبعاداً منها أن يصدقوه، فما استجاب لها، وخرج إلى الكعبة وهي تمسك بردائه، فيذهب ويجلس وينفرد عند الكعبة عن أندية قريش، ويمر به أبو جهل ويسأله من باب الاستغراب: هل من جديد يا محمد؟ فيقول: بلى. فيخبره بحدث الإسراء والمعراج، فإذا به يطير تعجباً ويقول: إذا ناديت القوم أتخبرهم بما أخبرتني؟ قال: بلى. وهنا يتساءل الإنسان: لماذا خرج صلى الله عليه وسلم ولم يبادر بإخبارهم؟ ولماذا انفرد في مجلسه وفي بعض الروايات: (فجلس كئيباً يفكر)؟ ولعل الجواب في ذلك بأنه لم يخبرهم ابتداءً لما علم من شدة وقع الخبر على أم هانئ، فعلم أنهم سيكونون مثلها، ولاسيما وهم لم يؤمنوا، أما جلوسه منفرداً وعلى تلك الصورة فهذا يعطينا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تحمل المسئولية، فهو الآن بين أمرين: إن أخبرهم فهو يعلم أنهم سيكذبونه. وإن سكت فقد كتم ما أمره الله به، وهو لا يمكن أن يسكت أو يكتم حقاً {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] ولهذا كان مقام النبوة تكليفاً عظيماً بجانب أنه تكريم وتشريف. ذهب أبو جهل ودعا القوم، وقال: أخبرهم بما أخبرتني به، فأخبرهم، فقاموا ما بين مصفق ومصفر مستبعدين هذا الحديث، وذهبوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقالوا: ألم تسمع ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يقول إنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء في ليلة! قال: إنه لم يقل ذلك. قالوا: بلى إنه قال؛ فهلم واسمع منه. قال: إن يكن قاله فقد صدق! قالوا: أتصدقه في أنه أتى بيت المقدس ورجع في ليلة، قال: بلى. ثم كشف لهم عن حقيقة الأمر، فقال: إني لأصدقه على خبر السماء -ومعلوم أن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة، وسمك كل سماء خمسمائة سنة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة سنة- فكيف لا أصدقه على بيت المقدس؟

قاعدة انطلاق العمل بالشرع

قاعدة انطلاق العمل بالشرع نقف هنا وقفة مع قوله سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:27 - 28] ثم يأتي بجملة اسمية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، وعند هذه الجملة -المبتدأ والخبر- تقوم جميع التكاليف، وينبني جميع التشريع، ويلتزم المسلم بكل أوامر ربه. قاعدة انطلاق العمل والاعتقاد بكل أنواعها: من عقائد، معاملات؛ دنيوية وأخروية، وبشرية؛ لأن الإنسان الفرد قبل أن يوقن ويؤمن بأن محمداً رسول الله لن يقبل شيئاً، أما إذا آمن وصدق بأن محمداً رسول الله فإنه سيقبل كل ما جاء به محمد في رسالته عن الله؛ ولهذا لما جاء سهيل بن عمرو في صلح الحديبية وأرادوا أن يكتبوا الصحيفة قال صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي! هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال: سهيل بن عمرو: لا تكتب (محمد رسول الله) لو كنت أعلم أنك رسول الله ما قاضيتك ولما منعتك عن البيت، اكتب: محمد بن عبد الله)؛ فقاعدة الإيمان نقطة الانطلاق، بل هي الفارق بين الحق والباطل، بين الإيمان والتصديق والكفر والتكذيب، (محمد رسول الله) كلمة من قالها التزم بكل ما جاء به. وقد أشرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن رجلاً من بني إسرائيل ركب بقرة -ماشية بطيئة- فالتفتت إليه وقالت: يا هذا؛ إنا لم نخلق لهذا! فقالوا: يا عجباً بقرة تتكلم! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم وأنا أومن بذلك ومعي أبو بكر وعمر وما هما ثمة) أي: لم يكونا موجودين والرسول يخبر عنهما أنهما يصدقان ذلك كما هو يصدقه، والذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم على أبي بكر وعمر بأنهما يصدقان بذلك وهما ما سمعا ولا حضرا، أنه يعلم مدى يقين وإيمان أبي بكر وعمر بما يحدثهما به. وقال عليه الصلاة والسلام: (عدا الذئب على غنمة فطلبها الراعي واستنقذها منه، فقال الذئب للرجل: من لها يوم لا يكون لها راع غيري؟ فقالوا: عجباً لذئب يتكلم! قال: وأنا أومن بذلك ومعي أبو بكر وعمر). وقد حدث في هذه الأمة مثل ذلك، يقول ابن كثير: في عام الوفود سنة تسع من الهجرة، بعد فتح مكة وقبل حجة الوداع، جاءت وفود العرب إما لتعلن إسلامها، وإما لتجدد إيمانها، وفي تلك السنة جاء وفد الذئاب!! قال الذهبي: فجاء ذئب وأخذ يحوم حول القوم إلى أن جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ يلعب بذنبه وأخذ يحادثه، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا وافد الذئاب إليكم، كم ستعطونه من أغنامكم، قالوا: والله لا نعطيه شيئاً)، فهذه أمور فوق العقل، ولكن إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إشكال بعد ذلك. ومن ذلك كثير، فالجماد -الحصى- سبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجذع يحن إليه ويسمع حنينه جميع من في المسجد، والذي يهمنا هو قوله صلى الله عليه وسلم: (تكلم الذئب وأنا أومن بذلك ومعي أبو بكر وعمر، وما هما ثمة). منطلق تصديق أبي بكر وعمر وشهادة رسول الله لهما أساسها إما سماع وإما مشاهدة، والشاهد سمي شاهداً لأنه شاهد بعينه، والشاهد يعلم الغائب، وهذه ليست عن مشاهدة بعين ولا باستفاضة سمع، ولكن عن إيمان وتصديق بأن محمداً رسول الله.

وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس لقريش

وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس لقريش وبعد أن اجتمعوا عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا بيت المقدس، وهم يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعرف بيت المقدس ولم يسافر إليه قبل ذلك، وأنه عندما خرج به عمه إلى الشام لقيهم راهب في الطريق وكان هذا الراهب يعرفه أهل مكة وينزلون عنده ويبيتون ويضيفهم، فكان يسأل ويقول: أبعث فيكم نبي؟ قالوا: ما سمعنا بهذا، فلما كان ذلك الوقت الذي مر فيه النبي صلى الله عليه وسلم صنع لهم طعاماً، وقال: احضروا مأدبتي، وما كان يفعل ذلك من قبل، فحضروا جميعاً، فلما نظر في وجوه القوم فلم يجد طلبته قال: أكلكم حاضر، قالوا: ما غاب عنا إلا غلام قال: ائتوا به؛ فلما جاءوا به وعرف علاماته قال لعمه: ماذا يكون منك هذا الغلام، قال: ولد أخي، قال: ارجع به ولا تذهب به إلى الشام إني أخاف عليه اليهود، فإنه سيكون له شأن. يقول صلى الله عليه وسلم: (فلقد كربت كرباً شديداً) أي: لسؤال قريش؛ لأن لهم حق الطلب وهو ليس عنده الجواب لأنه دخله ليلاً فكيف يصفه؟ وهذا السؤال فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام أُسري وعُرج به روحاً وجسداً في اليقظة. الخلاصة قال عليه الصلاة والسلام: فكربت كرباً شديداً، فإذا بجبريل عليه السلام يرفع لي بيت المقدس فأراه وأنظر إليه. وأخذ يصفه لهم بقدرة الله عز وجل. ولا تسل: كيف؟ بل الواجب علينا أن نؤمن بذلك: هل انفرج له طريق في الفضاء، وأزيحت له الجبال، هل جيء به أمامه؟ هل أعطي القدرة على الرؤية عن بعد؟ كل هذا بقدرة الله، وكما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد جلاه له جبريل وأخذ ينظره ويديره ويقلبه ويصفه من كل جهة شاءوا. فذهلوا وصدقوا وأيقنوا أن الوصف صحيح، لكنهم لم يصدقوا بأنه أُسري به في ليلة، ثم قال لهم: مررت بعير بني فلان وسمع حفيف البراق فند جمل لهم وانكسرت فخذه، ومررت بعير لبني فلان وكانوا نياماً واضعين ماءً في إناء مخمر بكذا فشربت الماء، ومررت بعير بني فلان تصل إليكم مطلع الشمس يقدمها جمل أورق وعليه غرارتان صفتهما كذا. فخرجوا ينتظرون العير في الموعد الذي أخبرهم به، وفي تلك الساعة المحددة بطلوع الشمس إذا بالعير تخرج عليهم كما وصف صلى الله عليه وسلم. وبعد فترة جاءت عير بني فلان، فسألوهم عن الماء، فقالوا: نعم كان لنا ماء في إناء مغطى وفي الصباح لم نجد منه شيئاً، ثم جاءت عير بني فلان فسألوهم عن البعير الذي ندّ وانكسرت فخذه، فقالوا: نعم والله في المحل الفلاني سمعنا صوتاً وما رأينا شيئاً؛ لأن الدنيا كانت ليلاً. والحكمة من هذا الجمع بين بيت المقدس وبين البيت الحرام هي إعلام النبي عليه الصلاة والسلام أن تلك الأرض ستكون أرضاً إسلامية يفتحها الله على أمة الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام. ولتكون رحلة الإسراء دليلاً على المعراج؛ لأنه لو عرج به عليه الصلاة والسلام من الكعبة مباشرة إلى السماء، فمن أين سيأتي لهم بعلامات وأدلة على صدقه، وهم أصلاً لا يعرفون السماء.

دخول النبي صلى الله عليه وسلم للجنة وما رآه فيها

دخول النبي صلى الله عليه وسلم للجنة وما رآه فيها (دخل النبي عليه الصلاة والسلام الجنة، ورأى قصراً عظيماً فيها، فيه حور عين فقال: لمن هذا؟ قالوا: لفتى من قريش يقال له عمر بن الخطاب يقول صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن أدخل وأنظر ما فيه، ولكني تذكرت غيرتك يا عمر، فيبكي عمر -فرحاً بهذا الخبر واحتراماً لما احترم به رسوله شعوره- ويقول: أو منك أغار يا رسول الله). ورأى أيضاً قصراً لـ زيد بن حارثة رفيقه في رحلة الطائف. وأيضاً سأل بلالاً: (أي عمل لك أرجى عند الله؟ لقد سمعت حفيف نعليك أمامي في الجنة) بلال عبد حبشي اشتراه أبو بكر وأعتقه، وليس ملكاً من ملوك العالم ولا سيداً من سادات العرب؛ لكن الإسلام أعلى وأعز نسباً فيقول: (يا رسول الله! إني ما أحدثت حدثاً إلا أحدث له وضوءاً، وما توضأت وضوءاً إلا وصليت به ركعتين)، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بسنة الوضوء فقال: (بذلك سبقتني يا بلال) فنسب العبد عند الله عمله لا غير. وذكر نتائج أعمال الجهاد في سبيل الله، الذين يحصدون وينبت النبات من ورائهم ثم يحصدونه مرة أخرى، وكلما انتهوا من الحصاد رجعوا ثانية وهكذا، وهذا هو تفسير قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ورأى ما عليه أكلة الربا، ورأى من لم يعمل بعلمه والآثار والنتائج المترتبة على ذلك، وأصبح يوم البعث الذي هو غيب مخفي عن البشر حقيقة مشاهدة أمامه، فازداد بهذا يقيناً؟

ترتيبات الهجرة في بيت أبي بكر والخروج إلى الغار

ترتيبات الهجرة في بيت أبي بكر والخروج إلى الغار ثم بعد ذلك كان أمر الأوس والخزرج من المبايعة، وكان حدث الهجرة، وقد هاجر الكثيرون. والرسول ما بادر بالهجرة قبل الناس بل كان كأنه يقود ركباً، وقائد الجيش يكون في المقدمة عند المعركة وفي مؤخرته عند الرحلة، فتأخر صلى الله عليه وسلم في مكة ولم يبق بعده إلا إنسان عاجز عن الهجرة، وكل من كان يستطيع الهجرة فقد هاجر، وهناك كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يتطلع إلى الهجرة مثلما هاجر الناس، أما عمر فقد هاجر وعثمان هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وكلما أراد أبو بكر الخروج إلى الهجرة يقول له صلى الله عليه وسلم: (لا تعجل لعل الله يجعل لك رفيقاً).

مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر

مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كانت تمر ليلة ويخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى بيت أبي بكر إما عشية أو صباحاً) تقول: (وفي ظهيرة يوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا وما كان يأتي في مثل تلك الساعة، فلما دخل وسلم تنحى له أبو بكر عن سريره وأجلسه بجواره، فقال صلى الله عليه وسلم: أخرج عنا من هنا). تبدأ الآن الخطة، وهي تحتاج إلى كتمان وسرية، وهكذا كان منهج الهجرة تشريعاً وتعليماً ومنهج وطريقة حياة، لكل الدعاة يجب عليهم أن يعملوا بها، قال: (أخرج عنا من هنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما هما إلا ابنتاي، وما عليهم بأس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أذن لي في الهجرة، فقال أبو بكر: الرفقة يا رسول الله، قال: نعم، قالت: عائشة: والله ما رأيت إنساناً يبكي فرحاً كبكاء أبي بكر في ذلك اليوم) فقال أبو بكر: (يا رسول الله! هاتان راحلتان كنت أعددتهما لهذا اليوم). قال العلماء: فذهب أبو بكر وبحث عن الدليل الخريت الذي يؤتمن على السر ويقوم بالخدمة، فجاء إلى عبد الله بن أريقط وكان على دين قومه، ولكنه معروف مشهور بالأمانة والوفاء، وبمعرفة الطريق، فأعطاه الرواحل وواعده عند الغار بعد ثلاثة أيام.

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومطاردة قريش له

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة ومطاردة قريش له تقول عائشة رضي الله عنها: فلما كان ليلة الهجرة علمت قريش أن المسلمين قد هاجروا إلى المدينة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد داراً وأهلاً وأعواناً وسيقاتلهم بهم. فأرادوا قتله، وأرادوا تنفيذ المؤامرة في ليلة الهجرة كما جاء في الآية الكريمة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. فجاء صلى الله عليه وسلم إلى علي وقال: (يا علي! نم في فراشي وتسجَّ ببردي ولن يصل إليك منهم أذى). علي في ذلك الوقت عمره في حدود السبع عشرة سنة، وها هو إيمان الفتية، وها هو أثر الشباب والناشئة في نصرة دين الله، فأهل الكهف كانوا فتية آمنوا بربهم، وصاحب موسى في الهجرة لطلب العلم كان فتى، كما قال {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:62]. لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، أتى معهم أحد الفتيان وكان صغيراً، فرده النبي عليه الصلاة والسلام، فعاد مرة أخرى يقف على أطراف أصابعه ليراه النبي عليه الصلاة والسلام صالحاً للقتال فيقبله، لكن يراه النبي عليه الصلاة والسلام ويرده مرة أخرى، وهكذا، فيقول له أخوه: لماذا تفعل هذا، فيقول: أريد الشهادة. وفي أحد يرد النبي عليه الصلاة والسلام غلاماً صغيراً، فيقولون: يا رسول الله! إنه رام، فيقبله عليه الصلاة والسلام، ويمر صحابي على غلام آخر يبكي، فيسأله: ما يبكيك يا غلام؟! فيقول: أجاز فلاناً ولم يجزني وأنا أصرعه، فأخذه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره الخبر، فأتى بهما وتصارعا فصرع صاحبه، فأجازهما النبي عليه الصلاة والسلام. وهنا يأتي علي رضي الله تعالى عنه وينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبعة عشر عاماً، وهو كله ثقة وإيمان ويقين بوعد رسول الله إليه: (لن يصلك منهم أذى). تقول عائشة: وخرج رسول الله مع أبي بكر من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، ويصل أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً إلى الغار، فما كان من أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحتاط ويتحرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

أحداث غار ثور

أحداث غار ثور يقول ابن كثير: فلما وصلا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي عليه الصلاة والسلام: (على رسلك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار) السين والتاء في الفعل للطلب، كما تقول: أستفسر أستشفع، أي: أطلب البراء في الغار من كل ما يخشى منه، والغيران في تلك المناطق مظنة الهوام والوحوش والحشرات، فينزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويتحسس أرض الغار حتى يستأمنها ثم يقول لرسول الله: أنزل على بركة الله يا رسول الله. فينزلون في الغار، وقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه من تجار مكة، وكان عنده ولده عبد الله، فقال: يا عبد الله انزل في النهار إلى مكة وكن مع الناس لتسمع ما يقولون، وفي الليل تأتي لنا بالخبر، فكان عبد الله أشبه بجهاز إعلامي، ولكن إذا غدا عبد الله في النهار وذهب في الليل فإن أثره سيظهر في الطريق، فيكون دليلاً على مكان رسول الله وأبي بكر، ولذلك أمر أبو بكر داعيه عامر بن فهيرة بأن يأتيه بالغنم ليلاً ليمحو الأثر ويسقيهما من اللبن، فأحكمت الخطة. ولما أصبح الصبح وعلمت قريش بالخبر، وأن النائم هو علي بن أبي طالب أسقط في أيديهم، ومن المعلوم أن نوم علي وبقاءه في مكة كان لأمرين: الأول: للتمويه، والثاني: لرد الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها، فالعجب كل العجب كيف يأمنونه على أنفس ما لديهم من أموالهم ولا يأمنونه على (لا إله إلا الله)! وهنا نقطة عظيمة جداً في الأخلاق والأمانة والوفاء، فقد كان القوم يتآمرون على قتله صلى الله عليه وسلم، وهو يحتال لأجلهم لرد أماناتهم إليهم، ولم يأخذها معه، فأي وفاء وأي أمانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة في عدم ردها قبل هجرته عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يفشي أمر الهجرة وتفشل الخطة. ثم لحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه في قباء قبل أن ينزل المدينة. هناك في الغار يأتي الطلب، واقتفوا آثار الأقدام فدلتهم إلى الغار، وهذا شيء طبيعي، وحينما وصلوا إلى الغار وقفوا حائرين بين ما ترى أعينهم وبين ما تدرك عقولهم، وقفوا وقالوا: واعجباً! هذا الأثر يقودنا إلى الغار، ولكن الغار على بابه نبت نابت متدل إلى الأرض ولم يقطع، مما يدل على أن أحداً لم يدخل. ويجدون على فم الغار نسج عنكبوت يملأ فتحة الغار، فمتى جاء العنكبوت ونسج هذا الستار الكبير على باب الغار! ويجدون على فم الغار عش حمامة وفيه بيضة، فمتى جاءت الحمامة وبنت عشها وباضت؟ عيونهم تردهم، وعقولهم تدفعهم، فوقفوا في حيرة بين منطق العقل بأن الأثر توقف هنا، وبين رؤية العين بأن فم الغار لا يسمح بدخول أحد. فأمام تلك المشاهدات رجعوا من فم الغار، وما الذي ردهم وصدهم: هل هي الجيوش المجيشة، أم هم الفرسان الأشداء؟ لا، إن الذي ردهم من أضعف جند الله عز وجل -عنكبوت- قال الله عنه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] لكأن الله يقول: قوتكم وغضبكم وحميتكم ما هي إلا كبيت العنكبوت الذي شاهدتموه.

دروس من وقاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في غار ثور

دروس من وقاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في غار ثور هناك حدثان: أحدهما مع أبي جهل والآخر في بني إسرائيل: أما الحدث الذي مع أبي جهل والرسول صلى الله عليه وسلم في مكة: أنه جاء رجل من اليمن بتجارة قماش، وأخذ يبيع للناس، فباع لـ أبي جهل نسيئة، وذهب إليه ليعطيه الثمن فجحده، فجاء إلى نادي قريش وقال: يا قوم!! خلصوا لي حقي، قالوا: لا نقدر. قال: دلوني على من يقدر؟ فدلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم سخرية؛ ولأنهم يريدون الوقيعة بالنبي عليه الصلاة والسلام. فذهب واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام وذهب معه إلى أبي جهل، وطرق عليه الباب، فخرج إليه ورحب به عليه الصلاة والسلام وقال: ماذا تريد يا محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أعط هذا الرجل حقه، فدخل البيت وأعطى الرجل حقه، وذهب اليمني وقال لمن دله على النبي عليه الصلاة والسلام، نِعم من دللتموني عليه! فقد أعاد لي حقي. فلما سألوا أبا جهل عن سبب ذلك قال: والله لو رأيتم ما رأيت ما تكلمتم بكلمة، والله ما إن طرق محمد عليّ الباب إلا كاد قلبي أن ينخلع، فلما خرج ونظرت إليه وجدت عند كتفيه فحلين عظيمين كل منهما فاتح فاه يريد أن يلتقمني، سبحان الله! فالله يؤيد بنصره من يشاء. ولنرجع إلى الغار: فهؤلاء القوم جاءوا بصدور حاقدة وسيوف مصلتة بأيديهم يطلبون ثأراً لهم، لأنه تحداهم وسخر منهم عندما وضع التراب على رءوسهم، وعند فم الغار لم يكن هناك فحلان أو غير ذلك، إنما كان هناك عنكبوت، ليؤكد الله لهم أنهم أضعف من العنكبوت، وقيل في تحليل هذه الأمور: إن نسج العنكبوت كان مثالاً لضعفهم، والنبت المتدلي كان رمزاً إلى النبت والجناء والزرع والغرس والخير والزيادة، والحمامة دليل رحلة السلام، وأما الفرخ الذي داخل البيضة لكأنه يقول: لا زال الإسلام في البيضة، وغداً ستنكسر البيضة، ويخرج الفرخ، فيحلق بجناحيه ويطير حيث شاء. الحدث الثاني: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة من بني إسرائيل خرجوا فآواهم المبيت إلى غار فلما دخلوا الغار وإذا بصخرة تقع على فم الغار وتسده، ولم يستطيعوا الخروج، وقاموا يتوسلون بصالح أعمالهم، فأولهم الذي توسل بالأمانة في حق الأجير، وثانيهم: الذي توسل ببر الوالدين، وثالثهم: الذي توسل بالعفة عن الحرام، والصخرة تنزاح بعد كل توسل شيئاً فشيئاً حتى خرجوا. أما كان من الممكن إنزال صخرة تسد فم الغار أمام المشركين، لكن لم يحدث شيء من ذلك، بل ردهم نسيج العنكبوت.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار وفي غزوة بدر

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار وفي غزوة بدر وأما في داخل الغار فـ أبو بكر يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا؛ فقال عليه الصلاة والسلام بكل طمأنينة: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما). ويسجل القرآن الكريم ذلك فيقول: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. قد يقول قائل: لو اقتحموا عليهم الغار من أين سيكون المفر؟ يقول بعض الرواة -وبعضهم ينكرون هذه الروايات-: إن الله فتح لرسوله فتحة من الجبل إلى البحر وأراه سفينة واقفة، وكأن الله يقول: لا تخف فنصري معك وتأييدي بين يديك. ولنعقد مقارنة بين موقف النبي عليه الصلاة والسلام، وموقف أبي بكر هنا في الغار، وبين موقف النبي عليه الصلاة والسلام وموقف أبي بكر في بدر: ففي بدر كان النبي عليه الصلاة والسلام خائفاً قلقاً، حتى عندما دخل العريش قام يناشد ربه ويدعوه ويقول: (اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض بعد) وأبو بكر هادئ مطمئن ساكن، يهدئ من روع النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (حنانيك يا رسول الله، والله إن الله لمنجز لك وعدك). أما في الغار فكان العكس: فالنبي عليه الصلاة والسلام هادئ ساكن وأبو بكر قلق مضطرب يقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا)، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). الشدة هي الشدة، لكن لماذا تغير أسلوب التعامل هنا عن هناك؟ أما سبب اطمئنان الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار رغم أنهما اثنان فقط، فلأن الله قد وعده بالنصر، أما في بدر فلأنه أصلاً لم يخرج للقتال إنما خرج يريد العير فجاء النفير، ولم يكن موعوداً بالنصر، وكان خوفه على أصحابه ولم يكن على نفسه. نسأل الله السلامة وجزاه الله عنا خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهجرة النبوية [6]

الهجرة النبوية [6]

نصرة الله لنبيه في طريق الهجرة

نصرة الله لنبيه في طريق الهجرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد مضى بنا الحديث عن الهجرة من بيان أسبابها ومقدماتها، وبدأنا في طريقتها ومنهجها وخطتها، وتقدم ما كان من اعتزام أبي بكر رضي الله تعالى عنه على الهجرة مراراً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمهله ويقول: (لعل الله يجعل لك رفيقاً)، وكان يطمع أبو بكر في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم. وذكرنا ما كان من السرية والتخطيط لإنجاح هذا الحدث، وأن من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في الهجرة جاء إلى بيت أبي بكر وقت القيلولة، ولم يكن يأتي في مثل ذلك الوقت، وبعد أن أخبره وشاوره معه خرج من خوخة خلف البيت، ولم يخرج من الباب العام، وكذلك: مبيت علي رضي الله تعالى عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيه ببرده، وأيضاً: اتفاق أبي بكر رضي الله تعالى عنه مع ولده عبد الله أن يكون في مكة نهاراً يستمع أخبار الناس ويأتي إليهم في الغار ليلاً يخبرهم به، ويأتي بعد ذلك الراعي عامر بن فهيرة ويمشي بالغنم على أثر عبد الله فيمحو الأثر؛ لئلا يستهدي به الأعداء إلى الغار. ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، واستبرأ أبو بكر الغار في التحفظ والخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق كان تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فانتبه إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ما بالك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون من ورائك، وأتذكر العدو فأكون عن يمينك أو عن شمالك، فيقول صلى الله عليه وسلم ويبين فضل الصديق رضي الله تعالى عنه: (أتود يا أبا بكر إن يكن شيء يكون فيك أنت؟ قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن أهلك أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة). وهكذا يمضي الصديق في طريقه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما وصلا الغار يطلب من رسول الله أن يتأنى حتى يسبق أبو بكر إلى الغار ليستبرئه، مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانتهينا إلى دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الغار، ومكثا فيه ثلاثة أيام، وقلنا: إن الحديث على أحداث الغار يتناول من كان خارج الغار من الطالبين، ومن كان داخل الغار من المطلوبين، أما من كان خارج الغار فإن الله قد ردهم بنسج العنكبوت وبيض الحمام ونبات أخضر متدل، وانتهى أمرهم. وهناك الصديق رضي الله عنه كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا)، فكان الصديق خائفاً بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه غاية الطمأنينة ويقول: (يا أبا بكر! ما بالك باثنين الله ثالثهما!) وانتهت مدة الغار ثلاثة أيام، وهي كما يقول العلماء: مدة الضيافة، ولكأنهما كانا في ضيافة الرحمن.

تسجيل وقائع نصرة الله لنبيه في القرآن

تسجيل وقائع نصرة الله لنبيه في القرآن يأتي القرآن الكريم يسجل هذا الموقف، ويلزمنا الوقوف مع من بداخل الغار وقفة طويلة. أولاً: النص الكريم {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] حقيقة النصر مذكورة في قول الله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126]. ثم يبين سبحانه وسائل النصر ووقائعه الفعلية، فيقول: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] أول وقفة مع هذا النص النظر إلى المقابلة، فإنه ذكر الكفار، وذكر اللذين أُخرجا، فالكفار جماعة أقوياء أشداء، وهما اثنان: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، ليسا في برحة في الأرض بل هما في غار مصمت {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40] والصحبة فضيلة ومنقبة لـ أبي بكر {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. جاء رجل إلى أحد أولاد الحسين بن علي رضي الله عنه وتكلم على الأحداث الماضية المؤلمة التي وقعت بين الصحابة فسب من خالف علياً فقال له رضي الله تعالى عنه: يا هذا هل أنت من أهل هذه الآية: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الحشر:8] هل أنت من هؤلاء المهاجرين؟ قال: لا. قال: هل أنت من أهل هذه الآية {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] قال: لا. لست من المهاجرين ولا من الأنصار، قال: وأنا أشهد أنك لست ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] فقم عني. وجاء رجل من الشيعة إلى ابن عمر ونال من أبي بكر في حرمانه لـ فاطمة من ميراث أبيها، فقال له: رويدك! أتتهم أبا بكر!! فأخبرني في قوله سبحانه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] من الثاني معه؟ قال: أبو بكر {إِذْ هُمَا} [التوبة:40] ما المقصود بـ (هما)؟ قال: الرسول وأبو بكر {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40] من صاحبه؟ قال: أبو بكر {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] مع من؟ قال: مع الرسول وأبي بكر، قال: ائتني بواحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له اثنتان من هذه الأربع، فأدبر عنه ومضى. ولما ذكرت المقارنة بين أبي بكر وبين عمر وبين علي وعثمان قال عمر: والله! لليلة من أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار خير من آل الخطاب جميعاً. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40]، إذاً: فليس فقط العنكبوت وبيض الحمام، بل هناك جنود أيضاً لم نرها، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40].

تشابه مواقف الأنبياء في الأزمات

تشابه مواقف الأنبياء في الأزمات هنا وقفة مقارنة بين أمور تختص بالغار، وأمور فيها عامل مشترك في جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. أولاً: قال: الله في الآية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، لا نقول: إن النون في: (معنا) نون العظمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخلاقه التواضع، فيكون ضاماً معه أبا بكر، فمعية الله لهما. وبالمقارنة مع هذا المأزق الضيق داخل الغار فهناك موقف آخر مشابه، وهو موقف موسى عليه السلام ببني إسرائيل على ساحل البحر، فإن الله أمره أن يخرج ببني إسرائيل ويمضي، قال: إلى أين يا رب؟ قال: حيث ترى السحابة فامش خلفها، فمشى وراء السحابة، فإذا بالسحابة توقفه على ساحل البحر، وأتبعهم فرعون وجنوده، فنظر من كان مع موسى فإذا البحر أمامهم والعدو وراءهم، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، لكن قال نبي الله موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء:62]. فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول في هذا الموقف المشابه: (إِنَّ مَعِيَ)، وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). ولنعرف أيضاً منزلة الصديق ومشاركته الفعلية في الهجرة حتى استحق أن يكون داخلاً ضمن تلك المعية، ولذا جمع الضمير: (إن الله معنا) بينما موسى مع قومه كانوا خائفين وليسوا على مستوى موسى عليه السلام ويقينه بالله، بل اليقين الراسخ لموسى وحده، ولهذا أفرد الضمير في المعية فقال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)، وما قال: (ربكم) فكانت ثقة موسى بربه وعناية الله بموسى أقوى وأشد من البقية؛ فهذه مقارنة في نوع المعية التي سجلها الله لرسوله وصاحبه في الغار. {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]، ما قال: (عليهما)؛ لأن النبي هو الأصل ومن سكينة الله عليه أخذ يطمئن أبا بكر: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، فقد كان أبو بكر خائفاً، وأشرنا إلى المقارنة بين خوف أبي بكر في الغار وطمأنينة أبي بكر في العريش في بدر. أبو بكر في الغار خائف والرسول يطمئنه، وأبو بكر في العريش مطمئن والرسول مبتهل بالدعاء إلى الله، وفي غاية الضراعة: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض بعد، اللهم انجز لي ما وعدتني) واجتهد في الدعاء حتى إن رداءه ليسقط في الأرض ويأخذه أبو بكر ويرده على كتفيه. وأشرنا فيما سبق بأن الفارق: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار لم تكن توجد بعد جماعة ولا أمة يتحمل مسئوليتها في ذلك الوقت، ويعلم بأن الله معه ومع صاحبه، ولكن في بدر كان قد خرج بعدد من المسلمين وكانوا سبعمائة وأربعة عشر رجلاً، يقابلون ألفاً من المشركين بكامل العدة، إذاًَ: كان يجتهد في الدعاء من أجل غيره لا لنفسه، كما قال الله: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] وقال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].

نزول السكينة من الله على رسوله نصرة وطمأنينة

نزول السكينة من الله على رسوله نصرة وطمأنينة إذا تأملنا هذا الأمر بالذات بذاته نجد أنه من أقوى عوامل النصر في جميع المعارك؛ يقابل هذا شدة الخوف والرعب في قلوب الأعداء، فهو أقوى أسباب الهزيمة، ولكي نقف على هذه النقطة نأخذ مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وكذلك غيره من الأنبياء. فمن ذلك موقف طالوت مع بني إسرائيل: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246]، إلى أن قال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، هل أقروا بذلك؟ لا، بل قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] فكان A { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ وَزَادَهُ بَسْطَةً} [البقرة:247] لم يقل: في المال، أو الحسب أو النسب، بل بمقومات القيادة، {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، العلم للتخطيط وبعد النظر وطلب الحكمة، والجسم منفذ، ولهذا فكل قائد جهول أو أحمق إنما يردي قومه ويردي نفسه، وتكون جنايته على نفسه وعلى من معه أشد من نكاية الأعداء، وما أشبه الليلة بالبارحة. ثم يقول لهم نبيهم: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ} [البقرة:248]، كما قال هنا: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]، فكذلك التابوت الذي جعله الله آية لملك طالوت وبه يثبت الملك، وبه يكون النصر، {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248]. لم يكن من عوامل تثبيت ملك طالوت وتنصيبه ملكاً، تاج مرصع ولا سيف مذهب، ولا كان شيئاً من الأدوات المادية، بل السكينة وحسب، وأيضاً: (مِنْ رَبِّكُمْ) فكانت النتيجة عندما التقوا، أن قوماً قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] وقال الآخرون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا} [البقرة:250]، (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) بالسكينة، (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) بالسكينة، (وَانْصُرْنَا)؛ فكانت تلك الآية من ربهم إنما هي السكينة.

نزول السكينة في حادثة الغار

نزول السكينة في حادثة الغار نأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنجد أول المواقف وأولى العوامل إنزال السكينة في بادئ الأمر في بدء الهجرة: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] بأي شيء؟ {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]. ثم انظروا إلى إعجاز القرآن، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40]، لاحظوا يا إخوان كلمة: (وَجَعَلَ) جاءت مع كلمة المشركين، أما في إعلاء كلمة الله، قال: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} [التوبة:40]، دون أن يأتي معها: جعل؛ لأن الجعل تصيير الشيء، تقول: جعلت القماش ثوباً، وجعلت العجين خبزاً، أي: صيرته. فهنا في هذا الموقف إشارة إلى تلك المقارنة، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، يواجهان (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا عند الغار، وهنا حدث إنزال السكينة على رسوله، وتأييده بجنود لم يروها، وفي تلك اللحظة جعل الله كلمة الذين كفروا السفلى، فصارت سافلة بجعل الله إياها كذلك. إذاً: قبل هذا كانت متعالية تعالوا على رسول الله، وآذوا المسلمين، وأخرجوا رسول الله من بيته؛ فجعل الله كلمتهم سفلى؛ في ذلك الوقت، وكأن الغار كان نقطة تحول. وكلمة الله هي العليا من قبل هذا، حتى لا يقول قائل: وجعل الله كلمته هي العليا بعد أن كانت سافلة، لا والله، هي عليا من أول يوم، ويكفي أنها من أول لحظة جاءت كانت دائماً وأبداً في ازدياد، كان النبي وحده معه خديجة، وعلي، وأبي بكر {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29]. إذاً: هي عليا من أول يوم، ولهذا قال: (وَكَلِمَةُ)، بالرفع -وبهذا يعلم ضرورة معرفة الإعراب في كتاب الله- وأما: (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فهي مفعول به لـ (جَعَلَ). ولكن (كَلِمَةُ اللَّهِ) مبتدأ ابتداءً لأنها العلياء. قال: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ)، ما قال: وكلمة الله العليا، بل خصصها بالضمير المنفصل، (هي) للتخصيص لها دون كلمات الأعداء والأنداد. بعد أن وجدنا أثر إنزال السكينة على طالوت بمجيء التابوت بها، نأتي إلى السكينة مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقلنا: أول نقطة في أول الأمر في الغار، والهجرة أول حدث فعلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

نصرة الله لنبيه بالسكينة في غزوة بدر

نصرة الله لنبيه بالسكينة في غزوة بدر وقعة بدر التي تتحدث عنها سورة الأنفال، واقرأ من سورة الأنفال الآية السابعة: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} [الأنفال:7]، التي هي العير، {تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] ولكن: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7 - 8]. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال:9]، وهو شدة اجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في العريش، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِي * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:9 - 10]. إذاًَ: طمأنينة القلوب مقدمة حتى {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، إذاً: من عوامل النصر طمأنينة القلب التي هي ضد الخوف والهلع كما سيأتي. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:11] إلى آخر السياق، ويقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]. إذاً: هنا في بدر وعدهم الله إحدى الطائفتين دون أن يسميها لهم، فكان بمثابة إغراء لهم، وبعد هذا ذهبت العير وجاء النفير، فقال لهم: كنتم تودون أن غير ذات الشوكة ولكن الله يريد شيئاً آخر، ليحق الحق بكلماته، ثم إذا كنتم وجهاً لوجه والتقى الجمعان، ولجأتم إلى الله، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] وأمدكم بألف من الملائكة، وبعد هذا الألف آلاف أُخر. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]، هذه الأمنة أو الأمن حينما كان المسلمون لا يعرفون الواقع؛ فخرجوا بسلاح خفيف وعدد قليل، وواجهوا العدد والعُدد والكبرياء والفخار، وحينئذٍ كان لابد من الخوف، فيأتي الله سبحانه بالنعاس لهم ليطمئنوا، {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10] وثم جانب آخر: فهو مهمة الملائكة، فالله سبحانه وتعالى أيضاً يطمئن وقد كان يكفي ملكٌ واحد يطمس عيونهم بجناحه، ولكنه امتحان من الله {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] إذاً: الأمنة في جانب المسلمين، والرعب في جانب الذين كفروا، فكانت النتيجة أن قتلوا سبعين وأسروا سبعين، وغنموا ما شاء الله.

نصرة الله لنبيه بالسكينة في عزوة الأحزاب

نصرة الله لنبيه بالسكينة في عزوة الأحزاب في الآية (25) من سورة الأحزاب، حكى الله مجيء قريش بأحلافها، وتحزبوا على أهل المدينة ليبيدوهم عن آخرهم، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم وشاور أصحابه أشار عليه سلمان الفارسي قائلاً: كنا إذا حُوربنا خندقنا، فأخذ بالفكرة وحفر الخندق. وفي هذا العمل النبوي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يأتيه الوحي من الله- بخبرة عسكرية فارسية، ولذا يقول والدنا رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]: ومن الأقوم أن يعمل ولي أمر المسلمين على حفاظ الإسلام والمسلمين: بلادهم، أموالهم، أعراضهم، دماءهم، وكل ممتلكاتهم، وله أن يستعين بخبرة أي إنسان ولو كان كافراً. هذه فكرة الخندق لم تكن العرب تعملها، ولذا لما جاءت قريش وجاء عمرو بن عبد ود وهو من كبار شجعان العرب، قال: إنها لمكيدة ما كانت العرب تعرفها. وتقدمت الإشارة أيضاً إلى الاستعانة بخبرة خريت الطريق عبد الله بن أريقط، وكان على دين قومه، فائتمناه على الرواحل وأن يأتيهما على الموعد بعد ثلاثة أيام، أي: أنهما ائتمناه على أنفسهما، وعلى الدعوة؛ لأنه رجل أمين وفي، ما قالوا: هذا رجل مشرك لا نستعين بخبرته. وكذلك لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن الغيلة، والغيلة هي: أن ترضع المرأة طفلها وقد حملت بأخيه من بعده، يعني: رضاع لبن الحمل؛ لأن العرب كانت تقول: إن الطفل إذا رضع من لبن الحامل كان لين العظام؛ لأن الحمل يخلخل حليب الأم. وكانوا يقولون: فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف يمتدحون ذلك، معناها: أن الذين رضعوا من الحامل لا تتماسك السيوف في أيديهم، أما الذين لم يرضعوا من حامل فهم أقوياء أشداء، فالسيوف في أيديهم لا تخطئ ولا تبعد الرمية. قال: (هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت فإذا فارس والروم يغيلون ولا يضر أولادهم شيئاً)، إذاً: استفاد من تجارب الآخرين وترك النهي عن الغيلة. فهنا أشار سلمان رضي الله تعالى عنه بعمل الخندق، وجاء المشركون وكانت النتيجة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]. رد الله المشركين.

نصرة الله لنبيه بالسكينة في إجلاء اليهود

نصرة الله لنبيه بالسكينة في إجلاء اليهود قال الله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26]، والذين ظاهروا المشركين في غزوة الخندق هم اليهود، فقد نقضوا العهد، وكانت شديدة على المسلمين، وبلغت القلوب الحناجر، ولكن الله سلم، فمن جانب المشركين ردهم الله بغيظهم ولم ينالوا خيراً، ومن جانب من عاونوهم وظاهروهم أنزلهم الله من صياصيهم، أي: من حصونهم، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26]، ونتيجة هذا الرعب هي: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26]. إذاً: السكينة والطمأنينة من عوامل النصر، والرعب في القلب من عوامل الهزيمة. وكانت نتيجة ذلك، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]، كل ذلك نتيجة الطمأنينة. أيضاً في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر:2]، فمن شدة الخوف والرعب صاروا هم بأنفسهم يخربون بيوتهم، هكذا هم اليهود؛ إذا ربحوا في حروب سنين أضاعوا ذلك بخطوة إلى الوراء.

نصرة الله لنبيه بالسكينة في الحديبية

نصرة الله لنبيه بالسكينة في الحديبية كانت غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، قال تعالى في أول سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:1 - 4]. إذاً: من عوامل النصر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين، لماذا؟ قال الله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4] هذا موقف. الموقف الثاني: إنزال السكينة أيضاً في أحرج المواقف، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وكانت هذه البيعة حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان يفاوض أهل مكة على أن يسمحوا لهم أن يعتمروا ويطوفوا بالبيت ثم يخرجوا عنهم، لكن المشركين كما قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26]. {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] من الإيمان؛ لأنه قال في أول السورة: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وهنا علم ما في قلوبهم من آثار السكينة التي جاء ذكرها في أول السورة: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18]. وذلك أنهم بايعوا رسول الله حينما قيل بأن عثمان قد قتل، فقال: (بايعوني على الموت) فبايعوه عن يقين وطمأنينة {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ} [الفتح:18]، بهذه السكينة، {فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرةً يَأْخُذُنَهَا} [الفتح:18 - 19]. ففي صلح الحديبية كانت السكينة لها عامل كبير في موقف المؤمنين، وثباتهم أمام قريش عن بكرة أبيها وهم على مشارف الحرم.

نصرة الله لنبيه بالسكينة في غزوة حنين

نصرة الله لنبيه بالسكينة في غزوة حنين ونأتي لآخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي غزوة حنين: في سورة التوبة الآية الخامسة والعشرين، يقول الله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، فماذا كانت النتيجة؟ {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، أي: بعد أن أعجبتكم الكثرة، ولم تغن عنكم شيئاً من موقفكم مع عدوكم، ضاقت عليكم الأرض ورحابتها، ووليتم مدبرين منهزمين ولم يبق إلا النبي صلى الله عليه وسلم العباس وبعض الرجال، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! ناد أهل الشجرة). فرجعوا إليه صلى الله عليه وسلم وهو ينادي ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يعلن عن نفسه وسط المعركة وأصحابه منهزمون عنه. فرجعوا إليه وأعادوا الكرة، وأخذ الحصى ورماها في وجوه الكفار، فنصرهم الله. {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة:25]، منها: الغار، وبدر، والأحزاب، وهنا: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة:25]، وأنتم قد أعجبتكم كثرتكم، ولكن لما دخلكم العجب بالكثرة، وظننتم بأن الكثرة معها النصر، حتى قال قائل: لن نغلب اليوم من قلة! وهل النصر بالقلة والكثرة؟! قال الله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. وهنا: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ} [التوبة:25 - 26]، (ثم) هنا للتراخي، يعني: بعد ما انهزمتم فعلاً وقال القائل: لن يرده إلا البحر، وقال آخر: بطل سحر محمد، وقال صفوان بن أمية وهو رجل على دين قومه، وكان مع رسول الله حمية ومعه أدراعه أعارها لرسول الله، يقول لأخيه: اضبط فاك لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن. أي: يقودني ويسوسني، وربان السفينة هو الذي يقودها، ومن ذلك رب الدابة ورب البيت. {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26]، هنا جاء: (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم فروا وانهزموا، فردهم بالسكينة، بعد تلك الهزيمة ينزل الله سبحانه السكينة على رسوله لثباته ووقوفه وسط المعركة ينادي: (إليَّ عباد الله، يا أهل بيعة الشجرة)؛ لأنهم كانوا منهزمين. ثم {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]؛ لأن النصر من عند الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. نرجع مرة أخرى إلى الغار، وفي قوله سبحانه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40]. ونحن الآن في هذه الآونة العصيبة، وفي هذا المد الطغياني، يجب أن نعلم أن هناك أموراً يجب مراعاتها على الباغي والمبغي عليه، والعادي والمعتدى عليه، وهي: أن ننادي العادي بأن يراجع نفسه ويرجع عن طغيانه، فإن قوى الشر الباغية مدحورة، والله سبحانه هو الذي يؤيد بنصره من يشاء، وهو الذي يهزم جند عدوه. ونقول للفريق الثاني: عليك بتقوى الله، والرجوع إليه، فإن الله عنده عوامل النصر من سكنية وجنود لا نعلمها، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. ولعلنا أيها الإخوة نكتفي هذه الليلة بهذه المقارنة، وبيان عامل السكينة الذي أنزله الله على رسوله، وأثر هذا العامل في غزوات النبي صلوات الله وسلامه عليه كلها، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الهجرة النبوية [7]

الهجرة النبوية [7]

نزول النبي على أم معبد والأحكام المستفادة من ذلك

نزول النبي على أم معبد والأحكام المستفادة من ذلك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تقدم الكلام عن الهجرة إلى أن وصلنا إلى الغار، وما كان من أحداث خارجه وداخله، وأثر السكينة التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيده بجنود لم تروها، واستعراض ذلك على سبيل الإجمال، وإنزال السكينة في جميع الأزمات من بداية الهجرة إلى بدر، والأحزاب، والحديبية، وحنين، وفي المقابل إنزال الرعب في قلوب الأعداء، وأن السكينة هي أقوى عوامل النصر، والرعب والهلع هو أشد عوامل الهزيمة. كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه قد أعطى عبد الله بن أريقط الديلي راحلتين، وواعده بعد ثلاثة أيام لكي يأتي بهما إلى غار ثور، فجاء على الموعد، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حينما انقطع الطلب عنهم، فقدم أبو بكر رضي الله تعالى عنه خير الراحلتين للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الناقة القصواء التي ظلت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: (لا أركب جملاً ليس لي، قال: هي لك يا رسول الله، قال: الثمن! قال: هي لك من عندي، قال: الثمن! قال: إني اشتريتهما بثمانمائة درهم، قال: هي عليَّ بذلك). فركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وركب أبو بكر ومضى ابن أريقط يقود الركب ويسير بهم في طريق غير مأهول. وعامر بن فهيرة الذي كان يأتي بالغنم في الليل ليسقيهما من اللبن، ويمحو أثر عبد الله بن أبي بكر قال: أنا أرافقكما؛ فاصطحباه معهما لخدمتهما، وكان أبو بكر رضي الله تارة يمشي وتارة يركب، فيتعاقب على الجمل هو وعامر بن فهيرة، وانفرد صلى الله عليه وسلم براحلته، ومضيا على بركة الله. وأخذ الدليل بهما إلى جهة الساحل، وكانت عادة أهل مكة إذا أرادوا قصد المدينة أن يبتعدوا عن الساحل؛ لأن الاقتراب من الساحل يطيل عليهم السفر، ولهذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة في الحج في تسعة أيام، لكن رحلة الهجرة ظلت خمسة عشر يوماً؛ لأنه أخذ بهم طريقاً غير مأهول. ويمكن أن نقول: إن الترتيبات للهجرة قد انتهت إلى الخروج من الغار، ولكن بقيت أحداث الطريق، وتلك الأحداث بمثابة معالم على الطريق.

أحداث خيمة أم معبد

أحداث خيمة أم معبد أول حدث: مرور صلى الله عليه وسلم بعد عسفان بامرأة يقال لها أم معبد، كانت تجلس وتطعم وتسقي من مر بها، وكان بيتها نائياً عن بيوت الحي. فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رأيا بيتاً متطرفاً فقصدا إليه، فوجدا فيه تلك المرأة، فسألها أبو بكر رضي الله عنه: هل عندكِ من لحم أو لبن أو تمر أو شيء تعطينا إياه من باب الإكرام للضيف، أو حتى ما نشتريه بالثمن، قالت: لو كان عندي شيء ما أحوجتكما إلى السؤال، إن كنت يا هذا تريد اللحم فعليك بسيد الحي، أما أنا فامرأة ليس عندي شيء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة خلفها لا تستطيع أن تلحق بالغنم، قال: (ما شأن تلك العنز في طرف البيت؟ قالت: إنها ضعيفة، قال: عليَّ بها). وفي بعض الروايات: أنهما تنحيا جانباً في ظل شجرة ونزلا، فجاء غلام لـ أم معبد كانت قد قالت له: يا هذا خذ الشاة والشفرة، واذهب بها إلى هذين فقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا، فقال صلى الله عليه وسلم: (رد الشفرة وائتني بالقدح، قال: إنها كنز، قال: رد الشفرة وائتني بقدح، فذهب وقال: إنه يقول: رد الشفرة وائتني بقدح). وفي بعض الروايات قال: (عليَّ بتلك الشاة، فقالت: هي كنز) وبعضها يقول: (أتأذنين لي بحلبها؟ قالت: احلبها إن كان بها حلب)، فأخذها فمسح على ظهرها وعلى ضرعها ودعا الله وأخذ يحلب في الإناء، فملأ الإناء فأعطى أبا بكر وأعطى من معه، ثم شرب وقال: (ساقي القوم آخرهم شرباً) ثم عاود وحلب وملأ الإناء وقال للغلام: (اذهب بهذا لأمك). وفي بعض الروايات الأخرى: أنه طلب منه شاة فجاء بعنز ضعيف ودعا وحلبها وأعطى أبا بكر فشرب، قال: ائت بغيرها، فجاء بالثانية كذلك وحلب وسقى صاحبهما عامر بن فهيرة، وقال: ائت بغيرها، فحلب فشرب، وهكذا إلى أربع من العنز الضعاف. فيحلب ويسقي أصحابه ثم يحلب لـ أم معبد، وفي آخر أمر تلك الشاة، تقول أم معبد وكان الوقت فيه قحط وجوع، فبقيت تلك الشاة عندنا بحلبها إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وفي عام الرمادة لم يكن في الحي حليب أبداً إلا تلك الشاة، تحلب لهم ولجيرانهم، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الأثر: جاء أبو معبد ووجد الحليب قال: يا أم معبد من أين لكِ هذا وليس عندكِ حلوب؟ قالت: مرّ بنا رجل كريم الوجه سمح طلق، وأخذت تعدد صفاته، ومن أراد هذه الصفات فليرجع إليها في كتب السيرة؛ فكل ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات جمال الذات وجمال الصفات جاءت بها تلك العجوز، فقال: لئن كنتِ صدقتِ فيما قلتِ فلعله صاحب قريش الذي يطلبونه، قالت: إنه رجل مبارك. وكانوا يسمونه: حالب الحوائل، والحائل هي التي ليس فيها شيء فهو يحلبها، وكانوا يسمونه: الرجل المبارك، حتى إنه بعد ذلك كثر غنمها، وجاءت إلى المدينة ومر بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فعرفه الغلام، قال: هذا صاحب الرجل المبارك، فدعته فقالت: أين صاحبك؟ قال: هو ذاك، قالت: ماذا يكون؟ قال: نبي الله، قالت: خذني إليه، فجاء بها إليه وأدخلها عليه وأعلنت إسلامها، وكساها وأطعمها وأعطاها، وقيل إن أبا معبد جاء أيضاً، بل إن أبا معبد قيل إنه أراد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم. إن الدارس للسيرة والمستأنس بأحداثها يقف هنا وقفة: قوم متخففون من الزاد، جاءوا إلى صاحبة خيمة، فأرسلت إليهما فاعتذرت، ثم بطوعها واختيارها أرسلت الشاة والشفرة، وجعلتهما كأنهما أصحاب بيت: (اذبحا وكلا وأطعمانا)، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضى بذبح الشاة واكتفى بحلبها، وهنا تساؤلات، لماذا لم يذبح وصاحبتها تريد أن تأكل معهم، وقد جادت بها عن طيب نفس؟ هنا يقول القائل: تلك بداية الرحلة، وهي رحلة دعوة وليست رحلة احتلال، أو اعتداء، أو اغتصاب، ولكنها رحلة دعوة إلى الفطرة السمحاء، والدين الإسلامي دين الفطرة، ولكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للعالم: إن رحلتي في الهجرة رحلة سلم وخير وبركة وفطرة ونماء، وليست رحلة إراقة للدماء ولو كان لشاة، وتظل الشاة تحلب لقومها عدة سنين بعد ذلك.

من آداب الضيف مع مضيفه

من آداب الضيف مع مضيفه وهنا ناحية أدبية: إذا كان تكلف المضيف لضيفه وقرب إليه الشاة، واستطاع الضيف أن يخفف على مضيفه مئونة الضيافة، فإن هذا من كرم الأخلاق، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام كما يقول أبو هريرة. إني لأُصرع من الجوع ويمر بي فلان وفلان، وينظر إليَّ ولا يدري ما بي، حتى مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبا هر ماذا بك؟ فنظرت إليه، وقال: بك الجوع، قلت: بلى يا رسول الله، قال: الحق، وجئنا إلى عمر، فقال: يا عمر ما الذي أخرجك؟ قال: أخرجني الجوع، قال: الحق، ومر بفلان وفلان، قال: ومشى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائط فلان، فسأل عنه رسول الله، فقال أهله: ذهب يستعذب لنا الماء. ولم تكن المياه العذبة متوفرة في المدينة، وكان أحسن بئر في المدينة به ماء عذب بئر رومة، الذي يسمونه بئر عثمان، وكان لرجل يهودي وكان يتحكم في بيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟) فذهب عثمان، وساومه على البئر فأبى، فاحتال له عثمان وقال: بعني نصفه بقيمته، فوافق. فكان يوماً لـ عثمان ويوماً لليهودي، وهذه قسمة عادلة، فقام عثمان ونادى في المدينة، اليوم الذي لي أبيحه للجميع يأخذونه في سبيل الله، فكان الناس يأخذون الماء مجاناًً في يوم عثمان، وفي يوم رومة يبيعه لهم، فصاروا يأخذون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، ثم ساوم اليهودي عثمان على أن يشتري النصف الآخر ولو بربع الباقي، فاشتراه عثمان وصار بئر عثمان. قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، ثم ما لبث أن جاء وقال: ما رأيت أكرم ضيوفاً مني اليوم؛ رسول الله وأصحابه، فذهب فقطع تمراً من نخله، ووضعه أمامهم، وأخذ الشفرة وذهب ليذبح، فقال له رسول الله: تجنب الحلوب وذات الولد، فوجهه وأرفق به؛ لأن الحلوب تحلب لأصحاب البيت، وذات الولد ترضع ولدها، فذهب وذبح غير الحلوب وغير ذات الولد، وشوى وطبخ وقدم لرسول الله وأصحابه، ثم قال رسول الله: (والله لتسألن يومئذ عن النعيم، ظل بارد ورطب وتمر ولحم وماء عذب، والله لتسألن يومئذٍ عن النعيم. نسأل الله تعالى أن يتم علينا نعمه، وأن يوزعنا شكرها، نسأل الله العلي القدير أن يديمها لنا وأن يتمها علينا وأن يوزعنا شكرها، وأن يجعلها عوناً لنا على طاعته. فهنا قال: (رد الشفرة وائت بالإناء) وهنا قال له: (واذبح وتجنب ذات الضرع والولد) لقائل أن يقول: إنما وجد في الخيمة امرأة، والمرأة لها رجل، والمال مال الرجل في الغالب؛ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تتصرف المرأة في مال زوجها في غيبته، بينما الذي ذبح في البستان صاحب المال. وكذلك أم معبد تقول: ونحن في حالة قحط وضعف، فلذلك يذبح شاتهم، لكن هذا في بستان ونخيل وثمار وبه ذات الولد وغيرها، فالحال هنا حال يسار، فلا مانع أن تقبل مكرمة مضيفك إذا كان ذا يسار، لكن لا كما يفعل البدو في البادية من تعنت وتعصب وأنه لابد أن تذبح للضيف.

الفرق بين البخل والإسراف في الضيافة

الفرق بين البخل والإسراف في الضيافة ومن العجب ما يذكره زميل لي، كان أبوه أمير قرية، وجاءه ضيف قبل أذان الظهر فذبح له، وأذن المؤذن، فصلوا ورجعوا، فوجد ضيفاً قد أتى وقد طبخت الذبيحة، ثم قدمت للضيوف فإذا بالضيف الثاني يمتنع عن الأكل، قال: هذه ليست ذبيحتي، هذه ذبيحة الأول، كيف آكل على حساب الأول! انظروا إلى أي حد بلغ التشدد، وإلى أي حد وصل التعصب، فأخذ العصا وقال: أقسم بالله! إما أن تأكل مع هذا وإلا لا تدخل بيتي بعد اليوم. فليست المسألة بالتعصب ولا بالعادات الشديدة، وليست هي بمسألة التكفير، وليست هي بمسألة الشح والبخل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا الدرس هنا في تلك الخيمة بأنه لم يرد إراقة الدم في بداية طريق الهجرة الخيرة ويراعي ظروف المضيفة، بينما هنا في المدينة لما وجد اليسار ووجد صاحب المال قبل المكرمة. وأيضاً مما يذكر في هذا الباب: أن رجلاً صنع طعاماً ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءوا فأكلوا قليلاً وامتنع البعض، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخوكم تكلف لكم فكلوا). سمعت أن أحد آل الشيخ، دعا الملك عبد العزيز في ذلك الوقت، وجاء بعض الناس يجعلون أنفسهم كأنهم على شبع فينال الواحد من بعض الطعام قليلاً ثم يرفع يده، والعار عندهم إذا واحد رفع يده ومد آخر يده بعده، لأنه يقال: هذا قنوع وهذا جشع. فكان الشيخ عبد الله يغفر الله له حاضراً وهم جالسون، وأراد شخص أن يرفع يده، فأخذ بالعصا وأقسم بالله، وقال: يا عبد العزيز والله ما واحد يرفع يده قبل أن يشبعوا كلهم، وإلا والله أشبعته بالعصا، فأكلوا حتى شبعوا. ثم قال: الذي شبع يقوم ولا على البقية من أن يأكلوا حتى يشبعوا، اتركهم لحريتهم، المهم أن من لم يشبع يأكل ولا عار عليه، حتى سموها فيما بعد عادة سعودية، الذي شبع يقوم والذي ما شبع يأكل ولا عار على واحد منهما. على كلٍ مراعاة آداب الطعام ومراعاة آداب الضيافة والإرفاق بالمضيف من مكارم أخلاق الضيف.

أحداث مهمة وقعت في الهجرة

أحداث مهمة وقعت في الهجرة هناك في مكة لم يكونوا يعلمون أين توجه رسول الله؟ وهناك بعض الأحداث التي وقعت بعد خروج الرسول وصاحبه من مكة.

مجيء أبي قحافة إلى بيت أبي بكر

مجيء أبي قحافة إلى بيت أبي بكر جاء أبو قحافة والد أبي بكر إلى بيت أبي بكر حين سمع أنه خرج مع محمد، فقال لـ أسماء: ماذا ترك لكم؟ تقول أسماء: والله ما ترك لنا شيئاً، فجئت إلى حجارة ووضعتها في كيس ووضعتها في الكوة فلما جاء أبو قحافة قال: ماذا ترك لكم أبوكم؟ قالت: ترك لنا خيراً كثيراً، وكان قد كف بصره، فأخذت يده ووضعتها على الكيس فلمسه، فقال: هذا خير كثير. بعد ذلك جاء أبو جهل وطرق الباب بشدة، فخرجت إليه، فقال: أين أبوك؟ فقلت: لا أدري، تقول: فلطمني على وجهي فأسقط خرصي من أذني! هل هذه رجولة؟ لأن الحقد والحسد والحماقة تدفع صاحبها إلى أن يرتكب ما لا يرتكبه الجهال. ومن جانب آخر بعد ثلاثة أيام من خروجهم من الغار وهم لا يعلمون أين اتجاههم، تقول أسماء: جاء رجل من الجن ببطن الوادي يتغنى بأبيات، حيث سمعوا صوتاً يهتف فوق جبل أبي قبيس بأبيات، منها: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترجلا فأفلح من كان رفيق محمد فعرفوا بأن وجهته كانت إلى خيمة أم معبد، وخيمة أم معبد بالنسبة إلى مكة في طريق المدينة، وكفار قريش كانوا قد طلبوه فلم يجدوه، وكانوا قد جعلوا لكل واحد منهما ديتين لمن يأتي بهما أمواتاً أو أحياء؛ لأنهم علموا أنهما إذا وصلا إلى المدينة فقد فاتهم الأمر، ويعرفون أن الأوس والخزرج سوف تقاتلهم، فأردوا أن يدركوه قبل أن يصل.

لحوق سراقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه

لحوق سراقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه سمع الخبر سراقة بن مالك وكان جالساً مع قومه، وسمع جُعل قريش لمن يأتي بهما أحياء أو أمواتاً، فطمع في الجُعل، وسمع رجلاً يقول: رأيت سواداً بالساحل أرى أنه محمد وصاحبه، يقول سراقة: فعلمت أنهما هما، ولكني قلت: ليسا هناك، إنما هو فلان وفلان مرا علينا من هنا، فهو يغطي الخبر طمعاً في الجعل. قال: ودخلت البيت وأمرت جاريتي أن تجهز فرسي ونزلت من وراء البيت، وأخذت رمحي وركبت فرسي ولحقت بهما، فأدركهما بعد أن فارقا خيمة أم معبد، يقول عن نفسه: فلما اقتربت منهما أخرجت من كنانتي الأزلام واستقسمت، فخرج السهم الذي فيه: لا تصبهم بمكروه، فخالفت الأزلام ومضيت، فلما دنوت منهما عثرت بي فرسي فسقطت عنها فقمت، فلما لحقت بهما غاصت قوائم فرسي في الأرض إلى ركبتيها، فعلمت أن ذلك منهما، فناديتهما الأمان، وكان أبو بكر كثيراً ما يلتفت ورسول الله لم يلتفت أبداً، وكان من شأن أبي بكر أن يقول: يا رسول الله أدركنا الطلب، أدركنا الطلب. ويبكي، فقال له رسول الله: (ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: الطلب أدركنا، قال: لا تخف إن الله معنا، فسيكفيكهم الله). يقول سراقة: ما إن قال ذلك إلا وغاصت قوائم فرسي، فناديتهما الأمان، وقلت: يا محمد! لقد علمت أن ما أصابني منك، فادع ربك أن يكشف عني هذا ولكما الأمان مني، فوقف ودعا وخرجت قوائم فرسي، فعلمت أنه حقاً رسول الله، فأعلن تصديقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعرضت عليهما الزاد فامتنعا، وقلت: بماذا تأمراني؟ قالا: رد عنا الطلب، فقلت: اكتبوا لي كتاب أمان، فقال صلى الله عليه وسالم لـ عامر بن فهيرة: اكتب له، وقيل الذي كتب له أبو بكر على قطعة جلد أو على عظم، فوقف سراقة في مكانه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه. وبعد فترة جاء الطلب من قريش فقال لهم: قد كفيتم هذه الجهة، اطلبوه في غيرها، وكل من لقيه كان يقول له: قد كفيت هذا الوجه فاطلبه في غيره. ومكث ثلاثة أيام ثم أخذ يحدث بما لقي وما صار له من فرسه، فسمع بذلك أبو جهل فأرسل يحذر بني جعشم أي: أهل سراقة، وكان سراقة سيد قومه، فخاف إذا تفشت القصة عند الناس أن يعلم مكان رسول الله، وهذه معجزة. يقول ابن هشام وغيره عن سراقة: جاء في أول اليوم طالباً رسول الله وفي آخر اليوم مدافعاً عنه. فقال سراقة لـ أبي جهل: والله يا أبا الحكم لو رأيت ما وقع لي ولفرسي لعلمت أن محمداً نبي حقاً، وقد علمت أن دينه منتشر ومنتصر.

مرور النبي صلى الله عليه وسلم برعاة غنم

مرور النبي صلى الله عليه وسلم برعاة غنم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، ومن الأحداث أيضاً أنه مر براعي غنم، فقال: (يا غلام! لمن أنت؟ قال: لرجل من أسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وقال: سلمت يا أبا بكر، ثم قال: ما اسمك؟ قال: مسعود، قال: سعدت يا أبا بكر). فقال أبو بكر للغلام: أفي غنمك حلوب؟ قال: لا، قال: وهذه ما بالها؟ قال: هذه عنز كانت حاملاً وأسقطت حملها وليس فيها شيء، قال: فجاء بها ولمس ظهرها ومس ضرعها ودعا الله فحلب في قدح، وبعد أن حلب لمس الضرع فعاد كما كان، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بهذا الحليب ومعه خرقة لتصفية الحليب من الشعر وتنظيفه، وهذا من العناية والخدمة من أبي بكر لرسول الله. قال: ثم أخذت الماء وصببته على ظهر القدح لأبرده، لأن القدح في الحر يصير حاراً فبرده وصب الحليب فيه، وكان رسول الله قد نام في ظل الشجرة، فانتظر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اشرب يا رسول الله. ومشى ثم مر أيضاً بغلام أسود ومعه غنم، ونفس القضية في حلب الشاة، فلما رأى الغلام هذا قال: (من أنت؟ والله ما فعل ذلك رجل قبلك، قال: أو تكتم عليَّ إن أنا قلت لك؟ قال: نعم، قال: أنا محمد رسول الله، قال: أريد أن أتبعك، والله ما يفعل ذلك إلا نبي)، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته يضع رايات ومعالم لكل من جاء وراءه، وذلك بأفعاله، فيعلم بأن معالم الطريق كلها دالة على رسالته، وأنها هداية ومعجزات. وقد قلنا: إن معالم الطريق في الهجرة كلها دروس وعبر للعامي وطالب العلم، فحينما قال الغلام: (أريد أن أتبعك) لو كان رجلاً آخر لقال: أهلاً وسهلاً ومرحباً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك لن تستطيع اليوم)، مع أنه كان أحوج ما يكون لرفيق ولمساعد، ولكن قال: (إنك لن تستطيع اليوم، ولكن انتظر في غنم قومك حتى تسمع بي قد ظهرت)، أي: إذا سمعت بأني قد وصلت وظهرت وأصبح لي أعوان وأنصار، وصار الدين والمسلمون أحراراً ففي تلك الساعة لك أن تتبعني، أما الآن فلا تعرض نفسك لأخطار، وهذا أسمى ما يمكن من مراعاة الحكمة في الدعوة ومراعاة أحوال الأفراد، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. ومضى صلى الله عليه وسلم فلقيهم الزبير وكان تاجراً ومعه قماش، فكساهما ثياباً بيضاً، وكذلك طلحة مروا عليه وأعطاهم وكساهم، ومضيا في طريق البر والخير حتى قدما إلى قباء يوم الإثنين قيل: أول ربيع الأول، وقيل: في نصفه، وقيل: في سبعة وعشرين منه.

سبل انتشار الأخبار في القديم

سبل انتشار الأخبار في القديم كان من شأن أصحاب المدينة لما علموا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ما كان، ولكن من أين علموا؟ الإعلام في الجاهلية أسرع من الإعلام اليوم، بمعنى: لو قسنا سرعة انتشار الخبر على وسائل المواصلات في ذلك الوقت لكان أسرع، الخبر اليوم يحصل في مكان من العالم وفي نصف ساعة يعم العالم كله؛ لأن وسائل النقل تنقل عبر الأثير، لكن في السابق كانت وسائل النقل إنما هي الإبل، وكانت وسائل الإعلام هي: الشعر، والخطابة، والكلمة التي تنقل الخبر. أما أهل مكة فقد سمعوا هاتفاً يهتف بهذا، ونرجع مرة أخرى للهاتف فقد نسينا أمراً ما: من أين جاء هذا الهاتف؟ تقول أسماء: رجل من الجن، وكأنهم كانوا معتادين مجيء هاتف يهتف، وهذا إما أن يكون فعلاً جنياً مؤمناً وإما أن يكون ملكاً. وقد تكررت هتافات مؤمني الجن بخصوص الإسلام في عدة مواقف منها هذا الموقف، ونحن نعلم بأن الجن قد آمنت عند عودة رسول الله من الطائف حينما رأته قائماً يصلي، كما قال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، ومنهم من آمن، فلا مانع أن يكون هناك من مؤمني الجن من يتابع حالة رسولنا. وكذلك في غزوة بدر سمعوا ليلة الوقعة هاتفاً يهتف: ألا فاخرجوا إلى مصارعكم يا بني فلان، فيسمعون الصوت ولا يرون القائل. وقد حدث مثل هذا في انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وذلك أنهم لما أرادوا أن يغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترددوا، كيف نغسل رسول الله؟ هل نجرده كما نجرد موتانا؟ فألقى الله عليهم سنة من النوم وسمعوا من ركن البيت صوتاً يقول: غسلوا رسول الله ولا تجردوه. يذكر ابن كثير أيضاً: أنه في زمان عمر، لما كان سارية قائد الجيش في تركستان، كان عمر على المنبر يخطب، فإذا بالحاضرين يسمعون عمر يقطع الخطبة ويقول: يا سارية الجبل، ونجد البعض يشكك في هذه الرواية ويوردها على مقياس ليس مقياسها، ويزنها بميزان غير ميزانها، هل ميزان الحرارة يصلح لما يوزن بالكيلو جرام، أو ميزان الرطوبة يصلح في ميزان الحرارة، أو ميزان كثافة الحليب والدسم يصلح في ميزان الحرارة، أو مقياس ضغط الدم يصلح لقياس السكر في الدم؟ لا، فكل نوع له ميزانه الخاص. فخوارق العادات حينما تعرضها على مقياس العقل لا يمكن أن يصدقها، فبعضنا قال: كيف يمكن أن يراه عمر وهو في تركستان؟ وكيف يسمع الرجل هناك صوت عمر بدون تلغراف أو تليفون؟ ولكن ما الذي يمنع أن يكون المولى سبحانه ينصر دينه ويعز جنده بأن يرسل إليهم هاتفاً يهتف، ويكون على صوت عمر ليسمعه الجيش ويلزم الجبل ويتحصن به حتى لا يأتيه العدو من ورائه، وما الذي يمنع الله سبحانه من أن يرسل إلى عمر أيضاً من يعلمه بالموقف فيقول عمر كلمته ويكلف الله من يحملها من الجن أو الملائكة، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، إذاً: لا مانع إن صح الخبر، وإذا لم يصح يبقى كأخبار إسرائيلية أو أخبار تاريخية.

أحداث قباء

أحداث قباء ومضى صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى أن شارف المدينة، وقبل وصوله صلى الله عليه وسلم كان أهل المدينة يخرجون عن بكرة أبيهم إلى قباء، ينتظرون مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تشتد عليهم الشمس فيعودون إلى بيوتهم. وفي يوم قدومه صلى الله عليه وسلم خرجوا على عاداتهم حتى إذا اشتد عليهم الحر رجعوا إلى بيوتهم، وإذا برجل يهودي على بيت له ينظر حاجة له، فيرى من يأتي مبيضاً يلوح به السراب، فعرف أنه محمد ومن معه، فنادى: يا بني قيلة! هذا جدكم الذي تنتظرون. وقيلة هي جدة الأوس والخزرج، وكانوا ينتسبون إليها، فلما سمعوه ينادي بهذا خرجوا عن بكرة أبيهم في سلاحهم.

استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه

استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وصل صلى الله عليه وسلم فرأى النخيل فجلس تحته، وقام أبو بكر بجواره، والناس يتوافدون عليهما، ومن لم يكن يعرف رسول الله من قبل يرى أبا بكر فيظنه هو فيسلم عليه، حتى أصبحت الشمس عمودية فقام أبو بكر بردائه يظلل رسول الله، فعرفوا رسول الله من صاحبه. وكان قد نزل أولاً على بني عمرو بن عوف ومكث هناك، وجاءه أهل المدينة والوافدون هناك في بني عمرو، وكان البيت موجوداً إلى العام الماضي حتى أزيل في توسعة ميدان مسجد قباء. نزل عنده صلى الله عليه وسلم، وكان بجانبه بيت أنصاري آخر يأتيه المهاجرون العزاب وينزلون عنده، ومن يأتي من المهاجرين بأسرهم أو بأولادهم ينزلون عليه. وصل الرسول يوم الإثنين وخرج يوم الجمعة التالية، وفي تلك الفترة التي قضاها بنى مسجد قباء.

بشائر نصر الله لدينه

بشائر نصر الله لدينه نحن هنا عند مشارف المدينة نقف وقفة طويلة، ونتأمل ما يمكن أن يسميه الإنسان: تفاؤلاً. الرسول تفاءل لما علم أن الراعي رجل من أسلم وقال لـ أبي بكر: (سلمت) وتفاءل لما سمع أن اسم الراعي (مسعود) وقال: (سعدت)، ونحن نتفاءل، ولكن بأي شيء؟ نعود إلى بداية الرحلة وإلى نهايتها، وإلى ما بين ذلك، فإن دليل الرحلة هو عبد الله بن أريقط وهو رجل مشرك، ولما قدم المدينة أعلن عن وصوله يهودي. فمن الفأل الحسن أن يكون الله سبحانه قد سخر الأعداء لخدمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمشركون ممثلون في شخصية ابن أريقط وهو يقود الركب رغماً عن أنوفهم إلى المدينة، وها هم اليهود أعداء الإسلام والمسلمين بحقد وحسد هم الذين يعلنون مقدم رسول الله، فمن باب الفأل الحسن أن نقول: لقد سخر الله أعداء الإسلام والمسلمين لخدمة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما النصارى فقد أمن جانبهم حينما ذهب المهاجرون الأولون إلى الحبشة، وما كان من أثر الهجرة الأولى إلى الحبشة بين يدي النجاشي يدل على هذا، وهذا النجاشي قد أعلن إسلامه وتصديقه لرسول الله، وقال: (لولا ما أنا فيه من الملك لوددت أن أخلص إلى محمد لأغسل التراب عن قدميه). تاج النصرانية على رأس النجاشي يطأطئ ليغسل التراب عن قدمي رسول الله، وها هي أصنام وأوثان الشرك تتكسر وتتحطم في ابن أريقط ليقود ركب الهجرة إلى المدينة، وهاهم اليهود الحاقدون الحاسدون هم الذين يعلنون عن وصول رسول الله إلى المدينة، إذاً: فالإسلام ظاهر على المشركين وعلى اليهود، وقد ظهر على النصرانية من قبل، فماذا بقي بعد ذلك؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].

بناء المسجد بقباء

بناء المسجد بقباء حينما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء لم تنته الهجرة بعد؛ لأن قباء ليست هي المقر النهائي، وإنما نزل فيها مؤقتاً، وانظروا إلى أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم إنه بناء المسجد. ومما يذكرون في قصته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يركب الناقة، فقام رجل، فقال: اسمك؟ قال: اسمي كذا، قال: اجلس، حتى جاء اسم يرتضيه وركب وقال: أرخ لها زمامها، وقامت وخطت على مربع، وقال: خطوا على آثارها وأقيموا بناء المسجد). وكانت القبلة أول قدوم النبي المدينة إلى بيت المقدس، ثم بعد ذلك تحولت، وأراه جبريل الكعبة وهو يضع قبلة هذا المسجد النبوي الشريف. في قباء بُني المسجد، فكانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدء بالمسجد. لماذا؟ لأن المسجد هو بيت الأمة ومحل اجتماع المسلمين، ومكان تشاورهم، وغير ذلك من الأمور التي سنؤجلها حتى يأتي الحديث عن المسجد النبوي إن شاء الله. ثم أخذ في طريقه -بعد أن وضع مسجد قباء- إلى المدينة أو يثرب، وهو اسمها الأول. ثم وهو في قباء سأل عن أبي أمامة قالوا: إنه في قومه، وكان بينه وبين بني عوف ما بين القبائل، ولا يستطيع أن يأتي وحده، فإذا به في الليل يدخل عليه أبو أمامة، قال: (كيف خلصت وحدك في الليل وأنت حرب لهؤلاء القوم؟ قال: ما كان لي أن أسمع بقدوم رسول الله وأتأخر عنه فقال لبني عوف: أجيروا أبا أمامة) أي: اجعلوه في جواركم حتى يستطيع أن يذهب ويأتي، قالوا: أجره أنت يا رسول الله! انظروا يا إخوان! إنما يجير من القوم واحد منهم، فإذا بهم يضعون حقهم في الجوار لرسول الله وكأنه المسئول عنهم، قالوا: أنت تجير علينا، أي: ما دمت قد وصلتَ فليس لنا كلمة، وأنت الذي تتحكم في أنفسنا وأموالنا وأرواحنا. فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أول خطوة يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الالتحام من أهل المدينة.

استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بالعدد والعدد

استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بالعَدد والعُدد ثم مضى في طريقه، وكانت قبائل المدينة تمتد مع الوادي من قباء إلى المدينة شمالاً، فكان كلما مر بحي من الأحياء يجد أهله في العَدَد والعُدَد يأخذون بزمام الناقة: هلم إلينا يا رسول الله، هلم إلى العَدَد والعُدَد والمنعة؛ لأنهم بايعوه عند العقبة على هذا. قبل مجيئه عليه السلام كانت المدينة منقسمة إلى قسمين، فقد استمرت الحروب فيما بينهم مائة سنة، والخمس سنوات التي سبقت مقدمة هي التي وضعت الحرب فيها أوزارها، وكانت الجروح لم تلتئم بعد، وهاهم الأوس والخزرج، أفينزل عند الأوس فيكون على حساب الخزرج، أم ينزل عند الخزرج فيكون على حساب الأوس، وهو إنما جاء ليجمع الجميع تحت راية واحدة؟! فإذا به وهو النبي المرسل الموحى إليه من ربه يقول لهم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، أي: خلوا سبيل الناقة. وهكذا كلما مرت بحي قال: خلوا سبيلها خلوا سبيلها، حتى أتت إلى أمام هذا المسجد وبركت، وهي في كل هذا مأمورة، ولم ينزل عنها ابتداءً حتى لا يقولوا: غمزها، بل بقي عليها، ثم نهضت وهم ينظرون، ثم دارت واستدارت وتلفتت، وكأن مهندساً يأخذ خارطة إلى محل معين ويتبع الخارطة ويتأكد من الموقع. فرجعت إلى المحل الأول وبركت ومدت عنقها كعلامة على النزول، فنزل صلى الله عليه وسلم عنها وقال: (هو المنزل إن شاء الله). كل القبائل تعرض عليه العَدَد والعُدَد والمنعة وهو يعتذر إليهم ويقول: إنها مأمورة، وأنا تبع لها، حتى لا يتحمل مسئولية نزوله وإكرامه قوماً على قوم، حتى إن أخواله بني النجار ليقولون: هلم إلى أخوالك، فقال: (خلوا سبيلها). ولما جاء إلى المحل الذي نزل فيه كان كل واحد يقول: عندي عندي، أما أبو أيوب فقد أخذ الرحل وأدخله بيته، فقال الرسول: (أين رحلي؟ قالوا: أدخله أبو أيوب، قال: المرء مع رحله). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهجرة النبوية [8]

الهجرة النبوية [8]

نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب

نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد وصل بنا الحديث عن الهجرة إلى وصول الركب المبارك إلى قباء وبناء المسجد بها، ثم النزول من قباء إلى المدينة، ومروره صلى الله عليه وسلم بأحياء الأوس والخزرج، وكلما مر بحي تلقاه أهله: هلم يا رسول الله إلى العَدَد والعُدَد والمنعة، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).

إرشاد الله لناقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان إقامته

إرشاد الله لناقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان إقامته أشرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لما يُسخر الله إليه الناقة ليخرج من عهدة تحمل مسئولية مجاملة فريق على آخر، وهذا من الحكمة الإلهية. وأيضاً مما يشعر بأن الله سبحانه يجعل عند للحيوانات إدراكاً، ما جاء في الموطأ في باب فضل يوم الجمعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة إلى غروب الشمس، فرقاً من الساعة)، فالحيوانات تعرف أن الساعة تقوم يوم الجمعة وتصغي بسمعها للنفخة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وما جاء في نص القرآن الكريم من خبر الهدهد وما رأى عليه بلقيس وأصحابها، وجاء مستنكراً أنهم يسجدون للشمس والقمر ولا يسجدون لله. أيضاً في مقالة النملة: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]. وهذه أمور يثبتها القرآن الكريم. إذاً: لا مانع من أن الله سبحانه يهدي الناقة إلى المكان الذي يريد الله أن يكون مقراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون على رسول الله لوم ولا مسئولية في أن يقدم فريقاً على فريق. وكان الأوس والخزرج كفرسي رهان عند رسول الله، إذا فعل الأوس مكرمة بادر الخزرج إلى أن يفعلوا مكرمة مثلها، ولما جاءت الناقة نزلت في حلة بني النجار وكان أعز حي في أحياء المدينة فبادر الناس هناك لرسول الله: في بيتي، عندي يا رسول الله، هلم إلى بيتي، وهو ينتظر ساكتاً، ثم التفت إلى ناقته ورحله فوجد الناقة بدون رحل، فقال: (أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: المرء مع رحله) فتكون المشكلة قد انتهت، ولا أحد يستطيع أن يقول: لماذا اخترت أبا أيوب؟

قصة تبع اليمن وبناء بيت أبي أيوب الأنصاري

قصة تبع اليمن وبناء بيت أبي أيوب الأنصاري من يقرأ كتب السيرة يجد روايات عجيبة لبيت أبي أيوب، وإن اختلفت في سياقها فإنها تتفق في المغزى والمعنى. ما هو بيت أبي أيوب هذا؟ ومن أبو أيوب؟ يقولون: إن أحد التبابعة من ملوك اليمن مر بالمدينة وهو في طريقه إلى أفريقيا، وبعض الروايات تقول: وكان معه مائة وثلاثون فارساً وضعف ذلك راجلاًَ، ومعه من أجل العلم والحكمة العدد الكبير، فلما وصلوا إلى المدينة تبايع أربعمائة من أهل العلم والمعرفة ألَّا يخرجوا من المدينة مع الملك، مع أنهم جاءوا معه وهم رفقاؤه. فسألهم الملك: علام امتنعتم؟ وعلام تحبون البقاء في هذه البلاد؟ قالوا: إن البيت -البيت العتيق- وهذه البلدة تتشرف ببعثة نبي آخر الزمان اسمه محمد، ونحن نقيم ننتظره. فأراد أن يقيم معهم ووثق من كلامهم. ؛ لكن ما استطاع. تقول هذه الرواية: فبنى أربعمائة بيت لكل واحد بيتاً، واشترى أربعمائة جارية فأعتقهن وزوج كل واحد بجارية وأعطاه عطاءً جزلاً، وبنى بيتاً حتى إذا جاء النبي سكن فيه، وكتب كتاباً وختمه بالذهب وأعطاه إلى كبير هؤلاء العلماء والحكماء، وقال: إن أدركته أبلغه سلامي وأعطه كتابي، ومما كتب فيه: شهدتُ على أحمد أنه رسول الله خالق النسم ولو طال عمري إلى عهده لكنت وزيراً له وابن عم شهد بأنه آمن برسول الله، ولو أنه أدركه لكان وزيراً له، أي: معيناً مساعداً وابنَ عمه. وختم الكتاب وقال لكبير العلماء: إن أدركته فأعطه كتابي، وإن لم تدركه فأعطه لولدك، وولدك لولده، وولد ولدك لولده، حتى يصل إليه. تقول هذه الرواية أيضاً: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وصل الكتاب إلى رجل اسمه أبو ليلى، فذهب به إلى رسول الله في مكة، فلما جاء به قبل أن يكلمه قال: (أنت أبو ليلى؟ قال: من أنت؟ والله ما وجهك بوجه ساحر، كيف عرفت أني أبو ليلى؟ قال: معك الكتاب كذا، قال: بلى) هذه رواية. والرواية الأخرى تقول: إن هذا الملك لما مر بالمدينة خلف ولده عليها ملكاً، ومضى في سبيل رحلته، ثم أتى موسم جني الثمار فذهب إلى حائط رجل وصعد على النخلة وأخذ يجني من رطبها، وهي ليست مِلْكَه، فجاء صاحب النخلة وضربه بالمنجل في رأسه فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبَّر. انظروا الحمية إلى أين؟! من أجل قليل من الرطب يقتل الملك عليها، وكما يقال: غمط الحق غصة، فليس هناك إنسان يقبل الظلم على نفسه، حتى الحيوان لا يقبل الظلم على نفسه، ولا يوجد إنسان يقبل انتهاب ماله وهو قادر على أن يرده؛ ولكن أما كان حقه أن يقول له: انزل، لماذا صعدت؟ وفي عودة الملك وجدهم قد قتلوا ولده، فأراد أن يقتلهم جميعاً، فحاصرهم، فكانوا يقتتلون نهاراً ويكفون عن القتال ليلاً، وطال الحصار إلى أن نفد طعام الجيش المقاتل، فقال أهل المدينة فيما بينهم: هذا الجيش ما عنده طعام، وليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً في النهار، ونأوي إلى بيوتنا ونسائنا نطعم ونشبع ونستريح. فقالوا: نخرج لهم العشاء. فتعجب الملك وقال: والله ما وجدت مثل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويُقْروننا ليلاً؟! جيش محاصِر يقاتل ولما نفد زادهم لم يقل عدوهم: الحمد لله غداً نأخذهم ونذبِّحهم. بل قالوا: نطعمهم ونقاتلهم. وأبت عليهم مروءتهم أن يقاتلوا عدواً يقع تحت وطأة الجوع، قالوا: ليست هذه مكافأة، مثل الفارس يقاتل راجلاً، فعليه أن يترجل مثله، أو يمهله حتى يجد فارساً يجول ويصول معه، وهكذا كانت شيمة العرب، الفارس لا ينازل إلا من كان عدلاً له فتعجب الملك من أمرهم؛ وبينما هو على تلك الحالة إذ خرج إليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة، وسألاه: أيها الملك! ماذا تريد؟ قال: أريد أن أنتقم لولدي وأستأصل أهل هذه القرية. قالا له: إنك لن تسلَّط عليهم. قال: ولماذا؟ قالا: إنها مهاجَر آخر نبي؛ أيهاجر إليها وهي خراب؟! ليس معقولاً. ثم تكلما واستمع منهما، فوجد عندهما علماً، فاستأنس لهما وصدقهما. فلما خاطباه وسمع كلامهما، ووجد عندهما علماً، اتعظ وتنازل عن دم ولده، وسأل أهل العلم، وهذا هو الواجب على الملوك والرؤساء والزعماء والقادة: أن يرجعوا إلى العلماء؛ لأن عندهم هدى ونوراً من الله، وهذان كانا على كتاب وعلى دين سماوي. فقالا له: ارحل عنها، وابن بيتاً، فإذا جاء نبي ذلك الزمان لجأ إليه، فبنى بيتاً وكتب كتاباً. فسواء كان اختيار المدينة من الأربعمائة الذين تبايعوا وتعاهدوا على البقاء ينتظرون، أو كان بسبب قتل ولد الملك، المهم أن الملك بنى بيتاً وكتب كتاباً ودفعه لكبير العلماء أو لواحد من أبناء هذين الحبرين. وقالت الرواية الأولى: الأوس والخزرج من أبناء الأربعمائة. وقالت الرواية الثانية: أبو أيوب من نسل كبير الأحبار الذين بقوا في المدينة. فلما علم أن عندهما علماً قال: لابد أن تصحباني إلى بلادي اليمن، فامتنعا عليه، فقال: لا غنى لي عنكما، وأخذهما قسراً عليهما، فتبعاه. وتتمةً للفائدة: فإن هذا الملك وهو في طريقه إلى مكة خرج عليه رجلان من هذيل، قالا: أيها الملك! إنك قادم على مكة، ونريد أن ندلك على كنز بها، إن أنت أخذته أغناك الدهر كله. قال: وما هو؟ قالا: كنز في جوف بيت العرب. يعنيان: اهدم الكعبة وخذ الكنز. فلما سمع ذلك دعا الحبرين وسألهما، قالا: أيها الملك! لقد أرادا هلاكك. غدراً بك، قال: ولأي شيء؟! قالا: إن هذا البيت هو البيت العتيق، أعتق من أيدي الجبابرة، ما تسلط عليه جبار إلا أهلكه الله، فأرادا لك الهلاك، وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر فأظهر لهما إذا أتياك قبولك والموافقة واصحبهما معك إلى مكة حتى يشتركان في الهدم. فلما وفدا عليه من الغد قال: جزاكما الله خيراً، دللتماني على كنز عظيم، ولا أريد أن آخذ الكنز وحدي، وحيث دللتماني عليه لابد أن تذهبا معي ونقتسم المال. فقالا: لا نريد منه شيئاً، هو لك وحدك. قال: عجيب! تدلاني على كنز ولا تريدان منه شيئاً، إذاً: الأمر فيه خيانة، وضرب أعناقهما. ثم سأل الحبرين: ماذا تشيران عليَّ إذا أتيت البيت؟ قالا: تدخله متواضعاً لله وحده، وتكرم جيرانه، وتكسوه. انظروا يا إخوان! هاهم أحبار اليهود، وهاهو ملك المجوس وثني وهو في طريقه إلى الإيمان يعظم البيت ويسمع نصيحة العلماء في زمنه، فيدخل مكة متواضعاً، ويعظم حرمة البيت، ويكرم جيرانه، ويكسو الكعبة. وصدق الله العظيم: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96 - 97]. فالبيت له رب يحميه من زمان قديم كما قال عبد المطلب: جئتك أطلبك إبلاً لي أخذه رجالك. قال: قد كنتَ عظيماً في نظري والآن صغرت، جئت أهدم بيت عزك وشرفك ودينك، فتترك الكلام معي فيه وتكلمني في إبل؟! قال: نعم. الإبل لي وأنا أطالب بها، أما البيت فله رب يحميه، لست أنا الذي أحميه. وما أشبه الليلة بالبارحة! ينادون بإنقاذ الحرمين، وجهلوا وعميت بصائرهم عن واقع الحرمين، هل الحرمان مقفولان؟ الحرمان بلدان مفتوحان ليل نهار، والحرم في مكة مفتوح أربعاً وعشرين ساعة، والحرم في المدينة يُقفل ساعات من الليل، وما خلت الكعبة وقتاً من الأوقات من طائف لله، ففي كل وقت وفي كل أوان يأتيه رجال: ((وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج:27] يطوفون ويسعون ويعتمرون. ولكن إذا أراد الله فضيحة شخص جعل فضيحته من طريقه هو، والمسجد النبوي ما خلا من زائر أو مُصَلَّ من مسلم على رسول الله وصاحبيه. لماذا هؤلاء الناس يأتون من جميع أقطار الإسلام، لماذا لا يوجد من قال كلمة ذم؟ بل العكس كلٌّ يعترف بالجميل، يرفع الواحد أكف الشكر لله أن يجد الحرمين في هذه النعمة، نسأل الله أن يديمها علينا وأن يتمها لنا.

إكرام الأنصار وأبي أيوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم

إكرام الأنصار وأبي أيوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم نرجع إلى بيت أبي أيوب ونزول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك البيت الذي بناه ذلك الملك لينزل فيه نبي آخر الزمان إذا هاجر إلى المدينة. ومن هنا يقول بعض العلماء تعليقاً على ذلك: نزل في بيته؛ ولم يكن لأحد منة عليه، وقد شاهدنا في أول الهجرة: لما قدَّم أبو بكر رضي الله عنه الرواحل ماذا قال رسول الله؟ قال: (لا أركب بعيراً ليس لي، قال: هو لك يا رسول الله، قال: لا. الثمن، بكم اشتريتهما؟ قال: بثمانمائة، قال: هو عليَّ بثمنه)، فلم يقبل إلا مثامنة. ثم لما أراد بناء المسجد -على ما سيأتي أمره أيضاً تتمةً لهذه الجزئية- كانت الأرض ملكاً لرجلين: سهل وسهيل فقال: (ثامنوني عليها، قالا: خذها، قال: بل بالثمن، فاشتراها منهما بعشرين ديناراً ذهباً، دفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه في حينه)، وهذه من مكرمات أبي بكر. نزل صلى الله عليه وسلم بيت أبي أيوب، ففرح الأنصار بنزول رسول الله، وكان أشد الفرح من الحي الذي نزل فيه، وفي كل ليلة كان يجتمع على باب أبي أيوب القصعة والقصعتان والثلاث والأربع والخمس، كلهم يريدون أن يحصلوا على شرف وبركة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامهم. لما نزل صلى الله عليه وسلم نزل في الدور الأول، وأبو أيوب وأم أيوب في الدور العلوي، تقول الرواية: استيقظ أبو أيوب ذات ليلة، وقال لـ أم أيوب: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟!). انظروا يا إخوان! لا أحد يقول لي: حرام وحلال؛ أو دليله في كذا، فهذا إحساس وشعور بالتعظيم، وتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعور الإيمان، قال: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟! يقول: فتجنبنا جانباً ونمنا إلى الصباح، ورواية أخرى تقول: انكسر حِبٌّ لنا -الحِب: الزير الصغير- فقمت أنا وأم أيوب فزعين، وعندنا قطيفة واحدة هي لحافنا، فقمنا نجفف الماء مخافة أن يقطر منه شيء على رسول الله فيؤذيه). وسواء كان الإحساس الأول أو كان الخوف الثاني، فكل ذلك يدل على توقير وتكريم واحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فلما أصبح الصباح غدوت على رسول الله وقلت: يا رسول الله! أما البارحة فلم أنم لا أنا ولا أم أيوب، قال: وما ذاك؟ فذكر له إحدى الروايتين، وقال: يا رسول الله، أريد أن تكون أنت في العلو؛ لأنك يوحى إليك، ونحن نكون في الأسفل، قال: يا أبا أيوب في الأسفل أهون عليّ، وأرفق بأصحابي الذين يأتونني). انظر المراعاة إلى أين؟! قال: عندما أكون في الدور الأول يجيء الذي يزورني فيجدني أمامه؛ لكن إذا كنت في الأعلى احتاج الزائر إلى الصعود ففيها مشقة عليك وربما مشقة على أصحابي. قال: لا يا رسول الله، أنا لا أستريح أبداً وأنا فوق، فنزل على رغبته، وكان صلى الله عليه وسلم في علو البيت وأبو أيوب في أسفله. كان أبو أيوب رضي الله تعالى عنه إذا صنع الطعام يقدم القصعة أولاً لرسول الله، فيتناول منها ما شاء الله، ثم يأخذها أبو أيوب، يقول: ونتتبع مواضع يده التماساً للبركة، وفي يوم من الأيام رجعت إلينا قصعتنا ولم نرَ فيها أثر أكله منها، فقمت وصعدت حالاً: أستغفر الله وأتوب إليه يا رسول الله! ماذا فعلنا حتى غضبتَ علينا ولم تأكل طعامنا، فقال: (يا أبا أيوب، ما غضبت عليك، وما تركته غضباً، ولكن فيه من تلك البقول -كان فيها كرَّاث ونحوه- فكلوا أنتم، قال: كيف نأكل ما لم تأكله أنت؟ قال: لستُ كأحدكم، إني أناجي من لا تناجون)، هنا عادت الفوارق؛ أنا ما آكل منها، ولا يليق لي أن آكل منها؛ لكن أنتم كلوا. إذاً: هناك أشياء تكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم يُمنع منها وتُباح للأمة، كما يوجد العكس؛ فقد تكون هناك أشياء تباح له صلى الله عليه وسلم وتحرم على الأمة، ويسمونها الخصائص. مما أبيح له وحرم علينا: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] وكذلك الوصال: (لستُ كأحدكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). إذاً: وبعد ذلك لم يضعوا له في الطعام من هذه البقوليات، وبقي في بيت أبي أيوب حتى تحول وبنى بيوتاً لزوجاته، وأول ما بنى لـ عائشة.

بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد بالمدينة

بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد بالمدينة في هذه الأثناء لما نزل عند بيت أبي أيوب كان أمام بيته مكاناً يسمونه: مربد - وهو يقع عند مكتبة عارف حكمت وبعضهم يقول: البيت الذي هو مقابل المكتبة وبينهما الزقاق فقط، وبضعهم يقول: هو مكان المكتبة. فقال صلى الله عليه وسلم: (لمن هذا المربد؟ قالوا: ليتيمين أو لـ سهل وسهيل ابني عمرو، فدعا بهما وجاء وليهما، وقال: ثامني على هذه الأرض -وقيل: مربد، وقيل: نخيل، وقيل غير هذا فقال: هي لك يا رسول الله، وأنا أرضيهما عنها بأرض بدلاً منها أو بقيمتها، قال: لا. ثامنوني عليها، فثامنوه واشتراها صلى الله عليه وسلم ودفع أبو بكر قيمتها عشرين ديناراً ذهبا). نحن في هذا المقام نعلق ونقول: هذه من مكارم أبي بكر، ولا يوجد مسلم يأتي يصلي في هذا المسجد إلا ولـ أبي بكر فضل عليه وله أجر معه.

بناء النبي صلى الله عليه وسلم لحجر أزواجه

بناء النبي صلى الله عليه وسلم لحجر أزواجه وبدأ صلى الله عليه وسلم وبنى أول حجرة شرقي المسجد، فقال أبو بكر لرسول الله: (بنيت الحجرة! لماذا لم تبن بزوجك عائش -وكان عقد عليها وعمرها سبع سنين وبلغت تسع سنين عندما دخل بها- قال: ما عندي ما أمهرها) أي: ليس عندي صداقها. وقد جاء عنه النهي عن أن يدخل الإنسان على المرأة قبل أن يدفع لها شيئاً، كما جاء في زواج علي بـ فاطمة رضي الله تعالى عنهما أنه (لما خطبها قال له الرسول: ماذا تعطيها؟ قال: ليس عندي شيء، قال: أين درعك الحطمية، أعطها إياها. أما ماذا ستفعل بالدرع؟! فكما تشاء، تتملكه أو تبيعه أو ترده على زوجها، المهم أنه صداقها. فقال: ما عندك ما تمهرها؟ أنا أمهرها عنك. ودفع أبو بكر لـ عائشة صداقها، وهنا نقف وقفة طويلة، فالرجل العاقل إذا وجد الزوج الصالح لابنته، فلا يتساهل في الشروط أو الطلبات فقط، بل يعينه بما يستطيع. ما المانع ما دام يجد الكفؤ لابنته، فهي ليست ما كثة عنده في البيت؟! عندما تدفع أنت وتشتري رجلاً طيباً وتطمئن إليه ويكرم ابنتك؛ أليس أحسن من أن تبيعها وتأخذ ثمنها وغداً ترجع عليك؟! ما أطيب السنة وما أجملها وأوسطها وأيسرها! ثم كان عليه الصلاة والسلام كلما تزوج امرأة بنى لها حجرة، وصارت حجرات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرق إلى الشمال، وبيت حفصة من الجنوب. إلى هنا وصلت رحلة الهجرة إلى غايتها، ويمكن أن نعتبر ما تقدم الحديث عنه من أول تدبير النبي صلى الله عليه وسلم بنوم علي في فراشه، وإعداد أبي بكر الرواحل، والاتفاق مع ابن أريقط، ومواعداته إلى الغار بعد ثلاث، كله بداية وتاريخ ومنهج الهجرة؛ إلى أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأ في بناء المسجد.

نتائج الهجرة النبوية

نتائج الهجرة النبوية تمت الهجرة؛ ولكن ما نتائج الهجرة؟ الرسول صلى الله عليه وسلم كان في مكة يقابل الوثنيين المشركين، وهم جبهة واحدة، وقوم سذج، بمعنى: لم تسبق إلى عقولهم أفكار: عقائد طرائق مناهج متعددة مختلفة؛ ولكن {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، ولذا كان الواحد منهم إذا تعقل وتروَّى ووضح له الحق سرعان ما يؤمن. عمر بن الخطاب عندما ذهب لأخته لينتقم منها لأنها أسلمت هي وزوجها، سمع القرآن فتحول وتغير، وقال: (دلوني على محمد)؛ كل هذا في لحظات. سراقة يدرك رسول الله في الطريق ليأخذه لينال الجُعل من الإبل، ففي أول النهار كان يطلبه وفي آخر النهار صار يحرسه. لماذا؟ كان عندهم فطرة نقية سليمة، مغطىً عليها بغطاء الوثنية، وكان هذا الغطاء سهل الانتزاع.

فئات المجتمع في المدينة

فئات المجتمع في المدينة حينما جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد المجتمع في المدينة مكون من يهود ومشركين، وهنا تعددت الجبهات. بعد أن وصل صلى الله عليه وسلم وبدأ يظهر سلطانه نبتت نابتة النفاق. إذاً: أصبح في المدينة ثلاث جهات؟ · مشركون صرحاء. · ويهود. حاقدون وحاسدون. · وجنس مذبذب يعمل في الخفاء، في الظاهر لك وفي الخفاء عليك. وكان المنافقون أخطر بلا شك. إذاً: على الدارس أن ينظر كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم الموقف في المدينة من ثلاث جهات: الجهة الأولى: الجبهات المتعددة، كيف يوفق فيها، حيث أصبح في المدينة أربع فرق: 1 - يهود مستوطنون على حقد: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] هذا موقفهم {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]. وبعد هذا كله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]. أولاً: ما يودون أن ينزل عليكم خير؛ لكن الله {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]. ثانياً: نزلت الرحمة: فحاولوا أن يردوكم ما استطاعوا كفاراً حسداً منهم لكم. ثالثاً: جاءوا للتشكيك: قالوا: الجنة لا يدخلها إلا يهودي أو نصراني، وأنتم لن تدخلوها. هذا موقف اليهود. 2 - موقف المشركين. 3 - القلة المسلمة. 4 - نابتة النفاق.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين في المدينة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين في المدينة والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرخى العنان للمشركين، وتركهم مع المسلمين. ومن وقائع مواقف المسلمين مع المشركين: أن أحدهم بالأمس كان له صنم في فناء بيته، وكان يُعنى به ويعطره ويطيبه، ولم يكن ابناه قادرين أن يقولا لأبيهما شيئاً، وأرادا أن يلقناه درساً! ماذا يفعلان؟ عمدا إلى هذا الصنم فنكساه ليلاً، فيصبح أبوهم فيلقى الصنم منكساً، فيغضب لهذا، فيعدِّله ويثبته. ثم طال الزمن وقال: أنا تعبت معك، لو أعلم من الذي يفعل فيك هذا لانتقمت لك؛ لكن هذا السيف عندك، من عدا عليك فانتقم لنفسك، فمن الغد لا وجد الصنم ولا وجد السيف. أخذا هذا الصنم وأخذا السيف معه وبحثا عن كلب ميت، وجاءا وربطا الكلب والصنم ورمياه في بئر معطلة، فلما أصبح لم يجده، فأخذ يبحث يميناً ويساراً حتى وجده، وأراد الله له الهداية. وكما قلنا: إن أهل الوثنية كانوا على الفطرة، لكن تحتاج من يقشع عنها الغشاء. فلما نظر قال: لو كنت إلهاً حقاً ما قرنت مع كلب ثم رده وغسله ووضعه محله؛ ولكن ترك عبادته، وقليلاً قليلاً تركه بالكلية، ورجع إلى صوابه وأسلم، فكان المسلمون مع المشركين وهم كلهم من جنس واحد ومن عائلة واحدة ومن قبيلة واحدة، كانوا يأتون ببعضهم وكان بعضهم يتبع بعضاً. مصعب بن عمير لما جاء المدينة قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى بني عبد الأشهل، وجاء سعد بن معاذ فجلس هناك ومعه بعض الأشخاص، فقال سعد لأحد جلسائه: اذهب إلى هذا الرجل وقل له: (اذهب عنا لقد أفسدت علينا شبابنا) وكان ما زال على الشرك؛ فجاءه وتكلم عليه. فقال له مصعب: أوَ غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أن تجلس وأعرض عليك ما عندي، فإن قبلته فبها ونعمت، وإلا كففتُ عنك ما تكره. قال: أنصفت. لاحظوا العقل! حاكمه إلى عقله، فطلب منه أن يجلس فيسمع ثم يشاور عقله، فإن وجدت وصاحبه أيضاً عاقل قال: أنصفت، وركز رمحه وجلس يستمع، فلما عرض عليه الإسلام وقرأ عليه شيئاً من القرآن قال: نِعْم هذا! ونطق بالشهادتين ورجع لأصحابه. قال جليس سعد: والله لقد رجع إليك فلان بوجه غير الذي ذهب به عنك قال له: ماذا قلت؟ قال: قلت له ما أمرتني به. قال: ما أغنيت عني شيئاً، ثم قام وجاء، إلى مصعب فقال له تلك المقالة. قال له جليسه: هذا سيد بني الأشهل، اصدِقِ الله فيه، وهنا رأس مال الداعية إلى الله، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فلما جاءه أيضاً تكلم عليه واشتد في الكلام. قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس وتسمع ما أقول، فإن طاب لك فبها ونعمت، وإلا كففت عنك. قال: أنصفتَ. وركز رمحه وجلس، فلما سمع قال: ما أحسن هذا! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟. قال: يغتسل وينطق بشهادة الحق. فذهب فاغتسل وجاء ونطق بشهادة الحق، وذهب إلى قومه ووقف وقال: يا معشر بني عبد الأشهل! ما تعلمونني فيكم؟ قالوا: سيدنا. قال: كلامكم عليَّ حرام رجالكم ونساؤكم وكبيركم وصغيركم حتى تشهدوا أن لا إله إلَّا الله وأن محمداً رسول الله؛ فباتوا عن بكرة أبيهم مسلمين. ماذا فعل مصعب مع هؤلاء؟ صدَقَ الله فيهم، وأخذهم باللطف وأسمعهم كتاب الله. وهكذا الوثنية ما لم يكن فيها عناد، انظر إلى الوليد لما سمع القرآن قال: (والله إن لِكلامه لَحلاوة ... ) إلى آخر كلامه، ولكن العناد الذي حصل كان سببه كما قالوا: حملوا فحملنا، وأطعموا فأطعمنا، ثم قالوا: منا نبي، فماذا نقول نحن؟ فكان امتناعهم عناداً. فهذه الوثنية أمرها هيِّن؛ لكن الخطر كل الخطر، مِمَّن يحمل الحقد والحسد.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة واجه النبي صلى الله عليه وسلم: قوة نجد، ويهود، وتوجد قلة مسلمة يحافظ عليها، ونبتت نابتة النفاق. لما وصل صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله بن سلام هو حبر اليهود وأعلمهم وأعلاهم نسباً، فلما سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وعرف أنه النبي حقاً، وشهد شهادة الحق، ثم قال: (يا رسول الله، إن اليهود يعلمون منزلتي فيهم ومكانتي؛ ولكنهم قوم بُهت، ادعهم وسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فدعا اليهود، قال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا. قال: ألا تسلموا؟ قالوا: لا، قال: وإذا كان عبد الله بن سلام قد أسلم! قالوا: حاشا لله، ولا يمكن أن يسلم! قال: اخرج عليهم يا عبد الله، قال: يا معشر يهود! والله إنكم لتعلمون أنه النبي الحق والذي كنا ننتظر مجيئه، أسلموا تَسلموا، قالوا: أنت أكذبنا وابن أكذبنا، قال: يا رسول الله! هذا الذي كنت خائفاً منه).

اختصام المهاجرين والأنصار في سلمان

اختصام المهاجرين والأنصار في سلمان ممن بادر بالإسلام أيضاً: سلمان الفارسي، بعضهم يقول: أسلم بعدما جاء الرسول إلى المدينة، وبعضهم يقول: أسلم وهو لا يزال في قباء أول قدوم النبي إلى المدينة، وكان على نخلة لسيده الذي اشتراه، يشتغل فيها ويجني رطباً. ولما سمع بوصول محمد صلى الله عليه وسلم جاء بشيء من الرطب، وقدَّمه وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك وعلى أصحابك، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا. وهو لم يأكل، فقال سلمان: هذه واحدة. ثم ذهب وجاء من الغد بمثلها، وقال: يا محمد! هذه هدية مني إليك، فأكل وأكلوا معه، فقال: هذه الثانية. فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس يقول: هذه واحدة، وسمعه من الغد يقول: هذه الثانية. فلما أراد أن يدبر قال: هلمَّ يا سلمان انظر الثالثة، وكشف له قميصه عن خاتم النبوة بين كتفيه، قال: انظر الثالثة يا سلمان؛ لأن في كتبهم أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ويوجد خاتم النبوة بين كتفيه، فلما رآه سلمان أهوى عليه وقبَّله، وقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله وأنك رسول الله. سلمان الفارسي -مثلما يقولون- مُنْتَهٍ أمرُه؛ لأنه أخذ يتنقل من فارس إلى العراق، وكلما جاء إلى أحبار وإلى علماء يرفعونه إلى غيرهم، حتى دفعوه إلى أحبار الشام، وأحبار الشام دفعوه إلى يثرب، قالوا: انتظره في يثرب فإنها دار هجرته. فجاء إلى المدينة ينتظر مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا حينما كان في غزوة الخندق وقسم النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة إلى قسمين: راية للماهجرين، وراية للأنصار، اختلفوا في سلمان؛ المهاجرون يقولون: سلمان تحت رايتنا؛ لأنه آتٍ من الخارج، والأنصار يقولون: سلمان تحت رايتنا؛ لأنه كان موجوداً ينتظر رسول الله. ففض هذه الخصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا آل البيت). أي فخر هذا؟! هكذا واجه النبي صلى الله عليه وسلم تلك الطوائف المختلفة.

بناء الرسول لمجتمع المدينة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا

بناء الرسول لمجتمع المدينة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حركة الهجرة من بلد إلى بلد تعتمد كثيراً على الناحية الاقتصادية؛ لأن مواردَ البلد حركةُ أهلها، فإذا استقدمت أشخاصاً واستقبلت العديد من غير أبنائها كان ذلك على حساب مواردها، والعالم اليوم عند هجرة كل شعب ينزل به ضيم ويضطر إلى الهجرة إلى جواره، أول ما يفكر فيه أهل البلد المضياف اقتصادياته وتأمين حاجيات المهاجرين؛ هذا أمر طبيعي، فكيف عالجت المدينة استقبال المهاجرين وموارد المدينة آنذاك أغلبها في يد اليهود: الصياغة والصرافة والزراعة والتجارة، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهون في شعير عند يهودي. وجابر بن عبد الله مات أبوه وهو مدين ليهودي. جاء اليهودي يطالب بالدين في أوسق من تمر، فقال له: خذ ثمرة البستان هذه، قال له: بل تكيل وترد لي الأوسق التي أخذها أبوك. لم يقبل أن يأخذ الثمرة كلها، ويقعد جابر كئيباً، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ومشى في البستان ودعا بالبركة، فوفى اليهودي، فوفاه وبقي عنده الكثير. يهمنا أن المتحكم في الاقتصاد هم اليهود؟ إذاً: كيف تعالَج هذه الناحية؟ سيأتي معالجتها بالإخاء وصفاء النفس؛ وعفة المهاجرين، وبذل وإيثار الأنصار. بيَّن سبحانه في قسمة فيء بني النضير: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] أخرجوا منها وليس باختيارهم ولا استطاعوا أن يحملوا منها شيئاً. مثال ذلك صهيب لما جاء مهاجراً وأدركته قريش وقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، والآن صرت ذا مال، وتريد أن تفوتنا بنفسك وبمالك؟! قال: لو دللتكم على مالي، أترجعون إليه وتتركونني. قالوا: نعم. قال: مالي دفنته في المكان الفلاني، ولما وصل بشره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح البيع أبا يحيى)، اشترى نفسه. {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [الحشر:8] يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. يا إخوان! نحن نعاصر هذه الأحداث التي تعيشها دول الخليج العربي، ولنا إخوة من الكويت أخرجوا من ديارهم وأموالهم فعلاً، واختاروا ما شاءوا من جيرانهم سواءً من دول الخليج أو من السعودية أو غيرها، أعتقد أن كل إنسان يدرك أن لهؤلاء الناس حقاً فيما عنده بقدر استطاعته، والناس يتفاوتون في هذا المجال، لا نقول: الإيثار على النفس، ولا نقول: الشح والبخل والضن بما في اليد، بل علينا أن نساعد هؤلاء، فقد كانوا أغنياء في بلادهم، أعزةً في جماعتهم، أهل يسار في بيوتهم، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. إذاً: هذا الحدث أو هذا الموقف يذكرنا بما يجب علينا كإخوة في الله قبل كل شيء، ثم كإخوة في الوطن والعروبة والجوار، كل دواعي مكارم الأخلاق تدعونا إلى أن نقف بجانبهم وأن نساندهم. كان هذا الموقف مما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم وواجهه المهاجرون مع الأنصار، فكان مجتمع المدينة قسمين: مهاجرون يتعففون، حتى إن الأنصاري كان يقول لأخيه المهاجري: هلم أقاسمك مالي، هلم أنزل لك عن إحدى زوجتي، فـ ابن عوف قال: بارك الله لك في زوجاتك، وبارك الله لك في مالك، دلني على السوق، وذهب يعمل. علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يمر على امرأة قد جمعت الطين والتبن وعندها البئر قالوا: ما بال هذه المرأة؟ قال: ما وجدت من يحمل لها الماء حتى تعجن هذا الطين لتصلح بيتها، قال: علام تؤاجرين الرجل، قالت: الدلو بتمرة، فملأ لها عدة دلاء، وأخذ عدة من التمر ورجع بها إلى رسول الله، قال: من أين هذا يا علي؟ قال له: من كذا وكذا، فأكل معه منها يد عاملة، منتجة. إذاً: ما أشبه الليلة بالبارحة، هذه هي الناحية التي عالج بها الإسلام الموقف من الناحية الاقتصادية. أما الناحية السياسية في تلك الطوائف المتعددة فقد عالجها رسول الله بأقصى حكمة، فجمع الجميع وكتب كتاباً: (هذا ما تعاهد عليه الأوس والخزرج واليهود بالمدينة، كل قبيلة تحمل تبعتها -يتعاونون فيما بينهم- ولا تحمي قبيلة صاحبَ دخيلة ولا صاحب جناية، ومن آوى كذا فعليه كذا، والأمر في المدينة كذا، وما اختلفتم فيه فأمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما عاهد عليه اليهود: أن لا يعينوا عليه عدواً، وأن يعينوه فيما نابه)، أي: لا يتأخرون في المساعدة إذا لزم الأمر. وهكذا صارت كل الأحزاب والفرق الموجودة في المدينة ضمن معاهدة رسمية يرجع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما من الناحية الأخرى بين الأفراد فقد آخى بين المسلمين. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1