دروس الشيخ يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

المنهجية في دراسة العقيدة

المنهجية في دراسة العقيدة تقسيم الدين إلى أصول وفروع أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولكن هذا الكلام لا يعني بحال أن الشريعة فيها أصول مهمة وفروع غير مهمة، بل إن مسائل الشريعة كلها مهمة، سواء كانت مسائل علمية أو عملية، وهذه من المسائل التي يلزم كل طالب علم التنبه إليها. كما أن على طالب العلم عند دراسته للعقيدة أن يسير على منهجية صحيحة في دراسته؛ لأنه دراسة العقيدة من أعز العلوم وأشرفها، فهي تبين المنهج الوسط الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم.

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً. أما بعد: فليس المقصود من هذا البحث: وضع مشروع مقترح لطالب العلم في قراءة علم أصول الدين علم العقيدة -وإن كنا سنشير في أثنائه إلى بعض المصنفات والكتب، وبعض المصنفين والكاتبين في هذا العلم- لماذا؟ لأن الحديث في هذه المشاريع المقترحة ربما ناسب جيلاً من طلبة العلم ولم يناسب جيلاً، وربما ناسب بيئة ولم يناسب بيئةً أخرى؛ وذلك لأن الناس يختلفون في قدراتهم وأحوالهم وبيئاتهم، وفي مقاصدهم من التحصيل .. إلى غير ذلك. فهذا شأن -في الجملة- فيه تنوع واطراد واختلاف، وعلى كل حال فثمة متون وكتب قد اشتهر وشاع بين طلبة العلم أنها من الكتب التي يُقصد إلى قراءتها ودراستها في تحصيل هذه العلوم، وإنما الذي قصد في هذا البحث هو: بيان بعض المسائل المتعلقة بالمنهج الشرعي، ولا أقول: العلمي، فإن كلمة (الشرعي) أعم وأشمل، لأن الشرعي يتضمن العلمي وما زاد على ذلك. هذا البحث هو بيان لعشر مسائل في تقرير المنهج الشرعي في دراسة العقيدة، نجملها في ما يلي: أولاً: الأسماء التي يسمى بها هذا العلم. ثانياً: تقسيم الدين إلى أصول وفروع. ثالثاً: مسألة السنة والبدعة. رابعاً: تقسيم البدعة. خامساً: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعًا، على الإطلاق. سادساً: الفرق بين خطأ المتأول المجتهد وبين المعاند. سابعاً: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين. ثامناً: الوسطية. تاسعاً: الامتياز والشمول. عاشراً: ما يضاف إلى مذهب السلف. نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق ..

المسألة الأولى: الأسماء التي يسمى بها هذا العلم

المسألة الأولى: الأسماء التي يسمَّى بها هذا العلم إذا نظرنا إلى المصنفين من أئمة السنة رحمهم الله، ومن درج على طريقتهم من أهل العلم: من الفقهاء، وأصحاب الحديث ونحوهم؛ نجد أنهم سمَّوا ما كتبوه في مسائل الاعتقاد ومسائل أصول الدين بعدة أسماء؛ فسمي هذا العلم: بعلم أصول الدين، وسمِّي: بعلم العقيدة أو بالاعتقاد، وسمِّي: بالإيمان، وسمِّي: بالتوحيد، وسمِّي: بالسنة، وسمِّي: بالفقه الأكبر، ونجد أن كل هذه الأسماء متداولة في كلام أهل العلم، وفيما كتبوه وصنّفوه من الرسائل والكتب، وأن بعض هذه الأسماء قد يكون نوعاً من الاصطلاح، كما نجد بعضها منقولاً من جهة الأسماء الشرعية الأولى.

التسمية الأولى: العقيدة

التسمية الأولى: العقيدة فأما تسمية هذا العلم بالعقيدة، فليس مقصود المسمِّين به من علماء السنة والجماعة: أن هذا العلم هو عبارة عن المسائل التي محلها القلب ولا صلة لها بالعمل، وهي ما قد يسمَّى في اصطلاح بعض المصطلحين بالمسائل العلمية، التي يقابلها المسائل العملية. فلا يُعلم أن أحداً من علماء السنة المعروفين سمَّى هذا العلم بالاعتقاد على هذا المراد، ومن هنا نجد أن الذين يشرئبون أحياناً على بعض كلام أهل العلم رحمهم الله، يقولون: إن تسمية العلماء لهذا الباب بعلم العقيدة، أو بالاعتقاد، لا أصل لها في الكتاب والسنة. ولا شك أن هذا الاعتراض اعتراض ساقط؛ لأن هذه التسمية هي من باب الترتيب العلمي، الذي بُني على مقصود صحيح. فإن من نطق بكلمة الاعتقاد، إما أن يريد: أن هذا العلم -علم الاعتقاد- هو علم المسائل العلمية، ويخرج بذلك المسائل العملية، فعلى هذا المراد -إذا أخرج المسائل العملية من جملة هذا الأصل- لا تكون التسمية مناسبة؛ لأن ثمة مسائل علمية محلها القلب، وهي ليست من مسائل أصول الديانة الكبرى؛ كاختلاف أهل السنة: هل المنافقون والكفار يرون ربهم يوم القيامة، أم لا يرونه؟ فهذه المسألة مسألة علمية محلها القلب، ومع ذلك فليست من مسائل الأصول. وكذلك ثمة مسائل عملية وهي مع ذلك تعد من مسائل أصول الدين؛ كالصلوات الخمس، فإنها مسألة عملية. إذاً: من نطق بهذه التسمية من أهل السنة والجماعة، ليس مقصودهم: أنه علم بالعلميات المجردة عن العمل، بل إن التحقيق: أن مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة: أنه تلازم بين العلم والعمل، ولذلك يقولون: الإيمان قول وعمل. فما مقصود من تكلم بهذه التسمية من أهل العلم إذاً؟ مقصودهم: أن ما سموه اعتقاداً، أو ما جعلوه من المسائل من باب العقائد، هو من باب أنها أمور لازمة في القلب، أي: أن القلب عقد عليها وجزم بها، كما في قول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [البقرة:225] فما كان من اليمين عقده القلب وجزم به، فإنه يكون لازماً. إذاً: تسمية هذا العلم بهذا الاسم من باب أنه أمور عقدها القلب، وجزم بها، وعزم عليها؛ لبيانها وظهورها في الكتاب والسنة، وعليه؛ تكون هذه التسمية تسمية سائغة.

التسمية الثانية: أصول الدين

التسمية الثانية: أصول الدين وهذه التسمية بينة أيضاً، بمعنى: أن هذه المسائل هي الأصول في دين الإسلام، أي: أنها الكليات الأوائل التي انضبط دليلها ونصها من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها الأئمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فسميت أصول الدين بمعنى: أنها هي أوائله، وهي كلياته، وهي ضرورياته، وما إلى ذلك من المعاني، فهذا وجه تسميتها: أصول الدين. وتسمية هذا العلم بأصول الدين فيه نوع من الإضافة، بمعنى: أنه إشارة إلى أن ثمة مسائل لا تعد من مسائل أصول الدين، وهذا ينبني على مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وسيأتي الحديث عنه في المسألة الثانية من مسائل هذا البحث. وتسمية هذه الكليات من المسائل: في الصفات، والإيمان، والشفاعة، والقدر، وفي التوحيد العبادي، وتوحيد العلم، ونحوها - تسميتها بأصول الدين، قد درج عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، بل وغيرهم من الطوائف، فإن سائر المسلمين متفقون على أن هذه المسائل تسمى: مسائل أصول الديانة.

التسمية الثالثة: التوحيد

التسمية الثالثة: التوحيد لقد صنف الإمام ابن خزيمة رحمه الله كتاباً في العقيدة وأصول الديانة، وسماه: كتاب التوحيد، ومثل هذا نجده في كتب المحدثين أحياناً، كما في صحيح البخاري، فإنه وضع كتاباً في صحيحه سماه: كتاب التوحيد وهلم جرا. فتسمية هذا العلم بالتوحيد، هي تسمية له بأشرف مسائله ومقاصده، فإن ما يسمَّى بمسائل العقائد، والكليات والضروريات من الديانة، المراد منها: تحقيق توحيد الله سبحانه وتعالى، فإنه يصح لك أن تقول: إن حقيقة الإسلام كله من أوله إلى آخره هي: تحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يقول: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19] ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ويقول في سياق آخر: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] فالمسائل الواجبة؛ بل حتى المسائل المستحبة هي من تحقيق التوحيد؛ لأن التوحيد معناه: عبادة الله سبحانه وتعالى، والإقبال على طاعته، والإخلاص له، واتباع ما أنزله. ومعلوم أن كل فعل أو قول يقوم به العبد على جهة التدين لله، فهو تحقيق لهذه العبودية، فإن التوحيد: هو العبودية لله، فإذا فعل العبد مستحباً، فضلاً عن الواجب، أو ما إلى ذلك من سبل الخير؛ فهو من توحيد الباري سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، زاد الإمام مسلم: (فأعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فكل هذه المسائل تدخل في تحقيق التوحيد ومعناه. إذاً: سُمِّي هذا العلم بهذا الاسم من باب التسمية له بأشرف مقاصده، وأوائل مسائله، فإن هذا العلم إذا ذُكر فأول ما يقرر فيه: التقرير لربوبية الله وكماله في أفعاله وصفاته، والتقرير لفردانيته ووحدانيته في العبودية، وأنه المعبود وحده بالحق، وأنه لا يُصرف شيء من العبادة لغيره. وهذا هو معنى كلمة التوحيد التي هي فاتحة دين المسلمين، بل فاتحة دين المرسلين، فإن الله قد بعث جميع المرسلين بالدعوة إلى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة متضمنة للإقرار لله سبحانه وتعالى بالربوبية، وهي أيضاً تحقيق وتقرير بأنه سبحانه وتعالى هو المعبود وحده بحق، فلا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذه التسمية تسمية مناسبة.

التسمية الرابعة: الإيمان

التسمية الرابعة: الإيمان إن الإيمان كلمة شرعية، أي: جاء ذكرها في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما دام أنها كلمة شرعية، فإن مجرد ذكرها في القرآن على مثل هذا المقام، يكون كافياً في بيان أنها تسمية مناسبة صحيحة؛ بل شرعية. ولكن المصنفين في هذه المسائل، يسمون ما يكتبونه في مسائل أصول الدين: الإيمان، ويقصدون به: الاسم الشرعي العام، الذي ذكره الله في مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وفي مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله} [الأنفال:2] والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: (الإيمان أن تؤمن بالله، ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ...) الحديث، فيقصدون الإيمان، وتحت هذه التسمية تُذكر سائر مسائل الأصول العقدية. ومن هذا تسمية الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه لكتاب الإيمان، فقد وضع كتابه: الصحيح في كتباً، ومن أوائل هذه الكتب: كتاب الإيمان. ومقصود الإمام مسلم: أن يذكر تحت هذا الكتاب الأحاديث التي فيها تقرير مسائل أصول الديانة، سواء تعلقت هذه الأحاديث بمسألة العبودية والألوهية لله، أو تعلقت بصفات الله ورؤيته وعلوه ونحو ذلك، أو تعلقت بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكم أهل الكبائر من المسلمين، أو تعلقت هذه الأحاديث بما يتعلق بمسائل القدر .. أو ما إلى ذلك، فكتاب الإيمان عند الإمام مسلم، لم يقصد به الرد على المرجئة، وأن يبين أن الإيمان قول وعمل فحسب، بل هو كتاب جامع. وربما صنف بعض أهل العلم في هذه المسائل، وسمَّى ما صنفه بالإيمان، ويكون مقصوده: دراسة مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، وهي مسألة: مسمَّى الإيمان. وهذه المسألة هي أول مسألة حصل فيها نزاع بين أهل القبلة من المسلمين، فلما كان الصحابة ومن بعدهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وظهرت المرجئة الذين يخرجون العمل عن مسمَّى الإيمان، وظهرت الخوارج الذين يبالغون ويُغلون في مسألة الإيمان، لما حدث ذلك صنف بعض الأئمة ما سمَّاه: كتاب الإيمان، ولم يكن مقصوده الكلام عن سائر مسائل أصول الديانة، وإنما الكلام عن مسألة واحدة وهي: مسمَّى الإيمان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، وكيف يرد على المرجئة الذين أخرجوا العمل عن الإيمان .. ونحو ذلك، ومن هنا سمَّى البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان. ومن هنا يتبين الفرق بين تسمية الإمام البخاري، وبين تسمية الإمام مسلم، فمقصود الإمام البخاري بكتاب الإيمان: ذكر مسألة من مسائل الإيمان، وهي مسألة: أن الإيمان قول وعمل، والرد على المرجئة في ذلك، ومن يُلحق بهم ممن قابلهم من الوعيدية، أي: يلحق بهم إلحاق مخالفة، وأما الإمام مسلم فإنه قصد الشمول كما تقدم. ومثل ذلك أيضاً: كتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الإيمان لـ ابن أبي شيبة، إلى غير ذلك من المصنفات الأخرى.

التسمية الخامسة: الفقه الأكبر

التسمية الخامسة: الفقه الأكبر وهذه تسمية أضافية، أي: أن ثمة فقهاً دون ذلك، فإن الشريعة فقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فهذا الفقه في الدين يتضمن الفقه في مسائل أصول الديانة، والفقه في مسائل التشريع، وقد درج أهل العلم من الفقهاء على تسمية مسائل الشريعة فقهاً، فتجدهم يقولون مثلاً: كتب الفقهاء من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية، وما إلى ذلك. وما يتعلق بأصول الدين، سمَّاه بعض العلماء -كما نقل عن أبي حنيفة وغيره-:الفقه الأكبر، أي: أنه إذا كان القول في تفصيل مسائل الشريعة فقهاً، فإن القول في مسائل أصول الديانة يُعدُّ الفقه الأكبر، وهذه تسمية سائغة مناسبة، وإن كان كتاب: الفقه الأكبر، المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة، ليس كتاباً له، وإنما كتبه بعض الحنفية من بعده، ثم شرحه بعض الأحناف على غير طريقة الإمام أبي حنيفة.

التسمية السادسة: السنة

التسمية السادسة: السنة إن كلمة السنة كلمة شرعية، فإنه يقصد بها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كانت هذه الكلمة كلمة مشتركة، بمعنى: أنها قد تطلق على أكثر من مراد، فربما ذكرت السنة وقصد بها المستحب، أو المندوب، كما يقال: إن السواك سنة، فالمقصود هنا: أن السواك مستحب، وربما ذُكرت السنة على معنى: ما قابل البدعة، فيُقال: هذا سنة، وهذا بدعة، وقد تذكر السنة على معنى مقارب لذلك، وربما كان أخص منه من بعض الوجوه، وهو: المسائل اللازمة من الديانة، بمعنى: أن من تمسك بها صار سنياً، ومن تركها فإنه يخرج عن هذه التسمية والإضافة. ونجد أن المتقدمين من أوائل الفقهاء والمحدثين؛ كالإمام: مالك، والشافعي، وأحمد، وابن مهدي، والبخاري، وأمثال هؤلاء، كثيراً ما يسمون ما يقررونه في هذا الباب من المسائل: السنة اللازمة، فيقول الإمام أحمد مثلاً: السنة اللازمة عندنا هي: أن الإيمان قول وعمل، وأن أفعال العباد مخلوقة .. إلى غير ذلك، فيسمون ذلك: السنة اللازمة، أي: أنها أصول الديانة العامة.

المسألة الثانية: تقسيم الدين إلى أصول وفروع

المسألة الثانية: تقسيم الدين إلى أصول وفروع لقد ذكر سابقا أن هذا العلم يسمى: أصول الدين. وتقسيم الدين إلى أصول وفروع، أمر مشهور وشائع في كلام أهل العلم، ولاسيما المتأخرين، وقد أشكل على كثير من طلاب العلم -ولاسيما المعتنين بكلام الأئمة المقتدين بكلام السلف- أنه ورد في كلام بعض المحققين -وأخص منهم الإمام ابن تيمية رحمه الله - اعتراض على هذا التقسيم، فقد تكلم ابن تيمية رحمه الله في المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى وفي غيره، تكلم بنوع من النقد والاعتراض على هذا التقسيم، وأنه تقسيم أحدثه بعض النظَّار والمتكلمين، مع أنك إذا قرأت في كتب شيخ الإسلام، بل ومن قبله من الأئمة؛ وجدت أنهم يسمون المسائل التي نسميها نحن: العقائد الأولى، يسمون هذا النوع من المسائل من الدين: مسائل أصول الدين، وهذا شائع كثير متواتر في كلام الإمام ابن تيمية. إننا نجد في كلام الإمام ابن تيمية التصريح بأن هذا من مسائل أصول الدين وهذا من مسائل الفروع، وقد نص الإمام ابن تيمية في غير موضع من كتبه أن هذه من مسائل الفروع وأن هذه مسائل الأصول، أما تسميته لباب الصفات والقدر وما إلى ذلك بأصول الديانة، فهذا شائع لا حصر له في كلامه. إذاً: ما معنى الاعتراض الذي ذكره رحمه الله؟ معناه: أنه لا يعترض على الاصطلاح كاصطلاح عام، فإنه يُعلم بالبديهة الشرعية والعقلية الشائعة عند أهل العلم، المحصَّلة من دلائل الكتاب والسنة: أن مسائل الديانة ليست بدرجة واحدة، فإن منها ما لها قوة وظهور، ولها تواتر في الكتاب والسنة، ومنها ما تحصَّل بالاجتهاد، أو القياس، أو الأدلة التي قد تسمى بالأدلة المختلف فيها. فأما تسمية مسألة إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومسألة الصفات، ومسألة القدر، والمسائل التي من هذا النوع، بأصول الدين، فهذه لا يعترض عليها أحد من أهل العلم، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه حتى من خالف أهل السنة والجماعة من الطوائف، فإنهم لا يعترضون على تسمية هذه المسائل بمسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون الأئمة من أهل السنة في طريقة تقرريها، لكنهم يتفقون على أن باب الصفات -مثلاً- يعد من مسائل أصول الدين، وإن كانوا يخالفون في تقريره وترتيبه. إنما المأخذ الذي أخذه الإمام ابن تيمية، هو أن كثيراً من النظَّار والمتكلمين، أصحاب علم الكلام ومن شاركهم من الأصوليين، وأقول: من شاركهم من الأصوليين؛ لأن كثيراً ممن كتب وصنف في أصول الفقه هم من أعيان علماء الكلام، فإن من كتب أصول الفقه: المعتمد لـ أبي الحسين البصري، وهو متكلم معتزلي حنفي، وكتاب المستصفى لـ أبي حامد الغزالي، وهو رجل متكلم على طريقة أبي الحسن الأشعري، وكتاب البرهان للجويني، وهو أيضاً متكلم إلخ، ولا يعني هذا أن كل من صنف في أصول الفقه كذلك. المقصود: أن مأخذ ابن تيمية هو: أنهم قالوا: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع، وهذا قدر عام لا إشكال فيه من حيث هو، لكنهم أخطئوا من جهة الحد، أي: التعريف، فما هي المسائل التي تسمى بالأصول، وما هي المسائل التي تسمى بالفروع؟ لقد شاع في كلام هؤلاء النظَّار ومن شاركهم من الأصوليين والفقهاء المتأخرين: أن مسائل أصول الدين هي المسائل العلمية، ومسائل فروع الدين هي المسائل العملية، ومنهم من يقول: إن مسائل أصول الدين هي ما علم بالعقل والسمع -والسمع هو دليل الشرع الكتاب والسنة- ومسائل فروع الدين هي ما علم بالسمع وحده دون العقل. فلمثل هذه الحدود والتعريفات للأصول والفروع، اعترض الإمام ابن تيمية؛ لأنه يقول في قولهم: إن مسائل الدين هي العلميات دون العمليات، يقول: هذا غلط في المقامين. ما معنى أنه غلط في المقامين؟ يقول: إن هناك مسائل علمية ولا تعتبر من مسائل أصول الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى مسألة رؤية الكفار لربهم، ومثلها مسألة: سماع الميت صوت الحي، وهل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ فإن هذه مسائل علمية تصورية، فإذا قلنا: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أو قلنا: لا يعذب، هل لهذا تطبيق فعلي في أفعال المكلفين؟ الجواب: لا، ومع ذلك فقد اختلف الصحابة: هل يعذب الميت ببكاء أهله عليه، أو لا يعذب؟ على أقوال معروفة: لـ عائشة، وابن عباس، وغيرهم، واختلف الأئمة من بعد في مسألة: رؤية الكفار، واختلفوا في سماع الميت صوت الحي، فيقول ابن تيمية: إن ثمة مسائل علمية لا تعد من مسائل أصول الدين. وبالمقابل: لما قال هؤلاء: إن المسائل العملية هي مسائل فروع الدين، قال: هذا غلط شرعي، ووجه كونه غلطاً شرعياً: أن الزكاة، والصلاة، والحج، والصوم، هي أفعال عملية، وإن كانت مرتبطة بالمقاصد القلبية، لكنها أفعال وحركات، فالحج حركة: وقوف بعرفة، وطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وكذلك الصلاة، مع أن الحج والصلاة وأمثالها من العبادات الكبرى أو الأولى التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم مباني للإسلام، ولا شك أنها تعد من مسائل أصول الدين. إذاً: هذا هو مقصود ابن تيمية من الاعتراض. كذلك لما عرَّفها قوم منهم فقالوا: الأصول: هي ما دل عليه السمع والعقل، قال ابن تيمية: إن ثمة فروعًا دل عليها السمع والعقل، أي: أن العقل يدرك كونها مناسبة؛ كالأمر بالصدقة مثلاً، أو بذل المعروف، مثل: طلاقة الوجه، وإماطة الأذى عن الطريق، ألا نقول: إن هذا الحكم مدرك بالشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى إماطة الأذى عن الطريق؟ الجواب: بلى .. ثم أليس إماطة الأذى عن الطريق مدرك بالعقل أنه حسن وأنه خير وبر .. إلى آخره؟ الجواب: بلى، فهل معنى هذا: أنه من أصول الدين؟ الجواب: لا. وفي المقابل: هناك مسائل لم يدل عليها العقل، وإنما قضى بها الشرع وأخبر بها، وهي تعد من مسائل أصول الدين، كنزول الرب سبحانه وتعالى، فلو لم يحدث النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث، لما كان لأحدٍ من بني آدم أن يقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا .. إلخ. فهناك مسائل خبرية مبنية على خبر الله أو خبر رسوله. إذاً: فمحصَّل هذا التقسيم: أنه إذا استعمل كمصطلح على معنىً مناسب، فهو تقسيم سائغ، وأما إذا استعمل على معنى: أن في الدين أصولاً وفروعاً على هذا الحد الكلامي، الذي يخالف مقاصد الشريعة وأحكامها، فهذا مرفوض، وكذلك إذا استعمل هذا التقسيم على أن معنى الفروع: أنها مسائل ليس لها أهمية في الإسلام، أو كما قد يسميها بعض المتأخرين المعاصرين لما يسمى بعصر النهضة: أن هناك مسائل اللب، ومسائل القشور، وأمثال هذه التعبيرات السطحية التي استعملها بعض الكتاب، فلا شك أن هذه تسميات ليست صحيحة، بل إنها مخالفة لشرع الله، فإن الدين كله له جلاله وله قدره، مهما كان قدر مسألته.

المسألة الثالثة: السنة والبدعة

المسألة الثالثة: السنة والبدعة إذا كانت المسألة من مسائل أصول الدين فإن ما يقابلها يسمى: بدعة، والابتداع لا شك أنه مذموم، وذمه ثابت بالنص والإجماع، فإن الله سبحانه وتعالى قد عاب على من شرَّع فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ومثله قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]. وقد كذلك ثبت ذم النبي صلى الله عليه وسلم للبدع كما تواتر عنه، فقد جاء في حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر قال في خطبه: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فذمُّه عليه الصلاة والسلام للبدع: قوليها، وفعليها، فضلاً عن عقديها أمر متفق عليه. وقد تقدم: أن كلمة السنة كلمة فيها اشتراك، فربما ذكرت السنة بمعنى: الذي أذنت به الشريعة، فيقال: إن هذا سنة، أي: مأذون فيه شرعاً، وربما ذكرت السنة بمعنى: ما ندب إليه الشارع، فيقال: إن عيادة المريض سنة، بمعنى: أنه مندوب إليها، وربما قُصد بالسنة -كما هو الحال هنا- الأصل من الديانة. وهنا يأتي سؤال: هل كل ما ليس سنة يكون بدعة، أم أن التعبير الصحيح: أن ما خالف السنة يكون بدعة؟ لك أن تقول: إن التعبير الأول صحيح، بشرط أن يُفسَّر تفسيراً صحيحاً، فمثلاً: إذا قُصد بالسنة ما أذنت به الشريعة، فضلاً عما ندبت إليه، فلك هنا أن تقول: إن ما ليس سنة يكون بدعة، وأما إذا قُصد بالسنة ما أمر الله به، أو أمر به الرسول، على جهة التخصيص له، والندب إليه، فهل يلزم أن يكون ما خالف هذا الأمر الخاص بدعة؟ ربما كان وسطاً وهو ما يسمى: ما أذنت به الشريعة. ونضرب لذلك مثلاً في باب العمل: تقول عائشة: (ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)، والحديث في الصحيحين، فمن صلَّى كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة من الليل، فنقول: إنه أصاب السنة، بمعنى: أنه فعل ما ندب إليه؛ لأنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن من صلَّى من الليل ثلاثين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل، أي: أنه صلَّى عدداً لم يرد دليل بخصوصه، فهل أصاب سنة خاصة بهذا العدد، كما أصابها من قصد أن يصلِّي إحدى عشرة ركعة، أم أنه فعل بدعة؟ إن من يضيِّق الفهم في هذه المسائل، ربما قال: ما دام أنه لم يفعل سنة معينة، فيلزم أنه فعل بدعة؛ لأنه ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ونقول: نعم، ليس من بابٍ إلا السنة أو البدعة، ولكن بشرط أن تُفسَّر السنة تفسيراً عاماً، فإذا فسرت السنة بأنها: ما أذنت به الشريعة، فلا شك أن الأمر كذلك. ولقائل أن يقول: إذاً ماذا نسمي عبادة من صلَّى ثلاثين ركعة؟ هل نقول: إنه فعل سنة؟ فإن قلنا: إنه فعل سنة، لزمنا الدليل على هذه السنة. فنقول: إنه فعل أمراً جائزاً شرعاً، وربما يشكل هذا عند البعض فيقول: كيف نسمي العبادة أمراً جائزاً، والجائز هو المباح، كالأكل والشرب؟ نقول: ليس معنى ذلك أنها بحكم الأكل والشرب، وإنما المعنى: أن هذه الصورة من العبادة قد أذن بها الشارع، ووجه إذن الشارع بها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجل عن صلاة الليل -كما في الصحيحين- قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر)، فجعل الضابط وقتاً وليس عدداً، ومعلوم أنه لما أطلق وقال: (مثنى مثنى) فإنه لا يستطيع أحد أن يفرض رقماً في ذلك. إذاً: هناك مسائل -وإن كانت عبادات- من إذن ومباح الشريعة، وليست من السنن التي يقصد إليها، ولكنها مع ذلك ليست من البدع؛ وقد رخص بعض أهل العلم في مسائل قد يحتاج فيها إلى تأمل أكثر، فمثلاً: عندما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن التسبيح بالسبحة -ومن المعلوم أنه لم يُنقل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء- إلا أن ابن تيمية قال: (إن التسبيح بها حسن -أي: جائز- بشرط: ألا يكون ذلك من باب المباهاة والرياء، وبشرط: ألا تتخذ اتخاذاً عاماً، ويهجر التسبيح بالأصابع). فهذا النوع من المسائل لا بد له من فقه، فإنه قد يشكل على المسلم: أهي من باب السنة المأذون بها، أم من باب البدعة؟ فمثلاً: لو صلى أحد قبل الجمعة ست ركعات، فهل هناك دليل على هذا العدد؟ وأيضاً صيام العشر من ذي الحجة لمن أراد أن يتعبد لله تعبداً عاماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام. يعني أيام العشر)، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، ومسند الإمام أحمد، فمن قصد الصيام فيها على أنه نوع من العبادة تناسبه فلا ينكر عليه. لكن من ظن أن الصيام عبادة مختصة مشروعة في هذه العشر من بين سائر العبادات، كما ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام العاشر من المحرم، فيقال له: هذا غير صحيح؛ لأن العاشر من المحرم مسنون من جهة الندب إليه، أما صيام العشر من ذي الحجة فهو مما سوغته الشريعة بالأدلة الإجمالية. وقد يقول البعض: ربما اعتقد بعض العوام أنها سنة خاصة مندوب إليها، فنقول: هذا الاعتقاد يُعدَّل، لكن لا يلزم من ذلك أن يحرَّم على الناس الصيام، أو أن يقال: إن الصيام في عشر ذي الحجة من البدع، فهو ليس من البدع، وأما القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فهذه مسألة أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى العمل في هذه الأيام، ومعلوم أن سنته العامة تثبت بقوله، وتثبت بفعله، وتثبت بإقراره. إذاً: هذا التقسيم لا بد أن يكون على جهة من المراعاة.

المسألة الرابعة: تقسيم البدعة

المسألة الرابعة: تقسيم البدعة هناك تقسيمان للبدعة كثر ورودهما في كلام أهل العلم، ولا سيما المتأخرين.

التقسيم الأول

التقسيم الأول تنقسم البدعة إلى: بدعة حسنة، وبدعة سيئة، وقد ذكر هذا التقسيم كثير من الفقهاء كما هو معلوم، وربما تسلسل بعضهم فقال: إن البدعة الحسنة قد تكون مباحة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة، ويضربون لذلك بعض الأمثلة. وهذا التقسيم فيما يظهر -والله تعالى أعلم- تقسيم خاطئ؛ لأن من قسم البدعة إلى: بدعة الحسنة وبدعة السيئة، يفسر البدعة الحسنة بأنها أمر سائغ، أو ما يُندب إليه بجملة عموم قواعد الشريعة ومصالحها، وهذا لا ينبغي أن يسمَّى بدعة؛ لأن كلمة (بدعة)، قضى الشارع عليه الصلاة والسلام أنها كلمة مذمومة في رسالته، فإنه كان يكرر على منبره: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة)، فلما قال الشارع عليه الصلاة والسلام: إن البدعة مذمومة، وقال: (كل بدعة ضلالة) وهذا لفظ عام، لم يسغ لأحدٍ من أمته من بعده أن يأتي ويقول: إن من البدع ما هو حسن. وقد يتمسك بعضهم بكلمة لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة التراويح، حين قال لما اجتمع الناس عليها: (نعمة البدعة هذه)، مع أن عمر رضي الله عنه إنما سمى هذا العمل بدعة تسمية عارضة من باب اللغة، وفرق بين التسمية العارضة على معنى لغوي، وبين أن يلتزم هذا كتقسيم مطرد لتضاف هذه التسمية إلى البدعة الحسنة، وكأنها بمعنى البدعة المشروعة؛ لأنه إذا قيل: بدعة حسنة، فهل هي حسنة بالعقل، أم حسنة بالشرع؟ إن من يلتزم بهذا التقسيم لا بد أن يقول: إنها حسنة شرعاً، إذاً كأنه قيل: البدعة المشروعة، وهذا لا شك أن المسلمين ليسوا بحاجة إليه؛ لأنه يُشكل من وجهين: الوجه الأول: أنه مخالف لعموم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبل ذلك هو مخالف للقرآن أيضاً، فإن الله تعالى قد ذكر البدعة على معنى الذم، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] إذاً: فلا يرد في مسائل التعبد بدعة وتكون محمودة، لأن الله تعالى قد ذكرها ذمَّاً وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ذكراً عاماً فقال: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). الوجه الثاني: أن هذا التقسيم أشكل على عوام الناس؛ لأن العاصي إذا قيل له: هناك بدع حسنة وبدع سيئة، ثم قيل له: هذه حسنة وهذه سيئة، أصبحت الأمور عنده غير دقيقة، وربما قال: إنكم تتحكمون فتجعلون هذه من الحسن وهذه من السيئ، ولماذا كانت هذه حسنة وهذه سيئة؟ بخلاف ما إذا قيل للعامة من المسلمين: إن الواجب هو الأخذ بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الابتداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وكل بدعة ضلالة). إذاً: هذا التقسيم وإن استعمله بعض أهل العلم، فليس من باب التراتيب العلمية السائغة؛ لأنه يعارض لفظاً نبوياً وسياقاً قرآنياً، فضلاً عما يتضمنه من الإشكال على العامة من المسلمين، وقد درج بعض المسلمين على بعض البدع المذمومة شرعاً لما سمَّاها بعض المترخصين بالبدعة الحسنة.

التقسيم الثاني

التقسيم الثاني وهو تقسيم شائع في كلام كثير من أهل العلم المحققين، يقولون: تنقسم البدع إلى: بدع الأحوال، وبدع العقائد، وبدع الأفعال، والأصل أنهم يقرنون بين البدع القولية والعملية دون البدع العقدية، فيقولون: بدع الأقوال والأفعال، فيجعلون لها نوعاً من الميزان، ويقولون: بدع العقائد، فنجد أن ابن تيمية مثلاً لما تكلم عن رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله - وأبو حنيفة إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، وإن كان قد أخطأ في مسألة مسمَّى الإيمان خطأً نقله عن حماد بن أبي سليمان وطائفة من فقهاء الكوفة، هذا هو الخطأ المضبوط في شأن الإمام أبي حنيفة، أما ما نُسب إليه في تاريخ بغداد، أو في السنة لـ عبد الله بن أحمد، من كلمات، بل بعضهم أضافوه إلى نوع من الزندقة، أو أنه كان قدرياً، أو يقول بخلق القرآن؛ فهذه كلها لا يصح منها شيء عن هذا الإمام، بل هو إمام من أئمة الفقهاء، وأئمة أهل السنة والجماعة، وإن كان أخطأ في هذه المسألة. المقصود: أن الإمام ابن تيمية قال عن كلمة أبي حنيفة أو حماد بن أبي سليمان، لما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمَّى الإيمان، مع أنهم يوافقون جمهور الأئمة في بقية المسائل أو في أكثر المسائل، قال ابن تيمية: (وبدعة حماد هي بدعة عن السلف والأئمة، لكنها من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد التي يُضلَّلُ فيها المخالف). فكأنه أشار إلى أن البدع القولية والبدع الفعلية، شأنها دون البدع العقدية، وكأن هذا يتضمن: أن البدعة القولية والفعلية لا تؤدي في الغالب إلى خروج صاحبها عن السنة والجماعة خروجاً مطلقاً كلياً، بحيث لا يسمَّى سنياً، فضلاً عن أن يحكم عليه بما هو أشد من البدعة؛ كالكفر ونحوه. إذاً: هذا التقسيم تقسيم صحيح، وصحته مأخوذة من جهة أنه اصطلاح على معنىً مناسب. وقد يقول قائل: إنه يشكل على هذا التقسيم ما إذا أشير إلى أن البدع القولية والعملية أو الفعلية شأنها دون البدع العقدية، فإننا نرى مثلاً بعض الناس، يعملون أعمالاً عند القبور، وهذه الأعمال من البدع، ولا يمكن أن يقال: إنها من المسائل التي لا يُضلَّلُ فيها المخالف، مما يدل على أن مسألة البدعة الفعلية ليست فقط من هذا الوجه؟ والجواب: أن هذا السياق حينما نقول: بدع الأقوال والأفعال أو البدعة الفعلية، ليست العبرة بكون هذه البدعة في الجانب الفعلي أو الحركي الآدمي فتكون عكس المسألة الصورية النظرية، وقد سبق معنا: أن مسائل أصول الدين منها مسائل علمية ومنها مسائل عملية، وكذلك الفروع: منها مسائل علمية، ومسائل عملية، فمقصود ابن تيمية في بدع الأقوال والأفعال التي يقول: إنه لا يضلل مخالفها: هو ما لم يتضمن خروجاً عن أصل من الأصول، سواء كان هذا الأصل أصلاً عبادياً فعلياً أو أصلاً علمياً. فعليه: من فعل بدعة عند القبور من البدع الفعلية المنكرة الكبرى، فإنه يقال: إنه أتى بدعة من البدع، حقيقتها أنها بدعة من بدع العقائد؛ لأن الاعتبار فيها بالمقصود القلبي الذي حرَّكه لهذا الفعل، وهو مقصود بدعي خارج عن أصول السنة. إذاً: هذا التقسيم إذا فُقه على هذا الفقه فإنه يكون تقسيماً مناسباً، أو لك أن تقول: إنه تقسيم سهل.

المسألة الخامسة: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعا على الإطلاق

المسألة الخامسة: عدم التلازم بين كون المقالة بدعة وبين تسمية القائل مبتدعاً على الإطلاق وتبع لهذا التقرير أيضاً: عدم التلازم بين كون المقالة من مقالة المخالفين من أهل القبلة كفراً، وبين كون القائل بها كافراً. لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستختلف وستفترق، وبيِّن صلى الله عليه وآله وسلم فيما تواتر عنه: أنه (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ...)، وهذا حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، أما حديث: (افترقت اليهود) إلى قوله: (وستفترق هذه الأمة ...)، فهو حديث تكلَّم فيه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، وسواء صح أو لم يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الطائفة المنصورة في حديث صحيح متفق عليه متواتر عند الأئمة. والمخالفون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل القبلة -أي: من المسلمين- عندهم مخالفات سمَّاها أئمة أهل السنة والجماعة من الفقهاء والمحدثين: بدعة، وعندهم بدع ربما سمَّاها بعض الأئمة كفراً، فهل كل قول قال السلف أو الأئمة: إنه بدعة، يلزم منه أن من قال به يكون مبتدعاً، أو يسمى مبتدعاً تسمية مطلقة، ولا ينسب إلى السنة والجماعة؟ الجواب: ليس هناك تلازم، بمعنى: أن الإنسان قد يقول بدعة فيسمَّى مبتدعاً، كمن قال بنفي صفات الله، أو من قال: إن القرآن مخلوق، فهذا قال بدعة، ويسمَّى مبتدعاً؛ وذلك لأن هذه البدعة التي خالف فيها تُعدُّ من البدع المغلظة، التي فيها مفارقة بينة لمذهب أهل السنة والجماعة. ومن ناحية أخرى: قد يقول بعض الناس -ولو من أهل العلم- بدعةً أو يفعل ما هو بدعة، من باب الاجتهاد، وهو لا يعلم أن هذا القول أو الفعل بدعة، فيمكن أن يصحح فعله، ويمكن أن يقال: إن فعله أو قوله بدعة، فلا جدل أن يسمَّى ما فعله بدعة بالدليل الشرعي الصحيح، لكن لا يجوز أن يسمى هذا القائل مبتدعاً، وذلك كقول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله، فلا يلزم من ذلك أن نسميهم من أئمة أهل البدع، لكون ما قالوه بدعة، مع أنه قد اتفق الأئمة أن كلمتهم بدعة، لكن لم يقل أحد من الأئمة: إنهم من المبتدعين الخارجين عن السنة والجماعة، إلا أئمة بلغتهم عن أبي حنيفة بلاغات لا تصح، فحكموا عليه بمجموع هذه البلاغات، التي ظنوا أنها بلاغات صحيحة. إذاً لا تلازم بين هذا وهذا. ومن ذلك أيضاً: أن الإمام أحمد قال -كما في رواية أبي طالب -: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع). وصح عن البخاري أنه جعل اللفظ بالقرآن مخلوقاً، ومقصود البخاري: أن فعل العبد مخلوق، وهذا مقصود صحيح، لكن كلمته وحرفه ليس مناسباً، فهل نقول: إن البخاري جهمي، أو يسمى جهمياً؛ لأن الإمام أحمد يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؟ الجواب: لا، بل لا يجوز أن نقول: إن البخاري مبتدع، أو ما إلى ذلك. فهذه مسائل لا بد فيها من الفقه، ولا سيما في النقل عن الأئمة رحمهم الله. ومثل ذلك مسألة الكفر: فقد قال الأئمة عن كثير من المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين: إن القول بخلافها كفر، كقولهم مثلاً: إن إنكار العلو كفر، والقول بخلق القرآن كفر، وتعطيل الصفات كفر فهل معنى هذا القول الذي تواتر عن الأئمة، ونجده في كلام الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم- هل معناه أن القائلين بذلك يسمون عند هؤلاء كفاراً، ويحكم عليهم بالكفر بأعيانهم، كما يحكم على عبدة الأصنام والأوثان والمشركين وغيرهم؟ الجواب: لا. ولذلك نجد أن كتب السنة مليئة بالنقل عن الأئمة المتقدمين: أن القول بخلق القرآن كفر، ولكن لا نجد في كتبهم التصريح بأن فلاناً وفلاناً -مع كثرة من قال بخلق القرآن من الطوائف- كفار بأعيانهم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (والإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، وإن تواتر عنهم تكفير الجهمية، إلا أنهم لم يكونوا مشتغلين بتكفير أعيانهم؛ لأن كون المقالة من مقالات الغالطين من أهل القبلة كفراً، لا يلزم أن كل من قال بها أن يكون كافراً، وفرق بين المقالة التي يكون موجبها الرد والإنكار، وبين المقالة التي تقع عن تأويل). وهل يعني هذا أن من طريق الأئمة أنهم لا يكفرون المعين؟ الجواب: لا، ولكنهم يقولون: إنه لا يُحكم بكفره بعينه إلا إذا علم قيام الحجة عليه، فإن قال قائل: فإن لم نعلم قيام الحجة عليه؟ نقول: إذا لم نعلم قيام الحجة عليه قلنا: قوله كفر، والقائل لا يعد كافراً، بل يعد على الأصل، وتجري عليه أحكام المسلمين. فإن تُردد في شأن القائل: أهو كافر، أم ليس كافراً؟ فهذا التردد ليس إشكالاً، فإن بعض الناس قد يكون حاله عند الله تعالى على غير حاله في حكم الناس في الدنيا، فقد قال الله تعالى لنبيه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] وبعض الناس يظن أن من ضروريات ديانته أن يعرف حكم كل واحد من بني آدم: هل هو مسلم أو كافر؟ إن هذا الحكم ليس ضرورياً، ولو كان ضرورياً لفقهه الصحابة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم جميع المنافقين في المدينة وممن حولهم من الأعراب، بنص القرآن: {لا تَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] وحتى من علمهم الرسول من أسماء المنافقين لم يبينهم لكل الصحابة، ولم يقل: إن فلاناً وفلاناً من المنافقين؛ بل ظل ذلك سراً بينه وبين حذيفة، مع أنهم كانوا مختلطين بهم. ولذلك يقول ابن تيمية: (ولما أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام المسلمين على المنافقين، فإجراؤها على أهل البدع، الذين لم يُحكم بكفرهم بأعيانهم، وإن ضلوا في بدعهم وفارقوا السنة والجماعة، أو حتى أتوا قولاً كفرياً لم يحكم عليهم بموجبه، فإجراء هذه الأحكام على هؤلاء من باب أولى).

المسألة السادسة: الفرق بين خطأ المتأول وبين المعاند

المسألة السادسة: الفرق بين خطأ المتأول وبين المعاند هناك فرق في الحكم بين مقالة تصدر بالتأويل، ومقالة تصدر على جهة العناد، فمثلاً: لقد كفَّر الله سبحانه وتعالى من قال عن كتابه وعن كلامه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] وربما نجد أن بعض أئمة السنة، في ردهم على القائلين بخلق القرآن، يقولون: ومن الدليل على أنه كلام الله حروفه ومعانيه: أن الله قد ذمَّ من كفر به فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] فهل يستدل الأئمة بهذا التقرير: أن القرآن كلام الله، وأنه ليس مخلوقاً، أم يستدلون به ليقولوا: إن من قال: إن القرآن مخلوق، فحكمه عند الله بالضرورة يكون كهذا القائل؟ لا شك أن المراد هو الأول: أن هذا من باب الدفع للبدعة، التي قال أصحابها: إن القرآن مخلوق؛ لأنه إن كان مخلوقاً، لزم أن يكون قول بشر، أو أن يكون مخلوقاً بعينه -كما قال بعضهم: إنه حكاية عن كلام الله، أو غير ذلك- لكن هذا الكافر الذي ذكره الله في القرآن لما قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] قالها على جهة الجحد لتصديق هذا القرآن. إذاً: القول بأن القرآن مخلوق، مقالة كفرية في ذاتها، لكن من قالها على قدر من التأويل، فإذا ما علم قيام الحجة عليه، وأنه خرج عن هذا التأويل الذي منع القول بكفره، إلى العلم بقيام الحجة عليه، فإنه يحكم عليه بهذا الموجب، وهذا لم يقع في تطبيقات الأئمة مع القائلين بمثل هذه المقالات إلا في حالات يسيرة، مثل ما نقل: أن الإمام أحمد حكم بذلك على ابن أبي دؤاد، لكن كم كان المعتزلة إذ ذاك؟ وكم كان علماء الجهمية؟ هذا إذا استقام الإسناد إلى مسألة ابن أبي دؤاد. وهنا يرد سؤال آخر: لماذا حكم الإمام أحمد بالكفر على ابن أبي دؤاد، ولم يحكم على المعتصم، مع أن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وأجبر العلماء بالسيف والسنان على القول بخلق القرآن؟ بل كان الإمام أحمد يدعو له، ويستغفر له، ويصلي خلفه؟ ولذلك قال ابن تيمية: (بل إن الإمام أحمد صلى خلف بعض من يقول بهذه المقالات). وهو يقصد بذلك المعتصم، يقول: (صلَّى خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان كافراً عنده لما فعل ذلك). ومثل ذلك أيضاً: مسألة العلو، فإن إنكار العلو كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، فمن أنكر علو الله على جهة الرد والتكذيب، فهو كافر، وذلك كما أنكره فرعون فيما ذكره الله في شأنه، لكن من تكلَّم بهذه المسألة على نوع من الشبه التي عرضت له، فهل يتغير حكمه، أو لا يتغير؟ المقالة حكمها واحد: أنها كفر، لكن القائل بها، لما دخلت عليه هذه الشبه والتأويلات، وظن أن هذا هو تحقيق الحق، فلا يلزم أن يكون كافراً، وقد ناظر ابن تيمية قوماً من المتكلمين الذين ينفون علو الله تعالى، حتى انقطعوا معه في المناظرة، حتى قال لهم بحضرة السلطان: (أنا أمهل من يخالفني في هذه المسألة ونحوها ثلاث سنين). من باب ثقته بما قال، فمع مناظرته لهم، ومع انقطاعهم، خرج بنتيجة فقال لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي). فهذا الفقه في طريقة الأئمة المرضيين رحمهم الله؛ كالإمام أحمد، ونحوه من المتقدمين، وكذلك من بعدهم من الأئمة؛ كـ ابن تيمية ونحوه، لا بد أن يكون نموذجاً مبصراً لطالب العلم، فيقول الحقائق الشرعية بغير نقص، ولكن لا يعتدي على الخلق أيضاً. إذاً: هذا التفريق لا بد أن يكون بيِّناً.

المسألة السابعة: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين

المسألة السابعة: ثلاثة أصول في الحكم على خطأ المعين هناك ثلاثة أصول ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة الحكم. - الأصل الأول: قال: (إن المقالة قد تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً)، وقد حكى الإجماع عن السلف على هذه القاعدة، وإذا قلنا: إن المقالة تكون كفراً، ولا يلزم أن يكون قائلها كافراً، فهل معنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون كافراً؟ قطعاً لا، إنما المقصود: أنه ليس هناك تلازم ولا اطراد بين القول وحكم قائله. - الأصل الثاني: قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة)، أي: ممن يقيم الصلاة، والشعائر الظاهرة، فيصوم رمضان، ويحافظ على الصلوات الخمس، ويحج البيت، ونحو ذلك، قال: (أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي: في حكم الله سبحانه وتعالى - إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق). وقد شرح هذا الأصل في أكثر من موضع من كتبه، ومن أقربها وأيسرها: شرحه لحديث الافتراق، ولعله في المجلد الثالث من فتاويه. قال: (لأن الناس لما بعث النبي كانوا: إما مشركين يعبدون الأصنام، أو مسلمين متبعين للنبي، ولما هاجر إلى المدينة ظهر صنف ثالث، وهم المنافقون، فالناس: إما منافق، وإما كافر، وإما مؤمن، والمؤمن أحد درجات ثلاث: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات). - الأصل الثالث: ذكره الإمام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى وفي درء التعارض وغيره، قال: (إن كل من أراد الحق، واجتهد في طلبه من جهة الرسول، فأخطأه، فإن خطأه مغفور له). إذاً: لا بد من تحقيق إرادة الحق، وهذا الشرط يخرج به الذين يكون مقصودهم الانتصار لمذاهبهم، فإن هؤلاء لم يحققوا إرادة الحق؛ بل إنه قد خالط هذه الإرادة وشابها نوع من النقص، وربما نوع من الشرك، وهو التعصب لهذه المذاهب الباطلة، أما من سلمت إرادته للحق، (واجتهد في طلبه)، أي: بذل وسعه في تتبع الكتاب الكريم، ودلائل السنة، وآثار الصحابة، (من جهة الرسول)، أي: من جهة الكتاب والسنة وما جاء به الرسول، (فأخطأه، فإن خطأه مغفور له). فلا بد من هذه الأصول أو الشروط الثلاثة: الشرط الأول: (أن كل من أراد الحق). الشرط الثاني: (واجتهد في طلبه). الشرط الثالث: (من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: (فأخطأه فإن خطأه مغفور له). ولما تكلم عن أهل البدع الذين ذمهم السلف قال: (وأما من ذمهم السلف من الطوائف فهم في الجملة مقصرون في باب الإرادة، مقصرون في باب الاجتهاد، فإن كثيراً منهم يكون من مقصوده الانتصار لمذهبه)، قال: (والمقصرون في مقام الاجتهاد لعدم علمهم بالسنة). ولذلك فإن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة ليسوا أهل علم بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: من ذمهم السلف والأئمة من طوائف المخالفين فإنهم في الجملة مقصرون في هذه المقامات الثلاثة. فإن عندهم تقصيرًا ونقصًا في باب الإرادة، لكثرة ما يعنون به من التعصب لأئمتهم، وطوائفهم، وشيوخهم، والانتصار لهم. وأما في باب الاجتهاد، فإنهم مقصرون في هذا الباب من جهة قلة عنايتهم بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار أصحابه. وهذا أمر بيِّن، فإن علماء الكلام كأئمة المعتزلة الأوائل، ونحوهم، ليسوا من أهل الرواية، بل إن الذين عرفوا بأنهم أئمة الحديث وأئمة الرواية هم علماء أهل السنة والجماعة. قال: (وأما المقام الثالث- وهو قوله: من جهة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - فإن هذه الطوائف مقصرون في هذا المقام من جهة ما استعملوه من الأصول الكلامية ونحوها، التي حصلوا بها، أو بكثير من مقاماتها، ما يعتبرونه هو مقام أصول الديانة، وربما قدَّموه على القرآن، وزعموا أن هذا من باب تعارض العقل والنقل). إذاً: هذا الأصل لا يقود إلى تعطيل الحق، ولا يقود إلى تعطيل الذم للمخالفين، وإنما هو أصل من أصول العدل والشريعة التي يوزن بها المخالف، دون أن تنقص الحقائق الشرعية. وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى خطورة هذا النقص الذي يعرض لهؤلاء في هذه المقامات الثلاثة، فذكر أنه قد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون من باب الفسق، وقد يكون من باب المعصية، قال: (وهذا النقص قد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، بحسب قدر المقالة وحال قائلها).

المسألة الثامنة: الوسطية

المسألة الثامنة: الوسطية يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] قال الإمام ابن تيمية وغيره: (وكما أن هذه الأمة وسط بين الأمم، فكذلك أهل السنة والجماعة وسط بين طوائف هذه الأمة). ومعنى الوسطية التي ذكرها الله في القرآن: أنهم عدول، يقضون ويشهدون بالحق؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86] أي: بالصدق والأمانة والعدل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أي: أنهم صادقون في إرادتهم، صادقون في مداركهم. فمسألة الوسطية من مسائل المنهج المعروفة عند أهل السنة والجماعة، فقد قرر الإمام ابن تيمية في رسالته الواسطية -وإن كان اسمها ليس مشتقاً من هذا المعنى، وإنما لأنه كتبها لقاض من قضاة واسط، وهي بلد في العراق- قرر في هذه الرسالة مسألة الوسطية، في كلام معروف شائع بين طلبة العلم، وكثير من العامة. فالمقصود: أن الوسطية أصبحت في هذا العصر مصطلحاً يُجادل عليه في أكثر من مقام، فإن بعض الذين ليس عندهم ضبط وعناية ببعض المسائل الشرعية أو المنهج الشرعي، نجدهم يدَّعون أن ما يذكرونه هو من باب الوسطية، فقد أصبحت الوسطية مصطلحاً يدخله الاشتراك والتداول في أكثر من ميدان وأكثر من ديوان، ولذلك لا بد من فقه هذه الكلمة، وأنها كلمة تدل على جملة من المعاني.

موارد الوسطية عند أهل السنة والجماعة

موارد الوسطية عند أهل السنة والجماعة إن الوسطية عند أهل السنة والجماعة لها أربعة موارد: فتقع الوسطية في الأقوال، وتقع في طريقة ومنهج التقرير لعقيدتهم وأصولهم، وتقع في منهج الرد على مخالفيهم، وتقع في الحكم على مخالفيهم.

المورد الأول: في الأقوال

المورد الأول: في الأقوال إن الأقوال الوسطية هي الأقوال الشرعية التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فأهل السنة والجماعة أقوالهم في مسائل أصول الدين وسط، أي: أنها مقتدية بالكتاب والسنة، وإذا قلت: إنها على الكتاب والسنة، كان هذا كافياً عن التعليق بأنها متضمنة للعلم، متضمنة للعدل، متضمنة لنحو ذلك؛ لأنه من ضرورة أن يكون الشيء من كتاب الله أو سنة نبيه أن يكون متضمناً لتلك الأمور.

المورد الثاني: في منهج التقرير

المورد الثاني: في منهج التقرير المصنفون في العقائد، أو الكاتبون في هذا الباب، تارة يكتبون من باب التقرير للعقيدة الصحيحة، وتارة يكتبون من باب الرد على المخالف، وتارة نجد أن بعض من أهل العلم ربما كتب كتاباً هو متضمن للتقرير ومتضمن للرد. فهناك مقامان: مقام التقرير، ومقام الرد، وهذان المقامان بينهما فرق، ولعل من أخص هذه الفروق وأهمها في المنهج: أنه عند الكلام أو الكتابة في مسائل العقيدة من باب التقرير للمسلمين، والدعوة إلى هذه العقيدة الصحيحة، فإنه ينبغي أن تراعى في هذا التقرير جملة من الأمور، أهمها أمران: الأول: أن تُستعمل الكلمات الشرعية في هذا التقرير، أي: الكلمات التي نطق بها القرآن، وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو التي اشتهرت وشاعت عند علماء المسلمين الأوائل، وعند أئمة السنة من الفقهاء والمحدثين، أما الكلمات المخترعة، والكلمات المجملة، والكلمات الحادثة؛ فإنه ينبغي أن يُباعد عنها. الأمر الثاني: أن يضبِط هذا التقرير استدلال بالكتاب والسنة، فليس من الحكمة أن نسرد تقريراً عقدياً ونقول: إن هذا هو الحق، وإن غيره ضلال أو بدعة أو خطأ، دون أن يُضمن هذا التقرير ما يناسبه من الدلائل، فإن كتب المتقدمين التي صنفت، كأن المقصود الأكبر من تصنيفها هو التقرير، فما سمي بكتب السنة: كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة للخلال، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ ابن أبي عاصم، والشريعة للآجري، هذه الكتب وغيرها فيها رد، لكنها عنيت بالتقرير أكثر. أيضاً إذا قرأنا تقريرهم لمسألة القدر، أو لمسألة الصفات، أو لمسألة الإيمان؛ ربما نجد أن غالب هذا التقرير ليس من كلامهم، وإنما نصوص يستعملونها، كما هو واضح من فعل الآجري في الشريعة، فإنه ذكر أكثر من خمسين آية تحت كلمة: أن الإيمان يكون بالعمل. فلا بد من العناية بمسألة ربط المعتقد الصحيح بدلائل الكتاب والسنة، أما أن تكون العقيدة من جنس علوم الآلة، فيكون الهم هو أخذ ألفاظ يتزوق المتزوق في نظمها، أو في صياغتها، أو ما إلى ذلك؛ فهذا من الخطأ والقصور، وقد يكون من باب التسهيل للطلاب أو نحوه، لكنه ليس بالضرورة، والمنهج الفاضل هو الذي كان عليه المتقدمون، ولذلك فإن القدماء لم يصنفوا رسائل مختصة في الاعتقاد، وإنما كتبوا كتباً مسندة، وسموها: كتب أصول الدين، فـ البخاري مثلاً لما صنف صحيحه، استودع فيه ما سماه: كتاب الإيمان، وما سماه: كتاب التوحيد، وما إلى ذلك. إذاً: لا بد أن تكون هذه الصورة من طريقة تقرير الأئمة المتقدمين واضحة، ولا بد أن يتكلم في تقرير العقيدة بكلام بيِّن للعامة من المسلمين، وذلك بأن تختار الكلمات الشرعية، والكلمات البينة المفصحة الواضحة، كما أنه لابد أن يُضمن هذا التقرير مسألة الدلائل المفصلة من الكتاب والسنة، ولعل من الرسائل المتأخرة المناسبة في هذا الباب: الرسالة الواسطية، للإمام ابن تيمية، فهي رسالة جامعة ومفيدة في هذا الباب، وقد بناها على حديث جبريل في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمسألة الإيمان.

المورد الثالث: في منهج الرد

المورد الثالث: في منهج الرد منهج الرد يختلف عن منهج التقرير، ولذلك فإن طريقة العلماء من أئمة السنة في باب الرد، تختلف عن طريقتهم في باب التقرير، وربما خلط البعض أحياناً حتى من طلبة العلم ولم يفرق بين مقام الرد وبين مقام التقرير، وربما أقحم العامة أو المبتدئين في طلب العلم في مقام أو أكثر من مقامات الردود على الشبه الفلسفية، أو الشبه الكلامية، أو الشبه المنغلقة، التي لا يحتاجها العامة من المسلمين، الذين صلحت أمورهم وعقائدهم. وباب الرد: هو باب يقصد منه دفع الشر، ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر في كتابه الكريم مقام الدعوة إلى الحق، اختلف السياق عن مقام إبطال وإنكار الباطل. والأئمة في مقام الرد يستعملون اللوازم، فربما ألزموا بعض الطوائف بأقوال ليست هي من أقوالهم، وليس ذلك من باب أنهم يكذبون عليهم، وإنما من باب أن هذه أقوال تلزمهم، وإذا لزم عن الباطل ما هو أظهر منه بطلاناً؛ كان ذلك دليلاً على الحكم بفساده. وذلك كقولهم مثلاً: إنه يلزم بعض طوائف المرجئة: أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفسَّاق، هذا من باب اللازم، وليس من باب: أن المرجئة من الفقهاء ونحوهم من المقاربين يقولون بمثل هذا القول، فهذا لازم لهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكنه يُستعمل في مقام الرد، من باب الإبطال لقول المخالف. ومثل هذا ما سبق ذكره من الاستدلال بقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] لإبطال قول من يقول: إن القرآن مخلوق، فهذا من باب اللازم، أي: أن مقالة هؤلاء يلزم أن تكون نتيجتها مشتركة مع مقالة أولئك القوم من الكفار. ومما يشير إليه الأئمة في باب الرد: الذم، فنجد أن في كلام الأئمة ذماً لمخالفيهم، وهذا الذم إذا ذكر على قدر من العدل والاقتصاد، فإنه لا بد منه، وقد ذم الله في كتابه من خالف أمره أو أمر رسوله أو ما بعث به عباده المرسلين.

المورد الرابع: في الحكم

المورد الرابع: في الحكم الوسطية بوجه عام تعني: الانفكاك عن الإفراط وعن التفريط، ومنذ أن حدثت المحدثات في الأمة، وُجد قوم عندهم قدر من الإفراط وقدر من التفريط. وفي هذا المقام لن يكون الحديث عمن عرفوا بالإفراط أو التفريط، لكن عن بعض المنتسبين للسنة والجماعة من الفقهاء، وبعض المعاصرين، فإنه يوجد عندهم بعض الإفراط، كما يوجد عند آخرين منهم بعض التفريط: إما في تقرير الأقوال، وإما في طريقة الرد على المخالف، وإما في باب الحكم على المخالف. وكما يوجد في هؤلاء من عنده تفريط وتقصير، أو ما يُسمى باللسان الدارج: التمييع، أي: من يميعون الفروق بين الحقائق الشرعية والأشياء البدعية، أو يميعون الأحكام التي نطق بها أئمة السلف رحمهم الله، هذا الذي نسميه تمييعاً هو في حقيقته تفريط - فكذلك يوجد أحياناً من بعض الصادقين الصالحين، القاصدين نصر السنة، يوجد فيهم قدر من الإفراط، فيظنون أن الحق والسنة لا تُحكَّم، ولا تضبط، ولا ينتصر لها، إلا بمثل هذا الأسلوب من الشدة، التي فيها قدر من الزيادة والظلم لقوم من الناس، وهذا ظن خاطئ؛ لأن الله تعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين سائر عباده من المسلمين وغير المسلمين محرماً. فمسألة الوسطية تعني: الانفكاك عن الإفراط وعن التفريط، وفي نظري: أن أشهر مثال للمعتدلين الوسطيين من المتأخرين هو: الإمام ابن تيمية رحمه الله، ومن هنا أوصي طلاب العلم بالنظر في كتب هذا الإمام؛ لما فيها من المقومات الشرعية للوسطية الشرعية.

المقومات الشرعية للوسطية الشرعية

المقومات الشرعية للوسطية الشرعية

أولا: الوضوح العلمي

أولاً: الوضوح العلمي إن كثيرًا من الناس يكون عنده إفراط أو تفريط بسبب نقص في علمه، فيستر هذا النقص: إما بالتخفيف للأمور، أو يستره بأسلوب من أساليب الشدة والعدوان، حتى لا يراجع في حقيقة علميته. إذاً: من مقومات الوسطية الشرعية: الوضوح العلمي، والله تعالى يقول لنبيه: {فَاعْلَمْ} [محمد:19]. {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] إلى غير ذلك من الأدلة التي تحث على التزود من العلم، والرسوخ فيه.

ثانيا: الأمانة والعدل

ثانياً: الأمانة والعدل يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] فالعدل لا بد منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفتن: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، فلا بد من العدل والأمانة مع المخالف. وقد يفهم البعض أننا حينما تقول: لا بد من العدل مع المخالف، أن المقصود: التنازل في الحكم، أو التخفيف في الأمور، على غير وجهها الشرعي .. كلا، إنما العدل: هو إصابة حكم الشريعة؛ لأن الله أمر به، فهو أمر شرعي.

ثالثا: الاقتداء

ثالثاً: الاقتداء إن هذا الدين ليس فكراً أو اجتهاداً، وإن كان فيه مساحة للتفكير، مساحة للاجتهاد بلا شك، لكن أصوله ومبادئه الأولى مبنية على الاقتداء، حتى في مقام الاجتهاد ومقام التفكير فأنت تنطلق من قواعد الاقتداء والاتباع، وقد أمر الله تعالى نبيه بالاقتداء، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] فمسألة الاقتداء مسألة مهمة، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

رابعا: الصدق العبادي

رابعاً: الصدق العبادي الصدق العبادي الذي هو الإخلاص: أن لا يكون مقصودك من كلامك في تقرير العقيدة، أو في الرد على المخالف، أو في مناظرته ونحو ذلك - أن لا يكون المقصود هو العلو في الأرض؛ لأن العلو في الأرض ما ذكره الله إلا شأناً من شئون الكفار، وليس لكل الكفار، وإنما لبعض الغلاة من الكفار؛ كفرعون وغيره، أما المؤمنون، فإن الله سبحانه وتعالى قد وصفهم بنوع من العلو، لكنه العلو الإيماني، وليس العلو السفلي، قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] وقال عن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:4]. فينبغي أن يكون مقصودك لما تقوله من التقرير للعقيدة، أو من الرد على المخالف الإخلاص والصدق العبادي، وأن يهتدي الناس بذلك، ولذلك فإن المخالفين للسنة والجماعة كما أنه يشرع الرد عليهم، يشرع كذلك في حقهم الدعوة. ومن العجب أن نرى بعض الناس يقرر مسألة دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولا يلقي بالاً لدعوة أهل البدع، وردهم عن ضلالهم، وإذا كان غير المسلمين يُدعون إلى الإسلام، والله تعالى قد بعث الرسل يدعون الناس إلى دينه، ويدعون الكفار، فمن باب أولى أن يكون لمن ضل من عباد الله المسلمين من أهل القبلة بشيء من البدع، أن يكون لهم مقام من الدعوة؛ لأن الدعوة إلى دين الله من تحقيق العبودية لله، بغض النظر عن درجة استجابتهم، أما من يقول: إنهم لا يستجيبون، ويأتيك بكلمة عن زيد أو عمرو: أن المبتدع لا يستجيب، ولا يرجع عن بدعته، فإن هذا تخرَّص على الديانة. فكل من أخطأ الحق، فإنه يجب دعوته، وإقامة حجة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عليه، سواء كان مسلماً ضل، أو كان غير مسلم.

خامسا: الاقتصاد

خامساً: الاقتصاد الاقتصاد: هو ترك التكلف، وقد ورد في القرآن الكريم في سياق كلام المرسلين لقومهم أنهم يقولون: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] وهذا الدين يسر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام، كما في البخاري وغيره: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، فمسألة الاقتصاد هي في الحقيقة مسألة من مسائل العدل، ومنه: الاقتصاد في الأقوال، فمثلاً: الأقوال التي لم تفصلها الشريعة، وإنما ذكرتها مجملة، فمن السنة هنا أن نقتصد، فلا نسعى لتفصيلها؛ وذلك كبعض حقائق اليوم الآخر التي ذكرها الله تعالى مجملة، وقد نجد أن بعض المتأخرين من أهل العلم، وحتى من بعض أهل السنة المتأخرين، من يذهبون للتفقه والتفسير في مسائل مجملة من مسائل اليوم الآخر، وكأنهم ينظرون في مسألة من مسائل الفقه وفروع الدين، التي يقال فيها بالقياس، والاجتهاد، والاستحسان، والمصلحة المرسلة، ونحوها من الدلائل المختلف فيها، وهذا من الغلط والتكلف؛ لأن باب الخبريات وباب أصول الدين لا يقال فيها بالاستفصال، إلا إذا كان هذا الاستفصال أو التفصيل قد نطقت به النصوص. ولذلك لما ذكر ابن تيمية هدي أهل السنة والجماعة، قال: (من هديهم ترك الاستطالة على الخلق، بحق أو بغير حق). فحتى لو كان الحق معك فلا تستطل أو تظلم من جهة أن الحق معك؛ بل يجب العدل والاقتصاد.

المسألة التاسعة: الامتياز والشمول

المسألة التاسعة: الامتياز والشمول إذا ذكر منهج أهل السنة والجماعة فإنه يسمى: مذهب السلف، فهل كلمة السلف موجودة في القرآن؟ الجواب: لا، لكنها تسمية مناسبة؛ لأنه لما ظهرت البدع في هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، في آخر عصر الخلفاء الراشدين وما بعد ذلك، أصبحت هذه التسمية -أي: السلف- من التسميات التي يقصد بها التمييز، أي: أن أصحاب هذه الكلمة أو هذه العقيدة يقتدون بسلف هذه الأمة، الذين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله شرع ذلك فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. إذاً يقصد بالسلف هذا المعنى: الصحابة، وإذا قيل: عقيدة السلف، فهي عقيدة الصحابة. كما ينبغي أن يُعنى بالتمييز، أي: تمييز السنة وأهلها من غير السنة، فينبغي أيضاً أن يُعنى بالشمول؛ لأن الملتزمين بهذه العقيدة، المستقيمين عليها، كما أنهم يسمون: سلفيين، فإنهم يسمون كذلك: مسلمين؛ لأن هذا اسم شرعي، والله تعالى يقول عن إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67] فهذا اسم شرعي لا يجوز تركه، فهم مسلمون، مؤمنون، صالحون إلخ، فالأسماء الشرعية لا يجوز هدم شيء منها، فكما أنهم يسمون أهل السنة، أو يسمون: أتباع السلف، أو أتباع الصحابة، فإنهم يسمون كذلك بالمسلمين، وما إلى ذلك. وإن كانت بعض هذه الأسماء يشركهم فيها غيرهم، فهذا لا يوجب تعطيل الاسم الشرعي، كما يقول بعض الناس: لا تتسموا بالمسلمين؛ لأن السني والبدعي يسمى مسلماً، فالاسم الشرعي لتضمنه حقيقة شرعية؛ لا يجوز إسقاطه أو هجره لمجرد أن المخالف تسمى به.

المسألة العاشرة: ما يضاف إلى مذهب السلف

المسألة العاشرة: ما يضاف إلى مذهب السلف وهذه المسألة لها قدر من الأهمية: فإذا قيل عن مسألة ما: من مذهب السلف كذا وكذا، فإنه يُفهم من هذا: أن هذه مسألة مدرجة في مسائل الأصول الأولى، وأنها مسألة مدرجة في باب السنة التي يقابلها البدعة. ولكن، ألسنا نرى في تاريخ المسلمين وفي علمهم، أن المسائل: إما مسائل مجمع عليها، وإما مسائل مختلف فيها، كالمسائل التي اختلف فيها الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء؟ يقول ابن تيمية: (تحصيل مذهب السلف استُعمل فيه عند المتأخرين أحد طريقين .. أما محققوهم فإنهم يُحصِّلون ما يسمونه مذهباً للسلف بالإجماع، فإما أن يكون هذا الإجماع قد نص عليه علماء الإسلام الكبار، وإما أن يكون الإجماع معروفاً، لكون هذه المسألة قد توافر قول الأئمة المتقدمين من السلف فيها ولم ينقل فيها مخالف)، فإذا انضبطت المسألة بالتواتر صح أن تنسب إلى مذهب السلف، مثال ذلك: قول البخاري: (لقيت أكثر من ألف عالم في شتى الأمصار، كلهم يقول: الإيمان قول وعمل). فهذه المسألة لما تواترت بهذه الصفة، ونقل من نقل أنها إجماع، صح أن نقول: من مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل. وهذا الطريق هو الذي عليه المحققون كما يقول ابن تيمية، وهو طريق المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، أئمة أهل السنة والجماعة. أما الطريق الثاني فقال عنه: (واستعمل بعض المتأخرين من الفقهاء، من المنتسبين للسنة، وبعض المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة أيضاً، استعملوا طريقاً آخر، فصار ما يحصلونه فهماً في مسائل الديانة، وهم لا يجدون فيه إجماعاً، يضيفونه إلى مذهب السلف؛ لأن السلف عندهم لا يخرجون عن الحق). وهم ظنوا أن هذا الفهم يلزم أن يكون صحيحاً، فصاروا يضيفون بعض مسائل الخلاف والاجتهاد إلى مذهب السلف، فإذا قيل: هذا من مذهب السلف، فهم البعض أن ما خالفه يكون خروجاً عن مذهبهم، وخروجاً عن السنة والجماعة، إلى غير ذلك. وهذا الطريق الثاني، الذي اعترض عليه ابن تيمية وأبطله، لا شك أنه باطل بديهة؛ لأنه لو كان ممكناً وسائغاً للزم أن كل فقيه ينتهي إلى نتيجة ما باجتهاده، فإنه يحكم على قوله بأنه مذهب للسلف، وهذا يستلزم تعارض مذهب السلف. إذاً: طريق المتقدمين هو الأعلم والأسلم والأحكم. والله منا ومنهم أعلم. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يهدينا سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين ..

المنهجية في دراسة الفقه

المنهجية في دراسة الفقه الفقه من أشرف علوم الشريعة، وأعظمها فائدة ونفعاً، ولذلك ينبغي أن تتوجه همم طلاب العلم إلى دراسته والعناية بتحصيله، وينبغي على طالب العلم أن يعرف المنهجية التي يسير عليها في ذلك، لتكون عوناً له في فهم مسألة أو حل عويصة أو تفسير مفهوم، وهي عبارة عن مقدمات يعرف بها كيف يتدرج في طلب العلم، حتى تكون لديه ملكة يستطيع بها أن يفهم المسائل الفقهية وأدلتها، وأقوال الأئمة واختلافهم فيها، ومن ثم يرجح بينها على ضوء ما تحصل لديه من تأصيل علمي متين.

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه كلمات يسيرة، وعبارات وجيزة أو نظرات في المنهجية في دراسة الفقه، أردت من خلالها الوقوف على أهم المسائل التي ينبغي لطالب العلم -ولدارس الفقه خاصة- أن يعلمها، وأن يقف عندها قبل توسعه وتشعبه في دراسة الفقه؛ لتكون عوناً له على فهم مسألة، أو حل عويصة، أو تفسير مفهوم، وقد ركزت فيها على الكلام على فقه المتقدمين والمتأخرين، وذكر ما بينهما من فروق؛ سواء في فهم الدليل، أو الترجيح، أو الخلاف إلخ. وكما أشرت إنما هي كلمات يسيرة في هذا الموضوع الطويل المتشعب، فحسبي منها أن تكون مقدمات لطالب العلم يستدل بها على ما بعدها .. والله أسأل أن ينفع بها كاتبها وقارئها، إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين

منهجية التسلسل في طلب العلم

منهجية التسلسل في طلب العلم قد يتبادر إلى ذهن البعض أن يُذكر ما هو مقترح في دراسة الفقه من الكتب، وهذا وإن كان داخلاً في هذا العنوان إلا أنه ليس هو المعبر عنه، وأهم منه هو ما يتعلق بقواعد المنهج في هذا الباب، وأما أن يقال: يقرأ من الكتب كذا وكذا .. فهذا قد لا يكون شأناً منضبطاً؛ فإنه يختلف باختلاف بيئات الناس وقدراتهم .. ثم إن منه قدراً مشتركاً قد يكون من الشائع بين طلبة العلم الاعتبار له، فإذا ذكر ما يتعلق بالاعتقاد -مثلاً- تجد أن ثمة كتباً قد شاع بين طلبة العلم أنها مما يدرس ويحصل ويقصد إلى شرحه والعلم به وما إلى ذلك، كالواسطية لـ ابن تيمية، والطحاوية وما عليها من الشرح لـ ابن أبي العز الحنفي، وبعض كتب السنة المتقدمة التي صنفها المصنفون على طريقة الإسناد والرواية، وحكوا فيها جمل الأئمة المتقدمين؛ كالسنة للخلال، والإبانة لـ ابن بطة، والشريعة للآجري فضلاً عما في كتب المحدثين؛ ككتاب الإيمان وكتاب التوحيد للإمام البخاري، وكتاب الإيمان للإمام مسلم وإذا أردت أن تذكر ذكراً عاماً فلك أن تقول: إن ما في كتب ابن تيمية من الرسائل والمصنفات في مسائل الاعتقاد، أو الرد على المخالفين، لا ينبغي لطالب العلم أن يبالغ في الوقوف عنده؛ لأن جملة منه شائعة معروفة، وجملة منه يختلف فيها الاختيار والنظر والتقرير، بحسب ما يقع للناس، وما يقع في بيئاتهم، وما يقع في أبواب العلم عندهم .. وهذا القدر ليس هو الإشكال، وأنا أرى أنه لا ينبغي أن يقع إشكال لطلبة العلم اليوم في مثل هذه المرحلة من تاريخ المسلمين، فيما يقرءونه من العلم .. لم؟ لأن علماء المسلمين قد صنفوا في سائر علوم الشريعة وأبوابها ما يقارب اثني عشر قرناً، وهذه القرون تجد أنها مليئة بالتصانيف في سائر فنون الشريعة؛ من التفسير أو ما يتعلق بعلوم القرآن، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والاعتقاد وما يتعلق بالفرق والرد على المخالفين والمقالات إلى غير ذلك، فإن كل فن من هذه الفنون وغيرها فيه كتب كثيرة، وفي نفس الوقت لك أن تقول: إن فيه كتباً محققة. أي: صنفها أئمة محققون في هذا الشأن، عارفون به، وأحكموا في تصنيفها، فاجتمع فيها شرف الكتاب من جهة أن المصنف اعتنى به، ومن جهة أن المصنف له في هذا التصنيف تمام الفهم. ولذلك صار من الشائع بين أهل العلم -ولا سيما في الطبقة المتأخرة- أنه إذا ذكر ما يتعلق بعلوم الحديث ذكروا مقدمة ابن الصلاح، وتجد أن هذه المقدمة صارت شائعةً معروفةً يتداولها طلبة العلم ويقرءونها، وربما قرءوا قبلها نزهة النظر للحافظ ابن حجر، ثم ألحقوها بما كتبه عليها ابن حجر من النكت، أو شرح ألفية العراقي للسخاوي .. وإذا رجعت إلى التفسير تجد أنه كتبت فيه كتب كثيرة، وربما كانت هذه الكتب ليست محققة .. بل فيها من الضلالة والخروج عن تفسير القرآن خروجاً كثيراً، كبعض الكتب التي ألفها من لم يكتبوا آثار أئمة السنة والجماعة، لكن في المقابل فإنه يوجد في علم التفسير من الكتب المحققة المعروفة، فإن هذا الباب قد كتب على أنحاء، وهو ما يسمى بالتفسير بالمأثور، وهذا فيه كتب، ولكن قد شاع بين أهل العلم أن ما كتبه ابن جرير الطبري هو العمدة في ما يسمى بالتفسير المأثور. فإذا قال طالب العلم: ماذا نقرأ في التفسير؟ ففي ظني أن هذا السؤال لا ينبغي أن يكون سؤالًا صعب الجواب؛ لأن هذا من البدهيات؛ فلو قرأ طالب العلم فيما يتعلق بالتفسير بالمأثور، وآثار الصحابة ومن بعدهم في كلمات القرآن وتفسيرها ومعانيها، لو قرأ تفسير ابن جرير لكفاه في الجملة، ولا نقول: إنه قد حصل تحصيلاً نهائياً، فهذا يتعذر، إنما نقول: إنه أجمع كتاب في هذا الباب وأصدقه من جهة إمامة مصنفه، وتقدم عصره. وإذا نظرت في ما يسمى بالتفسير الذي كتب على تقدير الأحكام وجدت أن فيه كتباً، لكن ما كتبه القرطبي أجمع كتاب في هذا الباب، وكأنه أشهر كتاب وصل إلى الناس فيما يتعلق بأحكام القرآن. وإذا ذكرت كتب الفقهاء تجد أن ثمة كتباً تعتبر إماماً في هذا العلم، فإذا ذكرت كتب الفقه المقارن اشتهر عند أهل العلم أن كتاب المغني للموفق محمد بن قدامة المقدسي على مختصر أبي القاسم الخرقي، من أشهر وأجود كتب الفقه المقارن، وأن ما كتبه النووي -وإن كان لم يكمله- فيما سماه بالمجموع شرح المهذب، هو من جوامع كتب الفقه، بل وما كتبه أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى. وإذا ذكرت ما يتعلق بتفسير أو شرح حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما صنف فيه، فإن من أتم هذه الكتب وأجودها -إن لم يكن هو الأجود على الإطلاق- ما كتبه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار والتمهيد على موطأ الإمام مالك، وما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري على صحيح البخاري، أو ما في فتح الباري لـ ابن رجب وإن كان لم يكمله. وإذا نظرت فيما يتعلق بما صنفه المتأخرون من أحاديث الأحكام؛ كبلوغ المرام، أو المحرر، أو المنتقى؛ لوجدت من الشروح والتعليقات عليها ما هو معروف، وتجد أن نيل الأوطار للشوكاني يعد من جوامع التعليقات على كتاب يعد من جوامع كتب الأحكام المتأخرة، وهو المنتقى للمجد ابن تيمية رحمه الله. المقصود من هذه المقدمة: أن ما يتردد كثيراً في مجالس طلبة العلم: ماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وبم نبدأ؟ وهل نقدم شرح الطحاوية على لوامع الأنوار، أم الواسطية قبل ذلك؟ .. هذه القضايا من عقل العاقل وفقه الفاقه أن يدرك أنه ليس فيها حكم صارم أو لازم، وكأن هذا هو سلم العلم، فإذا انحاز الطالب أو القارئ عنه شيئاً فقد زل عن سبيل العلماء أو عن الطريق الصحيح للتحصيل؛ لأن هذه في الجملة مسائل يغلب عليها الاجتهاد، وفي الغالب أن حكم الإنسان على نفسه له قدر في التأثير على ذلك، بمعنى أن الناس يختلفون في قدرتهم على التحصيل والاستيعاب والإدراك، فينبغي أن يختار بالدرجة الأولى شيئاً يناسب طاقته وإدراكه وما آتاه الله سبحانه وتعالى. وفيما يتعلق بالمنهجية في دراسة الفقه فإن هذا موضوع طويل متشعب، وليس المقصود أن نصل فيه إلى النهاية، أو إلى تحقيقات متينة، وإنما المقصود هنا: أن نقف جملةً من الوقفات والقراءات في هذا المفهوم، وسنجملها في عشر مسائل، على ما سيأتي ..

المسألة الأولى: المراد بالفقه

المسألة الأولى: المراد بالفقه لقد ذكرت هذه الكلمة -أعني: كلمة الفقه- في القرآن، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فيُذكر هذا الاسم على معنى عام: وهو الفقه في دين الله. وهذا يشمل الفقه في مسائل الشريعة وفروعها، ويشمل الفقه في مسائل أصول الديانة، وما يتعلق بأحكام الله سبحانه وتعالى والتشريعات والتدبر لأخباره، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا كله داخل في اسم الفقه العام الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام. ويذكر هذا الاسم على معنىً خاص، وهو الاسم الإضافي الذي يذكر مقارناً لجملة العلوم الأخرى، فيقال: علم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير الخ، فإذا ذكر الفقه على هذا الاصطلاح -وهو المقصود هنا- فإنه يقصد به: المسائل الفرعية من الشريعة، بحيث تخرج أصول الشريعة؛ سواء كانت هذه الأصول مقدمات وهو ما يسمى بقواعد الشريعة، أو كانت هذه الأصول نتائج وهي ما يسمى بالاعتقاد؛ فإن الأحكام الكلية من النتائج المجمع عليها تعتبر من أصول الدين. فإذاً يقصد بالفقه: ما يتعلق بمسألة الشريعة وفروعها، ولا يلزم من قولك: إنه يقصد بالفقه ما يتعلق بفروع الشريعة أن يكون هذا العلم لا يقصد به ذكر المجمع عليه، فإنك تعلم أن كتب الفقهاء فيها جزء كبير من مسائل الإجماع، ولكنها في باب التشريع، بمعنى أن هذا الباب يكون قدر منه قد أجمع عليه؛ كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، أو حتى على بعض التفاصيل التي هي دون ذلك، وتجد أن أكثر هذا الباب إذا فُصلت صوره التي تُنزل على المكلفين أو تطرأ للمكلفين وجدت أن هذه الصور في الجملة تقصر عن مقام الإجماع المحقق. فيكون المقصود بهذه التسمية الخاصة ما يتعلق بالعبادات والمعاملات؛ ولذلك ربما قيل: الفقه ينقسم إلى قسمين: العبادات والمعاملات، وإن كانت المعاملات تلحقها أبواب أخرى في تمام ونهايات كتب الفقه. هذا أمر معروف، وهو مجرد مدخل واصطلاح في هذه المسألة.

المسألة الثانية: دليل الفقه

المسألة الثانية: دليل الفقه

الأدلة المجمع عليها

الأدلة المجمع عليها من المعلوم أن دليل العقيدة أو أصول الدين هو: الكتاب والسنة والإجماع. وكذلك إذا ذكرت دليل الفقه فإنك تقول: الكتاب والسنة والإجماع. وهذه الأدلة الثلاثة مجمع عليها بين فقهاء المسلمين أجمعين، وثمة أدلة أخرى، وهي ما سماه أو اصطلحه بعض الأصوليين -وهي تسمية مناسبة-: الأدلة المختلف فيها، وهي تبدأ من القياس، وقول الصحابي، والاستصحاب، وهذه منزلة أولى في ما سمي بالدليل المختلف فيه، ثم تأتي منزلة ثانية دون هذه المنزلة، وهي ما سمي بالمصلحة المرسلة، وعمل أهل المدينة، والاستحسان، ونحو ذلك. والأصل في دين الإسلام أن الاستدلال يكون بالكتاب والسنة، وهذا كقاعدة شرعية ضرورية الديانة: أن الدليل هو ما جاء عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعلوم أن الإجماع إذا ذكر -ومسألة الإجماع فيها كلام كثير- وما عليه جملة من المتقدمين -كما يذكره الشافعي في الرسالة، وابن تيمية في الواسطية وغيرها، ونص عليه أبو محمد بن حزم - أن الإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة أو إجماع الطبقة الأولى من الأمة في المسائل التي ضبط الإجماع فيها، بمعنى: أنه ربما زعم الإجماع على مسائل من الفروع ليس أمرها على باب الإجماع المحقق، ولما أدرك من أدرك من الأصوليين هذا المعنى تكلموا في ما سمي بالإجماع الفقهي والإجماع الظني، أو ما يسمى بالإجماع السكوتي. فإذاً: الإجماع إذا صح وانضبط فإنه مبني على الكتاب والسنة، بمعنى: أنه لا يمكن أن يجمع العلماء على مسألة إلا وفيها نص من الكتاب أو السنة على الحكم، سواء كان هذا النص خاصاً أم بتواتر دلالة عامة. فإذا قيل: إن كل إجماع فيه نص، فربما كان هذا النص نصاً خاصاً، وربما كان النص -أو معنى النصية هنا- عبارة عن تواتر دلالة على هذا الحكم؛ ولذلك قد تجد أن المجمعين من الأئمة يختلفون في تحصيل مناط هذه المسألة ومبتدئها من دلائل الشريعة.

الأدلة المختلف فيها

الأدلة المختلف فيها أما ما بعد ذلك فلو قال قائل: من أين دخل على المسلمين أن يستدلوا على شريعتهم بما ليس من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع المبني على النص؟ قيل: ما سمي بالدليل المختلف فيه وأوله القياس، وما يتعلق بأقوال الصحابة، والاستصحاب، ولك أن تقول: إن الاستصحاب قدر متقدم على قول الصحابي؛ لأنه بمعنى المتولد من الدليل الشرعي المنضبط. وقد قلنا: إن الكتاب والسنة والإجماع هي أدلة لا يجادل أحد في شرعيتها، ومن تكلم في الإجماع لم يتكلم في صدقه إذا صح، إنما تكلم في إمكان صحته، ومتى يكون ممكن الصحة. وأما إذا صح وانضبط فلا أحد يجادل أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة. إذًا: فالدليل المختلف فيه لك أن تسميه بالدليل المتولد من دليل الشريعة المنضبط، فالقياس عبارة عن دليل متولد، وكذلك ما يتعلق بالاستصحاب، فهذان الأصلان من الاستدلال -ولا سيما القياس والاستصحاب- لهما قدر شائع عند العلماء، وكأن عامة أهل العلم المتقدمين -أو جماهير الأئمة المتقدمين- كانوا على تصحيح الاستدلال بمسألة القياس، وإن كانوا متفاوتين في اعتبار هذا الدليل، ولا شك أن ثمة فرقاً -مثلًا- بين فقهاء الكوفة وبين فقهاء المحدثين، أو بين أئمة المحدثين -فضلاً عن فقهائهم- في مسألة اعتبار القياس دليلاً، وسوف يأتي التنبيه إليه فيما يلحق من المسائل. المقصود: أن هذه المسائل المختلف فيها هي أدلة شرعية في الجملة.

دليل القياس عند المتقدمين

دليل القياس عند المتقدمين وما يتعلق بمسألة القياس فإن جماهير الأئمة يعتبرونه، وإن كان نقل من نقل من المتأخرين عن بعض المتقدمين الإبطال له، وهذا في مسائل بعينها، أما أنهم يبطلون القياس مطلقاً الذي هو قياس التمثيل أو الشمول فهذا بعيد؛ بل لسائر هؤلاء الأئمة -ولاسيما المحدثين الذين نسب إلى قوم منهم ما يتعلق بإبطال القياس- قول معروف فيما يتعلق بقياس الشمول. وكأن أشد الذين كانوا يغلقون مسألة القياس من المتقدمين وممن صار له أصل مشهور في الفقه هو: داود بن علي، وتجد أن داود بن علي تكلم في النص ودليله، مع أن ما يتعلق بدليل النص ومفهومه -كما شرحه ابن حزم في سبع صور - عند داود بن علي، تجد أن جملةً كثيرةً منها هي من باب ما يسمى بقياس الشمول، وإن كان ابن حزم يحسن التباعد عما يسمى بقياس التمثيل، فإنه يقع في تقارير فقهية مبنية على قياس الشمول. فما أصل مسألة القياس؟ هي في أصلها مسألة اصطلاح، فإنك تعلم أن القرآن ليس فيه ذكر لمثل هذه الكلمة على هذا التقرير، فإن ما اصطلح عليه هو في الحقيقة: أن القياس رد لحكم لم ينص عليه الشارع إلى آخر قد نص عليه؛ لوجود اتفاق في علته، أو في عموم اللفظ الذي رد به الحكم إلى الحكم الثاني الذي لم ينص عليه، فهو من نقل الحكم إلى الحكم لاتحاد الموجب أو لاتحاد العلة. فالمقصود: أن الأدلة المختلف فيها كان الأئمة في الجملة يعتبرون قدراً منها. نعم، هناك نوع من الأدلة لم يعتبره الجماهير كعمل أهل المدينة، فإن مالكاً وجملةً كانوا يقدمون هذا الدليل ويعتبرونه ويحتجون به، وجملة من الأئمة -كما نص عليه الشافعي وغيره أنهم- لا يعتبرون عمل أهل المدينة حجة. تنبيه: وأريد أن أنبه في مسألة ما يسمى بالأدلة المختلف فيها إلى أنه: لا يلزم أن يكون من نطق أو استعمل بعض هذه الأدلة أنه كان يراها حجةً لازمة؛ بل ربما اعتبرها حجةً محركةً إلى الحكم، مستظهرة له، أو لك أن تقول: إنها حجة ظنية، بل وربما استعمل من استعمل ما يتعلق بقول الصحابي أحياناً كما يفعله بعض الأحناف، وقد نص ابن تيمية على أن الإمام أبا حنيفة استدل بقول الصحابة في مسائل معروفة، وأن من نقل عنه من أصحابه أنه يعطل مسألة أقوال الصحابة تعطيلاً مطلقاً فإنه ليس شأنه كذلك. نعم، هو ربما جعل قول الصحابي ليس من باب الحكم وإنما من باب الترجيح. وهذه مسألة لابد من إدراكها لطالب العلم: أن بعض الدليل الذي يسمى دليلاً مختلفاً فيه، لك أن تستعمله إما من باب التحصيل به -أي: تحصيل الحكم به- وإما أن يكون من قرائن ودلائل الترجيح لهذا الحكم. فمثلاً: لو سأل سائل: هل عمل أهل المدينة حجة؟ قيل: الصحيح أنه ليس بحجة، وعلى هذا الجماهير من الأئمة، لكن المسألة إذا كان قدرها على قدر من عدم النص فيها، وصار ما قضت به عمومات الشريعة موافقاً لعمل أهل المدينة؛ صح لك وأنت ترجح في هذه المسألة أن تجعل من قرائن الترجيح أن أهل المدينة النبوية درجوا على هذا العمل في هذه المسألة، فهنا لم يقع لك استدلال مباشر أو تحصيل الحكم بعمل أهل المدينة، وإنما تحصل لك الحكم بجملة من الأدلة، ربما أن كل واحد منها لو انفرد لم يكن محركاً للتمام في الحكم، ولكنها لما اجتمعت صارت من باب القرائن والدلائل المجتمعة.

المسألة الثالثة: فقه المتقدمين وفقه المتأخرين

المسألة الثالثة: فقه المتقدمين وفقه المتأخرين لقد ظهر في هذا العصر بين كثير من طلبة العلم التعليق على مسألة: الفرق بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في علم الحديث والتصحيح والتضعيف، وما يتعلق بهذا العلم، وإذا تأملت ما يتعلق بشأن الفقه فإن هذه النظرية -إن صح أن تسمى كذلك- يمكن أن تكون نظريةً تستحق قدراً من الدراسة والنظر والاعتبار والمراجعة في ما يتعلق بالفقه، بمعنى: أن ثمة فرقاً بين فقه المتقدمين وبين فقه المتأخرين. وليس هذا من باب أن تقحم الأمة أو المجالس العلمية بفرضيات للمراجعة؛ بل هذا أمر من طبيعة الأحوال وضرورتها، فإنه لا يجادل أحد في أن فقه الأئمة المتقدمين أشرف أداءً وأوعى من فقه متأخريهم، فإن الإمام ليس كالتابع له، فهذا الفرق جزء منه يعتبر جزءاً ضروري الثبوت.

تخريج الأحكام على أقوال الإمام وقواعده

تخريج الأحكام على أقوال الإمام وقواعده إذا تأملت في مسألة الفقه، وما كتبه الفقهاء المتقدمون كالإمام الشافعي في رسالته، وما كتبه المتأخرون، أو طريقة التفقه بوجه عام؛ وجدت أن ثمة فرقاً بين فقه المتقدمين وبين فقه المتأخرين؛ ولاسيما إذا اعتبرت أن ما يتعلق بفقه المتأخرين مجمل جمهوره فيما سمي بالمذاهب الفقهية الأربعة، أو بالمذاهب الفقهية الخمسة، إذا أدخلت مذهب الظاهرية. بمعنى: أن الفقهاء المتأخرين هم في الجملة: إما حنفي، أو شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو ظاهري. وحتى يتبين لنا أن هذا التفريق له وجه محقق من جهة العلم يقال: هل الأئمة مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود بن علي رحمهم الله .. هل هؤلاء نصوا على سائر هذه المسائل الفقهية التي نص عليها أتباعهم؟ الجواب: قطعاً لا. هل هؤلاء في ما نصوا عليه من المسائل قد نصوا على دليل في ما ذكروه من الحكم؟ الجواب: لا. إذاً: فثمة قدر كبير من الفروع والمسائل التي أضيفت لفقه مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو داود بن علي وهو لم ينطق بها؛ ولذلك عرف الفقهاء في المذاهب الأربعة ما يسمى بالتخريج على أقوال الإمام، وعُرفت أوجه الأصحاب، بل عرفت المحتملات -وهي ما احتمل الفقه عند الأصحاب- وعرفت أقوال الأصحاب إلى غير ذلك. إذاً: إذا قرأت كتاباً من كتب الفقهاء، فهل هذا الكتاب محقق على قول هذا الإمام أم أنه ليس محققاً؟ ليس بالضرورة أن تكون سائر أقوال هذا الكتاب -وإن أضيفت إلى مذهب أحمد أو الشافعي أو مالك - وهي أقواله؛ ولذلك لما صنف ابن قدامة رحمه الله المقنع، وذكر أنه هو المختار عنده في مذهب الإمام أحمد، فإذا رجعت إلى ما كتب على المقنع مما قصد به تحرير مذهب الإمام أحمد أو تحرير مذهب الحنابلة، مثل كتاب الإنصاف؛ فإنك تجد أن صاحب الإنصاف يذكر خلافاً كثيراً على أكثر جمل المقنع: هل المذهب على هذا الوجه، أم على هذه الرواية، أم على الرواية الثانية؟ بمعنى: أنك تجد في فقه الإمام أحمد روايات كثيرة قد اختلف أصحابه أيها المذهب، هذا فضلاً عما نسبوه إليه من الرواية أو من التخريج على الرواية وليس قولاً له، فضلاً عما في كتب هذه المذاهب الأربعة وغيرها من الأقوال التي لا يضيفونها إلى الإمام، وإنما يجعلونها من تكميل المذهب، وهي أقوال أو أوجه للأصحاب. فإذاً: لا شك أن الأئمة لم ينصوا على كل هذه المسائل بالتنصيص، كما أن ما نصوا عليه من المسائل لم ينصوا على حكمه؛ ولذلك استدل الأصحاب لما نقل عن أئمتهم من الأقوال، ولذلك ربما ضعف عندك قول من الأقوال لأحد من المتقدمين من الأئمة لأنك تقرأ في كتاب فقيه متأخر: أن هذا القول بني على دليل كذا وكذا، فيكون هذا الدليل دليلاً ضعيفاً، فإذا قلت: إن هذا الدليل ضعيف؛ حكمت على القول بأنه قول ضعيف، وربما كان التحقيق: أن الإمام الذي قال هذا القول لم يبن قوله على هذا الدليل. ومن طريف المسائل -وإن كنت لا أحب أن أدخل في ذلك لضيق المجال-: أنه ربما استدل بعض الحنابلة المتأخرين بأدلة كان الإمام أحمد يشدد في إبطالها وردها وإنكارها من جهة إسنادها وروايتها، ولكنهم وجدوها في كتب السنة، أو في الرواية، أو كتب الأحكام خاصة؛ فاستودعوها أدلةً؛ لأنها من جهة متنها تدل على الحكم إما نصاً وإما ظاهراً وإما دون ذلك؛ وذلك لأن كثيراً ممن كتب في فقه المذاهب الأربعة لم يكن عالماً بالرواية والإسناد، وما يصح وما يضعف، فربما استدل المتأخرون لقول مالك أو أحمد أو غيرهم بدليل ضعيف، فيقال: إن هذا القول ضعيف؛ لأن دليله ضعيف. والحق: أن الإمام لم يبن القول على مثل هذا الدليل. بمعنى: أنك تجد أن الحنابلة استودعوا في كتب فقههم المتأخرة جملة ما ذكره أبو داود -صاحب الإمام أحمد - في سننه، وما ذكره سعيد بن منصور؛ فتجد أن غالب الأدلة في سنن سعيد بن منصور، أو سنن أبي داود، قد نزلها فقهاء الحنبلية على كتب فقههم، وعلى مفصل مسائلهم التي قدر كثير منها ما نطق به الإمام أحمد. هذا ليس من باب الظلم لهذه الكتب؛ لكنه من باب تحصيل الفرق بين طريقة المتقدمين وطريقة المتأخرين. إن الفرق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين ربما يقع امتيازه وتقع فروقه في خمس وقفات:

الفرق الأول: في مفهوم الدليل

الفرق الأول: في مفهوم الدليل قال الزهري رحمه الله: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد). هذه الكلمة لـ محمد بن شهاب الزهري -وهو إمام مدني متقدم مجمع على إمامته- تعطي إشارة إلى نوع من الفقه الذي كان عليه المتقدمون من الفقهاء الأوائل، ومعنى هذا: أن مفهوم الدليل عند المتقدمين كان عبارة عن فقه استقراء للشريعة، ولذلك فإن المتقدمين من الفقهاء وأولهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من بعدهم من التابعين والأئمة قد نصوا على مسائل الفقه، وتكلموا واطرد فقههم قبل أن كتبت ما يسمى بكتب أصول الفقه، بل حتى ما كتبه الشافعي في رسالته ليس عبارة عن نظم أصولي اطرادي على آحاد الفروع من جنس النظم الذي كتبه الغزالي في المستصفى أو البرهان لـ أبي المعالي الجويني، بل ما ذكره الشافعي في الرسالة فيه تفعيل لمسألة الفقه وشرحه، وربما تأتي الإشارة إلى مقصود الشافعي بذلك في الجملة. إن مفهوم الدليل عند المتقدمين لم يكن مجرد النص، فإنك إذا تقلدت النص على المسألة، وجعلت لذلك نظاماً: أن ما لا نص فيه من المسائل فإنه يرد إلى أصل عام، كالاستصحاب مثلاً، أو كالقول بالبراءة الأصلية، وربما أن ما لا نص فيه أدخله بعض المتشددين في الفقه في باب الاحتياط والإغلاق .. هذا لا شك أنه لم يكن فقهاً متقدماً، بمعنى: أن المتقدمين كانوا يأخذون النص، وكانوا يأخذون كثيراً من فقههم من قرائن الشريعة العامة، وهذا في الجملة هو الذي فات كثيراً من المتأخرين -إن لم يكن الأكثر من المتأخرين- التحصيل له، بمعنى: أن مالكاً والزهري والشافعي وأمثال هؤلاء كانوا على فقه لجملة أبواب الشريعة، وهو ما يسمى بفقه الاستقراء. وفقه الاستقراء يحصل بوجهين: الوجه الأول: من فقه القرآن والتدبر لكلام الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانوا عارفين بفقه القرآن من جهة أحكام القرآن نفسها، أو من جهة مقاصد التشريع في القرآن. الوجه الثاني: أنهم عارفون بمفصل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفقه الصحابة لهذه السنة، ولذلك مما درجوا عليه: أن كل باب من أبواب الشريعة؛ كباب الطهارة، أو باب الصلاة، أو الزكاة، تجد أن لهم قبل أن ينظروا -كما يصنع كثير ممن يطلب الفقه من المتأخرين- في آحاد المسائل الفقهية، يكون لهم نظر أول هو: تقعيد سبل الاستقراء. هذا النظر الأول هو عبارة عن فقه أو فهم مفهوم الشارع ومقاصده في هذا الباب من الشريعة، فتجد أن باب الزكاة مثلاً فيه أصول شرعية انضبطت، وتجد أن ما يحل من المأكولات وما يحرم فيه أصول قد انضبطت، فيقعدون هذه الأصول التي يحصلونها من القرآن، ومن مجمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ من فعله وقوله وتقريره، فتجد أن عندهم في كل باب من أبواب الشريعة جملةً من الأصول. ثم إذا دخلوا في مسألة الفروع لهذا الباب: فإذا كان الفرع فيه نص استعملوا هذا النص، ويكون هذا النص موافقاً لهذا الباب، وإذا لم يكن هناك نص لهذا الفرع؛ وذلك لأن التفريع الفقهي في الغالب لا يكون متناهياً؛ لأنه اعتبار للطارئ من أحوال المكلفين؛ ولذلك يقول الفقهاء: فإن ترك ركناً .. فإن ترك واجباً .. فإن سلم قبل أن يسجد للسهو .. فإن هذه أمور تعتبر مما يطرأ على المصلي؛ فيردون هذه الطوارئ -وهي الفروع الفقهية التي تشققت في كتب الفقهاء- إلى الأصول المقررة عندهم، بل صار من فقههم أنهم لو وجدوا حديثاً فرداً -أي: من آحاد الرواية على معنى المحدثين الأوائل لا المتكلمين- في باب، وإسناده ليس بذاك التام، ولم يعتبره أئمة الشأن من جهة الصحة، ولو قواه من قواه منهم، ووجدوا أن هذا الحديث يخالف ما يتعلق بأصول هذا الباب؛ وجدت أنهم يقدمون في الحكم اعتبار الأصول في هذا الباب على اعتبار دليل تفرد به من تفرد. مثال: عندما سئل الإمام أحمد عن زكاة حلي النساء، قال: (إن خمسةً من الصحابة يقولون: لا زكاة فيه). فهل مذهب الإمام أحمد: أن كل مسألة للصحابة فيها قول يلتزمه؟ الجواب: لا؛ لكنه يزيد المسائل؛ بمعنى: أنه وجد أن الأصل في باب الزكاة: أن ما يتعلق بأموال القنية والارتفاق في بني آدم كمنازلهم ولباسهم ونحو ذلك لا زكاة فيه، مع أن أجود حديث في هذا الباب هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده -على المشهور عند الجمهور- هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من أشهر المفتين من الصحابة بأن حلي النساء لا زكاة فيه، وإن كان المتأخرون في كتب الأصول يذكرون قاعدة: إذا خالف الراوي ما روى فإن المقدم عند الجمهور الرواية وليس الرأي، وربما قالوا: هذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد، خلافاً للأحناف الذين يقدمون الرأي على الرواية. وهذه قاعدة متأخرة ليست محكمة، وقد قدم الأئمة فتوى بعض الصحابة التي خالفت ما نقل عنهم من الرواية، بل ربما صار عندهم -كما هو عند أحمد وأمثاله من الأئمة المتقدمين- أن فتوى الصحابي بخلاف ما نقله عنه بعض أصحابه دليل عنده على عدم صحة هذه الرواية عنه، ولذلك لما سئل الإمام أحمد عن حديث طاوس عن ابن عباس في الطلاق وهو في صحيح مسلم: (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة). قال الإمام أحمد: أكثر الناس يروون عن ابن عباس خلاف هذا. فلما وجد أن الفتوى التي شاعت عن ابن عباس أنه استقر أصحابه في نقل فتواه على أنه يفتي أن طلاق الثلاث ثلاث؛ لم يعتمد الإمام أحمد هذه الرواية عن ابن عباس، مع أن مسلماً قد خرجها في صحيحه. وبهذا يتبين أن بعض تقعيدات المتأخرين ليست من التقعيدات الصحيحة، وما كان منها ممكناً فهو في كثير من الأحوال لا يكون لازماً. إذاً: مما يتعلق بمسألة الدليل هو هذا المعنى: التوسيع لمسألة الاستدلال عند المتقدمين على معنى فقه الشريعة، ونحن المتأخرون ندرك أنه ربما تعذر علينا أن نتصور هذا النوع من الدلالة التي لم تتحصل لكثير من المتأخرين؛ لأن الفرق بين التحصيل الذي كان عليه الأوائل يختلف عما حصله المتأخرون من الناس أكثر من أهل العلم منهم. إذاً: ما يتعلق باعتبار قواعد الشريعة وأصولها؛ نجد أن النووي أحياناً يحاول السلوك في مثل هذا المسلك، ونجد أنه يقول -مثلاً-: سجود السهو مبني على خمسة من الأدلة هي: سنة النبي فيرد مفصل أحكام السهو في الصلاة إلى هذه الأدلة الخمسة. وهذا نوع من القصد الحسن، لكنه لا يصل إلى تقعيد المتقدمين. إذاً: ينبغي على طالب العلم أن يقصد إلى فقه هذا الباب؛ حتى لا يقع في الاضطراب، بل يكون فقهه فقهاً مطرداً؛ وهو مراعاة قواعد الشريعة العامة والخاصة في باب من الأبواب. وأؤكد على كلمة الزهري لما قال: (ليس كل شيء نجد فيه الإسناد).

الفرق الثاني: في مفهوم الاستدلال

الفرق الثاني: في مفهوم الاستدلال سبق أن المتقدمين قد كتبوا علمهم أو قالوا فقههم قبل أن يرسم ما يسمى بعلم أصول الفقه على رسمه المتأخر المعروف، فما يتعلق بمسألة الاستدلال تجد فيه التفصيل بما يسمى بالأحكام التكليفية أو الوضعية. فمثلاً: قاعدة: الأمر يدل على الوجوب إلا إذا صرفه صارف. هذه القاعدة بوجهها العام لا إشكال فيها، بل إن الشافعي رحمه الله قد نص على هذه القاعدة، وقد قال ما يقارب هذا المعنى: أن الأصل في أمر الله ورسوله هو العزم واللزوم. ولكن تجد أن الإشكال في مذهب الاستدلال بهذه القاعدة، بمعنى: أنه قد يقع عند كثير من المتأخرين -ولاسيما من يميل إلى تعظيم الدليل، والأخذ بصريح السنن، والانضباط على القواعد- بغض فقه الاستقراء.

فقه الاستقرار وفقه السياقات

فقه الاستقرار وفقه السياقات وأنا أؤكد كثيراً على مسألة فقه الاستقراء وفقه السياقات وما إلى ذلك؛ لأن هذا هو مبلغ السلف في أصول الدين وفروعه. والمقصود بالاستقراء إما للشريعة بعامة أو لباب خاص منها، وفقه السياق هو ما يتعلق بسياق النص. ما يتعلق بسياق النص: تجد أن بعض الكلمات ربما صارت عزماً، مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وفي كلام الأصوليين أن من أدوات الوجوب (على)، وأن (على) تدل على الوجوب لمثل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غسل الجمعة واجب)، فكلمة (واجب) من اللزوم، وقوله: (على) أيضاً من اللزوم. ولذلك قالوا: ظاهر السنة أن غسل الجمعة يكون فرضاً على المكلفين، أو ربما قال من قال: لابد من صارف يصرف هذا الحكم عن الوجوب إلى الاستحباب. والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا تكلم بالكلمة هي في أصلها لم تدل على الوجوب، أما أن نقول: إنها دلت على الوجوب أثناء كلامه، أو قصد بها الوجوب ثم صُرفت صرفاً آخر، فإذا وصل الأمر إلى هذا الإدراك فهذا هو النسخ، بمعنى: أنك إذا قلت: إن الأمر مصروف عن الوجوب إلى الاستحباب، فمعنى هذا -كمقدمات أولى في العقل والفقه-: أن الأمر لم يتكلم به الشارع على سبيل الوجوب، ولكن الفاقهين لهذا النص أدركوا أن نبيهم لم يقصد الوجوب بهذا الدليل من تشبيه متقدم من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تشبيه مقارب لهذا النص. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه)؛ عُلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد أن الغسل واجب بمعنى أنه فرض حتماً؛ لأنه ذكر السواك والطيب؛ مع أن السواك والطيب ليس واجباً، وليس هذا من باب دلالة القرائن الضعيفة، بل هو من باب الاطراد في الحكم، بمعنى: أن الغسل والسواك واجب على كل محتلم، ويمس من الطيب ما قدر عليه، فهذا لم يذهب إليه أحد إلا من شذ في إيجاب السواك. إذاً: النص إذا استقرئ دل على أنه لم يقصد به الوجوب. إن مسألة الاستدلال -وهي النقطة الثانية في الفرق بين فقه المتقدمين والمتأخرين- طالب كثير من المتأخرين في هذا النوع من القواعد، مثل قاعدة: الأمر يدل على الوجوب، وقالوا: لابد من صارف خاص؛ ولذلك ربما قالوا في أمر كثير: إنه واجب. وفي نهي كثير: إنه محرم. مع أنك تجد أن جماهير المتقدمين بل وعامة الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنه قال: إن هذا الحكم واجب. وربما ستر البعض عدم فقهه وعدم استقرائه فقال: نحن متعبدون بالنص، ولسنا متعبدين بأقوال الرجال. والحقيقة أن البحث لم يصل إلى هذا السؤال: هل نحن متعبدون بالحق أو متعبدون بأقوال الرجال؟ لأن هذه مسألة متفق عليها، وإذا كنت تقول: إننا متعبدون بالحق، فالمتقدمون أولى هنا بهذه المقولة، وهم أولى منا فقهاً وإدراكاً وتحقيقاً في اتباع الكتاب والسنة، وعدم اتباع أقوال الرجال. هذه القاعدة الإيمانية لا يمكن أن تفهم بهذا الأسلوب إلا إذا ناسب لها المقام، فمثلاً: إذا ظهر شخص متعصب، أو مقلد تقليداً أعمى استعملت معه هذه القاعدة، كما قال ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، وقد قال هذه الكلمة في صورة خاصة، ولم يكن ابن عباس في كل خفض ورفع، أو في كل فتوى يقدم بين يدي فتواه أن يقول: (توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، إنما قالها في مسألة قد أظهر ابن عباس للسائل فيها الدليل الصريح، فلم يقدِّر هذا الدليل حق قدره، فقال ما قال رضي الله تعالى عنه. أما أن تكون هذه المقولة مقدمة بين يدي الفتوى والمسائل، فهذا لم يكن شأناً للسلف ولا للصحابة رضي الله تعالى عنهم. إذاً: مما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أن هناك أموراً كثيرة في الشريعة لا تكاد تجد أن صارفاً خاصاً -أي: نصياً- قد صرفها عن الوجوب، ومع ذلك الأضبط بل ربما أجمع العلماء على أنه ليس واجباً، وأن هذا النهي ليس محرماً، وإن قلت: إن الإجماع لم ينضبط. فربما صح لك هذا، لكن إذا ورد عليك السؤال: من قال من المتقدمين بالوجوب أو التحريم؟ ربما تجد أنه يعوزك التحصيل أن تجد إماماً متقدماً من الصحابة أو التابعين ونحو طبقتهم نطق بالوجوب أو بالتحريم. فهذا مما ينبغي أن يعالج فقهاً، لا أن يرد إلى قواعد ليست هي محل الجدل هنا، وهي القواعد الإيمانية. نعم، هي الأصل، لكنها تستعمل في حق من يتعصب لمذهب أو لقول فقهي، أو حتى لقول صحابي ويدع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا يقال له: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أما أن يقال هذا كمنهج عام فلا. ومما يتعلق بمفهوم الاستدلال: أنه ربما يظهر لك في مسألة ما أنها مما ليس عليه دليل، مثلاً: ما يتعلق بكون المرأة إذا طهرت من الحيض في وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر. تنبيه: كل مسألة أذكرها ليس المقصود منها الانتصار أو الترجيح لمذهب على آخر، أو أن هذا غلط وهذا صواب. إنما المقصود أن نصل إلى قدرٍ كافٍ من التفقه فيما نحن بصدده. أقول: نجد أن الجمهور من أهل العلم الأوائل ذهبوا إلى أن المرأة إن طهرت في وقت العصر فإنها تصلي الظهر، مع أنك إذا نظرت إلى الدليل المفصل، أو ما نسميه بالنص أو بالإسناد الخاص -كما قال الزهري - لا تجد إسناداً خاصاً على أن المرأة يلزمها أن تصلي الظهر وقد طهرت في وقت العصر، لكن الإمام أحمد لما سئل عن هذا القول قال: عامة التابعين على هذا القول، إلا الحسن. كما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس الطائفي في السنن، في قصة مجيئه إلى عرفة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا قبل حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه)، وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوقوف بعرفة لا يكون مجزئاً إلا من بعد زوال الشمس، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلاً أو نهاراً). وقال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وهو في الحج، ففعل فعلاً فقال عامة أصحابه ومن اتبعهم من الأئمة: إن هذا فرض، وأصل في الحج. وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا واجب في الحج. وفعل فعلاً آخر فقال جمهور أصحابه ومن بعدهم: إن هذا مستحب في الحج. مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما نطق بالتصريح على أن هذا واجب أو ركن أو مستحب، وهذا من باب -كما قلت- فقه الاستقراء، وفقه مقاصد وأبواب العبادات. لكن لما جاء ابن حزم رحمه الله -مع شرف علمه وديانته وفضله- وأخذ الأمور على ظواهرها، ووجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في سياق آيات الحج: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، قال: إن الله قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198]، فنص على ذكره عند المشعر الحرام؛ فدل ذلك على أن ذكره في هذا المقام فرض واجب؛ لأنه وقف مثل هذه الوقفة التي ربما ظن من ظن أنها نوع من الاستمساك بعروة الدليل، والحق أنها ليست استمساكاً محققاً؛ ولذلك لم ينتحل هذا الفقه في جمهور أمره عامة الصحابة أو جمهورهم رضي الله تعالى عنهم.

الفرق الثالث: في اعتبار القرائن

الفرق الثالث: في اعتبار القرائن الأئمة المتقدمون لسعة علمهم يعتبرون القرائن في الحكم. فمثلاً: من فقه المتقدمين ما يتعلق باستصحاب أصل في الباب، كقولهم مثلاً: إن الأصل في العبادات التوقيف أو الحظر، وإن الأصل في المعاملات الحل. أيضاً: استصحاب ما يتعلق بقرائن تقود إلى ترجيح حكم على آخر، مثلاً: إذا وجدوا أن هذا الدليل قد ذهب إلى مدلوله أو حكمه الأكثر من الصحابة، أو أن أبا بكر وعمر كانوا يفتون به، فربما قووا حديثاً فرداً وانتصروا له، في حين أنك إذا أخذت المسألة أخذاً -إن صح التعبير- رياضياً؛ تجد أن هناك حديثاً آخر هو أقوى من جهة التحصيل الرياضي أو التحصيل العلمي المجرد بمسائل الإسناد والرواية، وربما كان أصرح منه دلالة؛ ومع ذلك تجد أن المتقدمين أخذوا بما هو عند التجريد أقل دلالة. لماذا؟ لأنه وافق عمل الصحابة، والثاني خالف فتوى الصحابة. أضرب لذلك مثلاً: مسألة الطلاق الثلاث: تجد أن الأئمة الأربعة بل والجمهور، وكما قال ابن رجب -وإن كان قد بالغ-: اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل الطلاق الثلاث واحدة. فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة يقولون: إنه قول طائفة من السلف. المقصود: أنه بالقطع أن قول الجماهير من المتقدمين أن طلاق الثلاث ثلاث، مع أن مسلماً روى عن ابن عباس من رواية طاوس ما تقدم: (كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كان لهم فيها أناة، فلو أمضيناه عليهم)، فهنا الجمهور لم يعملوا برواية طاوس عن ابن عباس. فهل هناك نص صريح من القرآن أو السنة أن طلاق الثلاث ثلاث؟ أو هل هناك نصح صريح على المعتاد بالتصريح عند المتأخرين؟ لا. ومع ذلك تجد أن الجماهير درجوا على هذا، ومن المتأخرين من قال: إنهم قلدوا عمر، وهذا ليس بالمحكم؛ لأن عمر لو صحت الرواية لكان فعله من باب التعزير وليس من باب الاستقرار الحكمي، ولا يمكن أن يقلدوا عمر في تعزيره ويدعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الماضية الصالحة لكل زمان ومكان. في حين أن مسألةً أخرى من رواية ابن عباس، كما روى أبو داود وغيره عنه أنه قال في الحج: (من ترك نسكاً فليهرق دماً)، تجد أن الأئمة الأربعة والعامة من أهل العلم درجوا على أن من ترك واجباً في الحج فعليه دم .. وهل هناك نص من الكتاب والسنة أن ترك الواجب فيه دم؟ الجواب: ليس هناك نص صريح، لكنهم اعتبروا قول ابن عباس، وصار الإمام أحمد وغيره إذا سئل عن هذه المسألة أجاب بقول ابن عباس، فلماذا تواردوا على قول ابن عباس؟ لأن هدي الصحابة وقرائن الشريعة قضت به، ولذلك ذكر ابن تيمية في منهاج السنة النبوية أن قواعد الشريعة قضت بما قاله ابن عباس، قال: فإن كل واجب فعلي في الشريعة في أفعال العبادات كالصلاة ونحوها لابد فيه من جبران، فكما أن الصلاة تجبر بسجود السهو، فإن الجبران في مسائل الحج هي الدماء. هذا نوع من اعتبار ما يسمى بفقه القرائن، ولذلك ربما تعجب متعجب من المتأخرين أو بعض طلبة العلم وقال: كيف ذهب الأئمة الأربعة أو الجمهور من المتقدمين إلى مسألة مع أننا لا نجد فيها دليلاً؟ الحقيقة أن فيها دليلاً لكنه ليس نصاً، وربما تعجب من تعجب فقال: كيف ترك الأئمة المتقدمون أو جمهورهم هذا النص الذي صح بظاهر إسناده كحديث طاوس عن ابن عباس؟ قلنا: هذا من باب اعتبار الفقه بالقرائن.

الفرق الرابع: في مفهوم الترجيح

الفرق الرابع: في مفهوم الترجيح مفهوم الترجيح عند المتأخرين، ولاسيما أصحاب المذاهب الأربعة -وقيل الخمسة- هو نوع من الانتصار، وهو نوع من أن قولهم يكون صحيحاً، وأن قول من خالفهم يكون غلطاً؛ ولذلك تجد أنهم يقولون: الرد على دليل المخالف، أو الجواب عن دليل المخالف. وهذا -مع الأسف- انتظم في الأكاديميات العلمية الآن، فإذا ذكرت أقوال المذاهب الأربعة فقلت: إن الشافعية على قول، والمالكية على قول، والأحناف والحنابلة على قول، ثم رجحت قول الشافعية مثلاً، يلزمك أن تجيب عن كل أدلة الحنابلة والحنفية والمالكية! ولذلك ربما عبر بعض طلبة العلم أحياناً بقوله: والراجح كذا، وأما القول الآخر فلا دليل عليه. إنه إذا انضبط قول من أقوال المجتهدين الأوائل، وليس هذا القول شاذًا؛ لا يمكن أن يكون ليس عليه دليل، وليس معنى هذا أن هذا القول عليه دليل وذاك القول عليه دليل والشريعة متعارضة .. لكم المقصود أنه دليل يقبل الاستدلال به، أما أنه دليل يصح أو لا يصح فهذه مسألة أخرى .. إذاً: القول الذي يجوز لك أن تقول: إنه لا دليل عليه. هو ما كان بدعة، كقولك: قول المعتزلة في صاحب الكبيرة قول لا دليل عليه، ومثله إذا كان قولاً فقهياً شاذاً فإنه يسعك أن تقول: وهذا القول الذي خالف العامة من أهل العلم قول لا دليل عليه. أما أن تأتي بالترجيح -كما يصنع كثير من المتأخرين- فيرجح مذهباً من المذاهب الأربعة، أو قولاً لغير المذاهب الأربعة، ثم يقول: والقول الآخر لا دليل عليه. مع أن القول الآخر ربما عليه جمهور من الأئمة المتقدمين، فهذا نوع من الحمق الفقهي! إذ لا يمكن أن يذهب الجمهور من المتقدمين إلى مذهب ثم يقال: وهذا القول ليس عليه دليل. أما المتقدمون فإنهم يفهمون الترجيح على أنه نوع من المؤانسة أو الاستظهار في التقديم لقول على آخر؛ ولذلك لم يظهر عندهم الإنكار الشديد في جمهور ما اختلفوا فيه؛ إلا أن يكون المخالف خالف نصاً وسنةً، فهنا ينكرون عليه، كما هو معروف في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ فقد كانوا يدركون مسألة الخلاف على هذا الوجه. إذاً: فرق ما بين المتقدمين والمتأخرين في مفهوم الترجيح: أن الترجيح عند المتأخرين نوع من العزم اللازم الذي معناه: تصحيح القول المرجَّح وإبطال أو إسقاط أو تفريغ غيره من الدليل، أما عند المتقدمين فما كان شأنهم على هذا إلا في مسائل خاصة قد ظهرت سنتها وبان دليلها بياناً واضحاً.

الفرق الخامس: في مفهوم الخلاف

الفرق الخامس: في مفهوم الخلاف كل من المتقدمين والمتأخرين -من حيث الجملة- يعرف الخلاف، لكن هناك فرق في وعيهم لدرجة الخلاف، فالمتقدمون يعرفون درجة الخلاف، بمعنى: إذا قال الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو ابن مهدي قولاً، فإنهم يعرفون نسبة القائلين بهذا القول من الأئمة، وإذا خالفوا قولاً فإنهم يعرفون نسبة هذا القول من المخالفين. أما المتأخرون فغلب عليهم -ولنا أن نصطلح كتمييز- معرفة الخلاف أكثر من معرفتهم بدرجته: وما الفرق بين معرفة الخلاف ومعرفة درجة الخلاف؟ إن من يعرف الخلاف يعرفه معرفةً مجملة، أي: يعرف أن هذا قول وأن القول الآخر كذا وكذا، لكن .. القول الآخر من قال به؟ فإن مسألة اعتبار القائلين مسألة لابد منها .. أو القول الآخر ما مبناه؟ فإنه أحياناً يكون القول الآخر عليه جمهور من الأئمة، ويأتي فقيه فيستدل لهذا القول الذي عليه جمهور من الأئمة بدليل ضعيف أو بدلالة ضعيفة، فيأتي المرجِّح ويبطل قول هذا الجمع من الأئمة؛ لأن فقيهاً مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً متأخراً قد نصر هذا القول بطريقة يُعلم أنها غلط. فإذاً: اعتبار الإدراك لدرجة الخلاف لابد منه. هذه خمسة مميزات للفرق بين فقه المتقدمين وفقه المتأخرين، وهي نوع من فتح هذه المسألة للدراسة والمراجعة في تحقيق الفرق بين فقه المتقدمين والمتأخرين. وفي مسألة الترجيح لك أن تشير إلى أن المتقدمين لم يكن عندهم باب التقليد والتعصب، وإنما كان عندهم باب الاعتدال .. باب الاتباع .. باب سؤال أهل الذكر .. باب اقتداء المفضول بالفاضل إلى غير ذلك، أما المتأخرون فمما نقصهم من الفقه: أنه غلب عليهم التعصب والتقليد، ولا شك أن التعصب والتقليد مذموم، وهذا سيأتي في المسألة الرابعة وهي: التمذهب.

المسألة الرابعة: التمذهب

المسألة الرابعة: التمذهب لقد تكونت في الأمة عدة مذاهب، ولكن الذي انضبط في ما بعد هي المذاهب الخمسة التي أشرت إليها سابقاً، ثم جاء -ولاسيما بعد القرن العاشر- من صرح بنقد التمذهب، ونحن نقول: هل التمذهب نوع من التدين أم أنه نوع من الترتيب العلمي؟ لقد كان التمذهب في أصله ترتيباً علمياً، بمعنى: أنك إذا قلت: إن فلاناً من الشافعية، أو الحنفية، أو إن ابن عبد البر مالكي، فإن معنى ذلك: أنه على أصول الإمام مالك في الاستدلال؛ لأنه سبق معنا أن الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع، ثم ما يسمى بالأدلة المختلف فيها. فهذا معنى التمذهب بصورته العلمية السائغة الذي هو من باب التراتيب العلمية، أي: أن جماعةً من أهل العلم اختاروا أصول فقه الشافعي، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه أحمد أو أهل الحديث من البغداديين ونحوهم، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه الإمام مالك .. وهكذا. فإذا فهم التمذهب على هذا الوجه فهو من باب التراتيب العلمية .. وهل هذا هو الذي وقع في التاريخ أم أن الذي وقع هو التعصب؟ نقول: لقد وقع في التاريخ هذا وذاك، فكما أن ثمة محققين من أصحاب الأئمة الأربعة يسمون مذهبيين، على هذا المعنى السابق الذي ليس هو من باب التدين والتعصب، وإنما من باب التراتيب العلمية والاختيار في الاجتهاد، فكذلك وُجد المتمذهبون المتعصبون. ولذلك إذا قيل: هل ينكر التمذهب أو لا ينكر؟ قيل: بحسب المقصود: أما من ينكر التمذهب جملةً وتفصيلاً فيقول: إنه لا يجوز لعالم أن يقول: إنه حنبلي أو شافعي، حتى وإن قصد أنه يختار أصول الاستدلال عند الشافعي ويقدمها على أصول الاستدلال عند مالك، بمعنى: أنه مثلاً لا يستعمل إجماع أهل المدينة، خلافاً للمالكي الذي يستعمل إجماع أهل المدينة، فيبني فقهه على أصول الإمام الشافعي، فإن هذا التمذهب بهذا المفهوم بدعة أو ضلالة. فهذا تقحم في المسائل فيما يظهر. لماذا؟ لأنه يخالف إجماع الأمة في قرون مضت؛ لأنك وإن قلت: إنه وجد من العلماء من لم يتمذهب، فإنه لم ينقل عن عالم في جملة من قرون الأمة أنه صرح بإنكار التمذهب على هذا المفهوم. ثم إن التمذهب بهذه الصورة والذي هو اقتفاء بعض أصول الفقه عند فلان أو فلان، لم ينشأ مع المذاهب الأربعة، بل نص الشافعي في رسالته وقال: كان كثير من المكيين أو أكثرهم لا يخرجون عن قول عطاء، وكان كثير من أهل المدينة لا يخرجون عن قول سعيد بن المسيب، ثم لما ظهر فيهم مالك واشتهر علمه بدؤوا يتبعون الإمام مالك، قال: وكان أهل العراق يأخذون بقول النخعي. فكان هذا أمرًا معروفًا عند العلماء، ولذلك إذا قرأت في كتب العلم المطولة، أو ما يتعلق ببعض الفقهيات؛ تجد أن مالكاً في الموطأ أو في جواباته في المدونة ربما علل كثيراً من جوابه بقوله: أدركنا العلماء على ذلك .. وهذا ما مضى عليه شيخنا .. لم يذكر أحد من أهل العلم يقول بذلك. فالاقتداء بهذا المفهوم على نوع من الاجتهاد والتقديم لأصول إمام على إمام لا بأس به، وقد شاع في قرون المسلمين. أما إذا تحول التمذهب إلى أن هذا المذهب هو الراجح وما عداه يكون مرجوحاً، أو تقديم قول الحنابلة على الشافعية مطلقاً، أو التعصب، أو هجر السنن النبوية تقديماً للمذاهب الفقهية؛ فلا شك أن هذا تمذهب مذموم في شريعة الله، وبإجماع أئمة المسلمين المتقدمين.

المسألة الخامسة: أسباب الخلاف

المسألة الخامسة: أسباب الخلاف هناك أسباب للخلاف معروفة وشائعة، كقولهم: إن من أسباب الخلاف: أن يكون الحديث صح عند إمام ولم يصح عند الآخر، أو بلغ هذا ولم يبلغ هذا إلخ. هذه أسباب عامة معروفة؛ ولكن الذي أحب أن يكون من عناية طالب العالم -ولاسيما الدارس للفقه- أن يتبين في سبب خلاف العلماء المتقدمين، فإن كثيراً من اختلافهم يكون مبنياً على سبب، وربما كان هذا السبب نوعاً من الغائب في الطريقة الفقهية المعاصرة، أو ربما كان هذا السبب مما لا يقدَّر قدره. مثال ذلك: إذا تكلمت عن خلاف الأئمة الأربعة، أو غيرهم ممن قبلهم أو ممن تقدمهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين؛ وجدت أن سبب الخلاف هو التردد في كون هذه المسألة من باب النص، بمعنى: أنهم يتفقون على نوع من الدلالة في هذه الآية أو في هذا الحديث، ولكن لا يكون هذا عندهم من باب النص، وربما دخله شيء من التردد في درجة الحكم من جهة الوجوب أو عدم الوجوب؛ وذلك مثل كثير من اختلافهم في مسائل الحج، فإنك تجد أن بعضهم كان يذهب إلى لزومها، وبعضهم يذهب إلى أنها من باب المستحبات، مع أنك لو أجريت بعض الطرق الأصولية المتأخرة التي نظمها الأصوليون؛ لربما تحصل لك أن القول البيِّن هو مع أحد هؤلاء، مع أن حقيقة المسألة قد لا تكون بهذا البيان أو هذا الظهور. وفي الجملة: أنهم إذا اختلفوا -أعني: الأئمة المتقدمين من الفقهاء والمحدثين- فإن الغالب على هذا الخلاف أن يكون له محرك وسبب يقضي به، وإذا اعتبرت هذه القاعدة العامة -ولاسيما إذا كان الخلاف ليس شاذاً- تحصل لك أن مسألة العزم على أقوالهم بالإبطال في غير ما اخترت أو رجحت، أو ما إلى ذلك؛ ليس من باب الفقه أو من باب الحكمة.

المسألة السادسة: مراتب الخلاف

المسألة السادسة: مراتب الخلاف كثيراً ما يقال: إن الفقه طويل. وكثيراً ما يقال: إن التتبع والدراسة لآحاد مسائل الفقه يطول، وهذا كلام صحيح؛ ولكن قد نستعمل أحياناً طرقاً ونظن أنها هي الطرق الصحيحة الوحيدة، ولك أن تقول: إنها طرق صحيحة، لكن قد تكون طرقاً مثالية، وقد تكون أحياناً ليست مثالية بل افتراضية في دراسة مسائل الفقه، وهي: أن تتبع كل مسألة من مسائل الفقه بالدراسة والتدقيق والتحقيق والترجيح إلى النهاية، هذا افتراض،، إن لم يكن على أقل درجاته أنه مثالثًا، بل ربما كان من باب الافتراضات، وليس من باب المثاليات الممكنة. وفي ظني أن مسائل الفقه -من باب التقرير للتعامل مع الفقه والتعامل مع الخلاف الفقهي- يمكن أن تصل إلى خمسة أنواع: النوع الأول: مسائل أجمع عليها الفقهاء: وهذه لا ينبغي الإكثار والتردد في التشكيك في شأنها أو في أدلتها؛ لكونها محسومة بنص وإجماع، وهذه منتهية بالنسبة لطالب العلم. النوع الثاني: المسائل التي فيها ما يقارب الإجماع: وهي ما يعبر عنها الفقهاء -كـ ابن قدامة وغيره- بقولهم: لا نعلم فيها خلافاً. وربما قال بعض المتقدمين: أدركنا الفقهاء من أهل العلم يقولون بها. كما يقوله مالك، وإن كان في الغالب يقصد المدنيين أو ربما الحجازيين. ولكن يوجد في كلام الترمذي أحياناً ما يشابه الإجماع وليس إجماعاً، بمعنى: أنه يُعرف أن ثمة خلافاً، ولكن هذا الخلاف أشبه ما يكون بالخلاف الشاذ، أو الخلاف الفرد، مثل تفرد القاسم، أو عطاء، أو الحسن البصري عن جمهور أئمة التابعين بقول ما، ومع ذلك يقول بعضهم: لا نعلم فيه خلافاً .. ونحو ذلك، وتجد أن ثمة استطراداً في هذا النوع من المسائل، وليس بالضرورة أن هذه هي القاعدة اللازمة، لكن الأصل فيه: أن الصواب يكون مع العامة من أهل العلم. وكقاعدة عامة: أن ما كان الخلاف فيه شاذاً، فإنه في الجملة لا يمكن أن يكون الصواب مع من شذ عن عامة العلماء. إذاً: هذه مسائل -إن صح التعبير- قد كفيت شرها. النوع الثالث: ما فيه خلاف لا نسميه شاذاً، وإنما نسميه خلافاً محفوظاً، ولكنه يخالف قول الجماهير: هذه المسألة لا يجوز لأحد أن يقول: إنه يرجح فيها قول الجمهور مطلقاً؛ بل ربما أصاب الجمهور وربما أخطئوا، لكن من قرائن الترجيح: أن القول إذا ذهب إليه جمهور الأئمة المتقدمين، ولاسيما إذا اختلفت أمصارهم واتفق أصلهم؛ كـ الليث بن سعد في مصر، والأوزاعي في الشام، والثوري في العراق، ومالك في المدينة والحجاز -هؤلاء الأربعة يسمون أئمة الدنيا في زمانهم- فإذا وجدت أن جمهور المتقدمين مع اختلاف أمصارهم ذهبوا إلى مذهب؛ ففي الغالب وفي الجملة أن هذا المذهب يكون هو الصحيح، وقد نص ابن تيمية على هذا وقال: تأملت مسائل الشريعة فظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من المتقدمين، ولاسيما إذا اختلف مصرهم؛ ففي الجملة هو الصحيح .. قال: وهذا معلوم بالعقل والشرع، فإنه يتعذر -ولاسيما إذا قيدت مسألة اختلاف المصر- أن يفرض فارض ويقول: لعل الحديث لم يبلغ المدنيين، فأنت تقول: هؤلاء مدنيون وحجازيون وعراقيون وشاميون. بل نص على ذلك الكثير. وممن أشار إلى ذلك -ولا أجزم أنه نص عليه على التقضية به- الإمام الشافعي، فإنه قدم اختيارات له في الرسالة، وعلل تقديمه لهذا القول بأنه عليه الأكثر. وتجد أن الإمام الترمذي في سننه ربما قدم بعض الأحكام، وأشار إلى أن هذا هو الذي عليه الأكثر من أهل العلم. فالاعتبار برأي الأكثر لا نقول: إنه لازم، وإنما نقول: هو أحد قرائن الترجيح القوية، بمعنى: أنك لا تخرج عنه إلا وأنت متدين، وإذا خرجت عنه متديناً فإنك لا تذم هذا القول. النوع الرابع: ما كان من الخلاف قد شاع واشتهر: ولا تستطيع أن تقول: إن الجماهير من المتقدمين من الفقهاء والمحدثين لهم قول، إنما لك أن تقول: إن الخلاف هنا خلاف شائع مشروع؛ فإنك تجد أن المدنيين أو الحجازيين اختلفوا، والعراقيين اختلفوا، والشاميين اختلفوا، بل الصحابة اختلفوا، فما كان من هذا النوع، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً بيناً، وشاع خلافهم في الأمصار، ففي الجملة -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- أن هذا النوع من المسائل لا شك أنك بحاجة إلى ترجيح فيه، حتى العامي بحاجة إلى ترجيح ليعمل بأحد القولين، لكن المقصود: أنك إن رجحت هذا القول أو هذا القول فلا تبالغ في الانتصار. مثال: تحية المسجد في وقت النهي .. هذه مسألة قد شاع الخلاف فيها شيوعاً قوياً، وكان ابن تيمية -وهو من فضلاء المتأخرين المحققين- قد نص على أنه كان متوقفاً في شأنها، وبعض الأئمة المتأخرين كـ الشوكاني قال: أفضِّل أن الإنسان لا يقصد دخول المسجد في وقت النهي حتى لا يقع في الإشكال. إذاً: ما كان فيه الخلاف مشهوراً فرجح فيه ترجيحاً هادئاً بارداً ولا تبالغ في المسألة. وفي ظني أن هذا النوع من الخلاف ينبغي إشاعته بين المسلمين، إلا إذا اقتضت مصلحة شرعية في مصر من الأمصار أن لا يشاع، أما إذا كانت المصلحة لا تعارض ذلك، فهذا النوع من الخلاف ينبغي أن يكون مألوفاً شائعاً، وقد كان الخلاف مألوفاً شائعاً زمن المتقدمين من الصحابة والتابعين، ولم يكن التعصب والتقليد لآحاد الرجال معروفاً بينهم. النوع الخامس: فروعات الفقهاء المتأخرين، المحتملات في المذهب أوجه الأصحاب: فعلى طالب العلم أن لا يجهد نفسه فيها، ولاسيما في أول طريقه فيها حتى يستقر فقهه للخلاف؛ لأنها مسائل كثيرة ولا تتناهى. وهنا في هذه المسألة كلمة أخيرة: أن من أهم الفقه -فيما أظن ويظهر- الذي يحصله طالب العلم: أن يفقه الخلاف، فمن الجيد أن طالب العلم خلال سنتين أو ثلاث أو أربع، يدرس في مذهب متن فقهي كالزاد وغيره، لكن المهم أن يعرف الخلاف، وليس فقط أن يعرف متناً فقهياً كتبه متأخر في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، على رأي واحد، داخل مذهب واحد، فهو قد كفي الربط، وما إلى ذلك من التطويرات، لكن المعرفة بالخلاف جزء كبير من الفقه، وقد كان بعض المتقدمين يقول: من لم يعرف الخلاف لا يحل له أن يفتي.

المسألة السابعة: الترجيح

المسألة السابعة: الترجيح قد تكلمنا فيما سبق عن الترجيح، وكان مما أشرنا إليه أنه ينبغي في الترجيح أن يكون هناك عقل، وليس عزماً وإبطالاً لأقوال الناس، إلا إذا خالفت سنناً بينة.

المسألة الثامنة: الاجتهاد والتقليد

المسألة الثامنة: الاجتهاد والتقليد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران)، فقد أقر الشارع الاجتهاد، بل قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر). إن هناك -أحياناً- تقارباً بين الاجتهاد والتقليد، أو تقابلاً بينهما، وقد تجد أن البعض يفهم من الاجتهاد ما نظمه الأصوليون بأنه لابد أن يكون المجتهد عارفاً بالناسخ والمنسوخ، والحلال والحرام، واللغة إلى غير ذلك، مع أن هذا هو نوع من الاجتهاد الأول الذي يكون لأصحاب المقام الأول من الفقهاء والحاكمين في مسائل النوازل ونحوها، لكن هناك قدر من الاجتهاد وهو النظر في الترجيح وما إلى ذلك، فينبغي أن يكون هناك استفصال في مسألة الترجيح السائغة، وفي مسألة الاجتهاد السائغة، وفي مسألة التقليد الذي ربما يكون جائزاً لبعض العامة أو نحوهم ممن لم يسعه التحصيل باجتهاد أو نظر.

المسألة التاسعة: فقه التيسير والتشديد

المسألة التاسعة: فقه التيسير والتشديد إن الدين الإسلامي كله يسر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في البخاري وغيره: (إن هذا الدين يسر)، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. ثم إن هذا الاصطلاح: فقه التيسير وفقه التشديد، فيه نظر. وكأن التيسير يقابل التشديد، لكن ربما اعتذر عن ذلك أنه في باب التقابل، فيسهل الأمر. إذاً: الأصل في شأن الأمة هو التيسير، لكن ينبغي أن لا يكون التيسير مخالفاً للسنة؛ لأن الشارع لما قال: (إن هذا الدين يسر) قال بعدها: (فسددوا)، ومعنى السداد: إصابة الشيء، تقول: تسدد السهم، إذا أصاب غرضه وهدفه. والمعنى: أي: تقصدوا الحق واقصدوه وانتهوا إليه، ولكن لعلمه عليه الصلاة والسلام أن تحصيل الحق في كل جزئيات الشريعة قد لا يلزم أن يكون بيناً بياناً تاماً قال: (فسددوا وقاربوا)، فالمسألة مسألة مقاربة. فإذا ما فسر التيسير بالتسديد، أو باتباع السنن والآثار وهدي الأئمة المرضيين، مع قصد من المقاربة والتخفيف على الناس، وتحصيل فقه الشريعة؛ فإن هذا هو التيسير الشرعي، وهو محمود ولا يجوز ذمه لسبب من الأسباب. أما إذا استعمل التيسير على معنى المراعاة لأمور ما كان من مقاصد الشريعة أن تراعى؛ فلا شك أن هذا تيسير بعيد عن الشريعة، وهو ليس منها، والشريعة منه براء.

المسألة العاشرة: الفتوى بالاحتياط

المسألة العاشرة: الفتوى بالاحتياط وأخيراً أنبه إلى مسألة: الفتوى بالاحتياط. هذه المسألة لم تكن محمودةً عند الأئمة، فإن بعض الناس إذا لم يكن عارفاً بالحكم أفتى العامي أو السائل بالأحوط، مع أن هذا الأحوط قد يكون حرجاً. وهنا سؤال: هل بالضرورة أن الاحتياطات دائماً هي أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر؟ الجواب: لا. فقد يكون الشارع ما أوجب زكاةً -مثلاً- على النساء في الحلي، وأنت تقول: بل فيه زكاة. فبعض الناس يظن أن الاحتياط هو الديانة، وهذا ليس بصحيح؛ فإن الاحتياط ليس ديانةً، إنما الديانة قصد الديانة بحسب ما يظهر لك من الدليل، ثم إن الأبواب مختلفة، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن اليهود لما ضيق عليهم الأحبار مسائل المعاملات وحرموها، لجئوا إلى صريح المحرمات؛ ولذلك استعملوا الربا وقالوا: إنما البيع مثل الربا. نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يرزقنا الاتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بحكمه وبقضائه عليه الصلاة والسلام. كما نسأله بأسمائه وصفاته أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

§1/1