دروس الشيخ محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

مراتب القضاء والقدر

مراتب القضاء والقدر باب القدر من الأبواب التي لا يجوز أن يتكلم فيها إلا من أتقنها وعلم ما يزيل إشكالاتها، وقد زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وإن مما يعين على فهم مسائل القدر معرفة مراتبه، فمعرفتها مهمة لكل مسلم، ليطرد بها وساوس المبتدعة وشبهاتهم.

بيان أهمية القدر

بيان أهمية القدر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني الكرام لقد مايز الله بين عباده وبين خلقه بالإيمان بالغيوب، فإن الله جل في علاه أناط الفلاح، وأناط النجاة في الآخرة بالإيمان بعلم الغيب، قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، ثم فسر صفات المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، ثم ذكر الله جل في علاه الفلاح في آخر الآيات: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، فأناط الفلاح بالإيمان بالغيوب، والإيمان بالغيب له آلات وأدوات، وسبل وأنواع، لا بد للإنسان أن يتعبد لله جل في علاه باليقين في الله والإيمان بهذه الغيوب، ومن هذه الغيوب القدر، فالقدر من علم الغيب، وهو سر قد كتمه الله جل في علاه عن كل الخلق، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولذلك فهو دحض مزلة لا يدخل ولا يتعمق فيه أحد إلا ضل، وقد ضلت أفهام وزلت أقدامٌ في هذا الباب العظيم الشائك. قال الإمام أحمد بن حنبل: القدر سر كتمه الله عن خلقه، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل. إن القدر: هو قدرة الله، وهو من لوازم ربوبية الله جل في علاه، ونحن بإذن الله سندرس وننتقي مسائل مهمة جداً في مسائل القدر، وهي مسائل شائكة، لكن قبل ذلك لا بد أن تكون هناك توطئة ومقدمة، أو قاعدة عريضة لطالب العلم، لا بد أن يتقنها؛ حتى يسير في أبواب القدر، ولا يضل كما ضلت القدرية والجبرية.

تعريف القدر

تعريف القدر القدر لغة: مأخوذ من التقدير، وهو الموازنة بين الأشياء، وقيل: هو مأخوذ من القدرة، وهذا صحيح؛ لأن القدر قدرة الله جل في علاه، وهو من لوازم ربوبية الله جل في علاه. وشرعاً: هو الإيمان بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا هو تعريف القدر شرعاً. وقد بين الله جل في علاه مسائل القدر في كتابه بياناً جلياً، وأيضًا على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبين أهمية القدر، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فما ترك شيئاً، وقد قال علماء اللغة وعلماء الأصول: (كل) نص في العموم لا تترك شيئاً بحال من الأحوال، فكل شيء مخلوق بقدر حتى أفعال العباد، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. أيضًا قال الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. وقال الله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]. وقال جل في علاه مبيناً أن الهداية والإضلال من أبواب القدر، وأنهما بيد الله جل في علاه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فالإضلال والهداية من أبواب القدر، وهي بيد الله جل في علاه. وجاء في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بكتاب على يمنيه، وكتاب على يساره، وقال: فرغ ربكم من العباد، ثم قال: هؤلاء لأهل الجنة ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك، وهؤلاء لأهل النار ولا أبالي، بأسمائهم وأسماء آبائهم وختم على ذلك)، فقد قدر الله كل شيء وكتبه في اللوح المحفوظ.

بعض الأدلة الواردة في الإيمان بالقدر

بعض الأدلة الواردة في الإيمان بالقدر أهمية الإيمان بالقدر تظهر جلية في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل على صورة بشر كما في حديث أبي هريرة وعمر، وتمثل بشراً؛ ليعلم الناس أمر الدين، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام وعن الإيمان، وكان الجواب من النبي ليس بالتعريف اللغوي كما نعرفه الآن، بل أتى بالتعريف بأصل أو بأهم ما يكون في الإيمان، فكأن جبريل وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أخبرني يا محمد! -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان؟ فقال: سأجيبك بأهم ما في الإيمان، وهي أركان الإيمان، أو الأعمدة والأساطين التي يكون عليها بناء الإيمان، فأجابه عن أركان الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). وأيضًا ورد في حديث يسمى مسلسلاً عند علماء الحديث، والمسلسل عند علماء الحديث: هو ورود الحديث بصفة أو هينة واحدة من أول السند إلى آخره، وقد يكون التسلسل في المتن وقد يكون في السند، مثال المسلسل في المتن حديث معاذ عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة) وذكر الحديث، فلما روى معاذ الحديث للتابعي قال له: إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة، والتابعي يقول لتلميذه نفس ما قاله معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فتسلسل الحديث بذلك. أيضاً هناك حديث منسلسل بالضحك، عن علي بن أبي طالب في حديث ركوب الدابة، وهذه السنة قد ماتت، وهي أن الإنسان إذا ركب الدابة قال: باسم الله، الحمد لله الذي سخرنا لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الحمد لله، ثم يقول: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب، وعندما قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ابتسم في آخره، وكذلك علي بن أبي طالب ومن بعده كانوا يبتسمون عند رواية هذا الحديث، ولهذا تجدها في الإسناد مسلسلة بالمتن. وجاء حديث الإيمان بالقدر وأهميته مسلسلاً، وهو أنه قال: (آمنت بالقدر خيره وشره) فجاء أبو هريرة فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:، ثم إن أبا هريرة وبعد إتمام الحديث يقول: (آمنت بالقدر خيره وشره). فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأمة بالإيمان بالقدر، ويبين ركنية الإيمان بالقدر بقوله: (أن تؤمن بالله وبملائكته إلى أن قال وتؤمن بالقدر خيره وشره). هذه الأحاديث التي أثبتت أهمية وركنية القدر، بينت أن من لم يؤمن بالقدر فقد هدم إيمانه، وهنا تظهر -جلياً- الأهمية القصوى للإيمان بالقدر، إذ هو ركن من أركان الإيمان، وإذا هدم أحد الناس هذا الركن فقد هدم إيمانه، ويدل على ذلك حديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما اكتنفاه رجلان من الكوفة، رجل عن يمينه ورجل عن يساره، وقالا لـ ابن عمر: تكلم أناس عندنا في القدر، وقالوا: إن الأمر أُنُفٌ، فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أبلغهم أني منهم براء، وهم مني براء، يعني: أنا برئت منهم وهم براء مني، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وأصرح من ذلك حديث عبادة بن الصامت، وهو يشرح لابنه الإيمان بالقدر، فقال: عليك أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، قال: فإن مت على غير ذلك دخلت النار. وأيضًا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله بالنار)، وقد ورد أيضًا مقطوعاً عن ابن وهب أنه قال: (من لم يؤمن بالقدر أحرقه الله)، وفي رواية أخرى عن عوف بن مالك أنه قال: (من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام)، فإن المؤمن لا يستقيم إيمانه عند ربه جل في علاه، ولا يكون من الخالدين في الجنة إلا أن يؤمن بهذا الركن الركين من هذا الدين، وهو الإيمان بالقدر، وإذا قلنا بأن القدر ركن من أركان الإيمان ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، فلا بد أن نقرع باب القدر، وندخل في البوابة الصحيحة التي يطمئن فيها المرء أنه قد استقام إيمانه بالقدر ومراتبه.

مراتب القدر

مراتب القدر الإيمان بالقدر يستلزم أن يؤمن المؤمن بمراتب القدر، وهي أربع مراتبٍ، نذكرها إجمالاً ثم نفصلها، وهي: علم فكتبَ فأرادَ فخلقَ أو قل: علمٌ فكتابةٌ فإرادةٌ فخلقٌ، هذه المراتب الأربعة لا يمكن أن يستقيم إيمان عبد بالقدر، إلا بالإيمان بهذه المراتب الأربعة.

مرتبة العلم وقول أهل الحق فيها والرد على مخالفيهم

مرتبة العلم وقول أهل الحق فيها والرد على مخالفيهم المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر العلم، وحقيقتها أن تؤمن وتعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه قد أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8]. وأيضًا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19]، (ما) هنا من الأسماء المبهمة، قال العلماء: (ما): أصل من أصول العموم، يعني: كل ما تعملون. وأيضًا قال الله تعالى في سورة الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فإن الله جل في علاه قد علم كل شيء، وبهذه المرتبة تستطيع أن ترد على المعتزلة، قال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا. فهنا الإمام الشافعي يبين لنا أهمية هذه المرتبة في الرد على المعتزلة بقوله: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا، وإن أنكروا فقد كفروا، وهذه المقولة تحتاج لتفسير صحيح. قال: (خاصموهم بالعلم)، فإن المعتزلة يقولون: القدر أنف، ولا يوجد شيء كتب قبل ذلك، والله جل في علاه لا يعلم شيئاً حتى يعمله العباد، فلا يعلم شيئاً مستقبلاً أبداً، ولا يعلم إلا ما مضى فقط، هذا قولهم والعياذ بالله! فقال الشافعي: خاصموهم بالعلم، فإذا أقروا بأن الله قد أحاط بكل شيء علماً فقد خصموا؛ لأن لله علماً، والإرادة تخضع لعلم الله جل في علاه، فأراد وخلق أفعالهم، وبهذا يكون المعتزلة قد خصموا، ولا يمكن أن يحتجوا عليكم بشيء بعد ذلك، أما إذا أنكروا علم الله، وهذا كان في المعتزلة قديماً، أما الذين في عصورنا الآن فيستحيون من ذلك، ولا يستطيعون إنكار العلم، ولكنهم ينكرون الخلق، فهم يقرون بالعلم، وينكرون الخلق، كما سنبين في المسائل المهمة في الرد على المعتزلة، والغرض المقصود خاصموهم بالعلم، فإن أقروا فقد خصموا؛ لأن الله علم فأراد، والإرادة تخضع للعلم، وإن أنكروا كفروا؛ لأن من أنكر صفة العلم فقد كفر. لكن نذكر هنا حديثاً ظاهر يشكل على ما قلنا، فلا بد من توضيحه، والحديث هو: (قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، وذهب إلى البقيع يدعو لأهل البقيع، فغارت عائشة لما وجدت النبي صلى الله عليه وسلم انسل من جانبها، فأخذت بثيابها وذهبت خلفه يسرع فتسرع، وهي ظنت أنه ذاهبٌ إلى بعض نسائه، فوجدته قد ذهب إلى البقيع يرفع يديه ويدعو لأهل البقيع، فنظرت للنبي صلى الله عليه وسلم فوجدت ذلك، فاستدارت وأسرعت إلى البيت، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسرع، حتى دخل عليها وصدرها يعلو وينخفض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عائش حاشية يا رابية، أي: عندك ربو، ما بك؟ فقالت له: يا رسول الله! الأمر كذا وكذا، فقال لها: أخبريني أو ليخبرني العليم الخبير، فقالت يا رسول الله)، وجه الإشكال هو: (قالت: يا رسول الله! أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ فوكزها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين لها أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما كانت تعلم أن الله جل في علاه يعلم ما تخفي الصدور، وقالت: أويعلم الله ما نكن في صدورنا؟ وما كفَّرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا اشتد عليها، بل علمها أن الله جل وعلا يعلم ما في الصدور، ونحن قلنا: إن المعتزلة إذا أنكروا علم الله كفروا، فكيف نحمل كلام عائشة رضي الله عنها؟ A القياس على عائشة قياس فاسد؛ لأن الشافعي قال: جادلوهم وبينوا لهم، أقيموا عليهم الحجة، فمحل النزاع بأن هذا كفر أو ليس بكفر إنما هو بعد إقامة الحجة، وهنا قد أقيمت عليهم الحجة فأنكروها، لكن عائشة ما أنكرت، علمها النبي صلى الله عليه وسلم فأقرت بما علمها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا إشكال هنا. إذاً: نحن نبين للمعتزلة علم الله جل في علاه السابق واللاحق، فإن أقروا أخذنا بكلامهم، وإن أنكروا كفروا بذلك، وأيضًا لا بد من التفريق بين كفر النوع وكفر العين، فهذه المرتبة الأولى وهي علم الله الذي أحاط بكل شيء، وأن الله جل في علاه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه تجمعها آية واحدة قالها موسى لهذا الخصم اللدود فرعون عندما قال في سورة طه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:49 - 52] أي: لا يضل ربي فيما يستقبل، ولا ينسى فيما سبق، وقد سبق علم الله جل في علاه في ما كان، ولذلك قص علينا ما حدث من الجن قبل آدم، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، وأيضًا قص الله علينا ما حدث بين الملائكة وبين آدم عندما عطس آدم، وقال: الحمد لله، وأيضًا لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر، وقص علينا أيضاً ما حدث مع نوح وقومه، وقص علينا قصة موسى وقومه، فإن ربي لا ينسى علم ما كان، ويعلم ما يكون، والذي لم يحدث يعلمه الله جل في علاه، وهذا يتجلى معنا في الأحاديث النبوية والآيات الكريمات، كقول الله جل في علاه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، وهذا في المستقبل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رد في صلح الحديبية عن البيت قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم وحياً من ربه جل في علاه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه)، وهذا أيضًا في المستقبل، فالله قد علم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون. وهذا أيضًا يتجلى في الممكن والمستحيل، أما في الممكنات فقال الله تعالى عن الكافرين أو المنافقين: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، وهذا لم يحدث، لكن الله بين أنه لو حصل أو حدث كيف ستكون كيفيته وكينونته؟ أيضاً قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لهَمْ} [التوبة:47]، وهذا أيضًا لم يكن، لكن الله يعلم أنه لو كان كيف سيكون، فالله جل وعلا جعل التقاعس على أهل النفاق فلم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو خرجوا، فإن الله يعلم كيف كان سيكون الحال، وقص الله علينا ذلك وقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]. هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله عن أهل النيران بعدما وقفوا على النار: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فهذا لم يحدث، لكن لو حدث، والله جل وعلا قضى أن يخرجوا إلى الدنيا مرة ثانية، فهل سيكونون من أهل الحق، ويؤمنون بالله جل في علاه؟ الله جل وعلا يقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، فالله علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا في المستحيل في الآخرة، والذي سبق في الممكن في الدنيا. فالآية التي تكلمت عن المنافقين {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، هي في الممكنات، أما الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] في الآخرة، ويستحيل أن يرجع أحد للدنيا، فهي في المستحيلات. مثال آخر وهو حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت ماذا قال ربك لأبيك عندما قال له: تمن؟ قال: أرجع إلى الدنيا فأقتل فيك)، فقضى الله جل وعلا أنه لا يرجع أحد إلى الدنيا، فهذا ممكن ولا يستحيل على الله، ومن المستحيلات ما قال الله تعالى عنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، هذا في المستحيلات، فيستحيل أن تجد للكون إلهاً إلا الله وحده لا شريك له، ولو كان في الكون أكثر من إله، فقد بين الله لنا أنه سيحدث الفساد المستشري، فقال الله تعالى: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، وقال: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ س

مرتبة الكتابة ومراحلها

مرتبة الكتابة ومراحلها المرتبة الثانية التي يستقيم بها إيمان العبد بالقدر: مرتبة الكتابة، فإن الله علم فكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال وما أكتب؟ قال: ما هو كائن) يعني إلى يوم القيامة. قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، والذي أوحي إليه الزبور هو داود عليه السلام، وقد كتب الله فيه أن الأرض يورثها الله لمن شاء من عباده الصالحين، وتلك الكتابة في الزبور كانت بعدما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وقال أيضًا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78]، والكتاب المكنون يقصد به: اللوح المحفوظ. أيضًا قال في سورة البروج في آخر آية: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، فقد كتب الله كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة الأزلية العامة، وهي كتابة في الأثر. إن مرتبة الكتابة إذا آمن بها العبد لا بد أن يعلم أن لها أربعة مراحل: أولاً: الكتابة أزلية: وهذه هي المرادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله القلم قال له اكتب). ثانياً: الكتابة العمرية. ثالثاً: الكتابة العامية: وهي مأخوذة من العام، أي: سنوية. رابعاً: الكتابة اليومية. إذاً: الإيمان بمرتبة الكتابة: هو أن يعلم المؤمن بأن الله جل وعلا قد كتب كل شيء وقدر كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما في حديث القلم، وهذه هي الكتابة الأزلية، وقد تكلمنا عنها وقلنا: إنها هي المذكورة في حديث القلم. والكتابة العمرية: دليلها حديث الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (يجمع الجنين في بطن أمه أربعين يوماً) ثم تلا الحديث إلى آخر الأربعة الأشهر، أو المائة وعشرين يوماً إلى أن قال: (فيأتي الملك فيؤمر بأربع كلمات: ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، أجل ورزق) إذاً: يؤمر الملك بكتابة أربع كلمات، بكتب الرزق والأجل وكَتْبِ الشقاء أو السعادة وكَتْبِ النوع، والإيمان بهذه الكتابة يحل إشكالات عظيمة جداً منها: الإشكال الذي طرحه لنا عمر بن الخطاب عندما طاف حول الكعبة وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقياً فامحها واكتبني سعيداً، مع أن الله جل وعلا قد بين أن ما كتب في اللوح المحفوظ لا يمكن أن يغير، فما فقه عمر الذي جعله يقول ذلك؟ قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فالإيمان بهذه الكتابة يحل لك هذا الإشكال. وهذه الكتابة إما أن تكون في اللوح المحفوظ، وإما أن تكون في صحف الملائكة، فهي تحتمل ذلك، وقد فقه عمر وهو يقول: اللهم امحها واكتبني عندك سعيداً فقرأ قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] أي: في صحف الملائكة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، وهو الأصل الذي لا يغير، لكن الذي يغير هو ما في صحف الملائكة. وقد قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، فنقول دائماً: إن هذا الشقاء الذي كتب في صحائف الملائكة هو الذي يمكن أن يغير، حتى لا يتقاعس أحد ويقول: قد وقعت في المعصية، والله قد كتب ذلك وأنا في بطن أمي، فنقول له: قل ما قاله عمر: اللهم إن كنت قد كتبتني أي: في صحف الملائكة شقياً فامحها، واكتبني عندك يعني: في اللوح المحفوظ سعيداً. الكتابة الثالثة: كتابة عامية: وهذه أيضًا يمكن أن تحل لنا إشكالاً آخر، ألا وهو: إذا قدر الله المصيبة فهل من الممكن أن تُرفع بالدعاء أم ليس ذلك ممكناً فيرضى بها؛ لأن هذا قدر الله عليه؟ A إن المصيبة ترفع بالدعاء، والدليل على ذلك إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدعاء والقدر يتعالجان في السماء حتى يرد الدعاء القدر، مع العلم أن القدر قد كتبه الله في لوحه المحفوظ، ومن ضمن ما كتب في اللوح المحفوظ أن البلاء إذا نزل فإنه يرتفع بالدعاء، وأيضًا إن الذي يغير إنما هو ما في صحف الملائكة، ولا إشكال في ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى. وهذه الكتابة أخذت من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى عن ليلة القدر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يفرق أي: يكتب السعيد والشقي في هذا العام، ويكتب الرزق في هذا العام، ويكتب الحاج في هذا العام، ويكتب الأجل في هذا العام، فتكون هذه كتابة عامية. الكتابة الرابعة: كتابة يومية: وهذه عند تعاقب الملائكة كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار، فيلتقون في صلاة الفجر وصلاة العصر)، فتكتب الملائكة من صلى الفجر في جماعة، ومن صلى العصر في جماعة، ومن عمل حسنة في ذلك اليوم، أو عمل سيئة في ذلك اليوم.

مرتبة الخلق والرد على المخالفين فيها

مرتبة الخلق والرد على المخالفين فيها ومن مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الخلق، وقد سبق أن قلنا: إن الله قد علم فكتب فشاء فخلق، وهذه المرتبة تعني: خلق الله لكل شيء، وفيها رد على المعتزلة الذين يرون أنهم قد خلقوا أفعالهم، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، و (كل) نص في العموم يدخل فيها أفعال العباد، وتدخل فيها المعاصي، ولكن تنسب إلى الله جل في علاه خلقاً وإيجاداً، وما خلقه الله من فعله فهو كمال له، وتنسب للعبد فعلاً واكتساباً، فالله خالق كل شيء، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، ويدخل في ذلك فعل العبد. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وجاء في الحديث الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد خلق كل صانع وصنعته)، فهذا يدل على أن فعل العبد أيضًا مخلوق لله جل في علاه. فهذه أربع مراتب لا يمكن لعبد أن يتقن أبواب القدر، أو يلج أبواب القدر المشكلة جداً إلا أن يؤمن بهذه المراتب الأربعة. وتتعلق بهذه المراتب الأربعة نتائج كثيرة منها: هل القدر حجة للعاصي؟ أيضًا احتجاج آدم وموسى كان الحق فيه مع من؟ وهل يستنبط من ذلك مسائل تحتج بها القدرية أو الجبرية؟ ومسائل أخرى سنتعرض لها لاحقاً بإذن الله تعالى. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

الإرادة الشرعية والإرادة الكونية من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن تؤمن أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، والقدر سر الله في الخلق، وإرادة الله الحق، فمن آمن بالقدر وسلم، وانقاد واستسلم، زاد إيمانه، وصفا عيشه، وأنير طريقه، ولم يحزن على ما فات، وبهذا يتحقق المعنى الحقيقي للاستسلام لرب الأرض والسماوات.

أهمية الإيمان بالقدر

أهمية الإيمان بالقدر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد بينا بأن القدر هو سر من الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب، لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقلنا: إن القدر من لوازم الربوبية، ولا يستقيم إيمان عبد حتى يتعلم مسائل القدر ويوقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو ركن ركين من أركان الإيمان الستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل.

طوائف الناس في القدر

طوائف الناس في القدر الناس في القدر ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: محضت النظر للقدر، فضربت به الشرع وألغته، وهؤلاء هم الجبرية، الذين احتجوا بالقدر على كل معصية يفعلونها. الطائفة الثانية: محضوا النظر للشرع، فضربوا به القدر، وقالوا: الأمر أُنُف، وهؤلاء هم القدرية، الذين ألغوا القدر ولم يقروا بقدرة الله جل في علاه، فنصبوا أنفسهم أرباباً مع الله جل في علاه. الطائفة الثالثة: وسط بين الطائفتين، قالت: ننظر إلى الشرع بعين الشرع، وننظر إلى القدر بعين القدر، ونوفق بين الشرع وبين القدر، فلشهود القدر أحوال، ولشهود الشرع أحوال، ولا يضرب هذا بذاك.

مذهب أهل السنة في الاحتجاج بالقدر

مذهب أهل السنة في الاحتجاج بالقدر فإن قال قائل: متى ينفع شهود القدر ومتى لا ينفع شهود القدر؟ نقول: شهود القدر هو قولك عندما تنزل عليك البلايا أو المحن: قدر الله وما شاء فعل. فشهود القدر هنا ينفع المرء في حالتين، ولا ينفع في حالة ثالثة، وهذا عند أهل السنة والجماعة. الحالة الأولى: تمحض المصيبة دون أدنى تدخل منك، إذ المصائب تأتي على نوعين: النوع الأول: مصائب بسبب الإنسان، أي: بسبب تفريطه وتقصيره ومعاصيه، كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَ الْنَّاسِ} [الروم:41]، والباء هنا سببية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: قال الله تعالى: (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، أي: أنه المتسبب في إتيان هذه المصيبة، فلا يصح له شهود القدر إلا في مرحلة سنبينها لاحقاً. النوع الثاني: المصائب بسبب الأقدار لا من الإنسان، فعند تمحض المصيبة والبلية مع الأخذ بالأسباب الصحيحة السديدة من المكلف، فهذا له أن يشهد القدر ويحتج بالقدر، ويحيل الأمر برمته على تصرف ربه جل في علاه، مؤمناً بقدرة الله التي هي من لوازم ربوبية الله جل في علاه؛ قال الله تعالى مصوراً لنا ذلك تصويراً بديعاً: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، أي: ما من بلية ولا مصيبة تنزل على العبد إلا بإذن الله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11]، أي: يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه هو الذي كتب المصيبة في الأزل، وأن الله قادر على أن يوجدها فأوجدها. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يعني: يثبت الإيمان في جنانه، وهو الإيمان بقدر الله جل في علاه. فهذه دلالة على أن المصيبة المتمحضة التي نزلت على العبد إذا أحالها على قدرة الله وأحالها على القدر ينفعه ذلك عند ربه جل في علاه. ويجلي لنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تجلية واضحة جداً في الحديث الذي في الصحيحين قال: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، يعني: لو أخذت بالأسباب الشرعية الصحيحة، وأصبتَ بمصيبة متمحضة لحكمة يعلمها الباري، فهنا يقول لك صلى الله عليه وسلم: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، وذلك لأنك ستفتح باب الشيطان، (لكن قل: قدر الله وما شاء فعل). أضرب لكم مثلاً: لو أن طالباً ذاكر مادة اللغة، ودخل الاختبار فوجدها رياضيات، أخطأ في قراءة الجدول، فلو قال في نفسه: لو أني اتصلت بزميلي لقال لي: غداً امتحان مادة كذا، هنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا)، مع أنه لو اتصل بصاحبه وقال له: مادة ماذا غداً؟ لقال له: مادة اللغة أو مادة الرياضيات، فهنا له أن يشهد القدر لأنه أخذ بالأسباب، وليس له أن يقول: لو كان كذا لكان كذا. إذاً: فالطائفة الوسطية قالوا: نحن لم نمحض النظر في القدر ولم نمحضه في الشرع، وإنما ننظر بعين القدر حينما يكون القدر نافعاً إذا نظرنا إليه، وننظر بعين الشرع حينما يكون الشيء مأموراً به. فإن قيل لهم: هذا التفصيل البديع الذي فصلتموه، من أين أتيتم به؟ أو اذكروا لنا مثالاً حتى نعلمه؟ قالوا: مثال النظر بعين القدر: إذا نزلت المصيبة بعد الأخذ بالأسباب الصحيحة يصح لك أن تقول: ربي فعل بي ذلك، وأنا شاكر له وراض عنه، أو صابر على قدره. وأما مثال النظر بعين الشرع، فلا بد أن أعلم أن هذا الشيء إما أن يكون مأموراً بفعله، أو منهياً عنه، فأعمل العمل وفقاً للأمر والنهي. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي)، يعني: الذي يأخذ بالأسباب، وقوله: (اعقلها وتوكل) يعني: الذي يأخذ بالأسباب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس وأقواهم يقيناً بربه، ومع ذلك عند الهجرة أخذ دليلاً خريتاً ماهراً، وكان يعمي على الناس إذا أراد غزوة؛ لأنه يعلم أن المؤمن القوي هو الذي يأخذ بالأسباب مع الاعتقاد الجازم بأن الله هو مسبب الأسباب (وفي كل خير، احرص على ما ينفعك)، هذا أمر، فبعد أن جاء بالخبر: (المؤمن القوي)، جاء ليؤكد الخبر بالأمر. قوله: (احرص على ما ينفعك)، يعني: خذ بالسبب، وقوله: (فإن أصابك)، يعني: إذا أديت ما عليك بعين الشرع، الذي هو الأمر والنهي، وأخذت بالأسباب وجاءت المصيبة (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل)، في هذه الحالة ينفعك شهود القدر، وتقول: ربي فعل بي ذلك وأراد بي ذلك، وأنا وقف لله، يفعل بي ما يشاء، فتقول: (قدر الله وما شاء فعل). إذاً: فشهود القدر ينفع بعد أن يأخذ الإنسان بالأسباب، لا أن يعصي الله أو يزني ثم يفتح باب القدر ويقول: ليس لي فعل، بل الله هو الفاعل. الحالة الثانية عند أهل السنة في شهود القدر: قالوا: حتى بعد المعصية، ومثال ذلك: رجل زنى، وبعد أن زنى، قال: أذهب ليقام عليّ الحد فسمع وهو يسير قارئاً يقرأ قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، فقال: ولم لا أكون كذلك؟! فإذا به يبكي ويتضرع وينكسر ويتذلل ويتوب إلى الله جل في علاه ويئوب، فلما تاب إلى ربه من هذه المعصية، جاء صباحاً يصلي الفجر، فقام إليه رجل رآه يزني وقال له: أما كنت تزني بالأمس؟ وعيره بذنبه، فله هنا أن يقول: لا والله، قدر الله علي هذا الزنا، وأنا تائب منه، فله أن يشهد القدر. إذاً: الحالة الثانية: إذا تاب من الذنب فله أن يشهد القدر، فإن قيل: كيف يشهد القدر وهو زان، وهو الذي فرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي)، نقول: لأنه بعدما تاب رجع إلى القوة، ومن تاب تاب الله عليه، و (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، إذ أن التوبة والأوبة من أسباب القوة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أسأت فأحسن)، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، فهو أتبع هذه السيئة الحسنة فمحتها، ولما جاء عمرو بن العاص يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ابسط يدك، فبسطها ثم قبضها، قال: علام؟ قال: أشترط، قال: وما تشترط؟ قال: أشترط مغفرة الذنوب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها؟!)، فالتوبة تجب كل ما قبلها، وهو قد أخذ بالأسباب القوية التي بها يقول: قدر الله وما شاء فعل. ويدل على ذلك فعل أبينا آدم عليه السلام؛ لأن آدم تاب من الذنب، قال عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، فلما تاب قال لموسى: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة، فاحتج هنا بالقدر؛ لأنه قد تاب، وتاب الله عليه.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر مع عدم الأخذ بالأسباب

عدم جواز الاحتجاج بالقدر مع عدم الأخذ بالأسباب وأما الحالة الثالثة التي لا يصح له أن يشهد القدر فيها: فهي التفريط مع عدم الأخذ بالأسباب، فليس له هنا أن يشهد القدر، ويحتج به؛ لأن هذا هو قول الجبرية الذين ضربوا الشرع بالقدر. نضرب مثلاً: لو أن رجلاً لعب طوال الليل بالأتاري، وكان في أمر مباح من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية ليلاً، ثم نام حتى ضاعت عليه صلاة الفجر، فلما قام صباحاً، جاءه أخوه فقال: أين كنت؟ لم نرك في صلاة الفجر؟ أكنت مريضاً؟ قال: لا والله، بل كنت نائماً وهذا عذر لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط)، وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، قال: وأنا اجتهدت للاستيقاظ في الفجر فما استيقظت، وروحي بيد المليك المقتدر يقبضها حيث يشاء ويرسلها حيث يشاء، فنقول له: إن أصحاب العقائد لا يرضون بكلامك ولا يرضون باحتجاجك بالقدر، قال: قد احتج من هو أفضل مني بالقدر، قلنا: من؟ قال: علي بن أبي طالب، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين مر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أما قمتما من الليل تصليان؟ فقال علي: أرواحنا بيد الله إن شاء قبضها وإن شاء أرسلها، فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذه ويقول: ((وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً))). نقول له: هذا المثل أنت منازع فيه، فهل عندك مثل آخر؟ قال: عندي مثل آخر، وهو آكد من الأول؛ لأنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، قلنا: كيف ذلك؟ قال: جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر ومعه أصحابه، فأتعبهم السفر في الليل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يحرس لنا الفجر هذه الليلة؟ فقام بلال فقال: أنا قائم عليكم -يعني: أنا الذي سأوقظكم في الفجر- فنام النبي صلى الله عليه وسلم ونام الصحابة فنام بلال وغلبته عيناه، وما قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى أشرقت الشمس، وما أيقظ عمر إلا حرُّ الشمس، فذهب فزعاًً إلى رسول الله فأيقظه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأيقظ أصحابه، وكادوا يموتون، يقولون: لم نصلِّ الفجر في وقته؟! ورسول الله لم يصل الفجر في وقته؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم محتجاً بالقدر: أرواحنا بيد الله يمسكها كيف يشاء أو حيثما شاء، ويرسلها حيثما شاء، انطلقوا من هذا الوادي؛ فإن في هذا الوادي شيطاناً، فانطلقوا ثم توضئوا ثم صلوا بعد ذلك الفجر). وأنا أحتج بما احتج به النبي فأقول: روحي بيد الله! إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها سبحانه جل في علاه. وقياسه على فعل النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمر بعد العشاء، وأنت سمرت بعد العشاء، وضيعت الوقت، ولم تستيقظ الفجر بفعلك أنت، وبمعصيتك أنت، فليس لك أن تشهد القدر هنا؛ لأن القدر ليس حجة للعاصي، فليس للسارق أن يقول: سرقت بقدر الله، وليس للزاني أن يقول: زنيت بقدر الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين القوي وبين الضعيف، فالقوي محمود، لكن الضعيف مذموم، والضعيف هو الذي لم يأخذ بالأسباب الشرعية. الأول: أن الله جل في علاه قد أثاب على فعل العبد وعاقب عليه، ونسب الفعل للعبد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، وقال الله تعالى: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22]، وقال تعالى أيضاً: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]، فجعل العمل هو الذي يثاب عليه المرء أو يعاقب عليه، فليس له أن يحتج بالقدر، بل بفعله يحمد أو يذم. الأمر الثاني: أن الأمر الاختياري والأمر الاضطراري معروف جداً بين الناس، فلو قلت لرجل الآن: مكتوب في اللوح المحفوظ أنك ستلقي بنفسك من الشباك، فإذا وقع على رأسه قال: قدر الله وما شاء فعل، فهذا غير مقبول. كذلك: لو أن رجلاً سرق مال رجل، فوجده صاحب المال فقال له: سرقت مالي، فقال: يا أخي! ألا تؤمن بعقيدة نبيك صلى الله عليه وسلم؟ ألم تعلم أن الله قدر علي أن أسرق مالك؟! قال: نعم، قدر الله أن تسرق عليَّ المال، فقام وضربه على وجهه، وقال له: قدر الله أن أضربك على فعلك هذا. ونذكر قصة مشهورة جداً، تبين علة من يحتج بالقدر على المعصية، وهي قصة المرأة التي كانت من الجبرية ومعها زوجها، فدخل الزوج ذات مرة فوجد عليها رجلاً آخر، فقال: فأخذ السيف ليقتل هذا الرجل، فقال له وكان على عقيدته: مهلاً، والله ما وقعت عليها إلا بقدر الله، فقال: آمنت بالله. فقالت المرأة: والله إن هذا لمذهب سوء، ولا يمكن لي أن أتبنى هذا المذهب. فأصبح ديوثاً بالاحتجاج بالقدر. ولما جيء بسارق إلى عمر بن الخطاب قال: (اقطعوا يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين! والله ما سرقت إلا بقدر الله. فقال عمر رضي الله عنه: ونحن والله لا نقطع يدك إلا بقدر الله جل في علاه).

المفاسد العظيمة المترتبة على الاحتجاج بالقدر على المعاصي

المفاسد العظيمة المترتبة على الاحتجاج بالقدر على المعاصي والاحتجاج بالقدر على المعاصي فيه مفاسد عظيمة، وهي مخالفة لظواهر الشرع، فمنها: أنها تبطل الرسالات، فإذا قلت بأن القدر حجة للعاصي، فما فائدة إرسال الرسل؟! والله جل وعلا قد بين العلة من إرسال الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهم يقولون: إنس الحجة موجودة: قدر الله وما شاء فعل، فهذا المذهب فيه مخالفة صريحة لأمر الله جل في علاه.

مدافعة القدر

مدافعة القدر إن مدافعة الأقدار تكون بالأقدار، فلا يصح أن تقول: المرء لا يرضى بالقدر مطلقاً، ولا يصح أن تقول: يرضى بالقدر مطلقاً، بل له أن يرضى بالأقدار ويدافعها بالأقدار؛ لأن عدم الرضا بها مطلقاً، هو قول القدرية، والرضا بها مطلقاً، هو قول الجبرية، وأهل السنة والجماعة وسط، فيقولون: لا يصح أن نقول: مطلقاً، ولا يصح أن نقول: لا يرضى بها مطلقاً، بل له أن يرضى في أحايين، ويدافع في أحايين؛ لأن قدر الله على نوعين: قدر أنزله الله جل في علاه وأنزل معه قدراً آخر يدفعه، وقدر أنزله الله ولا يوجد ما يدفعه، فيقولون: لا نرضى بالقدر حينما نرى القدر الآخر الذي ندفع به، ونرضى به حينما لا نجد قدراً آخر ندفع به. وبالمثال يتضح به المقال: فالجوع قدر من أقدار الله، وأنزل الله لنا قدراً آخر ندفع به هذا القدر، ألا وهو الطعام، فنحن نأكل لندفع قَدَرَ الجوع بقدر الطعام. أيضاً: العطش، فإنا ندفع قدر العطش بقدر الشراب، وهذا من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء). إذاً: يصح أن تدافع الأقدار قدر إمكانك كلما أتيح لك أن تدفع الأقدار، فمثلاً: إذا كنت في سفينة وكسرت السفينة، فليس لك أن تستسلم لوحوش البحار لتأكلك؛ لأن لك قدراً آخر، وهو أن تأخذ خشبة من السفينة أو تسبح إن كنت تستطيع أن تسبح. وقد كنت ذات مرة أختبر، وكان اختباري هذا هو اختبار الماجستير، وكنت أختبر مواد كثيرة في وقت واحد، في حين أن كل الزملاء يمتحنون مادة واحدة، وكنت -والحمد لله- أخذ ثلاث مواد أو خمس مواد فأختبر فيها، وفي نفس المدة وهي ثلاث ساعات، وكان الدكتور عبد الله بركات وهو رجل عنده من العلم لكنه أشعري، وكان يخفي علي ذلك وهو يختبرني، فدخل علي وأنا أختبر ثلاث مواد في وقت واحد، فقال لي: أنت مثخن بالمواد، وما لك إلا الساعات الثلاث، وكل مادة تحتاج إلى ثلاث ساعات، فقلت له: أنا أختبر الثلاث المواد في ثلاث ساعات، لكن لا تكلمني، ولا أريد أن يكون بجانبي أحد، والقلم سيال فقط، فجاء قبل الموعد بعشر دقائق وأراد أن يأخذ الأوراق، فقلت له: نعم، ماذا تريد؟ قال: الورقة، انتهى الوقت ولم يبق إلا عشر دقائق، قلت له: آخذ العشر الدقائق، قال لي: لا، انتهى الوقت، قلت له: أنا لي الآن ثلاثة أيام ما نمت، فلا تتعبني وتضيع وقتي، وحدثت المشادة بيني وبينه، وبعد ذلك حدث الوفاق بحمد الله، فقال: أنت لست بطالب علم! فقلت له: لمه؟ قال: قدر الله قد نزل عليك، وعليك أن تقول: قدر الله وما شاء فعل، فقلت له: وربي لن أرضى بهذا القدر! فالرجل كاد أن يموت، فذهب وأتى بالدكتور الثاني فجاء وقال: ما هذا؟ فقلت له: يا أخي! تمهل لا تندهش، أنا لا أرضى بقدر الله، قال: كيف؟ قلت له: إن هذا قدر وقد أباح لي مدافعته الله جل في علاه، أنت الآن من قدر علي، تقول لي: أريد أن آخذ الورقة، وأنا أدفعك وأقول لك: من حقي أن تبقيني إلى آخر دقيقة، فأنا أدافع القدر بالقدر، فضربت له المثل وقلت له: هذا الجوع يدافع بالطعام، والغرق يدافع بالسباحة، فهذا قدر يدفع بالقدر، فأذعن الرجل بفضل الله وتركني. وفي هذه الأبواب أنصحكم بقراءة كلام ابن القيم، فهذا الكلام ليس من كيسي، وليس من ذات نفسي ولا من ذكائي، بل أعوذ بالله! فالله جل في علاه هو من أطلعني على الفهم الذي أطلع عليه ابن القيم، فـ ابن القيم في كتاب (طريق الهجرتين) وكتاب (مدارج السالكين) أتى بنكت من هذه الأبواب وأبدع فيها، وغاص في كتابه (شفاء العليل)، لكن (شفاء العليل) من يقرأ فيه وليس عنده رسوخ في القدر، لن يفهم كثيراً. فإذا نزل بالإنسان داء فلا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لأنه من قال ذلك فقد أخطأ في فهمه للقدر، بل هذا من الأقدار التي لا بد أن تدفع، قال النبي صلى الله عليه وسلم آمراً بمدافعة الأقدار: قال: (تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل من داء إلا أنزل له دواء)، فهذه مدافعة للأقدار بالأقدار، لكن هناك أموراً وأقداراً لا يمكن دفعها، ومنها: الموت، فالموت لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، فلا أحد يستطيع أن يرد تقدير الموت، فليس أمام الإنسان مع هذه الأقدار إلا الصبر، أما الصبر فهو الواجب فقط، والإحسان: هو أن ترضى بأقدار الله جل في علاه.

الإرادة الكونية والإرادة الشرعية والفرق بينهما وضابطهما

الإرادة الكونية والإرادة الشرعية والفرق بينهما وضابطهما الإرادة إرادتان بالنسبة لله جل في علاه: إرادة شرعية، وإرادة كونية، والله فعال لما يريد، فما أراده الله كان وما لم يرده لم يكن، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، فالإرادة هنا لله جل في علاه إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالإرادة الكونية: هي كل ما قضاه الله جل في علاه، ولها ضوابط: الأول: أنها تقع فيما يحب. الثاني: أنها تقع لا محالة، يعني: لا مرد لها، كالموت، والصحيح أن الموت مبغوض لله تعالى ولا يحبه لذاته، لكنه يحبه لغيره، فهو يحبه لأجل البعث فقط، فالموت مكروه، والدليل أن الله سماه مصيبةً، والمصائب لا تكون محمودة للإنسان، والله لا يحب الموت، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن!)، فالله يبغضه، لكن قد يكون الموت محبوباً لله من وجه آخر؛ لما سيؤدي إليه وهو الخلود في الجنان، فالموت قضاه الله على عباده قضاءً كونياً لا شرعياً. أما الإرادة الشرعية: فهي المحبة، وهذا هو الفارق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، فالإرادة الكونية تساوي المشيئة، والإرادة الشرعية قد تقع وقد لا تقع؛ لأنها خاصة فيما يحبه الله، ولا يمكن أن تكون فيما يبغضه الله جل في علاه، مثل: عبادة الله، فعبادة الله محبوبة لله شرعاً، وقد تقع وقد لا تقع، فليس كل أهل الأرض قد عبدوا الله جل في علاه، مع أنه أمرهم بالعبادة، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23]. إذاً: فالعبادة قضاها الله قضاءً شرعياً لا كونياً.

أمثلة وتطبيقات على الإرادتين: الشرعية والكونية

أمثلة وتطبيقات على الإرادتين: الشرعية والكونية قال الله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18]، فالله تعالى لا يحب وجود الشيطان، وقدر وجوده، فهذه إرادة كونية، والكونية تكون كما هو في الضابط الثاني: أنها تقع لا محالة ولا يمكن أن تتخلف، فخلق الشيطان إرادة كونية لا شرعية. وقال الله تعال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فلو أخذنا شطر الآية الثاني: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ))، لعلمنا أن الضلال ليس محبوباً لله جل في علاه، وهذا هو الضابط الأول. الضابط الثاني: أنه يقع لا محالة، فلو أراد الله إضلال عبد فلن يهديه أحد، والدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاء} [القصص:56]، فوقوع الضلال للعبد إرادة كونية. يقول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14]، وقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4]، وقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وقوله تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:69]. فالآية الأولى والثانية القضاء فيهما كونياً، أما القضاء في الآية الثالثة: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا} [الإسراء:23]، فهو قضاء شرعي. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] يمكن أن نقول: بأن فيها تفصيل: فإن كانت المسألة على الآخرة، فالحكم بالحق سيكون كونياً لا منازع له، قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَهِ الْوَاحِدِ الْقهَّار} [غافر:16]، وإن كان في الدنيا، فحكم الله بالحق سيكون شرعياً، قد يقبل به الناس وقد لا يقبلون به، لكن من الممكن: أن ينازع منازع ويقول: هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم: أن يحكم كوناً بالحق. وقال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، فهذا يعتبر حكماً شرعياً؛ لأنه محبوب لله جل في علاه، والضابط الثاني: أنه قد يقع وقد لا يقع، أما رأيت كثيراً من الناس يتحاكمون إلى غير الله جل في علاه؟ فقد يقع وقد لا يقع. وقال الله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10]، فالحكم هنا شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع. وقال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، فهذا كوني؛ لأنه قد يُحِب وقد لا يُحِب، وهذا الضابط الأول، أما الضابط الثاني: فهو لا بد أن يقع، فما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، الإرادة هنا كونية. وقال الله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، الإرادة هنا: كونية؛ لأن إغواء العباد لا يحبه الله، بل هو يحب هداية العباد. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، هنا الإرادة شرعية؛ لأن الله يحب ذلك، لكنها قد تقع وقد لا تقع. وقال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، الكتابة هنا: كونية، وهي محبوبة لله جل في علاه. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، الكتابة هنا: كونية، قد كتبها الله جل في علاه، وستكون لا محالة. قال الله تعالى في سورة الحج: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]، الكتابة هنا: كونية؛ لأن الإضلال لا يحبه الله، وهي تقع لا محالة؛ لأنه من اتخذ الشيطان ولياً من دون الرحمن أضله الله جل في علاه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَقُوْنَ} [البقرة:183] الكتابة هنا شرعية. قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24]، يعني: كتب الله عليكم، وهذا الكتاب: كتاب شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، الأمر هنا: كوني، ولا بد أن يقع. وقال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، الأمر هنا: كوني، ولا بد أن يقع. وقال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47] الأمر: كوني أيضاً. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] هنا الأمر: شرعي. وقال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، الإذن هنا: كوني؛ لأن الله لا يحبه. وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، الإذن هنا شرعي. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، الجعل هنا في قوله: ((فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا))، من أفعال البشر لا من أفعال الله، فلا يسمى كونياً ولا شرعياً؛ لأننا نتكلم عن أفعال الله تعالى. وقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، الإذن هنا: إذن شرعي؛ لأنه قد يقع وقد لا يقع. وقال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103]، الجعل هنا: شرعي. وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، الجعل هنا: شرعي. وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ} [يس:8]، الجعل هنا: كوني. وقال الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، الكلمة هنا: كونية، لكن قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:137]، الكلمة هنا: كونية؛ لأن كلمة الله إذا قالها فلا بد أن تقع، فتكون كونية. وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، الكلمة هنا: شرعية؛ لأن المشرك سيسمع الكلام وقد يؤمن وقد لا يؤمن، فقد تقع وقد لا تقع.

أصناف الناس في الإرادة الشرعية والكونية

أصناف الناس في الإرادة الشرعية والكونية وأصناف الناس بالنسبة للإرادة الكونية والإرادة الشرعية أربعة: الصنف الأول: وافق الشرع والقدر، وهذا هو إيمان المؤمن، أما موافقته الشرع؛ فلأن الله قد أمر بالإيمان فقال: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} [آل عمران:193]، فأمرهم شرعاً، وهو محبوب لله جل في علاه، أما موافقته القدر؛ فلأن الله كتب في اللوح أنهم من المؤمنين، كإيمان أبي بكر، فـ أبو بكر وافق الشرع والقدر. الصنف الثاني: خالف الشرع والقدر، وذلك مثل كفر المؤمن، يعني: لو كفر واحد من الصحابة فقد خالف الشرع والقدر؛ لأن الله يحب إيمانه، وهو قد آمن وكفر، لكن هذا لا يحدث أبداً. الصنف الثالث: وافق الشرع ولم يوافق القدر، وذلك كإيمان أبي جهل، فإيمان أبي جهل وافق الشرع، يعني: أمر الشرع له بالإيمان، لكن القدر خالف ذلك وكتب وختم عليه عند ربه أنه من الكفار. الصنف الرابع: وافق القدر وخالف الشرع، وذلك مثل: كفر الكافر، فكفره موافق للقدر؛ لأن الله كتب وختم عليه أنه كافر إلى يوم القيامة، وخالف الشرع؛ لأن الله أمر الناس عامة بالإيمان والعبادة له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]

حكم قتل المستأمنين

حكم قتل المستأمنين المستأمن هو الكافر -يهودياً كان أو نصرانياً أو غير ذلك- الذي أخذ الأمان بدخول دار الإسلام من ولي الأمر أو آحاد المسلمين، وهو هذه الأيام يختص بولي الأمر فقط، ومن صوره المنتشرة هذه الأيام التأشيرة على الجواز، وقد حرم الله تعالى دم المستأمن وماله وعرضه، وهذه الحرمة ثابتة بالكتاب والسنة والعقل وأفعال الخلفاء والصحابة وأهل العلم على مر الزمان، فلا يحل لأحد أن يتعدى عليه في عرضه أو ماله أو دمه.

قدر الله الكوني في تقسيم الناس

قدر الله الكوني في تقسيم الناس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فلا شك أن الله جل في علاه خلق الخلق وقدر كوناً أنهم سينقسمون إلى قسمين: مؤمنين وسيكونون في موضع، وكافرين وسيكونون في موضع آخر، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فجعل الناس على قسمين: كافر ومؤمن، وهذا قدر كوني من الله جل في علاه، وهناك أحكام تتعلق بالكفار وأحكام تتعلق بالمسلمين.

أقسام الكفار

أقسام الكفار ينقسم الكفار إلى أقسام وأصناف: فصنف منهم محاربون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويسبون الله ورسوله، ويعبثون بمقدسات المسلمين، واليد التي تعبث في مقدسات المسلمين لا يشك مسلم في أن بترها من الوجوب بمكان، فقد أوجب الله جل وعلا ذلك على رسوله وعلى المؤمنين، وكل ذلك داخل تحت إطار قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] أي: في حيز الاستطاعة، فاليد التي تعبث في مقدسات المسلمين، والذين يسبون الله ويسبون رسوله، والذين يحاربون أهل الإسلام وأهله بتر أيديهم من الوجوب بمكان. وأما الصنف الثاني: فهم قوم لا يحاربون أهل الإسلام ولا يحاربون الإسلام بل هم أهل ذمة. والصنف الثالث: صنف وسط بين أهل الكفر الذين يحاربون أهل الإسلام وبين أهل الذمة، وهؤلاء هم أهل الأمان أو المستأمنون كما سنبين، وفيهم شبه من الذين يحاربون، وشبه من أهل الذمة، فأما الشبه من الذين يحاربون فهو أنهم محاربون أصلاً، وفيهم شبه من أهل الذمة؛ لأن ولي الأمر قد أدخلهم بأمان إلى ديار المسلمين كما سنبين. ونحن الآن بصدد الكلام على هذا الصنف الذي هو بين المنزلتين.

تعريف الإيمان لغة وشرعا

تعريف الإيمان لغة وشرعاً

تعريف الأيمان لغة وشرعا

تعريف الأيمان لغة وشرعاً أولاً: الأمان ضد الخوف، تقول: أمنته ضد أخفته، واستأمن أي: طلب الأمان، واستأمنه: طلب منه الأمان، والمستأمن: طالب الأمان، ويمكن أن يقال: المستأمِن ويقال: المستأمَن اسم مفعول، يعني: صار له أو صار آمناً في ديار المسلمين بعد أن قرر ولي الأمر أن يدخل إلى بلاد الإسلام. إذاً فالأمان أو نقول الاستئمان: هو طلب الأمان. وأما تعريفه شرعاً أو فقهاً أو اصطلاحاً: فهو عقد يبرمه ولي الأمر مع كافر محارب أو غير محارب ليس له عقد ذمة ليدخل ديار المسلمين. وقلت: لولي الأمر؛ لأن بعض العلماء يرى أن آحاد المسلمين يمكن أن يعطي هذه الذمة، و A أن المسألة الآن قد آلت إلى ولي الأمر؛ لأنه هو الذي يرى المصلحة في دخوله أو منعه من الدخول. إذاً فهو عقد يبرمه ولي أمر المسلمين مع كافر، وهذا العقد مؤقت لوقت معين، وفي عصرنا هذا تنوب عنه التأشيرة، فيطلب الكافر أو المستأمن التأشيرة أو طلب الدخول بأمان إلى دولة المسلمين فيوقع على ذلك، أو يقبل ذلك، أو يرفض ذلك ولي الأمر، فبموجب هذا القبول أو موجب هذا الإقرار من ولي الأمر يدخل الكافر المحارب إلى ديار الإسلام مستأمناً، وهو عقد غير مؤبد، بل هو عقد مؤقت بين ولي الأمر وبين الكافر، وذلك إذا رأى ولي الأمر أن مصلحة المسلمين في دخوله، فهذا راجع إلى ولي الأمر فينظر في المصالح والمفاسد.

حكم تأمين الكفار

حكم تأمين الكفار إن الذي يقرر حكم تأمين الكفار هو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولله در من قال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه. ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه. فهل الله جل وعلا يعطي ذلك لولي الأمر ويمنحه هذه؟ A نعم، وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يمنح لولي الأمر ذلك؟ الجواب: نعم، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، والمرد بالمشركين هنا الكفار، فإذا طلب منك الكافر الجوار والأمان ليسمع كلام الله فأجره ليسمع كلام الله، فلعل الإسلام وبشاشة الإيمان تدخل في قلبه قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا دال على أن الوقت إذا انتهى فلابد أن ننتظر حتى يذهب إلى مأمنه ثم بعد ذلك يأخذ أحكام الكفار. ومن السنة ما جاء في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن ابن ماجة، وسنن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، فالذمة هنا الأمان، وقوله (ويسعى بذمتهم) فيها دلالة على العموم. وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بذمتهم أدناهم) يعني: إذا أمن فرد من آحاد المسلمين كافراً وجب على كل أهل الإسلام أن يأخذوا بهذا الأمان، ولا يخفروا ذمة المسلم، وسنبين العقوبة الشديدة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم على من يخفر ذمة المسلم. وفي رواية في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، ومن خفر مسلماً أو أخفر مسلماً -يعني: أخفر ذمته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فهذا فيه دلالة على أن هذا من الموبقات ومن الكبائر كما سنبين، إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم يصرح لنا تصريحاً مرعباً لمن يتحدى أو يتعدى هذه الحدود ويتجرأ على محارم الله جل في علاه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة) وقد اجتمعت هذه الذمة في ولي الأمر (ومن أخفر مسلماً -يعني في ذمته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وأيضاً في صحيح البخاري: (أن أم هانئ دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة وقالت: إن علي بن أبي طالب قد زعم أنه سيقتل فلاناً ابن هبيرة -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أم هانئ! قد أجرنا من أجرت) فأجاز لها الجوار، وأجاز لها الأمان، واعتبر أمانها وجعله أماناً على كل المسلمين. وهذه الأسانيد كما قلت موجودة في السير، والإمام أحمد بن حنبل قد نصب لنا قاعدة مهمة جداً وهي: إذا جاءت الأحكام شددنا -يعني: شددنا في الأسانيد فنرى هل هذه الأسانيد قاطعة أم لا- وإن كانت في السير أو في التراجم تسامحنا. ففي السير أن أبا العاص زوج زينب رضي الله عنها وأرضاها جاء في سرية من سرايا أهل الإسلام وقد أخذوا تجارته، فجعلت زينب له الأمان، فالنبي صلى الله عليه وسلم وفّى لها أمانها، ورد هذه التجارة لـ أبي العاص. وسند هذه الرواية فيه ابن لهيعة وابن لهيعة فيه كلام ليس هذا محل التفصيل فيه، لكن هذا يستأنس به مع الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أجار من أجارته أم هانئ، وكذلك وفّي ذمة زينب رضي الله عنها وأرضاها، وهذا كله من الكتاب والسنة، والعقل أيضاً لا يأبى ذلك بحال من الأحوال بل يقرر ذلك، فالكافر مخلوق كما أنك أنت مخلوق، وآدمي كما أنك أنت آدمي، وله حقوق حتى في القتل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الإسلام له قواعد راسية لابد أن نسير عليها، فقال: (فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، ولما مر على المرأة في السبي وهي تحضن طفلها قال: (ما كانت هذه لترميه في النا)، فهناك أحكام حتى مع الكفار بالله، فعليك أن تتأسى بصفات الله جل في علاه وتطبق ذلك في أخلاقياتك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى من الله؛ يسبونه وهو يطعمهم ويسقيهم). فلهم أحكام وهذه الأحكام لا بد أن توفى، ولابد لكل مسلم أن يعلمها وأن يتعامل بها، ولابد أن تحترم، ومنها: أنه لو دخل بأمان وطلب الأمان من المسلمين فعليهم أن يوفوا له بهذا الأمان، لا سيما إذا كان دخوله فيه الغاية العظمى السامية التي يسعى إليها المؤمن وهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم)، فتبين له حكم الإسلام، وتدعوه بالموعظة الحسنة، فلعله أن يسلم أو ينتفع به أهل الإسلام، أو تنتفع أنت بما عنده من علم وتقدم، فالعقل يقرر هذا ولا يمكن أن يرد ذلك. إذاً فالكتاب والسنة والعقل يقررون مسألة الأمان وأن الإنسان لابد أن يوفي بهذه الذمة.

الفرق بين عقد الأمان وعقد الذمة

الفرق بين عقد الأمان وعقد الذمة إن الفرق بين عقد الأمان وبين عقد الذمة يسير وهو: أن عقد الأمان على التوقيت، ولا ضريبة عليه -يعني: لا مال عليه- إلا إذا رأى ولي الأمر أن يضرب عليه في تجارته بعض الضرائب فله ذلك كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وأصالة عقد الأمان أو المستأمن مؤقت. وأما عقد الذمة فهو على التأبيد، فمثال عقد الذمة أن يعيش رجل معك في قطرك أو في بلدك، ويأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويدفع لك في كل عام مالاً، وهذا المال يسمى الجزية، كما قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فبموجب هذه الجزية يجب حفظه، وحفظ عرضه، وحفظ ماله، والدفاع عنه، بل وتأديب من يتعدى عليه، وهذا يرجع لولي الأمر. إذاً فعقد الذمة وعقد الأمان يستويان، والفرق أن عقد الذمة على التأدبيد بمال محدد، وأما عقد الأمان فليس على التأديب ولكنه على التوقيت، وبعض العلماء والفقهاء وقتوه بسنة، وبعضهم وقته بأقل من ذلك، وبعضهم وقته بأكثر من ذلك، والصحيح الراجح ما رجحه الشوكاني: أنه غير مؤقت؛ إذ الأدلة جاءت على الأمان مطلقة، والقاعدة عند العلماء: أن يبقى المطلق على إطلاقه حتى يأتي المقيد فيقيده، ويبقى العام على عمومه حتى يأتي المخصص فيخصصه، ولا تخصيص ولا مخصص ولا مقيد هنا، إذاً فهو على الإطلاق، فعقد الأمان يستوي مع عقد الذمة. وإذا قلنا: بأن عقد الأمان يستوي مع عقد الذمة فموجب عقد الأمان هو موجب عقد الذمة، وقد بينه لنا علي بن أبي طالب في قاعدة تكتب بماء الذهب على الصدور، حتى يتبين للأغرار، وحتى يتبين للذين يجهلون دين الله جل في علاه، وحتى يتبين للذين يتسرعون فيأخذهم الحماس في أنهم يتعدون حدود الله جل في علاه، وحدود رسوله صلى الله عليه وسلم. فـ علي بن أبي طالب يقول: إنهم ما بذلوا الجزية إلا لتصير أموالهم كأموالنا، وأعراضهم كأعراضنا، ودماؤهم كدمائنا. إذاً فموجب المسألة أن تسوي بين المسلم وبين الذمي وبين المستأمن، والغرض المقصود: أنهما وإن كانا لا يستويان عند الله جل في علاه في الدين، لكن في الحرمة يستويان لقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب السابق، وهو من الخلفاء الراشدين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد)، فـ علي بن أبي طالب قال: والله! ما بذلوا الجزية إلا لتصير أموالهم كأموالنا، وأعراضهم كأعراضنا، ودماؤهم كدمائنا. وهما لا يستويان عند الله مثلاً أبداً، فإن المسلم يعلو ولا يعلى عليه، وشتان بين من سجد لله ذلاً وخضوعاً ومسكنة وبين من تكبر على الله جل في علاه وسب الله، لكن يستويان في الحرمة وهذا شرع الله جل في علاه، وهذه من حكمة الله، بل من رحمة الله بهم؛ حتى يوفَّوا حسناتهم في هذه الدنيا.

موجب عقد الأمان

موجب عقد الأمان إذاً نقول: إن موجب عقد الأمان أمور ثلاثة، وهي من أهم الأمور: أولاً: حرمة المال؛ لقول علي: أموالهم كأموالنا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حرم عليك أن تسرق أو تغصب مال المسلم، كما في الصحيحين: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا). فكل نص جاء بحرمة مال المسلم وضعناه في حرمة مال المستأمن؛ لأن علي بن أبي طالب وهو خليفة راشد جعل استواء الحرمة بين مال الذمي وبين المسلم، وبين مال المستأمن وبين المسلم. فإذا ذهب أحد يرتقي إلى أموال هؤلاء الكفرة، أو ليغصب أموال الكفرة ويستحلها ويقول: أموالهم حلال، فهذا كفر بالله جل في علاه وكفر برسول الله، ونأتيه بالنص القاطع الذي يعرفه بحرمة مال هذا المستأمن؛ لأنه دخل بأمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنه، وأشار إليك بأنك إذا أمنت المسلم فقد أمنته على ماله، وأن ماله يستوي مع مال المسلم. الثاني: حرمة عرضه في زوجه وابنته أو أي أحد معه يخصه كأمه أو أخته؛ لقول علي بن أبي طالب السابق، فقد جعل عرضه كبعرض المسلمين، وهذا موافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الأمان، فأعراضهم كأعراضنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أموالكم وأعراضكم ودماءكم عليكم حرام). والموجب الثالث: حرمة الدم، وهذه هي أم الباب، فلا يجوز بحال من الأحوال للإنسان أن يتجرأ على دم مستأمن، ولا أن يستحل دم مستأمن ولو كان أكفر أهل الأرض؛ لأنه ما دخل إلا بأمان، فقتله خفر لذمة المسلمين، بل إن هذا شيء قد حذر الإسلام منه وهو غدر وخيانة، والله جل في علاه قد بين أن من شيم المنافقين الغدر والخيانة، وأما شيم المخلصين المتقين فهي الوفاء بالعهد وعدم الخيانة، ولذلك جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً وذكر منها: وإذا عاهد غدر). إذاً فحرمة دم المستأمن ثابتة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تعدى على هذه الحرمة فقد تعدى حدود الله جل في علاه وإن كان يحسب أنه يحسن صنعاً، وهو في الحقيقة يسيء إلى نفسه ويسيء إلى غيره، وكم من مريد للخير لم يبلغه، وهذه مصيبة كبرى، فالشباب الآن يضيعون أنفسهم فترى شاباً يقتل نفسه وهو يحسب أنه بفعله هذا سيدخل الجنان، وهذه مصيبة كبرى، وضلال في الفكر، فلا بد أن يستقيم المرء على الطريق المستقيم حتى يصل إلى ربه سالماً بدلاً من أن تضيع دنياه وآخرته ويحسب أنه يحسن صنعاً، وكما قال ابن مسعود: وكم من مريد للخير لم يبلغه.

حكم من قتل مستأمنا

حكم من قتل مستأمناً فإذا تجرأ امرؤ على رجل مستأمن فقتله حكمه: أولاً: أن هذا الفعل من المهلكات ومن الكبائر، وهناك أدلة متكاثرة تبين ِأن الله جل في علاه وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد جعلا هذه الفعلة في الموبقات والكبائر المهلكات، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (اجتنبوا السبع الموبقات، وعد منها: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) والمستأمن حرم الله دمه حيث قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، ويصبح بذلك معصوم الدم والمال والعرض، فإذا قتلت نفساً حرمها الله جل في علاه فإنك تدخل في ذلك الوعيد. ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذه الرواية في البخاري، ورواية النسائي قال فيها: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) حتى ولو كان المعاهد كافراً أو منافقاً؛ لأن القضية ليست في كفره، وإنما القضية في أمان المسلمين وعهدهم ووفائهم وعدم خيانتهم لمن عاهدوه. وقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرواية بقوله: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة) فقوله: (بغير حق) تقييد أخرج من نقض أمانه فليست له هذه الأحكام، بل أمره يرجع إلى ولي الأمر فينظر في أمره، بدلاً من الفساد المستشري الذي يحدث من آحاد المسلمين بما ترى الأمة وتسمع في كل البلاد الإسلامية والعربية. وخلاصة القول: أن المستأمن معصوم الدم، ومن قتله لم يرح رائحة الجنة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يدل على أنه من الكبائر. ومما يبين أنه من الكبائر: اللعن، فضوابط الكبائر كثيرة ومنها: إذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل هذه الفعلة فإنها من الكبائر، وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخفر مسلماً -يعني في ذمته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، واللعن معناه: الطرد من رحمة الله جل في علاه، فاللعن هنا لأنه خفر ذمة المسلمين؛ ولأنه خالف عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فهي من الموبقات والمهلكات، والكبائر، وعلى الإنسان أن يقف وقفة أمام نفسه؛ حتى لا يتجرأ على حدود الله جل في علاه. وخلاصة الأدلة التي تدل على حرمة قتل الكافر الذي دخل بتأشيرة ولي الأمر في بلاد المسلمين من عدة وجوه: الوجه الأول: أن قتل المستأمن فيه خيانة الأمانة، وهذه من شيم المنافقين وليست من شيم المؤمنين، والله جل في علاه يحث الأمة على أداء الأمانة، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال جل في علاه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وهذا فيه تصريح وعموم. بل قد نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان ممن لا أمانة له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، ومن قتل مستأمناً فقد غدره، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يعقد لكل غادر لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان)، حتى ولو كان المغدور به كافراً، لكن بشرط أنه لا يفعل ذلك صراحة في بلادنا، لكن المقصود أن معتقده الكفر بالله والله جل وعلا هو الذي شرع هذا وليس من عند أنفسنا، ولا بد أن ندور مع شرعنا حيث دار، فلا تحركنا العواطف، ولا تحركنا الحماسات ولا الثورات، بل الدين هو الذي يحركنا تحت ظل قول الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]. إذاً: فالوفاء بالعهد والوفاء بالأمانة هو أول شيء يذكر في بيان حرمة قتل المعاهد. الوجه الثاني: أنه تعد لحدود الله جل في علاه، والله لا يحب المعتدين، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، وإذا نفى الله الحب عن عبد فقد أتى هذا العبد كبيرة، وأتى هذا العبد باباً لا يحبه الله جل في علاه، فمن دخل بأمان في ديار المسلمين وهذا الأمان مقرر من ولي الأمر ثم اعتدي عليه من آحاد المسلمين فهذا تعد على حدود الله جل في علاه، وأيضاً فإن الله جل في علاه يقول: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]. الوجه الثالث في الحرمة: أن هذا من الظلم، والله لا يرضى بالظلم، وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فإن المستأمن إذا دخل بأمان وقد أمنته على ماله أو أمنه ولي أمرك على ماله وعلى عرضه وعلى دمه، فتجاسرت على هذا الأمان وتعديت هذه الحدود وقتلته، أو سرقت ماله، أو تعديت على عرضه فقد ظلمته ووقعت في الظلم البين، والله لا يرضى على الظالمين ولا يحبهم، وهذه الفعلة فيها مظلمة فقد خفرت ذمة المسلمين وتعديت على أهل الأمان، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة). وأيضاً عند الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً) وهذا تصريح، فقوله: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً) أي: وإن ظلمته وهو يكفر بالله جل في علاه فإن الله لا يرضى بالظلم. والدولة الإسلامية إن قامت على الظلم هدمها الله جل في علاه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، والدولة الكافرة التي كفرت بالتوحيد لو قامت على العدل أقامها الله جل في علاه وأدامها، فدولة الظلم لا يمكن أن تستقر ودولة العدل تستقر، ولا محسوبية عند الله جل في علاه، فليس بين الله وبين عباده واسطة. الوجه الرابع: أن يقال لمن يقتل المستأمنين: لم فعلتم ذلك؟ فإذا قالوا: نحن نفعل ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: بل هذا خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، و (شفاء العي السؤال)، ولو تعلمتم وتفقهتم لعلمتم أنكم خالفتم الله، وخالفتم رسوله، وخالفتم الخلفاء الراشدين، وخالفتم المنهج السديد، وهذا غلو وانحراف لا بد من بتره، ولا بد من تعليم الأمة بأن هذا من الانحراف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة أعطى العهد لليهود ووفى لهم، وما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن نقضوا هذا العهد فقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم وفى لأهل نجران ذمتهم، وهذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف أنت تخفر الذمة وتقول إنك تأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل أنت خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل رسول الله صراحة، فهذا الأول. الثاني: أنك خالفت فعل الخلفاء الراشدين الأربعة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فأنت خالفت فعل عمر وخالفت فعل علي وخالفت فعل عثمان، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عند موته يوصي بأهل الذمة ويقول: استوصوا بأهل الذمة خيراً، بل يوصي بألا يكلفوا ما لا يطيقون، يعني: لا تكلفهم في الجزية ما لا يطيقون فالغني يعطي من غناه، والفقير يعطي على قدره وبحسبه، والمرأة لا تعطي، والشيخ لا يعطي، والصبي لا يعطي، والمجنون لا يعطي، وفيها حكم المعاملة مع أهل الذمة في الثوابت الذي ضبطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. بل إن في تاريخ الطبري أن عمر بن الخطاب كان يستقبل الوفود ويسألهم عن أهل البصرة ويقول لهم: هل المسلمون يفضون بالأذى إلى أهل الذمة؟ فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خير من وفى بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير من وفى بذمة المسلمين، قال: هل يفضون إلى أهل الذمة بأذى؟ فقالوا له: لا والله ما رأينا عليهم إلا الوفاء أي: أنهم وفوا بفضل الله تعالى. وهذا عمرو بن العاص يسرد لنا أروع الأمثلة في الوفاء بالذمم، فعندما دخل وترأس مصر وفتحها بفضل الله جل في علاه، كانوا أقباطاً، فدانوا بالسمع والطاعة والولاء لـ عمرو بن العاص لحسن صنيعه معهم، ولتطبيق الإسلام الحق معهم، فقد وفى لهم بذمتهم وأخذ منهم الجزية وأحسن معاملتهم ووفوا معه وأحبوا ولايته. وجاء أيضاً في قضية عمر بن الخطاب عندما تسابق ابن عمرو بن العاص مع ابن يهودي فلطمه أو ضربه بالجرة وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فذهب اليهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يشتكي له، فاستنهض عمر فدعا عمرو بن العاص وابنه فجاءا يهرعان، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فجعلت المحكمة العادلة في محفل بين الصحابة فقال عمر لابن اليهودي: اضربه وهو ابن الأكرمين، فضربه ثم قال: اخلع ما على رأسك فجعل عمر بن الخطاب يخلع عمامته وقال له: اضرب صلعة أبيه، ما فعل ذلك إلا بولاية أبيه، قال: لا والله! أخذت حقي يا أمير المؤمنين! فهذا عدل الإسلام، وهذا هو: وفاء للذمة لأهل الذمة، فكيف نخفر ذمة المسلمين؟ وكيف نخفر ذمة ولي الأمر؟ ففي هذه المسألة خطر جسيم ومفسدة عظيمة لا يعلم شرها إلا الله جل في علاه. وإذا قلنا: بأنها خ

الأسئلة

الأسئلة

تكفير الحكام

تكفير الحكام Q يذكرون من شبههم أن ولي الأمر كافر، فكيف الرد على هذه الشبهة؟ A أول الأصول عندهم هو تكفير الناس، وهناك شريط موجود الآن اسمه: تلخيص التأصيل في قضية التكفير، بينت فيه أن هذه المسألة لا يتجرأ عليها إلا الجهلة، فلا يمكن أن تخرج مسلماً من دائرة الإسلام إلا بدليل أسطع من شمس النهار، ومن فعل ذلك فإنه يعتبر جاهلاً تجرأ على ربه جل في علاه، وترسم لوازم الربوبية، فالكفر والإيمان بيد الله وليس في يدك أنت، أما قال لك: لا إله إلا الله؟ أما رأيته يصلي مرة؟ فكيف تجرؤ على تكفيره؟ وهذه الشبهة قد رددت عليها في الشريط السابق.

اتخاذ فتوى شيخ الإسلام مسوغا لقتل الأبرياء من المسلمين

اتخاذ فتوى شيخ الإسلام مسوغاً لقتل الأبرياء من المسلمين Q يستشهد بعض المفجرين لأنفسهم بفتوى شيخ الإسلام في جواز قتل المسلمين عند تترس الكفار بهم، فكيف الرد على ذلك؟ A فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في التترس بالمسلمين، وما أفتى بذلك إلا للمصلحة العظمى، فإذا كان أهل الإسلام يقاتلون أهل الكفر، وتعسر عليهم فتح الحصن لكون الكفار تترسوا بالمسلمين، ويقيناً أن أهل الإسلام سينتصرون على أهل الكفر لو قتلوا الطائفة الصغيرة معهم من أهل الإسلام، وهنا تدخل مقاصد الشريعة، فإذا كانت المصلحة الأعظم هي الفتح والنصر للمسلمين ولو ماتت طائفة منهم، فهنا يجوز ذلك، وهذه الطائفة التي قتلت تكون فيها الدية، ويغفر الله لهم؛ لمصلحة تمكين الدين. وأما اليوم فالمفسدة قد سدت عين الشمس، وهي أعظم مما يتصور الإنسان، ففيها قتل أبرياء ومسلمين، وإهدار دماء المسلمين وأموالهم، وهذه أموال العامة فكيف يتجرأ عليها مسلم؟ هذا أولاً. ثانياً: أن كل الأصول التي يعتمدون عليها زائفة ومتهاوية، وهي تدل على الجهل العميق المتمكن فيهم، ولذلك فالواحد منا يبكي دماً بدلاً من الدموع على هؤلاء؛ لأنهم من أفضل البشر، فقد ألزموا أنفسهم دين الله جل في علاه، وبكوا وسعوا ودعوا الله جل في علاه فلماذا يضيعون أنفسهم؟! ولعنة الله على الجهل، وأسأل ربي ألا أكون قد أخطأت في هذه الكلمة، فالجهل هو الذي فعل بالناس هذا، ولذلك نحن ننادي دائماً، بل نقول: هذه نصيحة لنا ولإخواننا ولأولياء أمورنا أنه لابد أن يمكن لطلبة العلم ولأهل العلم؛ لأن أهل العلم هم الذين يبصرون الناس بما يرضي الله جل في علاه، ويبصرون الناس بالنهج القويم الذي ليس فيه غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، فالوسطية هي أهم شيء، وهي التي تصل بنا إلى الله جل في علاه.

حكم العمليات الانتحارية

حكم العمليات الانتحارية Q ما قولكم في الذين يفجرون أنفسهم؟ A الذي يفجر نفسه في فلسطين يعد قاتلاً لنفسه، إلا إذا قتل نصف اليهود، أو قتل ربع اليهود. وقد بينت أن هناك ضوابط خمسة لابد أن تتوافر فيمن يفعل ذلك وإلا سيقع تحت قول الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. لأن المتفجر الذي يربط نفسه بالمتفجرات سيموت يقيناً، وأما الذين يحتجون بقول أبي أيوب الأنصاري: إنكم تضعون هذه الآية: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] في غير موضعها، فقد كنا -يعني: أهل جهاد- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انشغلنا بالزرع، فأنزل الله هذه الآية، وكان الواحد منا يشق الصف كما كان يفعل الزبير وغيره ويقاتل. وقال البراء بن مالك: احملوني، فذهب وفتح الحديقة. فنقول: كل هذه الأدلة صحيحة وجيدة لكنها بعيدة بعض الشيء عن محل النزاع، والقياس فيها قياس لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، فـ الزبير لما كان يشق الصف ويضرب عن اليمين واليسار كان لا يستيقن موته، وأما الذي يربط نفسه بالمتفجرات فهذا مستيقن من موته، فيدخل تحت قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فالقياس الذي ذكروه لا يصح، والصحيح الراجح في ذلك: أنه إن أراد أن يفعل ذلك ويتجرأ على أن يضيع نفسه الغالية عند الله جل في علاه فلابد أن يفعل كما فعل صاحب الأخدود، وهذا إن نزل منزلة صاحب الأخدود.

حكم من ذهب إلى بلاد الكفر وقتل هناك أناسا منهم

حكم من ذهب إلى بلاد الكفر وقتل هناك أناساً منهم Q ما حكم من ذهب إلى بلاد الكفر وقتل منهم أناساً؟ A إن كان دخل بلادهم بأمان فلا يجوز له ذلك في حال من الأحوال؛ لأنه قد غدر بعهده.

شبهات حول حد الردة

شبهات حول حد الردة لقد جعل الله سبحانه وتعالى لهذا الدين أعداء؛ ليميز الخبيث من الطيب، وأعداء هذا الدين لا يفترون في تشويهه وإثارة الشبهات في أحكامه الشرعية؛ ليلبسوا على المؤمنين دينهم، ومن ذلك شبهاتهم حول حد الردة ورده بتأويلات باطلة سخيفة، وقد رد عليهم علماؤنا بالحجة والبرهان، وبينوا كذبهم وضلالهم، فزالت تلك الشبهة بفضل الله سبحانه وتعالى.

تلبيس ثوابت الدين وأصوله على الناس حرب يشنها أعداء الله منذ سنين طويلة

تلبيس ثوابت الدين وأصوله على الناس حرب يشنها أعداء الله منذ سنين طويلة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زال الله جل في علاه يبين لنا أن هذه الأمة تحتاج إلى رجال يدافعوا عن دينه جل في علاه، فالأغرار لا يستطيعون القيام بدين الله جل في علاه، والفتن تأتي قسراً، وتَدْلَهِم الخطوب والظلمات على الناس بسبب الجهالات، ولا يستطيع أحد أن يقف ليرفع نور راية لا إله إلا الله إلا طالب العلم المسلم، ونحن نعلم من سنين طوال الحرب الضروس على ثوابت هذا الدين، لكن المسألة لا تعلن صراحة أنها حرب على ثوابت وأصول الدين، بل يؤخذ بها ويرد على الثوابت بشبهات حولها مع تلبيس وتدليس لا بد للأغمار الأغرار أن يقعوا فيها، ولن تجد أحداً من العامة يستطيع أن يرفع رأسه إذا سمع هذا الكلام المعسول المنمق بقال الله وقال الرسول، ومن استطاع أن يقف أمام هذه الهجمة فليقف الآن، فإن حدود الله جل في علاه هي من الثوابت، وهناك من يأتي بحدود ليسقط الحدود، ثم يأتي بشبهات حول كون هذا حداً أو ليس بحد ويذكر أدلة يغطي بها ما يقول، ولن يستطيع أحد أن يقف أمام هذا التيار إلا طالب العلم، ولذلك فإن الذي يحدث الآن هو طمس لهوية العلم؛ حتى لا يخرج أحد يستطيع أن يقف وقفة ثابتة ضد من يريدون طمس الدين ومعالمه، وحتى لا يظهر من الدين إلا رسمه أو اسمه، فليس هناك معنى للدين، ولا مضمون له، ولا ثوابت يمكن لها أن تقود الإنسان إلى الله جل في علاه.

تعطيل معنى الردة عن طريق الحرية الشخصية وإثارة الشبهات حول دين الله

تعطيل معنى الردة عن طريق الحرية الشخصية وإثارة الشبهات حول دين الله هناك شبهات كثيرة جداً حول حد الردة، وأنه لا يوجد شيء اسمه ردة، بل هي حرية شخصية، وهذه الحرية الشخصية تسوغ لأي إنسان أن يسب الله ويسب رسوله، وأن يكون منافقاً فيسب هذا الدين، ثم يبني الدين على هواه، فهذه الشبهات تنفي أن الرسول أثبت حداً للردة، فيقوم الرجل علناً ويسب الله أمامك، ثم يقول: هذه حرية شخصية ويسب الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنك لا تستطيع أن تقول: هناك حد للردة، فلابد من قتل هذا المرتد؛ لأنه سب الرسول وسب الله.

كيفية مواجهة مثل هذه الشبهات ودعاتها

كيفية مواجهة مثل هذه الشبهات ودعاتها إن الذي يدور حوله الناس في هذا العصر هو هدم هذه المعالم الدينية، وهدم هذه الثوابت والأصول؛ حتى لا يكون هناك دين ولا هوية إسلامية يتمسك بها، ولا يمكن مواجهة مثل هذه الشبهات بالسيف أو الثورات الحماسية أو القتل، فإنك إن فعلت ذلك أتيت بمفاسد أعظم، وقد تعلن راية لا تعرف صحة منهج هذه الراية؛ لذلك فإن مواجهة هؤلاء تكون بإظهار عوارهم، والرد عليهم بالحجة، وأن تبين عطب ما هم فيه من فكر، وتبين للناس أن هؤلاء من الجهل بمكان، وأنهم ما يريدون إلا فعل إبليس وهو التلبيس على الناس، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]. فأنت إن لم تكن راسخاً في العلم فلا تستطيع أن تقف، وهذه أيضاً من تلبيسات الشيطان، إذ يلبس على أناس فيهم من الخير العميم ما هو فيهم، وهم من المجتهدين في طلب العلم، فيدعوهم إلى التقاعس من الطلب، أو الانسلاخ من بعض الطلب، فيلبس عليهم، ويقول: السؤالات كثيرة تكرارات هي مسائل نظرية وليست عملية، وهذا هو تلبيس إبليس، إذ يجعل المجد الذي تظن فيه أنه يحمل الراية يتقاعس مرة تلو المرة، فيجعله يكثر من الأسئلة والنقاشات الكثيرة حتى يمل منها فيتقاعس، فيبقى على ما هو عليه، فتأتيه الفتن فلا يستطيع أن يقف أمامها. فلابد للإنسان أن يتقي الله ربه، وأن يتقن الطلب، وأن يثبت أمام هذه الشبهات.

بعض الشبهات التي يقولها بعض الناس حول الردة

بعض الشبهات التي يقولها بعض الناس حول الردة لابد من سرد بعض الشبهات حول هذه المسألة، منها قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، وهذه آية عامة، ولا يمكن لأحد أن تكرهه على الدين بنص الآية، فلا يجوز لك أن تكره أحداً على الدخول في دين الإسلام، فالناس أحرار، فمن وجد أن دين الإسلام دين عصبية، فخرج منه إلى دين اليهود والمجوس فأنت ليس لك أن تقتله؛ لهذه الأية. وأيضاً قول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، فانظروا إلى هذا التأصيل الباطل الذي يوحيه الشيطان. وقالوا: إن دلالة القرآن قطعية، وحديث (من بدل دينه فاقتلوه)، دلالته ظنية، وإذا تعارض القطع مع الظن فلا بد من تقديم القطع على الظن، وهذا في الحقيقة حق أريد به باطل. ومن الشبه الأخرى أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ارتد في وقته وفي حينه أكثر من شخص ولم يقم عليهم حد الردة، وهذا فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى أن هذا حد، إذاً فهذه المسألة من عمر وأبي بكر هي مسألة اجتهاد ولي الأمر. وهناك شبهة أخرى، حيث قالوا: إن حديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، من رواية عكرمة عن ابن عباس، وعكرمة كذاب كما قال ابن المسيب، فهو مقدوح فيه ومجروح، وقد وهم البخاري حين رواه عن عكرمة. وقالوا: إن الإمام مسلم رفض الرواية عن عكرمة وهذه شبهة من أقوى الشبهات؛ إذ إن مسلم بن الحجاج النيسابوري مفخرة المسلمين في رواية الحديث، وقد عضد الإمام مسلماً في رفضه لرواية عكرمة الإمام مالك، فقد طرح رواية عكرمة، فقالوا: نحن نرد الحديث؛ إذ الحديث عندنا فيه شبهة فلا يمكن أن نأخذ به، إذاً فلا دليل على حد للردة في القرآن ولا في السنة، ونحن نعرف أن هناك أناساً ارتدوا، وهناك أناس قتلوا فيها بسبب الردة، لكن هذا اجتهاد فقهاء، والفقهاء رجال قد يقبل اجتهادهم أو يرد. وهكذا انقطع هذا الدين بإسقاط حد من حدود الله، وكل ذلك بسبب هذه الشبهات والتلبيسات التي تحدث، والأحناف أيضاً يقولون بذلك. فالحاصل: أن هذه المسائل لا يمكن أن يقف أمامها صاحب دين وعبادة وزهد فقط، بل لا بد أن يكون صاحب علم، وهذا من فضل العالم على العابد، ومن فضل مجالس العلم على غيرها، وسنبين أيضاً أننا في حاجة ماسة لعلم التفسير؛ بسبب هذه المسائل التي يدخلون علينا بها.

معنى الردة لغة واصطلاحا وبيان عظم خطورتها من الكتاب والسنة

معنى الردة لغة واصطلاحاً وبيان عظم خطورتها من الكتاب والسنة الردة لغة: الرجوع، واصطلاحاً: الرجوع عن دين الله جل في علاه، والردة أمر عظيم جداً يبغضه الله جل في علاه ويبغضه رسوله صلى الله عليه وسلم، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، منها: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، أي: أنه لا يضر الله شيئاً ولا يضر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يضر عامة المسلمين شيئاً، بل يضر نفسه، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، إذاً: فالذي يرتد لا يحب الله ولا يحبه الله جل في علاه. وأيضاً يقول الله جل في علاه زاجراً ومخوفاً من يرتد عن دينه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، نعوذ بالله من هذا الخذلان.

ذكر بعض أبواب الردة

ذكر بعض أبواب الردة إن أمر الردة أمر فظيع ذمه الله جل في علاه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأبواب الردة كثيرة جداً، فمنها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، فسب الله باب من أبواب الردة عن دين الله، فمن سب الله فقد كفر، ولا يمكن أن يرجع لدين الله إلا بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويتوب من ذلك. وكذلك سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع من قال: هذا سوء أدب، أو بعض المتأخرين الذين حاولوا أن يبينوا أن هذا من دأب القوم، والقوم يفعلون ذلك من سوء أدبهم، فإن هذا الأمر لا مدخل فيه؛ لأنه سياج قوي، فمن سب رسول الله فقد كفر. وكذلك إنكار معلوم من الدين بالضرورة، كإنكار شرب الخمر، وكإنكار فرض الصلاة، وكإنكار الحجاب، ومعنى المعلوم من الدين بالضرورة: أنه لا يحتاج إلى نظر، ولا يحتاج لبحث ولا اجتهاد، فإنكار المعلوم من الدين بالضرورة ردة عن الدين أيضاً، وهناك أمور أخرى مختلف فيها لا ندخل فيها، فهذه أمور مهمة جداً تثبت لك أن هذا من الردة وسب الدين يدخل مع سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل هذه الثلاثة خروج من الملة، ولا يحتاج في ذلك إلى إقامة الحجة وإزالة الشبهة. ومن أبواب الردة أيضاً: تكذيب الله جل في علاه، وهو يدخل في سب الله جل في علاه ورد حكمه، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.

اختلاف العلماء في كون حد الردة من المعلوم من الدين بالضرورة

اختلاف العلماء في كون حد الردة من المعلوم من الدين بالضرورة إن حد الردة من دين الله جل في علاه، فمن رده دون تأويل فإنه يدخل في هؤلاء، لكن من رده بتأويل فإنه لا يكون منهم، لكن يناقش ويناصح وينكر عليه ما قال، ونقول له: أنت على خطر عظيم، فحدّ الردة من الثوابت لكن لا يعتبر من المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الأدلة عليه فيها أخذ ورد، فحد الردة من الثوابت، وتكذيب الله من الردة، لأنه معلوم من الدين بالضرورة، فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].

ثبوت حد الردة بالسنة والإجماع

ثبوت حد الردة بالسنة والإجماع إن حد الردة أيضاً ثابت بالإجماع، والذي يرد الإجماع يكفر، لكن الإشكال أن بعض علمائنا من أهل الأصول قالوا: راد الإجماع يكفر إذا كان الإجماع يستند إلى دليل قطعي، وأما إذا كان يستند إلى دليل نظري ففيه نظر؛ لذلك فالمسألة فيها أخذ ورد. إذاً: فحد الردة ثابت بالسنة وبالإجماع، فأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سب رسول الله فإنه يقتل، وهذا نقله ابن المنذر في الإجماع، وكتب الأئمة الأربعة تعج بذلك، فبالاتفاق أن من سب رسول الله يقتل، فما بالكم بمن سب الله؟! وكذلك سب دين الله جل في علاه؟! أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، فالإجماع منعقد على حد الردة، وأن الذي يرتد عن دين الله يقتل. وأما السنة: فقد ثبت في الحديث المتفق عليه أن أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن ردءاً لـ أبي موسى الأشعري، فدخل معاذ على أبي موسى فقال: يا أيها الناس! إني رسول رسول الله إليكم، وأبو موسى يعلم منزلة معاذ، حيث إن معاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم الناس بالحلال والحرام معاذ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي معاذ يوم القيامة يسبق العلماء برمية حجر)، أي: يتقدم العلماء وأبو موسى الأشعري يعلم مكانة معاذ، فألقى له وسادة وقال: اجلس فهذا مكانك، فأوتي معاذ قبل أن يجلس برجل مكبل، فقال: من هذا؟ قالوا: يهودي دخل الإسلام ثم ارتد عن دين الله جل في علاه، فقال معاذ: (ارتد بعد إسلامه؟ قالوا: نعم، قال: والله لا أقعد حتى يقتل)، فـ معاذ لم يعلم قتل المرتد إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، ويتضح ذلك من قول معاذ لـ أبي موسى: (والله لا أقعد حتى يقتل، فما قعد حتى قتل، فقال معاذ: هذا قضاء الله) أي: هذا قضاء الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجه الدلالة منه: أن معاذاً رضي الله عنه نسب القتل إلى أنه قضاء الله، وهو ليس بكاذب ولا متأول ولا متنطع وحاشاه، بل هو صحابي من صحابة رسول الله لا يتحرك إلا بإشارة من رسول الله، ولا ينفذ حكم القتل إلا بشرع من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: قضاء الله، وهو لا يوحى إليه، إذاً: فعندما ينسب القضاء إلى الله فهو عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حديث متفق عليه لا يستطيعون الكلام عليه، وقد رواه بقية الجماعة أيضاً. ومن الأدلة في السنة: حديث عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا حديث له قصة لطيفة جداً، وهي: أن علي بن أبي طالب جاءه أناس فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فأقام عليهم الحجة وقال: اتقوا الله إني بشر مثلكم، إني آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، ثم تركهم يوماً، ثم رجعوا فقالوا: أنت خالقنا ورازقنا، فأجج النار فأحرقهم بالنار،؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله، وادعوا الألوهية لـ علي فلما بلغ ابن عباس ذلك قال: لو كنت مكانه ما فعلته، إن الله هو الذي يعذب بالنار، (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحداً بعذاب الله جل في علاه)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فإذاً: حكمهم القتل لا الحرق، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في البخاري وفي السنن الأربعة. ومن الأمثلة في السنة: حديث مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، ثم ذكر من الثلاث: (التارك لدينه المفارق للجماعة). ومن السنة أيضاً: ما أورده أصحاب السير، وهذا الحديث معول على إمرار الحافظ ابن حجر له دون بيان القدح فيه، قال: ذكر أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل امرأة ارتدت عن دين الله جل في علاه. وهذا الحديث سيكون لنا فيه وقفة في الرد على الشبهات حوله بفضل الله. ومن السنة أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قيل له: إن امرأة ارتدت وارتد من ارتد من العرب، فأمر زيد بن ثابت فقتلها. كذلك قتل رجل على عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه كان قد ارتد، فقتلوه قبل أن يستتيبوه، فجاء رجل يخبر عمر، فقال عمر: أما أطبقتم عليه بيتاً ثم أطعمتموه في كل يوم رغيفاً حتى يرجع إلى الله، فإن لم يرجع فاقتلوه، اللهم إني لا أرضى ولا آذن. يعني: لا آذن أن يقتل من غير استتابة. وكذلك عثمان بن عفان، فقد جاء بسند صحيح أن امرأة ارتدت في عصر عثمان فأمهلها ثلاثاً، فلم ترجع لدين الله فقتلها. إذاً فحد الردة ثابت بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم كما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآثار ثابتة عن الخلفاء الأربعة، فهذا فعل أبي بكر وفعل عمر وفعل عثمان وفعل علي، فهي سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهو إجماع وسنة ثبت به حد الردة فأبى علينا المرجفون إلا أن يقولوا: لا ردة في الإسلام، ولا حد في الردة، واستدلوا بأدلة على ذلك، وأول هذه الأدلة التي استدلوا بها قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، وقول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، قالوا: وهذا تخيير من الله جل في علاه. واستدلوا أيضاً بقصص عجيبة منها: أن هجرة الحبشة الأولى تنصر فيها اثنان ممن هاجروا إلى الحبشة بعدما كانوا على الإسلام، وما أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الحد. قالوا: وفي المدينة كان حصين له ابنان تنصرا فأراد أن يقتلهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اتركهما {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، فاستدلوا بهذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم تركهما ولم يقتلهما. ومن الشبهات التي ذكروها أيضاً أن هذه الآيات قطعية في الدلالة، وأما الأحاديث فظنية الدلالة، والقطع إذا تعارض مع الظن فإنه يقدم على الظن. ومن الشبهات أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أقام حداً بحال من الأحوال، فلما لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة فليس بثابت. ومن الشبهات أيضاً: أن هذا من اجتهاد الفقهاء، والفقهاء رجال يقبل منهم ويرد. ومن الشبهات أيضاً: التشكيك في حديث عكرمة: (من بدل دينه فاقتلوه)، فقالوا: إن عكرمة متهم، وكفى أن الإمام مسلم ترك الاحتجاج به. ومن أعظم الشبهات قولهم: جاء حديث النبي: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الحكم إذا علق على شرطين وعلتين فلا يكون الحكم إلا بوجود الشرطين والعلتين، قالوا: وهذا الحديث قد ذكر شرطين وعلتين فلا حد للردة إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: التارك لدينه، إذاً: فالردة انفراداً لا حد فيها، والمفارق كذلك لابد له من علة أخرى وهي الردة عن دين الله. وكذلك قالوا: إن المفارق للجماعة معناه: أنه يفارق الجماعة بعدما كان في وطن المسلمين وهو مسلم بينهم وارتد وبدل وذهب وناصر أهل الكفر على أهل الإسلام، فهذا هو الوحيد الذي عليه حد؛ لأنه فارق الجماعة إلى جماعة الكافرين، وحتى في هذه الحالة لم يقولوا: هذا حد ردة، بل قالوا: هو محارب، والمحارب يقتل. أي: لا يوجد ردة أيضاً.

الرد على الشبهة الأولى وهي احتجاجهم بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

الرد على الشبهة الأولى وهي احتجاجهم بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) الرد على الشبهة الأولى وهي قولهم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ} [البقرة:256] أن نقول: إن هذه الآية فيها ستة أقوال عند المفسرين: فمنهم من قال: هذه الآية منسوخة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل العرب على الدين فأكرههم على الدين. والتفسير الثاني: أنها باقية، لكنها خاصة بأهل الكتاب، يعني: لا تكرهوا أهل الكتاب على الدين، ولكن خذوا منهم الجزية إن دفعوها، وغير أهل الكتاب فاقتلوهم وأكرهوهم على الإسلام على قول الجمهور، لكن الإمام مالكاً يرى أن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى والكفار عامة. التفسير الثالث: أنها خاصة في امرأة نصرانية كانت كلما أنجبت مات ابنها، فانتظرت الإنجاب لتجعله يهودياً أو نصرانياً، فلما جاء الإسلام وقد جعلت الولد يتنصر أرادت أن تكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] أي: إن أحب الإسلام دخل فيه وإن لم يحب الإسلام لا يدخل فيه. وهذا قول ابن عباس، وقال القرطبي وهذا أوجه ما يقال في هذه الآية؛ لأن هذا قول بحر الأمة وحبرها الذي علم التأويل والتفسير، وهذا لا يمكن أن يكون من بنات أفكاره، بل هو مرفوع، وهذا هو سبب النزول وفيه نظر، لكنه أقوى الأقوال. التفسير الرابع: أن الآية فقط إرشاد إلى أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] أي: أن الدين واضح جلي وكله براهين، والعقل السليم السديد يقبله، ولا يمكن أن يكره على أن يدخل فيه صاحب القلب الصادق النقي، ولم تتعرض الآية لا لسيف ولا لقتال ولا لغيره، وهذا ترجيح السعدي، وهذا كلام من الجودة بمكان. فهذه التفاسير كلها لا تثبت ما قالوه ولا ما زعموه. وقولهم: إن قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] يعارض (من بدل دينه فاقتلوه)، فقدموا الآية على الحديث؛ لأن الآية قطعية الدلالة، والحديث ضد الدلالة، الرد عليهم فيه من وجوه: الوجه الأول: استدلالكم بالآية على الإسلام وغير الإسلام: فالمسلم الذي يرتد لا إكراه عليه، والكافر الأصلي لا إكراه عليه، هذا استدلال بالعموم، لكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) خاص، وباتفاق أهل الأصول أنه لا تعارض بين عام وخاص، فإذا وجد العام والخاص قدم الخاص على العام، إذاً: فنقدم هذا الحديث (من بدل دينه فاقتلوه) على الآية، فهذه الآية يعمل بها في دائرتها كلها إلا في الإسلام، فلا نكره اليهودي على دخول الإسلام، ولا نكره المجوسي على دخول الإسلام، ولا نكره عباد البقر وغيرهم على دخول الإسلام، ولا نكره النصراني على أن يدخل الإسلام، فإن شاء أن يكفر فليكفر، وإن شاء أن يؤمن فليؤمن، وأما المسلم -خصوصاً إذا دخل الإسلام- فلا؛ حتى لا نفتح باباً للمنافقين والذين يريدون أن يشوشوا على هذا الدين، فهذا هو دأب الكافرين قال الله تعالى مبيناً أن هذا هو دأب الكافرين: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]، وعلة هؤلاء حين يفعلون ذلك أن يرتد المسلمون عن دين الله، فلا نفتح الباب لمثل هؤلاء. إذاً: فنقول: هذه حالة خاصة في المسلمين فقط، فمن كان مسلماً فلا بد أن يكره على دين الإسلام ويبقى عليه ولا يخرج منه، وإن خرج فدمه حلال كما بين النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أن ذلك الاستدلال غير صحيح، بل الآية التي يحتجون بها خاصة بالكافرين وليست في المسلمين، فإن أفضل التفاسير هو تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فالسياق والسباق يفسر لنا أن هذا أمر من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكفر: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. إذاً: فالسياق يبين لنا أن هذه الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، كقول الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وأنهما في الكفار، فالسياق يبين أنها خطاب للكفار وليست خطاباً للمسلمين الذين ارتدوا، فالآيتان خاصتان، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام لأهل مكة قال: لكم دينكم)، فيخاطب الكفار، فالآيتان خاصتان بالكفار، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض بحال من الأحوال. وقولهم: الدلالة القطعية تقدم على الدلالة الظنية، نقول: هذا حق أريد به باطل؛ لأنه لا تعارض، فالآيات عامة والأحاديث خاصة فتقدم، أو الآيات خاصة بالكافرين، والأحاديث خاصة بالمسلمين فلا تعارض، فلا يقدم قطعي على ظني، ولا بد أن نأخذ بهذا الحديث.

الرد على الشبهة الثانية وهي تنصر رجلين ممن هاجر إلى الحبشة وعدم قتل النبي لهما

الرد على الشبهة الثانية وهي تنصر رجلين ممن هاجر إلى الحبشة وعدم قتل النبي لهما إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حدث الظلم على المسلمين، والتعذيب الشديد والتنكيل بمن رفع راية لا إله إلا الله أمرهم بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن فيها رجلاً صاحب عدل لا يظلم عنده أحد، وكان يدعى النجاشي رضي الله عنه وأرضاه، فلما هاجروا تنصر رجلان من المسلمين، ولم يقتلهما النبي صلى الله عليه وسلم. والرد على ذلك: أن هجرة الحبشة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان هذا قبل التشريع، وكل الآيات المكية التي نزلت لا تقرر أحكاماً، بل تعلم التوحيد وتعلم الإيمان وتزيده، فلما تنصر هذا وذاك لم يرد التشريع في قتلهما، فلا حجة للقائلين: إنه لا حد على الردة.

الرد على الشبهة الثالثة وهي تنصر ابني حصين وعدم قتل النبي لهما

الرد على الشبهة الثالثة وهي تنصر ابني حصين وعدم قتل النبي لهما وأما شبهة تنصر ابني حصين وكان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأراد حصين قتلهما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. والرد على هذه الشبهة أن نقول: ثبت العرش ثم انقش، فهذه الرواية من رواية السدي الصغير وهو كذاب لا يؤخذ منه شيء، فروايته مهلهلة، فإذا كانت مهلهلة فلا يحتج بها، ولن يستطيعوا أن ينقشوا حتى ولو ثبتوا العرش، فإذا قلنا: إن النبي لم يقتل فقد خالف قوله فعله؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أبي بن سلول وهو قد سبه وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، وقام رجل أبله سفيه وقال لرسول الله: اعدل فهذه قسمة لا يراد بها وجه الله، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل هذه حالات خاصة حتى لا يتحدث الناس في مقتبل الدعوة وعند تأسيس الدولة الإسلامية أن محمداً يقتل أصحابه، ولذلك قلنا: إن المصالح هي التي جعلت عمر لا يقيم الحد على الناس؛ لأن هناك مقاصد شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن القتل وإقامة حد الردة من أجل ألا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فيفر الناس من دين الله بدلاً من أن يدخلوا في دين الله أفواجاً.

الرد على الشبهة الرابعة وهي قولهم: إن النبي لم يقم حد الردة على أحد

الرد على الشبهة الرابعة وهي قولهم: إن النبي لم يقم حد الردة على أحد الشبهة الرابعة: قالوا: لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد. والرد على هذا القول من وجوه، الوجه الأول: قد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد، فقد نقل الحافظ ابن حجر في السير أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حد الردة على امرأة بعدما أمهلها ثلاثاً. الوجه الثاني: أن رواية لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد، رواية ضعيفة، ولو قلنا: لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد قال ذلك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعله، بل قول النبي تشريع، كما أن فعل النبي تشريع، وقول النبي أقوى في التشريع، وقد قال: (من بدل دينه فاقتلوه). فإن قالوا: لا نقبل هذا الحديث، قلنا: معاذ رضي الله عنه وأرضاه قتل رجلاً ارتد، ولم يفعل ذلك معاذ إلا بدليل، وهذه تسمى سنة تقريرية. فإن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك، قلنا: قد علم رب محمد ذلك، فلو كان هذا من الخطأ بمكان لأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن رب السماوات والأرض هو الذي يشرع، وقد اطلع على ما فعل معاذ، فقد أقر رب معاذ فعل معاذ قبل أن يقر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل معاذ، فكانت سنة تقريرية.

الرد على الشبهة الخامسة: وهي قدحهم في رواية عكرمة

الرد على الشبهة الخامسة: وهي قدحهم في رواية عكرمة الشبهة التي بعدها هي قولهم: إن عكرمة لم يرو عنه مسلم والرد عليهم: أن عدم رواية مسلم لـ عكرمة ليس قدحاً في عكرمة؛ لأنه قد روى له شيخه وسيده البخاري باتفاق العلماء وبإجماع أهل العلم، واعترف مسلم نفسه أن البخاري سيده، وذلك عندما دخل على البخاري يسأله عن حديث فقال البخاري: هذا الحديث فيه علة، فقال مسلم: أخبرني، فلم يخبره البخاري حتى كاد مسلم أن يبكي ويموت كمداً؛ لأنه لم يخبره عن العلة، ثم قال: أخبرني عن العلة فأخبره عن العلة، فقال: دعني أقبل رجلك. وقال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، وهذا سيظهر لك جلياً حديثياً كيف أن أهل التحقيق والتدقيق عند الالتباسات هم الذين يظهرون الصواب، فنقول: إن تركه مسلم فقد روى له البخاري وكفانا بـ البخاري حجة. فإن قالوا: إن ابن المسيب قد قال عنه: إنه كذاب، وورد عن بعضهم أنه قال: لا تأخذوا منه حديثاً، ولا يكتب حديثه، وقدح كثير من الناس في حفظه، فالرد على ذلك أن نقول: إن القاعدة عند علماء الجرح والتعديل: أنه إذا ورد في المرء تعديل وورد فيه جرح، فإن الجرح لا يقبل إلا مفسراً، فقد ورد في عكرمة أنه من أوعية العلم، وأنه بحر في التفسير، وقال سعيد بن جبير عن عكرمة: إنه أعلم الناس بالتفسير، وبعضهم قال: وهو من أكثر العلماء رواية، ومنهم من قال: ثقة ثبت، إذاً: فقد ورد فيه التعديل، ثم ورد فيه الجرح، فبعضهم يقول: كان يرى رأي الخوارج وهذا الذي أثبته الذهبي عليه، فإذا ورد فيه جرح وتعديل فلابد من تفسير للجرح. وعند التفسير لابد أن نقف أمام ملاحظات ثلاث، الملاحظة الأولى: الإثبات بالسند أن الجرح حدث من هذا الراوي، فتجريح سعيد بن المسيب له لا يصح؛ لأن السند إليه ضعيف لا يصح. والملاحظة الثانية: أن من تكلم فيه فقد تكلم فيه من قبل رأيه، فقال: كان يرى رأي الخوارج، حتى إنه نسب ذلك إلى ابن عباس، وقالوا عنه: إنه وقف في الكوفة أمام المسجد، وكلما دخل رجل قال: هذا من الكفار، أي: يرى أنه كافر بالمعصية. إذاً: عندنا حالتان: الأولى: أنه لم يثبت، الثانية: أنهم أثبتوا الجرح فيه من أجل أنه يرى رأي الخوارج. إذاً: ففي الجرح قد أثبت العلماء أن الكلام فيه من قبل حفظه لا يصح، وأيضاً من قبل عدالته لا يصح، فالعلة الأولى واهية، وأما قولهم: أثبت الذهبي أنه كان يرى رأي الخوارج وأقر بذلك، فنقول: إن الحافظ ابن حجر قال: لم يثبت في جرحه في حفظه من شيء، ولم يثبت أيضاً شيء عن رأيه، يعني: لم تثبت فيه بدعة الخوارج، ولم يثبت الكلام فيه من جهة الحفظ، وابن حجر أتقن من الذهبي ولذلك طرح البخاري كلام المجرحين فيه وجعل عكرمة من ضمن المحدثين الذين يروى عنهم. وقد قال العلماء: من روى عنه البخاري فقد وثقه، وقد جاوز القنطرة. ومن الرد عليهم أيضاً: أن مسلماً لم يترك عكرمة كلياً، بل روى لـ عكرمة مقروناً برجل ثقة، ولو كان منطرحاً كذاباً لا يمكن ولا يحل لـ مسلم بمعرفته على وجه الكذاب أن يضعه في كتابه، فهنا نقول: قد تهافتت هذه الشبهة وصح لنا الحديث وسلم لنا بأن عكرمة ثبت، وأن عدم رواية مسلم له ليست فاضحة في عكرمة رضي الله عنه وأرضاه.

الرد على الشبهة السادسة: استدلالهم بالحديث (التارك لدينه المفارق للجماعة)

الرد على الشبهة السادسة: استدلالهم بالحديث (التارك لدينه المفارق للجماعة) أما شبهة: التارك لدينه المفارق للجماعة فالرد عليها من وجوه، أولاً: أن التارك لدينه المفارق للجماعة ليستا علتين بحال من الأحوال، بل هي علة واحدة، والتارك لدينه يقتل. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المفارق للجماعة)، فهي صفة كاشفة، أي: أن التارك لدينه هو الذي فارق الجماعة. ثانياً: أن التارك لدينه فارق الجماعة؛ لأن التارك لدينه قد فارق جماعة المسلمين عن دينهم الإسلام إلى دين الكفر. ثالثاً: أن التارك لدينه المفارق للجماعة هو أغلظ من التارك لدينه فقط دون المفارق للجماعة. رابعاً: قد جاءنا الدليل الذي لا احتمال فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، يعني: من ارتد عن دين الله، والتارك لدينه حكمه القتل، وأغلظ منه وأعتى منه وأشد وأنكى من ترك دينه ثم ذهب إلى الكفار يحارب معهم ضد المسلمين، فيكون أغلظ من ذلك، فيقتل في كل الأحوال، ولا يقبل منه توبة ولا يقبل منه شيء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم وسلم على محمد، وآله وصحبه أجمعين.

رثاء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

رثاء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز لقد فاق العلامة ابن باز معظم أهل زمانه، وربا على على كثير من علماء عصره، وجمع الله له بين العلم والعمل، فحق لهذه الأمة أن تحزن أشد الحزن على رحيله، ومن حقه على هذه الأمة أن ينشروا علمه وكتبه.

إشارات في وفاة الشيخ ابن باز

إشارات في وفاة الشيخ ابن باز إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: خابت وخسرت أمة لا تعرف قدر رجالها، خابت وخسرت أمة لا تعرف قدر علمائها، فلما ماتت هذه الفاجرة التي تفعل الفاحشة ديانة وأراحنا الله منها ومن نتن سيرتها لم تنقطع الصحف عن الكلام عنها، ولما مات عالم الأمة العلامة ابن باز ما تكلم عنه أحد إلا النزر اليسير. إن هذا العالم كان لنا كالشمس للدنيا، بل شمس دنيانا قد غابت، وكما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما روى مسلم في صحيحه: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، فهذا العالم الجليل أفنى عمره وقفاً لله جل وعلا، وباع نفسه لله، هكذا يجب أن يقال في الخطب وعلى المنابر، وقد قضى عمره في العلم والتعليم والإفتاء. ووالله الذي لا إله إلا هو والله وبالله وتالله إن الأمة تحتاج لمثل هذا الرجل أشد من حاجتها للماء والهواء، فخير الناس وأفضل الناس هم العلماء ورثة الأنبياء، (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم). لقد جمع هذا العالم الجليل بين العلمين: علم الفقه وعلم الحديث، ويقوى المرء كل القوة إذا جمع بين هذين العلمين، كما قال الشافعي: من أراد أن تقوى حجته فعليه بالحديث، ومن أراد أن يرجح عقله فعليه بالفقه، وقد جمع هذا الرجل بين العلمين: علم الفقه -أي: فقه المتن- وهو رأس الأمر، والأمة بأسرها تحتاج لفقه المتن؛ لتعلم الحلال من الحرام. وأيضاً انشغل بعلم الحديث والإسناد، ويقال: إن الرجل كان يحفظ جل رجال كتاب التقريب للحافظ ابن حجر عليه رحمة الله. وهذا الرجل باع نفسه لله وأوقف نفسه لله، فتجد كثيراً من الرجال وكثيراً من النساء يبعثون له برسائل يحتاجون إلى الفتوى، ويحتاجون إلى المال، فما كان يترك مالاً عنده قط مع أن راتبه حوالي الستين ألف ريال، بل كان في كل شهر مديناً؛ لأنه كان ينفق كل هذه الأموال في سبيل الله عليه رحمة الله، أسأل الله العظيم أن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء. فهذا العالم الجليل لا بد علينا أن ونتحدث بفضائله ليل نهار، وكذلك له علينا وفي رقابنا أن ننشر علمه بين الناس، وذلك بتوزيع الشريط، أو بتوزيع رسائله كفتاوى نور على الدرب، ومجموع الفتاوى والرسائل، فعلى كل من قواه الله بمال أو بعلم بأن ينشر علم هذا الرجل وينشر فتاواه. والرجل له تلاميذ كثر، ومن أبرز تلاميذه الشيخ العلامة الجليل ابن عثيمين الذي يتحدر العلم منه، وقد سمعته وهو يقول: استفتاني بعض طلبة العلم في أمر الاعتكاف وكان في المسجد الحرام، على أنه ينزل من باب ويذهب من باب آخر؛ ليسهل عليه استماع دروس الشيخ. فقال الشيخ ابن عثيمين: فأفتيته أنه لا شيء عليك، ثم تراجعت وخفت على نفسي أن أكون قد أفتيته بغير علم. الله أكبر هذا هو الورع. قال: فسألت شيخي الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: ما قلت أنت هو الحق، قال: فاطمأن قلبي؛ فإن الرجل جهبذ، وبحر في العلوم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يسكنه فسيح جناته، فعلى كل امرئ يسر الله له بالمال أن يطبع رسائل هذا الرجل ويوزعها مجاناً للناس لتقرأها، وعلى كل من يسر الله له العلم أن يعلِّم الناس ويشرح لهم بعض كتب هذا العالم الجليل. فنسأل الله تعالى أن يشرفه على الصراط أمام الخلق أجمعين، وأن يجعله مع النبيين والشهداء والصالحين اللهم، آمين يا رب العالمين!

ترجمة مختصرة للشيخ محمد بن صالح العثيمين

ترجمة مختصرة للشيخ محمد بن صالح العثيمين الشيخ محمد بن صالح العثيمين من الأعلام النبلاء، وكبار الفقهاء، من الله به على أهل هذا العصر، فملأ الدنيا علماً، فما أحسن تقريراته، وما أحكم تقعيداته، وما أكثر فوائده، دروسه درر موضونة، وكتبه لآلئ مكنونة، فحري بطالب العلم أن يستفيد من علمه، وأن يقرأ كتبه.

مصيبة الأمة بموت العلماء

مصيبة الأمة بموت العلماء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فكنت قد وعدتكم بترجمة وجيزة للشيخ محمد بن صالح رحمة الله عليه، والأمة قد بليت بلاءً شديداً بموت الجبلين: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ثم بموت الشيخ الألباني رحمة الله عليه، ثم بموت هذا الجبل الثالث أسكنهم الله فسيح جناته، فالأمة لم تعوض هؤلاء الثلاثة، فموت هؤلاء نذير شؤم، ونذير خراب، وسنة الله جل وعلا في العباد أنه إذا أراد أن يهلك أمة قبض خيارها أولاً، ثم بعد ذلك نزل الهلاك والبلاء الشديد العميم على هذه الأمة التي قبض الله خيارها. ومن ذلك: أن الله جل وعلا قبل يوم القيامة يبعث ريحاً باردة تقبض أرواح المؤمنين، حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله، ولا يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، فينزل بهم العذاب، فالله جل وعلا إذا أراد أن يهلك قوماً قبض خيارها أولاً، فنعوذ بالله من أن ينزل علينا البلاء! ووفاءً لهذا الشيخ العظيم الجليل رحمة الله عليه لا بد أن نترجم له.

التعريف بالشيخ ابن عثيمين

التعريف بالشيخ ابن عثيمين هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين الوهيبي التميمي، عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود فرع القصيم رحمة الله عليه، أسأل الله جل وعلا أن يلحقه بالنبيين والصديقين. هذا الرجل له كرامات يبينها الله للعباد قبل موت الصالحين من العباد، قال في آخر درس له: وهذا آخر درس لي، أسأل الله أن يتوفني مسلماً، وأن يلحقني بالصالحين. وكان هذا فعلاً آخر درس له، وأسأل الله أن يعطيه الثانية والثالثة، فيكون قد توفاه مسلماً، وألحقه بالصالحين. وكان هذا الدرس في يوم ثلاثين من رمضان، قال هذا البحر الذي لا ساحل له بعد أن دب السرطان في كل جسده، ومع هذا فقد أتى إلى العمرة، وما كان يجلس على كرسيه كما كان يفعل كل سنة، بل كان رحمه الله تعالى يلقي الدرس وهو على سرير في غرفة في الحرم، وتعلق له المحاليل، حتى يشهد الله جل وعلا أنه ينفق هذا العلم في سبيله, ولا يتوانى بحال من الأحوال: هذا آخر درس لي، أسأل الله أن يتوفني مسلماً، وأن يلحقني بالصالحين!

مولد ابن عثيمين ونشأته

مولد ابن عثيمين ونشأته ولد الشيخ أبو عبد الله في مدينة عنيزة، إحدى مدن القصيم، عام 1347 هجرية يوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك في عائلة معروفة بالدين والاستقامة. تتلمذ على جده من جهة أمه الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله، فقد قرأ عليه القرآن فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الأدب. وكان الشيخ قد رزقه الله ذكاءً وطهارة ونقاءً في القلب، وهذه الذي أورثته قوة وذكاءً في العقل وهمة عالية، والله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، والله يحب عالي الهمة ويكره خسيس الهمة. وحرصاً منه على التحصيل العلمي ومزاحمة العلماء بالركب تتلمذ على كثير من المشايخ، وكان في مقدمة شيوخه: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المفسر الفقيه، القوي في الفقه الحنبلي، المتحرر عن المذهب، وقبل ذلك قرأ الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين على بعض تلامذة الشيخ السعدي قبل أن يرتقي إلى الشيخ السعدي: مختصر العقيدة الواسطية للسعدي، ومنهاج السالكين في الفقه له أيضاً، والأجرومية ثم الألفية. فالعلم صعب، وليس لكل أحد أن يسلك هذا الطريق، فهذا الطريق لا بد له من مصابرة وصبر، ولن يصل لهذا العلم غني، إلا من أضجعه الفقر: فقر الحاجة وفقر الطلب، قال بعضهم: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا الشيخ متزوج من امرأة واحدة، وله من الأولاد الذكور: عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم. وله من الإخوة: الدكتور عبد الله رئيس قسم التاريخ بجامعة الملك سعود. لم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض.

مشايخ ابن عثيمين

مشايخ ابن عثيمين يقاس الناس عند رب الناس بالفهوم والعلوم والقلوب، لا بالمظاهر والفصاحة والبلاغة، فالصوفية غلبت في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، فخفي نجمه في عصره؛ لأنهم كانوا بلغاء فصحاء، يبكي الناس من كلامهم الحلو، وكان شيخ الإسلام المؤسس والمؤصل فهجروه، لكن الآن ما من أحد يرفع رأسه على أنه على علم إلا ويستقي من شيخ الإسلام، وكان الشيخ نفسه ازدرى بعض العلماء للهيئة التي لا تورث الهيبة، فعندما ذهب لطلب العلم في الرياض قال: دخلت المعهد العلمي من السنة الثانية، والتحقت به بمشورة من الشيخ علي الصالحي تلميذ الشيخ السعدي، فرحل بعد أن استأذن من الشيخ السعدي رحمه الله، وكان المعهد العلمي في ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين: خاص، وعام، قال: فكنت في القسم الخاص، وكان في ذلك الوقت من شاء أن يتقدم، بمعنى: أنه يدرس سنة مستقبلة، فيدرس سنتين في سنة، أو ثلاث سنين في سنة، فالشيخ تقدم وفعل ذلك. قال الشيخ: كنا طلاباً في المعهد العلمي في الرياض، وكنا جلوساً في الفصل، فإذا بشيخ يدخل علينا فقلت: هذا بدوي من الأعراب، لا عنده ثياب طيبة ولا هيئة ولا هيبة، وليس عنده بضاعة من العلم، قال: فسقط من أعيننا، وتذكرت الشيخ السعدي وقلت في نفسي: أترك الشيخ السعدي وأجلس عند هذا البدوي الذي ليس عنده هيبة ولا علم، وكان هذا هو الشيخ الشنقيطي، العلم الفرد الذي قال عنه الشيخ الألباني: ما رأيت شيخ الإسلام يمشي على الأرض مثل الشنقيطي، كان موسوعة علمية تتحرك على الأرض، فذ في التفسير، أستاذ في الحديث، نحرير في الأصول، عالم باللغة والنحو والصرف، ابن باز جبل العلم جلس تحت يديه وتعلم منه اللغة والأدب، قال: فلما ابتدأ الشنقيطي درسه انهالت علينا الدرر من الفوائد العلمية من بحر علمه الزاخر، فعلمنا أننا أمام جهبذ من العلماء، وفحل من فحول العلم، فاستفدنا من علمه وسمته وخلقه وزهده وورعه، رحمة الله على الشيوخ أجمعين. أيضاً: من مشايخ الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه الشيخ ابن باز، قال: تأثرت كثيراً بالشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله من جهة عنايته بالحديث. فالشيخ ابن باز معلم الشيخ ابن عثيمين في علم الحديث؛ لأن الشيخ ابن باز خلط بين الحديث والفقه، فكان هو شيخ ابن عثيمين في الحديث، وكان يدرسه علم المصطلح، ويدرسه البخاري ومسلم. قال: وتأثرت به من جهة الأخلاق والزهد والورع. أيضاً: من شيوخه الشيخ السعدي الذي كان من جهابذة علماء القصيم، وكان هذا الشيخ علم في القصيم، وكان كل علماء القصيم على مذهب السادة الحنابلة، ما يحيدون عنه قيد أنملة، أما هذا الشيخ فقد أعلن التحرر من المذهب، والاجتهاد المطلق؛ ولذلك تأثر به الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وتحرر من المذهب، وكان يفتي كثيراً بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية التي يخرج بها عن مذهب الحنابلة، ويرجح مذهب الشافعية أو مذهب المالكية. أيضاً من شيوخه: الشيخ علي بن حمد الصالحي، والشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان، والشيخ عبد الرحمن سلمان آل دامغ الذي هو جده من جهة أمه كما ذكرنا.

شهرة ابن عثيمين وقوة عارضته

شهرة ابن عثيمين وقوة عارضته من أسباب شهرة الشيخ وتأصيله للعلم وقوة عارضته: صدق الشيخ وإخلاصه في طلب العلم، وبذل نفسه في التعليم، وأنا مغرم جداً بهذا الشيخ؛ لأنه نحرير جداً في العلم، وله فقه كفقه المتن، وأقدم عليه الشيخ ابن باز، لكن أقول: هذا العالم نحرير جداً، وأنا متأثر به جداً، وأذكر هذه الرؤيا في حق الشيخ: رأيت رؤيا بيني وبين الشيخ، وهي أني دخلت على الشيخ فبكيت في الرؤيا فانكببت على يده فقبلتها فقام هو فقبل رأسي بفضل الله، فقلت له: يا شيخ! كيف أوصلك الله لهذه المكانة العالية؟ فقال لي: بالإخلاص، فكدت أسقط، وبكيت بكاء شديداً جداً، ودعوت الله أن يلهمني الإخلاص، فقلت: المسألة ليس فيها إلا الإخلاص، ولن يصل المرء للعلم إلا بإخلاصه، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: يؤتى المرء الفهم بالإخلاص، نسأل الله أن يلهمنا الإخلاص. فصدق الشيخ في الطلب، والإخلاص في طلب العلم والتعليم، وبذل النفس في ذلك؛ أوصله لهذه المكانة. ومن الأسباب أيضاً: تدريس الشيخ وتأصيله لطلبة العلم، وكان الشيخ قد أنشأ بيتاً في القصيم كاملاً لطلبة العلم، وينفق من ماله على طلبة العلم، ويقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينفق على طلاب العلم وعلى زوجته وعلى أولاده، فالشيخ كان يستقبل طالب العلم الذي يزكى بأنه صادق الطلب ومخلص، فيعطيه شقة، ويجري عليه راتباً شهرياً له ولزوجته وأولاده، فكان البيت مليئاً بطلبة العلم. ومن الأسباب كذلك: سلامة المنهج والعقيدة.

زهد ابن عثيمين وورعه وتقواه

زهد ابن عثيمين وورعه وتقواه كان الشيخ من أزهد البشر، وأنا رأيت هذا منه بعيني، وإذا من الله عليك بالقرب من أهل العلم الذين منَّ الله عليهم بعلم أصيل فانظر في هيئتهم وسمتهم حتى تتأدب منهم، وقد كنت أقترب من الشيخ جداً لأنظر فيه، فالشيخ كان يرتدي القميص ولا يهمه مظهره بحال من الأحوال. ومن زهد الشيخ أنه كان بعد الدرس يرجع إلى البيت حافياً، وهو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاه وكان يحتفي أحياناً). نسأل الله جل وعلا أن يتغمده برحمته، وأن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ويرحمه ويرحم الجبلين الأصيلين في العلم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني، فهؤلاء الثلاثة لا يضاهون في هذا العصر، وأسأل الله جل وعلا أن يأجرنا في مصيبتنا، ويخلف علينا خيراً منها، وأن يسكن هؤلاء المشايخ جميعاً فسيح جناته في الفردوس الأعلى.

مقدمة الدورة العلمية الثالثة

مقدمة الدورة العلمية الثالثة العلم هو سر تقدم الشعوب ونهضة الأمم والمجتمعات، وقد حث الإسلام عليه في القرآن الكريم وعلى لسان نبينا عليه الصلاة والسلام، وحاجة الأمة إلى العلم حاجة ماسة وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الشبهات التي تحارب الدين وتسعى إلى تدميره.

بيان فضل ومنزلة طلب العلم

بيان فضل ومنزلة طلب العلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إن الله خلق الخلق لمهمة عظيمة وشأن جسيم، خلق الخلق لعبادته، قال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فأشرف ما يمكن أن ينشغل به المخلوق هو عبادة الله جل في علاه، ولن تستقيم عبادة امرئ ولن يستقيم دين امرئ إلا بالعلم، فقد قال الله تعالى مقدماً العلم على العبادة: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ} [محمد:19]، فثنى بالعبادة ولم يقدمها على العلم. وقد قال علماؤنا: إن طلب العلم هو أشرف ما يمكن للمرء أن يتقدم به بين يدي عبادته، وإن العلم قد ذهب بشرف الدنيا والآخرة. قال الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة: هذا العلم الشريف من أراد به الدنيا أخذها، ومن أراد به الآخرة أخذها. ونقل أبو الوليد الباجي: عن إمام الأئمة أمير المؤمنين في الحديث الإمام الثوري أنه كان يقول: طلب العلم شرف في الدنيا وشرف في الآخرة. إن الله جل في علاه شرف خلقه الذين ورثوا عن نبيه صلى الله عليه وسلم هذا العلم ورفعهم رفعة ليس بعدها رفعة، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، فأشهد الملائكة على أشرف مشهود في هذه الدنيا ألا وهو توحيد الله جل في علاه، والعلماء جعلهم الله جل في علاه في مرتبة الملائكة في هذا الإشهاد، وهذا الذي جر كثير من علمائنا أن يقولوا: إن العلماء تفوقوا على الشهداء بمرتبتين؛ ولذلك نقل عن الحسن البصري أنه قال: مداد العلماء يوم القيامة يوزن بدماء الشهداء. إن العالم شهيد وزيادة، فإن الله جل في علاه رفع العلماء منزلة تأتي خلف منزلة النبوة، قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، الإجابة لا تحتاج لدقة نظر، فالإجابة: لا والله! لا يستوون. إن الله جل في علاه أمر نبيه بأمر عظيم جسيم، أمره أن يستزيد من العلم، وهذه سنة وفقه عال يعلمه كل فقيه وأريب لبيب عرف كيف يتعامل مع من فوق العرش. إن الله جل في علاه جواد كريم سبحانه، وطالب العلم المجد المتقن المتفقه بكيفية التعامل مع الله جل في علاه، يطمع كثيراً فيما عند الله، فإن خزائن الله ملأى لا تنفد أبداً، فرسول الله ما أصبح بهذه المنزلة إلا بمحض فضل ومنة من الله جل في علاه، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]. وأبو بكر ما اعتلى عرش سيادة الصحابة وتقدم عليهم إلا بفضل ورحمة من الله جل في علاه، فقد قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] سبحانه جل في علاه، فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يستزيد من شيء قط إلا من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وتأولها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فقام من الليل يصلي بسورة طه ثم يأتي إلى هذه الآية {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فيقف طويلاً ويقول: رب زني علماً، رب زني علماً، رب زني علماً. ولكم في شيخ الإسلام أسوة حسنة، كان قلما تشرق عليه الشمس إلا وهو في مكان مهجور يمرغ جبينه في التراب ويدعو الله مبتهلاً متذللاً متمسكناً خاضعاً، ويعلم أن ما يريد هو بيد الله جل في علاه، فيقول: اللهم يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني. إن طلب العلم هو أشرف ما يمكن للمرء أن تشرئب عنقه له، وقد أناط النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية بطلب العلم كما في الصحيحين-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فأناط الخيرية وجمعها وعلقها بطلب العلم، وهذه هي الجائزة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عندما قام من الليل وقدم له وضوءه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بدعوة عظيمة فقال: (اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فحاز بهذه الدعوة على الشرف في الدنيا والمرتبة الراقية في الآخرة. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنهض الأمة بأسرها إلى أن يتعلموا العلم ويبلغوه. وورد عن عيسى أنه قال: من تعلم العلم وعمل به ونشره يدعى في ملكوت السماوات عظيماً، أرأيتم عظمة مثل هذه العظمة؟! وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه العلم سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فطريق الجنات بالعلم، وطريق التعبد لا يكون إلا بالعلم، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ويبين لهم تفاوت المكانات بين الناس، فالناس منهم البر ومنهم الصالح، منهم العابد ومنهم العالم المجاهد، فيقول: (فضل العالم على العابد كفضلي -أنا- على أدناكم)، وفي رواية في السنن أنه قال (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، يالها من رفعة! إن المرء يسعد سعادة عظيمة إذا وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم من الأحكام، إذا طلب الحديث فلم يجده فاجتهد رأيه فوافق رأيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من توفيق الله جل في علاه ليبين الفرق بين العالم المتقن أو طالب العلم المجتهد الذي له النظر في الأدلة وبين المقلد، قال الله جل في علاه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ} [النساء:83] أي: العلماء، والسياق يبين أن المقصود في الآية هم العلماء، قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وسأضرب لكم مثلاً رائعاً يبين لكم فرحة العالم بموافقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا من التعبد لله جل في علاه. سئل ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في مسألة، فقيل له: امرأة عقد عليها رجل ولم يبن بها فمات؟ فقال: لها المهر كاملاً، وعليها العدة، فقام رجل فقال لـ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بنت واشق بذلك. ففرح فرحاً شديداً، وخر ساجداً، وسعد سعادة كبير جداً عظيمة؛ لأنه وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن منزلة العلماء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة راقية جداً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفاوت بين أصحابه ويميز العالم من غيره، ليتقدم العالم فيعلم الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه وأرضاه يعلم الناس في اليمن؛ لأن معاذاً كان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وورد في الحديث أنه: (يأتي يوم القيامة يتقدم على العلماء برمية حجر)، رضي الله عنه وأرضاه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستنهض أصحابه والأمة من بعد الأصحاب على الجد والاجتهاد في طلب العلم، فقد جاء إلى أبي بن كعب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! ما هي أعظم آية في كتاب الله؟ فقال له: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره ضربة وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر! ليهنك العلم أبا المنذر!). والعلماء موجودون الآن في عصورنا بذكرهم الحسن أمامنا الآن، فما زلنا ليلاً ونهاراً نتحدث عن البخاري وما الذي بوأ البخاري هذه المنزلة؟ وما الذي جعل ذكر البخاري لا ينقطع إلى يوم الدين. إن البخاري بطلبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقه الغالي والنفيس من أجل أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الله ذكره فهو في أسمى المنازل وأرقى المراتب، وما زال الناس في أماكن من صعيد مصر يقسمون بكتاب البخاري كأنه المصحف، وذلك لجلالة قدره! البخاري هو أمير المؤمنين في الحديث، وجبل الحفظ، وعلم من أعلام الأمة، وطبيب العلل، إني أمتلئ شرفاً عندما يذكر لساني اسم هذا الرجل، ويمتلئ الناس شرفاً عندما يتكلمون عن البخاري أو يذبون عن ك

الطريق الذي يصل به المرء إلى العلم

الطريق الذي يصل به المرء إلى العلم نتكلم الآن عن أمرين اثنين: الأمر الأول: إن كان العلم بهذه المنزلة الراقية وهذه المكانة الرفيعة فلا بد من معرفة المنهج الأسمى والطريق الذي يصل به المرء إلى هذا العلم. إنه طريق واحد ليصل المرء كما وصل البخاري وغير البخاري، أصل هذا الطريق وركنه الركين وأساسه أن تعرف لأهل الفضل فضلهم، وأن تعرف لأهل العلم قدرهم، وأن تجل العلماء حتى تجل بعد ذلك، واعلم أن الله جل في علاه يغار على أوليائه، وأنه ليس لله أولياء غير العلماء كما قال الشافعي: لا أعلم أولياء لله غير العلماء، فأنت إن علمت قدر منزلة العلماء وأنزلتهم منازلهم، وأعطيت لكل صاحب فضل فضله، كان هذا هو الطريق الذي يمكن أن تصل به إلى الرقي وإلى رضا الله جل في علاه. وفضل العلماء ينبثق من قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. يروى أنه دخل علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يلتفت- لأي مكان يجلس فيه علي، فوسع أبو بكر له وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لـ أبي بكر وقال: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل). وفي مقدمة صحيح مسلم عن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم). وكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعرف لأهل الفضل فضلهم؛ ولذلك أصبح علماً في الناس والناس يرجعون إليه، وكان حبر الأمة وبحر العلوم رضي الله عنه وأرضاه، وإذا تصفحت في تاريخ طلبه للعلم علمت أنه كان يعرف لكل صاحب فضل فضله، فكان ينام على عتبات أبواب بيوت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذات مرة أخذ بخطام ناقة زيد بن ثابت وكان من أجل شيوخه وعلمائه فقال له زيد: يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة، فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال: يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة وهو يقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فينزل زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه فيأخذ بيده ويقبلها ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يجل أبي بن كعب إجلالاً عظيماً ويقول: أبي سيد المسلمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في المسند-: (وأقرؤهم أبي)، وكان يجمع الناس عليه. وعمر بن الخطاب له هيبته وجلالة قدره ومكانته، فكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقول: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر سؤالاً ولم أستطع من هيبته ومن إجلال قدر عمر رضي الله عنه وأرضاه. وهذا في سلفنا كثير، فـ أحمد بن حنبل كان يوقر الشافعي، فقد كان أولاً ينهى الناس عن الشافعي، وكان يحسب أن الشافعي كان ينشغل بالقياس والرأي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعدما علم الشافعي وجلالة قدر الشافعي كان يسير خلف بغلة الشافعي، فينكر الناس عليه ويقولون: أنت تنهى الناس عن الشافعي وتمشي خلف البغلة! قال: اسكتوا، والذي نفسي بيده! لو مشيت خلف البغلة لتعلمت من الشافعي علماً، يجل قدره. وفي السير أن الشافعي لما نزل في بلد أحمد كان بيته مقابلاً لبيت أحمد، فكان لا يمد رجله إلى مقابل هذا البيت الذي يسكنه الشافعي؛ أدباً وإجلالاً لقدر الشافعي، فكانوا يعرفون أقدار بعضهم. وهذا يحيى بن معين علم من أعلام الأمة، رجل ترتعد فرائص المحدثين بوجوده؛ لأنه يكتب الجرح والتعديل، وعلي بن المديني كان يقف بجانب يحيى وإمام أهل السنة والجماعة يقفون الثلاثة وكان يجلس يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن المهدي، قال العلماء: إن وثق ابن القطان وابن مهدي أحداً فعضوا عليه بالنواجذ، فكان يقف أحمد ويقف يحيى بن معين وعلي بن المديني وهؤلاء أعلام الأمة يقفون أمام ابن القطان كالأطفال لا يتجرأ أحد منهم أن يسأل ابن القطان. ودخل ابن المبارك على المعتمر بن سليمان وكان يحدث الناس فسكت، فقام الطلبة فقالوا: أكمل حديثك، فقال: نحن لا نتحدث عند كبرائنا. وكان الثوري جالساً في مجلس التحديث فدخل عليه أبو حنيفة فقام الثوري فقال الطلبة: لم تفعل ذلك؟ فقال: إن لم أقم لعلمه قمت لسنه؛ احتراماً لأهل العلم وتوقيراً لجلالة قدر العلماء، فطالب العلم -ورب السموات- لن يصل إلى العلم إلا بإجلال العلم وإجلال العلم لا يكون إلا بإجلال حملة هذه الشريعة. قال بعض السلف: اجعل أدبك دقيقاً، واجعل علمك ملحاً، فلابد لطلبة العلم أن يتصفحوا التاريخ وينظروا في سير العلماء وكيف كانوا يوقرون العالم؛ ويعرفون منزلته وفضله.

التحذير من تعظيم أحد وتقديمه على رسول الله

التحذير من تعظيم أحد وتقديمه على رسول الله لو سألت أحد طلاب العلم: هل تقدم أي شيء على النبي صلى الله عليه وسلم؟ سيجيب: والله ما أفعل، ولا أستطيع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المسلمين، ولا أقدم أحداً عليه، ولكن قد يقدم العالم الفلاني عليه دون أن يشعر! دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه على الرسول صلى الله عليه وسلم. فقرأ عليه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فقال: والله! ما عبدناهم من دون الله، أي: لم نسجد ولم نركع لهم، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليزيل هذه الدهشة فقال له: (أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم في ذلك، فتلك عبادتكم لهم)، فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، وشيخك قال كذا، فلا تقدم قول الشيخ على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليك أن تخالف قول شيخك إذا كان مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فرسول الله يقدم على أي أحد، وهذا دأب علمائنا، ونحن كلنا على ذلك.

أمثلة تبين تعظيم السلف للرسول وللعلماء

أمثلة تبين تعظيم السلف للرسول وللعلماء إليكم الأمثلة التي تبين أن السلف كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجلون قدر العلماء تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا زيد بن ثابت عالم الأمة وفرضي هذه الأمة، الذي كان متقناً في كل شيء، في الفرائض وفي الحلال وفي الحرام، كان ابن عباس ذليلاً بين يدي زيد بن ثابت كما قدمنا، وكان يتعلم عليه العلم، وابن عباس خالف زيد في مسألة من المواريث فـ زيد كان يقول بأن الجد يشارك الإخوة، وابن عباس يرى أن الجد ينزل منزلة الأب، فقالوا له: كيف تقول بذلك وشيخك زيد يقول بغير قولك؟! قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: ألا يتق الله زيد؟! أما علم أن الله جل في علاه قال: {مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف:38]؟! فيوسف سمى إبراهيم أباً له وهو يعتبر جداً له فأنزله منزلة الأب. وعائشة رضي الله عنه وأرضاها خالفت كثيراً من الصحابة بل استدركت على كثير من الصحابة، وهذا لم يوجد الشحناء بينهم بحال من الأحوال. وكثير من أهل العلم خولفوا من طلابهم، فهذا الشافعي تعلم على يد مالك ومالك هو الذي نصحه وأعطاه ومنحه العلم ومع ذلك لما نزل مصر أظهر كتاباً كاملاً اسمه اختلاف مالك، وهذا لم يؤثر في مكانة الشافعي ولم يؤثر في مكانة مالك، وما زال الناس يتبعون الإمام مالك وما زال الناس يتبعون الشافعي، يعظمون هذا ويعظمون هذا. والإمام أحمد خالف شيخه الشافعي الذي قال فيه: الشافعي للناس كالعافية للبدن والشمس للدنيا، ومع ذلك خالف الإمام الشافعي. وهذا الإمام العلم الإمام النووي، قالوا عنه: لا يخرج عن الشافعية بحال من الأحوال، لكنه عندما يرى الدليل خلاف مذهب الشافعية يخرج عن الشافعية، فقد خرج عن الشافعية في أكثر من مسألة، ومن هذه المسائل: الوضوء من لحم الجزور وهي مسألة خلافية عريضة بين العلماء، فالإمام الشافعي والجمهور يرون أن حديث جابر ناسخ فلا وضوء من لحم الجزور، والإمام أحمد يرى الوضوء من لحم الجزور، فخرج النووي عن الشافعية من أجل الأثر والدليل، وما أحد عاب عليه ذلك ولا ذمه في ذلك. فيجب علينا أن نتعبد لله جل في علاه بتوقير علمائنا ومعرفة جلالة قدرهم، ونعرف لهم حقهم، لكننا نعرف أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقه، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم حقه، والمرء الذي من الله عليه بالطلب إذا قلد فقد ازدرى نعمة الله عليه. إن الإمام ابن دقيق العيد كان على فراش الموت فكتب كتاباً، قالوا: إن هذه وصية لابد أن تنفذ، فبعد ما مات ابن دقيق العيد أخذوا هذا المكتوب فنظروا فيه فوجدوه يؤلف رسالة في تحريم التقليد، فهؤلاء العلماء يخرجون كثيراً عن أصل المذهب إذا رأوا الدليل إلى ذلك. وابن عبد البر لا يخفى على أمثالكم فقد كان مالكياً يشرح كتب الإمام مالك وابن عبد البر أخذ بحديث البيعان بالخيار وهو لا يأخذ به الإمام مالك، فخالف مالكاً ووافق الجمهور في هذه المسألة. حتى شيخ الإسلام احتار فيه بعض العلماء هل هو حنبلي أم مجتهد اجتهاداً مطلقاً؟ والغرض المقصود أنه خالف الإمام أحمد، وخرج عن المذهب في مسائل شتى، وكان يعظم كثيراً الدليل، فخرج عن الإمام أحمد في مسألة استلحاق ولد الزنا، فلو أن رجلاً زنى بامرأة وبعد ما زنى بها تاب وتابت وهي حامل فأراد الزواج منها، فالصحيح أنه لا يتزوجها إلا بشرطين اثنين: بعد التوبة وبعد العدة أي: بعد أن تضع، فقال الإمام أحمد: له أن يستلحق هذا الولد، يعني: ينسب له، وهذا مخالف لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عموماً ومطلقاً: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فلا ينسب له، وقد خالف ابن تيمية الإمام أحمد؛ لأنه رأى أن هذا الدليل هو الدليل الأثري الصحيح الذي يوافق النظر. وابن القيم كان يعظم شيخ الإسلام تعظيماً كبيراً ومع ذلك خالف شيخ الإسلام في مسألة الاستعانة بالجني المسلم على إخراج الجن، وشيخ الإسلام ابن تيمية اشتهرت عنه هذه المسألة وتابعه عليها الشيخ صالح بن عثيمين من المعاصرين رحمة الله عليه رحمة واسعة، فقد كان يقول بصحة الاستعانة بالجني المسلم، ويحتج على ذلك بحديث عن أبي موسى الأشعري ليس هذا مجال التفصيل فيه. والغرض المقصود أن ابن القيم خالف شيخه وبين عدم جواز الاستعانة بالجن؛ لأنه غائب، ولا بد أن يكون حياً حاضراً. ومحمد بن الحسن من أعلم الناس ومن أنجب تلاميذ الإمام أبي حنيفة وخالف أبا حنيفة مسائل كثيرة وجد أن النظر أقوى مما تبناه أبو حنيفة. وابن عثيمين أفتى في مسألة مهمة جداً تشغل جميع طلبة العلم وهي مسألة هل كل مكة حرم أم المسجد الحرام فقط؟ فالشيخ ابن باز يرجح قول الجمهور بأن كل مكة حرم، وله أدلة كثيرة لست بصدد الكلام على هذه المسألة الفقهية، فهو يرى أن كل مكة حرم، فمن صلى في مسجد يبعد أميالاً عن المسجد الحرام وهو في الحرم فإن صلاته بمائة ألف صلاة، وأما الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فيرى أن مائة ألف صلاة لا تكون إلا في المسجد الحرام، ودليله ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في مسجد الكعبة بمائة ألف صلاة) قال: فقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالكعبة، لكن هذا فرد من أفراد العموم لا يخصص، فخالف شيخه ابن باز؛ لأنه رأى أن الدليل والأثر مع قوله مع إجلاله واحترامه لهذا الشيخ.

حاجة الأمة إلى العلم

حاجة الأمة إلى العلم أختم بحاجة الأمة إلى العلم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وأكثر المبتدعة في هذه الآونات من الظهور في المرئيات والسمعيات، وكثر الكلام عن الأصول والثوابت الراسخات، ومن ذلك الطعن في حديث رضاع الكبير والجدل في ذلك ونحوه. فهذا كله يحدوا بأمثالنا أن نطلب العلم ونجد في الطلب حتى نقف راسخين أمام الشبهات التي يخر صريعاً أمامها كثير من طلبة العلم، فكثير من الشبهات التي خرجت علينا يجب على أهل العلم أن يردوها ما استطاعوا، وأن يجيبوا عنها. أسأل الله جل في علاه أن ينفعنا ويرفعنا وييسر علينا الطلب، وأن يثبتنا على هذا الطريق القويم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

انظروا إلى ألطاف الله بعباده

انظروا إلى ألطاف الله بعباده التعرف على الله عز وجل له صور كثيرة منها: تدبر أسمائه سبحانه وتعالى والعمل بمقتضاها، ومن أسمائه: اللطيف، فهو سبحانه لطيف بعباده، يخرج الخير من داخل الشر، والنصر من باطن الهزيمة، واليسر من جوف العسر، فإذا استيقن المسلم بذلك حق التيقن فإنه لن ييأس ولن يقنط مهما رأى من كثرة الشر، ومن تسلط أعداء الله على المسلمين، بل سوف يعمل وهو مطمئن ومؤمن بأن نصر الله ووعده آت لا محالة.

التدبر في أسماء الله من صور التعرف على الله عز وجل

التدبر في أسماء الله من صور التعرف على الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لقد آن لهذه الأمة -أمة الخيرية، الأمة المنصورة- أن تتعرف على ربها حق التعرف، فتطلع على أسرار حكمته في خلقه وعزته وجبروته وقوته، فتستنشق عبير رحماته وبره ولطفه وجوده بعباده جل في علاه، فهو فوق عرشه مستو عليه، بائن من خلقه، يدبر أمر الكون ثم يعرج إليه في يوم مقداره ألف سنة مما نعد، قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يرفع أقواماً ويخفض آخرين، يعز أناساً ويذل آخرين، ينصر طائفة ويهزم آخرين، يؤتي ملكه أقواماً وينزعه من آخرين، يمهل ولا يهمل، يملي وإذا أخذ لم يفلت، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. فعلى هذه الأمة المنكوبة الغافلة التي هي في سبات عميق أن تتدبر عظمة ربها جل في علاه. انظروا إلى عظيم خلقه الدال على عظمته جل في علاه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)! هذا من عظيم خلق الله جل في علاه، انظروا إلى السماء فوقكم كيف خلقها الله سبحانه وتعالى من غير عمد! انظروا إلى الجبال الشاهقات، وإلى السهول والقفار، وإلى البحار والأنهار! فسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، وأرض ذات فجاج، تدل على عظمة الواحد القهار. آن لنا جميعاً أن نرجع إلى ما رجع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتدبر ما تدبره الصحابة الكرام، نتدبر عظمة الله جل في علاه، ونتعرف على ربنا، وألوان التعرف على الله كثيرة جداً، أسماها وأقواها وأرقاها منزلة: التدبر في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)، أي: من تدبرها وحفظها ووعاها، وأداها كما سمعها، ومن تعبد الله بها، ومن عايشها واقعاً في حياته اليومية دخل الجنة.

دعوة إلى تدبر معنى الرحمن الرحيم

دعوة إلى تدبر معنى الرحمن الرحيم تدبر في اسمين من أسماء الله جل في علاه: (الرحمن، والرحيم) انظر رحمة الله جل في علاه السابغة على عباده، رحمة الله التي سبقت غضبه، فهو سبحانه وتعالى خلق مائة رحمة وأنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة من هذه الرحمات، ليتراحم بها الخلق أجمعون. انظر أخي الكريم! رحمة الله بك وأنت جنين في بطن أمك، يصلك طعامك وشرابك من الحبل السري، ثم خرجت إلى هذه الدنيا طفلاً رضيعاً، فأجرى الله جل في علاه اللبن في ثدي أمك بئراً فياضاً، ثم رحمته لم تزل سابغة عليك شاباً، ثم شيخاً كبيراً.

من أسرار ومعاني اسم الله اللطيف

من أسرار ومعاني اسم الله اللطيف إن واقع الأمة المرير المظلم الدامس الحالك الأسود البهيم الذي أحاط بها من كل جوانبها؛ ليجرنا إلى أن نتدبر في اسم تدبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته المبشرات تترى، وإن تدبرناه كما تدبره رسول الله، وعشناه واقعاً في حياتنا اليومية كما عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشه الصحابة رضوان الله عليهم، لأتتنا المبشرات تترى، أقول هذا وأنا مستيقن في ذلك غير شاك: إن هذا الاسم العظيم: (اللطيف) قد ذكره الله جل في علاه في مواطن كثيرة من كتابه، قال جل في علاه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال جل في علاه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، وقال جل في علاه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63]، ومعنى هذا الاسم يستقى من هذه الآيات الكريمات، قال بعض العلماء: جماع اسم الله جل في علاه اللطيف: البار بأوليائه سبحانه وتعالى، بر بعباده ولطف بهم، فجوده وعطفه وبره وصل إلى عباده، قال أحد السلف: رعاك وأنت في بطن أمك ولطف بك، ونور قلبك بالهدى، وربى جسدك بالغذاء، وحرسك وأنت في لظى، وجعل الولاية لك حين البلوى، ثم يدخلك بعد ذلك جنة المأوى. وجماع ذلك كله: أن الله جل وعلا يدبر لعباده من حيث لا يعلمون، ويجعل لهم المصالح من حيث لا يحتسبون، هو اللطيف أخفى الأشياء في أضدادها، يخفي الخير داخل الشر، والنصر في باطن الهزيمة، واليسر في جوف العسر. إن لم تعلم أخي المسلم بعد تدبر هذا الاسم أن النصر سيأتيك بعملك بهذا الاسم والتعبد به فارجع إلى رسولك صلى الله عليه وسلم، بل ارجع وراء ذلك إلى الأمم والشعوب، وانظر كيف أن الله من فوق عرشه دبر لخلقه ولأوليائه، وكانت العاقبة للمتقين، والنصر والمبشرات لأولياء الرحمن المتقين المؤمنين.

ألطاف الله بيوسف عليه السلام

ألطاف الله بيوسف عليه السلام انظر إلى يوسف عليه السلام، كيف لطف الله به، فقد كان في حنان أبيه وشفقة أمه، وبعدما ماتت أمه فقد الحنان، فكان أبوه يكتنفه من جميع جوانبه، لكن الحقد والحسد لعب برءوس إخوته، حتى قال له أبوه كما ورد ذلك في كتاب الله تعالى: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، أي: حقداً وحسداً، وقد كان، فقد أخذوه من عند أبيه الحنون، ثم أهانوه بالشتم والجر والضرب، ثم ألقوه في غيابة الجب. انظر أخي الكري! م وتدبر في اللطيف الذي لطف بيوسف وهو في غيابة الجب، في ظلمات الجب، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، انظروا إلى ألطاف الله، هذا الطفل الصغير ألقي في غيابة الجب، وأخفى الله له النصر والرفعة والتمكين في هذه الظلمة، وفي ظلمات السجن، فإنه بعدما جاء السفهاء البله، ووجدوه في الجب أخذوه وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة، قال عزيز مصر بعدما تفرس به: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، لقد لطف الله جل في علاه بهذا الشاب الصغير، فإنه بعدما تربى في بيت العزيز مكن الله له، وأخفى له في ظل الرق عز التمكين، ثم راودته امرأة العزيز عن نفسها، ثم دخل السجن ظلماً وعدواناً وبهتاناً وزوراً، فالله أخفى له التمكين على مصر بأسرها وهو في ظلمات السجن، وذلك عندما رأى الرجلان اللذان كانا معه في السجن الرؤيا، فعبرها لهم، ثم إن الله جل في علاه جعل له سبباً آخر للتمكين أخفاه، وهو في السجن لطف منه جل في علاه، وهذا السبب: هو أن الملك رأى رؤيا فأراد أن يعبرها، فلم يعبرها له أحد مثلما عبرها يوسف عليه السلام، فقال له الملك كما جاء في كتاب الله تعالى: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]. فانظر أخي المسلم الكريم! كيف أن اللطيف يخفي الأشياء في أضدادها، فمن يصدق أن الذي في السجن سيخرج ويصبح ملكاً على هذه الأرض، يتحكم في رقاب الناس، وفي أقواتهم بمشيئة الله جل في علاه، وهناك ما هو أبعد من هذا، فبعدما اطمأن إخوته أنهم قد ألقوه في غيابة الجب في هذه الظلمات أنبأه الله بأنه سيرتقي عليهم رغم هذا الظنك الشديد، وهذا الكرب العظيم، وأنه سيعفو عنهم، وقد حدث هذا الوعد عندما دخلوا عليه بعدما أخذ أخاه بحيلة كادها له الله جل في علاه، قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88] ماذا قال لهم؟ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:89 - 90] أعلنها صراحة: أنا يوسف، ظلمت منكم واشتد علي الكرب، لكن ألطاف الله أسرعت نحوي، فبفضل الله ولطفه ورحمته قد أصبحت ملكاً عليكم، ثم قال لهم كما جاء في كتاب الله تعالى: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فانظر إلى لطف الله جل وعلا بيوسف عليه السلام، فبعدما اشتد عليه الكرب، وبعدما ألقي في غيابة الجب، وبعدما ظلم وسجن، مكن الله جل وعلا له في الأرض. وهذه الأمة منصورة -ورب السماوات- إن تدبرت هذا الاسم، ثم عاشته واقعاً في حياتها، فإن الله سيخفي لها النصر في باطن الهزيمة، وسيجعل لها اليسر في جوف العسر، إنه لطيف بعباده سبحانه جل في علاه.

ألطاف الله بموسى عليه السلام

ألطاف الله بموسى عليه السلام انظر إلى ألطاف الله بموسى عليه السلام، فالله أخفى حياته في موته، لأن فرعون علا في الأرض وعاث فيها فساداً، يقتل أبناءهم ويستحيي نسائهم، وفي ذلك بلاء عظيم عليهم، لكن موسى عليه السلام قدر الله له أن يعيش في بيت الذي أراد قتله، وسبب تقتيل الأبناء هو: أن فرعون رأى رؤيا، كأن ناراً أتت من بيت المقدس إلى مصر فأحرقت بيوت القبط ومن فيها، وبقيت بيوت بني إسرائيل، وكان بنو إسرائيل مستعبدين عند فرعون، فقد كان يستعملهم في أرذل وأحقر الأعمال، وكانوا أهل علم يتحدثون عن آثار إبراهيم عليه السلام، يقولون: إن هذا الزمان زمان نبي سيهلك الله فرعون والقبط على يديه، فتصادفت وتوافقت الرؤيا مع الأثر الذي تلاه بنو إسرائيل، فقام فرعون بإشارة من بطانة السوء فقال: اقتلوا أبناءهم واستحيوا نساءهم، فانظر إلى ألطاف الله بأنبيائه، وكيف يحيطهم برعايته، ثم قال فرعون بعد ذلك: اقتلوا الأولاد عاماً وذروا الأولاد عاماً، فالله جل في علاه قدر أن يولد هارون عليه السلام في العام الذي لا يقتل فيه الأبناء، أما موسى فإنه أروع وأقوى لطفاً عند الله جل في علاه، فقد ولد في العام الذي يقتل فيه فرعون الأبناء، فإن الله أوحى إلى أم موسى بلطف منه، قال تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) [طه:39]، انظر إلى ألطاف الله، فرعون يكيد لأبناء بني إسرائيل، يقتل الأطفال، وكان قد رأى رؤيا أن مقتله، وأن هلاك ملكه وتدمير عروشه سيكون على يد طفل وليد، هذا الطفل الوليد بعدما أمر فرعون بقتل كل أبناء بني إسرائيل رباه هو في بيته، كأن الله يقول له: يا أيها المتكبر العاتي! يا أيها المأفون المفتون المغرور بكثرة جنوده وشدة بأسه وبطشه! إن ربك لا يغالب ولا يمانع، وإن أقدار الله جل في علاه لا بد حتماً واقعة، وإن هذا الطفل الذي رمت قتله سأربيه في دارك، يأكل من طعامك، ويشرب من شرابك، وينام على فراشك، ثم يكون هلاكك وهلاك قومك على يديه، انظر إلى ألطاف الله، ففرعون بعدما دبر المكيدة لقتل موسى، رباه الله في بيته وعلى فراشه، إنه اللطيف الخبير سبحانه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ثم بعدما تربى وترعرع شاباً، ثم رجلاً مدركاً بعثه الله نبياً، بشيراً ونذيراً إلى فرعون، فعتا وتكبر واستكبر، ثم جحد بآيات الله ظلماً وعدواناً، ثم بعد ذلك قال له بطانة السوء: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، انظر إلى هذه الكلمة يلوكها كل الظلمة: أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، إرهاباً وتطرفاً، يا للعجب! موسى النبي الكريم هو الذي يعيث في الأرض فساداً وتطرفاً وإرهاباً! قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، تكبر وتجبر، ظن أنه بسلطته وجنوده وبطشه سيغلب قوة الله، والله جل في علاه لطيف خبير يستدرج من يشاء من حيث لا يعلم، إن الله جل في علاه يكيد بالكائدين ويمكر بالماكرين، فهذا فرعون استدرجه الله جل في علاه إلى هلكته، بعدما قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]، فقد أدرك موسى وأصحابه وقت طلوع الشمس، فأمامهم البحر وخلفهم فرعون العدو وقومه، ومع أن البحر مظنة الهلكة؛ فإن الغرق والموت داخله، وفرعون خلفهم، لكن انظروا إلى لطف الله فهو محيط بموسى وقومه، قال تعالى حاكياً حال أصحاب موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، نظر يوشع بن نون إلى أعماق البحار فقال: هاهنا أمرك ربك؟، قال: هاهنا أمرني ربي، وجاء مؤمن آل فرعون فقال: انظر يا موسى! هذا الموت المحتم، هذا الغرق الأكيد في مياه البحار، أأمرك ربك هنا؟ قال: أمرني ربي هنا، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]. انظر إلى ألطاف الله جل في علاه كيف يخفي النجاة في محل الغرق، ويخفي النصر في محل الهزيمة، ويخفي اليسر في جوف العسر، سبحانه إنه هو اللطيف الخبير، قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63]، الذي أخرج الثمرة الطيبة من أرض ضحلة سبحانه وتعالى، فإنه سيخرج النور من الظلام الحالك، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) [يس:37] سبحانه جل في علاه، وقال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. نسأل الله الكريم أن ينزل علينا لطفه، وأن يبرنا بكرمه وعطفه وجوده سبحانه جل في علاه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

ألطاف الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم

ألطاف الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، ويرى مخ سوقها سبحانه جل في علاه، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا أسماء الله الحسنى، وكيف نتعبد بها، ثم حثنا على حفظها والعمل بها وتعليمها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، أي: من تعبد الله بها دخل الجنة، ومن تدبرها دخل الجنة، وقد تدبرها قبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقها واقعاً، فأتته المبشرات نتيجة لهذا التطبيق الواقعي في حياته صلى الله عليه وسلم. انظر إلى ألطاف الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكالبت الدنيا بأسرها عليه، فهذه قريش والعرب أجمعون رموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عن قوس واحدة، أجج اليهود نار الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب أجمع، فاليهود هم الذين عاثوا في الأرض فساداً، وأرادوا ناراً مؤججة على رسول الله حقداً عليه وحسداً، ألبوا قريشاً وألبوا العرب جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا بخيلهم ورجلهم، وجاءوا بصناديدهم وسيوفهم وحديدهم، فالتفوا حول المدينة وأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم شر إحاطة، ثم بعد ذلك نزل الكرب الشديد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، حيث صور لنا الله الموقف تصويراً بديعاً، وصفهم أنهم جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وقال المؤمنون: ما وعدنا الله ورسوله إلا صدقاً وحقاً، أما المنافقون فقد ضربوا رسول الله من الداخل، جاء الطابور الخامس يرجفون في المدينة ويشيعون الإشاعات بأن رسول الله مهزوم حتماً، كانوا يقولون: هذا محمد الذي كان يعدنا بالنصر على الأعداء، ويعدنا بالتمكين في الأرض، ويعدنا بكنز كسرى وقيصر، يعدنا بهذا كله وأحدنا لا يأمن أن يخرج لقضاء حاجته، أين النصر الذي وعدنا به؟! فهؤلاء هم الذين ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل المدينة، أما من الخلف فقد جاء اليهود فنقضوا العهود؛ لأنهم لا عهد لهم ولا وعد، فقد قام بنو قريظة بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد الكرب على رسول الله، وقال لـ سعد بن عبادة: (اذهب فأخبر لنا خبر القوم، فإذا علمت أنهم فعلوا ذلك فالحن لي لحناً، حتى لا تفت في عضد أهل الإسلام، فذهب فوجد أن القوم قد نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسل)، انظر أخي الكريم! إلى هؤلاء الكفار كيف أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جميع الجهات، وهم قلة ضعاف لا يستطيعون حرباً ولا يستطيعون قتالاً، لكن ألطاف الله جل في علاه، وتدبير الله في كونه من فوق عرشه سبحانه وتعالى، فقد أدرك الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته الكرام في المدينة بألطافه، فإنه يدبر من حيث لا يحتسبون، فكلنا يعلم أن نعيم بن مسعود أسلم بعدما كان أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قلب اللطيف قلبه إلى الإسلام، فأسلم وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماذا يفعل من أجل أهل الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذل عنا الناس ما استطعت)، فقام نعيم بتدبير الله ولطفه ففرق بين اليهود والكفار، فقد ذهب إلى قريش فألبهم على يهود بني قريظة، وذهب إلى يهود بني قريظة فألبهم على قريش، وانفض الحصار من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد الله الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً، ألطاف الله جل في علاه برسوله صلى الله عليه وسلم حينما حفر الخندق، وهو في هم وغم وحزن مما يحدث له ولأصحابه، ومع ذلك يضرب صخرة وهو مستيقن باللطيف الخبير الذي يدبر الأمر من فوق العرش، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أبشروا! فتحت لي كنوز كسرى وقيصر، أعطيت الكنزين: الأحمر والأصفر)، والله الذي لا إله إلا هو إنا مستيقنون بربنا كما استيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، وإنا سنعطى الكنزين: الأحمر والأصفر، وإن الله جل وعلا سيمكن لدينه في الأرض، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وإني مصدق في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم)، وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع هذا الكرب العظيم وهذه الشدة التي نزلت به- ابنته فاطمة فقال: (أبشري يا ابنتي! والله لن يترك هذا الدين بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز وذل ذليل).

مبشرات في زمن الاستضعاف

مبشرات في زمن الاستضعاف نحن والله مستيقنون بربنا، في أن البشرى العظمى ستكون لأهل الإسلام، وأن أهل الإسلام ستكون لهم القيادة والريادة والسيادة، وأن الله أخفى المنحة في المحنة، وأن الله يصنع الرجال من الشدائد، وأن الله يستخرج النصر من أنياب القهر والظلم والعدوان، لكن لا يكون ذلك إلا بشرط وبقيد عظيم قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ألا وهو: التعبد والتذلل لله والتمسك بدينه جل في علاه، والرجوع إلى كتاب الله جل في علاه، والرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: تعرف على ربك بقدرته، فإنك لن تصل إلى اليأس أبداً، ولن تصل إلى القنوط أبداً، ولن تتسخط على أقدار الله أبداً، ولن تقول: هؤلاء أهل الكفر قد عتوا في الأرض فساداً، وتربعوا على عرش الدنيا، وكل أهل الإسلام الآن في حقارة وفي ذل وفي مهانة، فلم يفعل الله بنا ذلك؟! أقول مجيباً له: تدبر لطف ربك بك، فإن الله يبتليك لترجع إليه، ينزل عليك البلاء تترى حتى يرفعك ويمكن لك، فإن الإنسان لا يمكن حتى يبتلى، قيل للشافعي: يا إمام! أيمكن المرء أم يبتلى؟ فـ الشافعي الذي يعرف ألطاف الله وأنه يخفي الخير داخل الشر قال: لا يمكن المرء حتى يبتلى. هذه سنن كونية قد قدرها الله وكتبها من فوق عرشه في اللوح المحفوظ، فيجب علينا أن نرجع إلى ربنا، وأن نتدبر في أسمائه الحسنى وفي صفاته العلى، وأن نعبده كما عبده رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نرمي الدنيا خلفنا ظهرياً، فنحن الذين نزعم أننا نؤم الناس ونربيهم وندعوهم، هل فعلنا ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقن بربه فقدم لذلك، أما نحن فقد تحاربنا وتنازعنا على دنيا زائلة، وتهافتنا على جيف لا يتهافت عليها إلا الكلاب، فنحن الذين أتينا بهذا البلاء، وهذا الظلم والعدوان علينا، والله لا نلومن إلا أنفسنا، فالله سبحانه لطيف خبير قدير على كل شيء، يبتلي العبد بالعبد نتيجة عمله، فإنه جل في علاه إذا كشف عن القلوب ووجد أن العمل لغيره فلن يوفق ولن يسدد ولن ينصر أبداً، وهذا من سننه الكونية سبحانه وتعالى، فإن الطائفتين إذا التقتا بسيفيهما وكانتا على الكفر فإن الله يجعل الغلبة للأقوى منهما، أما إذا كانت إحدى الطائفتين مؤمنة مستيقنة متدبرة في أوامر الله جل في علاه، والطائفة الأخرى على الكفر، وهذا واقع ومشاهد، نراه كل يوم ونسمع به، فإن الله يجعل الغلبة لأهل الإسلام لطفاً بهم؛ لأنه يحب أولياءه وينصرهم. أختم كلامي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن دم المسلم أعظم عند الله وأشرف من الكعبة)، كما وصف ابن عباس مستيقناً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت الكعبة شرفك الله وعظمك، وإن حرمة دم المسلم أعظم وأشرف عند الله منك). كونوا من أولياء الله تأتيكم المبشرات ويأتيكم النصر المبين. اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أنزل على المؤمنين نصراً مؤزراً، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا، اللهم ارحم أموات المسلمين أجمعين. اللهم أجمع كلمتنا جميعاً تحت رايتك يا رب العالمين! وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

فضل وأحكام السواك

فضل وأحكام السواك من أعظم ما يقرب المرء من الله جل وعلا فعل النوافل والإتيان بالسنن، وقد حث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام على سنة عظيمة كان حريصاً عليها إلى آخر أيام حياته وهي سنة السواك، فالسواك سنة، وله فوائد كثيرة، وهو مطهرة للفم مرضاة للرب.

أحاديث تحث على السواك

أحاديث تحث على السواك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال الإمام المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه عمدة الأحكام: [باب السواك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة). وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبده رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك فقضمته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استن استناناً قط أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو أصبعه ثم قال: (في الرفيق الأعلى ثلاثاً. ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي). وفي لفظ: (فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أي: نعم) هذا لفظ البخاري ولـ مسلم نحوه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك بسواك رطب قال: وطرف السواك على لسانه وهو يقول: (أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع)]. السواك سنة عظيمة جليلة القدر من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، هذه سنة تخص الوضوء، وتخص الصلاة، وهي من سنن الصلاة. وقد روى أحاديث السواك أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وحذيفة وعائشة وابن الزبير وعلي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

ترجمة حذيفة بن اليمان

ترجمة حذيفة بن اليمان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه هو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ائتمن حذيفة على أسماء المنافقين، وكان حذيفة يشتهر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب السر الذي يعلم أسماء المنافقين. ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الخليفة الراشد الورع التقي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو سلك عمر فجاً سلك الشيطان فجاً غير فجه)، قال عمر لـ حذيفة: بالله عليك يا حذيفة! أسماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يخشى على نفسه أن يكون قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فقال: لا والله! يا أمير المؤمنين! ولا أزكي أحداً بعدك. وكان حذيفة من فقهه أن الصحابة كانوا يذهبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن الخير، وكان حذيفة يخالف سؤال هؤلاء الصحابة عن الخير فيسأل هو عن الشر، وكان يقول: كان الناس يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه، وأنشد بعضهم: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه أسلم قديماً لكنه لم يشهد بدراً؛ لأنه أبوه لما ذهبا إلى المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم مرا بقريش فما أرادوا أن يتركوهما حتى قالا: ما ذهبنا إلا إلى المدينة، فقالوا: ذهبتما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما ذهبنا إلا إلى المدينة، فلما ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصا عليه القصة قالا: لو أردت يا رسول الله! لقاتلنا معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نفي لهم)، أي: للمشركين، وهذه تبين عظم الوعد، وأن المؤمن من خصاله ومن شيمه أنه يفي بوعده حتى ولو كان للكفار. وحذيفة بن اليمان بعد ذلك شهد أحداً وما بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان تقياً ورعاً عابداً ناقلاً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أمّره عمر بن الخطاب ذهب إلى إمارته على بغلته، وكانت الأموال تأتيه والغنائم، فبعدما رجع حذيفة أرسل إليه عمر فقال: ائتنا، وكان عمر يختبر الصحابة بهذا، فينظر في الصحابة هل غيرتهم الدنيا أم لا؟ ثم اختبأ عمر له، حتى ينظر في حاله، فجاء حذيفة على البغلة التي سار فيها إلى إمارته لم يتغير حاله بعدما تأمر على الناس، فذهب عمر فاحتضنه وقال: أنت أخي وأنا أخوك. مات حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه بعد مقتل عثمان بأربعين يوماً. وكفاه فخراً بأنه صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر بن الخطاب ينظر في الجنازات فينظر هل صلى حذيفة على هذه الجنازة أم لا؟ فإن صلى حذيفة صلى عليها، وإن لم يصل حذيفة لم يصل عليها، فلو صلى عليها فهذا ليس من المنافقين فيصلي عليه، وإن لم يصل عليها حذيفة لم يصل عمر؛ لأنه يأتمر بأمر الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84].

أهمية العمل بالسنن

أهمية العمل بالسنن هذه الأحاديث تبين لنا سنة عظيمة وهي سنة السواك، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شاردة ولا واردة إلا نصح الأمة بها، فيبين لهم الفرائض، ثم يبين لهم السنن والمستحبات، فبين النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الارتقاء بالأمة، فالسنن المستحبات تكون بعد الفرائض؛ ليرتقي المرء من درجة المحبة إلى درجة المحبوبية، إذ إن درجة المحبة مرتبة يشترك فيها أهل الإسلام، وأما درجة المحبوبية يشترك فيها أهل الإيمان وأهل الإحسان. فمراتب الدين ثلاث: المرتبة الأولى: الإسلام، وهؤلاء الذين قاموا بالفرائض واجتنبوا النواهي، ويجمع ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم القدسي في الصحيحين أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه). ثم قال بعد ذلك: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته)، وهذه درجة المحبوبية، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، رعاية وكلاءة من الله لهذا العبد الذي ارتقى إلى درجة المحبوبية. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن مراتب العلو عند الله تكون بكثرة النوافل، وقد بينت أكثر من مرة أن مولى من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم الماء للرسول فتوضأ منها وقال له: (سلني ما شئت؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة)، سأله الفردوس الأعلى، فقال: (أعنّي على نفسك بكثرة السجود). وكثرة السجود أي: النوافل، ولذلك دخل أبو ذر مسجداً فصلى كثيراً، ثم سلم فقال رجل لآخر: أرأيت هذا الرجل؟ دخل فصلى فسلم ولا يدري أسلم على وتر أم على شفع؟! فلما سمع أبو ذر هذا الكلام قال: سمعت خليلي يقول: (من سجد لله سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة). ولذلك ورد بأسانيد وإن كان فيها كلام أن أحمد بن حنبل كان له من النوافل ثلاثمائه في اليوم والليلة، فالنوافل تعلو بالمرء إلى المراتب العلى عند الله جل في علاه. ومن يقوم بالفريضة لا بد أن يدخلها النقص، فسن الرسول لنا النوافل والسنن التي تحفظ لك الفرائض؛ لأن الجوهرة إذا كانت عارية عن الحفظ سرقت بسهولة، لكن إذا كانت هذه الجوهرة في مكان أمين، ومحاطة بسور، لا يستطاع الوصول إليها. فالنوافل التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم تسد الخلل الذي يدخل منه الشيطان، فمن هذه السنن التي علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إياها السواك، وهي سنة أميتت، ولا أدري لماذا يتقاعس عنها الناس مع أن بعض الفقهاء أوجبوا السواك، ومنهم من أبطل الصلاة بدون التسوك! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس عليها؛ ولذلك تأسى أصحاب رسول الله برسول الله بهذه السنة العظيمة كما في سنن أبي داود بسند صحيح أن زيد بن خالد الجهني كان يكون السواك على أذنه كموضع القلم من أذن الكاتب، فالكاتب الذي يكتب على الكاغد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع القلم على الأذن.

مواضع استعمال السواك

مواضع استعمال السواك أولاً: عند الوضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، وفي رواية أخرى قال: (لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وهذا الموضع الثاني. الموضع الثالث: عند القيام من النوم، وفي الحديث: (السواك مرضاة للرب ومطهرة للفم)، فالتسوك عند الصلاة للتعبد، ومطهرة للفم هذا تعليل على العموم، فبعد القيام من النوم يسن التسوك، وفي الحديث المذكور هنا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك)، يعني يغسل فاه بالسواك، ويدلك فمه به دلكاً شديداً حتى يغير رائحة الفم، ومن السنة أن يسوك لسانه؛ لأن أبا موسى قال: (رأيت السواك على طرف لسان رسول الله) أي: كان ينظف اللسان ويدلك بالسواك عرضاً على الأسنان، وهذه هي السنة، أن يتسوك عرضاً للأسنان وطولاً للسان، فعند القيام من النوم تتغير رائحة الفم لأبخرة المعدة؛ فيسن أن يتسوك الإنسان بالسواك، والسواك هو عود الأراك. الموضع الرابع: عند قراءة القرآن؛ للأحاديث التي وردت بأن الإنسان إذا قام من الليل وقرأ القرآن فإن الملك يقترب من القارئ حتى يضع الفم على الفم، فلابد ألا يؤذي الملائكة؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، فيسن أن يتسوك قبل أن يقرأ القرآن. وقد حرصت النساء على هذه السنة، فقد دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه على فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفي فمها السواك تتسوك به، فقال مداعباً لـ فاطمة: حظيت بثغرها يا عود الأراك أما خفت يا عود الأراك أراك لو كنت من أهل القتال قتلتك ما نجا مني يا سواك سواك وهذا مداعبة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لـ فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم. وهناك قصة سندها ضعيف لكنا نستأنس بها، ونبين الفوائد الجمة من التمسك بالسنة، وهي أن جند المسلمين كانوا يحاصرون قرية وأغلقت عليهم جميع المنافذ لها فقال أحد الفقهاء: انظروا في أنفسكم، فتشوا في أنفسكم لعلكم تركتم سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسد الله الباب عنكم، فنظروا فقالوا: تركنا السواك! فقام رجل فذهب إلى شجرة فقطعها وأخذوا يستعملوها كسواك, فنظر إليهم الكفار فقالوا: هؤلاء يحدون أسنانهم بالشجر حتى يأكلوكم أو يقطعوا لحومكم، فخاف القوم وارتجفوا ففتح الله عليهم بتمسكهم بهذه السنة.

حب النبي عليه الصلاة والسلام للسواك

حب النبي عليه الصلاة والسلام للسواك حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها يبين لنا كيف كان حب عائشة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت قريبة من قلبه وهو مريض، فكان يقسم لكل امرأة من نسائه ليلة لكن عندما مرض ذهب إلى من يحب، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة فيا لها من حظوة كانت لـ عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم! فحظيت في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم أنه نام على حجرها فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أخيها وفي يده السواك، فمد بصره وأطال النظر إلى السواك كأنه يقول: أريد السواك، وكل لبيب بالإشارة يفهم. فنظرت عائشة فقالت: تريده يا رسول الله؟ قالت: وكنت أعلم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للسواك، فأشار برأسه أي: نعم، فأخذت السواك فقضمته حتى تلينه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذه رسول الله بأبي هو وأمي، فتسوك به، قالت: ما رأيته تسوك أحسن تسوكاً من هذا التسوك، ثم نظر إلى السماء بأبي هو وأمي فقال: (اللهم! الرفيق الأعلى، اللهم! الرفيق الأعلى)، فبعدما خير الدنيا وبين الآخرة اختار جوار ربه صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ أتم وأحسن البلاغ صلى الله عليه أفضل السلام وأزكى التسليم، وعائشة رضي الله عنه وأرضاها بينت لنا حب النبي لهذه السنة حتى عند موته، ليحرص كل امرئ منا على هذه السنة العظيمة ولا يتهاون فيها، ويعلم أنها من سنن المرسلين.

مسائل فقهية في السواك

مسائل فقهية في السواك

حكم السواك

حكم السواك المسألة الأولى: وجوب السواك أو استحبابه، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: قول جماهير أهل العلم بأنه سنة مستحبة، ودليلهم على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، وفي رواية: (عند كل صلاة). ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه قال: (لأمرتهم) أي: امتنع النبي من الأمر بالسواك لوجود المشقة، فانتفى الوجوب وبقي الاستحباب وقال بالوجوب داود الظاهري وإسحاق بن راهويه وإن كان بعضهم يشكك في أن ينسب هذا القول له، ويستدل له بحديث في سنن ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم). و (تسوكوا) هذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، ويستدل لهم أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم على استعمال السواك، ولم يرد دليل واحد على أنه لم يستخدم هذا السواك، فديمومة فعل النبي مع أمره دل على الوجوب؛ لأن القاعدة تقول: فعل النبي بيان للواجب وبيان الواجب واجب. والراجح هو قول الجمهور وهو الاستحباب؛ لأن حديث عائشة الذي في سنن ابن ماجة سنده ضعيف، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة عند العلماء أنه إذا ثبت ضعف الحديث فلا حجة فيه. أما ديمومة فعل النبي فالأصل في فعل النبي الاستحباب لا الوجوب، والديمومة تدل على تأكد استحباب استعمال السواك.

حكم السواك أثناء الصيام

حكم السواك أثناء الصيام المسألة الثانية: هل يستحب في الصيام السواك أم يكره؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: قول جماهير أهل العلم من المالكية والأحناف ورواية عن الحنابلة باستحباب السواك طوال اليوم، واستدلوا على ذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، واستدلوا أيضاً بحديث عامر بن ربيعة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسوك وهو صائم). القول الثاني: قول الشافعية؛ فقالوا بكراهة السواك بعد الزوال للصائم، وهذه رواية عن أحمد ورجحها ابن قدامة، واستدلوا على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). ووجه الدلالة من هذا الحديث أنه قال: (خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، فإنه سيضيع هذه الرائحة بالسواك، فيكره لهم أن يفعل ذلك؛ لأن هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك. والراجح الصحيح هو قول جماهير أهل العلم، وهو استحباب استعمال السواك للصائم ولغير الصائم، للدليل الصريح الأول: (لولا أن أشق على أمتي) وهو عام، أما حديث عامر بن ربيعة فهو حديث ضعيف لا حجة فيه، لكن نستأنس به، والعمدة حث النبي صلى الله عليه وسلم على استعمال السواك سواء في الصوم أو في غير الصوم. أما الحجة التي تعلق بها الشافعية فليس فيها قوة، إذ إن المسألة عند الله جل وعلا غير المسألة عند البشر، فاستعمال السواك لا يغير الرائحة؛ لأن هذه الرائحة ليست رائحة الفم، وإنما هي رائحة خرجت من أبخرة المعدة، فعند خلو المعدة تخرج لها أبخرة تحمل هذه الرائحة.

استعمال السواك باليسرى أم اليمنى

استعمال السواك باليسرى أم اليمنى المسألة الثالثة: مسألة استعمال السواك، هل يكون باليد اليمنى أم باليد اليسرى؟ بعض العلماء يقول: استعمال السواك يكون باليد اليسرى، وبعضهم يقول: باليد اليمنى، ودليل من قال: باليد اليمنى عموم حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في كل شيء، وفي شأنه كله)، ويدخل السواك في هذا العموم، ولك أن تقول: تسوك رسول الله باليمنى، وهو استنباط كقول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:83]، والحديث عام: (في شأنه كله). والراجح في هذه المسألة أنه إذا أراد أن يزيل بقايا الطعام في الأسنان فيتسوك باليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعلها لإزالة النجاسات، أما إذا أراد أن يتسوك للوضوء تعبداً أو لقراءة القرآن تعبداً أو للصلاة تعبداً فيتسوك باليمين.

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم المسألة الرابعة: وهي الأخيرة في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم)، فهل هذا اجتهاد من النبي؟ وهل يسمح للنبي بالاجتهاد أم هو ناقل نقلاً محضاً؟ هذا فيه اختلاف أصولي عريض بين العلماء، قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، لكن الصحيح الراجح أن للنبي أن يجتهد، ولكن ليس على الإطلاق، فإن أخطأ لا يقر على الخطأ، والأدلة والواقع يشهد بذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد في أسارى الحرب وعاتبه الله على ذلك، قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، فخالف اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله جل في علاه. الأمر الثاني: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]. الأمر الثالث: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43]؛ لأنه أذن للمنافقين المعتذرين فقال له الله معاتباً إياه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43]، ثم عاتبه: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. فهذه فيها دلالة على أن النبي يجتهد لكن لا يقر على الاجتهاد الخاطئ.

الفوائد المستنبطة من الأحاديث المتعلقة بالسواك

الفوائد المستنبطة من الأحاديث المتعلقة بالسواك الفوائد المستنبطة من الحديث: أولاً: عظم سنة الاستياك، وأن الإنسان لا بد أن يحرص على تمام صلاته وتمام وضوئه في التمسك بهذه السنة العظيمة. الفائدة الثانية: إن الله يحب معالي الأمور، ويحب صاحب الهمة العالية، أما الهمة الدونية فهو بعيد عن مراقي الصعود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى)، ولما خير النبي بين الدنيا والآخرة قال: (اللهم! الرفيق الأعلى)، فهذه همة عالية، فهو يريد جوار الله جل في علاه. الفائدة الثالثة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم درأ المشقة بعدم الأمر، فخشية من هذه المفسدة وهي ألا يستطيع المسلم أن يأتمر بأمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيُعاقب على ترك هذا الأمر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

آداب طالب العلم

آداب طالب العلم من آداب طالب العلم: الإخلاص، وسلامة المنهج، ومحبة الله، والحرص على طلب العلم مع العمل به، والتحلي بثمرة العلم وهي خشية الله وتقواه في السر والعلن.

شرف طالب العلم

شرف طالب العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فيكفي طالب العلم فخراً قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وما أشد فخره بأن الله جل وعلا استشهده على أشرف مشهود, حيث يقول سبحانه جل في علاه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، فيا فخر طالب العلم! إذ جعله الله جل وعلا من الشهداء على أشرف مشهود عليه وهو توحيد الله جل في علاه. خطب معاوية الناس فأخذ يبين جلالة قدر طالب العلم وأهل العلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً شرف طلب العلم وشرف العالم على العابد: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع, وإن العالم ليستغفر له من في الأرض حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) وشتان ما بين القمر وسائر الكواكب. وفي رواية: أنه قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل طالب العلم على الناس أجمعين: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).

من آداب طالب العلم

من آداب طالب العلم وقد عز في هذا الزمان الصبر على طلب العلم, وقد قيل: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا وقال بعض من السلف الصالح: إن هذا العلم لا ينال براحة الجسد. وكان الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول: لن يصل لهذا العلم غني؛ لأن الغنى والترفيه يضعف الهمم, فمن انشغل بالدنيا أضر دائماً بالآخرة، ومن أراد العلم فعليه أن يتأدب بآدابه.

الإخلاص لله

الإخلاص لله فمن آداب طالب العلم: الإخلاص لله جل في علاه، فالعلم أجل العبادات, قال الإمام أحمد بن حنبل: ما أرى أفضل عبادة من العلم لمن صلحت نيته. فطلب العلم عبادة, والعبادة لا تقبل عند الله جل وعلا إلا بالإخلاص, قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وفي الحديث القدسي: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به). فيا طالب العلم! إذا علمت بفضل العلم, والله جل وعلا شرفك وجعل في قلبك همة الطلب, وأعزك من دون الناس، وجعلك من الذين يحملون شريعة الله جل وعلا, فإياك ثم إياك أن تطلب بذلك وجاهة أمام الناس أو رياء أو سمعة, أو طلباً لغرض دنيء من الدنيا، فإن كل ذلك زائل والباقي عند الله جل وعلا لا يكون إلا بالإخلاص, فإن من أول من تسعر بهم النار: عالم تعلم العلم لغير الله جل في علاه, إما ليماري به السفهاء، أو ليجادل به العلماء , أو ليرى مكانه بين الناس, أو ليترفع على الناس بهذا العلم, وإما أن يطلب به سلطة دنيوية دون أن تكون أخروية, فإياك ثم إياك! فإن أول من تسعر بهم النار هم العلماء الذين لم يطلبوا العلم لوجه الله الكريم, والمنافق يعاقب بنقيض قصده, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به). ومن فائدة الإخلاص لله جل وعلا: أن العبد بإخلاصه وإن لم يجد في الطلب فإن الله جلا وعلا يفتح له أبواباً ونوراً عظيماً في قلبه يفرق به بين الحق والباطل ولو بقليل من النظر في بعض الأدلة, وقد كان الإمام مالك يقول: إن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء, وهذه المنقبة لا تكون إلا بالإخلاص, كما ورد بسند صحيح عن ابن عباس قال: يؤتى المرء الفهم بنيته. إذاً: فمدار كل العلم على القلب وعلى الإخلاص لله جل في علاه, والإخلاص رأس التقوى, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، يعني: نظراً وفراسة، تفرقون به بين الحق والباطل.

الالتزام بمنهج السلف

الالتزام بمنهج السلف أما الأدب الثاني الذي لا بد أن يتمثل به طالب العلم: فهو أن يكون على المنهج السديد الصحيح منهج السلف الصالح. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ولا بد لطالب العلم أن يدعو الله جل وعلا أن يثبته على الطريق السديد الصحيح , وهذا الطريق هو طريق السلف الصالح, طريق الذين نهلوا من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المنهج القويم القائم على الوسطية بين الذين غالوا في دين الله والذين جفوا عن دين الله جل في علاه, فهم وسط في مسألة الإيمان، وسط في مسألة الأعمال, وسط في العبادات, وسط في المعاملات, وسط في العقائد, فأهل السنة والجماعة وسط بين الذين نفوا صفات الرب جل في علاه، وبين الذين غالوا في الإثبات فشبهوا صفات الخالق بالمخلوق, فقالوا: له يد كيد البشر, وعين كعين البشر, وينزل كما ينزل البشر, ويستوي كما يستوي البشر, أعوذ بالله من ذلك! والذين يغالون يقولون: لا يد, ولا عين, ولا بصر, فيعبدون عدماً, أما أهل السنة والجماعة أصحاب المنهج السديد القويم فهم وسط بين هؤلاء وبين هؤلاء, فهم يثبتون لله جل وعلا صفاته بلا تشبيه, وينزهون الله جل وعلا دون تعطيل، وهم وسط في الإيمان أيضاً بين الخوارج وبين المرجئة, فالخوارج الذين يكفرون بالمعصية يقولون: كل معصية تهدم الإيمان, فمن عصى الله جل وعلا ولو بالغيبة فهو كافر عليه أن يغتسل ويقول: لا إله إلا الله ليدخل الإسلام, والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب, فإن زنى وشرب الخمر وفعل الكبائر فإيمانه كما هو لا ينقص ولا يؤثر ذلك في إيمانه، فأهل السنة والجماعة أصحاب المنهج الصحيح وأصحاب المنهج السلفي وسط بين هؤلاء الخوارج والمرجئة. أيضاً: فهم وسط في العبادات، فإنهم يتلمسون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يسيرون إلا على نهج الصحابة الذين ساروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآلوا على أنفسهم ألا يتعبدوا عبادة إلا عندما يسمعون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال الصحابة الكرام. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

محبة الله جل وعلا

محبة الله جل وعلا والأدب الثالث الذي لا بد أن يتأدب به طالب العلم: محبة الله جل وعلا, وأن تتخلل محبة الله في مسالك الروح، فإن المحرك القوي والباعث الشديد والوازع القوي في قلب الإنسان الذي يحركه: هو حب الله جل في علاه, فتهون على المرء الدنيا بأسرها, إذ الإنسان يترك ما هو محبوب له لما هو أحب, فإن ترك الإنسان الدنيا وزخارفها وزينتها وسلطتها وكل ما فيها من الشهوات, فإنه يترك ذلك لأنه يركن إلى ما يصبو إليه في الآخرة عند ربه جل في علاه, فترك هذا المحبوب لما هو أحب إليه من الخلود في النعيم, مع حور العين, والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم, ورضا الرحمن سبحانه وتعالى فلا يسخط عليه أبداً، فإن المرء إذا عمق محبة الله جل في علاه في قلبه فإنه لن يتحرك إلا لله، ولسان حاله يقول: أنا لله وبالله ومع الله، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً يسأل ربه جل في علاه فيقول: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك)؛ لأن حب الله جل وعلا يحرك كل ساكن, وحب الله جل في علاه يشعل الإيمان في قلب الإنسان, وحب الله في قلب الإنسان يجعله يبيع كل غال ونفيس, ويجعله يبذل روحه لله جل في علاه, ويجعله يقطع الأمصار جميعاً من أجل حمل هذه الشريعة, ويجعله يرفع راية لا إله إلا الله ويرى أن دمه رخيصاً إذا انصب تحت هذه الراية. فلا بد لطالب العلم أن يعود نفسه ويدربها على حب الله, والباعث لحب الله في قلب الإنسان أمور ثلاثة: معرفة عظمة الله جل وعلا, ومعرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا, وكيف يتعبد الإنسان بهذه الأسماء الحسنى والصفات العلى. فلو تدبرت مثلاً في اسم الله جل في علاه اللطيف, ثم تعبدت لله بهذا الاسم؛ والله الذي لا إله إلا هو سيمتلئ قلبك من حب الله جل وعلا، ما معنى اللطيف؟ اللطيف: هو الذي أخفى الأشياء في أضدادها، مثل: الاضطرابات التي تنزل بالمسلمين, والبلايا والمهالك التي تحيط بالمسلمين, فالله لطيف يخفي الأشياء في أضدادها، ويجعل المحن التي تتولد منها المنح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد عليه الأمر أشد ما يكون يرجو الفرج، فعندما تكالب عليه أهل الكفر في غزوة الأحزاب من قريش وغطفان واليهود وتحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووقفوا خطاً واحداً أمام رسول الله, وصارت محنة أشد ما تكون، وقد صورها الله جل وعلا أحسن تصوير فقال: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، قال أحد الصحابة: وكان أحدنا يخشى أن يقضي حاجته! ومع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل المعول ثم يضرب الصخرة فيقول: (الله أكبر! أوتيت كنوز كسرى وقيصر) يقين في الله جل في علاه, فهذه المحنة العظيمة التي تحسبون أنها مهلكتكم سيأتي النصر منها, وقد غنمت كنوز كسرى وقيصر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. ولما رد الله جل وعلا الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) , وكأن الأمر قد كتب في اللوح المحفوظ أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما استيقن بربه وتدبر في أسمائه الحسنى وصفاته العلا وعلم أن الله جل وعلا ردهم بغيظهم فإن الله قد مكن له من الآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). فطالب العلم إذا تدبر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى, والله الذي لا إله إلا هو لن يجد نفسه إلا وهو يبيع نفسه رخيصة في رضا الله جل في علاه, وأفضل الناس على الإطلاق في هذه الدنيا مشارقها ومغاربها العلماء والمجاهدون, فما أحد يقارن هؤلاء في الفضل, فالعالم من أفضل الناس لأنه يبين مراد الله ويبين مراد رسول الله, والآخر يجاهد من أجل أن يثبت مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال لقمان لابنه وقالها ابن مسعود أيضاً: كن عالماً أو متعلماً أو محباً لأهل العلم، ولا تكن الرابع فتهلك، ومصداق هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة)، والزهد لا يرتبط بالغنى ولا بالفقر, قالوا للإمام أحمد: هل يكون الغني زاهداً؟ قال: نعم. قالوا: ما الزهد يا إمام؟! قال: إذا أخرجت درهماً فلا تنظر إليه وإذا أدخلت درهماً فلا تنظر إليه, بمعنى أنك إن أدخلت آلافاً في حصيلتك لا يؤثر ذلك في قلبك, ولو أخرجت آلافاً منها فلا يؤثر أيضاً في قلبك؛ لأنك تعامل الرب الكريم، فكلما أخرجت درهماً فعندك آلاف مؤلفة عند الله جل في علاه, وكلما دخلت عليك الآلاف قلت: هذا من فضل الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فتستخدمها فيما يرضي الله جل في علاه, وللإنسان أن يلتمس الغنى ليستخدمه في رضا الله جل في علاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة, ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالماً ومتعلماً)، والجملة التي في الوسط هذا الحديث ترتبط بالشطر الأخير؛ لأن الإنسان لا يذكر الله ولا يتدبر ذكر الله إلا إذا كان عالماً أو متعلماً. قال على بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع. فالغثائية لا تساوي أي شيء, ونحن الآن كما وصفنا النبي صلى الله عليه وسلم وكأن لوح الغيب فتح له فقال: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وأيضاً أخبر بأن من علامات الساعة: أن يقل العلم، فقال: (ينتشر الجهل، ويرفع العلم, وينتشر الزنا)، فهذه أمور كأنها من الغيب ألقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لنعلم أن طريق النجاة هو العلم، فلنعض عليه بالنواجذ، وكأن الإنسان يقبض على جمر فلا يتركه أبداً فإن نجاته في ذلك.

الحرص على طلب العلم

الحرص على طلب العلم ومن آداب طالب العلم: الحرص على الطلب, وأشكو إلى الله من طالب علم رفعه الله بهذه المنزلة وشرفه بأن يجلس مجالس العلم ثم بعد ذلك لا يصبر على طلب العلم, وعدم الصبر على طلب العلم شين في جبين الذي لا يصبر على طلب العلم, وهذه إهانة له، وهذا يدل على قلة قدره عند ربه جل في علاه، حيث أن الله أراه الفضل والشرف والعزة ثم يستدرجه ويسحبه من هذا الشرف العظيم, ويخشى أن هذا الرجل يسقط من عين الله؛ لأن العبد إذا ارتفع بعين الله فإن الله جل وعلا يضعه بأرفع المنازل, فإن سقط من عين الله جل في علاه طرحه في أدنى المنازل, نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله الموت قبل هذا, ونعوذ بالله من الفتن. وحرصك على طلب العلم يدل على أن الله جل وعلا قد اصطفاك على البشر أجمعين, فالبدار البدار للطلب، والحرص والحرص، والصبر والصبر، فإنك لن تنال العلم براحة الجسد بحال من الأحوال, قال بعض السلف: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

الصبر

الصبر ومن آداب طالب العلم: ألا يتحرك أو يعبث في مجلس العلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين لنا ذلك جلياً: عندما دخل المسجد ثلاثة نفر فوجد أحدهم فرجة في مجلس رسول الله فجلس فيها، واستحيا الثاني فجلس وراء الحلقة، وذهب الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الأول فأقبل الله عليه)، وإذا أقبل الله على عبد فمن يضيره ومن يضيعه؟ ومن يجعله خاسراً؟ والله لو اجتمع أهل السماوات والأرض على أن يضيعوه ما ضيع, فمن كان الله معه فمن عليه؟ قال: (وأما الآخر فاستحيا الله منه)، ومن لوازم حياء الله جل في علاه ألا يفضح عبده الذي جلس بعيداً وقد استحيا منه. قال: (وأما الثالث فاستغنى فاستغنى الله عنه) ومن استغنى الله عنه فمن يغنيه ويدفعه؟ ومن يشفع له عند ربه جل في علاه؟ فيجب الصبر على طلب العلم، قلت تفهم مسائل العلم الدقيقة من أول مرة، فلا بد أن تصبروا وتصابروا على طلب العلم, والذين يجلسون حتى وإن لم يفقهوا فإن الله جل وعلا إن علم من قلوبهم الصدق, وإن علم من قلوبهم الصبر والمثابرة، أتتهم النتيجة, قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فإذا علم الله أنك صادق النية، وأنك بإذن الله جل وعلا تريد الله جل وعلا وتريد طلب العلم ابتغاء وجه الله؛ فإن الله سييسر عليك كل الصعوبات, وستفتح لك مسائل كانت تستغلق على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى الشافعي وعلى مالك وعلى أحمد فيفتحها الله عليك، ففضل الله يؤتيه من يشاء, فالله أبى أن يعصم أحداً إلا رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا بد من الحرص على طلب العلم، ولا بد من المذاكرة والمتابعة. ومن شرفه الله جل وعلا بأن يجد في الطلب ثم ينزل عن هذه المرتبة فقد أثم عند ربه؛ لأنه أصبح من فروض الأعيان عليه أن يطلب العلم وأن يجد فيه؛ لأنه من حملة الشريعة, والعلماء عزوا في هذا الزمان، وطلبة العلم هم الذين يسدون مسد العلماء, فإن تنحوا هم عن هذه الفريضة التي فرضها الله عليهم فقد أثموا عند ربهم وحسابهم على الله.

خشية الله

خشية الله ثم من أعظم آداب طالب العلم: خشية الله، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إنما العلم الخشية.

ما جاء في فضل العلم والعلماء

ما جاء في فضل العلم والعلماء قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تبارك اسمه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال عز وجل: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة, وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده). فكفاك فخراً أن يذكرك الله جل وعلا فيمن عنده، وذكر الله لك: بأن يثني عليك في الملأ الأعلى أمام جبريل وميكائيل وإسرافيل، وتذكر باسمك، فيا للفخر! ولذلك أبي بن كعب ما فرح بعد فرحه بالإسلام مثل فرحه عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبي إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة)، فقال أبي: (يا رسول الله! أسماني ربي؟ قال: نعم، فبكى من الفرح) يعني: قال له: اقرأ على أبي. وروي عن عيسى على نبينا وعليه السلام أنه قال: من عَلِم وعمل وعَلَّم فذلك يدعى في ملكوت السماوات عظيماً. وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: خير سليمان بن داود -عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام- بين العلم والملك فاختار العلم فأعطي الملك والمال مع العلم، قال الإمام الشافعي: هذا العلم شريف، من طلب به الآخرة أخذها, ومن طلب به الدنيا أخذها, ومن طلب به العلا ارتفع به. وسئل الإمام أحمد: يا أحمد! لم تفعل بنفسك هكذا؟ -وأحمد كان سيد الزهاد، قال فيه الشافعي: ما خلفت بالعراق أعلم ولا أزهد ولا أورع من أحمد - قال الإمام أحمد: والله لو أردت الدنيا بأسرها بهذا العلم لأخذتها، ولكني أريد به الله جل في علاه. وقال عمر بن عبد العزيز: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني, ومن لم يعد كلماته من عمله كثرت خطاياه. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: من غدا أو راح إلى مسجد لا يريد إلا العلم ثم رجع إلى بيته كان كالمجاهد في سبيل الله يرجع غانماً. وعن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: إن الرجل ليخرج من بيته وعليه من الذنوب مثل جبل تهامة، فإذا سمع العلم خاف واسترجع من ذنوبه, فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب. وقال علقمة بن قيس: لأن أغدو على قوم أسألهم عن الله ويسألوني عن الله أحب إلي من أحمل على فرس في سبيل الله عز وجل. قال ابن القيم: العلماء يفضلون المجاهدين بمرحلتين, فكفى العلماء فخراً هذه الآية العظيمة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]. وقال سعيد بن جبير: كنت أكون مع ابن عباس فأسمع منه الحديث, فأكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزلت نسخته. وروي عن يزيد الرقاشي أن لقمان قال لابنه: يا بني! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء. وقال بعض الحكماء: لا أرحم أحداً أكثر من رحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا يفهم، ورجل يفهم ولا يطلب العلم! وعدم فهم العلم من سوء النية وسوء الطوية، والخلل كل الخلل من نفسه، فليراجع نفسه, فلا بد أن في القلب شيء , أو أن قلبه متعلق بغير الله, والفهم هو من الله ليس منه وليس من ذكاء المرء ولا العقل، قال الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فإذا حجب الله عنه الفهم فهناك خلل إما في الديانة وإما في النية. وروي أن لقمان قال لابنه: يا بني! اغد عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامس فتهلك. وسئل مالك فقيل له: يا أبا عبد الله! أي شيء أفضل ما يصنعه العبد؟ قال: طلب العلم والفقه, أما سمعت قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122]. وقال رجل لـ أبي هريرة: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن يضيع, قال: كفى بتركك له تضييعاً. وعن سفيان بن عيينة قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله. وروي عن عطاء قال: قال موسى: يا رب! أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم. وقيل للقمان: أي الناس خير؟ قال: مؤمن غني. قيل له: غني من المال؟ قال: لا، ولكن غني من العلم، إن احتيج إليه وجد عنده علم، وإن استغني عنه كف نفسه. بمعنى: أنه تعلم ما ينفعه عند ربه، ويرفع به جهله، ويكف نفسه عن الحرام, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إن لم تجد فكف شرك عن الناس فإنها صدقة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كونوا أحلاس بيوتكم)، وقال: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)، فإن العالم ينظر إلى عيوب نفسه ولا ينظر إلى عيوب الناس. وقال بعض الحكماء: ليت شعري! أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! فمن فاته العلم فاتته الدنيا بأسرها، إذ العلم هو الذي يسير الدنيا. وقال الحسن: مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء, وهذا الكلام لا أدري ما شرحه، ففيه دلالة: على أن العالم يوزن عند الله جل وعلا بأمة بأسرها. وكان يقال: العلماء سرج الأزمنة, وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل عصره. وقال بعض الحكماء: العالم سفير بين الله وخلقه, فلينظر كيف يكون, فالعالم رسول لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عن ابن عيينة بسند صحيح قال: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس. وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم فأعتقني، فقلت: بأي حرفة أحترف؟ يريد عملاً يعمله حتى يكفي نفسه، قال: فاخترت العلم، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له! فلو كان تاجراً هل سينظر إليه أمير المؤمنين؟ أمير المؤمنين أكثر منه مالاً, وهذا العبد الذي لا يساوي الأحرار، وعندما أعتق وطلب العلم فبعد عام واحد أمير المؤمنين يستأذن عليه حتى يسأله أن يدعو له, فلما وصل إليه لم يأذن له العبد؛ لأنه خشي على نفسه من السلاطين, كما يحكى عن الأعمش: أن أمير المؤمنين بعث إليه بكتاب فيه مال، وأراد أن يقرأ عليه بعض الأحاديث, فأخذ الورقة بعدما قرأها فأطعمها عنزة. فـ الأعمش كان قوياً في الدين قوياً في نصرة السنة, وكان حرباً على القصاصين, والقصاصون ليسوا من أهل العلم، فالقصاص يسرد أحاديث موضوعة حتى يشوق قلوب الناس فقط, فهذا رجل واعظ كان يكذب على رسول الله جهلاً منه، فكان الأعمش يسمعه وهو يقص على الناس وقد جذب قلوب الناس، فأخذ يحدث عن الجنة وعن النار وعن القبر وأهوال القيامة وعلامات الساعة ويقول: حدثني الأعمش سليمان بن مهران حدثني فلان حدثني فلان عن رسول الله، ويسرد الحديث كيفما شاء، حدثني الأعمش، حدثني الأعمش , فقام الأعمش والناس ينظرون إليه فخلع رداءه وأخذ ينتف إبطه, فقال له الرجل القاص: ألا تتقي الله؟! أما تعلم أنك في مجلس علم؟! قال: دعك عني، ما أنا فيه خير مما أنت فيه، أي: أنت قصاص كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وهو ينتف شعر إبطه، وذلك من السنة. وقال لقمان لابنه: يا بني! إن الحكمة أجلست المساكين مجلس الملوك، وهذا ما قاله عمر بن الخطاب عندما سأل عامله على مكة: من خلفت عليهم؟ قال: ابن أبزى، قال: من الموالي أم من الأحرار؟ قال: من الموالي، قال: خلفت عليهم مولى من الموالي!؟ قال: إنه قد قرأ القرآن, وتعلم الفرائض, وتعلم الحديث, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)، ولهذا فأكثر الحفاظ موالي من العجم وليسوا من العرب. قال الزبير بن بكار: كتب إلي أبي من العراق: يا بني! عليك بالعلم فإنك إن افتقرت إليه كان مالاً, وإن استغنيت عنه كان جمالاً. وقد أجاز بعض المحدثين الأجرة على التحديث لمن احتاج إلى ذلك، وهذا ليس من السنة, لكن جوز بعضهم ذلك إذا لم يجد المحدث ما يكفيه من الأموال، لكن على الأمة أن تكفي العالم؛ ولذلك الإمام الشافعي قال: أرى أن يصرف خمس الفيء الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العلماء والمجاهدين، ولا يصرف في غير هؤلاء. وعن سفيان الثوري قال: ما يراد الله بشيء أفضل من طلب العلم، وما طلب العلم في زمان أفضل منه اليوم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ليس شيئاً مثل العلم, العلم خير من المال, العلم يحرسك وأنت تحرس المال, والعلم حاكم والمال محكوم عليه, والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو مع الإنفاق. وسئل بعضهم: أيهما أفضل الأغنياء أو العلماء؟ فقال: العلماء. فقيل له: فما بال العلماء يأتون الأغنياء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل ما عند الأغنياء، وجهل الأغنياء بفضل ما عند العلماء. قال أبو الأسود: ليس شيئاً أعز من العلم,

مصطلحات في مذهب الشافعية

مصطلحات في مذهب الشافعية وأدخل دخولاً وجيزاً في المجموع فأقول: هناك مصطلحات في المذهب: كأن يقال: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد, فالقديم يقصد به كلام الشافعي في العراق, فـ الشافعي عندما كان في العراق كان له مذهب، والجديد هو مذهب الشافعي في مصر, والجديد هو المعتمد عند علماء الشافعية, فإذا كان له قولان في المسألة قديم وجديد فعلماء الشافعية يأخذون بالراجح وهو الجديد إلا في مسائل، وإذا جاءت مسألة الشافعي لم يتكلم بها في الجديد وتكلم بها في القديم, فالعلماء يرجحون أن القديم هو المعتمد إذا وافق النص. ومن ذلك قولهم: الأظهر، فإذا قال: الأظهر، يعني: أن هناك خلافاً في المذهب وهو قوي يستند لدليل, فيكون الاختلاف قوياً, والدليل هنا قوي, لكن الأقوى والأصح ما يقول فيه المصنف: هذا الأظهر. والمشهور عند الشافعية كذا, يعني: أن هناك خلافاً ضعيفاً, فإذا قال: المشهور، فالذي يضاده قول ضعيف. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الصدق مع الله

الصدق مع الله من شروط (لا إله إلا الله) الصدق المنافي للكذب، وقد سخر الله لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ولنصرة دينه رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وحفظوا لنا حوزة هذا الدين المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

نماذج من الرجال الصادقين

نماذج من الرجال الصادقين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي /َلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام! يأبى الله إلا أن يكرم أولياءه، ويأبى الله إلا أن يشرف أحبابه، ويأبى الله إلا أن يصدق الصادقين، ويأبى الله إلا أن يحسن إلى من سابق إليه طيلة حياته، ويأبى الله جل في علاه إلا أن يصطفي الأخيار الأفاضل الكرام، الذين باعوا أنفسهم حقاً لربهم جل في علاه، ويأبى الله إلا أن يصطفي هؤلاء إلى مراتب عليا في الدنيا ثم في الآخرة، فأما في الدنيا فالذكرى الحسنة، وهم في الآخرة أحياء في درجة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. إن أسلافنا وعلماءنا الأقدمين كانوا ممن صدقوا الله جل في علاه، فصدقهم الله، فمنهم من سأل الله العلم بصدق، ومنهم من سأل الله الجهاد بصدق، ومنهم من سأل الله الشهادة بصدق، فلما صدقوا ربهم جل في علاه صدقهم الله، وإن الله جل وعلا يغار على مكانات الأكارم أن يدنسها الأسافل، فيأبى الله جل في علاه أن يعطي المكانة العلية إلا لمن أحبه، ومن علم أنه يستحق هذه المكانة، فإن الله جل وعلا نظر في قلوب العباد فعلم من الصادق، ومن المتخاذل، ومن الكاذب، فصدق من صدقه سبحانه.

أنس بن النضر

أنس بن النضر هذا أنس بن النضر يتحسر على تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر ويقول: (هي أول غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست معه، والله لئن أبقاني الله جل في علاه إلى غزوة أخرى ليرين الله ما أصنع)، فكان صادقاً مع ربه سبحانه، ويعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اصدق الله يصدقك)، فلما كان صادقاً أرى الله منه خيراً، ورأى الله منه خيراً، فإن الله سبحانه شهد لهذا الشهيد البطل - أنس بن النضر - في غزوة أحد العظيمة بالصدق، وأنزل فيه آيات بينات قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. فـ أنس بن النضر بعدما فر الفارون وتفرق الجمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجده سعد بن معاذ وهو يتقدم إلى العدو فقال: يا أنس! إلى أين؟ فيقول له أنس: إيه يا سعد! والله إني لأشم رائحة الجنة دون أحد، فصدق الله فصدقه الله، إن العبد إذا مشى صادقاً مع ربه فإن الله يكشف له ألواح الغيب فيرى منها الجنة وما فيها، ويشتم رائحتها وإن أنس بن النضر واحد من هؤلاء، قال: إيه يا سعد! والله إني لأشم رائحة الجنة دون أحد، فدخل فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه، ما عرف إلا ببنانه، فهم رجال صدقوا الله ما عاهدوه فصدقهم الله.

الرجل الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب عنقه

الرجل الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب عنقه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه وحضر معه غزوة من الغزوات، فلما انتصر المسلمون قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم بينهم، فيضرب له بسهم فقال: (والله يا رسول الله! ما بايعتك على هذا، لا على الدرهم ولا على الدينار، قال: فعلى ماذا بايعت؟ قال: بايعتك على أن أغزو في سبيل الله فأضرب ها هنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدق الله يصدقك)، فكان صادقاً مع ربه سبحانه، فبلغه الله منازل الشهداء، هذه المنزلة العلية التي يأبى الله جل وعلا أن يعطيها إلا للأخيار الأماجد الأكارم الذين اصطفاهم الله جل وعلا لهذه المنزلة، وقد يشتاق كثير من المؤمنين وتتوق أنفسهم وأرواحهم إليها، حتى إن كثيراً من الصحابة الأخيار كانوا يشتاقون إلى الشهادة شوقاً عجيباً، ومع ذلك يأبى الله جل وعلا عليهم ذلك وإن الله له في ذلك حكم، وهو يصطفي من يشاء لينزله هذه المنزلة، فلما شارك ذلك الرجل مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال وجدوه ملقى أمامهم قتيلاً ينظرون إلى عنقه فرأوه قد ضرب في المكان الذي أشار إليه، فصدق الله حين قال: (ما بايعتك إلا على أن أضرب هاهنا)، وضرب في المكان الذي أراده رضي الله عنه وأرضاه، فصدقه الله.

عمرو بن الجموح

عمرو بن الجموح وهذا عمرو بن الجموح من أسلافنا المؤمنين الذين صدقوا الله فصدقهم الله، وهذا تشريف وتعظيم وتكريم ليس لأي أحد، فإن الله لا يختم بالصالحات إلا للأكارم الأماجد الذين كشف عن قلوبهم فعلم أنهم من الصادقين، فإن عمرو بن الجموح كان أعرج رضي الله عنه وأرضاه، وقد نزل عذره في كتاب الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]، ومع ذلك ذهب يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزل الله عذرك! قال: والله يا رسول الله! والذي نفسي بيده لأطأن بعرجتي هذه في الجنة)، فلما دعا الله أن يرزقه الشهادة بصدق رزقه الله الشهادة. قال: (والذي نفسي بيده يا رسول الله! لأطأن بعرجتي هذه في الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبنائه: دعوه لعل الله يرزقه ما يشتهي)، فنزل المعركة فقتل في سبيل الله، ونسأل الله جل وعلا أن يجعله يطأ بعرجته هذه الجنة سليمة نقية. ومن هؤلاء الرجال الصادقين مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رجل ينظر إلى السماء فيرفع يديه يرجو الإجابة من ربه سبحانه وتعالى، وقد امتلأ قلبه صدقاً فيقول: يا رب! ارزقني كافراً جلداً صنديداً غداً يقتلني فيبقر بطني، ويجدع أنفي، ثم أقوم أمامك فتسألني فيم هذا؟ فأقول: فيك رب، فلما جاء الغد لقيه ذلك الكافر الصنديد فقتله وبقر بطنه، وجدع أنفه. ونحن ننتظر بإذن الله على عرصات يوم القيامة وهو يقف أمام ربه بالكرامة العظيمة ويقول: فيك يا رب! فيك يا رب!

أهمية الثبات على الدين

أهمية الثبات على الدين لقد صدق هؤلاء الله فيما عاهدوا عليه، والله جل وعلا كما بينا في الصفات له غيرة، وغيرة الله أنه لا يعطي فضله لأحد لا يستحقه، ويأبى الله إلا أن يؤتي فضله من يستحقه من الصادقين الذين يطلبون الجنة ونعيمها، وإن ربي جل في علاه حكيم عليم، فيقبض من شاء حيث شاء كيفما يشاء متى يشاء سبحانه وتعالى، وما لنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها، اللهم إنا راضون بما أعطيتنا ومنحتنا ورزقتنا، اللهم اجعلنا لك عباداً خلصاً مخلصين يا رب العالمين! إننا متعبدون لله جل وعلا بالكتاب والسنة، فعلينا بالطاعات في محافل الذكر ومجالس العلم، والتذلل لربنا جل في علاه بالسجود والتسبيح والتكبير والتهليل والذكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس أحد أفضل عند الله من عبد يعمر الإسلام بالذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير)، وهذا دأبنا، ووظيفتنا قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فنسأل الله جل وعلا أن يجمعنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وإن مصيبتنا في نبينا أكبر وأعظم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي رفع راية لا إله إلا الله، ولما راودوه عنها قال: (والذي نفسي بيده لو انفردت سالفتي لا أتركها أبداً)، ونحن كذلك نقول: نعض بالنواجذ على دين ربنا حتى نلقاه على ذلك، ونعوذ بالله من الفتن التي تطرأ على العباد، ونعوذ بالله سبحانه من خاتمة السوء، ونسأله الخاتمة الحسنى فإنه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، والعبد في أواخر حياته عند سكرات الموت لا يشعر بشيء، ولا يستطيع أن يتلفظ بلا إله إلا الله فنحن ضعفاء عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. فمن لهج لسانه بذكر الله سبحانه مات على لا إله إلا الله، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. وأختم هذه الكلمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً عسله، قالوا: يا رسول الله! وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه)، فإذا أحب الله عبداً وفقه لعمل خير ثم ختم له بهذا العمل الخير، نسأل الله جل وعلا أن يختم لنا جميعاً بالأعمال الصالحات، وأن يرضى عنا، وأن يجعلنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.

أهمية السنة النبوية وعلاقتها بالقرآن

أهمية السنة النبوية وعلاقتها بالقرآن أيها الإخوة المؤمنون! إن علم الحديث أشرف العلوم على الإطلاق، وهو مواكب لعلم القرآن، وعلم القرآن فنه وأصله هو علم الحديث الذي فيه بيان القرآن، وشرف علم الحديث يعرف من قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. قال مكحول: إن القرآن أحوج ما يكون إلى السنة، والسنة لا تحتاج إلى القرآن. أي: لأن في القرآن مجملات وعمومات ومشكلات يصعب بيانها وتفسيرها، ويصعب تخصيص عمومها، وتقييد مطلقها، فجاءت السنة تبين ذلك.

موافقة السنة للقرآن الكريم

موافقة السنة للقرآن الكريم السنة شقيقة الكتاب وصنوه، وهي التي حفظها الله بحفظه، فإن الجهابذة يحفظونها وينقلونها إلينا نقية بيضاء، فيحفظونها من تحريف الوضاعين والكذابين، وقد أنفقوا الغالي والنفيس لحفظ هذه السنن، وتظهر -كما قلت- قيمة السنة عندما تعرف العلاقة الوطيدة بين القرآن والسنة، فإن السنة علاقتها -كما قال الشافعي وأجمع أهل العلم على ذلك- بالقرآن أنها مؤكدة لأحكامه، فما من حكم في كتاب الله إلا وتجد حكماً مطابقاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يطابق ويوافق ما في الكتاب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188]، إلى آخر الآيات، فترى الموافقة حكماً تأصيلياً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، حيث يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، وأكلها بالباطل لا تطيب النفس فيه، فقد وافق النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب في هذا الحكم. وكذلك قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فهو يؤصل حكماً في كتابه على حسن المعاشرة مع الزوجات، والنبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفة في حجة الوداع يقول: (اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). فهذه الأركان الخمسة توافق حكماً في كتاب الله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهذه كلها موافقات بالتأصيل السني لكتاب ربنا جل في علاه.

السنة مبينة للقرآن

السنة مبينة للقرآن إن السنة مبينة لمجمل القرآن، وموضحة لمشكلة، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه، فالله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فإن المفروض على العبد المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة، ولا يقبل الله من عبده صلاة إلا أن يأتي بهن كاملات: وهن ركعتان في الفجر، وأربع ركعات في الظهر، وثلاث ركعات في المغرب، وأربع ركعات في العصر، وأربع ركعات في العشاء، فهذا التفصيل لم تجده في كتاب الله ولكن بينته السنة عملاً بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، إلى آخر الآيات. وكذلك قال الله تعالى: {آتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما علمنا الصلاة قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولما قال: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ))، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في أي الأموال يكون الزكاة، وعلمنا أنه لا بد من بلوغ النصاب، وأن يحول الحول حتى تجب الزكاة في هذا المال. وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نحج فقال: (خذوا عني مناسككم). والله جل وعلا عندما قضى بأحكامه في الكتاب ترك التبيين لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوضح المشكل من الكتاب، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فقد أشكل على كثير من الصحابة هذا الأمر حتى إن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه أخذ عقالاً -أي: حبلاً أسود حبلاً أبيض- فجعله تحت وسادته وأخذ يأكل ويشرب حتى يفرق بين الأسود من الأبيض، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بين له النبي صلى الله عليه وسلم ما أشكل عليه فقال: (سواد الليل وبياض النهار). وأيضاً هناك عمومات في القرآن خصصتها السنة، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فهذا عام في كل الأولاد، ومع ذلك جاءت السنة تخصص الإرث على أولاد الأنبياء، فإن أولاد الأنبياء لا إرث لهم، فقد جاء في الحديث المختلف في إسناده والراجح أنه صحيح، ومعناه أيضاً صحيح وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة). وأيضاً من تخصيص هذه العمومات: أن الولد القاتل لا يرث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث القاتل)، فالولد الذي يقتل أباه من أجل الإرث لا يرث، وقد قرر العلماء أنه من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. ومطلقات القرآن أيضاً تبينها السنة، فقد قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، وقد اختلف العلماء من أين تقطع اليد هل من الرسغ، أم المرفق، أم من العضد؟ فجاءت السنة مبينة أن يد السارق لا تقطع إلا من الرسغ، وهذه أيضاً من أحوال السنة مع القرآن.

السنة مؤصلة تأصيلا مستقلا عن القرآن

السنة مؤصلة تأصيلاً مستقلاً عن القرآن الحالة الثالثة: السنة مؤصلة تأصيلاً حكمياً مستقلاً عن القرآن ليست تابعة له، بل هي أصل بذاته، وهذا الذي جعل علماء الحديث يضعفون حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له صلى الله عليه وسلم: (بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي؛ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ليحكم بما أنزل الله، أو بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو يجتهد رأيه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث ضعيف متناً؛ لأنه جعل مرتبة السنة بعد مرتبة القرآن، والصحيح الراجح أن السنة صنو الكتاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم شبعان متكئاً على أريكته)، وهذا دال على الجهل، وفيه ذم للشبع الكثير قال: (شبعان متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: ما وجدناه في كتاب الله أخذنا به وما لم نجده تركناه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: (ألا إن ما أحل رسول الله كما أحل الله، وما حرم رسول الله كما حرم الله). وجاءت أحكام في السنة لم تذكر في القرآن منها: تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وهذا الذي جعل الإمام مالك لا يأخذ بهذا التحريم لعموم قول الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145]، فقد أحل الإمام مالك الهدهد والنسر والصقر والسباع، والفيل، حتى الكلاب يجوز أكلها عند الإمام مالك. فالمقصود أن السنة أصلت هذا الأصل دون الكتاب، وأيضاً تحريم أن يجمع الرجل البنت مع عمتها ومع خالتها، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجمع رجل بين البنت وخالتها ولا بين البنت وعمتها). وأيضاً حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، فلم ترد هذه إلا في السنة كما في الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر المنادي ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية). وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصل أصلاً أخر وهو: أن ميراث الجدة السدس، وهذا غير موجود في كتاب الله، بل هو في السنة، وغاب ذلك عن كثير من الصحابة حتى إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما جاءته الجدة تسأل عن ميراثها قال: لا أعلم لك في كتاب الله شيئاً، ولا أعلم لك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، دعيني حتى أسأل الناس، فلما سأل الناس شهد المغيرة ورجلُ آخر عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس. والشفعة للجار أيضاً تأصيل مستقل للنبي صلى الله عليه وسلم. والقرآنيون يبطلون كل هذه الأحكام؛ لأنهم لم يجدوا ذلك في كتاب الله سبحانه، وكذلك تحريم المتعة هو تأصيلُ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو حب لله ولرسوله

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو حب لله ولرسوله فالسنة من أشرف العلوم على الإطلاق، وكفى فخراً للسنة أنها مبينة للقرآن وتتلازم معه تلازماً إلى يوم القيامة، ولذلك حث الله الأمة بأسرها على حفظ السنة والعمل بها، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وربط الإيمان باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً امتحن الذين يزعمون حبه باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل إبطال العمل بعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا ممتحناً من زعم حب الله أو حب رسوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، وأيضاً قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فجعل بطلان الأعمال مربوطاً ومرهوناً بعدم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). وفي المسند بسند صحيح عن العرباض بن سارية (أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظهم موعظة بليغة فقالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله! قال: من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). اللهم اجعلنا ممن يتمسك بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

عناية الصحابة والتابعين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

عناية الصحابة والتابعين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم إن السنة النبوية كما قلت هي أشرف العلوم؛ ولذلك أنفق كل عالم من علماء السنة في سبيلها الغالي والنفيس، ومن هؤلاء العلماء يحيى بن معين، فقد ترك له أبوه ألف ألف دينار فأنفقها كلها عن بكرة أبيها من أجل هذا العلم الشريف، ومن أجل الجرح والتعديل وحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحفظ ما يقرب من مائة ألف حديث ضعيف، ويقول: أحفظ به سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والبخاري أيضاً ترك له أبوه ألف ألف درهم وقال: لا يوجد درهم فيه شبهة، فانفق كل هذا المال من أجل سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أم الثوري رحمه الله - أمير المؤمنين في الحديث- تقول: اطلب الحديث وأنا سأغزل لأنفق عليك. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعوا كل شيء من أجل سنته صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرجل منهم يجلس في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ليحفظ الحديث بكل صدق؛ ليبلغ الأمة ذلك الحديث، فيتناقله التابعون رحمهم الله تعالى حتى يصل إلينا غضاً طرياً فقد جاء في الحديث: (جاء رجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم متذمراً من فعل أخيه ويقول: يا رسول الله! إني أكد وأتعب وأنا أحمل هذا، وهو لا يبارح مجلسك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً أن بركة الرزق ببركة جلوس أخيه عنده صلى الله عليه وسلم- دعه؛ لعلك ترزق به). وأبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه ترك الأنصار وزرعهم، والمهاجرين وتجارتهم، ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم على فقرة وخلوة بطنه، فعلا ذكره رضي الله عنه الله عنه وهكذا فقد فطن الصحابة الكرام أنهم لن يرتقوا بأنفسهم عند ربهم إلا باتباع رسول الله صلى عليه وسلم، وبنصرة سنته صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر في أحلك اللحظات عندما اشتد غضبه ونظر إلى رسول الله في صلح الحديبية قائلاً: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ وكل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: بلى. فيقول: فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله ولن يضيعني الله)، يعني: يا عمر! عليك بسنتي وبهديي عض عليها بالنواجذ، ومع ذلك فـ عمر لا يستطيع أن يتقبل هذا، ولا صبر له على ذلك، فيذهب إلى أبي بكر، وانظروا إلى الفقه الذي عند أبي بكر، وهذا الذي جعل العلماء يقولون: إن بين أبي بكر وعمر كما بين السماء والأرض، حتى إن عمر نفسه يقول: ليتني شعرة في صدر أبي بكر. فانظروا إلى دقائق الأمور في أحلك اللحظات حيث جاء عمر بن الخطاب يقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزه فإنه رسول الله ولن يضيعه الله، ولذلك قال عمر: فعملت بعد ذلك لهذا أعمالاً؛ ولذلك فإن علماء الأصول يقولون: إذا اختلف الصحابة وكان فيهم أبو بكر في كفة؛ رجحت كفة أبي بكر على الباقين، إلا إذا كان هناك دليل معهم؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه موفق وصادق وصديق رضي الله عنه وأرضاه. وكان عمر بن الخطاب يحث على السنة، ويعمل بها، ويسارع إليها، ويضرب عليها بصدق وتفان رضي الله عنه. وورد عن أصاغر الصحابة في حفظهم للسنة ما يذهل العقول، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يجل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويعلم أن خير هذه الأمة على الإطلاق بعد رسول الله أبو بكر وعمر، وكان يجلس ويقول: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عمر، ومع ذلك فقد كان يجلس يعلم الناس فقه الحج فيقول في المتعة: قد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فيقول له رجل: يا ابن عباس! إن أبا بكر وعمر لم يقولا بذلك، فقال ابن عباس مغضباً: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة؛ أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!. فهذا حرص منه رضي الله عنه الله عنه على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يفتح باب أمام باب رسول الله صلى الله عليه، ولا يدخل أهل الجنة الجنة حتى يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل هو أولاً. فأنصح نفسي وإياكم أن تستعدوا لهاذم اللذات، فقد يأتي بغتة صباحاً أو مساءً، فإن استطاع أحدكم ألا يلتقط أنفاسه إلا بذكر الله فليفعل، أو بنصرة دين الله والعمل له والإسراع إلى مغفرة من الله ورضوان، فإننا لا ندري متى سيباغتنا الموت؟ وما هي خواتيم أعمالنا؟ وهل نحن من الشهداء أم التعساء؟ وهل نحن من السعداء أم من الأشقياء؟! فالشقي من كتب الله له الشقاء وهو في بطن أمه، فكل ميسر لما خلق له، فعليكم بذكر الله، وحضور حلقات العلم والإكثار من ذلك، فإن في ذلك النجاة، وعليكم بالإكثار من قول لا إله إلا الله والاستغفار؛ لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نحن فيه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

حكم إسبال الثياب

حكم إسبال الثياب من الأمور التي نهى عنها الشرع الحنيف: إسبال الثياب؛ لما فيه من المخيلة والكبر والترفع على الناس، وقد دل على حرمة الإسبال أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والإسبال لا يقتصر على الإزار فقط، وإنما يتعدى إلى الثوب والعمامة وغير ذلك.

تغليظ تحريم الإسبال

تغليظ تحريم الإسبال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره)، وفي رواية: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).

تأويل حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله)

تأويل حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله) ما من أحد إلا سيقف أمام ربه فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب، فيسمع الله عز وجل، ويبين له ما فعل وما عمل وما ترك، وما اقترفه، وكيف اقترفه، وذلك كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان). فأما المؤمن فينظر إلى يمينه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر إلى شماله فلا يجد إلا ما قدم، وينظر إلى أمامه فلا يجد إلا النار فيظن أنه قد هلك، فيقول الله جل في علاه: (عبدي قد سترت عليك ذلك في الدنيا، وسأغفرها لك في الآخرة). وأما الكافر والعياذ بالله فسيكلمه الله جل في علاه -وقد وردت الأدلة الثابتة بذلك- فيقرره بنعمه ويكبته ويعذبه على ذلك. ومن هذه الأحاديث التي تثبت ذلك: أن الله جل في علاه يقول: (أما يرضيك أن يكون لك شاهد من نفسك على نفسك؟ فيختم على فمه، فتتكلم الأيدي والجوارح بما عملت، ثم يقول: خبتم وخسرتم! والله كنت أنافح عنكم ومازلت أنافح عنكم). وأيضاً: فإن الله سبحانه عندما يحشر العبد الكافر يقول له بعد ما يرى عذاب الله جل في علاه: (أرأيت لو امتلأت الأرض ذهباً أكنت تفتدي به من عذاب النار؟ فيقول: اللهم نعم، فيقول الله جل في علاه: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، طلبت منك أن تعبدني ولا تشرك بي). ونحتاج إذا قررنا بهذه الأدلة إلى تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله). فإن عرصات يوم القيامة كثيرة وليست عرصة واحدة، فلابد من عرصة يكلمهم الله جل في علاه ويقررهم بذنوبهم ويعذبهم على ذلك، ومن نوقش الحساب -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- عذب، وبعد ذلك لا يكلمهم في بقية العرصات. أو أن الله لا يكلمهم كلام رحمة وأمل، وإنما يكلمهم كلام تبكيت وتوبيخ ونذارة، حيث يقول سبحانه: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] فيمحو الله كل حجة لهم، وكذلك يؤول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا ينظر إليهم). حيث أن الله ينظر إليهم، ولكن لا ينظر إليهم نظر رحمة، بل نظر سخط لكبائر ارتكبوها إجمالاً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم) أي: أن لهم عذاباً أليماً في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلا يزكيهم؛ لأن الكبر دنس في القلب والله لا يزكي قلباً فيه كبر. وأما في الآخرة فلا يدخل الله عبداً الجنة أضمر في قلبه ذرة من كبر، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). والعذاب الأليم نوعان: معنوي، وحسي. فالعذاب في الدنيا محو البركة كما تمحى بركة الذي ينفق السلعة بالحلف الكاذب. وأيضاً: لا راحة في القلب، ثم بعد ذلك العذاب المؤلم يوم القيامة.

الأحاديث الواردة في مسألة إسبال الإزار

الأحاديث الواردة في مسألة إسبال الإزار إن المسائل التي تتعلق بهذا الحديث العظيم ثلاث مسائل: المسألة الأولى: مسألة إسبال الإزار، وهذا معترك دامٍ لا بد أن نبينه ونجليه، حتى أن كثيراً من الفقهاء يحملون المطلق على المقيد ويقولون: الإسبال المذموم فقط هو: الإسبال بخيلاء، ونحن سنفصل بإذن الله المسألة برمتها وأقوال الفقهاء فيها. فمن الأدلة التي يحتج بها الفريقان: الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، منهم: المسبل إزاره)، وهذا مطلق لم يقيده بشيء. الحديث الثاني: ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة)، وهذا تقييد، فالأول: كان مسبلاً بإطلاق، والثاني: قيده بالخيلاء. الحديث الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إزار المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج) -رفع الحرج فيه دلالة على الجواز، والأصل في السنة أن يرتفع إلى نصف الساق- أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين. أي: إن كان بينه وبين الكعبين فلا حرج عليه، ثم قال: (من جر إزاره بطراًلم ينظر الله إليه)، وهناك حديث واحد يجمع هذه الأقسام الأربعة، وهو: (ما أسفل الكعبين ففي النار) فقسم النبي صلى الله عليه وسلم طول القميص إلى أربعة أقسام: القسم الأول: السنة: إلى نصف الساق. القسم الثاني: الرخصة: وهو ما نزل من نصف الساق إلى الكعب. القسم الثالث: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه). القسم الرابع: ما كان إطلاقاً، وهو (ما أسفل الكعبين ففي النار). الحديث الرابع: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (الإسبال مخيلة). وهذا حديث ممتع، فهو يفصل لنا كل الأقوال، حتى لا يستطيع أحد أن ينازعنا في شيء، ويحمل على الإطلاق، سواء أسفل الكعبين أو فوق الكعبين. والحديث الخامس: قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه عندما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على بيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من؟ قال: عبد الله، قال: إن كنت عبداً لله فارفع إزارك)، وكان قد أرخى إزاره تحت الكعبين. الحديث السادس: الذي يتغنى به من يقول: بأن المسألة خاصة بالخيلاء، وهو أن أبا بكر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي -يسقط- إلا أن أتعاهده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لست منهم يا أبا بكر!)، أي: لست ممن يفعل ذلك خيلاء. الحديث السابع: قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حين صلى بالناس، فجاء أبو لؤلؤة المجوسي -عليه من الله ما يستحق- فطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فأخذ عمر بيد عبد الرحمن بن عوف وجعله إماماً، ولما أتم الصلاة استقبل بجنبه الأرض، فدخل رجل يمدح في أمير المؤمنين، فقال: تشهد الله إذا سألك على ذلك؟ قال: أشهد الله على ذلك، فلما ولى الرجل نظر عمر بن الخطاب إلى ثوبه فوجده تحت الكعبين، فقال: إلي بالرجل، فقال له: يا بني! ارفع ثوبك، أو قال: ارفع إزارك يكن مرضاة لربك، مطهرة لثوبك. وهذا الحديث سنحتج به على من يخالف القول: بأن المسألة على العموم.

اختلاف أقوال العلماء في الأحاديث الواردة في مسألة إسبال الإزار

اختلاف أقوال العلماء في الأحاديث الواردة في مسألة إسبال الإزار فهذه سبعة أحاديث في الباب اختلفت أقوال العلماء فيها على قولين: القول الأول: الإسبال حرام إذا كان بمخيلة، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: الأول: حديث أبي بكر -وهو عمدة الباب عندهم- وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان يرخي إزاره إلى تحت الكعبين، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أتعاهده ويسترخي، فقال: لست منهم يا أبا بكر)! أي: لست ممن يفعل ذلك خيلاء، ففي هذا دلالة على أن الخيلاء علة مؤثرة في الحكم. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، وهذا على الإطلاق، ثم قيده في الحديث الآخر بقوله: (من جر ثوبه خيلاء)، قالوا: و (خيلاء) وصف مقيد بمفهوم المخالفة، فمن جر ثوبه بلا مخيلة فلا يدخل تحت هذا الوعيد. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة! فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال يرخين شبراً. قالت: إذاً تنكشف أقدامهن. قال: فيرخينه ذراعاً ولا يزدن). قالوا: لو كان خيلاء ما رخصه للنساء، لأنه سوف يحدث زيادة، وهذا الزيادة تدل على الكبر إن قلتم: لا، ويقولون أيضاً: إن الإسبال فقط في الإزار، أي: لا يدخل القميص ولا السروال ولا أي شيء آخر، وهذا مردود عليهم بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: وهو القول الفصل الذي لا يمكن أن نحيد عنه، وهو قول المحققين من أهل العلم، قالوا: الإسبال نوعان يتفقان ويفترقان، فيتفقان بأن كلاهما محرم، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار). وهذا على الإطلاق. الثاني: إذا كان كبراً وخيلاء فله عذاب أليم. ويفترقان في العقاب، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يكلمه وله عذاب أليم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار). وسيأتي تفسيره.

الرد بالأدلة على من خصص تحريم الإسبال

الرد بالأدلة على من خصص تحريم الإسبال والرد على من يقول: التخصيص بالخيلاء: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، وهذا على الإطلاق، ولا يمكن حمله على التقييد؛ لأن الحكم يختلف، فالأول: قال: (ما أسفل الكعبين -وحكمه-: ففي النار). وفيه تأويلان: التأويل الأول: ما كان تحت الكعبين فهو في النار، أي: عندما يقف في عرصات يوم القيامة ليحاسب؛ لأنه أسبل إزاره، فيرى سبيله في الجنة أم في النار. التأويل الثاني: إجراء الحديث على ظاهره، فقالوا: هذا من فعل أهل النار ويعاقب عليه. والصحيح: التأويل الأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء) أي: كبراً وتفاخراً، فحكمه: (لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم). إذاً: اختلفا في الحكم، وإذا اختلفا في الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد. أيضاً: عندنا نوعان من الإسبال: الأول: نوع محرم تحريماً أغلظ من الثاني. الثاني: نوع محرم تحريماً أخف من الأول. فأما النوع المحرم الأغلظ فهو: أن يجر ثوبه خيلاء، فيمشي به بين الناس كالطاوس، فيتكبر ويتجبر ولا يذكر لله نعمة عليه، فهذا حكمه أننا نسقط عليه كل الأدلة التي جاءت في حكم المسبل إزاره: (فلا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يكلمه، وله عذاب أليم)، بل في رواية: (لا يدخل الجنة). وأما النوع الثاني: -وهو النوع الأخف- قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما أسفل الكعبين ففي النار)، وهو: أن يجر ثوبه ولا يقصد الخيلاء، ولا يمر على قلبه الكبر بحال من الأحوال، لكنها عادة القوم، كأن يكون قد رأى أباه أو أهله يسيرون بثياب طويلة ففعل ذلك، فيلبس لباسهم ويسبل الإزار تحت الكعبين، وهذا أيضاً قد وقع في كبيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صاحبها من أصحاب النار، لكنها أخف من الأولى، وهذا هو الراجح والصحيح، وهو الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الأصل في العطف المغايرة، وقد عطف النبي صلى الله عليه وسلم بين الأول وبين الثاني، فقال: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، ثم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة). إذاً: الإسبال محرم مطلقاً، وهذا هو الراجح والصحيح على من حمل كل الأدلة التي جاءت في تحريم الإسبال بأنها على الخيلاء. وأما الذين احتجوا بفعل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فنقول: إذا وقفت مع من يحتج بدليل ليس له، ورددته عليه لكان دليلاً لك، فلما قالوا: أبو بكر لا يمكن أن يفعل ذلك خيلاء؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لست منهم يا أبا بكر)، والرد عليهم من حديث أبي بكر من وجهين: الوجه الأول: إن أبا بكر لم يكن مرخياً لثيابه، بل كان يرفع إزاره إلى الكعبين، أو إلى نصف الساق، والصحيح الراجح: أنه كان يرفعها إلى الكعبين؛ لأنه عندما كان يتركه فيسترخي فينزل تحت الكعبين. إذاً: هذا الحديث لا يتعلق به؛ لأن أبا بكر كان لا يرخي ثوبه، بل الأصل في ثوبه أنه فوق الكعبين. الوجه الثاني: إذا قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لست منهم يا أبا بكر!)، فليس فيه دلالة على إباحة الإسبال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عموماً: (ما أسفل الكعبين ففي النار)، فهذا مسكوت عنه، والمسكوت عنه أقصى أحواله إما أنه يجوز، وإما أنه يحرم، وقد جاء الاحتمال بالتحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل الكعبين ففي النار). والرد عليهم أيضاً من دليل ابن عمر لما استأذن بالدخول على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن مجمعون على أن ابن عمر ليس من أهل الخيلاء، وإزاره كان قد أرخاه تحت الكعبين، فلو كان جائزاً هل للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينكر عليه أمام أصحابه؟ بل قال له: (لو كنت عبداً لله) وعلامة العبودية أن تأتمر بأمر الله، وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا دلالة واضحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق هنا بين الخيلاء وغير الخيلاء. أيضاً الرد عليهم من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ وعمر هو أفقه الناس بكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يتبعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)، فـ عمر ملهم، ويجري الحق على لسانه، والملائكة تتكلم على لسانه، فهو أفهم الناس وأفقههم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم. فلما دخل الشاب يمدح في عمر ويثني عليه، قال له عمر: يا بني! ارفع ثوبك يكن مرضاة لربك ومطهرة لثوبك، فلو أن عمر فقه من النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيلاء يحرم وغير الخيلاء لا يحرم لكان له الوقوف عند حدود الله ويقول: يا بني! أخبرني هل هذا الإسبال فيه كبر منك، أم عادة فقط؟ فلما لم يسأله عمر رجعنا إلى قاعدة الشافعي: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه يقول: أسبلت سواء خيلاء أو غير خيلاء فقد اقترفت إثماً وتجرأت على حدود الله جل في علاه، ارفع إزارك مرضاة لربك ومطهرة لثوبك. فهذه الأدلة كلها تثبت أن القول الأول ضعيف. إذاً: الإسبال عند المحققين على نوعين: إ سبال يحرم، وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار). وإسبال أغلظ من الأول، ألا وهو: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (لم ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء يوم القيامة)، وهذه عقوبة في الآخرة.

ثبوت الإسبال بالإزار والثوب والعمامة وغير ذلك

ثبوت الإسبال بالإزار والثوب والعمامة وغير ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار وفي القميص وفي العمامة)، ففيه دلالة على أن الإسبال يدخل في كل ثوب، ويدخل في العمامة أيضاً. والعلماء لما ذكروا الإسبال في العمامة قالوا: الإسبال بالعمامة يكون بالذؤابة، فإذا أرخى الذؤابة إلى غير ما اعتاد الناس على طولها فقد وقع في الإسبال. أيضاً الإسبال يكون في الأكمام، فإذا كان الكم طويلاً يكون إسبالاً أيضاً، ولا بد من رفعه في القميص، وفي السروال، وفي البنطال، وفي الإزار كذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم قد سوى بين الإزار والعمامة والقميص في الإسبال، وكل ذلك فيه عقوبة وخيمة في الدنيا للمتكبر أو للذي يجر ثوبه خيلاء، ليبين عظم الفارق بين من جر ثوبه من غير خيلاء، وبين من جر ثوبه خيلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل ممن كان قبلكم يمشي متبختراً جر ثوبه خيلاء إذ خسف الله به في الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وعقوبة الخسف والمسخ تكون لمن تكبر على حدود الله جل في علاه، ويكفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

توحيد الاتباع

توحيد الاتباع لقد أرسل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأنزل معه كتابه تبياناً لكل شيء، وهدى وموعظة للمتقين، وكما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن فقد جاء بالسنة، فالسنة مبينة للقرآن وشارحة وموضحة له؛ ولذلك كان لابد من التسليم لنصوصها، والإذعان لأوامرها، فكما يسلم لله عز وجل ولكتابه، فلابد من التسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ولسنته، لأنه المبلغ عن رب العالمين، ولأنه لا يستقيم للإنسان الدخول في هذا الدين إلا بالتسليم الكامل للكتاب والسنة.

الغاية من خلق الإنسان

الغاية من خلق الإنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: خلق الله الكون كله بسمائه وأرضه، وبأشجاره وأنهاره، وبحاره وسهوله، وكل ما فيه لك أنت أيها المكلف، وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له، ولا تنشغل بما خلق لك. يا لها من كلمات! ويا له من غواص! ولعله استقى ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فما خلق لك فسيأتيك، وما خلقت له فلا بد أن تسعى إليه.

الأدلة على أن الغاية من خلق الإنسان هو توحيد الله

الأدلة على أن الغاية من خلق الإنسان هو توحيد الله إن الله جل في علاه خلق الخلق لمهمة جسيمة ولغاية عظيمة، وقد جمعها في قوله جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال جل في علاه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال جل من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، فخلق الله الخلق لمهمة جسيمة وهي توحيده عز وجل، فالدنيا بأسرها أشرقت على شمس التوحيد، وما خلقها الله إلا لتسبح بحمده جل في علاه.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد وتوحيد الله نوعان: توحيد العبادة، أو: توحيد الخالق في أسمائه الحسنى وصفاته العلى وفي ربوبيته وإلهيته، وتوحيد الرسالة. فتوحيد الخالق هو: توحيد الله جل في علاه، وتوحيد الرسالة هو: توحيد الإتباع. وقد قال بعض العلماء: إن بينهما تلازماً، فإن توحيد الخالق لا يمكن أن يكون إلا بتوحيد الإتباع، قال بعض العلماء: بينهما تلازم وثيق. وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم هو: إفراده بالاتباع صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل بينهما علاقة تضمن، فتوحيد الله جل في علاه لا يكون إلا بتوحيد الاتباع، وهو: إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع.

توحيد الاتباع

توحيد الاتباع من أهم أنواع التوحيد: توحيد الاتباع، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن القرآن العظيم فيه آيات كثيرة تبين لنا وتجلي أهمية هذا التوحيد، وتوحيد الاتباع هو: إفراد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع.

الأدلة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

الأدلة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل في علاه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله، فما وجدناه حلالاً أخذنا به، وما وجدناه حراماً تركناه)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مؤسساً أصلاً: (وإنما حرم رسول الله كما حرم الله)، وفي رواية: (ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه). وقد أناط الله جل في علاه طاعته بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل طاعة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وأقوى من ذلك وأرقى أن الله جل في علاه علق الإيمان على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل من قائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقال جل من قائل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]، وهنا أكد بمؤكدات ثلاثة، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ومن ادعى محبة الله جل في علاه، وادعى توحيده فإن ذلك لا يكون إلا بتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ادعى قوم محبة الله، أو كمال توحيده جل في علاه امتحنهم الله بهذه الآية الممحصة، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وأما السنة فهناك الكثير من الأدلة يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن توحيد الله لا يتم أبداً إلا بتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لقبول العبادة

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لقبول العبادة وقد أخبر الله جل في علاه أنه لا يقبل عبادة إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم لا عن طريق الهوى ولا الفقهاء، ولا غير هؤلاء، وإنما عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، ويظهر من هذه الآية أنك إن لم تطع الرسول في هذه العبادة التي تتقدم بها عند الله جل في علاه فإن الله لا يقبل هذه العبادة، وهي باطلة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} [محمد:33]، ثم شدد فقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد:33]، أي: طاعة مستقلة؛ ليبين التلازم بينهما، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ر)، أي: باطل لا يقبل عند الله جل في علاه؛ لأنه لم يخرج من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أخرى قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد).

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لدخول الجنة

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط لدخول الجنة وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الفوز بالجنة والسعادة الأبدية لا تكون إلا لمن أطاع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال كما جاء عنه في الصحيحين -بأبي هو وأمي-: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى). فاندهش الصحابة هل هناك أحد يأبى أن يدخل الجنة؟ (فقالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في قصة الثلاثة النفر وهي لا تخفى، عندما قال الأول: (أقوم ولا أنام، وقال الثاني: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء)، فكأنهم تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبين النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً مقال الصحابة الكرام أن الأعمال ليست بالاجتهاد، ولا بالقيام ولا بالصيام، ولكنها بالاتباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم معلناً لهذه الأمة أن رأس قبولها عند الله جل في علاه في اتباعه، فقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مصوراً لنا ما يحدث على عرصات يوم القيامة واختلاج أقوام من بين يديه عند الحوض، فيقول: (ربي! أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي)، أي: بعداً بعداً لمن بدل بعدي؛ فإن ميزان القبول هو طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمام التوحيد وأساسه لا يكون إلا من خلال اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

شرطا السيادة والقيادة لأمة محمد

شرطا السيادة والقيادة لأمة محمد إن الله خلق هذه الأمة لتكون لها مطلق الريادة والقيادة والسيادة، ولكنه اشترط لهم شروطاً حتى تكون لهم هذه القيادة والريادة، وهذه الشروط هي: التمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى الحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي). وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بشر هذه الأمة بالرفعة والسناء)، وقال أيضاً: (أمتي كالمطر لا يدرى أين الخير فيها أفي أولها أم في آخرها؟).

اتباع الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم

اتباع الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم إن أروع الأمثلة التي ضربها الرعيل الأول، ذلك الرعيل الزكي النقي الذي تمكن من ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، والذي تمكن من رقاب العباد، وعبّد العباد لرب العباد؛ لأنهم تمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، موقفهم في المحنة والشدة التي كانت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتد من ارتد من العرب، وكفر من كفر من العرب، وما بقي إلا قلة من المؤمنين، فلما حدثت الفتنة وأطلت برأسها على أهل المدينة والحجاز ومكة قام أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يعلمنا بلسان حاله أن هذه الأمة لن تثبت إلا بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فقام خطيباً في الناس بعد ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قام عمر في وجه الناس يقول: إن محمداً لم يمت، وإنما ذهب إلى ربه، وليرجعن وليقطعن أيدي المنافقين، فقام أبو بكر، فقال: على رسلك يا عمر، فما سكت، فقال: إليك عني. ثم قام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ومن هنا وقفت الأمة وثبتت على أرض راسخة، وبعد هذا الثبات ثبتت مرة أخرى في حرب الردة عندما قام عمر يعارض أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في قتال قوم قالوا: لا إله إلا الله. فقال: كيف تقاتلهم؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وقد قالوها. ولكن أبا بكر كان أفقه من عمر، فقاس الأمر وفيه نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال متمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -لأن فيها النجاة-: والله والذي نفسي بيده لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. ولذلك قال إسحاق بن راهويه رضي الله عنه وأرضاه: ثبت الله هذا الدين بـ أبي بكر في حرب الردة، وبـ أحمد بن حنبل في الفتنة. والغرض المقصود: أن أبا بكر ثبت وثبتت معه الأمة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك أمثلة تبين كيف كان يتحرى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءته الجدة تسأله عن ميراثها قال لها: أما في كتاب الله فلا أعلم لك فرضاً ولا أعلم لك شيئاً، ثم قال: وأما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم ولعله غاب عني سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فارجعي إلي حتى أسأل الناس، فجمع المهاجرين والأنصار فسألهم عن نصيب أو عن فرض الجدة، فقام المغيرة بن شعبة وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها السدس، فقام محمد بن مسلمة أيضاً فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لها بالسدس. فقد كان يتمسك ويعض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نهجه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أصبح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أصبح أفضل الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وعندما جاءه عمر بن الخطاب يقول له: اعزل خالداً؛ لأن خالداً في قتال مسيلمة قتل مالك بن نويرة، فجاء أخوه ينعى ذلك، وكان خالد متأولاً، في ذلك؛ لأنه سمعه يقول: إن صاحبكم قد فرض على الناس الزكاة، فقوله: صاحبكم، يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال خالد: صاحبنا! أوليس بصاحب لك؟! فقتله، وحسبه ارتد ولم يكن كذلك، فتأول فقتله، فكان القتل تأولاً. فقام عمر فقال: اعزل خالداً فقد قتل المسلمين، فقال له أبو بكر -وانظر إلى دقة نظر أبي بكر؛ لأنه قد وفق بحق وثبت بحق بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تمسكه بها رفعة ونصراً لهذا الدين- فقال له: والله والذي نفسي بيده لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك راجعاً إلى عضه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواجذ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّر خالد بن الوليد على سرية، فقتل بعض من قال: صبأنا صبأنا، وأرادوا الإسلام ولكنهم أخطئوا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلما قالوا: صبأنا صبأنا حسب خالد أنهم على الكفر فقتلهم، وهم كانوا يريدون أن يقولوا له: خرجنا من هذا الدين ودخلنا في دين الإسلام، ولكنهم لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فقتلهم متأولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغه الأمر: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)، أي: إن هذا فعل لا يصح، ولم يعزله النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على عمله، فكان حري بـ أبي بكر أن يفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، ولا يعزله من مكانه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فلما عظ بالنواجذ على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك نصراً للإسلام. وأيضاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش عرمرم ليغزو الروم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسامة من الصغر بمكان قال عمر: اعزل أسامة. يعني: اجعل أحداً من أشياخ المهاجرين أو الأنصار ليكون أميراً عليهم، فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لا أنزع أحداً وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخير كل الخير في ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فثبت الله له الأمة بتمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع الفاروق للنبي صلى الله عليه وسلم

اتباع الفاروق للنبي صلى الله عليه وسلم لقد وعى الدرس جيداً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فتمسك بتلابيب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا ينام ولا يقوم إلا على سنة، حتى إنه لما طاف بالبيت ذهب إلى الحجر الأسود فقبله متعجباً وهو يقول: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فهو هنا يعلن التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تعبداً لله جل في علاه، كما قال تعالى: {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. فالذي حمله على أن يقبل حجراً لا ينفع ولا يضر هو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك أيضاً أنه عندما سئل عن دية الجنين لما قدم رجل من أهل البادية يسأله عن ذلك، فقال: انتظر حتى نرى في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل فقام المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة وقالا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل في دية الجنين غرة أو وليدة، فحكم به؛ لأنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

اتباع عثمان للنبي صلى الله عليه وسلم

اتباع عثمان للنبي صلى الله عليه وسلم وعثمان أيضاً يبين للناس أن النجاة كل النجاة في التعبد، ولا يمكن إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما أُتى بماء ليتوضأ منه قال: قد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا. فهذا فيه تحري عثمان الخليفة الراشد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يطبقها ويعلمها للناس.

اتباع علي للنبي صلى الله عليه وسلم

اتباع علي للنبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً علي رضي الله عنه قال: كان تحت إمرة عثمان، وكان في الحج، فنهى عثمان بن عفان عن المتعة، وكان علي بن أبي طالب فقيهاً بحق، فعلم أن المتعة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت). فقام علي بن أبي طالب وقال لـ عثمان: أتمنع الناس من المتعة؟ وكان هذا اجتهاداً لـ عثمان، لكننا هنا لا ننظر إلى اجتهاد عثمان؛ لأنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كلاً يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم نجد أحداً يخالف عثمان فعلى الرحب والسعة، فقال له علي: أتمنع الناس من التمتع وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحب ذلك؟ لا والله لا نخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد كائناً من كان، ثم قام يعلنها أمام عثمان ولم يعنفه عثمان؛ لأنه احتج بسنة، وكلهم يحترمون ويعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقام علي وقال: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها بلا حجة.

الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين

الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين فهذا هو تمسك الخلفاء الراشدين المهديين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة أن ينظروا في سنته، فإن لم يجدوا سنة من النبي صلى الله عليه وسلم فعليهم بسنة الخلفاء الراشدين، فقال كما في حديث العرباض بن سارية في مسند أحمد وفي السنن بسند صحيح: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع لولاة الأمور والطاعة. ثم قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)، وهذا في الرعيل الأول وفي قرون الخيرية، فما بالنا في هذه الأيام؟! فقال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). وأيضاً في مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر)، وهذا لشدة تمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جعل لهم سنة مستقلة نأخذ بها إن لم نرَ سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

تمسك الصحابة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

تمسك الصحابة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو دأب الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودأب الأكارم والأماجد والسلف الصالح الذين كانوا يعضون بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا بحر العلوم الذي لا ساحل له، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)، ابن عباس حبر هذه الأمة، قام خطيباً في الناس في الحج يعلمهم تفسير كتاب الله جل في علاه، ويقول لهم: إن من السنة أن تتمتع بالعمرة إلى الحج، وكان ابن عباس يرى الوجوب، والجمهور على الاستحباب، والراجح: الاستحباب، فلما قال ذلك قام رجل فقال: يا ابن عباس! كيف تقول ذلك؟ وقد قال أبو بكر بعدم المتعة، وقال عمر بعدم المتعة. فقال: توشك السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. فالنجاة النجاة والتمسك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروي أبو هريرة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء مما مسته النار، وكان هذا في بادئ الأمر، وأصبح ذلك منسوخاً، وهناك اختلاف فقهي. فقام ابن عباس يعترض على أبي هريرة، فقال لـ أبي هريرة: أنتوضأ من الحميم؟ فقال له أبو هريرة: يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال. وكان ابن عمر رضي الله عنه الذي يتتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، وكان يدافع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى على أبيه، فعندما سألوه عن التمتع في الحج قال: هي سنة، فقالوا له: أبوك يخالف ذلك، أي: يقول: بغير ما تقول، فقال: ما أمرنا باتباع غيره. وهذا ليس نفياً مطلقاً لاتباع سنة عمر بن الخطاب وإنما هو مقيد بمخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن نأخذ بقوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وأما عند المخالفة فإنما أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم. وفي واقعة لـ ابن عمر تكتب بماء الذهب مع ابنه عندما بين له فضل التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعارضه ابنه بالنظر، قال ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقال له ابنه: والذي نفسي بيده لنمنعهن، إذاً: يتخذنه دغلاً، أي: يجلسن يتحدثن في أمور الدنيا، ويغتبن، ويتكلمن في أمور لا تنفع ولا تضر، فنمنعهن من هذا فهو أفضل، وكان هذا نظر عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قالت: (والله لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت النساء اليوم لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل). فقال له الولد: والذي نفسي بيده لنمنعهن، فقال له ابن عمر: لعنك الله، وهذا كلمة ليست بالهينة، وإنما هي نارية، فمعناها الطرد من رحمة الله جل في علاه. فقال: لعنة الله عليك، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: نمنعهن! لا كلمتك أبداً. فقيل: إنه ما كلمه حتى مات؛ حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً هذا ابن مسعود الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فعليه بـ ابن أم عبد)، وابن مسعود كان على الكوفة ومعه أبو موسى الأشعري، فسئل ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مات وترك بنتاً وأختاً وبنت ابن كيف يورثوا؟ وقبل أن يسأل ابن مسعود رضي الله عنه، سئل عنها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، فنظر فيها وقال: للبنت النصف، وللأخت الباقي تعصيباً، وهذا التعصيب يسمى تعصيباً مع الغير. فذهبوا إلى ابن مسعود فسألوه وقالوا: إن أبا موسى الأشعري قال: كيت وكيت في مسألة المواريث، فقال ابن مسعود: إن قلت بقوله فقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أي: إنني إن خالفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال ولا يمكن أن يكون هداية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى البنت النصف، وأعطى بنت الابن السدس تكملة الثلثين، وأعطى الباقي للأخت؛ تعصيباً مع الغير. فالشاهد: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لما رأى مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالاً قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، وهذا هو شأن الصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عضوا بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم علموا أن النجاة لا تكون إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن العبادة لا تقبل عند الله إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

تمسك الأئمة الأربعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم

تمسك الأئمة الأربعة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الأئمة الأربعة ففعلوا كما فعل الصحابة، فارتقوا كما ارتقوا، وتمكنوا كما تمكنوا. فهذا الإمام أبو حنيفة الذي قال فيه الإمام الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة وقد كان في مكان يضعف فيه أن يأخذ الأثر عن الثقات، فقدم النظر على الأثر الضعيف الذي لم يخرج من أفواه الثقات الأثبات، وأبو حنيفة نفسه يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، وخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو قول الإمام مالك عندما قال: كل يأخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر. وجاء رجل إلى الإمام مالك وقد أراد أن يلبي بالعمرة أو بالحج من قبل الميقات فقال له الإمام مالك: لا تفعل، قال: ولم إنما أفعل ذلك زيادة في الخير. فقال له: لا تفعل لا ترى نفسك فعلت شيئاً قد قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أخشى عليك الفتنة. مع أنه جائز، ولكن لما رأى نفسه قد فعل شيئاً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أخشى عليك الفتنة، فالتخلف عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تودي بالمرء إلى الفتن، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. ولما تركت السنة رد الناس إليها الشافعي، وهو الذي قال فيه الإمام أحمد: كان الشافعي للناس كالشمس للدنيا. وهو الذي رفع راية التمسك بالآثار. وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ودخل عليه رجل في مجلسه يسأله، وكان هناك من طلبة العلم الكثير، فقام طالب من طلبة العلم قد أذن له الشافعي أن يجيب، فلم يعبأ السائل لهذا الطالب؛ لأن الشيخ موجود، فأجاب الطالب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه المسألة فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقام الرجل وكان فقهه قليلاً فقال: يا شافعي أتقول بقوله؟ فقال له الشافعي: ولم لا أقول بقوله وقد قال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ وما لي لا أقول بقول النبي صلى الله عليه وسلم. بل لقد أدب الإمام الشافعي رأساً من رءوس السنة وعلماً من أعلامها، وشيخ البخاري الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه، فقال له كلمة حفرت في صدره إلى أن مات، وذلك أنه لما رحل الإمام أحمد بن حنبل مع إسحاق يريدان ابن عيينة في مكة ليسمعا منه دخلا مكة فقال له أحمد من باب النصح في الله، والدين النصيحة: سأريك رجلاً شاباً لم تر عينك مثله، فعليك به أو فالزمه. فنظر إليه وقال: نترك مجلس ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان، ونجلس إلى هذا الحدث؟! أي: الرجل الصغير، فقال له الإمام أحمد وكان فقيهاً يعلم الرجال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو فخذه بنزول، يعني: تنزل طبقة وتجد الحديث، فإن فاتك الحديث بعلو فخذه بنزول، وإن فاتك العلم من هذا الفقيه فلن تأخذه من غيره. فدخل معه جلس في مجلسه، وكان الشافعي يتكلم على رباع مكة هل تملك أم لا تملك؟ وكان الشافعي يرى: أنها تملك، واستدل على ذلك بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل مكة قالوا: أتنزل في بيت عقيل، أو تنزل في بيوت من بيوتك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؛ لأن عقيلاً ورث أباه وكان كافراً ثم باع هذه الديار؛ فقال: ما ترك لنا عقيل من دار، ولم يفهم إسحاق هذا الحديث ولا مغزى الحديث. ولله در ابن تيمية عندما قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه. وفهم المتن هو رأس الأمر، وهو الفقه؛ لأن الفقه: هو الفهم. فلم يعقل إسحاق المغزى من هذا الحديث، وكان يرى عدم البيع، فقال له: يا شافعي، حدثني فلان عن فلان عن فلان أن عائشة كانت ترى عدم البيع، وحدثني فلان عن فلان أن فلاناً من الصحابة كان يرى ذلك. فقام الشافعي مستغرباً مندهشاً وقال للناس: من هذا الذي يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من أصحابه؟ قالوا: إسحاق بن راهويه، قال: هذا فقيه خراسان؟ فقال إسحاق: يزعمون ذلك. ثم تكلم بكلمة فارسية سب بها الشافعي، فقال له الشافعي: تناظر؟ فقال: أناظ، وبعدما ناظره قال له الشافعي: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنك، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: قالت عائشة، وقال الزبير! لا يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان. وأختم الأئمة الأربعة بإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وكيف تحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأقوال الكثيرة في مذهبه يعتذر له فيها أنه كان يتلمس السنة، فيقول بالقول، فيظهر له حديث فيقول بالقول الذي فيه حديث؛ لأنه يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة، ولا من الثوري، وخذوا من حيث أخذوا. يقصد بذلك: أن تأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مطبقاً قول شيخه الإمام الشافعي: من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يأخذ بقول أحد كائناً من كان. وقال الإمام ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فالرفعة كل الرفعة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

مخالفة أتباع المذاهب لمذاهبهم المخالفة للسنة

مخالفة أتباع المذاهب لمذاهبهم المخالفة للسنة وإليك نبأ القوم الذين جاءوا من بعد هؤلاء الأئمة المتعصبين لمذاهبهم، فإن من مذاهبهم أنهم يوافقون السنة إذا رأوا أنها تخالف المذهب، فمثلاً: الإمام أبو حنيفة كان يتكلم في الاستصناع ويبيحه، لكنه كان يقول أنه غير ملزم؛ لأنه يمكن للبائع أن يقول: لا أبيع لك، ويمكن للمشتري أيضاً أن يرجع عنه. فقام صاحبه محمد بن الحسن فخالفه في الاستصناع، وكذلك أبو يوسف، وقالا: هذا للتقعيد الأثري أقوى. والإمام مالك مذهبه: عدم الغسل بالتتريب من ولوغ الكلب في الإناء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً إحداهن بالتراب)، فكان الإمام مالك لا يقول بالتتريب؛ لعمل أهل المدينة. فقام بعض أتباعه - أظنه الإمام أصبغ - فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً، ويعفره الثامنة بالتراب)، فقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول مالك رضي الله عنه وأرضاه. وكان الإمام مالك لا يرى المسح على الخفين في الحضر ولا في السفر، فقال: وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول مالك؛ فإنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز المسح على الخف في السفر يوم وليلة في الحضر، وثلاثة أيام بلياليهن في السفر. وأيضاً كان الإمام النووي يعلم أنه لا يمكن له أن ينخلع عن مذهب الشافعي، ومع ذلك لما استبانت له السنة ترك مذهب الشافعي في الوضوء، وذلك أن الشافعي كان يرى أنه لا يجب الوضوء على الإنسان إذا أكل لحم الجزور، فقال الإمام النووي: والسنة وجوب الوضوء على من أكل لحم الجزور، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم على قول الشافعي، بل إن الوضوء من لحم الجزور مذهب الإمام الشافعي أي: أخذه من قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والعلماء يقولون: كل شافعي وللشافعي عليه منة إلا الإمام البيهقي، فإن له منة على الشافعي، فإنه تتبع كلام الشافعي ودلل عليه بالآثار، فكان يأخذ قول الشافعي ويأتي بالحديث الذي يؤكد ما ذهب إليه الشافعي، وعندما لا يجد سنة في قول قاله الشافعي فإنه يرجع الأمر إلى السنة. فمثلاً: كان الشافعي يرى أن الوضوء ينتقض بلمس المرأة الأجنبية، لقول الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]. فقال البيهقي: وصحت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. واستدل على ذلك بحديث في السنن والبخاري وهو حديث صحيح أن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه فيذهب فيصلي ولا يتوضأ، فقال لها عروة: ما هي إلا أنت، فضحكت). قال البيهقي: فهذه سنة قد ثبتت من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبل إحدى نسائه، وذهب فصلى ولم يتوضأ فهذا مذهب الشافعي، ونقل قولاً للشافعي من أن الوضوء لا ينتقض بلمس النساء. فهؤلاء من الذين يتبعون السنة، وقد قالوا: نعلنها صراحة وإن كان الإمام مبجلاً، وإن كان الإمام يؤخذ بقوله، فهذا عند عدم ورود الأثر، فأما إن جاء الأثر فلا قول لأحد، وإنما كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وللكمال مراتب أربع.

المراتب التي يلزم توافرها لمن أراد الكمال

المراتب التي يلزم توافرها لمن أراد الكمال

العلم بالسنة

العلم بالسنة المرتبة الأولى: العلم بالسنة، فلا يمكن أن يخطو المرء المكلف خطوة إلى الكمال إلا بالعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مستنهضاً همم الأمة لتعلم سنته صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على غير العالم كفضلي على أدناكم). فيا لها من كرامة، وأيضاً صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخظ وافر). وكان صلى الله عليه وسلم يميز بين درجة العابد ودرجة العالم ويقول: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب). وشتان شتان بين القمر ليلة البدر وبين سائر الكواكب. إذاً: فالمرتبة الأولى لمن أراد الكمال: العلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى من خطى هذه الخطوة أن يتذكر قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقوله جل في علاه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].

العمل بالسنة

العمل بالسنة أما المرتبة الثانية: العمل بهذه السنة، فإن العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. وقد كان سفيان الثوري رحمة الله عليه يقول: يا أهل الحديث زكوا عن الحديث، فسأله سائل: كيف نزكي؟ قال: على كل أربعين حديث يعمل بحديث واحد. وقال الزهري: من عمل بحديث تعلمه مرة واحدة كان من أهله. فلا بد من العمل بعد التعلم، فإن الله جل في علاه قدم ذلك فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].

الدعوة إلى السنة

الدعوة إلى السنة المرتبة الثالثة: الدعوة بعد التعلم، وأن تنشر هذا العلم بين الناس، وقد قال ابن عيينة: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر الأمة أن يبلغوا عنه، فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعها فأدها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه)، وفي رواية أخرى: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). فهذه المرتبة الثالثة لمن أراد الكمال، وكلها تدور حول سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الصبر على العمل والدعوة

الصبر على العمل والدعوة أما المرتبة الرابعة: فهي الصبر على العمل والدعوة؛ فإن أصحاب السنة غرباء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما قال: (لا تزال طائفة) يقللها، وهم أصحاب السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم). فلا بد أن تصبر على ذلك، وكفاك قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. واعلم أن الله جل في علاه قد أمرك بأمر لا بد أن تأخذ به، وهو: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. نسأل الله الكمال كله دقه وجله.

حكم صيام يوم الشك والحسابات الفلكية

حكم صيام يوم الشك والحسابات الفلكية اختلف العلماء في ثبوت شهر رمضان هل لابد فيه من رؤية الهلا بالبصر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أم يصح أن يكون بالحسابات الفكلية المتطورة في هذا العصر؟ وبعض العلماء توسط في المسألة فأثبت دخول رمضان برؤية الهلال مع عدم الاستغناء عن الحسابات الفلكية. كما اختلفوا في حكم صيام يوم الشك، فأجازه بعضهم وحرمه البعض الآخر، والمسألة قد حسمت بسنة رسول الله القولية أن من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

حكم صيام يوم الشك

حكم صيام يوم الشك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع كتاب الصيام من عمدة الأحكام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)]. إن الشريعة الغراء السمحة الحنيفية جاءت تنيط الأحكام بما يسهل على الناس ولا يشق عليهم، قال الله جل في علاه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، ولذلك أناط الشرع الحنيف توقيت هذه العبادة بما يكون في متناول الجميع، فلم يشق عليهم ولم يكلفهم أمراً لا يستطيعونه، فأناط صيام رمضان أو ابتداء القيام بهذه العبادة برؤية الهلال بالعين المجردة، وكأن الشرع يقول لهم: لا أكلفكم ما لا تطيقون، فإني أكلفكم أن تبتدءوا صيام رمضان إذا رأيتم الهلال بالعين المجردة، أو رآه أحدكم فأخبركم أنه رآه بالعين المجردة، وإن لم تروا الهلال فلا تتعبوا أنفسكم، ولا تشقوا على أنفسكم، ولا تأتوا بالمنظار، ولا تأتوا بالحسابات الفلكية، ولا تأتوا بالتقديم ولا بالتأخير ولا بغير ذلك، بل أتموا شهر شعبان ثلاثين ثم ابدءوا صوم رمضان وأنا أقبل منكم. فهذه دلالة على سماحة الشريعة الغراء، ولذلك سنبين في الفوائد المستنبطة أن من سماحة الشريعة ومن القواعد التي تستقى من هذا الحديث العظيم: أن اليقين لا يزول بالشك، أو الأصل بقاء ما كان على ما كان.

أقوال العلماء في حكم صيام يوم الشك

أقوال العلماء في حكم صيام يوم الشك

قول الحنابلة في صيام يوم الشك

قول الحنابلة في صيام يوم الشك اختلفت أنظار الفقهاء في معنى قوله: (فاقدروا له) وعلى غرار هذا الاختلاف في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) ظهر ونجم الخلاف الفقهي، فقال الحنابلة: أي: ضيقوا له، ومعنى (ضيقوا له) أي: ضيقوا عدد شعبان فلا تجعلوه كاملاً، بل اجعلوه تسعاً وعشرين، وانطلاقاً من هذا التفسير قالوا: إن صوم يوم الشك -الذي هو يوم الثلاثين- واجب إذا وجد غيم، أي: اشترطوا وجود غيم ليلة ثلاثين من شعبان يمنع من رؤية الهلال، فإن لم تستطع أن ترى الهلال فيجب صيام هذا اليوم! ولو سئلوا لم وجب صومه، والإيجاب لا يكون إلا من الشرع؟ قالوا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أي: ضيقوا عدة شعبان، واجعلوا هذا اليوم من رمضان. واستدلوا على ذلك بأدلة أخرى كحديث فاطمة بنت الحسين تروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لأن أصوم يوماً من شعبان أفضل لي من أفطر يوماً من رمضان. وهذا معناه أن يصام اليوم الثلاثين حتى ولو كان من شعبان، فصومه أفضل من أن يكون قد أفطر يوماً من رمضان؛ لأنه لو كان أول يوم من رمضان هو يوم الثلاثين فيعتبر قد صامه ولم يفته، فالأفضل لي أن أكون صائماً سواءً كان اليوم من رمضان أو من غير رمضان؛ حتى لا أفاجأ أني قد أكلت في يوم من رمضان. ومما ذكروا من الأدلة على ذلك أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يتحرى صوم يوم الشك، وحين سألناهم: ما حجتكم في هذا الحديث؟ قالوا: من وجهين: أن ابن عمر صحابي، وفعل الصحابي أو قوله حجة إن لم يخالفه أحد، فما بالكم وقد وافقه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة وهو علي بن أبي طالب، فكان ابن عمر يستحب ويتحرى يوم الشك فيصوم فيه. الوجه الثاني: أن ابن عمر هو راوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) وتفسير الراوي يكون أصح التفاسير التي نأخذ بها، إذ القاعدة عند المحدثين تقول: الراوي أعلم بما روى، فنأخذ به. وأما الدليل الثالث فقالوا: إن العبادة لا بد فيها من الاحتياط، فالعبد الذي يتحرى التعبد لله جل في علاه ويتحرى رضا الله جل في علاه لا بد أن يحتاط لعبادته، وأخذ الحيطة مستحب. وهذا يخالف قولهم بالوجوب، وبعضهم قال: لا، يجب أن يحتاط لدينه فيصوم يوم الشك لأنه يجوز أن يكون من رمضان، وهذا على تفسير الحنابلة، وقد أنكر هذا القول عليهم شيخ الإسلام، فقال: الحنابلة لم يقولوا بالوجوب، وهذه الرواية التي نسبت ل أحمد لم تصح. وكثير من المحققين في الحنابلة قالوا: نحن نقول بصيام يوم الشك، وهذا مذهب ابن عمر وعائشة وبعض الصحابة.

قول الجمهور في صيام يوم الشك

قول الجمهور في صيام يوم الشك أما الجمهور فخالفوهم في التفسير وقالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) يفسره رواية أخرى وهي قوله: (أتموا العدة ثلاثين) فمعنى (اقدروا له) أي: أكملوا عدد شعبان ثلاثين يوماً، فلما فسروا هذا التفسير نجم لنا قولهم في مسألة صيام يوم الشك، فقالوا بحرمة صيام يوم الشك؛ لأن الأحاديث ظاهرة في ذلك، ومنها: أولاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) أي: صوموا رمضان عند رؤية الهلال، (وأفطروا لرؤيته) أي: عند رؤية هلال شوال، (فإن غم عليكم) أي: جاء الغيم ولم تروا شيئاً، (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) فاستدلوا بهذه الرواية. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (فاقدروا له) فهو حديث يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتموا شعبان ثلاثين) >فإن قيل: هذا من العموم، قلنا: هناك ثلاث روايات فيها التصريح، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (فأتموا الشهر ثلاثين) وقوله: (فأتموا عدة شعبان ثلاثين) (الشهر تسعة وعشرون، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين). فهذه دلالة على أن قوله: (فاقدروا له) بمعنى: أتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً، بل عند الجمهور ما هو أوضح من ذلك وهو فاصل للنزاع، وهو ما ورد بسند صحيح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم)، ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة جداً، فمعنى قوله (فقد عصى): أن هذا الفعل يأثم صاحبه؛ لأنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وهذه دلالة واضحة جداً أن صيام يوم الشك عصيان لله جل في علاه، وعصيان لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون حراماً. قالوا: والدليل الرابع ما جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم من شعبان) أي: لا تستقبلوا رمضان بصوم يوم قبله كصوم يوم من شعبان. قالوا: ويعضد ذلك قوله: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) فهذه الرواية يدخل فيها صيام يوم الشك، فهو محرم. وأما الأدلة النظرية فهي أن الأصل العام الذي تتفقون معنا فيه: أن كل عبادة وقتت بوقت لا يصح أداؤها قبل الوقت، فمن قال: أؤديها قبل الوقت احتياطاً قلنا: قد تكلفت، وقد أمر الله رسوله أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. ويقول صلى الله عليه وسلم أيضًا: (هلك المتنطعون) فالاحتياط فيما الأصل فيه براءة الذمة تنطع، فالأصل عدم شغل الذمة بالصيام، وعدم دخول شهر رمضان، فمن تعجل هذا الأمر فقد تنطع، والحيطة فيما لا حيطة فيه تنطع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون).

الراجح في حكم صيام يوم الشك

الراجح في حكم صيام يوم الشك الراجح من هذين القولين هو حرمة صيام يوم الشك، وإن رجح شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره الاستحباب، وهذا من أضعف ما يكون، لأنه مخالف لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استدل ابن تيمية رحمه الله على ذلك بحديث لـ أم سلمة -ويعد هذا قول ثالث وإنما أدرجته مع الحنابلة لأنه تابع لقولهم- رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان ويصله برمضان)، وسنقف عند هذا الدليل قبل أن نرد على الحنابلة، فنقول: حديث أم سلمة جاء على الغالب. فإن قالوا: خالفتم الظاهر؛ لأنه وصل شعبان برمضان، قلنا: فإن عائشة التي هي أبقى من أم سلمة وأثبت في نقل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان) فهذه دلالة على أن صيام شهر شعبان كان على الغالب. وورد عن عائشة -وإن كان بسند فيه ضعف ولكن يستأنس به- أنها قالت: (كان يتحفظ النبي صلى الله عليه وسلم من شعبان، وكان لا يصوم رمضان حتى يرى الهلال أو يتم الشهر ثلاثين) وفيه دلالة على أنه ما صام يوم الشك، فقالوا: هذا يعضد فهم عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وفيه رد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

ما يرد به على الحنابلة في صيام يوم الشك

ما يرد به على الحنابلة في صيام يوم الشك أما الرد على الحنابلة بعد أن رجحنا حرمة صيام يوم الشك فنقول: أولاً: حديث فاطمة بنت الحسين عن علي الذي استدللتم به حديث ضعيف، لأن فاطمة لم تدرك علياً، فالحديث منقطع، والانقطاع يدل على سقوط راو، وسقوط راو يدل على الجهالة، والجهالة تدل على ضعف الحديث، والأحكام فرع عن التصحيح. كما أن للحديث سياقاً وقصة وهي: أنه جاء القوم فسألوا علي بن أبي طالب، فقال أعرابي: رأيت الهلال، فقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فصام وأمر الناس بالصيام، ثم قال: لأن أصوم يوماً من شعبان خير من أن أفطر يوماً من رمضان. ولما كان الحديث له قصة وكانت هذه إجابة عما حدث من رؤية الأعرابي للهلال فيبعد أن يكون في النزاع، ولا يصح أن تنفرد بالاحتجاج به؛ لأنه جاء إجابة عن قصة الأعرابي الذي رأى الهلال، فكأن علي بن أبي طالب يؤكد ما أمر الناس به، وكأنه يقول: وتأكيداً لكم لو أن هذا الأعرابي أخطأ برؤية الهلال ورأى حاجبه مثلاً أو شعر حاجبه فقال: هذا الهلال إن أخطأتم في الصيام يوماً من شعبان خير لكم من أن تخطئوا في فطر يوم من رمضان، فكانت إجابة عن القصة أو السياق الذي حدث من الأعرابي. وأما قولهم: إن ابن عمر كان يفعل ذلك والراوي أعلم بما روى، قلنا: سنرد عليكم من وجهين: الوجه الأول: هذه القاعدة باطلة، وهي مما يعمل بها الأحناف، وليس نصها: الراوي أعلم بما روى، وإنما نصها: إذا خالف الراوي روايته التي رواها فالعمل بما رأى لا بما روى، فهذه قاعدة الأحناف، ومعناها: أن ابن عمر يروي حديث: (فاقدروا له) والرواية الأخرى: (فأتموا الشهر ثلاثين) ومع ذلك ابن عمر -إن لم أكن واهماً أن هذه رواية ابن عمر - خالف وصام، فالراوي خالف ما روى فتكون الحجة فيما رأى في اجتهاده لا الحجة في روايته، وجعلوا فعل ابن عمر تضعيفاً لمعنى الحديث المرفوع. الأمر الثاني: قالوا: تنزلوا معنا وقولوا: الراوي أعلم بما روى؛ لأنه لما روى: (فاقدروا) فسرها بضيقوا، قلنا: هذا مخالف للرواية الأخرى الصريحة التي رواها، فتفسير النبي بقوله أولى بالأخذ به من تفسير ابن عمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله: (فاقدروا له) بأن يتموا شهر شعبان ثلاثين، فهذا تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء ابن عمر ولعله لم يجلس في المجلس الذي فسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مثلاً، لكن هو راوي الحديث، فعندما سألوه: عن معنى قول النبي: (فاقدروا له) قال: معناه: فضيقوا له. إذاً: فعندنا تفسيران: تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني تفسير ابن عمر فبتفسير من نأخذ؟ لا شك أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم من تفسير ابن عمر، قالوا: احترنا معكم فما رأيكم بالدليل النظري؟ ويعنون به الحيطة في العبادات. قلنا: الرد عليكم فيه من وجوه: الوجه الأول: أن هذه الحيطة لا دليل عليها، والأصل براءة الذمة، فلا تشغل الذمة بحال من الأحوال إلا بدليل؛ لأن الله جل وعلا بين أن العبادات لا يمكن أن تكون إلا بقال الله أو قال الرسول، وهذا لا خلاف فيه، فلا يمكن أن ينشئ المرء عبادة في حال من الأحوال إلا وقد سمع قال الله أو قال الرسول، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. والأدلة على ذلك كثيرة وهاك بعضها: قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ومن ذلك قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، ووجه الدلالة من الآية من وجهين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالوجه الأول في قوله: (ما كتبناها عليهم) إذ لا بد أن تكتب، ولا يمكن أن تكون العبادة مشروعة إلا وقد كتبها الله جل وعلا، وقد رأينا أن الله ما كتب صيام يوم الشك. أما الثاني: فإنه قال: (ابتدعوها) أي: من عند أنفسهم، وعلى ذلك فالعبادات لا يمكن الحيطة فيها؛ لأن الحيطة فيها تنطع وزيادة على الدين، وقد أكمل الله الدين، وبهذا نعلم أن الراجح في المسألة الأولى: حرمة صيام يوم الشك، ومن صامه فقد عصى الله وعصى رسوله وأثم، ولا يصح هذا الصوم؛ إذ النهي يقتضي الفساد.

الأحوال الواردة في صيام يوم الشك عملا بقول الحنابلة

الأحوال الواردة في صيام يوم الشك عملاً بقول الحنابلة يتفرع على هذه المسألة: من صام يوم الشك آخذاً بقول الحنابلة فلا يخلو حاله من أن يكون موصوفاً بإحدى الحالات الآتية: الحالة الأولى: صام يوم الشك وهو ينوي أنه من رمضان، فقد بيت النية على أن هذا من رمضان. الحالة الثانية: صام يوم الشك معلقاً النية، ومعنى معلقاً النية أي: متردداً بين أن يكون اليوم هو يوم شك أم هو من رمضان، فإن كان من رمضان فهو من رمضان، وإن كان من غير رمضان فهو مطلق، فصاحبه متردد النية. الحالة الثالثة: صام يوم الشك ولم ينو نية بحال من الأحوال، وإنما استيقظ فوجد نفسه لم يأكل، فقال: أصوم، ولم يحدد النية. الحالة الرابعة: جاء يوم الشك فأكل وشرب، ثم ظهر يوم الشك أنه من رمضان. فهذه أربع حالات. فأما الحالة الأولى: إذا صام يوم الشك بنية أنه من رمضان فظهر أنه من رمضان، فهذا باتفاق الأمة أن صيامه صحيح. الحالة الثانية: إذا صام يوم الشك متردداً في النية، فالأحناف الذين لا يجعلون النية ركناً في الصيام يقولون بصحة الصوم، والصحيح خلافه، وأن هذا الصوم لا يصح وعليه أن يمسك باقي اليوم ويلزمه القضاء. الحالة الثالثة: من استيقظ فوجد نفسه صائماً ولم يأكل فاستمر في صيامه، فعند الأحناف يصح أن ينوي أن هذا اليوم من رمضان ولو في نصف النهار، وعند الجمهور -الأئمة الثلاثة وهذا الراجح الصحيح- أنه لا يصح؛ لأنه لا بد أن يبيت النية، وهو لم يبيت النية، فلا يصح من رمضان. الحالة الرابعة: من أكل في يوم الشك ثم ظهر أنه من رمضان: فعند الجمهور يجب عليه الإمساك، وعليه قضاء هذا اليوم. ولو سأل سائل عن الدليل؟ قلنا: الدليل ما جاء في صوم يوم عاشوراء عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم المنادي لينادي في الناس: (من أكل فليمسك باقي اليوم، ومن كان صائماً فليتم صومه) فعليه الإمساك، وعليه أن يقضي يوماً مكانه. فهذه مجمل المسائل المتفرعة على صيام يوم الشك، وبقي مسألة: من صام ونوى أنه لو كان من رمضان فهو من رمضان، فظهر أنه من رمضان، فمن الممكن أن يكون فيها الخلاف على أن مطلق النية يقتضي الفساد، ومن الممكن أن نقول: بالاتفاق أنه بيت النية على أنه من رمضان فظهر أنه من رمضان، فيصح الصوم ويأثم بأنه صامه في يوم الشك، وعلى ذلك فالصحيح الراجح أن صيامه يجزئ وليس عليه قضاء، وأما من عداه فعليه قضاء هذا اليوم.

حكم الاستعانة بالحسابات الفلكية

حكم الاستعانة بالحسابات الفلكية المسألة الثانية مما يتعلق بهذا الحديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) أن الشرع علق ثبوت قدوم شهر رمضان أو ثبوت ظهور الشهر برؤية الهلال، والمعلوم أن شهر رمضان يعرف بأمرين قد اتفق العلماء عليهما، وبأمر ثالث اختلف العلماء فيه، فالأمران اللذان اتفق العلماء عليهما هما: الأول: رؤية الهلال، فإذا رأوا الهلال سواء كان في بلد أو في غيره وجب عليهم أن يصوموا؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فجعل شهود الشهر برؤية الهلال، ولابد أن نفسر القرآن بالسنة، فقد قال رسول الله: (إذا رأيتموه) والرؤية هنا هي الرؤية البصرية، ولا يصح حمله على غيرها، والمعنى: إذا رأيتموه بأعينكم وبها يثبت الشهر. الأمر الثاني: فبإتمام شعبان ثلاثين يوماً، وهذا بالاتفاق، ويكون الاتفاق حينما يكون الجو صحواً لا غيم فيه؛ لأن الخلاف كله في الغيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن غبي أو فإن غم عليكم). الأمر الثالث وهو المختلف فيه: إن غم عليكم أو غبي عليكم، قال بعض العلماء: يعرف بالحساب الفلكي، فالذين يعرفون ويتدبرون منازل القمر يخبرون متى يولد الهلال ومتى يكون كالعرجون القديم، ومتى يكون كذا، وعلماء الحسابات الفلكية عندهم المناظير، وعندهم كل شيء علمي، فالله جل وعلا حباهم ذلك، فاستخدموا وطوعوا هذا العلم المعروف بعلم التكنولوجيا ليعرفوا منازل القمر إذا كان خلف الشمس، ومتى يدور الدورة الكاملة ليكون في الناحية الثانية، وفي آخر الشهر يكون كالعرجون القديم فيكون في الناحية المقابلة، وهذا كما قال ابن تيمية لا يكون إلا بعد ليلة كاملة. فالمقصود أن أهل الخبرة بالمطالع والمنازل ينظرون في منازل القمر، ويعرفون بالحساب متى يظهر وأين يظهر، وأي مكان يكون فيه الهلال، فمن قال بالاستعانة بالحسابات الفلكية قالوا: عندنا أدلة تعضد ما نقول به؛ لأن الحسابات الفلكية الآن ظهرت وأصبحت من الدقة بمكان، والعلم هذا لابد أن نستخدمه لله جل في علاه، فمن هذه الأدلة: أولاً: أن هؤلاء أتقن وأعلم منا بهذا الحساب، وقد قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فالآية عامة، وهم من أهل الذكر. الأمر الثاني: أنهم قالوا بأن النظر يعضد هذا، فإن الله جل في علاه قد أمر بالصيام عند رؤية الهلال، سواءً رآه المسلم أو لم يره؛ لأن الأعمى لا يراه، كما أنه قد يكون أهل بلدة ما قدر الله عليهم مثلاً ألا يروا الهلال، فلا يصح أن نقول هنا: إن المقصود هو رؤية الهلال، وعلماء الحسابات الفلكية يعلمون متى وأين يطلع الهلال، فقالوا: إذاً من النظر أنه لابد علينا أن نأخذ بهذه الحسابات الدقيقة. وهذا القول للمُحْدَثين من الفقهاء ولم يكن في القرون الخيرية الثلاثة الأولى أبداً، بل هو لبعض المتأخرين من الفقهاء، وهؤلاء أيضًا ما قالوا بهذه التوسعة التي نراها في هذه العصور، بل قالوا: إن الذي عنده علم بالحساب الفلكي ويدقق النظر فيه فله أن يصوم بنفسه فقط ولا يأمر غيره، فليس له أن يذهب إلى القاضي ولا إلى ولي الأمر ليأمر الناس بالصيام، بل ما يفعله ديانة هو أن يصوم بنفسه ولا يلزم غيره، وأما المعاصرون فقد أوسعوا المسألة بحثاً وقالوا: كل الناس يلزمون بذلك، وخالفهم جمهور أهل العلم في هذا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط مسألة الصيام بالرؤية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) وتعليق الشرع بالرؤيا مقصوده الرؤيا البصرية بالعين المجردة، وهذه لا مدخل ولا نظر فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتموه) يعني: بأم أعينكم، (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا). وكذلك قول الله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وشهود الشهر يكون بالرؤية. ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو الفاصل في النزاع: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه فصوموا)، فهذا كأنه تفسير لقوله: (إنا أمة أمية) بمعنى: إنا لسنا بصدد الحساب الفلكي، (لا نحسب ولا نكتب، فإذا رأيتموه) فنفى الاعتماد على الحساب؛ لأننا أمة أمية لا نحسب، وعلق الحكم بالرؤية. قالوا: ومن النظر أن علم صيام الشهر بالحساب الفلكي فيه تعليق بما يشق على الأمة، فقد نكون غير متحضرين وليس عندنا تكنولوجيا ونحن في فقر مدقع لا نستطيع أن نحسب، فهذا تعليق لحكم الشرع بما يشق على الناس، وهذا مخالف للتأصيل الشرعي العام: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. والوجه الثاني من النظر: أن إلزام الناس بالحساب الفلكي تكلف وحرج في الدين، وقد رفع الله الحرج عن الدين، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، وأمره الله أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. فهذان قولان في مسألة الحساب الفلكي، والصحيح الراجح: أن من قال بالحساب الفلكي فقد أبعد النجعة، ولا يصح بحال من الأحوال الاعتماد على الحساب الفلكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن هذه الأمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولابد أن تأخذ بما أناط الشرع به، والقاعدة عند العلماء: إذا أناط الله الحكم بوصف فلا يصح إلغاؤه وإدخال وصف غيره، فالله جل وعلا أناط حكم ثبوت الشهر بوصف وهو الرؤية، فلا يصح إلغاء ما علق الله به الحكم، وإثبات ما ألغى الله عنه الحكم، فتعليق الله الحكم لثبوت الشهر بالرؤيا هو الوصف الصحيح، وإلغاؤه حكم ثبوت الشهر بالحساب الفلكي. وقد ألغاه الله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (نحن أمة أمية لا نحسب) فألغى أن يحكم الشرع بوصف الحساب، وأناط الحكم وعلقه على الرؤية، فمن قال بالاعتماد على الحساب الفلكي فقد ألغى ما اعتبره الله وصفاً في الحكم، وأثبت ما ألغاه الشرع وصفاً للحكم؛ ولذا نقول: من قال بالاعتماد على الحسابات الفلكية فقد أخطأ وأبعد النجعة. وهناك وصف آخر قال به بعض المعاصرين، فقالوا: نحن نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي، قلنا: هذا قول وجيه لكنه مخالف لظاهر الحديث، وإلا فإن من قال بأنه يستأنس بالحساب الفلكي ويأخذ بالرؤية إذا نظرت ودققت النظر فيه لا يخرج ولا ينظر إلى الرؤيا، بل يعتمد على التكنولوجيا والعلم المتحضر، ولسان حاله يقول: نحن في القرن العشرين، فلماذا نذهب إلى أهل الجاهلية؟! فعندنا علم متحضر يحسب لنا منازل القمر فنعتمد عليه، فالكلام من بعض المعاصرين: أننا نعتمد على الرؤية ونستأنس بالحساب الفلكي وسيلة إلى إلغاء ما اعتبره الشرع! والوسائل لها أحكام المقاصد، فنقول: هذه وسيلة وذريعة إلى أن تلغي ما اعتبره الشرع -وهو رؤية الهلال- وتكتفي بعد ذلك بالحساب الفلكي؛ لأنك لا تستأنس بالحساب الفلكي إلا وأنت تحسن الظن بهذه الحسابات، وهي نظريات تخطئ وتصيب.

الراجح في مسألة الاستعانة بالحسابات الفلكية

الراجح في مسألة الاستعانة بالحسابات الفلكية إن القول الفصل في هذه المسألة المعضلة هو أن الحسابات الفلكية لا تجوز بحال من الأحوال، ومن قال بالاعتماد على الحسابات الفلكية فليراجع نفسه؛ لأنه أخطأ خطأ فاحشاً مصادماً لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته). وأما من قال بأننا نستأنس بالحسابات الفلكية فهذا لا دليل عليه، بل إن ابن تيمية يقول: الحسابات الفلكية بدعة في الدين، وبعض العلماء يقولون: هذا وسيلة إلى الشرك، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر)؛ لأن من يقول بالاعتماد على الحساب الفلكي يجعل الناس يعتقدون في كلام الكهنة والعرافين الذين ينظرون في النجوم، فكأننا فتحنا لهم الباب على مصراعيه، والنووي نفسه قال في رحلته في طلب العلم: وحبب إلي النظر إلى النجوم -علم الحساب-، وقال به الرازي وذكره كثيراً في تفسيره، قال النووي فلما نظرت في هذه العلوم -علم النجوم- أظلم قلبي، وما استطعت أن أتفهم مسألة واحدة من العلم، فلما تبت إلى الله من هذا العلم رجع لي ما كنت أعهده من نفسي قبل ذلك، فالصحيح الراجح: أنه لا ينظر في النجوم ولا الحساب الفلكي اعتماداً؛ لأن الاعتماد بدعة في الدين لا يمكن أن تقبل، ولا استئناساً لأنها وسيلة إلى بدعة في الدين أيضاً، فالمسألة كلها: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب) و (الشهر هكذا وهكذا) (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).

اختلاف المطالع

اختلاف المطالع المسألة الأخيرة في هذا الباب ما جاء في صدر الحديث وهو قوله: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) فهل الأمر بهذا لكل الأمة أم لا؟ وتسمى هذه المسألة عند العلماء: اختلاف المطالع، وقبل أن ندخل في مسألة اختلاف المطالع وهي مسألة شائكة ينبغي أن ندرك تفسير المطالع، وما معنى اختلاف المطالع؟ فقال البعض: إذا اشتركت بلدة مع بلدة أخرى في الليل ولو في جزء منه فمطلعهم واحد، وبه قال النووي وغيره، ولو قلنا بذلك فمن المؤكد أن السعودية مع مصر يشتركان في جزء من الليل، فيكون المطلع واحداً. القول الثاني: أنهما يشتركان إذا كانت المسافة بينهما مسافة قصر، ومسافة القصر هي ثمانون كيلو، وعليه تكون القاهرة والإسكندرية منفصلتين، وكل مدينة لها رؤيا، ورؤيتها لا تلزم المدينة الأخرى. القول الثالث: كل قطر أو بلدة لها ولاية معينة فلها رؤيتها لوحدها، فلو رأت الرؤية عملت بها، وإن لم تر الرؤية فلا تلزمها رؤية البلد الأخرى والقطر الآخر. وبعض المعاصرين حدد المطلع بألفين ومائتين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وستين كيلو، أو ألفين ومائتين وستة وعشرين، وقد تأملت من أين أتى بهذا فكان أقرب شيء أنه نظر في حديث كريب؛ لأن المسافة بين الشام وبين المدينة يمكن تقديرها بهذه المسافة، فعندما وجد ابن عباس لم يأخذ بكلام كريب قال: هذه بسبب المسافة بين الشام وبين المدينة، فيكون اختلاف المطلع واتحاد المطلع على هذه المسافة، فحيثما كانت فهذا معنى اختلاف المطالع. فهذه مقدمة حتى ننظر في المسألة: هل يعمل باختلاف المطالع أم لا يعمل باختلاف المطالع؟ ومعنى ما سبق: أن من قال باختلاف المطالع ولو كان على مسافة الألفين قال: إن فصل بين بلدة وبلدة ألفان ومائتان وستة وعشرون كيلو، فكل بلد يستقل برؤيته، فأي بلدة رأت الرؤيا فإنها تصوم، وإن لم تر الرؤيا فلا يلزمها الصوم، ومن قال بأنه لا اختلاف في المطالع ولا اعتبار باختلاف المطالع، قال: إذا رأت الرؤيا بلدة واحدة أو دولة فكل الأمة الإسلامية عليها أن تصوم في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا القول قول الجمهور؛ إذ إن جمهور أهل العلم من المالكية والحنابلة والأحناف يقولون بعدم اختلاف المطالع، وعندهم أدلة قوية أثراً ونظراً. فأما الأثر: فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) وهذا على الجماعة، بمعنى: أيتها الأمة! صوموا إذا رأيتم هلال الشهر، وقد ترونه بواحد أو باثنين، وقد ترونه بمصر أو بلدة، فإن رأيتموه فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فهذا على عمومه. واستدلوا أيضًا بعموم قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة:185] قالوا: والشهادة هي الرؤيا، وهذه أيضًا عامة على عموم المسلمين. وأما من النظر: فإن من مقاصد الشريعة والقواعد الكلية تآلف المسلمين واتحادهم وتجانسهم وتحابهم، وتكون الألفة والترابط بأن يتعبدوا لله في وقت واحد، وأن ينتهوا من العبادة في وقت واحد، فإن ظاهر الحديث الإلزام بالعبادة عند رؤية أي بلد من البلاد، وهذه تؤدي إلى التجانس والتآلف والتحاب، وهذا يوافق القواعد الكلية في الشريعة ومقاصدها في التآلف والاتحاد في عبادة الله جل في علاه، فقالوا: هذه وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى ائتلاف الأمة واتحادها وتحاب أبنائها وتعاطفها، فقد التي تشرذمت كثيراً. القول الثاني -والأقوال كثيرة، لكننا سنوجز الأقوال المهمة- وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ولهم وجهان: وجه باختلاف كل بلدة عن الأخرى في المطلع، والوجه الثاني: التفصيل، فإذا اتفقوا في جزء من الليل أو في مطلع فعليهم الصيام، وهذا ما وجهه شيخ الإسلام ابن تيمية من أقوال الشافعية. وهناك تفصيل في مذهب الشافعية لسنا بصدده، وهو: أن كل بلدة رأت رؤيا فإنها تصوم بها، وأما القول الثاني للشافعية فمداره على اشتراط جزء من الليل، فلو أن السعودية رأت لزم مصراً أن تصوم، وكذا لو رأت مصر يجب على السعودية أن تصوم معها، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام ابن تيمية لم يرجح إطلاق قول الشافعية، إذ إن إطلاق قول الشافعية أن كل بلدة لها أمير عليها الصوم بالرؤيا، وبالمثال يتضح المقال، فمصر تصوم مع ولي أمر مصر فقط، وتصوم السعودية مع ولي أمر السعودية فقط، وتصوم المغرب مع ولي أمر المغرب فقط، وتصوم ليبيا مع رؤية بلد ليبيا فقط، فهذا أصل قول الشافعية. واستدلوا على ذلك بحديث كريب، وأنا أضم القول هذا للقول الثاني؛ لأن هذا الدليل هو دليل للفريقين، لمن قال بالتفصيل في اختلاف المطالع، وكذا من اشترط جزءاً من الليل، استدلوا بحديث كريب وهو في الصحيح، أن أم سلمة بعثت كريباً لحاجة لها في الشام عند معاوية، فلما وصل إلى الشام استهل رمضان ليلة الجمعة فصام مع معاوية، ثم رجع إلى المدينة بعدما قضى حاجة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فلما رجع قابل ابن عباس، فتكلما، ثم سأله ابن عباس على الهلال، فقال: رأينا الهلال ليلة الجمعة فصمنا وسنفطر مع معاوية، فقال له: وأنتم؟ قال: ما رأيناه إلا ليلة السبت، قال: ألا تأخذ برؤية معاوية؟ قال: لا نصوم حتى نرى الهلال أو نتمّ الشهر ثلاثين، هكذا أمرنا رسول الله). فكأن ابن عباس يقول: أمرنا رسول الله أن أهل الشام إذا رأوا الهلال فليصوموا، ولا نصوم نحن حتى نراه نحن في المدينة، ونحن في المدينة لا نصوم ولا نفطر حتى نرى الهلال، فكأنه يقول: هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (صوموا لرؤيته) فكل بلدة رأت الهلال عليها أن تصوم، وهذا حديث من القوة بمكان. وأما من النظر: فقالوا بقياس العقل، قالوا: أنتم توافقوننا بأن الشمس إذا غربت في مصر لم تغرب في السعودية؛ لأن الفرق بين السعودية ومصر بقدر ساعة، وهذه تنفع الرجل المسافر بالطائرة، ولو أن رجلاً مصرياً أو من غيرها كان جالساً في مصر ففتح التلفاز وكان يشاهد قناة فضائية مسلمة تنقل الغروب والأذان، فنظر فقال: قد سقط حاجب الشمس في السعودية، والله قد أناط الفقه بسقوط حاجب الشمس أو بزوال الشفق الأبيض، وقد سقط حاجب الشمس في السعودية فعلى الأمة كلها أن تأكل، فمنا من سيصوم ساعة، ومنا من سيصوم دقيقة، ومنا من لا يصوم؛ لأن الشمس لم تطلع أبداً في حياته، ومنا من يفطر قبل الناس بساعة، قالوا: وأنتم تمنعون هذا، مع أن الإفطار علق على غروب الشمس وقد غربت الشمس في السعودية، فسيقال لهم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فقالوا: الحمد لله أتينا من لسانكم بما نحجكم به، فإن رؤي في السعودية ولم يروه في مصر فعلى نفس السياق، فأنتم قلتم: غربت في السعودية ولم تغرب في مصر، فسنقول: وكذلك هذا رأوه في السعودية ولم يروه في مصر، فلابد أن نعمل بذلك لأننا لنا رؤية وهم لهم رؤية، كما لهم سقوط حاجب الشمس وعندنا سقوط في حاجب الشمس. قالوا: وهذا النظر أقوى من نظركم، فاختلاف المطالع واختلاف الشروق والغروب يبين لنا الاختلافات في الأوقات. والراجح الصحيح في هذا القول هو قول الشافعية، وأنه لابد من العمل باختلاف المطالع، لأن ابن عباس ما قال ذلك اجتهاداً؛ وإذا قالوا: هذا اجتهاد من ابن عباس وقد خالف العموم، قلنا: لا، إن هذا ليس اجتهاداً من ابن عباس، بل هذا قول صريح من رجل عاقل يعلم مراد رسول الله، وهو حبر الأمة وبحرها، على أنه قال: أمرنا، وهذا ليس فيه اجتهاد بحال من الأحوال؛ لأنه نسب الأمر للرسول. فهذا رد قاطع وفاصل في النزاع لمن يقول: إن هذا كان اجتهاداً من ابن عباس، فقد رفع الحديث حيث قال: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فالصحيح الراجح في ذلك الاعتداد والعمل باختلاف المطالع، فكل بلدة لها رؤيا تعمل بها، واختلاف المطالع -كما قال شيخ الإسلام - هو القول الفصل، وعند الشافعية العمل باختلاف المطالع، فكل بلدة تشترك مع بلدة في جزء من الليل تأخذ برؤيتها أو نقول: إن كان البعد بينهما ألفين ومائتين وستة وعشرين كما حسبها بعضهم، فاختلاف المطالع له أثر أقوى بكثير من الكلام على عدم اختلاف المطالع. بقي لنا مسألة متفرعة على هذه المسألة وهي: إذا قلنا بأن اختلاف المطالع يعتد به، فلو رأوا الهلال في السعودية وما رأوه في مصر فماذا نفعل؟ نقول: الحق مع اختلاف المطالع، فنأخذ برؤية مصر، ونحن تبع لولي الأمر هنا، فكل بلدة تأخذ برؤيتها بشرط ألا يدخلوا في ذلك الحسابات الفلكية. فلو قالوا: سيولد أو سيكون جنيناً أو سيكون محاقاً، فلا تأخذ بهذا القول، لأنك أمرت بأن تأخذ بالرؤيا، فإذا قالوا بالحسابات فلا تأخذ بهذا، والأخذ باتفاق المطلع أولى. أما إذا قالوا: نحن نأخذ بالرؤيا والحسابات تساعدنا مثلاً، فإنني أجد في نفسي حرجاً من ذلك، لكن لو قالوا: الأصل عندنا وعمدتنا هو رؤية الهلال فوجب عليك أن تتبع ولي أمرك في ذلك، فإذا قالوا بالحسابات الفلكية نقول: إذاً لا سمع ولا طاعة، لكن بالاستتار دون أن تأتي بالمفاسد العظيمة، أو أن تهيج الناس عليك وعلى الإخوة الملتزمين وعلى الشرع، فتجدهم يقولون: أتوا بدين جديد. أنك إذا كنت تعلم أنهم يعتدون بالحسابات الفلكية ولا يأخذون بمسألة الرؤيا، فعليك أن تأخذ بالرؤيا وتفطر في بيتك دون أن تبين لأحد سراً، وتقول: لا سمع ولا طاعة، دون مفاسد، لأن السمع والطاعة مقيد بالسمع والطاعة لله ولرسوله، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)

أحكام الصيام

أحكام الصيام للصيام أحكام كثيرة بينها العلماء بأدلتها من الكتاب والسنة، ومن ذلك: معرفة دخول شهر الصيام، وبيان المفطرات، وحكم الكبير والمريض العاجز عن الصوم، وحكم فطر الحامل والمرضع، وحكم صوم المسافر، وبيان كفارة من جامع أهله في نهار رمضان، وغير ذلك من المسائل التي ينبغي على كل مسلم أن يعلمها.

خصائص شهر رمضان وبركاته

خصائص شهر رمضان وبركاته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن شهر رمضان شهر مبارك كما روى الطبراني بإسناد جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم شهر رمضان, شهر مبارك)، فهو شهر كله بركة، تتنزل فيه الرحمات، وتستجاب فيه الدعوات، وتكثر فيه البركات, وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يدعون الله قبل رمضان بستة أشهر أن يبلغهم رمضان, فإذا اجتهدوا في العبادة وجدوا وتعبدوا لله جل وعلا دعوا ستة أشهر أن يقبل الله منهم هذه العبادة في هذا الشهر الكريم! ومن بركات هذا الشهر: أنه تصفد فيه مردة الشياطين، وليس كل الشياطين, وتغلق أبواب النيران, وتفتح أبواب الجنات, وتعتق النسمات, فهو شهر مبارك كريم. وهذا الشهر فيه عبادة جليلة جداً وهي: الصوم, وهو: الامتناع من الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ومن فضل هذه العبادة: أن الله جل وعلا قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فهذه دلالة على فضل هذه العبادة الجليلة, وقد جاء في حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام لا عدل له) أي: لا يعدل الصيام شيء. ومن بركة هذا الشهر الكريم: الصوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، ووفي رواية فيها زيادة: (وما تأخر)، ومن بركة هذا الشهر: أن فيه ليلة هي خير من ألف شهر, والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر, ألا وهي: ليلة القدر, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنب). أيضاً من بركة هذا الشهر: أن العمرة فيه تعدل حجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان كحجة معي). ومن بركة هذا الشهر: كثرة التلاوة والتدبر في كتاب الله جل وعلا، قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] , وهذا الشهر هو شهر القرآن كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، قال الشافعي: ما نزلت من نازلة في هذه الدنيا إلا وفي كتاب الله حلها, علمها من علمها وجهلها من جهلها, قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، و (كل): لفظ من ألفاظ العموم, يعني: فكل شيء حله موجود في القرآن إما بالإجمال وإما بالتفصيل وإما بالإحالة على من يغوص في معانيه من أهل العلم. وهذا الشهر هو شهر تدبر القرآن, وقد كان الشافعي يختم القرآن في هذا الشهر في اليوم مرتين, يعني: فيقرأ ستين ختمة في شهر رمضان, وكثير من السلف كانوا في رمضان يقبلون على القرآن ويتركون مجالس العلم, فقد كان مالك يترك الموطأ ويترك الأحاديث وينشغل في شهر رمضان بالقرآن. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن, فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). وأيضاً من بركات هذا الشهر: كثرة الصدقات في هذا الشهر الكريم, وبعض الأغنياء يؤخرون إخراج الزكاة بعدما يحول على أموالهم الحول إلى رمضان, وهذه إساءة يأثمون عليها، فالواجب إخراجها بعد تمام الحول، ولا يؤخرونها إلى رمضان، وإن كانت الصدقات تعظم عند الله جل وعلا في هذا الشهر الكريم, فينبغي الإكثار فيه من الصدقات النافلة، فهو شهر مبارك, شهر كريم, وعلى كل امرئ أن يستعد له, ويهيئ نفسه أن يعبد الله فيه بالجد والاجتهاد. والصوم لغة: الإمساك مطلقاً, قال الله تعالى حاكياً عن مريم رضوان الله عليها قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، أي: إمساكاً عن الكلام. وفي الشرع هو: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في زمن مخصوص, أو بالمعنى الأوضح هو: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وجوب النية في الصوم

وجوب النية في الصوم والصوم عبادة، وكل عبادة تفتقر إلى نية، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات)، فقبول الأعمال عند الله جل وعلا بالنيات, فيفتقر الصوم إلى النية. والكلام على النية من وجهين: الوجه الأول: النية بمعنى الإخلاص, فما من عمل يقبل عند الله جل وعلا إلا بالإخلاص، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). الوجه الثاني: بمعنى أن العبادة تفتقر إلى نية، فلابد من تبييت النية بالصوم في كل ليلة، على خلاف بين العلماء كما سنبينه. جاء في السنن عن ابن عمر وعن حفصة موقوفاً وعن عائشة متصلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له)، والنفي يعود على القبول، لا على الكمال، ولا على الوجود، يعني: أن الصيام غير مقبول عند الله جل وعلا حتى يبيت له النية من الليل على خلاف بين العلماء، فالجمهور من المالكية, والشافعية, والحنابلة, أنه لابد من تبييت النية من الليل، أما الأحناف فقالوا: للمرء أن ينوي الصيام من قبل الزوال, مثلاً: نام رجل من الليل واستيقظ صباحاً قبل الزوال في رمضان، فالأحناف قالوا: يتم صومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والرد عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له)، وهذا صريح من قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تبييت النية من الليل. واختلف الجمهور فيما بينهم: هل تبييت النية بالصيام يلزم في كل ليلة من رمضان، أم تكفي نية واحدة من أول الشهر؟ فالشافعية والحنابلة قالوا: لابد من تبيبت النية كل ليلة؛ لأن الحديث صريح: (من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له)، فهو على الإطلاق. والمالكية قالوا: نحن نستدل بهذا الحديث أنه على الإطلاق، فتكفي النية مرة واحدة، فإن الأصل في الأمر عدم التكرار إلا أن تأتي قرينة تدل على التكرار. والصحيح الراجح والأحوط: أن يبيت النية في كل ليلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت النية)، ونظرنا إلى العبادة التي قال فيها ذلك, فوجدناها كل يوم عبادة مستقلة بذاتها, فلابد من تبييت النية لكل يوم. إذاً: لابد لكل امرئ أن يبيت النية من الليل, فمن لم يبيت النية من الليل ونام حتى استيقظ بعد طلوع الفجر وصام فلا صيام له, لكن يجب عليه الإمساك وعليه قضاء هذا اليوم.

معرفة دخول شهر رمضان

معرفة دخول شهر رمضان وشرط وجوب الصوم: هو دخول هذا الشهر, وكيف يعرف دخول هذا الشهر؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم حالتين يدخل بهما الشهر: الأولى: أن يرى الهلال، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وهذه الرؤية بالعين المجردة، ويشترط فيمن يرى الهلال: أن يكون عدلاً، فيصوم الناس برؤيته, كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (تراءى الناس الهلال فرأيته فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فصام وأمر الناس بالصيام)، وهذه العدالة التي نشترطها في الرجل الذي يرى الهلال هي: العدالة الظاهرة لا الباطنة، يعني: أن يكون أمام الناس يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات، فهذه العدالة الظاهرة, ودليل ذلك حديث في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! إني رأيت الهلال, فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: قم فأذن في الناس بالصيام). وإذا قلنا: رؤية الهلال بالعين المجردة يخرج بذلك الحسابات الفلكية, والحسابات الفلكية للصيام من أشد البدع في الدين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا يجوز لمن كان عالماً بمنازل القمر أن يعتمد الحساب الفلكي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الصوم على رؤيته بالعين المجردة، فالحساب الفلكي بدعة، لابد للمرء أن يجتنبها، وليس لها اعتبار بالنسبة للشرع. الحالة الثانية: اكتمال الشهر, فإذا لم نر الهلال فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحالة الثانية لدخول الشهر هي: إكمال عدة شعبان, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).

حكم اختلاف المطالع

حكم اختلاف المطالع وقد اختلف العلماء في اعتبار اختلاف المطالع, فالجمهور يقولون بعدم اختلاف المطالع, يعني: لو رئي الهلال في بلد من بلاد المسلمين وجب على كل المسلمين الصيام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، ووجه الدلالة: أن هذا أمر لجميع المسلمين, ولم يقيده بقيد, وهذا يتناسب مع عصرنا، ويسلم له الجميع، لكن إن نظرت فقهياً وجدت أن هذا القول ليس براجح, والراجح: هو اعتبار اختلاف المطالع, فكل بلد لها هلالها, فعندما ترى الهلال تصوم, وهذا القول أصوب, والخلاف فيه خلاف سعة ورحمة, فمن عمل بهذا القول أو بهذا القول فلا إنكار عليه. والشافعية يقولون باختلاف المطالع، ويجعلون لكل بلد رؤية، ويستدلون بحديث كريب أنه ذهب إلى معاوية في الشام فرأى معاوية الهلال ليلة الجمعة، ثم رجع كريب بعدما انتهى من مهمته إلى المدينة فقابل ابن عباس فقال: رأيتم الهلال؟ قال: نعم، رأينا الهلال ليلة الجمعة فصمنا وصام معاوية , فقال ابن عباس: أما نحن فقد رأيناه ليلة السبت, وما زلنا نصوم حتى نراه أو نكمل الشهر, فقال له: ألا تتبع معاوية؟ فقال له ابن عباس: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا يجعل الحديث مرفوعاً حكماً للنبي صلى الله عليه وسلم, لأنه قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث يعتبر من المخصصات لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، فيكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) أي: يا أهل البلد! إذا رأيتم الهلال فصوموا لرؤيته. والشافعية أيضاً قالوا: البلدان اللذان في نفس القطر أو بينهما أقل من مسافة القصر رؤيتهم واحدة، وهذا هو الأفقه والأرجح فقهياً, لكننا نقول بقول الجمهور حتى تسلم الأمة من التشتت والتشرذم الذي هي فيه: وهو عدم اختلاف المطالع, فأي بلدة رأت الهلال لزم الجميع أن يصوم.

حكم الكبير العاجز عن الصوم

حكم الكبير العاجز عن الصوم وصوم الكبير أو الشيخ الهرم الأصل فيه قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين: القول الأول: قول المالكية: ليس عليه صوم ولا كفارة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] , وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وهذا الشيخ الكبير الهرم لا يستطيع الصوم فيسقط عنه الفرض. القول الثاني: قول جمهور أهل العلم: أن الكبير يفطر وعليه فدية عن كل يوم يطعم مسكيناً, قال سلمة بن الأكوع في هذه الآية: هذا منسوخ, وقد كان المرء يخير بين أن يصوم أو يطعم, فنسخت بقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وقال ابن عباس: هي لم تنسخ، بل هي باقية على الشيخ الكبير الهرم, يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً, وكان أنس رضي الله عنه وأرضاه بعدما كبر سنه يجمع ثلاثين مسكيناً ويطعمهم. والصحيح: أن الكبير الهرم يطعم عن كل يوم مسكيناً، والمالكية يقولون: لا يطعم ولا يصوم, فقد سقط الفرض عنه, وشيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً ما يتأثر بأصول مالك , فمثلاً يقول: إن لم يستطع المريض أن يصلي قائماً فليصل قاعداً, فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً فليصل على جنب, فإن لم يستطع سقطت عنه الصلاة, جرياً على أصول مالك , فهو كثيراً ما يتبع أصول مالك ويرجحها, وتكون رواية لـ أحمد تابعة لأصول مالك , وفي كتاب البيوع ترى ترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً متأثرة بأصول مالك. والجواب عن المالكية أن نقول في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إننا نقول بذلك، فالشيخ الكبير تسعه الفدية، وأيضاً نقول: الصوم هو أصل الفرض، لكن على الكبير ليس بأصل الفرض, فأصل الفرض على الكبير هو: الإطعام لا الصوم على خلاف فقهي مشهور، لكن هذا هو الراجح الصحيح, فتسقط عنه المطالبة إذا أطعم عن كل يوم مسكيناً.

حكم المريض العاجز عن الصوم

حكم المريض العاجز عن الصوم والمرض مرضان: مرض يرجى برؤه, ومرض لا يرجى برؤه, والأصل في جواز إفطار المريض قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] تقدير الآية: (فأفطر) {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، يقضيها. فالمريض مرضاً لا يرجى برؤه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ويلحق بالكبير العاجز. والمريض مرضاً يرجى برؤه يفطر ثم يقضي. واختلف العلماء في حد المرض الذي يرخص فيه الفطر, فـ داود الظاهري وابن المسيب يجيزان الفطر من ألم الضرس وألم الأصبع، وجمهور أهل العلم يقولون: العبادة لابد فيها من مشقة يتحملها, والمرض الذي يرخص فيه الفطر لابد أن يكون مرضاً, بحيث إذا صام المرء مع هذا المرض لم يتحمل المشقة, أو أن المشقة تتعبه أو تزيد من مرضه. وأسعد الناس بالدليل: هم أهل الظاهر؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فقوله: (مريضاً) , على الإطلاق، فالصحيح: أن أي مرض يصاب به المرء حتى وإن كان ألم الضرس فله الرخصة في الفطر.

حكم الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان

حكم الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان والمرأة الحامل والمرضع هل يلحقان بالشيخ الكبير أم يلحقان بالمريض الذي يرجى برؤه؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والأصل في هذا يدور على قول ابن عباس وابن عمر: الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على أنفسهما أو خوفاً على ولديهما فعليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً, وتعلق بهذا المالكية وقالوا: المرأة الحامل أو المرضع تفطر وتطعم عن كل يوم مسكيناً, ولا قضاء عليها, وقال جمهور أهل العلم: حكمهما فيه تفصيل: فإن أفطرتا من أجل أنفسهما فإنهما يقضيان فقط, وإن أفطرتا من أجل الرضيع أو الجنين فعليهما القضاء مع الفدية. وبيان ذلك: أنها لو أفطرت من أجل غيرها لم يتعلق الأمر بها، فعليها الفدية قياساً على من أفطر لينقذ الغريق, فهو سيفطر من أجل غيره, فالعلماء قالوا: يرخص له بالفطر, بل يجب عليه؛ لأنه سينقذ نفساً، حتى وإن كان الغريق من العجماوات المحترمة، فله أن يفطر وينزل في الماء لينقذها. وهذا الرجل يكون عليه القضاء فقط, فإن أفطر لغيره فعليه القضاء مع الفدية, فالمرأة إذا أفطرت من أجل الولد أو من أجل الجنين لا خوفاً على نفسها فالعلة خارجة عنها، وعليها الصوم قضاء، وعليها أن تطعم عن كل يوم مسكيناً, ولكن لو خافت على نفسها فعليها القضاء فقط, وهذه المسألة محل نظر، وليس فيها دليل قاطع، فإما أن تأخذ بقول الجمهور، وهو أنها تفطر وتفدي، أو أنها تطعم فقط ولا تقضي, وهذا قد رجحه فضلاء من العلماء والله أعلم.

صوم المسافر

صوم المسافر أما المسافر فله الرخصة في أن يفطر، لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، واختلف العلماء في الفطر في السفر: هل هو واجب أو رخصة مباحة, أو هو مستحب, أو هو خلاف الأولى؟ على أقوال. القول الأول: قول الشافعية: يستحب الصوم في السفر، والفطر خلاف الأولى، واستدلوا على ذلك بأن سرعة إبراء الذمة أولى بالمرء, والمرء مع الجماعة يتشجع في أمر العبادة, وأيضاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر, بل صام عبد الله بن رواحة والنبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر, قال الصحابي: (ما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة). القول الثاني: قول الحنابلة: يستحب له أن يفطر, واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). القول الثالث: وهو أعدل الأقوال، وهو قول عمر بن عبد العزيز: أفضله أيسره, يعني: إن كان الأيسر على المسافر الفطر فليفطر, وإن كان الأيسر عليه الصوم فليصم, ويستدل لهم بقول الله جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. القول الرابع: قول الظاهرية, وهو رواية عن أحمد، وهو ترجيح الشيخ الألباني رحمه الله: أنه يجب على المسافر الفطر، ولا يجوز له الصوم, واستدل على ذلك بأدلة كثيرة أوضحها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأج)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) يبين أنه يحرم على المرء أن يصوم؛ ولهذا قال داود الظاهري: لو صام المسافر لم يصح منه الصوم وعليه القضاء, يعني: يأثم وعليه القضاء. والراجح من ذلك: هو قول الجمهور، وهو إما جواز الفطر في السفر أو استحبابه، والأدلة على ذلك كثيرة, منها حديث حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني كثير السفر أفأصوم في السفر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فصم, وإن شئت فأفط) فهذه دلالة ظاهرة جداً وصريحة على إباحة الفطر في السفر. ومما يدل أيضاً على جواز الفطر في السفر: حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر, فلم يعب هذا على ذاك, ولا هذا على ذاك). وأيضاً حديث: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) ففيه دلالة: على أن هناك أناساً غير مفطرين, فهذه أدلة تدل على جواز الصوم والفطر في السفر من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمره ومن فعل النبي صلى الله عليه وسلم, وتدل على قوة مذهب الجمهور. ولابد من الرد على المخالف فنقول: إن عمدة ما استدلوا به: هو حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، وهذا الحديث هو واقعة عين, ووقائع الأعيان لا عموم لها, يعني: أنما حالة خاصة بحالة معينة، ووقائع الأعيان لا تعمم, بل تعرف بالقرائن، فننظر مثلاً إلى السياق, وإن كان السياق ليس من المخصصات, بل هو من المقيدات, فالنبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل ملقى على الأرض, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله! صائم، وكان في سفر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر)، فالسياق يوضح سبب إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا، فالرجل كان ملقى على الأرض من الصوم، فقال: (ليس من البر الصيام في السفر) بمعنى: ليس من البر على هذه الحالة أن يصوم المرء وقد يهلك نفسه, والله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، ولذلك يجوز للرجل أن يتيمم والماء موجود لبرودة الماء إن خاف على نفسه الضرر، كما في قصة عمرو بن العاص، فليس من البر الصيام في السفر الذي يفضي بالمرء إلى الموت. والذي دلنا على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، فالنبي صلى الله عليه وسلم صام وأمر بالصيام, بل وخير في الصيام, والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخير في أمر ليس فيه بر, فهذه قرينة توضح أن هذا الحديث واقعة عين, ووقائع الأعيان لا تعمم, ونحن ندور مع الشرع حيث دار, فنقول بقوله: (ليس من البر الصيام في السفر) لمن لا يطيق ذلك, بل يحرم على المرء الذي لا يطيق الصوم في السفر أن يصوم, فنحن نقول بهذا الحديث في دائرته فقط ولا نعمم المسألة. أما الحديث الثاني: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)، وجه الشاهد عند الظاهرية: أن المفطرين ذهبوا بكل الأجر, والذي لم يفطر لم يأخذ أجراً, هذا وجه استدلالهم، فالرد عليهم أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام وعبد الله بن رواحة في شدة الحر, والنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل أمراً لا يؤجر عليه، ولن يرشد أصحابه رضوان الله عليهم أن يصوموا في السفر ولا أجر لهم, فهذه أدلة من الخارج تبين لنا أن معنى (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) يعني: الأجر الأكبر كان لهم؛ لأن الدال على الخير كفاعله, والذي ييسر على معسر له الأجر, فهؤلاء انشغلوا بتحضير الطعام للصائمين، وبتحضير الرحال ونصب الخيم, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فطر صائماً كان له مثل أجره)، فمعنى الحديث: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) يعني: بأكثر الأجر.

حكم جماع من أتى من سفره نهارا لامرأته التي طهرت من الحيض

حكم جماع من أتى من سفره نهاراً لامرأته التي طهرت من الحيض مسألة: الرجل إذا سافر وترخص بالرخصة فأفطر, ثم رجع إلى بلده في النهار, فرأى امرأته قد طهرت من الحيض, فهل له أن يجامعها أم ليس له أن يجامعها؟ المذهب الصحيح الراجح: أن المسافر إذا دخل على امرأته ووجدها قد طهرت من الحيض وهو قد ترخص بالفطر في السفر فله أن يجامعها, وليس هذا انتهاكاً لحرمة اليوم, وعليه قضاء هذا اليوم بلا كفارة، وهذا ما رجحه ابن عثيمين

حكم صوم الجنب

حكم صوم الجنب وإذا أصبح المرء جنباً فله أن يصوم, وكثير من الناس يحسب أنه لو قام جنباً فلا صوم له, وهذا هو مذهب أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والصحيح الراجح: أن له أن يصوم، لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله يصبح جنباً فيصوم)، وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله! إني أصبح جنباً وأريد أن أغتسل وأريد أن أصوم, فهل لي أن أصوم؟ فقال رسول الله (وأنا أصبح جنباً فأغتسل وأصو)، فالمرء إذا أصبح جنباً فله أن يصوم وليس عليه شيء.

المفطرات

المفطرات

الأكل والشرب

الأكل والشرب ومفطرات الصيام كثيرة: الأكل والشرب, فإذا أكل المرء أو شرب أفطر بذلك، لقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، أما إن كان عامداً اختلف العلماء فيه على أقوال ثلاثة أرجحها: أن عليه أن يستغفر الله جل وعلا ويقضي يوماً. وإذا أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه، والإمام مالك يخالف الجمهور في هذا، والجمهور يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وفي الحديث القدسي: (قال: قد فعلت, قد فعلت)، والإمام مالك وجه الحديث بقوله: رفع عنهم الإثم ولكن يجب عليهم القضاء, واعتمد على قاعدة قعدها العلماء, وهي: كل مطلوب لا يسقط بالنسيان وإن رفع الإثم فيه, وكل منهي عنه يسقط بالنسيان ويرفع عنه الإثم. فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكلام في الصلاة، ومع ذلك تكلم رجل, ففعل منهياً عنه, فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم أخذه فعلمه أن الصلاة لا يصح فيها كلام الناس، ولم يأمره بالإعادة, فصحت الصلاة مع فعله منهياً عنه, ورفع عنه الإثم ولم يطالب بشيء. أما في الواجبات: فإذا نسي المرء الركوع في الركعة, فلا تصح ركعته، ويرفع عنه الإثم, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، لكن لابد عليه أن يأتي بالركوع لتصح الركعة, فهذا هو الذي ارتكز عليه الإمام مالك، فقال: رفع عنه الإثم لكن عليه القضاء, ونحن نقول: هذه القاعدة تسقط أمام صريح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه فإنما أطعمه الله وسقاه)، وهذا نص صريح في محل النزاع.

القيء عمدا

القيء عمداً المفطر الثاني: القيء عمداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء).

الحجامة

الحجامة المفطر الثالث: الحجامة، وقد اختلف فيه العلماء, فالإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية رجحا: أن المحتجم يفطر، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)، وهذا الحديث جل أسانيده ضعيفة, لكن احتج به الإمام أحمد، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية بالأثر وبالنظر, أما بالأثر فهذا الحديث، وأما النظر فقال: أما المحجوم فإنه يضعف جداً بالحجامة، فلا يستطيع أن يكمل الصيام, وأما الذي يحجمه فلا يبعد أنه إذا سحب الدم يدخل في فمه شيء من دمه، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم). والصحيح الراجح: قول الجمهور، وقد قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ بحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه: (كان جعفر بن أبي طالب يحتجم, فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم)، وفي نفس الحديث قال: (ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة, وكان أنس يحتجم وهو صائم)، وعن ابن عباس بأسانيد صحيحة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم)، فثبت أن الحجامة لا تفطر, لكنها تكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها للإبقاء على صحابته, لأنه عندما يسحب الدم من الصائم يضعف جداً، فقد لا يستطيع أن يكمل صومه, فتكره الحجامة للصائم، وقد تحرم على المرء الذي لا يستطيع أن يكمل صومه بعد الحجامة. إذاً: فالصحيح الراجح: أن الحاجم والمحجوم إذا لم يتأثرا بالحجامة فصيامهما صحيح.

الجماع

الجماع المفطر الرابع: الجماع، فمن جامع امرأته في نهار رمضان يفطر وعليه القضاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صم يوماً مكانه واستغفر الله)، وعليه الكفارة, وهي: أن يعتق رقبة فإن لم يستطع صام ستين يوماً، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، لحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلطم خده ويقول: يا رسول الله! هلكت, قال: ما أهلكك؟ قال: جامعت أهلي في نهار رمضان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أتجد رقبة؟ قال: لا, قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: ما فعل بي ذلك إلا الصيام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطعم ستين مسكيناً, فقال: ما عندي شيء، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم تمراً ليتصدق به، فقال: هل على أفقر مني؟ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمه أهله)، أي: وتبقى الكفارة في ذمته, ولا تسقط على الراجح من أقوال أهل العلم.

حكم مباشرة الصائم لزوجته دون الجماع

حكم مباشرة الصائم لزوجته دون الجماع ويباح للصائم أن يباشر امرأته وهو صائم؛ لأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه وهو صائم) لكنما قيدت الأمر فقالت: (وكان أملككم لإربه)، فنحن نقول: ندور مع الشرع حيث دار, فالذي يملك نفسه ويأمن أن تثور شهوته فيجامع امرأته فهذا له أن يباشرها في نهار رمضان، وإلا فلا يحل له أن يقترب منها. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أقبل امرأتي في نهار رمضان؟ قال: قبلها, وجاء آخر فقال: أقبل امرأتي في نهار رمضان؟ قال: لا)، وكان الذي أباح له النبي صلى الله عليه وسلم شيخاً كبيراً, والآخر كان شاباً, فالمسألة كلها تدور على ثوران الشهوة. فالذي يملك نفسه له أن يباشر امرأته فيضمها ويقبلها ولا يفطر إلا إذا أنزل, فإذا باشر الرجل امرأته فأنزل المني يفطر, والشيخ الألباني يقول: لا يفطر، وهذا قول ضعيف جداً، وهو يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر امرأته وهو صائم، والمباشرة مدعاة للشهوة، فهي وسيلة مباحة، ومن قواعد الشرع الكلية: الوسائل لها أحكام المقاصد, فالمباشرة وسيلة في ثوران الشهوة، فلو أنزل لا يفطر، والرد على هذا أن نقول: قالت عائشة رضي الله عنها: (وأيكم يملك إربه)، وفي الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، وهذا لم يترك شهوته، فعليه أن يقضي مكان هذا اليوم.

حكم من باشر زوجته وهو صائم فأمذى

حكم من باشر زوجته وهو صائم فأمذى ولو باشر الصائم امرأته فأمذى فالصحيح الراجح أنه لا يفطر بذلك، وليس عليه القضاء. والأصل: أن المذي يخالف المني؛ لأنه أقرب إلى البول منه إلى المني, فحكم المذي: الوضوء, وحكم المني: الغسل, فهذا فارق, فيكون قياس المذي على المني قياس مع الفارق. ومن نظر إلى امرأة عارية, أو نظر إلى امرأة في الشارع، وكرر النظر إليها فاشتدت شهوته فأنزل, فالصحيح الراجح أنه لا يفطر, وليس عليه قضاء.

عدم صحة عموم قاعدة: كل ما دخل الجوف يفطر

عدم صحة عموم قاعدة: كل ما دخل الجوف يفطر قعد الفقهاء قاعدة وهي: كل ما دخل الجوف فهو يفطر الصائم؛ ولذلك يقولون: إن أي شيء دخل في الإحليل أو في الدبر يفطر, حتى قال بعض الشافعية: من استنجى فأدخل إصبعه في دبره فقد أفطر, والمرأة عندما تستنجي إذا أدخلت أصبعها في الفرج تفطر، والإمام النووي في المجموع يقول: ولو ضرب رجل صائماً بسكين فدخلت في أمعائه أو دخلت في بطنه فقد أفطر, والصحيح الراجح: أن هذه القاعدة ليست على عمومها، ولا دليل عليها، فإن الله أناط الحكم بالطعام والشراب, والمنفذ الذي يدخلان منه: هو الفم، ومثله الأنف, فأي شيء يدخل من الأنف أو الفم فهو الذي يفطر فقط, فمن وضع كحلاً في العين فوجد الطعم في حلقه لا يفطر, أو في الأذن فوجد طعمه لا يفطر, ولا شيء يفطر إلا ما دخل من الفم أو العين. والإبر لا تفطر إلا إذا كانت من الإبر المغذية التي تقوم مقام الغذاء؛ لأنها بمعنى الغذاء.

حكم الكفارة على من أفطر بالأكل متعمدا

حكم الكفارة على من أفطر بالأكل متعمداً من أفطر بالأكل متعمداً فعليه القضاء ولا كفارة عليه، والأحناف والمالكية يقولون: إذا أكل أو شرب عامداً فعليه القضاء والكفارة, وهذا كلام ليس بصحيح.

حكم الكفارة على من جامعها زوجها في رمضان

حكم الكفارة على من جامعها زوجها في رمضان يحرم على المرأة أن تمكن زوجها من وطئها في نهار رمضان؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وحق الله مقدم على حق الزوج، فإذا أكرهها فجامعها فللعلماء قولان هل تقضي أم لا؟ والصحيح الراجح: أنها تقضي. فإن جعلته يجامعها فالخلاف في مسألة الكفارة, هل الكفارة على الرجل وحده أو على الرجل والمرأة؟ فمن قال: الكفارة على الزوج والزوجة استدل بعموم الحديث، ومن قال: الكفارة على الزوج وحده قال: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فالنبي لم يسأل الرجل الذي جامع امرأته هل طاوعته زوجته أم لا؟ وجعل الكفارة من ماله وليس من مالها، وعلى كلا القولين فهي آثمة بذلك، ولابد أن تستغفر الله جل وعلا, وعليها القضاء؛ لأنها قد أفطرت عامدة, وقال بعض العلماء: لو صامت الدهر كله لم يكفها, فليس عليها قضاء، والصحيح الراجح: أن عليها القضاء.

حكم تبييت النية من أول الليل

حكم تبييت النية من أول الليل والصحيح أن النية إذا بيتها المرء قبل ثلث الليل الآخر أو بعده فصومه صحيح، بل إذا بيت النية من أول الليل صح ذلك الصوم.

حكم صيام تارك الصلاة

حكم صيام تارك الصلاة ومن يصوم ولا يصلي لا يصح صومه، فتارك الصلاة كافر, ومن شروط الصيام: الإسلام. نسأل الله أن يثبتنا على الحق, وأن يعلمنا علماً نعمل به، ونرتقي به عند ربنا.

تنبيه عباد الرحمن على حرمة قراءة الحائض للقرآن

تنبيه عباد الرحمن على حرمة قراءة الحائض للقرآن القرآن الكريم هو أعظم كتاب؛ لأنه كلام الله، فهو يستمد عظمته من عظمه قائله، وحفاظاً لهذه العظمة كان لزاماً على من يقرؤه أن يكون طاهر البدن، فتحرم القراءة على الحائض تشريفاً وتعظيماً لهذا القرآن.

انتفاء الإيمان عمن لم يحكم الله ورسوله في شئونه الدينية والدنيوية

انتفاء الإيمان عمن لم يحكم الله ورسوله في شئونه الدينية والدنيوية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الله تعالى يرسي لنا قاعدة يشكك فيها إيمان من لم يأخذ بهذه القاعدة، ألا وهي قوله جل في علاه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]. وقال جل في علاه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]. وقال جل في علاه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83] أي: أولي العلم. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). بل إن الله أناط محبته وعلامة محبته بطاعة الرسول، قال الحسن البصري: زعم أناس حب الله وحب رسوله فامتحنهم الله بآية في المحنة، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وفي السنن والمسند عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: (وعظنا النبي صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ). وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). ونحن الآن سنفصل في هذه المسألة بقال الله قال الرسول، وكل لبيب بالإشارة يفهم.

جواز قراءة الحائض للآية والآيتين في كتب الفقه وغيرها من كتب أهل العلم

جواز قراءة الحائض للآية والآيتين في كتب الفقه وغيرها من كتب أهل العلم هل يصح للمرأة الذكر والتسبيح وقراءة الآية والآيتين في كتب التفسير وكتب الفقه، وقراءة الآية عندما تركب الدابة على أنه دعاء؟ نقول: أولاً: أما الذكر والتسبيح وقراءة الآية على أنها ذكر في كتب الفقه والتفسير وغيره، فيجوز بالاتفاق دون أدنى خلاف. والدليل على ذلك: قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله) وهذا على العموم. وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) وهذا على العموم أيضاً. ومن الأدلة كذلك: الآيات والأحاديث التي تثبت فضل الذكر دون التفريق بين حائض وجنب وغيرهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) وهذا على العموم في كل الأحوال، سواء جنباً أو غير جنب، كنتِ امرأة حائض أو لستِ بحائض، فلكِ أن تجعلي لسانك رطباً بذكر الله. إذاً: هذا العموم يبين لنا الاتفاق على أن للمرأة الحائض التسبيح والذكر وقراءة الآية في كتب الفقه على أنها من الأدلة وليست من تلاوة القرآن، وقد رخص فيه بعض العلماء الذين يقولون بالمنع، وقالوا: لها أن تقرأ آية أو آيتين.

حكم قراءة القرآن للحائض، وأقوال العلماء في ذلك

حكم قراءة القرآن للحائض، وأقوال العلماء في ذلك أما قراءة القرآن بالنسبة للمرأة الحائض فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال: القول الأول: المنع مطلقاً. القول الثاني: الجواز مطلقاً. القول الثالث: الجواز للحاجة.

القول بالمنع مطلقا، وأدلة ذلك

القول بالمنع مطلقاً، وأدلة ذلك فالذين قالوا بالمنع مطلقاً هم الجمهور: الشافعية والحنابلة والأحناف، فيحرم على المرأة الحائض قراءة القرآن، وتأثم إن قرأت القرآن، فإذا علمت الحق وأصرت عليه كان من الكبائر، وإن لم تعلم فهي من الصغائر، والله تعالى أعلى وأعلم. واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث ابن عمر في السنن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن). وهذا الحديث قد جاء أيضاً من طريق آخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه في منع الحائض من قراءة القرآن، وجاء من طريق أنس أيضاً، والروايات كلها ضعيفة كما سأبين. الدليل الثاني: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل أحواله سوى الجنابة). والحائض عند العلماء تلحق بالجنب، وهي أشد منه وأولى منه. الدليل الثالث: جاء في سنن البيهقي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن. الدليل الرابع: عن علي بن أبي طالب بسند صحيح أنه قال: لا يقرأ الجنب القرآن -والحائض يلحق بالجنب- قالوا: يا أمير المؤمنين! ولا حرفاً واحداً؟ قال: ولا حرفاً واحداً. وهذا فيه جزم بالتحريم وتصريح به. الدليل الخامس: عن عائشة بنت الصديق رضي الله عنه وأرضاها كما في صحيح البخاري قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض). ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (يقرأ القرآن في حجري) وصفتي أني حائض (وكنت أعلم) كما فهمت من رسول الله أن الحائض لا تقرأ القرآن، فكيف يقرأ القرآن في حجري؟! فكأن النبي بلسان حاله يعلمها أن المرأة الحائض لا تقرأ القرآن لحيضها، أما القارئ الذي لا تمسه جنابة ولا حيض فإن له أن يقرأ القرآن، ولا يؤثر فيه إن كانت هذه القراءة بجانب الحائض، بل لو كانت في حجر الحائض فيجوز له ذلك؛ لأن المنع بوصف الحيض، والحيض وصف لا يتصف به إلا النساء. الدليل السادس: جاء في سنن أبي داود بسند صحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ فمر عليه رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام، ثم ضرب بيده الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام، ثم قال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر). هذا الحديث لا يساعدهم في التحريم، لكن يساعدهم في الكراهة فلفظة: (كرهت) لا تدل على التحريم، وإن كان بعض العلماء يقول: إنها أصل في التحريم، والصحيح والراجح: أنها ليست دلالة بالتصريح على التحريم، لكن يستأنس به. الدليل السابع: قياساً على فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول -أي: متلبس بالنجاسة- فمر عليه رجل، فقال: يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله، أو قال: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد عليه، فلما قضى حاجته ذهب إليه فقال له: إذا وجدتني على هذه الحال فلا تسلم علي، فإن فعلت فلن أرد عليك). فهنا محرمان: المحرم الأول: ألا يرد. المحرم الثاني: أن يرد وهو متلبس بالنجاسة، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى بارتكاب الصغرى، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول بفعله: إن رد السلام وأنا متلبس بالنجاسة كبيرة، وأصغر منه أن أمتنع عن رد السلام، فأفعل الأصغر وأدفع به الفعل الأكبر، فيكون وجه الدلالة هنا: قياس الأولى وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط واجباً؛ لأنه كان متلبساً بالنجاسة. الدليل الثامن: اتفق المجيزون والمانعون على حرمة مس المصحف لغير الطاهر، واستدلوا بحديث مرسل لكنه صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر) فقالوا: اتفقنا نحن وأنتم على حرمة مس المصحف، وأيهما أغلظ حرمة مس المصحف أم قراءة كلام الله الذي تكلم به وسمعه جبريل ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ A القراءة أغلظ، فكيف تمنعون الأدنى وتجيزون الأغلظ؟! فهذا مخالف لكل القواعد والتأصيلات العامة، ومخالف للتقعيد الفقهي. وهذا قياس الأولى، فإذا قلنا بالمنع من مس المصحف فمن باب أولى أن نمنع قراءة القرآن.

القول بالجواز مطلقا، وأدلة ذلك

القول بالجواز مطلقاً، وأدلة ذلك وهو قول ابن حزم الذي قال بالجواز مطلقاً، فتقرأ إذا خافت النسيان وإن لم تخف النسيان، نائمة، قائمة، جالسة، قاعدة، تقرأ القرآن، وقول ابن حزم هذا يستدل له: بأن الأصل عدم المنع، وأن الأصل هو الجواز، ولا دليل يمنع؛ لأن ابن حزم قصف الأقلام كلها، فقطع دابر كل من يستدل بحديث، وبين صراحة أسانيد هذه الأحاديث التي استدل بها المانعون، وأنها كلها أحاديث باطلة؛ لأنها أسانيدها ضعيفة، وسأبين القول الفصل في الأسانيد إن شاء الله.

القول بالجواز للحاجة، وأدلة ذلك

القول بالجواز للحاجة، وأدلة ذلك وهو قول الإمام مالك ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وهو: جواز القراءة للحاجة، ويدخل فيه الصنعاني الذي يقول بالكراهة ولا يقول بالجواز، واستدل أصحاب هذا القول بخمسة أدلة: الدليل الأول: أن الأصل عدم المنع؛ لأنه ليس هناك دليل يمنع، والأدلة التي جاءت بالمنع أدلة ضعيفة. فأجازوا القراءة للحاجة لا للضرورة؛ لأن القاعدة عند العلماء: أن الحاجيات تبيح المكروهات، أما الضرورات فتبيح المحظورات، وإلا فأنا أقول: بأن المرأة الحائض تقرأ للضرورة، أي: إن كانت ستمتحن أو ستختبر وسترسب إذا لم تقرأ فلها أن تقرأ. الدليل الثاني: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)، ووجه الدلالة قوله: (افعلي ما يفعل الحاج)، والحاج يذكر الله، ويسبح، ويستغفر، ويقرأ القرآن، فدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج)، ولو كان القرآن ممنوعاً لخصصه كما خصص الطواف، وهذا قول وجيه جداً، فلما لم يبين دل ذلك على الجواز. الدليل الثالث: ما استدل به ابن عباس كما عند البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى كسرى وقيصر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64] إلى آخر الآيات)، قال: والكافر جنب؛ لأن الكافر يجامع امرأته ولا يغتسل، وهو سوف يقرأ القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك. الدليل الرابع: أن هناك أخباراً وأحاديث صحيحة تذم من نسي القرآن، وتثبت أن القرآن يتفلت، فلا بد من المحافظة عليه، وفيها إشعار على أن الذي يتفلت منه القرآن بغفلته يكون آثماً، بل يدخل في قول الله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. الدليل الخامس: الاستدلال بهذه القاعدة العظيمة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما قال ابن تيمية، فالواجب عدم النسيان لحرمة النسيان، فلا يتم الواجب إلا بالقراءة، سواء كانت حائضاً أو غير حائض، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ترجيح القول بعدم جواز القراءة للحائض

ترجيح القول بعدم جواز القراءة للحائض الراجح الصحيح هو قول الجمهور، والذي ينص على أن المرأة التي تقرأ القرآن وهي حائض آثمة عاصية لله جل وعلا، وأنها تستحق العقاب بقراءتها للقرآن وهي حائض؛ لأن الأدلة واضحة ظاهرة جداً على التحريم، ومنقاشة الأدلة التي استدل بها الجمهور على النحو التالي: فأما بالنسبة لحديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه الذي في السنن، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب القرآن)، فقد رواه رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني كلهم من طريق: إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وإسماعيل بن عياش ثقة في الشاميين، فهو ضابط عند علماء الجرح والتعديل، لكنه ضعيف في غير الشاميين. وهذه الرواية صراحة هي عن أهل الحجاز وعن أهل العراق، فهو يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق مناكير، قال البخاري: يضعف في روايته عن غير الشاميين. وهذا الحديث أنكره أحمد، فالحديث بإسناده ضعيف؛ لأن فيه إسماعيل بن عياش أتي من قبل حفظه في غير الشاميين، لكن يمكن لنا أن نناوش في هذا الإسناد أيضاً، ونبين أن هذا الإسناد يحتمل التحسين، وأن بعض العلماء قد صحح هذا الإسناد، فيحتمل التحسين لأدلة: منها: أن إسماعيل بن عياش الذي يخشى منه الوهم والخطأ وعدم الضبط، قد جاءتنا أدلة تدل أنه قد ضبط هذه الرواية، وعلى هذا فالإسناد يرتقي إلى الحسن لغيره، قال الشيخ أحمد شاكر في شرحه على الترمذي -وبعدما ذكر أن العلماء ضعفوا هذا الحديث من قبل إسماعيل بن عياش - قال: وأكثر ما في رواية ابن عياش الخوف من الغلط فيه؛ لأنه في غير الشاميين، والمتابعة من عبد الملك بن مسلمة -وهذا وهم من الشيخ أحمد شاكر؛ لأن عبد الملك بن مسلمة ليس هو المتابع، وليس في نفس طبقة إسماعيل بن عياش وإنما هو في طبقة سابقة- قال: والمتابعة من عبد الملك بن مسلمة مع احتمال الخطأ ترفع خطأ إسماعيل بن عياش، لا سيما وأن عبد الملك بن مسلمة وثقه الدارقطني. هذا يؤخذ على الشيخ أحمد شاكر من وجهين: الأول: أنه وهم على الدارقطني، فـ الدارقطني لم يوثق هذا الرجل، لكن الشيخ أحمد شاكر يقول كلاماً نفيساً جداً، وهو: أن الخلط في هذا الإسناد من وهم إسماعيل، وإسماعيل يمكن أن يرتفع وهمه بالمتابعة التي توضح لنا أنه لم يخطئ في ضبط هذا الحديث. وهذا الكلام نفيس جداً لا سيما بأن الذي تابعه هو المغيرة، والمغيرة مصري ثقة ثبت، وقد وثقه علماء الجرح والتعديل، وهو الذي تابع. إذاً: الرواية الأولى رواية ضعيفة، لكنها تحتمل التحسين لا سيما وأن المغيرة قد تابع إسماعيل بن عياش، لكن يبقى الإسناد ضعيف. الرواية الثانية: حديث علي بن أبي طالب، وهذه الرواية بفضل الله صحيحة خلافاً لمن ضعفها، وقد صححها أكابر من أهل الحديث. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: (لم يكن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم عن القرآن سوى الجنابة). رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، والبيهقي، والدارقطني من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. وصحح هذا الحديث الترمذي والترمذي وإن قال بعضهم: إنه متساهل في التصحيح، لكن الترمذي من المتقدمين في عصر الرواية، وهو صاعقة في الحفظ، كان أعمى، وكان أحفظ الناس في زمانه، بل من أنجب تلاميذ البخاري، ومن أنجب علماء العلل، فـ الترمذي ليس بالهين في علم الحديث، وكذلك صحح هذا لحديث: ابن السكن وعبد الحق والبغوي، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة أنه قال: هذا الحديث، أي: حديث علي بن أبي طالب ثلث رأس مالي؛ يبين صحة هذا الحديث. وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن من هذا. فكل هذا يدل على صحة الحديث؛ ولذلك لم ير الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلا أن يحسن هذا الحديث، فبين أنه حديث حسن إسناده، وقال: هو من قبيل الصحيح الذي يحتج به، وهذا إسناد حسن لم يؤخذ عليه إلا عبد الله بن سلمة، وهو صدوق قد تغير في آخره. ويعضد ذلك وهو أقوى منه: قول عمر بن الخطاب (لا يقرأ الجنب ولا الحائض القرآن). أي: يحرم، وحتى لو قال عمر: أكره. فمعناها: التحريم، للأدلة المتعاضدة على ذلك، فهذه أدلة تثبت لنا بأن هذا الحديث سنده صحيح. ومن الأدلة: القياس الجلي، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد منع نفسه من أمر واجب وهو الرد على السلام؛ لأنه كان متلبساً بنجاسة.

الرد على من قال بجواز القراءة مطلقا وللحاجة

الرد على من قال بجواز القراءة مطلقاً وللحاجة الرد على الإمام ابن حزم سيدخل تحت الرد على الإمام مالك؛ لأن أدلة الإمام مالك أقوى من أدلة الإمام ابن حزم. وأدلتهم: الدليل الأول: الأصل عدم المنع وعدم التحريم، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] فالأصل هو عدم المنع، لكن قد جاءنا الناقل الذي نقلنا عن الأصل إلى التحريم، فالأصل الإباحة، لكن حديث علي رضي الله عنه المرفوع ناقل، وكلام عمر بن الخطاب ناقل؛ لأن عمر بن الخطاب وإن خالفه ابن عباس فإني أقول: لو كان عمر في كفة لرجحت كفة عمر. الدليل الثاني: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج) وهذا عام وقوي، فالحاج يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن. وأنا أقول لهم: يكون هذا استدلالاً قوياً إذا قلتم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مقامه التبيين، وقد بين عليه الصلاة والسلام المستثنى، وهو: الطواف، والرد على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن هذا الحديث عام مخصوص بحديث علي بن أبي طالب من أن الجنابة هي التي كانت تحجزه. وأيضاً بقول عمر: لا تقرأ الحائض القرآن، وقول علي بن أبي طالب: لا تقرأ الحائض القرآن، والقياس الجلي من المخصصات المنفصلة التي تخصص العموم. إذاً: فهذا عام مخصوص. الوجه الثاني: أنهم قالوا: لو كانت قراءة القرآن محرمة لخصصها النبي كما خصص الطواف. قلنا: المخصص مخصصان: مخصص متصل، ومخصص منفصل. فالمخصص المتصل جاء في الحديث: (غير ألا تطوفي بالبيت). وأما المخصص المنفصل فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم لهم في المدينة، والمقام والحال يقتضي أن يبين لها أن الطواف لا يجوز. الدليل الثالث: قول ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب إلى كسرى وقيصر، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم وتلا الآية، قال: إن ملوك الأعاجم على الكفر، وهم أيضاً على الجنابة؛ لأنهم يجامعون ولا يغتسلون بنية رفع الجنابة. والرد على هذا الحديث من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: هذا الحديث لا ينفع أصلاً الاستدلال به في هذا الباب، فهو في غير محل النزاع؛ لأن مسألتنا قراءة الحائض ليست للضرورة ولكن للحاجة، والمسألة هذه على الضرورة، والضرورة هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالآية، وبعث إليه بهذا الكلام ليدعوه إلى الإسلام، فهذه ضرورة، ومحل النزاع ليس في ضرورة، والضرورة تبيح المحظور، فقد قال الثوري وغيره: ابعث بالمصحف للنصراني أو الكافر؛ لعله أن يعلم. الوجه الثاني: أن هذا الحديث قد تطرق إليه الاحتمال، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل سقط به الاستدلال، فرسول رسول الله لما ذهب إلى كسرى وقيصر ومعه الرسالة، ألا يحتمل أن يكون هذا الرسول هو القارئ؟ فيحتمل أن رسول رسول الله هو الذي قرأ وهو ليس على جنابة، فلا وجه لكم في الاستدلال. واحتمال آخر وهو: أن الآية التي قرأها كسرى أو قيصر قرأها مع بعض الكلمات الأخرى التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آية واحدة، وذلك كما تقرأ المرأة الآية في كتب الفقه كاستدلال على مسألة، واحتمال أن يكون نائب كسرى أو نائب قيصر كان مسلماً ويخفي إسلامه فقرأ هذه الرسالة. إذاً: هذه احتمالات تسقط الاستدلال بهذا الحديث، وهي احتمالات قائمة. الوجه الثالث: أنه يقرأها كما تقرأ المرأة الذكر، فعندما تركب الدابة تقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14] فلا تقرأ على أنها تلاوة، والفقهاء قالوا: يقرؤها ملك كسرى وقيصر لا على أنها قرآناً تتلى. والأوجه من ذلك: أن المكلف هو المحاسب فقط، فالمنع يكون على الجنب المكلف، أما هذا فهو غير مكلف. الدليل الرابع: ما استدل به مالك وتكلم به شيخ الإسلام في الفتاوى، ألا وهو: بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ووجه الدلالة من ذلك أنه قال: يحرم على المرأة نسيان القرآن الذي حفظته، فلا بد من أن تحافظ على هذا القرآن، فلا بد من التلاوة؛ لأنها لو تركت التلاوة نسيت فوقعت في الحرام، فيصير ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرد على ذلك من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن هذا أيضاً في غير محل النزاع، فحرمة نسيان القرآن المخاطب به هو الناسي عن غفلة، أما المرأة التي تركت القراءة؛ فلأن النبي حرم عليها القراءة، وعلي حرم عليها القراءة، وعمر حرم عليها القراءة، وهذا ليس من غفلتها ونسيانها وإنما هو طاعة لله، فإن كان طاعة لله فلا يدخل في ذلك؛ لأن الحديث يختص بالتي تنسى وتفلت منها لقصدها وبغفلة منها. الوجه الثاني: أنه ليس من الممكن أن تنسى إلا بترك القراءة، فهي ممنوعة من القراءة، لكن لها طرق ووسائل أخرى يمكن ألا تنسى القرآن بها، فكما أجمع العلماء ونقل الإجماع النووي -وإن كان في الإجماع نظر- بأن المرأة الحائض لها أن تقرأ القرآن في قلبها، ولها أن تمرر الآيات في خاطرها. وعلى هذا فيجوز لها أن تكتب السورة التي حفظتها في ورق؛ لأنه لم يرد النهي عن الكتابة، والأصل عدم المنع، لكن لا تقرأ، لأنه قد ورد النهي عن القراءة، ثم بعد ذلك تأخذ الورق وتحرقه وتدفنه. وكذلك المسجل، وهو من منن الله علينا، فلها أن تأخذ شريطاً للسورة التي تحفظها وتسمعها في المسجل. فنقول: الراجح الصحيح هو: عدم قراءة الحائض للقرآن.

الإخلاص وآثاره في تمكين الأمة

الإخلاص وآثاره في تمكين الأمة الإخلاص هو لب العبادات وثمرتها، ولا يقبل الله العمل إلا به، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم هم القدوة الحسنة في كل أعمالهم وتصرفاتهم وإخلاصهم، ولقد ضربوا أروع الأمثلة في الإخلاص في شتى المجالات.

من فضائل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

من فضائل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الله امتن على هذه الأمة بمنن كثيرة ابتدأها بأن أرسل إليها خير رسله، وأكرم الخلق عليه سيد المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وأتم لهم النعمة بأن اختار لهم باقة هم أفضل البشر أجمعين بعد الأنبياء، فأفضل من صاحب نبياً هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم جيل ذكي نقي، إنه الرعيل من الصحابة الأخيار، وسادة الأمة الأبرار، الشموس المشرقة، والأقمار النيرة، والكواكب المتلألئة، وسحائب الخير الممطرة في سماء إسلامنا، هؤلاء الذين اصطفاهم الله جل في علاه لصحبة نبيه فأخلفوه في أمته فنصروا دينه ونشروا دعوتهم، وجابوا آفاق الدنيا بأسرها، وجابوا الأرض مشارقها ومغاربها، ففتح الله لهم قلوب العباد والبلاد. هؤلاء الذين أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات، هؤلاء الشموس التي أشرقت في سماء إسلامنا، هم الأخيار، هم الأبرار، وهم أسمى الناس أخلاقاً، وأصدق الناس إخلاصاً، وأخلصهم إيماناً، وأثبتهم يقيناً: أبو بكر كذا الفاروق منا ومنا خير من وطئ الترابا إن الله صور لنا فضل هؤلاء تصويراً بديعاً مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في كتابه الجليل حيث يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وقال جل في علاه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقال جل في علاه في هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

صور من إخلاص الصحابة

صور من إخلاص الصحابة ثم إن أروع ما ترى من قصص الله جل في علاه: هي فضل هؤلاء الأخيار من المؤمنين، كقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، فقوله: (من المؤمنين) أي: من الصحابة، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، وهذه الآية الكريمة نزلت في فضل صاحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فـ أنس بن النضر تخلف عن غزوة بدر؛ لأنه ظن أنها عير وليست بغزوة، فلما علم أنها غزوة قال: (تخلفت عن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن أبقاني الله لغزوة أخرى يغزوها رسول الله ليرين الله مني خيراً). إنه رجل صدق الله فصدقه الله، ولذا قال: ليرين الله مني خيراً، وقد فر في غزوة أحد كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله لهم، وعفا عنهم، فهذا سعد بن معاذ سيد الأنصار قام ينظر إلى أنس بن النضر والكل يتخلف وهو يتقدم، فيقول: (ويحك يا أنس إلى أين تذهب؟ قال: إيه يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد)، فتقدم وقاتل ببسالة وشجاعة، فهو من تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الرجل جعله يتقدم بشجاعة وبسالة، فقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه كما قال الله عنه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]. وانظروا إلى رجل يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم عن الإسلام خيراً، فيبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فيستعد للنفير، ثم يسمع المنادي فيجاهد في سبيل الله، فيقسم له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الانتصار في الغزوة قسم الغنائم، فقال: ما على هذا عاهدتك، وما على هذا بايعتك، فهم كما قال الله عنهم: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، قال: بايعتك على أن أغزو في سبيل الله، فأضرب هاهنا، أي: في عنقي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اصدق الله يصدقك). وانظروا إلى هذا الصادق الذي صدق مع ربه فصدقه الله جل في علاه، قام في الغزوة ثم بعد أن انتهت أتوا به إلى رسول الله، وقد قتل في المكان الذي أشار إليه، قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، فهؤلاء الذين أنزل الله فيهم هذا الفضل، وهذا الخير العميم، أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فلو أنكم أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يبين أن الله قد ربط الأمان لهذه الأمة بوجود هؤلاء الصحابة الأخيار، حيث يقول كما في الصحيح: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد). فقد ربط الله الإيمان والأمان بوجود هؤلاء الأخيار، وربط الله النصر بوجود هؤلاء الأخيار، ومن جاء على دربهم وسار مثل سيرهم. وأيضاً: في البخاري ومسلم وأحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من أصحاب رسول الله؟! فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من صاحب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ويغزون فئام من الناس، فيقال لهم: أفيكم من صاحب أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم)، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فهؤلاء هم القدوة، وهؤلاء هم الأسوة، وهؤلاء هم الأخيار، ولو سرنا على سيرهم، وتمثلنا بما فعلوا لمكّن الله لنا كما مكن لهم، وانظروا إلى المشاهد الربانية والقواعد الإيمانية، كيف تمثلت أروع ما تتمثل في أفعالهم، فإنهم كانوا أصدق الناس إخلاصاً. والإخلاص ركن ركين لقبول العمل عند الله جل في علاه، ومن عمل عملاً يرائي فيه غير الله فإن الله قد أحبط عمله، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].

الترغيب في الإخلاص والترهيب من ضده

الترغيب في الإخلاص والترهيب من ضده والإخلاص هو: تجريد العمل ابتغاء وجه الله، أو هو: دوام النظر للخالق دون النظر إلى المخلوق، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وقد حذر الله رسوله والصحابة الأخيار من الشرك أيما تحذير، فقال لرسوله وهو أخلص الأمة، بل هو أخلص البشر على الإطلاق: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). والإخلاص عمل عزيز قد خير الله صحابة رسوله بهذا المشهد الرباني الإيماني، وأقر الله جل في علاه وأودع في قلوب الصحابة الكرام الإخلاص في القول والعمل ظاهراً وباطناً، وقد ضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة بالإخلاص لله، وكأنهم يقولون: مكن الله لنا، وجعل لنا القيادة والريادة والسيادة بالإخلاص لوجهه الكريم.

صور من إخلاص أبي بكر رضي الله عنه

صور من إخلاص أبي بكر رضي الله عنه فهذا الصديق رضي الله عنه ينشر الله فضله وإخلاصه بين الناس من فوق سبع سماوات بقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:17 - 20]. فهنيئاً لك يا أبا بكر! أن الله ينشر فضلك وإخلاصك الباطني من فوق سبع سماوات بقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، قال علي بن أبي طالب: الذي جاء بالصدق: هو رسول الله، والذي أخلص في تصديقه هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. وانظروا إلى أروع الأمثلة التي ضربها لنا أبو بكر في إخلاصه لله تعالى، فلما مات رسول الله -بأبي هو وأمي- أرعب القوم، بل فُشِّلوا جميعاً، ثم جاء عمر بن الخطاب فأشهر سيفه وهو يقول: لو قال قائل: إن محمداً قد مات لأعلونه بالسيف، وهو يتململ تململ السليم، وهو يقول: ما مات محمد أبداً، بل ذهب إلى ربه وسيرجع ليقطع أرجل وأيدي المنافقين، فجاء أبو بكر ليعلو بكلمته ويظهر إخلاصه لله، فمنهجه: لا نرتبط بأحد أبداً حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرتبط بأحد أبداً إلا بالله جل في علاه، فقلوبنا متوجهة توجهاً واحداً إلى الله، فالممدوح بحق من مدحه الله، والمذموم بحق من ذمه الله، والثواب عند الله، والعقاب عند الله. ويدخل أبو بكر على رسول الله وهو مسجى ثم يقبل بين عينيه ويقول: طبت حياً وميتاً بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ثم يخرج على عمر فيقول: اسكت، ولا يسكت عمر، فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حيٌّ لا يموت. وهذا أروع ما يكون من الإخلاص فإنه يتمثل في فعل أبي بكر.

صور من إخلاص عمر رضي الله عنه

صور من إخلاص عمر رضي الله عنه وقد أظهره الخليفة الثاني أمير المؤمنين معلناً إخلاصه لله جل في علاه، لا ينظر إلى أحد أبداً، فهذا عمر بن الخطاب يقف في سقيفة بني ساعدة أمام المهاجرين والأنصار فيستمع إلى الأنصار وهم يقولون: منا أمير ومنكم أمير، فيأتي عمر ويقول: قد حبرت قولاً أقوله بين يدي أبي بكر، فجاء أبو بكر فسكت عمر، ثم تكلم هو بكل ما أراد عمر فقال: منا الأمير، ومنكم الوزير، وأختار لكم أحد الرجلين، يعني: أبا عبيدة بن الجراح، وعمر بن الخطاب فأخلص عمر على ذاته ونفسه فما أراد أن يترأس ولا أراد أن يتقدم القوم، فإن الذي اختاره هو أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أختار لكم أحد الرجلين: أبا عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب، فيقول أبو عبيدة: ابسط يدك يا عمر! فاختار عمر وفي القوم أبو بكر، فيظهر عمر إخلاصه الصريح في قلبه لله، فيقول: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! أتقدم على قوم فيهم أبو بكر، أتقدم على أبي بكر؟ والله! لئن أتقدم فيضرب عنقي ولا أتقدم على أبي بكر!! فتحدث بإخلاصه، وعلم الله سريرته النقية، فأظهرها فنضحت على لسانه ووجهه، فقال: يا معشر المهاجرين! ويا معشر الأنصار! أما علمتم أن رسول الله ارتضى أبا بكر لدينكم، أما ترتضون أن يكون أبو بكر لدنياكم؟ قالوا: رضينا رضينا، ثم قام فقال: يا أبا بكر! ابسط يدك، فبايع أبا بكر وتتابع الناس على بيعة أبي بكر، فانظروا إلى الإخلاص؛ فقد كاد عمر يتقدم سيد الناس أجمعين بعد رسول الله، لكن الإخلاص حجمه وأحجمه وقال: لا، والله لا أتقدم على أبي بكر، وهذا إخلاص عاشوه واقعاً، ولو أردنا ما أرادوه فلا بد أن نفعل ما فعلوه، ولابد أن نسير على دربهم ونفعل مثل فعالهم.

صور من إخلاص علي بن أبي طالب رضي الله عنه

صور من إخلاص علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا علي بن أبي طالب الذي باع نفسه صدقاً وإخلاصاً لله جل في علاه، فلما كان طفلاً صغيراً نام على سرير رسول الله، وما حمله على هذا سيادة أو وجاهة أو رياء أو سمعة أو مادة مال أو نساء أو أطفال، فهو طفل صغير ويعلم أن الموت حتماً سيأتيه، فينام على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إخلاصاً لله جل في علاه، وإخلاصاً لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كافأه الله جل في علاه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فنمى الله الإخلاص في قلبه فنصر الله به الدين، فكان أسداً من أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رمت العرب رسول الله عن قوس واحدة وتخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء عمرو بن ود وكان صنديداً من صناديد قريش وفوارسهم فقال: يا أيها المسلمون! أما زعمتم أن لكم جنة؟ أما تريدون لقاء ربكم؟ أما يشتاق أحدكم إلى الجنة؟ هل من مبارز؟ فأرعب القوم وما قام أحد إلا علي يعلنها صراحة إخلاصاً لله: لو ضربت السالفة فهي في الله، ولو قتلته فهو في الله، ثم قام علي فقيل له: امكث يا علي! فإنه عمرو بن ود، فقال: وأنا علي بن أبي طالب، ثم نزل المعركة والمبارزة بينه وبين عمرو بن ود، وكان هذا من الإخلاص، لا من الشجاعة ولا البسالة، بل هي لوجه الله، فقال: إني أدعوك إلى ثلاث خصال، قال: هاتها، قال: أن تدخل الإسلام ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا، قال: ائتني بغيرها لا حاجة لي بهذه، قال: أن ترجع سالماً، قال: ولا حاجة لي بهذه، قال: إذاً: فإني أشتهي قتلك في سبيل الله؟ فعقر ناقته وأقبل على علي فضربه علي وأصبح كأمس الذاهب، ثم أنشد يقول: عبد الحجارة من سفاهة رأيه وعبدت رب محمد بصواب لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب إن الإخلاص الذي بثه الله في قلوب الصحابة هو الذي مكن لهم، وهو الذي أعلى شأنهم، وهو الذي أعلى ذكرهم، اللهم ألهمنا الإخلاص يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من المخلصين لك، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية معرفة فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أهمية معرفة فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، الذي أجرى السحاب في السماء، فأنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها. ثم أما بعد: يقول ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أصفاها وأنقاها وخيرها قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطفاه الله لرسالته، ونظر بعد ذلك في قلوب العباد فوجد أصفاها وأنقاها وخيرها وأفضلها قلوب أصحابه رضوان الله عليهم فاختارهم وزراء لنبيه)؛ نصرة لدينه ونشراً لدعوته، وهؤلاء هم الأفاضل الأكارم الأماجد، وهم القدوة، وهم السلف، وهم الأسوة. وابن المبارك كان يقول: إن من السنة تعليم حب أبي بكر وعمر، وسئل ابن المبارك أيضاً: من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر. وعن مالك إمام دار الهجرة أنه قال: كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر. وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (حب صحابة رسول الله من السنة). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)، وما زلنا مع المشاهد الإيمانية والقواعد الربانية ومع هؤلاء القادة السادة، وهؤلاء الأخيار الأماجد الأكارم، مع هؤلاء الأبرار، فهناك مشاهد ربانية إيمانية أودعها الله في قلوب هؤلاء الأخيار، فالإخلاص سر بين الرب وبين العبد لا يعلمه إلا الله جل في علاه، والله يغار، وغيرة الله أن يجعل العبد الشيء في غير موضعه، فمن حكمة الله: أن أودع في قلوب الأخيار الإخلاص له.

صور من إخلاص خالد بن الوليد رضي الله عنه

صور من إخلاص خالد بن الوليد رضي الله عنه وهذا خالد بن الوليد وما أدارك ما خالد؟ قال له ملك الأعاجم: من أنت؟ أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟ هو خالد الذي أخبت لربه وأظهر الله إخلاصه وسريرته النقية، فقد جعل الله عز وجل النصر للمسلمين والعز لأهل الإسلام كلهم، وذلك بيد هذا الرجل سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وهناك أروع الأمثال التي ضربها لنا إخلاصاً لله، فـ خالد بن الوليد كان أمير الجيوش في معركة زلزلت الروم: معركة اليرموك، فقد كان هو أمير الجيوش بأسرها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يكلم أبا بكر كثيراً أن يعزل خالداً بن الوليد، فلما مات أبو بكر وهم في معمعة المعركة بعث عمر بن الخطاب لـ خالد بن الوليد، فلما تلقى خالد الكتاب نزل على رأي عمر، حتى إنه قال: إنه يرى ما يرى، فهو يرى الأصلح، ثم بعد ذلك خلع إشارة الإمارة وأصبح جندياً في سبيل الله يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رُب فارس آخذ بعنان فرسه، إن كان في المقدمة كان في المقدمة، وإن كان في المؤخرة كان في المؤخرة، وإن كان في الساقة كان في الساقة)، أي: إن كان أميراً كان أميراً لله، وإن كان جندياً كان جندياً لله، ما دام العمل لله جل في علاه. وانظروا للمكافئة من الرب الجليل، فـ خالد بن الوليد بعد أن أصبح جندياً تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح في غزوة قنسرين أبلى بلاءً حسناً، فأمره أبو عبيدة عليها، فبعث لـ عمر وقال: أمرت خالداً، فبكى عمر وقال: والله! إن خالداً يؤمر نفسه، رحم الله أبا بكر كان أعرف بالرجال مني.

صور من إخلاص أبي عبيدة رضي الله عنه

صور من إخلاص أبي عبيدة رضي الله عنه وأروع من ذلك إخلاصاً أبو عبيدة؛ لأنه لما جاء الكتاب كانوا في معمعة المعركة والراية قد رفعت والأمير هو خالد، وجاء الكتاب إلى أبي عبيدة بن الجراح يقول: أنت الأمير، وخالد ينزل من الإمارة، فأخفى الكتاب حتى كتب الله النصر لهذه الأمة؛ ولقوة الإخلاص لم يقل: أنا الأمير، ولا بد أن أزيحه من مكانه، وأكون أنا المترئس، أكون أنا الأمير، فالعمل كان لله، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فهؤلاء هم القدوة، وهؤلاء هم الأسوة، فتأسوا بهؤلاء ترتفعوا كما ارتفعوا.

صور من إخلاص طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

صور من إخلاص طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وانظروا إلى طلحة الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إخلاصاً للرب الجليل، ففي غزوة أحد لما انفض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشرة من الأنصار ومعهم طلحة الخير ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء القوم فقال رسول الله: (من يرد القوم وهو معي في الجنة! فقام طلحة فقال: امكث، فقام أنصاري فقاتل حتى قتل، ثم قام الثاني فقاتل حتى قتل، ثم الثالث ثم الرابع إلى العاشر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنْصَفَنا إخواننا)، وفي رواية: (ما أنصفنا إخواننا) أي: أقحمناهم فما استطاعوا أن يردوا عنا القوم، فقام طلحة فقاتل بقتال العشرة ورد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا الإخلاص يتجلى لنا في أروع صورة في طلحة، فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشرف القوم برأسه فقال: لا يا رسول الله! نحري دون نحرك يا رسول الله! لا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ثم دق سيفه فأخذ ينافح عن رسول الله بأصابعه حتى قطعت، فألقي على الأرض، فجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله: (دونكم صاحبكم فقد أوجب)، يعني: فقد أوجب الجنة بإخلاصه في عمله لله، وإخلاصه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفعله الإخلاص بأصحاب رسول الله، وهذه هي ثمرة الإخلاص، ولقد مكن الله للقوم بإخلاصهم له جل في علاه.

صور من إخلاص سعد بن معاذ والمقداد رضي الله عنهما

صور من إخلاص سعد بن معاذ والمقداد رضي الله عنهما وهذا الإخلاص هو الذي جر سعد بن معاذ عندما كان يستنفرهم رسول الله، ويقول: (أشيروا علي أيها القوم! فقال سعد: كأنك تلمح بنا، قال: نعم، فقال: يا رسول الله! خذ منا ما شئت فما أخذت أحب مما تركت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، فلو خضت بنا طريق البحر لخضناه معك). وقام المقداد إخلاصاً لربه جل في علاه، فقال: (يا رسول الله! والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). فهؤلاء هم الأخيار، وهم الأبرار، ومن أراد أن يتأسى فليتأسى بمن مات، ومن أراد القدوة والأسوة، فهؤلاء هم القدوة، ومن أراد العزة والتمكين، وأراد الرفعة، ومن أراد الدنيا والآخرة فهي عند رسول الله، وعند أصحاب رسول الله، فافعل مثل ما فعلوا، وسر على دربهم تصل، وإذا صنعت ما صنعوا، وأخلصت كما أخلصوا كافأك الله كما كافأهم. اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

الطريق إلى الجنات

الطريق إلى الجنات لقد جعل الله عز وجل لعباده مواسم للخيرات، يتعرضون فيها لزيادة الدرجات، والفوز بالرضوان، والنجاة من النيران، ومن هذه المواسم شهر رمضان المبارك الذي تتضاعف فيه الحسنات، وتفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد فيه مردة الجان، فحري بكل عاقل أن يغتنمه ويستغله في طاعة ربه ومولاه.

من فضائل شهر رمضان المبارك

من فضائل شهر رمضان المبارك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أبشروا يا أهل الإسلام! بشهر رمضان الكريم الفضيل الذي تتنزل فيه الرحمات، وتكثر فيه البركات، وتغفر فيه السيئات، وتكفر فيه الزلات، ويكون فيه العتق من النيران، والفوز بالجنان، ورضا الرحمن، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين). وفي مسند أحمد والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي المنادي كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة).

صفة الجنة

صفة الجنة تأمل يا أخي الكريم وقف وفكر، فإن الجنة قد تزينت لك، وفتحت أبوابها الثمانية لاستقبالك أنت، فإن الجنة التي خلقها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، نعيمها هو الفوز العظيم، وملكها هو الملك الكبير، وأرضها وتربتها المسك والزعفران، وسقفها عرش الرحمن، وهي محفوفة بالغلمان والولدان، ومزينة بالحور العين من الخيرات الحسان، كما قال عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:73 - 74]، وقال سبحانه: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17 - 18] {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46]، وقال عن أنهار الجنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، فالجنة تنادي عليك في هذا الشهر الكريم، وقد تزينت لك، وأكلها دائم وظلها، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

الحث على اغتنام شهر رمضان

الحث على اغتنام شهر رمضان وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، ففي هذا الشهر الفضيل الكريم تكون الجنة أقرب إليك من شراك نعلك، فاغتنم هذه الفرصة، وسارع إليها وانتهزها، ولا تنم عنها ولا تغفل، فتخسر وتندم حين لا ينفع الندم؛ فإن هذا الشهر هو شهر السرعة إلى الله جل وعلا، وهو شهر الفوز بالجنان، والنظر إلى وجه الكريم المنان، وقد ورد في بعض الآثار: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها). فشمر أخي الكريم عن ساعد الجد والاجتهاد، وأتبع الحسنة بالحسنات، والطاعة بالطاعات، وأكثر من الخير والصدقات، فإنها الجنة تشرئب إليها الأعناق: فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم وحي على السوق الذي فيه يلتقي المحبون ذاك السوق للقوم يعلم فما شئت خذ منه بلا ثمن له فقد أسلف التجار فيه وأسلموا وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسم فيا باغي الجنات! هذا هو شهر الإقبال، ويا باغي الفردوس! أسرع، فإن سقفها عرش الرحمن، وهرول بالطاعات لعلك ترافق النبي العدنان، وفيها النظر إلى وجه الكريم المنان، وإن أردت أن تكون من أصحاب الجنة فاعلم أن الله وصف أصحاب الجنة بصفات، فتأمل وتفكر وتدبر في نفسك واعرض نفسك على هذه الصفات، فإن تحليت بها فأنت أنت، وإن لم تتحل بها فسارع إلى الرجوع إلى الله، وإلى التوبة والحوبة، وتحل بهذه الصفات حتى تبشر بالجنة وأنت تمشي على الأرض.

صفات أهل الجنة

صفات أهل الجنة اعلم أخي المسلم! أن لأهل الجنات صفات لا بد أن تتصف بها، فهلم حتى نتعرف على الصفات التي إذا اتصف بها صاحبها كان من أهل الجنات، وإلا فعليك أن تسعى سعياً حثيثاً لتتصف بها فتكون من أهلها. فصفات أهل الجنة أربع، وهي تكمن في آيات بينات تتلى على مسامعنا ليل نهار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُذكر بها في خطبه، وقد حفظتها المرأة من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا كاشفاً لنا كشفاً جلياً عن صفات أهل الجنان: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33]. هذه هي الصفات التي وصف الله بها أهل الجنان الذين يرافقون النبي صلى الله عليه وسلم فيها. وكأن الله جل في علاه أجمل ثم فصل لتتشوق القلوب، وتشرئب الأعناق إلى هذه الصفات، فقد أجمل هذه الصفات في كلمة واحدة، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [ق:31]، فأجمل ثم فصل أعلى سمات وصفات هؤلاء المتقين. فلننزع الستار عن هؤلاء المتقين، ثم لنعرض أنفسنا على صفاتهم، فإن كنا على صفاتهم فنحن الذين وصفنا الله جل وعلا، ويسر لنا طريق الهدى، وإلا فعلينا بالرجوع، فقد آن الأوان إلى الرجوع، حتى لا نندم في وقت لا ينفع فيه الندم. فهؤلاء المتقون الذين يعملون بطاعة الله جل وعلا على نور من الله، فهم يتعبدون بعلم دون جهل، ويسارعون بعد تعلم العلم بالتعبد لله جل وعلا على علم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: على علم، فهم يعملون بطاعة الله، على نور من الله، يرجون ثواب الله، ويكفون عما حرم الله، على نور من الله، يخافون عقاب الله، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من هؤلاء المتقين، الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من الطاعات والقربات والحسنات. والتقوى منزلة يتوصل إليها العبد بالمحافظة على وظائف العبودية والمواظبة عليها، كما في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). أخي الكريم! هذه هي صفات المتقين، فإن أكرمك الله جل وعلا بالذكر والاستغفار وتلاوة القرآن في هذا الشهر الكريم فحافظ على هذه التلاوة، فإن كنت تقرأ جزءاً فاقرأ ربعاً، وإن كنت تقرأ ربعاً فاقرأ آية، ولكن داوم على هذه الطاعة، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وهذه هي صفات المتقين، فهم يواظبون على طاعة الله جل وعلا، ويسارعون إلى مغفرة الله جل وعلا، ولا يتقاعسون عن عبادة الله جل وعلا، قال الله جل في علاه مبيناً لنا مواظبة هؤلاء المتقين على العبادات، وكيف أنهم بالمواظبة نالوا درجة التقوى، قال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: على الديمومة، وقال جل في علاه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، أي: بالمواظبة على هذه العبادات يرتقي المرء إلى درجة التقوى، وقال جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فسارعوا في الخيرات، وواظبوا على الطاعات، كي تنالوا درجة المتقين.

التقوى ميزان تفاضل الخلق عند الله جل وعلا

التقوى ميزان تفاضل الخلق عند الله جل وعلا اعلم أخي الكريم! أن التقوى هي ميزان تفاضل الخلق عند الله جل وعلا، فليس ثمة نسب بين الله وبين عباده، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبقدر ما يحافظ العبد على طاعة الله جل وعلا، وعلى وظائف العبودية تكون منزلته عند الله جل وعلا، فهذا هو الإجمال لمواصفات أهل الجنان.

الأوبة والرجوع إلى الله من صفات أهل الجنة

الأوبة والرجوع إلى الله من صفات أهل الجنة أما التفصيل الذي تشوقت له القلوب، واشرأبت لها الأعناق لكي تصل إلى الجنان، وترافق النبي العدنان، وتنظر إلى وجه الكريم المنان، فأول هذه الصفات ذكرها الله جل وعلا بقوله: {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32]، فالأوبة صفة للمتقي، والأواب كثير الرجوع إلى ربه جل وعلا، ويقبل عليه ولا يدبر، فكلما اقترف إثماً من الآثام أو اجترأ على محارم الله جل وعلا سارع إلى الأوبة والتوبة، وسارع إلى الرجوع إلى ربه جل وعلا، ويتذكر عند رجوعه قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، فأحدهم يتذكره خالياً فيتذكر ذنوبه، فتفيض عيناه بكاءً وخشية من الله جل وعلا، قال تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهو يئوب إلى ربه، ويهرب من عدوه، ويعلم أن نجاته برجوعه إلى مليكه ومولاه، فالرجوع الأول هو رجوع من السيئات إلى الحسنات، ومن المعصية إلى التوبة، وأما الرجوع الثاني فهو من الغفلة عن الذكر إلى كثرة الذكر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك). وكان يبين أنه يغان على قلبه؛ لأنه لم يذكر الله، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكف قلبه عن ذكر الله جل وعلا، بل كان تنام عيناه ولا ينام قلبه، ومع هذا فهو الذي يقول: (غفرانك). فلابد لنا إذا غفلنا عن ذكر الله جل وعلا أن نرجع إلى كثرة الذكر والقرآن وتلاوة كلام الله جل وعلا، فإن الأواب إذا غفل يرجع إلى ذكر الله جل وعلا، وإن تقاعس عن طاعته فسرعان ما يرجع ويسرع إلى ربه. لسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فيا فوز من كانت هذه صفته. وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مبيناً لنا هذا الرجاع الأواب: (أذنب رجل ذنباً فقال: رب أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم رجع إلى المعصية)، فكل إنسان خطاء، قال عليه الصلاة والسلام: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فرجع إلى نفس الذنب مرة ثانية، ولكنه يعلم أنه إذا رجع سيجد رباً رحيماً رءوفاً غفوراً، فقال: رب قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، قد غفرت له، ثم رجع). وهذه طبيعة وجبلة، فرجع للذنب، ثم رجع إلى التوبة، فهو يعلم أنه إذا رجع استقبله الله، بل هرول إليه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة)، فإن الله يفرح بتوبة عبده. (فرجع فقال: رب قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، افعل ما شئت، ثم ارجع وتب فقد غفرت لك)، أي: افعل ما شئت، ثم استغفر، فستجدني غفوراً رحيماً. وكذلك يرجع من الوحشة، فالإنسان إذا أظلم قلبه بالسيئات وبالمعاصي وبالتجرؤ على محارم الله جل وعلا فإنه يشعر بالوحشة، وضيق الصدر، فيرجع من هذه الوحشة إلى الأنس بالله جل وعلا، وإلى الأنس بكلام الله، وإلى الأنس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عرفه الأولون فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله، فالأنس والمودة بالله يشعر بهما الإنسان المؤمن التقي الرجاع لربه، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تختبر حبك لله فاعرض نفسك على كلام الرحمن جل وعلا. والأواب الرجاع يزداد محبة فوق محبة، وخضوعاً فوق خضوع، وإقبالاً على الله جل وعلا، وتراه قانتاً لله حنيفاً، شاكراً لأنعمه، ولسان حاله يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فأسأل ربي جل في علاه أن يجعلنا جميعاً ممن يتصفون بهذه الصفة، ويا خسارة وبوار من لم يتصف بهذه الصفة! ويا خسارة وبوار الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الأوابين التوابين الراجعين إليه جل في علاه.

حفظ الأوامر والنواهي الشرعية من صفات أهل الجنة

حفظ الأوامر والنواهي الشرعية من صفات أهل الجنة الصفة الثانية من صفات أهل الجنان بينها الله جل وعلا بقوله: (حفيظ) أي: غير مضيع، فهو يحفظ الله جل وعلا، ويحفظ رسوله، ويحفظ فرائضه، ويحفظ سنته، ويحفظ الحقوق التي عليه والتي له، قال ابن عباس رضي الله عنها: حفيظ على فرائض الله جل وعلا فلا يضيعها، فهو يؤدي الصلاة في وقتها؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع). في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة على وقتها). فبادر أخي! وكن حفيظاً على فرائض الله جل وعلا، وأتبع ذلك بصيام شهر رمضان عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وأيضًا إذا بلغ مالك النصاب وحال عليه الحول فسارع إلى تزكيته؛ لأن من صفات من يكون من أهل الجنة: أنه حفيظ، فيحفظ فرائض الله جل وعلا، فيخرج الزكاة من ماله الذي بلغ النصاب وحال عليه الحول، ويكون مقبلاً بذلك على ربه متهللاً مستبشراً بثواب الله جل وعلا. وإذا جاء موسم الحج حج بيت الله الحرام إن كان مستطيعاً؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج ولم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه). وفي الصحيحين بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحفيظ إذا حافظ على الفرائض ولم يتبعها بالنوافل فهو من أهل الإيمان، وهذه الصفة هي صفة أهل الجنان، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! أخبرني عن شرائع الإسلام؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات الخمس، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، ثم ذكر له الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، ثم ذكر له صوم رمضان، ثم ذكر له الحج، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص -يعني: سأكون محافظاً على هذه الفرائض فقط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق). وفي رواية أخرى في الصحيحين: (دخل الجنة إن صدق). إذاً: فصفات أهل الجنان: المحافظة على الفرائض، فكيف بمن حافظ على الفرائض واتبع الفرائض بالنوافل؟ فلا شك أنه بلغ درجة المحبوبية عند ربه جل وعلا. وهو أيضاً حفيظ على جوارحه، فهو يعلم أن جسده عارية عنده لا يملك منه شيئاً، فهو حفيظ على جوارحه، فلا يهجم بها على الحرام، فإنه يحفظ البطن وما حوى، فلا يأكل حراماً، ولا يتجرأ على الربا فيأكله مستحلاً له، ولا يأكل أموال اليتامى ظلماً، ولا يتجرأ على أموال الناس غصباً وعدواناً، ولا يأكل السحت وكأنه لا يخشى مولاه، ولا يشرب حراماً؛ بل إنه قد حافظ على جوارحه من الحرام، وعلم أنه لو أكل حراماً ثم رفع يديه ولو في رمضان ولو في السحر ولو بعد القيام الطويل وبعد الصيام الطويل فإنه يرد خائباً، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. ويحفظ جوارحه فلا يشرب الحرام، فلا يتجرأ على شرب الخمر؛ لأنه يعلم أن فاعل ذلك ملعون، فقد لعن في الخمر عشرة، ولا ينجس جسده بالمخدرات وغيرها من المهلكات، بل هو حفيظ على جوارحه. وهو أيضاً حفيظ على رأسه وما وعى، فيحفظ بصره من النظر المحرم، فلا يشاهد المسلسلات الخليعة، ولا النساء المتبرجات العاريات، وإنما يحفظ بصره من النظر المحرم، ويحفظ أذنه من السماع للمحرم: من الأغاني، ومن الفحش، ومن الغيبة، ومن النميمة. ويحفظ فرجه من الزنا، بل إنه يخشى على عينيه من الزنا، ويخشى على أذنه من الزنا، ويخشى على يده من الزنا، وعلى فرجه من الزنا؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها النظر، والفم يزني وزناه القبل، واليد تزني وزناها البطش، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين.

خشية الرحمن بالغيب من صفات أهل الجنة

خشية الرحمن بالغيب من صفات أهل الجنة أما الصفة الثالثة من صفات من يكون من أهل الجنة: أنه يخشى ربه بالغيب، كما قال عز وجل: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33]، ولسان حاله يقول: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وهذه هي: عبادة الإحسان، فإنه يعبد ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فقلبه حاضر كأنه يرى عرش الرحمن، فهو يشهد العرش والملائكة تطوف حول العرش، والله فوق العرش يدبر أمر خلقه؛ فكل يوم هو في شأن، فيرفع أقواماً ويخفض آخرين، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، يعلم سبحانه وتعالى وهو فوق عرشه ما عليه الخلق. فيعلم هذا الحفيظ الذي خشي الرحمن بالغيب قدرة الله جل وعلا، وسمع الله، وبصر الله، وأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً وسمعاً وبصراً وقدرة، فإذا تجرأ على المحارم، فنظر إلى محرم قال: بصر الله أسرع، وإذا قدح في أخ له في غيبته، قال: الله أسمع، وإذا هم بالمعصية، قال: الله أعلم بدقائق القلوب وأسرارها. فهو يعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً وسمعاً وبصراً وقدرة، فلا تواري عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره. ولذا فهو يعبد الله بالخشية وبالإحسان، فهو يعبد الله كأنه يراه، فيعلم أنه إذا لم يكن هو يرى الله جل وعلا فإن الله يراه، فلا تخفى عليه خافية، فلذلك يصلح سريرته، وينقي قلبه، فلا دغل ولا حسد ولا حقد ولا ضغينة، فهو يصلح سريرته كما يصلح علانيته، فباطنه كظاهره، وإذا خلى يوماً من الدهر فلا يقول: قد خلوت، ولكن يقول: علي رقيب. وقد كان بعض العلماء يقرب إليه طالباً من دون كل الطلبة فعابوا عليه ذلك، فقالوا له: أنت تصطفي هذا الطالب من هؤلاء الطلبة، وهم يسارعون في الخيرات؟ قال: أنبئكم بما عليه هذا الطالب من خشية الرحمن بالغيب، ومن عبادة الله بالإحسان، ثم قال له: إني سوف أختبر هؤلاء الطلبة، فأتى بطير، وأعطي كل واحد طيراً وقال له: اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد، فذهب كل طالب من هؤلاء الطلبة يذبح طيره، هذا في خربه، وهذا في بيته، وهذا في جنح الليل، ثم جاء كل واحد بطيره مذبوحاً، وجاء هذا الطالب بطيره لم يذبحه، فقال العالم: لِمَ لَمْ تذبح طيرك؟ فكل واحد قد ذبح طيره، فقال الطالب: أنى لي بمكان لا يراني الله فيه؟ فقال العالم: من أجل ذلك قربته؛ فقد خشي الرحمن بالغيب. وعبادة الخشية بالغيب لا تكون إلا لمن تعمق في العلم بالله، وفي العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته وربوبيته وإلهيته سبحانه وتعالى، وأنار الله بصيرته بالعقيدة والفهم السديد، وأما صاحب الهمة الدون الذي لا يسارع في تعلم فرائض الله جل وعلا، ولا في العلم بالله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى فأنى له أن يكون من رءوس الناس؟! وكيف يخشى الله أو يبلغ درجة الخشية؟! لقد بين الله أن الخشية لا ينالها إلا من سارع في تعلم أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: العلماء الذين علموا بالله وبقدرته وبربوبيته وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والعجب كل العجب! من أهل العلم الذين لا يخشون الله سراً ولا علانية، ومن الجاهلين من أهل العلم الذين هم في عداوة وحسد فيما بينهم، وقد قال أحمد بن حنبل عندما شكي إليه وقيل له: إن يحيى بن معين يقول في الشافعي كذا وكذا، فقال: يحيى لا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئاً عاداه. فعليك أخي المسلم أن تسارع إلى العلم بأسماء الله جل وعلا، وأن تسارع إلى حلق العلم وحلق الذكر، فهي من رياض الجنة، فارتعوا في رياض الجنة حتى تصلوا إلى خشية الله جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فمن رام مرافقة الأنبياء فعليه بخشية الله، ومن رام خشية الله فعليه بالعلم. ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً فالناس موتى وأهل العلم أحياء أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ فإنه هو الغفور الرحيم.

القلب المنيب من صفات أهل الجنة

القلب المنيب من صفات أهل الجنة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الحمد الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: أما بعد: فيا أمة محمد! أنتم الذين بشركم الله بالجنان، وبشركم بمرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأنتم في هذا الشهر الكريم الفضيل الذي أغلق الله فيه أبواب النار، وفتح فيه أبواب الجنة، فسارعوا إلى ربكم واتصفوا بهذا الصفات حتى تكونوا من أهل الإيمان. الصفة الرابعة من صفات من يكون من أهل الجنة أنه صاحب قلب منيب، قال عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33]. وصاحب القلب المنيب الرحيم هو الذي يبكي إذا سمع كلام الله جل وعلا، وهو الذي يتذكر إذا ذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: من التوكل، أو من الرقة والرحمة، والحديث أخرجه مسلم. فصاحب القلب السليم يعلم أن الله جل وعلا جعل له كرامته، والقلب هو محل الكرامة، وبه تتم السعادة، وبه يفرق بين البر والفاجر، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله). وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم). وقال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، وقال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]. فصاحب القلب المنيب قلبه من النقاء بمكان، فلا يحسد، وليس في قلبه دغل ولا ضغينة، وقلبه من النقاء بمكان، وقد عكف قلبه على طاعة الرحمن، وعلى محبته والإقبال عليه والإخبات له، وقد تخللت طاعة الله ومحبته مسالك روحه، وما ترك في قلبه لأحد شيئاً، كما غار الرحمن على قلب خليله إبراهيم عندما ولد له الولد فأخذ حظاً من قلبه، فابتلاه الله جل وعلا بذبح ابنه؛ ليختبر صدق حبه لله، فلما قال: سمعت وأطعت، ارتفع عند ربه وارتقى. فصاحب القلب المنيب ما ترك في قلبه لأحد شيئاً، فلا يحب إلا ما أحبه الله، ولا يبغض إلا ما أبغضه الله، ولا يقرب إلا ما قربه الله، ولا يبعد إلا من أبعده الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يأخذ إلا لله، ولا يمنع إلا له، وهو يوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا هو صاحب القلب المنيب. وصاحب هذا القلب يمشي على الأرض بين الناس وهو مغفور له، ومبشر بالجنات، كما في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة وهو يمشي على الأرض، فاندهش عبد الله بن عمرو بن العاص؛ كيف يكون رجل يمشي على الأرض ويبشر بالجنة! فـ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يسارع في الخيرات ذهب إليه، وقال له: يا هذا! كان بيني وبين أبي شيء وأريد أن أبيت عندك -أي: حتى ينظر في طاعته- فلما أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قال: الآن يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ لأنه رجل بشر بالجنة، فما وجد ذلك، فقال في النهار: يصوم النهار، فظمأ النهار جُنة من النار، فنظر إليه فوجده يأكل طعامه، فقال: يا هذا! والله! ما كان بيني وبين أبي من شيء، ولكني سمعت رسول الله يبشر أنك من أهل الجنة، فنظرت في أعمالك فما وجدت صياماً ولا قياماً! فقال: هذا ما رأيت، أو قال: والله! ما عندي من كثير صلاة ولا صيام، ولكني أبيت وليس في قلبي على أحد شيء)، فلا يحمل ضغينة ولا حسد، هذا هو صاحب القلب المنيب الذي بين الله أن صاحب هذه الصفة من أهل الجنان. إن صاحب القلب المنيب الذي يبشر بالجنة خلقه الله للسيادة والريادة في الدنيا قبل الفوز في الآخرة، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تقدم على الناس أجمعين بما وقر في قلبه، وبقلبه السليم النقي، قال عبد الرحمن بن عوف: ما سبق أبو بكر القوم بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في قلبه، فقد جاء بقلب منيب. ولا ينجو أحد يوم القيامة يوم يتزلزل الناس إلا صاحب القلب السليم. فإذا اتصف العبد بهذه الصفات فإنه يستحق بذلك الجنان بفضل الله عليه ورحمته، فيستحق دخول الجنة بسلام، ويحل عليه الرضوان، وينظر إلى وجه الرحمن، ويرافق النبي العدنان، قال جل وعلا بعدما أجمل وفصل وبين لنا صفات أهل الجنان: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34]. نسأل الله جل وعلا أن يخلدنا في الجنان، وأن يجعلنا مع النبي العدنان، ونسأل الله جل وعلا أن يحلينا بصفات أهل الجنان. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان. اللهم اجعل هذا الشهر الكريم شاهداً لنا لا علينا، وفرج فيه الكروب، واستر فيه العيوب، إنك أنت علام الغيوب. اللهم أدخلنا الجنان بسلام. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، واجعل الخير على أيديهم، واجعلهم خيراً على رعاياهم يا رب العالمين!

إنزال الناس منازلهم

إنزال الناس منازلهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزل الناس منازلهم، وقد أمر صحابته الكرام بذلك فكانوا الأسوة الحسنة في إنزال كل واحد منزلته التي يستحقها، سواء كانت في السبق بالإسلام، أو في القرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك من الفضائل.

الإسلام يدعو إلى إنزال الناس منازلهم

الإسلام يدعو إلى إنزال الناس منازلهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فالله نسأل أن يجمع بيننا جميعاً في خير وعلى خير، وأن يديم علينا مجالس العلم، وأن يجعلنا ممن يسارع في طلب العلم ويحثون عليه؛ لأن أرقى الناس وأرفعهم عند الله جل وعلا هم طلبة العلم, فطلبة العلم هم الواسطة بين الخالق وبين المخلوق, وكما قال ابن عيينة: أرفع الناس منزلة: الواسطة بين الخالق وبين المخلوق. وينبغي أن يحث بعضنا بعضاً على طلب العلم في مجالس العلم, وعلى المسارعة إلى رفعة هذه الأمة, فإن صلاح هذه الأمة في هذه الحقبة من الزمن لن يكون إلا بما صلحت به مع الرعيل الأول, الزكي النقي، الذي مكن له في مدة وجيزة من الزمن. إن الإنسان إذا نظر في الواقع الأليم الذي تمر به الأمم والشعوب منذ سنوات طويلة وقرون عدة يعتصر قلبه ألماً, ويتحسر مما يرى أو مما يعلم بما وقع لهذه الشعوب. والمتأمل فيما وقع لهذه الشعوب أو في الأسباب التي أوقعت هذه الشعوب في الهلاك والفناء والقتل والتشريد سيجد سبباً يلوح في الأفق، هذا السبب هو أنهم لم ينزلوا الناس منازلهم, ولم يعرفوا للرسول صلى الله عليه وسلم قدراً، ولم يعظموا له مقاماً, فخابوا وخسروا لأنهم لم يعرفوا لكل رسول قدره وعظم منزلته، ابتدءً بأمة نوح عليه السلام وانتهاءً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقد كان قوم نوح كلما مروا على نوح سخروا منه, والله جل وعلا يبين لنا أن هذا هو دأب الجهلة السفهاء البله, فيقول جل وعلا: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:11] أي: يسخرون من هذا الرسول، فهذا النبي جاء إلى قوم جهلاء، فأوقع الله عليهم الهلاك وصب عليهم العذاب صباً؛ لأنهم لم ينزلوا الناس منازلهم. وما أهلك قريشاً إلا سخريتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, فلما سخروا منه وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أذاقهم الله وسامهم سوء العذاب, حتى دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. فإنزال الناس منازلهم ومعرفة الأسباب التي جعلت هذه الأمة تمكن في مدة وجيزة من الزمن هو الذي يجعلنا نسير على الدرب لعلنا نصل. هذه الأمة تمكنت؛ لأنها أولاً: نظرت إلى صفات الله جل وعلا وإلى أفعاله سبحانه، فطبقتها خلقاً واقعاً على هذه الأرض. ونظرت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الهدي النبوي فسارت على نهج النبي صلى الله عليه وسلم. فالله جل وعلا بين لنا أن من أوج الأسباب التي ترتفع بها الأمم أن يعرفوا قدر أنفسهم، وقدر أئمتهم, وينزلوا الناس منازلهم, فالله جل وعلا يقول: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] فيبين الله جل وعلا أن هناك تفاوتاً عظيماً بين الناس, وأن كل صاحب فضل لا بد أن يؤتى فضله, وكل صاحب قدر لا بد أن يؤتى هذا القدر. والله جل وعلا من أجل ذلك فاوت بين درجات العباد في الجنة, فمنهم من في الفردوس الأعلى, ومنهم من هو أنزل درجة منها، ومنهم من هو أنزل منه درجة, ومنهم من يكون في آخر درجات الجنة. والغرض المقصود أن الله جل وعلا فارق وفاضل بين العباد؛ لأنه سبحانه وتعالى حكم عدل، وله الفضل كل الفضل، فيعرف منزلة كل أحد, ويضع كل واحد في منزلته، كما قال تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]. وقد قررنا في كتاب الأسماء والصفات، وفي كتاب التوحيد أمراً مهماً ألا وهو: أن كل صفة من صفات الله جل وعلا فإن الله يحب أن يرى أثرها في خلق عباده، فإن الله كريم يحب كل كريم, وإن الله جل وعلا رفيق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق) ويحب كل رفيق سبحانه وتعالى, والله جميل يحب الجمال، ويحب كل جميل, سواء جميل الأخلاق، أو جميل الثياب، أو حسن المنظر.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أن ينزلوا الناس منازلهم

أمر النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أن ينزلوا الناس منازلهم إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقرر هذا الهدي النبوي، وأنه لا بد لهذه الأمة أن تنزل الناس منازلهم، وتعرف لكل وحد قدره, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مقدمة صحيح مسلم عن عائشة قالت: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وفوق كل ذي علم عليم)، فقولها: أمرنا هذا أمر، وأثر الأمر الوجوب؛ لأن الآمر هو الله، والناقل لأمره هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

قصة إيثار أبي بكر لعلي بن أبي طالب في مجلسه بقرب رسول الله

قصة إيثار أبي بكر لعلي بن أبي طالب في مجلسه بقرب رسول الله إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أمر بإنزال الناس منازلهم قولاً طبقه واقعاً وفعلاً, فقد كان صلى الله عليه وسلم في مجلس التعليم وأبو بكر بجانبه، ودخل علي بن أبي طالب وكان المجلس ممتلئاً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يجد مكاناً يجلس فيه, فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً ويساراً لعله يجد من يجلس علياً ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -فإن له من الفضل ما له رضي الله عنه- فقام أبو بكر ليقر عين النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هاهنا يا أبا الحسن، فأفسح له مكانه؛ ليجلس فيه بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لفعل أبي بكر، قال: (يا أبا بكر لا يعرف لأهلي فضلهم إلا أهل الفضل) , فتعلم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه هذا الدرس ووعاه، وعلم أن الرفعة لن تكون إلا في التطبيق للهدي النبوي, ولما طبق أبو بكر هذا الهدي النبوي تطبيقاً تاماً كان أثر الفتوحات العظيمة الجليلة لهذه الأمة في حصيلته رضي الله عنه وأرضاه.

ما حدث بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف من خصومة وموقف النبي منها

ما حدث بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف من خصومة وموقف النبي منها جاء في الصحيحين أن خالد بن الوليد حدثت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف خصومة، فاشتد خالد بن الوليد على عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن بن عوف سادس ستة، أو سابع سبعة أسلموا، فهو من السابقين إلى الله جل وعلا وإلى الإسلام, وكان خالد متأخراً في الإسلام، وهو سيف الله المسلول على أعداء الله، رضي الله عنه وأرضاه, وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (واستلم الراية سيف من سيوف الله فتح الله على يديه) ولذلك قال له ملك الروم: أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبدا؟ هذا خالد بن الوليد الذي قال فيه عمر -هو يبكي بعدما نحاه-: والذي نفسي بيده إن أبا بكر كان أعرف بالرجال مني, لأنه أنزل خالداً من مكانة هو يترقي إليها في عهد عمر، وأمر أبا عبيدة بن الجراح على المدينة التي فتحها خالد. فـ خالد بن الوليد له مكانة عند الله جل وعلا، وعند رسول الله، وعند صحابة رسول الله، لكنه اشتد على عبد الرحمن والفضل كل الفضل لـ عبد الرحمن؛ لأنه سبقه في الإسلامه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) مع أن خالداً صاحب، ومن أجل الأصحاب، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين الفضل لأهل الفضل، ويؤسس أصلاً لهذه الأمة لتعرف أنها لن تمكن ولن تقود ولن تسود إلا بهذا التطبيق النبوي الشريف الظاهر الجلي, فقال لـ خالد كيف تفعل ذلك مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه؟

ما حدث بين أبي بكر وعمر من خصومة وموقف النبي منها

ما حدث بين أبي بكر وعمر من خصومة وموقف النبي منها إن الفاروق عمر بن الخطاب والذي قال فيه ابن مسعود: لم نعرف العزة إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه، والذي نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا سلك عمر فجاً سلك الشيطان فجاً آخر) والذي كان يسير في الطريق فظهر له شيطان، فتصارعا فصرعه عمر رضي الله عنه وأرضاه، فهو أشد الأمة في الحق وفي الدين، ومع ذلك لما حدث أمر بينه وبين أبي بكر، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الأمة أن منزلة أبي بكر لا تدانيها منزلة. كانت بين أبي بكر وبين عمر مشادة وأغلظ أبو بكر على عمر، فغضب عمر من أجل شدة أبي بكر، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه ذهب يستسمحه فلم يسمح له, فذهب أبو بكر إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فرجع عمر بعدما ندم, فذهب إلى بيت أبي بكر فقال: أثم أبو بكر؟ فقيل له: لا، فعلم عمر أن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان أبو بكر قد ذهب إلى المسجد، فدخله ورفع ثوبه فظهرت ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ينظر إليه متعجباً-: (أما صاحبكم فقد غامر) فقص على النبي صلى الله عليه وسلم القصة, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أبي بكر، ولأنه أمرنا أن ننزل الناس منازلهم, وتطبيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل) والذي بين فيه مكانة أبي بكر عند العامة والخاصة، فلما جاء عمر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه مغضباً، فعلم أبو بكر أنه سيشتد على عمر لا محالة, فجثا على ركبتيه شفقة عليه وقال: والله يا رسول الله لقد كنت أنا أظلم. لكن رسول الله أحب أن يبين لهذه الأمة تأصيلاً لا بد منه، وأن يطبقه واقعاً في هذه الأمة حتى تعيش في مستوى القيادة والريادة والسيادة, هذا التأصيل والهدي النبوي لابد من أن نحذو حذوه, وأن نعرف لكل إنسان قدره, وأن نضع كل إنسان في مكانه المناسب، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلن للأمة أن خلافتها في أبي بكر فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً على عمر وظهر ذلك في وجهه ووجنتيه، وقال: (هل تركتم لي صاحبي) مع أن عمر من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو وزير للنبي صلى الله عليه وسلم, ولما مات عمر رضي الله عنه وأرضاه قام علي يبكي ويقول: أبشر يا أمير المؤمنين، والله ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر)، حتى أنه لما ذكر علامات الساعة كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ركب رجل على بقرة) أي: حملته (فنظرت البقرة إليه فقالت: ما خلقت لهذا، إنما خلقت للحرث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ينظر إلى أصحابة متعجبين من تكلم البقرة-: أنا أؤمن بذلك) -يعني: بتكلم البقرة- وأبو بكر وعمر). الغرض المقصود أن عمر له منزله كبيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه, فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين مكانة أبي بكر وفضله؛ تطبيقاً للهدي النبوي فقال: (هلا تركتم لي صاحبي قلتم: كذب، فصدقني وواساني بأهله وماله) فقال الراوي: والله ما وجد أبو بكر على أحد بعد هذه المقالة, وما تجرأ أحد أنه يقف أمامه رضي الله عنه وأرضاه بعدما بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته بين الناس.

موقف أبي بكر الصديق مع الأنصاري

موقف أبي بكر الصديق مع الأنصاري وهذا موقف آخر تراه جلياً ظهر بعد ذلك لما وقع بين أبي بكر وبين بعض الأنصار مشادة، فاشتد أبو بكر على الأنصاري, ثم تراجع أبو بكر وقال: اقتص مني, أي: أنه تراجع عما فعل؛ لأن أفضل الناس -كما بين الناس النبي صلى الله عليه وسلم- من كان سريع الرضا, أي: أنه يرجع ويئوب، لأنه ما من أحد إلا ويخطئ, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، هو خطاء؛ لأنه خلق في ظلمة وجهل, فإذا ترك لنفسه العنان ضاع واتبع الشهوات, والمعصوم من عصمه الله جل وعلا, وليس عيباً على الإنسان أن يخطئ، ولكن العيب كل العيب أن يكابر ولا يرجع. ولما قال أبو بكر للأنصاري: اقتص مني, قال الأنصاري: لا أقتص منك، فقال له أبو بكر: اقتص مني وإلا لأستعدين عليك رسول الله, فغضب الأنصار من أبي بكر غضباً شديداً؛ لأنه أغلظ على صاحبهم في القول، ثم قال له: لأستعدين عليك رسول الله، فقال الأنصار لصاحبهم: والله لنذهبن معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف يخطئ في حقك، ويذهب إلى رسول الله؟ فلما قالوا ذلك، قام الأنصاري -وكان فقيهاً- فقال لهم: أتعلمون من هذا؟ إنه أبو بكر، فاسكتوا حتى لا يسمع ما تقولون فيغضب, فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضب صاحبه, فيغضب الله لغضب رسوله، فيهلك صاحبكم. وهذا فقه عال من الرجل؛ لأنه علم منزلة أبي بكر ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما قص على النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة قال له: (قل: يغفر الله لك يا أبا بكر)، أي: لا تقتص من أبي بكر، ولكن قل: (يغفر الله لك يا أبا بكر). فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل كل ذي فضل، وينزل كل واحد منزلته.

النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفضل لنسائه وينزل كل واحدة منهن منزلتها

النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفضل لنسائه وينزل كل واحدة منهن منزلتها حتى مع نسائه صلى الله عليه وسلم فهو أرفق الأمة بهن, وهو الذي قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) وكان يطوف على نسائه، وإذا أعطى إحداهن درهماً أعطى كل امرأة منهن درهماً، وكان يعدل بينهن في المبيت، حتى لو ابتسم لهذه ابتسم للأخرى، فكان أعدل الناس، ومن يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولما سئل: (من أفضل النساء عندك؟ قال: عائشة) فبين أن عائشة هي أفضل نساء هذه الأمة، ثم بين بعد ذلك فضل خديجة فقال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من السناء إلا أربع: وذكر مريم وآسيا وفاطمة وخديجة)، فلما ذكر خديجة قال: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

حكم إنزال الناس منازلهم وأثر تطبيقه في هذه الأمة

حكم إنزال الناس منازلهم وأثر تطبيقه في هذه الأمة إن النبي صلى الله عليه وسلم بين فضل كل ذي فضل، فهذا فعله صلى الله عليه وسلم، وهذا هديه الذي طبق بعد ذلك، فكان النصر والقيادة والريادة والسيادة في هذه الأمة لمدة وجيزة من الزمن. وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه تربى على مائدة رسول الله, وعلم أن هذه الصفات من أفعال الله، وأن الله يحب أن يرى أثر صفاته على أخلاق عباده، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبين فضله للناس، حتى ظهر جلياً أمامهم, فكان يضع كل واحد في موضعه، وينزل كل إنسان في منزلته, ويعرف لكل واحد قدره؛ لأن هذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه المسألة قد ضاعت بين الناس، فهم لا يفقهونها ويحسبونها أنها نافلة قول، والحقيقة أنها واجبة؛ لأن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم)، وجمهرة المحدثين يرون أن هذا من باب المرفوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بأن ينزل الناس منازلهم, فيأثم الإنسان إن لم يفعل ذلك, ولكن الجهلاء والبله في هذه العصور لا يميزون بين أهل الفضل وبين غيرهم. فالغرض المطلوب أن أبا بكر طبق هذا الهدي النبوي وهذه الصفة التي تعد من صفات الله جل وعلا، وكان لها أثر في أخلاقه وتعامله مع صحابة رسول الله، فجعل الخير كله على يديه، حتى أن الفتوحات العظيمة التي كانت في عهد عمر كانت في حصيلة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه, لأنه عند موته لما دخل عليه عثمان أمره أن يكتب من يخلفه، فلما أفاق قال له: أكتبت أن تكون الخليفة؟ قال: لا، قال: لو كتبت كنت خليقاً بها، قال: كتبت عمر قال: ونعم ما كتبت. فدخل الناس يشتدون على أبي بكر: كيف تستخلف علينا هذا الشديد؟ وماذا تقول لربك إذا سألك من استخلفت عليهم؟ قال: إذا سألني ربي سأقول: استخلفت عليهم أتقاهم وأعلمهم وأفقهم وأورعهم وأشدهم في دين الله جل وعلا. فبين فضل عمر رضي الله عنه وأرضاه.

أبو بكر يعرف منزلة أسامة

أبو بكر يعرف منزلة أسامة إن أبا بكر كان يعرف للناس منازلهم, فلما أمر أسامة من قبل رسول الله على جيش عرمرم كثير، ومات رسول الله، وأصبحت الفتن تأتي على هذه الأمة بعد موته، وظهرت الردة في أنحاء الجزيرة العربية، سوى مكة والمدينة، ومع ذلك فـ أبو بكر ينفذ جيش أسامة، بل ويجعل أسامة الذي لم يبلغ العشرين من عمره أميراً على هذا الجيش العرمرم. فجاء عمر بن الخطاب يراجعه في تنحية أسامة من إمارة الجيش، فقال: والله لا أنحين أميراً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (إنه لخليق بهذه الأمارة) فبين فضل أسامة رضي الله عنه وأرضاه وتمسك به، وعض عليه بالنواجذ. وكان لذلك الأثر العظيم في هذه الأمة، فالقبائل التي ارتدت عن الإسلام خافت على نفسها من المسلمين؛ بسبب جيش أسامة. وعى عمر بن الخطاب الدرس جيداً بعد أن اختلف مع أبي بكر، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له أن هذه المنازل لا تتعدى أصحابها الذين خلقهم الله لها.

عمر بن الخطاب يعرف لأبي عبيدة بن الجراح فضله وقدره

عمر بن الخطاب يعرف لأبي عبيدة بن الجراح فضله وقدره إن عمر بن الخطاب بعدما تربى على يد رسول الله، وتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل الناس منازلهم، وأن يؤتي كل ذي فضل فضله، طبق هذه القاعدة النبوية العظيمة الجليلة تطبيقاً رائعاً حتى جعل الله الفتح على يديه, فالفتوحات العظيمة كانت على يد عمر بن الخطاب؛ لتطبيقه لهذا الهدي النبوي, فكان يضع كل واحد في مكانه المناسب, حتى أنه ما أنكر عليه تنحية خالد ووضع أبي عبيدة بن الجراح مكانه، وهو من هو في الفضل! وعند موت عمر قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته, كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)، رضي الله عنه وأرضاه, فكان عمر أيضاً يعرف أقدار الناس، وينزلهم منازلهم.

عمر بن الخطاب يعرف قدر أبي بكر وفضله

عمر بن الخطاب يعرف قدر أبي بكر وفضله وهذا ظهر جلياً في خلافة أبي بكر لما ذهب إلى سقيفة بني ساعدة، فقام أبو بكر فخطب في الناس وبين مكانة المهاجرين ثم مكانة الأنصار، ثم قال: منا الأمير ومنكم الوزير, وقال: ابسط يدك يا عمر، أو قال: أبايع لكم أحد هذين الرجلين، فقال عمر: والله لئن أموت خير لي من أن أبايع وفينا أبو بكر، وهذه الكلمة قالها لـ أبي عبيدة، فـ أبو بكر فيكم، وتقول: ابسط يدك، إن أبا بكر أفضل هذه الأمة. فكان عمر بن الخطاب يضرب مثلاً واقعاً جلياً في التطبيق النبوي لإنزال الناس منازلهم.

عمر بن الخطاب يفضل بلالا على أبي سفيان

عمر بن الخطاب يفضل بلالاً على أبي سفيان إن أبا سفيان بن حرب الذي كان رأس مكة وواليها وأمير تجارة مكة وأموالها، وكانت له الوجاهة العظمى، والمكانة العلياء في مكة لما منَّ الله عليه بالإسلام مع سهيل بن عمرو، استأذنا عمر للدخول فلم يأذن لهما، وبقيا مدة طويلة خارج الباب، فجاء بلال يستأذن أمير المؤمنين في الدخول، وهو العبد الأسود الحبشي, فقام عمر بن الخطاب متهللاً، وأدخله قبل أبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو , فغضب أبو سفيان وقال لـ سهيل: العبد الحبشي يتقدم علينا! في الدخول. فقال سهيل معلماً لـ أبي سفيان بن حرب: سارع إلى ربه، أو تقدم إلى ربه، أو سبقنا إلى ربه، فجعله الله يسبقنا عند العباد. أي: أنه سبق في الآخرة فسبق أيضاً في الدنيا, فبين عمر بن الخطاب أن هذا الدين له هدي وطرق وأصول لا بد أن لا نتعداها. فـ بلال سجد لله جل وعلا قبل أن يسجد أي كافر من هؤلاء، بعدما من الله عليهم بالإسلام, ولقي شدة وعذاباً شديداً في الله وهو يقول: أحد أحد، فضرب لنا مثلاً رائعاً في الأخذ بالعزيمة، مع أن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه أخذ بالرخصة، وتكلم في رسول الله، وأبى بلال على نفسه ذلك، واشتد العذاب عليه، ولم ينثني عن عقيدته رضي الله عنه وأرضاه, فتكلم عمر بن الخطاب بكلمة عظيمة تكتب على الصدور بماء الذهب، وقال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا أي: أعتق بلالاً رضي الله عنه وأرضاه. فهؤلاء القوم لما رضخوا لأوامر الله, وطبقوا الهدي النبوي, وأخذوا شريعة الله بحذافيرها نزع الله جل وعلا عنهم الذلة والمهانة، وجعل السيادة والقيادة والريادة في ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، وفي مدة وجيزة من الزمن في أيدي هذا الرعيل الذكي النقي.

علي بن أبي طالب يفضل أبا بكر وعمر على الأمة

علي بن أبي طالب يفضل أبا بكر وعمر على الأمة إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان ابن عم رسول الله، وكان يتربع على مائدة رسول الله، ولم يتخلى عن هذا الخلق الكريم, فكان يبين للناس مكانة الأفاضل الأكارم الأماجد، فبعد أن سمع أهل الكوفة يقولون: أفضل هذه الأمة بعد النبي هو علي بن أبي طالب وهو أحق الناس بالخلافة، وإنما سرق أبو بكر الخلافة وكذلك عمر , قام خطيباً في الناس معلناً بصراحة مكانة هؤلاء الأفاضل الذين قال الله جل وعلا فيهم: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] ومدح هؤلاء الذين سارعوا إلى الله جل وعلا فأسرع الله بهم إلى كل خير, فقال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ومن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري, يعني: ثمانين جلدة, فهو كذاب مفتر؛ لأن أبا بكر هو أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم, وعمر أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. فعرف هؤلاء القوم لكل صاحب فضل فضله، وأنزلوا الناس منازلهم، فأنزلهم الله خير المنازل في الدنيا، وهم في الآخرة رفقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يحذو حذوهم، ويسير على دربهم, حتى نلتقي بهم في الفردوس الأعلى.

أبو موسى الأشعري ينزل عبد الله بن مسعود منزلته

أبو موسى الأشعري ينزل عبد الله بن مسعود منزلته إن أبا موسى الأشعري عندما كان في الكوفة وكان أميراً عليها كان معه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)، فجاء أناس وسألوا أبا موسى الأشعري فقالوا: مات رجل عن بنت وبنت ابن وأخت، فقال أبو موسى الأشعري: للبنت النصف وللأخت الباقي ولا شيء لبنت الابن، فذهبوا إلى ابن مسعود فسألوه عن المسألة، وأخبروه بما قال فيها أبو موسى، فقال -كلمة أشد ما تكون-: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، لو قلت بخلاف السنة. للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللأخت الباقي. فقيل لـ أبي موسى ما قاله ابن مسعود، فقال: كيف تسألونني وفيكم هذا الحبر؟ فـ أبو موسى يبين في ذلك مكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. أيضاً أبو موسى خرج على قومه فوجدهم يتحلقون حلقاً ويذكرون الله، ويسبحون بالحصى، فيكبرون مائة ويهللون مائة, فأنكر أبو موسى الأشعري عليهم في نفسه، وذهب إلى ابن مسعود فقال: رأيت اليوم أمراً جللاً؟ أو أمراً عظيماً أنكره قلبي, وذكر له ما يفعلون، فذهب ابن مسعود إليهم متصنعاً بثيابه، وجلس في حلقة الذكر، ثم قام من بينهم فقال: أنا ابن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لهم: عدوا سيئاتكم وأنا أضمن لكم حسناتكم؛ إنكم على ملة أهدى من ملة رسول الله، أو إنكم مفتتحوا باب ضلالة. فنهى الناس أن يجتمعوا للذكر بمثل هذه الحلق، فإنها بدعة مميتة، وبين مكانته وأنه صاحب من أصحاب رسول الله فأنزلوه الناس منزلته, وسمعوا له وأطاعوا. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن ينزل الناس منازلهم ويطبق هذا الهدي النبوي, فالعلماء أيضاً علموا هذا الهدي النبوي، وطبقوه تطبيقاً عظيماً جليلاً ولذلك رفعهم الله.

هارون الرشيد ينزل مالك بن أنس منزلته

هارون الرشيد ينزل مالك بن أنس منزلته كان هارون الرشيد من الأمراء والحكام الذين فتح الله على أيديهم كثيراً من البلاد, وعندما كان يدخل عليه مالك بن أنس كان يقوم مرتعداً هيبةً له، وهو أمير المؤمنين له أن يسجنه أو يعذبه، أو أن يفعل به ما يشاء، ومالك عليه السمع والطاعة؛ لأنه ولي أمر.

تعظيم الإمام مالك للشافعي

تعظيم الإمام مالك للشافعي كان مالك يعظم أهل العلم كثيراً, وكان الشافعي وهو في حداثة سنه أول ما جلس مع مالك يستمع منه الحديث, وكانت القراءة على الشيخ عند مالك أولى من قراءة الشيخ على الطلبة -وهذه مسألة حديثية في علم المصطلح- وكان يقرأ عليه الحديث والشافعي يأخذ بأصبعه ويضعه على فيه ثم يضعها على يده, وكان مالك له وقار عظيم، حتى قال عنه المترجمون: إن مالك كان إذا دخل على طلبة العلم فكأن على رءوسهم الطير من هيبته رحمه الله، فالله جل وعلا زرع له في قلوب الطلبة الهيبة؛ لأنه وقر وعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرع الله جل وعلا، فكان يقول: ما مشيت في المدينة إلا حافياً توقيراً واحتراماً لصاحب هذا القبر أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان لا يجلس في مجلس التحديث إلا متعطراً مغتسلاً وقد استاك هيبةً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم, ولذلك زرع الله الهيبة في قلوب طلبة العلم لهذا الشيخ الجليل العالم العظيم. ولما نظر إلى الشافعي وهو يعبث بإصبعه غضب منه احتراماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن مالكاً نفسه قال: فاتني فوق العشرين حديثاً؛ لأنني كنت قائماً فلم أكتب حديثاً واحداً احتراماً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجلس التحديث كان مملوءاً بطلبة الحديث، وكان مالك يستمع من الزهري ولم يجد مكاناً يجلس فيه، فبقي قائماً يستمع الحديث وما كتب حديثاً واحداً، ولما سئل في ذلك قال: استحييت أن أكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم قائماً, فلا بد أن أجلس احتراماً وتوقيراً لحديث النبي. ولما رأى الشافعي يصنع ذلك بأصبعه غضب غضباً شديداً هيبة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: مالي أراك سيء الأدب؟ فقال الشافعي: يا إمام وما رأيت من سوء أدبي؟ قال: أتلوا عليكم حديث رسول الله وأنت تلعب بأصبعك، فقال: والله ما كنت ألعب، إني أحفظ حديثك وما عندي ورقة وقلم ومحبرة، فكنت أكتب الأحاديث التي ذكرتها بريقي وبإصبعي على يدي، ثم ذكر كل الأحاديث التي ذكرها الإمام مالك، فأخذه مالك إلى بيته وقال له: كلمته المشهورة: قد رأيت أن الله جعل لك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي. فالغرض المقصود أنهم كانوا يعرفون لكل صاحب فضل فضله.

البخاري ينزل ابن المديني منزلته

البخاري ينزل ابن المديني منزلته ما دمنا في مجلس طلب العلم وفي مجلس التحديث فلا بد أن نذكر من نوادر طلبة العلم، أو من نوادر العلماء الذين كانوا يقدرون بعضهم بعضاً، فالإمام البخاري جبل الحفظ، وأستاذ العلل في علم الحديث, وصاحب الكتاب الذي قال فيه العلماء: أصح كتاب بعد كتاب الله جل وعلا وهو صحيح البخاري، ولو أن إنساناً حلف على ذلك لم يحنث؛ لمكانة البخاري التي جعلها الله جل وعلا لهذا الرجل الذي فرغ نفسه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. وعندما عمي رحمه الله حدثت له كرامة، وذلك أن أمه قنتت وسألت الله كثيراً أن يرد على هذا الطفل بصره، فرد الله عليه بصره, فاستخدمه في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فـ البخاري بجلالة قدره يجلس في مجلس التحديث ويقول: ما استصغرت نفسي مثل ما استصغرت نفسي عند علي بن المديني. وعلي بن المديني من طبقة أحمد بن حنبل، فهو من طبقة شيوخ البخاري. فقيل لـ علي بن المديني: إن البخاري يقول كذا وكذا، فقال: دعوكم من قوله، فوالله ما رأى مثل نفسه، أي: ما خلق الله مثل البخاري!

أحمد بن حنبل ينزل البخاري منزلته

أحمد بن حنبل ينزل البخاري منزلته كان البخاري يجلس في مجلس أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة، الذي سئل عنه يحيى بن معين فقال: أو تسألوني عن أحمد بن حنبل، أحمد إمام أهل السنة، وإمام الدنيا بأسرها. فكان البخاري يجلس في مجلس أحمد، ولما أراد الرحيل، قال أحمد: يا محمد أترحل وتتركنا وتترك حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فـ أحمد رحمه الله يبين مكانة البخاري رحمه الله ومنزلته بينهم.

الإمام مسلم ينزل الإمام البخاري منزلته

الإمام مسلم ينزل الإمام البخاري منزلته إن الإمام مسلماً عالم جليل القدر، فهو صاحب الصحيح الذي قال فيه العلماء: أصح كتاب بعد كتاب الله وبعد صحيح البخاري كتاب مسلم، بل إن المغاربة يقدمون صحيح مسلم، على صحيح البخاري. ومسلم هو من هو في الحفظ والوعي والدقة في ترتيب الأسانيد، كما بينا في أسانيد مسلم، فكان يجلس في مجلس البخاري فيقول له: دعني أقبل يدك ورجلك يا أستاذ العلل، والله ما يبغضك إلا حاسد. فكل عالم من هؤلاء العلماء كان يعرف قدر العالم الآخر

الإمامان مالك والشافعي يقدران منزلة الإمام أبي حنيفة

الإمامان مالك والشافعي يقدران منزلة الإمام أبي حنيفة ظهرت شرذمة من الناس يطعنون في أبي حنيفة فيقولون مثلاً: أبو جيفة, أو يتكلمون عليه بكلمات لا يصح لرجل يطلب العلم ويرجو بطلب العلم رضا الله جل وعلا ووجهه أن يقدح في عالم جليل مثل هذا العالم الذي جعل الله له هذا المذهب العظيم الذي عليه كثير من الناس. فـ أبو حنيفة قال فيه الشافعي: الفقهاء عيال على أبي حنيفة , وقال فيه مالك: أبو حنيفة أنظر الناس، يعني: أقيس الناس وأعقلهم، فلو ناظر أحداً على أن هذا العمود من ذهب لأقنعه بذلك.

الإمام أحمد بن حنبل يقدر منزلة الإمام الشافعي

الإمام أحمد بن حنبل يقدر منزلة الإمام الشافعي كان الشافعي يعرف قدر مالك حيث قال: إذا ذكر الحديث فـ مالك. وأحمد بن حنبل أروع ما يكون في التواضع ومعرفة الفضل لأهل الفضل، فكان ينهى الناس عن الشافعي؛ لأنه كان يظن أنه من أصحاب الرأي، فلما سمع عن الشافعي وعرف قوة علمه -بل إنه قد يسمى بناصر السنة- قال: فخرج علينا رجلاً طبيباً صيدلانياً هو الشافعي الناقل للسنة، ثم مشى ذات مرة خلف بغلته، فقالوا له: تنهانا عن الشافعي وتسير خلف البغلة؟! فقال: اسكتوا، والله لو لم يتكلم الشافعي وسرت خلف بغلته لتعلمت منه إما من لسان حاله، وإما من تدبره للمسائل. ومن ذلك حديث: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟)، فقد قضى الشافعي ليلته يفكر في هذا الحديث ويستنبط منه مسائل العلم. الغرض المقصود أنهم كانوا يعرفوا للعلماء قدرهم، فلم يرتقوا إلا بهم، وعلموا أن النصر لا يأتي إلا من قبلهم؛ لأن سهم الليل لا يخطئ, والسهام والرماح الأخرى يمكن أن تخطئ، لذلك عرفوا للعلماء قدرهم وأنزلوهم منزلتهم, حتى إن بعض المفسرين قال في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال: هم العلماء ثم الأمراء, لأن الأمراء هم أولي الأمر على العامة، والعلماء هم أولي الأمر على الأمراء. فلا بد من إنزال الناس منازلهم حتى ترتقي هذه الأمة. والكلام عن العلماء كثير, لكني أردت فقط أن أذكر بأن إنزال الناس منازلهم ترتقي به الأمة، وهو الذي يثمر وينبت, وألمح بذلك أن أفضل الناس هم طلبة العلم, وهم على الجادة في الطريق, وقد اصطفاهم الله بفضله من بين الخلق أجمعين؛ لينظروا في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويجعلكم الله جل وعلا بعد ذلك واسطة بين الخالق والمخلوق، فعضوا على ذلك بالنواجذ. أسأل الله جل في وعلاه أن يجمعنا جميعاً في رضاه، ويجعلنا ممن يسيرون على درب أهل العلم؛ حتى نصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفوز بهذا الحديث العظيم: (إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأصل في النكاح التعدد

الأصل في النكاح التعدد النكاح سنة كونية لا يمكن إهمالها أو تجاهلها بحال من الأحوال، فهي رغبة دفينة أودعها الله في قلوب الناس ليحقق الإنسان غايته العظمى التي خلق من أجلها ألا وهي: العبودية، ولذلك كله جاء الشرع ليؤكد على أهمية النكاح، ويزيل ما علق به من العلائق الخبيثة، وينظم إقامته على وجه البسيطة، بدءاً من اختيار الزوجين كل منهما للآخر، وانتهاء بالحكمة الجليلة لمشروعية تعدد الزوجات.

من أحكام النكاح

من أحكام النكاح إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: بسم الله الرحمن الرحيم، فمن روائع البيان أن يُبدأ بتسمية الله جل وعلا، وهذه من السنن التي ما من مصنف كما قال البخاري يفتتح كتابه إلا ويبدأ باسم الله اقتداءً بكتاب الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، واقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بعث الرسل إلى ملوك الدنيا يقول: باسم الله من محمد رسول الله إلى قيصر الروم أو كسرى فارس.

تعريف النكاح لغة وشرعا

تعريف النكاح لغة وشرعاً أفرد الفقهاء للنكاح كتاباً وأسموه كتاب النكاح، والكتاب: فعال بمعنى: مفعول أي: مكتوب. النكاح: لغة: الضم والجمع، وقد اختلف الفقهاء هل هو حقيقة في عقد النكاح أم حقيقة في الجماع؟ وكان اختلافهم على ثلاثة أقوال، والصحيح الراجح الذي تدل عليه الآثار أنه حقيقة في العقد، ومجاز في الوطء، ويدل على ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49]، ففيها دلالة صريحة على أن المقصود بقوله: ((نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)) أي: كسبتم أو عقدتم هذا العقد عليهن. وقد فرق بينهما بعض الفضلاء والعلماء فقال: إذا قيل: نكحت بنت فلان أو أخت فلان، قصد بذلك العقد، وإذا قيل: نكح امرأته قصد بذلك الوطء والجماع. وشرعاً: هو عقد يفيد حل استمتاع الرجل بالمرأة أو حل استمتاع الزوجين كل منهما بالآخر على وجه مقصود. وقوله: على وجه مقصود بمعنى أن هناك أموراً محظورة لا يستطيع المرء أن يستمتع بها مثل الجماع في الدبر، فهو ممنوع ومحرم على الزوج أن يفعل ذلك مع زوجته.

مشروعية النكاح

مشروعية النكاح النكاح مشروع، وأصل مشروعيته في الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32]، وقال جل وعلا: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي - يعني هذه سنتي - فليس مني) فهذه دلالة واضحة على أن من سنة الأنبياء النكاح. وورد في بعض الآثار -وإن كان في أسانيدها كلام إلا أنه يستأنس بها- إن من سنن المرسلين أربع: منها النكاح، والشواهد تعضد هذه الآثار، وتدل عليها السنة الصريحة بأن النكاح مشروع بالسنة. وأجمع المسلمون على أن النكاح مشروع في شريعتنا الإسلامية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل والرهبانية فقال: (لا رهبانية في الإسلام) وهذا يخالف ما يتعبد النصارى به من عدم الجماع والنكاح، فالنكاح مشروع بالكتاب وبالسنة وإجماع المسلمين.

أنكحة الجاهلية وحكم الإسلام فيها

أنكحة الجاهلية وحكم الإسلام فيها كانت الأنكحة في الجاهلية على أقسام أربعة ذكرتها عائشة رضي الله عنها وأرضاها كما ذكرها البخاري عنها، وهذه الأقسام كالتالي: القسم الأول: مناكح أصحاب الرايات: أي: العاهرات، وكن يضعن الرايات على بيوتهن حتى يعرفن أنهن معدات لذلك. القسم الثاني: مناكح الرهط والقبائل: فكل قبيلة فحولها يأخذون امرأة تعجبهم، ثم يجامع كل واحد من هذه القبيلة هذه المرأة حتى تلد فإذا ولدت ولداً نظروا إلى أشبه رجل به فألحقوه بهذا الرجل من القبيلة. القسم الثالث: نكاح الاستنجاب للشرف: فإذا أرادت امرأة أن تلد ولداً شريفاً، ذهبت إلى القبائل تبحث عن أفحل رجل في القبيلة، فتبذل نفسها له، فيطأها الرجل تلو الرجل حتى تلد ولداً، فتدعو من جامعها فتلقيه على من أحبت من هؤلاء الفحول. القسم الرابع: النكاح الصحيح: وهو نكاح التعفف، وهو الذي ولد منه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (ولدت من نكاح لا من سفاح) فهو نبي من ذرية نبي ابن نبي من خير الأمم أجمعين.

أقوال العلماء في حكم النكاح

أقوال العلماء في حكم النكاح اختلف الفقهاء في حكم النكاح على قولين: القول الأول: قول الجمهور من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة على اختلاف بينهم وليس هذا مقام التفصيل فقالوا: هو مستحب، واستدلوا على ذلك من الكتاب بقول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، ووجه الدلالة في الآية قوله: (ما طاب لكم)، فقد علق النكاح بالاستطابة، واستطابة النفوس لا يتعلق بها الوجوب، والنبي صلى الله عليه وسلم ما استطاب الضب فما أكله، فقال خالد: أحرام هو؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لا ولكني أعافه، ما كان يؤكل بدار قومي) فالاستطابة لا يتعلق بها وجوب، كما استدلوا بالآثار التي تقدمت، منها قوله: (من سنن المرسلين النكاح) فقالوا: هي سنة من سنن المرسلين بالتصريح، فهي سنة. القول الثاني: قول داود الظاهري أنه يجب على كل امرئ أن يتزوج، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فقوله: (فليتزوج) أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وإذا قلنا بعدم الوجوب فلابد من صارف ولا صارف له، وأسعد الناس بالدليل الظاهرية، فأمر النكاح على الوجوب لمن تيسر له، لقوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج). والدليل الذي استدل به المالكية والشافعية والأحناف والحنابلة وهو قول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] يدل على الوجوب أيضاً، فقوله: (فانكحوا) أمر، وظاهر الأمر يفيد الوجوب، ويرجع الاستحباب إلى التعدد كما سنبين في طيات هذا المبحث. وبذلك يعلم أن حكم النكاح الوجوب لمن تيسرت له الآلة، ويأثم إن ترك النكاح خلافاً للشافعية الذين يقولون: النكاح أصله ليس من العبادة، فهو كالبيوع والشراء والهبة، والصحيح الراجح: أن النكاح عبادة، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (وفي بضع أحدكم صدقة)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، فكل عمل يقدم عليه المرء فإنه يكون عبادة إذ أحسن النية، لكن الشافعي وضع على الفقهاء إشكالاً عظيماً فقال: إن كان عبادة فهو يصح من الكافر، ولا عبادة تصح من الكافر؟! ويرد عليه أن هناك فرقاً بين الأجر والصحة والبطلان، إذ الأجر لله جل وعلا، فلا يتحكم فيه أحد، لكن الصحة والبطلان لها أمور شرعية ظاهرة، فلذا نقول: يصح من الكافر النكاح، فيصح أن النصارى واليهود والبوذيين يعقدون النكاح بعضهم على بعض. ولا يؤجر أحدهم عليه؛ لأن عمارة الدنيا لا تتحقق إلا بذاك، كما أننا لو قلنا: لا يصح! فإن الدنيا ستفنى، فاستثني ذلك للكافر لأجل عمارة الدنيا، والصحيح الراجح أنها عبادة، وأن حكم النكاح الوجوب.

معايير الإسلام لاختيار الزوجة

معايير الإسلام لاختيار الزوجة إذا قلنا بوجوب النكاح وتيسر للمرء أن يتزوج فله اعتبارات في اختيار امرأته، كما قال بعض الفضلاء: إني لأربي ولدي قبل أن يولد بعشرين عاماً، أي: أتخير من ستكون أماً لولدي حتى يكون هذا الولد مجاهداً في سبيل الله ينصر الله به الدين أو عالماً من الصالحين، فهناك اعتبارات مهمة جداً حتى يتخير المرء المرأة التي ستكون قرينة له في هذه الدنيا، وليرتقي بها بعد ذلك في جنات العلى، لتكون الحور العين وصائف لهذه المرأة، ولأن الشرع لم يترك شيئاً إلا وبينه لنا، فقد وضع معايير لاختيار الزوجة ينبغي لكل راغب بالزواج أن يأخذ بها.

(فاظفر بذات الدين تربت يداك)

(فاظفر بذات الدين تربت يداك) أشار النبي صلى الله عليه وسلم لأول فضيلة وأول صفة نعت بها المرأة التي لا بد أن تكون خليلة وزوجة فقال: (فاظفر بذات الدين) يشير أن البركة واليمن واليسر والرضا في الدنيا قبل الآخرة مع ذات الدين، كما أن الغم والنكد والهم والشؤم مع غير ذات الدين، قال الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) والمعنى: اظفر بذات الدين وإلا تربت يداك، أي: افتقرت يداك، وافتقر قلبك وافتقر جيبك وألم بك في الدنيا كل هم وغم؛ لأن ذات الدين هي التي ترتقي بك إلى ربك حيث تعضدك في طاعة الله جل وعلا، فإن رأتك تتقاعس عن الدين قالت: يا فلان! أراك كنت تقوم من الليل، لم لم تقم الليلة من الليل؟ كنت أراك تطالع كثيراً لم تتقاعس عن الاطلاع؟ لم لا تسمو إلى ربك جل وعلا؟ فتشد همتك حتى ترتقي بك إلى رضا الله جل وعلا. أما الأخرى فتقول لك: لم لم تأتِ بالطعام؟ لم لم تأتِ بالسيارة؟ لم لم تأتِ بالدرهم والدينار؟ لم تركت العمل؟ لم لم ترتقِ في مكانك وأنت تعمل؟ أختي عندها بيت في المكان الفلاني وقد بنت بيتاً آخر في المكان الفلاني! فتعدد لك أمور الدنيا حتى ينشغل عقلك وقلبك بها. أما ذات الدين فلابد أنك ستجدها معك في نفس الطريق التي تمشي به، وتسيرا إلى الله جل وعلا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين). جاء أن سعيد بن المسيب دخل على ابنته وهي تقرأ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فقالت: يا أبتاه! قد عرفنا حسنة الآخرة وهي الجنة فما حسنة الدنيا؟ فقال وهو أعلم التابعين على الإطلاق: المرأة الصالحة للرجل الصالح. فحسنة الدنيا بتنصيص سعيد بن المسيب: المرأة الصالحة للرجل الصالح، إذ إنها تنشر في بيتك كل اليمن والبركة، وغيرها تأتيك بكل الوبال. وكما أن الرجل ينبغي أن يختار ذات الدين فكذلك المرأة لا تتخير إلا صاحب الدين؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد) وصاحب الدين كفء لأي امرأة، وقال بعض العلماء: طالب العلم كفء لأي امرأة، ونعجب من بعض الملتزمين الذين إذا تقدم لهم شاب فلا يسألون إلا عن راتبه! وأين يسكن؟ وكيف ستعيش معه؟ ولذا نتسائل: كيف تتكلمون في الفرعيات وأنتم من الملتزمين؟! المفروض أن تستشعروا ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه). وقد عرفنا من النساء من جاءها خاطب وله المال الوفير والمكانة والوجاهة والبيوت الواسعة فتركته وقالت: بينها وبين الله عقد أن لا تتزوج إلا طالب العلم ولو بشظف العيش من أجل الله جل وعلا، وقالت: أنا إنما فعلت ذلك من أجل الله، وكان الرجل قد رآها فذهل، فأراد أن يبذل لها كل ما تريد، وأغرى أباها بأنه سيعطيها من الذهب كذا ومن المهر كذا وطلب مقابلتها ليقنعها فعلمته الأدب، وقالت له: كم تحفظ من القرآن؟ ماذا عندك من السيرة؟ فبينت له دنو مكانته ثم تركته وتزوجت بطالب علم يعيش في شظف العيش، وقالت: هذه لله، وقامت ليلاً فقالت: ربي تزوجته لك. فهذه لا ترى أجرها إلا عند ربها، فمثل هذه النساء جديرات بأن يتمسك بهن وهن من عنى النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك). وقد ورد في سنن سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعاً بسند ضعيف يستأنس به: (امرأة أو أمة سوداء ذات دين خير من حسناء لا دين لها) فالمرأة السوداء الحبشية ذات الدين أفضل بكثير من المرأة الحسناء التي لا دين لها، فكان أول اعتبار في اختيار الزوجة أن تظفر بذات الدين وإلا تربت يداك.

تزوجوا الولود الودود

تزوجوا الولود الودود الاعتبار الثاني الذي بينه الشرع أن تتزوج الولود الودود، وقد يسأل سائل: كيف تعرف أن المرأة ودود ولود وهي ما زالت بكراً؟ فيقال: بالنظر إلى مثيلتها في عائلتها، فينبغي للمرء أن يتخير المرأة التي تلد كثيراً؛ لأن هذا هو مغزى الشرع، كما أنه هو المقصود الأسمى للنكاح، وبه يكثر سواد المسلمين، وهو عمل بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن (تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) والودود التي إذا نظرت إليها سرّتك بجمالها، وجمال المرأة على ضربين: جمال خلقي وجمال مكتسب، فالجمال الخلقي: هبة يهبها الله لمن يشاء، أما الجمال المكتسب فإنه من الأمور المعروفة عند النساء، فمن النساء من تتجمل لزوجها حتى إنه إذا دخل البيت اشتاق لرؤيتها، بينما البعض الآخر تجعل زوجها إذا دخل البيت يقول: أنظر للحائط أم أنظر إلى زوجتي فكلاهما سواء! فإذا كان الجمال الخلقي هبة من عند الله فلا ينبغي للمرأة أن تترك الجمال الذي تكتسبه، بل لابد أن تفعله من أجل زوجها لتصرف زوجها عن غيرها. وفي الحديث: (خير النساء من إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه ونفسها) فتحفظه حتى في أسراره، وتعرف أصالة المرأة عندما يضيق بك المقام، فإن كانت تفشي كل مساوئك وتخفي محاسنك أمام الناس، فهذه ليست بأصيلة، وليست بخيرة، ولا تمسك عليها لأنه ليس فيها خير. ولنا في ذلك سلف من إبراهيم عليه السلام، فإن امرأة إسماعيل لا مطعن في دينها، لكنها كانت تتضجر من عيش إسماعيل والشظف الذي كان يعيشه، فإنها لما سألها إبراهيم عليه السلام عن عيشها تضجرت واشتكت سوء العيش مع إسماعيل فقال لها إبراهيم: أبلغيه -أي: إسماعيل عليه السلام- أن يغير عتبه بيته، فإن كانت كذلك فلا كرامة لها ولا يحرص على التمسك بها.

(هلا بكرا تداعبها وتداعبك)

(هلا بكراً تداعبها وتداعبك) الاعتبار الثالث أن تكون بكراً لا ثيباً قد مسها أحد قبلك، فإن الله امتن على أهل الجنة بالحور العين وأنهن لم يمسهن أحد فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وهذه من أكبر المنن على المتزوج، فالمتزوج ينبغي أن يتخير البكر؛ لأنه إذا اقترب منها وهو أول واحد مسها دخل بسرعة إلى قلبها، بل يأسرها بعد البناء ويكون عندها هو الوحيد ولا تنظر إلى غيره، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر بذلك كما في البخاري فقال (يا جابر أتزوجت؟ قال: نعم! قال: تزوجت بكراً أم ثيباً؟ فقال: بل ثيباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وفي رواية: (تداعبها وتداعبك)، فبين له أن البكر يميل قلبها إلى الذي مسها أولاً، والذي يبني بها يكون أحب الناس إليها، فالبكر هي أولى النساء التي لا بد أن يتخيرها الرجل.

(تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)

(تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ينبغي أن تكون الزوجة ذات حسب أي: من عائلة أصيلة، ولا يقصد بحسبها أن تكون مرموقة المكانة بل ذات حسب أي: حسب الأصل، وتكون من أناس أصحاب دين. وقد وردت في ذلك أحاديث ضعيفة تشير إلى ذلك منها: (إياكم وخضراء الدمن: المرأة الحسناء التي منبتها منبت سوء)، حتى وإن كانت صالحة فلا يصح أن تقترب منها لأن العرق دساس، وإن كانت الأحاديث ضعيفة لكن لها شواهد تقويها، فلابد أن تبحث عن أصل أصيل صاحبة دين.

الأصل في النكاح التعدد

الأصل في النكاح التعدد إذا كان حكم النكاح الوجوب، وإذا كان لنا اعتبارات في الاختيار، فإن المرء قد أمر من قبل ربه أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، فللرجل أن يجمع من النساء أربعاً، وقد اختلف العلماء في الزيادة على ذلك، فمنهم من قال: له أن يجمع بين تسع من النساء، ومنهم من قال: يجمع بين اثنتي عشرة امرأة، ومنهم من قال: له أن يعدد مطلقاً. والصحيح الراجح أن المرء لا يحبس عنده من النساء إلا أربع لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]. وفي السنة أن غيلان جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أسلمت وتحتي عشر من النسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك أربعاً وفارق الباقي)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسك أربعاً ويفارق باقي النساء، وأيضاً معاوية بن نوفل أسلم وكان تحته خمس من النساء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارق واحدة منهن ويبقي على أربع. وقد يسأل سائل: إذا كان للمرء أن يجمع بين الأربع فهل حكمه في ذلك الإباحة أم هي للضرورة أم هو مستحب؟ وهل الأصل في النكاح التعدد أم الأصل في النكاح الاقتصار على واحدة؟ والإجابة على هذا السؤال يقال: الأصل في النكاح التعدد، بل هو مستحب محثوث عليه، فإن أرقى الناس وأفضل الناس وأكمل الناس مَنْ عدد، وما زالت العرب تفتخر بفحولة رجالها بكثرة النساء وكثرة الوطء لهن، وأنا أتحدى أي شخص يأتيني بسند ولو موضوع أن صحابياً مات وتحته امرأة واحدة، بل ما من صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكانت تحته على الأقل أربع نساء من النكاح وكثير من الإماء. وإليكم الأدلة على أن الأصل في النكاح التعدد حتى لا يكون هذا ادعاء كاذباً أو عار عن الأدلة! الدليل الأول: قول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فقوله: (فانكحوا) أمر، وأصل الأمر الوجوب، وأقل أحواله أن يكون للاستحباب، إذ إن أقل أحوال الوجوب أن يصرف إلى الاستحباب. الدليل الثاني: أن الله صدر الأمر بالتعدد ثم ثنى بالإفراد والاقتصار على واحدة، والتصدير يكون لما له الأهمية، فدل ذلك على أن الأصل في النكاح التعدد، قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، فقدم الأصل وأخر الفرع، ومقاصد الشريعة دائماً تفعل ذلك، فتقدم الأصول ثم تأتي بعد ذلك بالفروع. الدليل الثالث: قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، فجعل الاقتصار على واحدة مشروط بشرط، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط كالعلة للحكم، فإن الحكم يدور مع العلة حيث دارت، ومفهوم المخالفة فإن لم تخافوا أي: إن استطعتم أن لا تظلموا فارجعوا إلى الأصل وهو النكاح بالمثنى والثلاث والرباع. الدليل الرابع: أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا يختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل، فالله جل وعلا اختار لنبيه أن يعدد إلى التسع فمات وعنده تسع على ذمته، وتزوج أكثر من ذلك، وتسرى بـ مارية، فهذا هو الأكمل الذي اختاره الله جل وعلا له، وهذا هو فعل الصحابة، فما من صحابي إلا وقد عدد، فكان هذا هو الأكمل والأفضل؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم. الدليل الخامس: أن الإنسان إذا أمر بشيء فعليه أن يأتي منه ما استطاع، فالاستطاعة قد تكون أولية أو ثانوية إلى درجات عالية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح، وأمرنا الله بالتعدد {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فأعلى شيء بالامتثال للأمر هو: الأربع، وأقل منه: الثلاث، وأقل منه: الاثنتين، وأقل الأقل: أن يقتصر على واحدة، فكمال الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو التعدد. هذه أدلة متوافرة متضافرة تبين لنا أن الأصل في النكاح التعدد، ومن عنده دليل يخالف ذلك فليأتنا به، فالأصل في النكاح التعدد، ومستحب لكل ميسور قادر على النكاح أن يتقي الله في نفسه فيعدد، وأن يعف الأخوات المسلمات؛ لأن هذه هي حكمة التشريع، فالنساء الآن كثيرات والرجال في قلة، بل سيصل الأمر قبل يوم القيامة أن الرجل الواحد يكون قيم على أربعين امرأة، والإحصائيات الآن أن كل ثلاث أو أربع نساء لهن قيم واحد! فلا بد لكل من يسر الله له الآلة ووفقه ألا يترك هذه العبادة الجليلة، وليتق الله جل وعلا إن علم من نفسه أنه لا يظلم، وليسارع في هذه العبادة، ولتتق الله المرأة في زوجها، ولا تعوقه وتكون حجر عثرة أمامه إذا أراد أن يعف مسلمة، ولتؤثر بنفسها لأختها، ولا تستأثر بزوجها أنانية وطاعة لهوى نفسها، لا طاعة لربها. فالأصل في النكاح التعدد، وكل امرأة لا بد أن تصبر على ذلك، وتتق الله ولا تظهر غيرتها وتتبع هواها فتعرقل الرجل الذي استطاع أن يعدل بين اثنتين وتمنعه أن يتزوج الثانية أو الثالثة أو الرابعة.

شبهات متعلقة بالتعدد والرد عليها

شبهات متعلقة بالتعدد والرد عليها ظهرت شبهات حول أن الأصل في النكاح التعدد تلوكها الألسن، وأكثر من يلوكها النساء، ولنا أن ننظر فيها إن كانت حقاً فنسمع ونطيع، وإن أمكننا الرد عليها بالأدلة الناصعة البيضاء فلا بد لكل امرأة أن تخضع لذلك ولا تعوق زوجها.

شبهة استحالة التعدد في الزمن المعاصر والرد عليها

شبهة استحالة التعدد في الزمن المعاصر والرد عليها أول هذه الشبه: استحالة التعدد في هذا الواقع المعاصر، فإن سئلوا لم هذه الاستحالة؟ قالوا: عندنا أدلة من الكتاب والسنة باستحالة ذلك، أما من الكتاب فقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129]، فعلّام الغيوب بين لنا أن المرء لن يستطيع بحال من الأحوال أن يعدل، حتى ولو جاهد نفسه للعدل، فلن يستطيع العدل، فإذا لم يستطع العدل ظل الشرط موجوداً والله يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3]. والرد على هذه الشبهة القوية أن يقال: نعم! قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3]، ونحن نقول بهذه الآية فمن خاف عدم العدل وجب عليه أن لا يعدد؛ لأنه سيقع في الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، والله حرم الظلم على العباد كما حرمه على نفسه، أما إن كان الرجل يعلم من نفسه أنه سيعدل بين النساء فله أن يعدد. والعدل المقصود به في هذه الآية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3] هو عدل المبيت والنفقة والمسكن، والواجب هو العدل في النفقة والقسم والمسكن، كأن تسكن هذه في سكن وتسكن الأخرى في سكن، وكأن تبيت مع هذه ليلة وتبيت مع الأخرى ليلة مثلاً، فلابد أن يعدل فيكون لهذه ليلة أو هذه ليلة وهذه أسبوع والأخرى أسبوع حسبما يتفق الزوجان في مسألة القسم، ويعدل في النفقة، وفي حسن المعاشرة والتعامل، وفي السكن، كل هذا من باب العدل الذي أمر المرء أن يأتي به في هذه الآية، فالمقصود أن من استطاع أن يفعل ذلك فله أن يعدد فإن لم يستطع فليقف عند بابه ولا يتجرأ حتى لا يقع في المظلمة. أما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:129] فإن المقصود بها: العدل الباطني وهو ميل القلوب، وميل القلوب، لا يملكها إلا صاحب القلوب. ويجلي ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يحب عائشة حباً جماً، وكان يقسم بين نسائه حتى أنه لما قالت له عائشة: تحبني؟ قال: نعم! أحبك. قالت: ما دليلك على ذلك؟ فضرب بيده فوجد درهما فأعطاها درهماً قال: هذا الدليل على حبي لك، فحسبت أنها قد استندت بهذا الدرهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خصها به، فطاف النبي صلى الله عليه وسلم على النساء التسع فأعطى كل واحدة منهن درهماً، فقالت مترفعة عليهن: يا رسول الله! من أحب النساء إليك، فقال: التي أعطيتها الدرهم، فوقفت أمامهن تفخر وهي معها الدرهم وهن معهن الدراهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم هذه الدراهم قسمة عدل ظاهرة أما في الباطن فكانت أحب النساء إليه هي عائشة كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص قال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: لست أسأل عن النساء بل عن الرجال، قال: أبوها) فإن عائشة كانت أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنه في مرض موته كان يقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا اليوم؟) ففهم أمهات المؤمنين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يطبب عند عائشة فأذن له أن يكون عند عائشة، فهي أحب النساء إليه، ومع ذلك كان يقسم قسمة العدل، وكان يقول: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك -في النفقة والسكنة وحسن المعاشرة والملاطفة- فلا تؤاخذني فيما تملك) وهو الميل القلبي، وبذلك علم أن المقصود بهذه الآية: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا)) [النساء:129] الميل القلبي أما الأصل إن استطعت فلك أن تعدد.

شبهة أن الفقر عائق عن التعدد والرد عليها

شبهة أن الفقر عائق عن التعدد والرد عليها الشبهة الثانية: أن الفقر عائق عن التعدد، فإن من النساء من تقول: أنت لا تقدر أن تطعمنا، أتذهب لتحضر امرأة أخرى لتطعمها! اتق الله فينا، فأنت لا تكفي بيتك أصالة فكيف تفتح بيتاً آخر؟ وقد وافقهن الفقهاء في ذلك، فلم يجوزوا للفقير أن يعدد، وهذا فيه نظر؛ إذ إن الأدلة المتوافرة متضافرة على أن الفقير لا يحرم عليه التعدد، بل يسن له أن يعدد، ولعل الله أن يرزقه بها، وعندنا أدلة في ذلك وإن كانت ضعيفة لكن نستأنس بها مع الأدلة الصحيحة، فخير البشر على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاني من شظف العيش، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ما كان يوقد نار في بيته شهراً كاملا، وليس عندهم إلا الأسودان التمر والماء، وعنده تسع من النساء، بل خيرهن: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]. فدل ذلك على أن الفقر ليس بعائق عن الزواج والتعدد، والصحابة الذين حملوا الدين إلينا حتى جاءنا غضاً طرياً منهم من تزوج على فقرٍ مدقع، فهذا رجل كان بجانب النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فيها النظر وخفض، ثم وجد أنه لا طلب له فيها، فقال له الرجل: (يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجني إياها، فسأله أن يعطيها صداقاً، فقال: ما معي شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: التمس ولو خاتماً من حديد، قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: لو أعطيتها إزارك جلست بلا إزار، ما معك من القرآن؟ قال: البقرة وآل عمران، قال: زوجتكها بما معك من القرآن) يريد على تعليمك لها من القرآن. واستنبط العلماء من ذلك أن التعليم يجوز أن يؤخذ عليه أجرة، والمقصود أن النبي زوجه إياها وما معه إلا إزار لو أعطاها إياه لجلس بغير إزار، فبرغم ما كان عليه من فقر لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، بل أقره على ذلك. وجاء عن عمر بسند صحيح أنه قال: التمسوا الغنى بالنكاح. وفي حديث ضعيف يستأنس به أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! اشتدت علي الفاقة -أي: شكا الفقر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انكح)، وهو رجل فقير متزوج بواحدة، فذهب فنكح الثانية، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! اشتدت الفاقة، فأمره بالنكاح) فذهب وتزوج الثالثة وكذلك في الرابعة، فلما تزوج الرابعة كانت لها صنعة فعلمت الثلاث؛ فأصبح تاجراً كبيراً، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} [التوبة:28]، وقال أيضاً: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. فالصحيح أن الفقر ليس بعائق للنكاح؛ لأن أفضل البشر كان زاهداً فقيراً، ولم يكن عنده من المال شيء، وكان تحته تسع من النساء، فلا ينبغي أن تردد النساء: أنت لا تكفينا في بيتنا فلا يحق لك أن تفتح بيتاً آخر، فالذي رزقها سيرزق غيرها.

شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من التعدد والرد عليها

شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من التعدد والرد عليها الشبهة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق وسيد الخلق منع من التعدد، فكيف يتجرأ متجرئ ويبيح التعدد وقد منعه رسول الله؟ فهذا علي رضي الله عنه أراد أن ينكح الثانية، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يجمع بين فاطمة وأخرى تحته. و A أن ذلك حدث فعلاً، لكن دليلكم حق أريد به باطل، والرد على هذه الشبهة الواهية من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد إلى أن وصل إلى التسع، وهو القائل (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ولا يجوز أن أحب لنفسي أن أعدد وأمنعه عن غيري، فهذا بعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق أجمعين. أما الحديث الذي ذكر سابقاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منع علياً إلا لعلة أقوى من هذا، فإنه يحب لـ علي أن يفعل هذا، وأظهر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم علة منعه علياً رضي الله عنه وهما علتان: العلة الأولى: أن علياً أريد منه أن يتزوج من بنت أبي جهل، فقال رسول الله: (لا والله لا تجتمع بنت رسول الله مع بنت أبي جهل في بيت واحد)، هذه علة أولى، فهذا أعدى أعداء الله ورسوله وهو فرعون هذه الأمة فكيف تجتمع بنته مع بنت أفضل البشر على الإطلاق في بيت واحد أو تحت رجل واحد؟! العلة الثانية وهي الأقوى: أن المسألة خاصة بـ فاطمة ولا تعمم على غيرها بحال من الأحوال، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فاطمة قطعة مني يريبني ما أرابها) أي: يؤذيني ما آذاها، ومعلوم أنه لا يوجد في البشر من يساوي أو يداني منزلة الرسول عند ربه، فإذا غضب رسول الله من أجل فاطمة سيغضب على من هو سبب في إغضاب فاطمة، وهو علي، وإذا غضب رسول الله على علي غضب الله على علي من أجل غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلك. فهذه دلالة واضحة أن هذه خصيصة لـ فاطمة وتخصيصاً لرسول الله لا يستوي معه غيره، وبذلك يظهر جلياً أن مسألة علي ليست مسألة يتغنى بها الناس ليقولوا بعدم التعدد.

شبهة الضرر والرد عليها

شبهة الضرر والرد عليها الشبهة الرابعة: ادعاء أن التعدد يولد الضرر، ومعلوم أن الدين قرر أنه (لا ضرر ولا ضرار)، فالأدلة محفوظة عند النساء إلا أنها غير مفهومة، فتجد إحداهن تقول: أنا امرأة أغار، ولو علمت أن زوجي في الليلة الثانية سيبيت مع الأخرى قد أموت من شدة الغيرة! فنقول: لست أفضل من عائشة ولا أغير منها، فقد كانت رضي الله عنها وأرضاها ذات غيرة شديدة على رسول الله حتى أنها تجرأت في الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] فقالت: يا رسول الله ما أرى الله إلا يسارع في هواك. ومن المواقف التي تبين شدة غيرتها ما حدث معها لما سافرت مع رسول الله في أحد أسفاره، وكان معها حفصة، فقالت لـ عائشة: يا عائشة هلا ركبتي مكاني وأركب مكانك فتنظري إلى ما أنظر وأنظر إلى ما نظرت -وهذه حيلة من حفصة لما تعلم أن رسول الله يعجبه أن يجاري مركب عائشة ويداعبها-، فقالت عائشة: فاركبي مكاني وأركب مكانك، فركبت حفصة مكان عائشة وركبت عائشة مكان حفصة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بفرسه ليساير عائشة إذ هي أحب نسائه إليه، فنزلت عائشة ووضعت رجلها في الحشيش فقالت تدعو على نفسها بالموت: ليست حية أو عقرباً يلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً؟! فانظروا الغيرة إلى أي حد وصلت بها؟! تدعو على نفسها بالموت، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر بذلك وعدد عليه الصلاة والسلام. فالغيرة والضرر المدعى الذي يقع على المرأة يجعلنا نقول لها: إن كانت منصفة مخلصة لله جل وعلا فلتسمع لهذا الأمر الذي يكلف الله به عباده، فأي تكليف لا بد أن يكون فيه مشقة، لكن هو تحت إطار الاستطاعة، ولا يمكن أن يكون فوق الاستطاعة، فالله لا يكلف إلا بالاستطاعة وإن كان فيها كلفة وفيها مشقة. وهنا الله جل وعلا أمر المرأة بأن ترضى بأمر التعدد، وأن الرجل يجوز له أن يعدد أكثر من امرأة، وهذه طبيعة الرجل، فالرجل يمكن أن يتجزأ عاطفته كما يمكن أن يتجزأ قوته حتى في الميل الجنسي بعكس المرأة إذا مالت لرجل في الغالب لا تتبع غيره، كما أنها لا تميل كثيراً، وهذه طبيعة البشر التي خلقهم الله عليها، ولذلك كان من الواجب عليها أن ترضى بتكليف الله لها، فترضى بالتعدد، فإن علمت أن الله قد أمرها بهذا فتسمع وتطيع لله جل وعلا، كما ينبغي أن تنظر لأختها التي لو كانت هي في مكانتها، لتمنت أن تكون مثلما أرادت هي، وقالت: أؤثر بنفسي على أختي، ولعل الإيثار يقربني من ربي جل وعلا، وتشاركها هي في زوجها فيلدان من ينافح عن هذا الدين، وتقترب من ربها جل وعلا إن نوت رضا الله جل وعلا، وحتى لا تكون حجر عثرة لزوجها ليعف امرأة مسلمة تحتاج إلى رجل، كمن قتل زوجها في الجهاد، أو امرأة لم تتزوج قط، فهؤلاء النسوة من لهن؟ ومن سيكون خلفاً لزوجها الذي قتل في الجهاد؟ وهل هذا هو الإحسان مع من قتل شهيداً أن يترك أولاده وزوجته بلا عائل! وهذه المرأة قد تشتاق للرجل يوماً، وهذه طبيعة بشرية جبلية فمن لها إذاً؟! من لامرأة ملتزمة خبأت نفسها إرضاءً لله جل وعلا، فلا يراها أحد إلا أهلها، ولم يتقدم لها أحد؟ من لها إن لم يكن الملتزم الذي يريد الله ويرغب أن يعف المسلمة إرضاء لله جل وعلا؟! من للمرأة التي في خدرها أيتام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين)؟ من لها إن تركها الصالحون؟ وليس غير الصالحين إلا الذئاب فهل تترك فريسة لهم؟! فعلى النساء أن يتقين الله، وأن يراجعن أنفسهن، وأن يتعلمن أبواب الإيثار، ويتعلمن أبواب كمال الإيمان. ولذا فالمرأة التي تقف حجر عثرة لرجل يقول: أحتسب لله بزواجي من امرأة أرغب في إعفافها من أجل رضاه، أن في إيمانها زخم؛ لأنها لو كانت وقفت موقف إنصاف من نفسها أمام ربها لقالت: لو كنت مكانها لتمنيت ما تمنت، فلا بد للمرأة أن تتقي الله وتراجع نفسها. وختاماً أدعو كل رجل عنده يسار أن يتقي الله في نفسه، فينظر إلى امرأة مطلقة، أو امرأة قتل زوجها، أو امرأة في خدرها أيتام، فيسارع في نكاحها إرضاء للرب جل وعلا، أما إن كان دافعه الشهوة أو هوى فهذا يرجع أصلاً إليه؛ لأنه سيقع في المظلمة، أما إذا وقف مع نيته وعلم أنه ما يتقدم إلا لله جل وعلا فهذا الذي سيكون معه اليمن والبركة. وأختم بقصة حقيقية واقعة مع أخ لي، وهو رجل كان يعيش وزوجته على فقر في بيت ضيق، فعلم بامرأة طلقها زوجها ظلماً؛ لأنها (عقيم) لا تلد ولا ذنب لها، وكان له إن أراد الولد أن يتزوج بأخرى ويدعها معه، فيفعل السنة ويتزوج الولود الودود ويبقي على الأولى، فقال الأخ الصالح في نفسه: من لها؟ فاستخار الله وتقدم لها، وهو يعلم أن المرأة عقيم، وتزوجها لله، وليس لديه مال ولا درهم ولا دينار، فلما تزوجها حملت وهي عقيم، وقد أقر الأطباء أنها عقيم لا تلد، لكن الجزاء من جنس العمل، فالرجل صدق الله بنيته، فصدقه الله، بل إنه عند الزواج بها ما كان يجد المكان الذي يسكنها فيه، ثم فتح الله عليه وفتح بيتين، ويعيش بفضل الله سبحانه وتعالى مكتفياً بين الزوجة الأولى والزوجة الثانية! نسأل الله جل وعلا أن النساء يستفدن من هذه الكلمات، فيقفن مع أنفسهن ويراجعنها طلباً لرضا الله عز وجل، فإن وجدت المرأة في زوجها صدق النية، فينبغي أن تدفعه لما أراد، فقد يفتح له فيتزوج من تكون صالحة وتعينه على الطاعة، وتكون رفيقة لأختها في الجنة، في نعيم قد أخدمن الحور العين، فهن وصيفات لهن، والرجل صاحب الهمة العالية لا يرضى بامرأة واحدة فلا يرضيه إلا سبعون من الحور العين، نسأل الله أن يرزقنا ذلك.

الثبات والمداومة على الطاعات

الثبات والمداومة على الطاعات الثبات على الطاعات والمداومة عليها علامة من علامات قبول الأعمال عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا قبل الحسنة من العبد وفّقه لحسنة بعدها، فيجب على المسلم المداومة والحفاظ على كل عبادة ابتدأها ولو كانت قليلة في نظره، فكم من عملٍ يسيرٍ هو أفضل بكثير من الأعمال العظيمة المنقطعة، وذلك بسبب الديمومة، فقليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع.

الثبات على الطاعة وفضله

الثبات على الطاعة وفضله

التحذير من التقاعس عن الطاعة بعد ابتدائها

التحذير من التقاعس عن الطاعة بعد ابتدائها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني الكرام! تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، ويسر لنا ولكم طريق الهدى، ونسأله الرفعة في الدرجات عنده جل وعلا. إن لقبول الأعمال عند الله جل وعلا علامات، منها: الزهد في الدنيا والمسارعة في أعمال الآخرة بترك الدنيا خلفك ظهرياً والإقبال على الله جل وعلا، ولسان حالك يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، وطرح كل الشهوات والشبهات خلفك ظهرياً. فالوصول إلى القمة أمر سهل، وقد يكون صعباً نوعاً ما، لكن الاحتفاظ بالقمة أمر أصعب، والعبد إذا ارتقى وفُتح له باب من الخيرات، فهذا فتح من الله جل وعلا، والأمر الأصعب من ذلك هو الثبات على هذا الخير، ولهذا رغب الله سبحانه وتعالى أهل الطاعات بالثبات على الصالحات والعبادات حتى الممات، وعاب على أقوام تركوا العبادات خلفهم ظهرياً بعدما فتح الله عليهم بها، قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) [النحل:92]، فعاب الله على من نسجت غزلها بقوة وبحسن وبشدة، ثم بعد هذا التعب والعناء جعلته هباءً منثوراً، وهذا وصف دقيق لمن يجتهد في العبادة ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً أو شهراً ثم بعد ذلك يتوانى ويتقاعس والعياذ بالله. وعاب الله تعالى أيضاً على أقوام سبقونا باجتهادهم في العبادة ثم بعد ذلك ولوها ظهرياً، قال الله تعالى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فبعدما اجتهدوا في الطاعات تركوها وتوانوا وتقاعسوا عن المسارعة في الخيرات فقست قلوبهم. وقال جل وعلا منكراً على النصارى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) [الحديد:27]، و (إلا): استثناء منقطع بمعنى: لكن ابتغاء، فهم ما فعلوا ذلك إلا مسارعة واجتهاداً في عبادة الله، قال: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، فتقاعسوا عن هذه الطاعات، قال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أناس كانوا يجتهدون في الطاعات ثم يتقاعسون عنها، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لـ عبد الله بن عمرو بن العاص ناصحاً له: (لا تكن كفلان، كان يقوم من الليل ثم تركه)، ومعلوم باتفاق علماء المسلمين أن من حفظ القرآن ثم نساه بتفريط منه فإنه آثم عند ربه جل وعلا والعياذ بالله. وكانت عائشة تصف عبادات النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين بقولها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الطاعة فإن فاته من حزبه شيء -أي: من قيام الليل أو قراءة القرآن- صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة)، وذلك حتى يثبت على الخير فلا يفوته، وكان من دأبه صلى الله عليه وسلم: أنه إذا ابتدأ طاعة لا يتركها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم شغله تقسيم الصدقة عن سنة الظهر، فأقبل عليه العصر فصلى الفرض ثم صلى بعده سنة الظهر قضاءً حتى لا يترك هذه العبادة التي ابتدأها، ولذلك قال بعض العلماء: بأنها سنة، والصحيح الراجح: أنها ليست بسنة، بل هي خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان من دأبه صلى الله عليه وسلم: عدم ترك طاعة ابتدأها حتى يموت، وهذا هو دأب الصالحين، ولذلك حرص الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر، فقد حثهم الله سبحانه وتعالى عليه وحثنا كذلك معهم.

الأسباب التي تساعد العبد على الثبات على الأعمال الصالحة

الأسباب التي تساعد العبد على الثبات على الأعمال الصالحة والأسباب التي تيسر للعبد الثبات على الأعمال الصالحات أسباب إيجابية وأسباب سلبية: أما الأسباب السلبية؛ فلا بد أن يتجنبها المرء، وأشد وأخطر هذه الأسباب هو الشرك بالله، فهو من الأسباب التي تعطل مسيرة الثبات على الأعمال الصالحات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، وقال الله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217]، فالشرك بالله من محبطات الأعمال والعياذ بالله، وتجنب الشرك من الأسباب الميسرة للثبات على الأعمال الصالحات. ومن الأسباب السلبية التي يجب تجنبها كذلك: الرياء والعياذ بالله، فإنه من الأسباب الصارفة عن الثبات على الأعمال الصالحات، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به) أي: فضحه إلى يوم القيامة ولم يثبته على طاعة؛ لأنه لم يفعلها لوجه الله جل وعلا. وروى النسائي وأبو داود والبغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليُرى مكانه، -أي ذلك في سبيل الله؟ - أو قال: ما له يا رسول الله؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ليس له شيء. فقام الرجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليرى مكانه، ما له؟ قال: ليس له شيء -قالها ثلاثاً- ثم قال في الثالثة: ليس له؛ إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه وابتُغي به وجه الله جل وعلا)، فالرياء من محبطات الأعمال ومن العوائق على الثبات على الأعمال الصالحات، فإن أنشأ عبادة رأى فيها مكانه عند الناس والعياذ بالله، أو طرح مكانه عند الله جل وعلا، فإنه لا يثبت على هذه الطاعة، بل تجر له المعاصي وتطرح عنه الطاعات. أما الأسباب الإيجابية التي تثبت المرء على الأعمال الصالحات، وتيسر له أن يسارع في الخيرات عند رب البريات، فأولها وأهمها: هو الإخلاص لله جل وعلا: قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5]، وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، وفي الصحيحين كذلك: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) نعوذ بالله من ذلك. ومن الأسباب الإيجابية أيضاً التي تثبت العبد على الصالحات: القصد في الطاعات؛ لأن الهمة يمكن أن تأتي للعبد في ليلة من الليالي فيقوم تلك الليلة في طاعة الله ثم يجلس بجانب هذه الليلة شهراً بعيداً عن طاعة الله جل وعلا، وهذا ليس ممدوحاً عند الله، بل لو قام بركعة واحدة كل ليلة طيلة الشهر ولو لعشر دقائق، لكان أفضل عند الله سبحانه وتعالى من هذا الرجل الذي قام ليلة يجتهد فيها ثم مكث شهراً متقاعساً عن عبادة الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسددوا وقاربوا، وعليكم بشيء من الدلجة)، وقال أحدهم: ما رأيت مثل النار نام هاربها، وما رأيت مثل الجنة نام طالبها. كذلك من الأسباب الإيجابية التي تساعد العبد على الثبات على الأعمال الصالحات: الدعاء الذي هو مخ العبادة، أو كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، فالعبد بتضرعه وتذلله لله جل وعلا بأن يثبته على الحق يجعل الله يثبته على الأعمال الصالحات، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، أي: في القبر. ومن الأسباب الميسرة أيضاً للثبات على الأعمال الصالحات: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم على الأعمال الصالحات وأن يتقبل منا ومنكم.

بدعة الاحتفال بالمولد النبوي

بدعة الاحتفال بالمولد النبوي دين الإسلام دين شامل كامل؛ فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين كل الدين، وما لم يفعله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس من الدين، ومن ذلك الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يفعله لا هو ولا صحابته ولا التابعون، وإنما أحدث بعد القرون المفضلة.

معنى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبيان متى نشأ

معنى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وبيان متى نشأ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن القلب يعتصر ألماً مما يرى من تحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: الفاسق، أو الفويسق يتكلم في أمر العامة). فالمقصود من هذا الحديث العظيم هو: انقلاب الأحوال، فقد انقلبت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبح الذين يرفعون أصواتهم بالاحتفال بالموالد، ويعملون أعمالاً من الصلاة وغيرها يدعون أن هذه هي السنة، وأن هذا هو حب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا هو توقير للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن النهي عن ذلك من أشنع البدع، بل من التعدي على شرع الله جل وعلا! لذا فقد رأيت أن أعرج سريعاً على مسألة الاحتفال، تأصيلاً علمياً وليس وعظياً، فأبين فيه هذه المسألة: ما معنى الاحتفال بالموالد؟ ومتى نشأ هذا الاحتفال؟ هل هو في القرون الخيرية، أم بعدها؟ ثم أبين حكم هذا الاحتفال، ثم أذكر الشبه التي قيلت حول هذا الاحتفال، ثم نرد على أهل البدع بالتأصيل العلمي لا بالعاطفة والوجد. فأقول: الاحتفال بالموالد معناه: الاجتماع مع إظهار السرور والفرح، والتوسعة من إطعام الطعام وغير ذلك، مما قد يحدث في يوم مولد نبي أو ولي. ونشأة هذا الاحتفال لم يكن في القرون الخيرية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). على شك في الثالثة، بل هي من البدع التي جاءت بعد هذه القرون التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فقد نشأت في القرن الرابع، وكان أول من أحدثها هم العبيديون، ويسمون بالباطنيين، والفاطميين هؤلاء الزنادقة الذين أرادوا إفساد الدين تحت ستار حب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يظهرون الكفر، بل كانوا متوارين متسترين. هذا وقد أحدثوا في مصر ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد علي، ومولد فاطمة، ومولد الخليفة في ذلك الوقت، ثم توالت البدعة، وأخمدت السنن بانتشار هذه البدع.

حكم الاحتفال بالمولد

حكم الاحتفال بالمولد هل الاحتفال بالمولد سنة متبعة، أم هو بدعة منكرة تموت السنن بسببها؟ لا بد أن نقرر قاعدة مهمة أولاً، ثم نتكلم على حكمه، وهذه القاعدة هي: هل إظهار السرور والفرح في يوم مخصوص هو من القربات أم هو من الأمور المباحات؟ تأصيل هذه القاعدة هو الذي سيفصل وسيبين لنا هل الاحتفال بمولد نبي سنة، أم بدعة؟ إن إظهار السرور والفرح من القربات والعبادات التي تختص بأيام خصها الله جل وعلا، وأمر بها، وحث عليها، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة، فوجدهم يلعبون في يومين، فأنكر ذلك عليهم، فسألهم عن هذين اليومين، فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى، والفطر). ومحل الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم إظهار السرور والفرح، والاجتماع وإطعام الطعام في يومين غير عيد الفطر وعيد الأضحى، فدل ذلك على أنه ليس من المباحات، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينكر على شيء مباح، ومن باب أولى ما كان من القربات والعبادات، ولذلك قال: (أبدلكم الله خيراً منهما: عيد الفطر، وعيد الأضحى). فهذا التأصيل يبين لنا أن إظهار السرور والفرح في يوم مخصوص من القربات العبادات.

الأصل في العبادات التوقيف

الأصل في العبادات التوقيف وإذا أصلنا ذلك بالدليل فإنه يستلزم أن نؤصل أصلاً ثانياً تابعاً لهذا الأصل، ألا وهو: إن كان من القربات والعبادات، فهل القربات والعبادات توقيفية، بمعنى: أن الأصل فيها المنع، أم هي جائزة لأي أحد بأن يتعبد الله بأي شيء يريد؟ الصحيح والراجح في ذلك: أن الأصل في العبادات التوقيف، فإذا قلنا: إنها عبادة، فلا بد من قول الله أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ أننا إذا أصلنا بأن العبادات الأصل فيها التوقيف، أي: الأصل فيها أن يتبع فيها الوحي: كتاب أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد من قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم. وأقوى الأدلة وأصرحها على ذلك: قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. إذاً: فالدين لا بد أن يأذن به الله، والشرع لا بد أن يشرعه الله جل وعلا، إما في كتابه وإما على لسان نبيه، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وعلى هذا فالله لم يأذن بهذا الاحتفال في كتابه، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقد يأتي متنطع فيقول: لكن الله تعالى لم يقل: وما سكت عنه النبي فلا تفعلوه. فنقول: نعم، لكن الله قد قال ذلك ضمناً، ويتضح ذلك إذا ضممنا دلالة هذه الآية مع دلالة الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد). وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، فمن أحدث في هذا الدين الذي أتيتكم به شرعاً ووحياً، وفعل فعله لم آتي بها، فهو باطل مردود على صاحبه. إذاً: المسكوت عنه في العبادات لا بد أن نجتنبه؛ لأنه ليس من الدين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا)، أي: أحدث وأتى بأمر الذي لم آت به، فهو بدعة مردودة على صاحبها، وهذه كلها أدلة من الأثر. وأما من النظر: فإن العبادة والقربة قد عرفها أهل العلم تعريفاً جامعاً مانعاً، فقالوا: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. وما أحبه الله لا نعرفه إلا عن طريق الوحي؛ لأننا مأمورون بأن نحب ما أحبه الله جل وعلا. هل جاءنا عن طريق الكتاب أو السنة الاجتماع والاحتفال بالمولد؟ A لا والله. إذاً: هذا العمل لا يحبه الله جل وعلا، وأكون متنطعاً لو قلت: إن هذا العمل يحبه الله، فهل أوحى الله إلي بذلك؟! وهل أوحى لمن قال: إن الله يحب هذا الاحتفال وأمر به؟ نقول: لا والله ما أمر الله به، إنما هو مردود عليك؛ فإن الله لو أحبه لأمر نبيه أن يأمرنا بأن نحتفل به، وأن نفعل هذا الاحتفال بهذه الطريقة التي يفعلونها. إذاً: التأصيل الأول: يبين لنا جلياً أن الاحتفال قربة وعبادة تختص بأيام خصها الله جل وعلا، وأمر بها وحث عليها. والتأصيل الثاني: يبين لنا أن كل عبادة لا بد لها من دليل، ولا دليل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي.

الأدلة على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي

الأدلة على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي فإن قيل: ما هي الأدلة التي تدل على حرمة الاحتفال بالمولد النبوي؟ فنقول: الأدلة على ذلك كثيرة من الأثر ومن النظر. أما من الأثر: فقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ} [آل عمران:31]، أي: إن كنتم تتقربون إلى الله بمحبته وبمحبة رسوله فعليكم باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاحتفال، ولو كان من سنته لعمله الصحابة أو عمله التابعون، أو عمل به الذين تابعوهم بإحسان إلى يوم الدين. وأيضاً: قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]، فهل أمر الرسول بالاحتفال بمولده؟ وهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاجتماع له، وإطعام الطعام، وفعل ما يُفعل احتفالاً بمولده؟ A لا والله ما أمر الرسول بذلك! فنحن مأمورون بأن نأتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نبتدع في دينه؛ لأن الله جل وعلا قال منكراً على النصارى الذي يجتهدون في العبادة بدون أدنى دليل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. أيضاً من الأدلة الأثرية: ما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). قوله: (أحدث) أي: يتعبد لله بعبادة لم يأت بها، ولم يأمر بها في كتابه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والاحتفال بالمولد لم يأمر الله به في الكتاب، ولم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، فهو إذاً بدعة ضلالة مردودة على صاحبها. ومن الأدلة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية قال: (وكل ضلالة في النار). فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي)، أي: ألزمكم أن تأتموا بسنتي، أن تستنوا بسنتي ولا تتعدوها، وأن تستنوا بسنة أصحابي، ولذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنة بعد سنته إلا سنة الصحابة رضوان الله عليهم، وبالأخص الخلفاء الراشدين، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فهل الخلفاء الذين هم أخلص لرسول الله، وأحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتبع لسنته، وأطوع لأوامره احتفلوا بمولده؟ وهل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل فعل ذلك عمر؟ وهل فعل ذلك عثمان؟ وهل فعل ذلك علي بن أبي طالب؟ وسعد بن أبي وقاص؟ والزبير وبقية العشرة المبشرين بالجنة؟ فإذا لم يفعلوا، ألا يسعكم ما وسع الصحابة؟ وهل أنتم أفقه بشرع رسول الله من صحابة رسول الله؟! وهل أنتم أخلص حباً لرسول الله من صحابة رسول الله؟ لو كان خيراً لسبقونا إليه: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف إن كنتم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان فأنتم وأنفسكم، وحسابكم على الله جل وعلا، وإن قلتم: لا، فيسعكم ما وسع الصحابة، فاجلسوا كما جلسوا، واحتفلوا كما احتفلوا بمولده صلى الله عليه وسلم، وسنبين كيف احتفلوا بمولده عليه الصلاة والسلام. ومن الأدلة التي تبين حرمة الاحتفال بالمولد النبوي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فالعلاقة بين هذا الحديث وبين الاحتفال بالمولد النبوي علاقة وطيدة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً منكراً: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، وفي رواية: (حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول اللهَ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن). أي: فمن غير هؤلاء الناس؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم). بل وحشر معهم، والنصارى هم الذين اخترعوا وابتدعوا في دينهم عيد ميلاد المسيح، ونحن إذا احتفلنا بعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فنكون قد تشبهنا بهم، ووقعنا في النهي الصريح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فإن هذا نهي صريح، وهو خبر يراد به الإنشاء، أي: لا تتشبهوا بهؤلاء. وأما من النظر فمن وجهين: الوجه الأول: أن إيمان العبد لا يستقيم إلا بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والعبد إنما يتقرب إلى الله بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي قال -كما في الصحيحين- (ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص على أن يرشد الأمة إلى ما ينفعها وإلى ما يقربها إلى الله جل وعلا كما بين ذلك أكثر الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً يقربهم إلى ربهم إلا ودلهم عليه، وما ترك شراً يبعدهم عن ربهم إلا حرم عليهم ذلك الشر، وأرشدهم إلى البعد عنه. فهل يعقل أن النبي الكريم لا يرشد الأمة إلى تعظيمه ومحبته حتى يتقربوا بها إلى الله جل وعلا؟ فلو كان الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من مظاهر محبته ولم يرشدنا إليه فقد قصر صلى الله عليه وسلم وحاشاه! ولو كان الاحتفال بمولد النبي يدل على محبة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قصر أبو بكر في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قصر عمر وعثمان وعلي. فلما لم يُبلِّغ النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدنا إلى ذلك، ولما لم يفعل الصحابة ذلك دل على أنه ليس من مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماع وإطعام الطعام والاحتفال بالمولد النبوي على هذه الطريقة المبتدعة المحدثة. الوجه الثاني: باب سد الذرائع، وحسم المادة، وإغلاق الوسائل إلى المحرمات، فإن الاحتفال بالمولد النبوي يؤدي إلى اختلاط النساء والرجال، وهذا يفضي إلى مفسدة عظيمة، ويفضي إلى محرمات منكرة من وجوه: الوجه الأول: اختلاط الرجال بالنساء. ويُعرف هذا في مصر التي هي من أكثر البلاد التي تعرف الموالد، فإنه يشتهر فيها اختلاط النساء بالرجال، مع شرب الدخان، والرقص والتمايل، والكلام الذي يغضب الرب جل وعلا، وهذا بدافع الاحتفال بمولد النبي، ومحبة وتعظيم النبي والولي. الوجه الثاني: أنه ينتج عن هذه الاحتفالات الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعة من مرتبة النبوة إلى مرتبة الربوبية. فهم في يوم الاحتفال بالمولد النبوي يأتون بالقصائد والمدائح، ويغلون في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). ولما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا. أو قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان). فمنع من الإطراء والغلو فيه صلى الله عليه وسلم. ولذلك تجد في الاحتفالات القصائد والمدائح التي فيها الغلو برسول الله إلى مقام الربوبية، بل إلى مقام الألوهية، وقصيدة البردة شاهدة على ذلك، وكثير منهم يتلو هذه القصيدة أمام الناس دون أدنى حياء من هذا الشرك المميت، يقول صاحب البردة: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم قال ابن رجب معقباً على قول هذا الرجل: ما ترك لله شيئاً! قوله: (من جودك الدنيا وضرتها) أي: أن الدنيا والآخرة -في زعمه- من جود النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ومن علومك علم اللوح) أي: اللوح المحفوظ والقلم، فأين علم الله جل وعلا؟! وأين ملك الله جل وعلا؟! فهذا غلو يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الربوبية، بل إلى الإلهية، ناهيك عن أنهم يقولون: بأن النبي لم يخلق من طين، فهو ليس كالبشر، بل خلق من نور، إلى آخر هذه المفاسد التي تصل بهم إلى الشرك، فهم يشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويرتقون به من منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية. الوجه الثالث: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقيره ومحبته لا تظهر إلا في يوم واحد، وهو اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الاحتفال في شهر ربيع من كل عام تظهر محبة النبي، ويظهر تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره بإقامة السرادقات، وإطعام الطعام وإنشاد هذه القصائد والمدائح، ثم بعد ذلك لا سنة تتبع، ولا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا توقير لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إذا جئت لأحدهم وقلت له: قال رسول الله كذا وكذا. فإنك تجده يضرب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، ويأخذ بقول شيخه والعياذ بالله! فأين محبة رسول الله؟ وأين تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وأين توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذه الأدلة الأثرية والنظرية تحرم الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة: الاجتماع في المساجد، وإطعام الطعام، وإنشاد القصائد والمدائح، واختلاط النساء بالرجال.

شبه المجيزين للموالد، والرد عليها

شُبه المجيزين للموالد، والرد عليها وحتى ندحض شبه هؤلاء المبتدعة نقول: بعد إمعان النظر وجدنا أن لهم شبهاً يتشبثون بها، فمن هذه الشبه: الشبهة الأولى: قالوا: الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، لكنها بدعة حسنة. وهذه شبهة أوهى من بيت العنكبوت، والرد عليها هين، فإن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة). و (كل) هنا نص في العموم، سواء كانت بدعة حسنة، أو سيئة عندكم، فكلها ضلالة. (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي البدعة ضلالة، وهم يقولون: هناك بدعة حسنة! فقد خالفوا رسولهم صلى الله عليه وسلم، فليتقوا الله وليعظموه، وليعظموا قوله: (كل بدعة ضلالة)، وقوله: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد). أي: باطل، وهذا الاحتفال ليس منه، وما فعله الصحابة الكرام، ولا فعله رسول الله ولا أمر به، فهو ليس من الدين، بل هو بدعة، وكل بدعة ضلالة. الشبهة الثانية: وهذه شبهة تحتاج إلى إعمال نظر، فقد قالوا: قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم احتفالاً شكراً لله على مننه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء، فسألهم عن هذا الصيام؟ فقالوا: يوم نحتفل به -فالاحتفال على منة الله شكراً لله- لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم). فاحتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك اليوم بأن صامه، شكراً لله على نجاة موسى عليه السلام. فنقول: نعم، هذا حقيقة، ولن نتحدث معهم فقهياً، هل صوم يوم عاشوراء كان قبل ذلك في مكة أم لا؟ وذلك للخلاف المشهور. ولكن نتنزل معهم فنقول: الرد عليهم من وجهين: الوجه الأول: من الذي فعل ذلك؟ أليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله -على قول بعض الأصوليين- مشرع، وعلى قول جمهرة من أهل الأصول هو ناقل للشرع. فإذا صام بوحي من الله جل وعلا فهل يكون ذلك بدعة؟ حاشا لله! وإنما هذه أصبحت سنة، وأصبح شرعاً أوحاه الله إلى رسول ففعله، فنحن نقتدي برسول الله؛ لأن هذا وحي من الله وهو شرع، ثم هل رسول الله احتفل وجمع الناس وأطعم الطعام كما يفعلون؟ فالفارق بين صيام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء وبين فعلهم بعيد؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا بوحي من الله، وهم فعلوه بوحي من الشيطان، والفارق كما بين السماء والأرض، فرسول الله إذا فعل فقد سن، وهذه سنة لا بد أن نتبعها. الوجه الثاني: نتنزل معهم أيضاً فنقول لهم: إذا كان قد احتفل رسول الله، فنحن نقول لكم: احتفلوا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما احتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاة موسى، لكن لا تتعدوا احتفاله. فكيف احتفل صلى الله عليه وسلم؟ صام، فصوموا أنتم يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم احتفالاً، ولا تتعدوا احتفال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تكونوا قد اقتديتم برسول الله، بل ولكم في ذلك أصل من الشريعة، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين، فسئل عن ذلك فقال: (ذلك يوم ولدت فيه). فاحتفل بمولده في كل السنين، لكن بالصوم بنية الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، ولك في ذلك أصل من الدين، ولن تكون مبتدعاً، بل ما تعديت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما احتفل به. الوجه الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم لو كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا احتفالاً، وأنه يصح لهم الاحتفال بمولده، وإطعام الطعام والاجتماع في المساجد ونثر القصائد والمدائح لفعلوا ذلك؛ وهم أولى بكل خير، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. الشبهة الثالثة: جاء في الصحيحين أن أبا لهب لما بشر بمولد محمد صلى الله عليه وسلم أعتق سهيلة أمة له، فرآه بعض أهله في رؤيا فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: ما رأيت خيراً منذ فارقتكم، إلا أن الله خفف علي بعتقي بـ سهيلة، أو بعتقي لهذه الأمة. فقالوا -وانظروا إلى دقة النظر، وشبه إبليس-: هذا كافر احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فأعتق أمته، فشكر الله له هذا الاحتفال فخفف عنه العذاب، فكيف بالمسلمين؟! وهذه شبهة شديدة شيطانية. ونجيب عليها من أوجه: الوجه الأول: من الذي روى هذا الحديث؟ أليس الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين رووا هذا الحديث؟ فهل هم أفقه بهذا الحديث من الصحابة؟! فلو فقه الصحابة من هذه الرواية أنه يصح الاجتماع والاحتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه، وعلى هذا نقول لهم: عندما لم يفقهوا ذلك يلزمكم أمران: الأمر الأول: أنهم أفقه من الصحابة، فهل يقرون بهذا؟ فلو أقروا فقد كذبوا وأتوا بهتاناً وزوراً! فإن هؤلاء أنزل الله عدالتهم من السماء. الأمر الثاني: أنهم أجهل من الصحابة، وهذا هو الحق. إذاً يسعهم ما وسع الصحابة، والصحابة لم يفعلوا ذلك. الوجه الثاني: أن أبا لهب لم يعتق جاريته لكونه محمد رسول الله، وإنما أعتقها لأنه بشر بولد، وإلا فهو لما بعث رسول الله عاداه وكفر به. فإذاً: كان عتقه للولد لا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون البنات، ويئدون البنات، فلما بشر بولد أعتق للولد، لا لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع الأمر إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا. فإذاً: قياسهم هذا قياس مع الفارق. الوجه الثالث: نتنزل معهم، ونقول: إن الله قد خفف له ذلك لاحتفاله، فهل كل عام يأتي بعبد ويعتقه؟! أو كان يأتي بأمه يعتقها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم؟! ما حدث ذلك، فأنتم خالفتم حتى الكافر. فقياسكم مع الفارق، فأنتم كل عام تقفون وتجتمعون من أجل هذا الاحتفال، فأصبح القياس قياساً مع الفارق، بل هو قياس باطل. الوجه الرابع: أنها رؤية منام، والأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنام.

بيان التعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم

بيان التعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون باتباع سنته، قال الله تعالى ممتحناً الذي زعموا حبه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فإن أردتم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم فوقروا سنته، وعظموا سنته، وافعلوا ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا تتنطعوا بعيداً عن السنة وتقولون: هذا تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا آخر ما مررنا عليه من أقوالهم وشبههم التي طرحوها، وقد رددنا رداً علمياً، وأصلنا تأصيلاً واضحاً لهذه البدعة المنكرة المميتة للسنة، ويخلص بنا الأمر إلى أن الاحتفال بالمولد النبوي من إطعام الطعام، والاجتماع في المساجد، وإنشاد القصائد والمدائح بدعة منكرة، مأزور صاحبها غير مأجور، والسنة في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أن نصوم كل يوم إثنين.

زاد المسافر

زاد المسافر الإنسان في سفر مستمر إلى الله جل وعلا منذ أن خلق إلى أن يصل إلى مستقره في الجنة أو في النار، والمسافر إلى الله يحتاج إلى زاد يوصله إليه، وأهم زاد يحتاج إليه هو الزهد في الدنيا، والهمة العالية إلى ما عند الله، والاجتهاد العظيم في الطاعة، والمداومة على الأعمال الصالحة، والافتقار إلى الله تعالى، وامتلاء القلب بمحبته سبحانه.

السفر إلى الدار الآخرة

السفر إلى الدار الآخرة

الأدلة التي تثبت السفر للدار الآخرة

الأدلة التي تثبت السفر للدار الآخرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي, هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حط رحالهم إلا في الجنة أو النار, لأن الدنيا ليست لهم بدار مقام، وليست هي الدار التي خلقوا لأجلها, قال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقال جل في علاه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]. وقد صور لنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حال المؤمن في هذه الدنيا الزائلة الفانية كما في الصحيح عن ابن عمر أنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه -موضحاً ومبيناً مشقة السفر وطوله-: آه من طول الطريق وقلة الزاد. أخي المسلم: إنك في هذه الدنيا الفانية الزائلة مسافر إلى ربك, وراحل إليه، وستقف أمامه لا محالة، وسيكلمك وليس بينك وبينه حجاب. واعلم أخي الكريم أن كل مسافر له أحوال, فالمسافر إلى الشيطان له أحوال, والمسافر إلى الرحمن له أحوال, جعلنا الله وإياك ممن يسافرون إلى الرحمن.

أهم زاد يحتاجه المسافر إلى ربه

أهم زاد يحتاجه المسافر إلى ربه إن المسافر إلى ربه جل في علاه يهيئ الزاد الذي يوصله إلى رضا ربه وجناته، وأهم ما يحتاج إليه في هذه الدنيا هو الزهد فيها, والانصراف عنها, وعدم الرغبة فيها, طلباً لما هو أفضل منها.

الآيات القرآنية التي تذم الدنيا والرغبة فيها

الآيات القرآنية التي تذم الدنيا والرغبة فيها إن المسافر إلى ربه جل في علاه يعلم أن الله قد ذم الدنيا والرغبة فيها, ومدح الزهد فيها والتقلل منها, فقال جل في علاه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، وقال جل في علاه: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26]، وذم الله عز وجل أهل الدنيا الذين تشبثوا بها وتركوا الآخرة، وآثروا الذي يفنى على الذي يبقى، فقال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21].

الأحاديث النبوية التي تذم الدنيا وتحتقرها

الأحاديث النبوية التي تذم الدنيا وتحتقرها لقد بين النبي الكريم أن زاد المسافر إلى ربه هو التقلل من هذه الدنيا ثم كشف لنا عن حقارة هذه الدنيا، حيث مثلها بالشاة الميتة التي لا تساوي عند الإنسان شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (والله لا الدنيا أهون على الله من هذه عليكم)، وفي مسلم أيضاً عن المستورد بن شداد رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بمَ يرجع)، وروى الترمذي -بسند مقارب- عن سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) فهذه الدنيا دنية، وجيفة لا يتجمع حولها إلا الكلاب التي تتجمع حول الجيف. وفي الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلما) أي: أن الدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، وهي مع ذلك ملعونة وملعون من شغفها حباً وحام حولها. فإذا شق الزهد على المسافر واشتد عليه الأمر الذي يسافر به إلى ربه، وخطفته الدنيا بشهواتها وزينتها فعليه أن يتذكر كيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم, فهو أسوته وقدوته صلى الله عليه وسلم, فلقد كانت حياته من الزهد في الدنيا والتقلل منها ما يكون نبراساً لكل مسافر إلى ربه جل وعلا.

زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا

زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا جاء في صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى لا يجد من الدقل -أي: التمر الرديء لا الجيد- ما يملأ بطنه). وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم). كيف لا وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي في صاع من تمر أو صاع من شعير؟ إن الله الذي اختار لنبيه أن يكون سيد المرسلين وإمام المتقين، قد اختار له أفضل حياة، ألا وهي الزهد في الدنيا والتقلل منها, فكان صلى الله عليه وسلم -من زهده في هذه الدنيا الفانية- ينام على الحصير فيظهر أثره في جسده الشريف, فدخل عليه عمر فقال: (يا رسول الله! كسرى وقيصر ينامون على الحرير، وأنت رسول الله -أي سيد الخلق أجمعين- تنام على الحصير! فقال صلى الله عليه وسلم -يعلم عمر الزهد في الدنيا- أما ترضى يا عمر! أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟). وفي مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها كساءً ملبداً -أي: مخرقاً مرقعاً- وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين.

صور من زهد الصحابة في الدنيا

صور من زهد الصحابة في الدنيا وهكذا كان حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده بعدما فتحت الأمصار وأخذت كنوز كسرى وقيصر يقومون الليل ويتزهدون في هذه الدنيا، فقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يقوم الليل كله، ثم ينظر إلى الدنيا ومتعتها وزينتها وزخارفها, ويقبض على لحيته ويبكي ويقول: يا دنيا! غري غيري، طلقتك ثلاثاً! فليكن أخي الكريم هذا حالك. أيها الراحل إلى ربك! إن أردت الوصول إلى الله فكن زاهداً في الدنيا، مقبلاً على الآخرة، قد آثرت الباقي على الفاني. إن لله عباداً فطناً طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا

الهمة العالية والاجتهاد العظيم من أنواع زاد المسافر

الهمة العالية والاجتهاد العظيم من أنواع زاد المسافر أخي المسافر إلى ربه! اعلم أن زاد المسافر هو: الهمة العالية والاجتهاد العظيم, فالمسافر إلى ربه يبذل الجهد ويستفرغ طاقته في سبيل إرضاء ربه جل وعلا، فهو صاحب همة عالية, يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل الغاية المأمولة, وتحقيق البغية المطلوبة؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره, وأن اللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة, ولله در من قال: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال. واعلم أخي المسافر! أن النعيم لا يدرك بالنعيم, وأن من آثر الراحة فاتته الراحة, وبحسب الجد والاجتهاد وتحمل المشقة تكون اللذة والفرحة, فمن جد وجد, ومن طلب العلى سهر الليالي. لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا لقد كان سيد المجتهدين وإمام المرسلين يجد ويجتهد في طلب الله ورضوانه جل في علاه, فكان يقوم الليل كله إلا قليلاً، حتى تورمت قدماه, ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً).

صور من اجتهاد الصحابة وهممهم العالية

صور من اجتهاد الصحابة وهممهم العالية لقد اجتهد الصحابة الكرام من بعده صلى الله عليه وسلم على عهده، فكانوا هم البررة وهم أتقى من سافر إلى ربه جل وعلا, فمن اجتهادهم وعلو هممهم ما جاء عن نافع: لما سئل: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ فقال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما, أي: أنه يتوضأ للصلاة فلا يشغله عنها شاغل، فإذا انقضت الصلاة ذهب إلى ربه، فتدبر آياته الكونية والقرآنية فقهاً وتلاوة وعملاً وذكراً. واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه في العبادة اجتهاداً عظيماً، ولما كان على فراش الموت قالوا له: يا أبا موسى! لولا رفقت بنفسك! فقال: إن الخيل إذا قاربت المنتهى -أي في السباق- وصلت، فالخيل تبدأ الهوينا, ثم تسرع فإذا وصلت إلى الخط الأخير اجتهدت اجتهاداً كبيراً, وهذا بقي من أجله أقل مما مضى, فلم يزل رضي الله عنه على هذا الحال من الاجتهاد في عبادة الله جل وعلا، من قيام وصيام وذكر لله حتى رحل إلى ربه جل في علاه.

الهمة العالية عند التابعين

الهمة العالية عند التابعين لقد اجتهد التابعون ومن بعدهم في السفر إلى الرب جل وعلا، وكانوا ذوي همة عالية, فعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، قالت: ما رأيت أحداً أكثر صلاةً ولا صياماً من عمر بن عبد العزيز، ولا أحداً أشد خوفاً ووجلاً من ربه جل في علاه منه, كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي على حاله وعلى الدنيا حتى تغلبه عيناه. وكان عامر بن عبد الله يقوم الليل كله ويقول: أذهب حر النار نوم الليل. إن هذه الكلمات بيان، وإن من البيان لسحراً، فمن منا يستيقظ في ليله ليقومه، ويستغفر في سحره، ويتذكر النار وعرصات يوم القيامة والكلاليب والصرع ويقول: أذهب حر النار نوم الليل؟ وكان الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمة الله عليه يقوم الليل كله، ويقبض على لحيته باكياً ويقول: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5] ويتلو الآيات ويتدبرها ويعقلها ويفقه ما فيها, ثم يختمها ويقول: يا من تأخذ بمثقال الذرة اغفر لـ أبي حنيفة. إنها همم عالية كالجبال الشم الشوامخ, وإن الله يحب صاحب الهمة العالية, ويكره قليل الهمة ومن يهتم بسفاسف الأمور.

المداومة على الأعمال الصالحة من زاد المسافر

المداومة على الأعمال الصالحة من زاد المسافر كن أخي المسافر إلى الله عالي الهمة باذلاً للجهد والوسع في طاعة ربك جل وعلا. فمن زاد المسافر إلى ربه أيضا أنه إذا أنشأ عبادة داوم عليها، فلا يبكي في رمضان بكاء الأطفال، فيقوم الليل كله في ليالي رمضان, ثم إذا ذهب رمضان ذهب رب رمضان، وذهبت عبادة رمضان، ورجع إلى المعاصي كالزنا والربا, فكن فيما بعد رمضان كما أنت في رمضان, فإن المسافر إلى ربه جل وعلا إذا أنشأ عبادةً وطاعةً لله استدام عليها؛ لأنه يعلم يقيناً أنها ترفعه إلى المنازل العالية، ويستحضر في ذلك قول عائشة كما في الصحيح قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه, وكان يقول: (إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت) وفي رواية: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد صلاة العصر، ثم داوم عليها بعد صلاة الظهر ولم يتركها عملاً بما قال: (إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وكان إذا نسي شيئاً من حزبه أو نام عنه قضاه في نهاره. أخي الكريم: كن مستديماً لطاعة ربك جل وعلا تبلغ المنازل العلا. إن المسافر إلى ربه جل في علاه لا يفتقر إلا لربه, يستغني الناس بالدنيا، فيستغني هو بربه جل وعلا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الافتقار إلى الله زاد المسافر

الافتقار إلى الله زاد المسافر الحمد لله فاطر السماوات والأرض, جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع, يزيد في الخلق ما يشاء وهو السميع العليم, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء, لا تواري عنه سماء سماء, ولا أرض أرضاً, ولا بحر ما في قعره, ولا جبل ما في وعره, لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يرفع القسط ويخفضه, سبحانه جل في علاه, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, صلى الله عليه وسلم. أخي الكريم: إن المسافر إلى ربه جل في علاه يداوم على الطاعة؛ لأن عظمة الهمة العالية في صدره, فلا يرضى بالقليل، وهو يعلم أن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز, فلا يرضى بغير مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يرضى بدرجة سفلى في الجنة، إلا بالفردوس الأعلى, فهذا حال المسافر المجد الذي يعلم إنه إذا اجتهد بلغ عند ربه مرتبة عالية في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر, يوم أن يقترب يوم الزيارة من ربه جل وعلا. أخي المسافر: تذكر أن زادك وأنت ترحل إلى ربك جل وعلا أن تفتقر كل الفقر لربك، وإن استغنى الناس بغير الله, واستغنوا بالجاه أو السلطة أو المال أو الولد، فاستغن أنت بربك جل في علاه, ومن كان الله معه فمن عليه؟! فمن استغنى بالله فافتقر فإنه لا يفتقر إلا إلى ربه جل وعلا. لسان حال المسافر يقول: إذا اكتفى أهل الدنيا بنعيمها، فلا أكتفي أبداً من فضل الله وسعة رحمته، ولا غنى لي عن بركته, وهذا فقه عال، كما فعل ذلك أيوب -صلى الله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- لما شفاه الله وأمر السماء أن تنزل عليه جراداً من ذهب جعل يحثو في ثيابه، فقال له الله جل وعلا: يا أيوب! ألم أكن قد أغنيتك؟ فقال -بفقه عالٍ وهمةٍ كبيرة- لا غنى لي عن بركتك. فهذا حال المسافر إلى ربه جل وعلا. وإذا أنس أهل الدنيا بأحبابهم أنس المسافر بربه, وإذا استغنى أهل الدنيا بالدينا, استغنى هو بالله، فهو يتودد إلى ربه بالطاعات ويطمع في كرمه بالدعوات, ويريد العزة بالذل له, والرفعة بالتواضع له.

زاد المسافر في محبة الله تعالى

زاد المسافر في محبة الله تعالى إن المسافر وهو يرحل إلى ربه جل في علاه قد امتلأ قلبه بمحبة ربه, فهو ليل نهار يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك, فيتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض؛ لينال بذلك درجة المحبوبية التي إذا وصل إليها العبد لا يسقط منها أبدا، وإن عصى أو أذنب فإن الله يلهمه التوبة بعد التوبة، حتى يرتقي إلى منازل النبيين والمرسلين, ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه -كما في الصحيحين- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ولئن سألني لأعطينه, ولأن استعاذني لأعيذنه). وانظر إلى عظم المنزلة فإن جبار السماوات والأرض يتردد في قبض روح عبده، وهذه صفة جليلة تليق بجماله وكماله, فالرب الجليل يرتدد لقبض روح المؤمن المسافر الذي رحل إلى ربه بكيانه كله, والذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فقال: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي لقبض روح المؤمن, يكره الموت وأكره مساءته) يا لله ما أعظمها من منزلة وما أكرمها من درجة! إن المسافر وهو في شوقه إلى ربه على الديمومة , قد أحب لقاء الله, فأحب الله لقاءه, وقد اهتز عرش الرحمن لمن أحب الله لقاءه, فقد ورد في الآثار -ويتسامح في الأسانيد- أن عرش الرحمن اهتز فرحاً لقدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه, تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، أحبت المخلوقات لقاءه, فالعرش العظيم اهتز فرحاً بقدومه رضي الله عنه وأرضاه. كيف لا وقد خير أعظم المسافرين صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة, فاختار جوار ربه صلوات الله وسلامه عليه, وقال: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى! وكان معاذ رضي الله عنه وأرضاه في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم اخنق خنقك فإنك تعلم أني أحبك. اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. أيها المسافر الكريم: اعلم أن الطريق شاق وطويل، فاستعد للرحيل، وهيئ الزاد، واستعن بالكريم الجليل، تفز بالعيش الهنيء وتشرب من السلسبيل, فتقطع بعون الله جل وعلا المسافات، ثم تفز بعد ذلك بالجنات.

فضيلة الاعتكاف في المساجد

فضيلة الاعتكاف في المساجد وقبل الختام, سوف نذكر السنن المستحبات والقربات المندوبات في العشر الأواخر من رمضان. فأول هذه السنن وأعظمها: الاعتكاف في هذه الليالي المباركات؛ لأن رسول الأنام صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شد المئزر واجتهد في عبادة الله جل وعلا، وأحيا ليله وأيقظ أهله صلى الله عليه وسلم, طلباً لليلة هي خير من ألف شهر, وهي ليلة القدر, قال تعالى مبيناً فضل الاعتكاف مطلقاً -وقد بينه الرسول أنه في العشر الأواخر-: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. وفي الصحيح عن بعض صحابة رسول الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف واعتكف أصحابه معه؛ طلباً لليلة القدر.

متى يبدأ المعتكف اعتكافه؟

متى يبدأ المعتكف اعتكافه؟ كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه, وكان إذا كان مقيماً اعتكف العشر في مسجده, وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين ليلة, وكان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المجتهدين في عبادته وطاعته. اللهم نسألك عيش السعداء وموت الشهداء ومرافقة الأنبياء. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات, والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات, اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، فإنك أنت الأعز الأكرم, اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، اللهم خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، واجعلهم رحمةً على رعاياهم يا رب العالمين, اللهم اجعلهم نصراً لدينك، رافعين للواء نبيك صلى الله عليه وسلم, اللهم انصر الإسلام والمسلمين, اللهم انصر المستضعفين في كل مكان, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الإشارات إلى الأسهم والسندات

الإشارات إلى الأسهم والسندات تنقسم الشركات في الشرع إلى قسمين: عنان ومضاربة، وكلاهما جائز، وما وقع حديثاً من شركات المساهمة فهي باعتبار أصلها، فما أسس على حلال فهو حلال، وما أسس على حرام فهو حرام، وما اختلط حلاله بحرامه ففيه تفصيل: فإن كانت من الشركات الكبيرة فتجوز بشرط أن تكون نسبة حرامها ضئيلة، ويخرج حرامها من الأرباح فلا يقسم.

أحكام الأسهم والسندات

أحكام الأسهم والسندات

تعريف الأسهم لغة واصطلاحا

تعريف الأسهم لغة واصطلاحاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: الأسهم في اللغة: مفردها سهم، وهو النصيب في الشيء. وفي الاصطلاح: هو صك يمثل نصيباً عينياً أو نقدياً من رأس مال الشركة، قابل للتداول، يعطي صاحبه حقوقاً خاصة. وهذا السهم يكتب باسمه وبالقيمة أو لحامله، فصاحب السهم يأخذ السهم بعدما يصدر من الشركة، ويكون له حق بيعه وشرائه وغير ذلك من المعاملات، وله أيضاً حق التبديل، فلوارثه أن يحل محله إما بالاسم، وإما أن يكون مبهماً حتى يسهل التبديل. وهذا السهم هو وضع مال معين إما بألف أو ألفين أو مائة ألف حسب تقدير الشركة، فقد تصدر السهم مثلاً في بداية المنشأ بمائة درهم، فيشتري الرجل ما يشاء من الأسهم. إذاً: فالسهم نصيب في الشركة معلوم يأخذ به صكاً ويسمى سهما. والقيمة الاسمية للسهم هي القيمة المبينة في الصك، فلو أن السهم مثلاً بألف وكل إنسان في الشركة له سهم، فله جزء بقيمة محدودة في هذه الشركة، وهذه الشركة تسمى بشركة المساهمة. وقد تكون شركة المساهمة شركة صناعية، أو تجارية، أو صناعية تجارية.

التكييف الشرعي لشركات المساهمة

التكييف الشرعي لشركات المساهمة وقبل الحكم عليها من حيث الجواز وعدمه لا بد من بيان التكييف الشرعي لهذه الشركة. فإذا نظرت في كتب الفقه إلى الضوابط الفقهية والتكييفات الشرعية للشركات سوف تجد أن شركة المساهمة لا تنفك عن شركتين: شركة العنان، وشركة المضاربة. الصورة الأولى: شركة العنان، وهي: أن يضع أشخاص أموالاً كل واحد منهم له مال معلوم، والربح يرجع عليهم كل إنسان على قدر سهمه، ومجالس الإدارات غالباً هم الذين يكونون شركة المساهمة، ومنهم أناس آخرون دفعوا هذه الأسهم وعملوا مع مجلس الإدارة. إذاً فهذه صورة من صور شركات المساهمة: أن يكون مجلس الإدارة نفسه له حصة من الأسهم، والذين دفعوا الحصص الأخرى من الأسهم يعملون مع مجلس الإدارة، فهذه صورة شركة العنان. الصورة الثانية: أن يشترك أشخاص بأموالهم، ويكون لكل منهم أسهم محددة، وآخرون يعملون في هذا المال سواء كان ذلك تجارة أو صناعة أو غيرها. أي: أن هؤلاء الأشخاص معهم مال ولا يستطيعون العمل، وآخرون ليس عندهم مال فيعملون بأموال أولئك، وهذه الشركة هي شركة المضاربة. الصورة الثالثة: تخليط بين شركة المضاربة وشركة العنان، وهي: أن مجلس الإدارة يعملون ولهم أيضاً أسهم، وآخرون دفعوا أسهماً ولا يعملون، فأصبح الذين دفعوا الأموال دون أن يعملوا مضاربين في شركة مضاربة، ومجلس الإدارة الذين لهم الأسهم وشاركوا في العمل في شركة عنان، فأصبحت شركة عنان ومضاربة، وفي هذه الصورة خلاف فقهي؛ لأن مجلس الإدارة يكون لهم حالتان، ولتوضيح الحالتين نضرب مثالاً: رجل عنده مال واستأجر رجلاً آخر يعمل في هذا المال، فقال هذا الرجل: وأنا عندي مال، فأنت دفعت عشرة آلاف وأنا سأدفع ثلاثة آلاف، وسأعمل لك في المال، فأصبح العامل هنا مضارباً ومشاركاً، فإذا كان مضارباً ومشاركاً فله حق الإدارة أي: راتب شهري، أو له نسبة فهاتان حالتان: الحالة الأولى: أن يكون له راتب شهري مع نسبة سهمه؛ لأنه مشارك ومضارب، فهذه صحيحة وليس فيها شيء. الحالة الثانية: أن يكون له راتب شهري وعند الربح يخصص له مثلاً (2%) أو (3%) غير سهمه، وهذا حرام قطعاً قولاً واحداً؛ لأنها إجارة مجهولة. والدليل على صحة هذه الشركات هو عموم الأدلة التي أثبتت صحة الشركة، منها أولاً: قول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19]، فكل واحد منهم دفع مالاً وقالوا: اذهب وائتنا بطعام، فاشتركوا في المال ليشتري لهم طعاماً، وإن كان في هذا الدليل نظر، لكن يستدل به على جواز الشركة. ثانياً: الحديث الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله جل وعلا يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر). ثالثاً: فعل الصحابة رضوان الله عليهم. رابعاً: أن الأصل في المعاملات الحل ما لم يأت دليل على الحرمة. خامساً: توافر شرط التراضي في هذه المعاملة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن البيع عن تراضي)، وقال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]. إذاً: فالأصل إباحة هذه الشركات.

أنواع شركات المساهمة المعاصرة

أنواع شركات المساهمة المعاصرة إن شركات المساهمة المعاصرة على أقسام: الأول: شركات المساهمة التي تعمل في حلال محض كتجارة الطيران، والثلاجات، والعملة، بترخيص من ولي الأمر أو من الحكومات، ويكون عملها يداً بيد بالشروط المعروفة في تجارة العملة، فالمهم أن تعمل هذه الشركة في حلال محض. الثاني: أن تعمل في حرام محض كبيع الخمور، أو البنوك، أو الدجاج المصعوق؛ لأنه ميتة، والتجارة في الميتة حرام، فهذا النوع حرام محض. الثالث: أن تخلط هذه الشركات بين الحلال والحرام، فالأصل في عملها الحل، ويدخل في جزئية من الجزئيات الحرمة، وهي أصعب ما تكون، وهي الموجة الآن في عصرنا، مثل البنوك والقرض مع أخذ الفائدة، أو التمويل الربوي. فهذه أنواع ثلاثة لا يمكن أن تنفك واحدة عن هذه الأنواع.

حكم شركات المساهمة المعاصرة

حكم شركات المساهمة المعاصرة أما النوع الأول: وهي الشركات التي تعمل في الحلال المحض فهي حلال لا غبار عليها. وأما النوع الثاني: وهي الشركات التي تعمل في الحرام كبيع الميتة والخمور والخنزير، فهي حرام محض قولاً واحداً. وأما النوع الثالث: وهي محل الخلاف، وهي الشركات التي اختلط فيها الحلال بالحرام كشركات تعمل في تجارة الأخشاب مثلاً وتؤسس بنكاً من البنوك الربوية، وذلك ليسهل لهم الضمان البنكي والسندات والتسهيلات. وقد اختلف العلماء في حكم هذه الشركات على ثلاثة أقوال: القول الأول: المنع مطلقاً. القول الثاني: الجواز مطلقاً. القول الثالث: التفصيل. فأما أصحاب القول الأول القائلون بالمنع مطلقاً، فاستدلوا بالآتي: أولاً: أن هذه الشركات وإن كان أصلها حلالاً وتعمل في الحلال إلا أنها فتحت بنكاً من البنوك الربوية، فتعاملت بالربا بغض النظر عن المعيار أو النسبة؛ لأن التعامل بالربا حرام محض، وفيه حرب من الله عز وجل، وقد أتت الأدلة الواضحة الظاهرة على حرمة ذلك، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]. ثانيا: من الأثر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه). فإن قيل: إن مقدار الربح الذي فيه ربا سوف يتصدق به تطهيراً لهذا المال. فالجواب على ذلك: أنكم بهذا أعنتم الذي يتعامل معكم على أكل الربا، ودخلتم تحت عموم من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم في الربا، فإن الأدلة كثيرة على لعن آكل الربا، وموكله، والذي يتعامل بالحرام. ثالثاً من النظر: إن هناك قاعدة فقهية ذكرها الزركشي وغيره من علماء الأصول وهي: أن الحرام إذا اختلط بالحلال غُلب الحرام حيطة وورعاً للدين، قال صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وقال أيضاً: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وتغليب الحاظر على المبيح قاعدة عند أهل الحديث. ثم إن هذه الشركات وإن كانت فيها مصلحة وهي انتعاش الاقتصاد إلا أن مفسدتها أعظم وهي أكل الربا، وهذه المفسدة محققة الوقوع ومقطوع بها، وأما المصلحة فهي مظنونة وليست محققة الوقوع، وإذا تعارض المقطوع به مع المظنون قدم المقطوع، ولذلك يحرم الاشتراك في هذه الشركات. وأما أصحاب القول الثاني القائلون بالجواز مطلقاً فاستدلوا بما يأتي: أولاً قاعدة: يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، فأصل الشركة حلال، وأصل التعامل حلال، فهم أصلاً يتاجرون في الأخشاب والسيارات، وهذه جاءت بجانبها، فيغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، كمن يشتري الجاكت أو الرداء وفيه حشو ولا يعلم مقدار هذا الحشو، فهذه جهالة لكنها تغتفر لأنها تابعة للأصل وهو الجاكت أو الرداء. مثال آخر: الأصل أن مال العبد للسيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من باع عبداً له مال فماله لسيده إلا أن يشترط المبتاع) فالمال للسيد، وهذا هو الأصل، ولكن إذا اشترط المبتاع أن المال له فقبل السيد هذا الشرط جاز، فيغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. ثانياً: اليسير معفو عنه كما دلت على ذلك القواعد الفقهية، فيسير النجاسة معفو عنها، وهذا يسير بالنسبة لمال الشركة. ثالثاً: أن المصلحة هنا أعظم من المفسدة، وإذا تعارضت مصلحة مع مفسدة قدم أعظمهما، فإطعام الطعام، وانتعاش الاقتصاد، والقضاء على الفقر مصلحة مغلبة على مفسدة الربا، وسوف تعالج مفسدة الربا الصغيرة بإخراج هذا الربح صدقة تطهيراً لهذا المال. وأما أصحاب القول الثالث القائلون بالتفصيل فذهبوا إلى المنع من الشركات التي اختلط فيها الحرام مع الحلال، إلا أن تكون هذه الشركات شركات كبيرة ذات أموال طائلة وتسد حاجات الأمة، ففي الدول النامية مثلاً شركات المياه أو النقل أو الكهرباء حيث جاءت هذه الشركات المساهمة من الخارج لتساهم في تعمير البلد فالدولة لا تستطيع القيام بذلك، فهذه حاجة الأمة لها ماسة، ولا مال عند الأمة لتسد حاجة الناس إلا بهذه الشركات المساهمة التي فيها شيء من الحرام، فتقدم هنا مصلحة الجماعة على المفسدة القليلة. ولعل هذا القول من أوفق الأقوال، وإن كان الدكتور علي السالوس -وهو من الذين يحررون هذه المسائل- يرى الحرمة الباتة القاطعة، لكن هذا هو أوفق الأقوال إذا كانت الأمة تنتفع بها ولا تستطيع أن تقوم بحاجات الناس إلا بهذه الشركات، فيغتفر الجزء اليسير من الربا، لكن لابد حتماً أن يعرف مقدار هذا الجزء ليخرج من الأرباح، ولابد أن يكون هذا الجزء قليلاً كأن يكون واحد في المائة، أو اثنين أو ثلاثة، أو خمسة في المائة، أما أن يصل هذا الجزء إلى الربع أو الثلث أو النصف فهذا لا يصح في حال من الأحوال.

زكاة الأسهم في شركات المساهمة

زكاة الأسهم في شركات المساهمة إذا كان الإنسان له أسهم في هذه الشركات فكيف يزكي هذه الأسهم؟ قسم العلماء الشركات إلى نوعين: شركات صناعية وشركات تجارية، فأما الشركات الصناعية التي لها آلات ومصانع تعمل بها فهذه الأعيان ليس فيها زكاة، وإنما تكون الزكاة في الريع الذي يخرج منها إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، فإنه يخرج اثنين ونصفاً في المائة. وأما إذا كانت هذه الشركات تجارية تقوم ببيع وشراء البضائع فإن الزكاة فيها تكون كزكاة عروض التجارة، فتخرج الزكاة على أصل السهم، وعلى الربح إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب. وقرر المجمع الفقهي قراراً آخر وهو: أن الزكاة ترجع إلى النية لا إلى الصناعة ولا إلى التجارة، فإذا كانت نية المساهم الاستفادة من الريع فلا زكاة إلا على الربح، مثل أن يشتري المساهم السهم ليستفيد من الريع فقط لا ليتداول السهم بيعاً وشراءً، فهذا ليس عليه زكاة إلا في الربح، وذلك بعد أن يقبضه ويمر عليه حول كامل، فيضرب في واحد على أربعين ويخرج الزكاة. وإن كانت النية أنه عندما يرتفع سعر السهم فإنه يبيعه فتكون الزكاة على أصل السهم مع أرباح الشركة بعد أن يحول عليها الحول.

الفرق بين الأسهم والسندات

الفرق بين الأسهم والسندات الفرق بين الأسهم والسندات: أن السهم يكون لشريك له نصيب في الشركة، وأما السندات فهي قروض يقرضها صاحب المال للشركة لتعمل بهذا المال، وله فائدة ثابتة في كل عام، فلا ارتباط له بالربح ولا بالخسارة، وهي حرام قطعاً، فيأخذ هذا المال في المدة المحددة مع الفائدة التي ثبتت له من قبل، وهذا ربا محض، لذا فالسندات حرام قطعاً، ولا تجوز في حال من الأحوال. وأما الأسهم فهي على التفصيل الذي فصلناه.

حكم الضمان البنكي

حكم الضمان البنكي هناك مسألة أخرى وهي مسألة الضمان البنكي، فالضمان البنكي يحل ويحرم، وذلك أن البنك يبعث إلى الشركة في الهند أو الصين ويقول: أنا أغطي لكم ثمن هذه السلعة، ويكون الذي أخذ هذا الضمان البنكي ليس عنده رصيد في البنك، فالضمان يكون مثلاً بمائة ألف، وهو إنما وضع في البنك عشرين ألفاً فقط، فهذا الضمان البنكي لا يكون بدون مقابل، وإنما هو يقرر عليك مبلغاً من المال أو نسبة معينة مقابل هذا الضمان فهذا حرام لا يجوز؛ لأن هذا أشبه ما يكون بقرض يجر نفعاً فهو ربا؛ لأنه ليس عنده رصيد. وأما لو كان عنده رصيد وسيغطيه ويعطيه للشركات فهذه تعتبر وكالة للدفع، وما أخذه البنك من المال فهو أجرة على الوكالة، وهذه تصح في الشرع.

حكم الاكتتاب في شركات الأسهم الوهمية التي ليس لها أصول

حكم الاكتتاب في شركات الأسهم الوهمية التي ليس لها أصول وهنا مسألة مهمة هي: لو كانت هناك شركة ليس عندها شيء لا تجارة ولا صناعة، فقالت: سنعمل صناعة، ولم تعمل صناعة، لكن نزلت بثقلها في الأسواق والبورصات وأسواق المال، وأنزلت الأسهم التي عندها ليشتريها الناس، فتهافت الناس على طلب الأسهم، فالمساهمون الأولون اشتروا السهم بمائة درهم مثلاً، فشكل هذا نوعاً من الدعاية للشركة فأقبل الناس عليها فالسهم الذي كان بمائة صار بألف، فيكون الربح خيالياً، وهذا الذي يفعله بعض الناس وهو حرام محض؛ لأن الشركة نفسها لم تبن والسهم غير موجود، وهو ما عنده إلا مال فقط، فجاء المشتري يشتري هذا السهم بمال، فأصبحت المسألة مبادلة مال بمال، بينهما مسمى (سهم)، وهذا نفس الأمر الذي قال عنه ابن عباس: دراهم بدراهم بينهما حريرة. فهو أصلاً باع مال بمال دون التقابض ودون التساوي، فاشترى بمائة درهم وباعها بألف، فهو كالذي بدل المائة بالألف مع التقابض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب يداً بيد، سواء بسواء، مثلاً بمثل).

حكم النسبة التي يتقاضاها مندوب المبيعات بجانب راتبه

حكم النسبة التي يتقاضاها مندوب المبيعات بجانب راتبه وننبه هنا على مسألة المندوبين الذين يعملون بأجرة، وهذه الأجرة ألف مثلاً أو ألفين، فيعمل كمندوب المبيعات لشركات البنايات وله أيضاً نسبة أو عمولة، وركيزته على العمولة لأن راتبه يكون زهيداً، فكل شقة يبيعها يكون له نسبة عالية، وهذا العمل حرام؛ لأن هذه إجارة مجهولة، وشرط الإجارة أن تكون معلومة، فإذا كان الراتب أصلاً ضعيفاً والمعول في المسألة على النسبة فهذه إجارة مجهولة فلا تجوز، وإن كان راتبه هذا هو الراتب الأصلي، لكن جرى تحفيزه بمكافأة بأن يقال: سيكون لك في آخر العام من الأرباح التي تخرج مكافأة كذا، فهذه تجوز، أما إن كانت من الراتب فتظهر فيه الجهالة، وننظر بعدُ إن كانت النسبة ضئيلة فيغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل على امتعاض، وأما إن كانت تصل إلى النصف أو تصل إلى أن يكون عصب المسألة على العمولة فلا تصح بتاتاً؛ لأن هذه إجارة مجهولة. أما ما يسمى بـ (البونص) فتكييفه الشرعي أنه جُعْل فهذا (البونص) اسمه جُعْل، يجعله المدير تحفيزاً للعامل حتى ينتج، والجُعْل يجوز إذا كان ليس من الراتب، ولكن بعض العلماء لا يجيزون الجُعْل مع الجهالة، والراجح الصحيح: أن الجُعْل ليس بإجارة، ويغتفر في الجعل؛ لأنه إرفاق وإحسان وليس بعقد لازم من الإجارة. فإذا قال المدير: إذا دخلنا في مشروع ونجحنا فيه فسيكون هناك مكافآت مجزية بالمال، فهذا جُعْل إن شاء الله.

حكم السمسرة

حكم السمسرة والسمسرة تجوز بشرط أن تكون معلومة، ويعرف الرجل أنه سمسار أو دلال، فإذا كانت السمسرة معلومة صحت؛ لأن السمسرة إجارة والإجارة لابد أن تكون معلومة. وأما إن لم يعلم أنه سمسار فلا يجوز أن يأخذ أجرة إلا أن يشترط على الرجل الذي يوسطه في الشراء أو البيع، أي: أن الرجل لو دل آخر على سيارة مثلاً فاشتراها الآخر فلا يحق لهذا أن يأخذ أجرة من المشتري؛ لأنه لا يُعلم في السوق أنه سمسار، ولم يشترط عليه الأجرة (المسلمون عند شروطهم). ويحق له أن يأخذ من الطرفين إذا كان الطرفين موسطين، واشترط مبلغاً معلوماً وليس نسبة، فإن كان هناك تراضي على مبلغ معين فلا بأس، وأما أن يكون له نسبة فلا يجوز للجهالة، والنسبة لا تكون إلا في المضاربة فقط. وكذلك المساقاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث - رافع بن خديج - لم يبحها إذا كانت على جزء من الأرض كاثنين في المائة أو ثلاثة في المائة؛ لأن فيها جهالة وليست محددة ولا مقدرة، والسمسرة كذلك، إلا أن يقول له: إذا بعتها لك بخمسين فلي خمسة آلاف مثلاً، وإذا بعتها بستين فلي خمسة، فالسمسرة لابد أن تكون معلومة، والنسبة فيها جهالة فلا يصح بها.

تلخيص التأصيل في قضية التكفير

تلخيص التأصيل في قضية التكفير مسألة التكفير مسألة خطيرة لا يجرؤ عليها إلا من لم يجعل الله له حظاً من العلم، فهي حق محض لله تعالى، ومن لوازم ربوبيته، ولا دخل للإنسان فيها. وينقسم التكفير إلى: تكفير للنوع وتكفير للعين، والمطلق يبقى على إطلاقه، والعام يبقى على عمومه ما لم يأت دليل يقيد ذلك ويخصصه، والثابت باليقين لا يزول بالشك. ومن قال: إن القرآن مخلوق فإنه يكفر كفر نوع، إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة، وأما من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فلا شيء عليه على القول الأرجح إن عنى فعله وحركته هو لا القرآن.

حكم من قال: إن القرآن مخلوق

حكم من قال: إن القرآن مخلوق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوتي الكرام: لقد اختلف الناس في هذا الباب إلى ثلاثة فرق: فريق يغالي جداً، وفريق يفرط جداً ويجفو، والوسط هم أهل العدل والحق. إن حكم من قال: إن القرآن مخلوق، وأنه كافر، فإن أصالة ما قيل عن السلف: من قال بأن الله لم يتكلم، ومن قال بأن كلام الله مخلوق، ومثله مثل الجبال والسماء والأنهار والشواطئ والإنسان مخلوق، فقد كفر فهذا هو الحكم إجمالاً.

خطورة التكفير

خطورة التكفير إن هناك قاعدة مهمة في التكفير لا يتجرأ عليها إلا جرئ جاهل، فإن التكفير أصعب وأشق ما يكون، ولا يتجاسر عليه إلا من لم يجعل الله له حظاً في العلم، فعلى الإنسان ألا يتجرأ على هذه المسألة إلا بدليل أوضح من شمس النهار؛ لخطر هذه المسألة ولعظمها، ومما يدل على خطر هذه المسألة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، وفي رواية قال: (فإن كان كذلك وإلا حارت عليه). وتفسير ذلك: أن الإنسان إذا تجاسر وأطلق كلمة الكفر على أحد فإنه إن لم يكن كافراً بحق عند الله، فإنه سيكفر بهذه الكلمة؛ لأنه نزع الإيمان من عبد وما كان له ذلك، فكان جزاءً وفاقاً وأجراً طباقاً أن تحور الكلمة وتتحول عليه، ويصبح هو المتهم بالكفر.

التكفير حق محض لله تعالى، والأمثلة على ذلك

التكفير حق محض لله تعالى، والأمثلة على ذلك إن التأصيل الأول: هو أن التكفير حق محض لله جل وعلا لا دخل للإنسان فيه، ومثله مثل التحليل والتحريم، قال الله جل وعلا: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]. فالرسول عليه أن يبلغ، فمن انصاع له وقال: آمنت بالله وآمنت برسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد دخل حظيرة الإسلام، فلا يجوز لأحد أن يخرجه منها؛ لأنه حق محض لله جل في علاه. ومن الأدلة على ذلك: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال الرجل: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً فقال له: (حجرت واسعاً) فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك؛ إذ أن هذا ليس حقاً له، بل هو حق لرب البرية جل في علاه، فليس له أن يحجر هذا الواسع، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حجرت واسعاً) منكراً عليه إياه، على أن هذا حق محض لله جل وعلا. وأيضاً ما قصه علينا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (عن رجل من بني إسرائيل أنه كان يمر على أخ له يرتكب المعاصي، فيقول له: يا رجل! يا فلان! ارجع إلى ربك واستغفر ربك، ثم في الثانية والثالثة والرابعة يجده على هذا الذنب، فقال له: والله لا يغفر الله لك أبداً)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن الله أنكر عليه أشد إنكار؛ إذ إن التكفير ومغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان من الجنة ودخول النار حق محض لله، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن الله قال: (من ذا الذي يتألى علي) واشتد النكير بأن قال له: (قد غفرت له وعذبتك أنت)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا أن هذا حق محض لله جل في علاه. إذاً: فالقاعدة الأولى التي يجب أن يعرفها طالب العلم قبل أن يتجاسر على التكفير هي: أن هذا التكفير حق محض لله، ومن لوازم ربوبية الله، ومن نازع الله في ربوبيته فهو على هلاك مبين، وعلى خطر عظيم، ولا يخاض في ذلك إلا بدليل أوضح من الشمس. وهناك مثال ثالث يوضح لنا أن هذه المسألة حق محض لله، وأن الذي يتجاسر عليها منازع الله في ربوبيته، فـ أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيحين عندما أغاروا على قوم فأعملوا فيهم القتل، ففر رجل منهم، فقام أسامة يشتد عليه حتى قتله، والرجل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعدما قالها؟) يعني: بعدما قال: لا إله إلا الله. ومعنى ذلك: أنه إذا قال: لا إله إلا الله فقد دخل في حظيرة الإيمان، فلا يجوز أن تخرجه من حظيرة الإيمان بحال من الأحوال، وليس لك أن تكفره بحال من الأحوال، لأن هذا حق محض لله جلا وعلا. فقال: (أقتلته بعدما قالها؟ قال: يا رسول الله ما قالها إلا متعوذاً) كأنه اجتهد في ذلك اجتهاداً، ويظهر أن هذا الرجل نافق خوفاً من القتل، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً معاتباً منكراً إنكاراً شديداً على أسامة (أقتلته بعدما قالها؟ ثم قال له في الثالثة: ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة) وندم أسامة ندماً شديداً على ذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤصل له أصلاً وهو: أن من دخل في الإيمان فلا يصح لأحد أن يكفره، ولا أن يخرجه من حظيرة الإيمان بحال من الأحوال إلا بدليل أوضح من شمس النهار، كأن يخبرنا الله ببينة واضحةٍ أن هذا كافر، مثل فرعون، وكذلك أبي لهب وأبي جهل، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3]. فقد بين الله قطعاً أنه من أهل النار، وأنه كافر، وكذلك اليهود والنصارى بين الله كفرهم في كتابه، فمن لم يكفرهم بعدما علم أن الله قد كفرهم فإنه يخرج من حظيرة الإيمان. ومن الأمثلة التي تثبت ذلك، وتثبت التأصيل الذي أصله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه جميعاً: (عندما نافق الرجل وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قسمة ما ابتغي بها وجه الله جل في علاه، فقال خالد: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله يصلي، فقال خالد: كم من مصل يفعل ما لا يعتقد، أو يقول ما لا يعتقد، فأصل له النبي صلى الله عليه وسلم تأصيلاً علمياً يتعلمه طالب العلم، ويعلم -وهو أحرى بذلك- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاسر على تكفير أحد، فمن باب أولى: العلماء، ثم من باب أولى: طلبة العلم، ثم من باب أولى: أصاغر طلبة العلم، فلا يتجاسرون على هذه المسألة العظيمة التي تجعلهم يقعون في خطرٍ عظيم إذا تجرؤا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمرت أن أشق عن القلوب) أي: أن الحكم على القلوب ليست إلي، بل هي إلى الله وحق محض له. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤصل لنا: أن من دخل دائرة الإسلام لا يجوز أن تقول عليه: كافر إلا بدليل أوضح من شمس النهار، وهذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد، وقد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه كـ عمر وأسامة، وضربه النبي صلى الله عليه وسلم لنا؛ حتى نتبين أمرنا ونعلم أنه لا يجوز لنا أن نتجاسر على مسألة التكفير.

المطلق يبقى على إطلاقه والعام يبقى على عمومه ما لم يأت دليل على تقييده أو تخصيصه

المطلق يبقى على إطلاقه والعام يبقى على عمومه ما لم يأت دليل على تقييده أو تخصيصه وبعدما علمنا أن التكفير حق محض لله جل وعلا، وليس لأحد أن يتجاسر عليه، فإنه قد ورد في الآثار أو وردت في الآيات تكفير فعل معين، فالتأصيل الثاني: أن هناك فرقاً بين أن نقول: من فعل كذا فقد كفر، ومن قال: كذا فقد كفر، فالآيات التي جاءت مطلقة، والأحاديث التي جاءت عامة، وأقوال أهل العلم التي جاءت مطلقة تبقى على إطلاقها، وتبقى على عموماتها، ولا تنزل على الشخص المعين إلا بدليل واضح بين. إذاً: فما جاء مطلقاً فالقاعدة عند العلماء: أن المطلق يبقى على إطلاقه، والعموم يبقى على عمومه حتى يأتي المقيد أو الخاص، بمعنى: أنه إذا قال أحمد بن حنبل: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، فهذا القول مطلق، فأيما شخص يقول: القرآن مخلوق، ويقول: الله لم يتكلم بالقرآن، بل القرآن كالشجر، كالحجر، كالأنهار، كالسماء، كالأرض، فمن قال ذلك فقد كفر، ولا نكفر من قال ذلك بعينه.

تقسيم الكفر إلى نوع وعين والتفريق بينهما

تقسيم الكفر إلى نوع وعين والتفريق بينهما إن هناك فرقاً بين تكفير النوع وتكفير المعين، فمن قال: القرآن مخلوق فقد كَفَر كُفْر نوع، وأما الشخص الذي قال هذه المقولة فلا أكفره، ولابد من إثبات ذلك بالأدلة بـ (قال الله، قال رسوله)، قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه والأدلة على التفريق بين النوع والعين كالتالي: أما السنة فمنها: حديث الرجل الذي قال لأولاده: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في البر والبحر؛ لأن الله لو بعثني لعذبني بهذه المعاصي، فهو مؤمن بقدرة الله، وهو يؤمن بأن الله يقيمه مقامه ثم يعذبه، فهو يخاف ويرجو الله جل وعلا، وقد اتفق المسلمون جميعاً: أن الذي يقول: إن الله لا يقدر على شيء، فحكمه أنه مكذب بالقرآن، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. فمن قال: إن الله لا يقدر على أن يبعثني مثلاً فهذه المقولة كفر باتفاق المسلمين، لكن ننظر إلى هذا الكفر هل يقع على نفس العين أم لا؟ فالرجل لما بعثه الله -كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم- قال له ربه: (ما الذي حملك على هذا؟ قال: مخافتك، أو قال: أرجو رحمتك، فغفر الله له وأدخله الجنة). فوجه الدلالة هنا: أن الرجل أتى بكفر باتفاق علماء المسلمين؛ لأنه ضل في باب القدرة، لكنه كان جاهلاً، فأتى بكفر نوع لا كفر عين، فلما كان جاهلاً عذره الله بجهله، ثم أدخله الجنة، إذاً: لو قال أحد كلمة الكفر فلا نستطيع أن نقول: هو كافر، بل نقول: أتى بكلمة الكفر، لكن هو ليس بكافر إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة. الدليل الثاني: أن صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقب بحمار، رضي الله عنه وأرضاه، وكان شراباً للخمر كثيراً، ويؤتى به كثيراً فيجلد كثيراً، فقال خالد: لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، ونحن نعلم أن شارب الخمر ينزل تحت اللعن، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة منهم: شاربها، إذاً فشارب الخمر عموماً ملعون، وهذا حكم على النوع لا على العين، فلما كان يؤتى بهذا الرجل الذي يشرب الخمر فيجلد، ثم يشرب ثم يجلد قال خالد: لعنة الله عليه، فأوقع الحكم العام على عين هذا الشخص، كما في الحديث: (لعنة الله عليه؛ ما أكثر ما يؤتى به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه: يا خالد لا تعن الشيطان عليه، إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله)، فهذا الحديث فيه دليل على أنه خارج من اللعن، مع أن شارب الخمر ملعون، والرجل قد يقع في الكفر، لكننا لا نستطيع نكفره، لأن هناك موانع تمنع أن نكفره، فقد يكون الفعل كفراً والقول كفراً، لكن القائل والفاعل لا يمكن أن نخرجه من حظيرة الإيمان إلا بضوابط كما سأبينها، إذاً: فالرجل شرب الخمر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله في الخمر عشرة منهم: شاربها) ومع ذلك قال: هذا ليس بملعون، وهذه دلالة على أن الحكم العام لا يسقط على الشخص لموانع معينة. إن من قال: إن القرآن مخلوق، قد فصل حكمه تفصيلاً بديعاً إمام أهل السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل مفخرة المسلمين، وإمامهم، فكان رضي الله عنه وأرضاه يقول: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك فتنه المأمون وغيره من حكام الدولة العباسية، وقصصه مع من قال بخلق القرآن مشهورة جداً، حيث إنهم قالوا: القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]. ومعناها كما يزعمون: خلق الظلمات والنور، فقالوا: جعله قرآناً عربياً، يعني: خلقه قرآناً عربياً، فرد عليهم الإمام أحمد فقال: قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]. فقد خلقهم الله بشراً، فهل جعلهم كعصف مأكول يعني: خلقهم كعصف مأكول، بل حولهم بالحجارة إلى عصف مأكول، والغرض المقصود من ذلك أن الإمام أحمد هو القائل: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك لما قالوا له: نخرج على المأمون، قال: لا، وإني لأصلي خلفه، وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق، وأرى ذلك واجباً علي، وكأنه يقول: ولي أمري وإن أخطأ وأتى بالكفر، فإني لا أكفره عيناً، مع أني أقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإني لا أتجسر على تكفيره، بل له علي السمع والطاعة، والدعاء بالتسديد والتوفيق، والصلاة خلفه، والغزو معه. فهذا إمام الأئمة إمام أهل السنة والجماعة يؤصل لنا هذا الأصل: أنه حتى لو أتى الأمير أو ولي الأمر بمكفر فلا نستطيع أن نكفره بهذا أبداً، ولا يتجاسر ولا يجرؤ على ذلك إلا جريء، فهذا من أقوال الأئمة الذين فرقوا بين كفر النوع وكفر العين.

ثبوت الإيمان باليقين لا يزول بالشك بأي حال من الأحوال

ثبوت الإيمان باليقين لا يزول بالشك بأي حال من الأحوال التأصيل الثالث الذي لا بد أن يضبطه طالب العلم: أنه من ثبت إيمانه بيقين فلا يزول بشك بأي حال من الأحوال، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال أبو ذر: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال له في الثالثة: وإن زنى وإن سرق وعلى رغم أنف أبي ذر). فمن قال: لا إله إلا الله دخل الإسلام، ودخل الإيمان، وله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، فقد دخل الإسلام بيقين، ولا يمكن أن نخرجه من الإسلام إلا بيقين، فإذا قال الرجل كلمة الكفر فإني من الممكن أن أقول: هل قالها عامداً؟ وهل قالها جاهلاً؟ وهل سبق لسانه قلبه؟ وهل لم يطمئن قلبه؟ وهل كان مكرهاً؟ وكل هذه تسمى احتمالات، فتدخله في دائرة الشك، وعندي القاعدة التي أرجع إليها بالتأصيل العلمي: أن الذي ثبت إيمانه بيقين لا يزول هذا الإيمان بالشك؛ لأنه من الممكن أن يقول: إن الله لم يتكلم، فيكون قد نشأ في البادية، أو هو جاهل لا يعلم معنى القرآن، ولا معنى كلام الله، ولا معنى أن الله يتكلم، فإن كان جاهلاً فلا بد أن أعلمه، وأقيم عليه الحجة، وأزيل عنه الشبهة. إذاً: فالتأصيل الثالث: من ثبت إيمانه بيقين فلا يمكن أن يزول بشك، وهذا يبين لنا خطأ من يتجاسر -كائناً من كان، حتى ولو كان يدافع عن حظيرة الإسلام، ويرفع رايته- على التكفير، فلا يجوز له ذلك، ولا يتجرأ على ذلك إلا بيقين وبعلم، لأن تكفير المعين جرأة على الدين، وفيه جرأة على لوازم ربوبية الله جل في علاه.

حكم الكفر لا يثبت إلا بتوافر شروط وانتفاء موانع

حكم الكفر لا يثبت إلا بتوافر شروط وانتفاء موانع التأصيل الرابع: أن موجب الكفر أو حكم الكفر لا يثبت إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع، وإذا ثبتت الشروط وجب أن يكون حكم الكفر موجوداً، لكن بشرط أن تنتفي الموانع، ومثال ذلك: رجل ثبت في حقه الكفر، فقال مثلاً: لا صلاة عصر في اليوم والليلة، والمفروض على الناس أربع صلوات فقط لا خامس لها، فهو أتى بمكفر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، لكن ننظر في هذه الشروط، فإن توفرت فهو كافر، وننظر في الموانع فقد يكون من أدغال أفريقيا لا يعرف حتى إن الله جلا وعلا افترض على عباده صلاة أو صياماً، أو جاهلاً لا يقرأ ولا يسمع ولا يعرف أي شيء، فهذا مانع يمنعني من تكفيره، أو يكون الرجل مجتهداً فيقول: إن الله لم يستو على عرشه، وينفي صفة الاستواء، فعلينا أن ننظر في كلامه، هل هو عالم من العلماء، اجتهد ونظر في الأدلة فوصل اجتهاده إلى هذا الخطأ، فنقول: هذا مخطئ مجتهد وله أجر، ولا يمكن أن يكفر بذلك، حتى تنتفي الموانع وتتوفر الشروط، وإن توفرت الشروط ولم تنتف الموانع، فإنا لا نكفر. ومثال ذلك وأوضح ما يقال في هذا: المسلم الذي يقتل المسلم متعمداً، فذلك شرط في حكم الكفر، فإن الذي يقتل مؤمناً متعمداً حكمه الخلود في النار، والخلود في النار لا يكون إلا لكافر، فهنا توافر الشرط، لكن بقي علينا أن ننظر انتفاء المانع، فننظر هل الموانع موجودة أم لا؟ أرى أن الموانع جاءت مجيشة تبين أن المسلم إذا قتل مسلماً ولو متعمداً لا يخلد في نار جهنم، مع أن الله قال: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]. فنقول: هذا حكمه وعاقبة أمره إن جوزي به كما قال أبو هريرة: فالمقتضي للحكم هو قتل المسلم تعمداً، فإذا قتل المسلم متعمداً فهذا سبب لخلوده في النار، لكن يأتي المانع فيدفع هذا السبب، والمانع هنا: هو كلمة لا إله إلا الله، لأن من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، ودخل بها الجنة، ولا تكون لا إله إلا الله مانعة إلا إذا صلى، فنقول: لا إله إلا الله جاءت مانعةً من خلود من قتل مسلماً متعمداً في النار؛ لأن حكم من قتل مسلماً متعمداً أنه يخلد في نار جهنم، لكن جاء المانع فدفع هذا السبب، فإن توفر الشرط ووجد المانع فلا بد أن ينتفي الحكم. فهذا هو التأصيل الرابع الذي لا بد أن يصاحب طلبة العلم، ولا بد أن يحفروا ذلك في صدورهم، ويعلموا أن من تجاسر على تكفير أحدٍ فهو إلى بوار وهلاك، وأن التكفير حق محض لله لا يجرؤ عليه إلا جريء، ولا بد أن يعلم أولاً أنه من لوازم ربوبية الله، ومن نازع الله في ربوبيته فهو على شفا هلكة. والأمر الثاني: أن هناك فارق بين تكفير النوع والمعين. والأمر الثالث: أن من ثبت إيمانه بيقين فلا يزول بالشك بحال من الأحوال. الأمر الرابع: حتى نكفر أحداً لا بد من توافر شروط وانتفاء موانع. إذاً: فيصعب ذلك جداً وتضيق دائرة التكفير جداً حتى على العلماء المجتهدين، إلا من نور الله بصيرته واجتهد اجتهاداً عالياً فأقام الحجة، وأزال الشبهة عمن قد ثبت إيمانه بيقين وأتى بمكفر ثم بعدما أقيمت عليه الحجة وأزيلت الشبهة فيكفر بذلك، فلابد لها من عالم مجتهدٍ نحرير، وليس لأحد أن يتجاسر على هذا الأمر، ولو تجرأ عليه فهو على شفير هلكة فهذا التأصيل لا بد أن يصاحب طالب العلم في حله وترحاله، وقد أكدت عليه وقررته وكررته لأن من وقع في هذا الباب فقد وقع في مذلة، ومن وقع فيه فقد وقع في خطر عظيم، إذاً فحكم من قال: إن القرآن مخلوق أنه كافر، وهذا تكفير مطلق، ولا نكفر بالعين إلا بدليل واضح بين.

أوجه الدلالة على كفر من قال القرآن مخلوق، وكفره كفر نوع

أوجه الدلالة على كفر من قال القرآن مخلوق، وكفره كفر نوع وأوجه الدلالة على أن من قال: القرآن مخلوق يكون كافر كفراً نوعاً: أولاً: تكذيبه للقرآن، فإن الله قرر في كتابه أن القرآن هو كلام الله غير مخلوق، فمن قال: هو مخلوق فقد كذب الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. فأضاف (الكلام) إلى الله، وهذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، لأن هذا ليس عين قائمة بذاتها. ثانياً: أنه شبه الخالق بالمخلوق، إذ المخلوق كلامه مخلوق، فمن قال: إن كلام الله مخلوق فقد شبه الله بخلقه، وقد أصل لنا نعيم بن حماد شيخ البخاري تأصيلاً عظيماً فقال: من شبه الله بخلقه فقد كفر. ثالثاً: هو مختلف فيه أصولياً وهو: أن من قال: إن القرآن مخلوق قد خالف إجماع سلف الأمة.

إجماع سلف الأمة على أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وحكمهم بتكفير من قال بخلق القرآن

إجماع سلف الأمة على أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وحكمهم بتكفير من قال بخلق القرآن وسلف هذه الأمة قالوا: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، وإليكم بعض الآثار عنهم: جاء بسند صحيح عن الإمام أحمد أنه سئل عمن قال: القرآن مخلوق، فقال: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، والجهمية كفرهم نوعاً لا عيناً، فقد صلى خلف الجهمي وأمر باتباعه، والسمع والطاعة له. كذلك وكيع التنين الذي إذا نزل مكة انفض الناس عن كل المجالس إلا مجلس وكيع، إذْ كان جبلاً في الحفظ رضي الله عنه وأرضاه، فقد سئل وكيع عن حكم ذبائح الجهمية فقال: حرام ميتة، فهم كفار، فهو أنزل الجهمية الذين يقولون: إن القرآن مخلوق منزلة الكفار وأن ذبائحهم تكون ميتة لا يجوز الأكل منها، ووكيع ثبت ثقة حافظ جليل، وإمام من أئمة المسلمين. وأيضاً قيل لـ ابن المبارك: إن النضر يقول: إن من قال: إن الله لم يكلم موسى فقد كفر، قال: صدق النظر، وقد استدل النضر على أن الله كلم موسى بقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]. فمن قال: إن قول: (إني أنا ربك فاخلع نعليك) مخلوق، فقد زعم بذلك أن الله أمر موسى أن يعبد مخلوقاً لا أن يعبد الخالق، وهذا أم الكفر وباب الكفر، فقال: صدق النضر. وأيضاً الإمام مالك قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، يقتل بعدما يستتاب. وقيل لـ جعفر الصادق: من قال: إن القرآن مخلوق ما حكمه؟ قال: كافر، يقتل ولا يستتاب. وفي استتابته خلاف بين العلماء، والمقصود أنه: ما من إمام من الأئمة إلا وكفر من قال: إن القرآن مخلوق، وليس صفة من صفات الله جل وعلا. وقد ناظر الشافعي حفص الفرد وبعد ما ناظره قال له حفص: إن القرآن مخلوق، فقال الشافعي: قد كفرت، يعني: بهذه المقولة، فإن من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر. وقد بينا وجه ذلك بأنه تكذيب للقرآن، ولأنه إنزال للخالق منزلة المخلوق، ومخالفة لإجماع أئمة الدين وسلف الأمة، فالقرآن كلام الله، سمعه منه جبريل بصوت وحرف كما بينا، ثم نزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم من قال لفظي بالقرآن مخلوق

حكم من قال لفظي بالقرآن مخلوق أما مسألة اللفظ وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق فقد اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال، وهذه المقولة مستحدثة، ولم تكن في عهد الصحابة ولا التابعين، فما كانت في عصر عمر ولا أبي بكر ولا عثمان ولا علي ولا التابعين، بل استحدثت هذه الكلمة في عصر تابعي التابعين، فهي كلمة مستحدثة، والمعاملة مع الكلمات المبهمة التي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً أن نتوقف فيها ونقول لقائلها: ماذا تقصد؟ فإن قصدت الحق قبلناه، وإن قصدت الباطل رددناه، إذاً: فلا نرد ولا نقبل مطلقاً. ومثال ذلك: الحلف بالقرآن، فإن ابن عباس صلى خلف رجل يقول: اللهم رب القرآن اغفر لفلان، فقال: تعال ماذا تقصد برب القرآن؟ لأنها تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن قوله: (رب القرآن) تحتمل أن تكون من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، أو تحتمل أنها من إضافة الخالق للمخلوق، فقال: رب القرآن، أي: القرآن كلام الله، قال: نِعْمَ ما قلت. إذاً: فالقاعدة أن الكلام المبهم الذي يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً لا نرده ولا نقبله على الإطلاق، وقولك: لفظي بالقرآن مخلوق نتعامل معه أيضاً بهذه القاعدة فنقول: ماذا تقصد؟ فإن قصدت أن القرآن نفسه مخلوق، فهذا كفر، وإن قصدت أن لفظك أنت هو المخلوق فهذا حق، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: وهو قول جماعة من أهل السنة من الأكارم الأماجد كـ أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغير هؤلاء، فهم يقولون من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كفر. ووجه ذلك أنه يقصد بها القرآن. القول الثاني: طرفان ووسط، طرف كفر، والطرف الثاني توقف، ويسمون الواقفة، فقالوا: نقف ولا نقول: كافر ولا ليس بكافر، ولا نعرف عن ذلك شيئاً، وهؤلاء هم أفراخ الجهمية، وجهلهم كما قال أحمد: جهل بسيط وليس جهلاً مركباً. وهناك فرق بين الجهل المركب والجهل البسيط، فالجهل البسيط: أن يعلم الإنسان أنه جاهل، فيقول: لا أدري، وأما الجهل المركب: فإنك تسأله فيفتي لك أشد ما يكون، ونحن نعلم أن الذي يفتي في كل مسألة فهو جاهل، ولا يعترف هو للناس أنه جاهل، بل يفتي للأنام. فالإمام أحمد بن حنبل، كان يقول عن أفراخ الجهمية: إن جهلهم جهل بسيط؛ لأنهم يقولون: نقف، ونتوقف. والإمام البخاري وإمام الأئمة ابن خزيمة يقولان: لا شيء في قولنا: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا القول هو الحق، ولكن نزيده تفصيلاً فنقول: إن قصد بلفظي بالقرآن أي: فعلي وكسبي وقراءتي التي أقرؤها مخلوقة فهذا حق، وإن قصد أن كلام الله وهو القرآن مخلوق فهذا كافر، وهذا يعضده الأثر والنظر.

حكم من سب الدين وحكم من سب الله وسب رسوله

حكم من سب الدين وحكم من سب الله وسب رسوله من المتأخرين من يقول: إن سب الدين ليس بكفر، وإنما هو من سوء الأدب، وهذا كلام باطل ضعيف جداً، بل إن سب الدين كفر، فمن سب الدين فقد كفر؛ لأن الذي يسب الدين فهو في الأصل يسب من أنزل هذا الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح)؛ لأن من سب الريح فقد سب من أرسل هذه الريح، فسب الدين الأصل فيه أنه كفر، وهذا التكفير للنوع وليس للمعين، وأما المعين فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، فإذا جئنا إلى هذا الرجل الذي يسب الدين فقلنا له: فنقول: اتق الله، فسب الدين سب لله، وذلك كفر، فإن قال: إليك عني، وسب بالدين مرة ثانية فإنه يكفر عيناً، فيستتاب وإلا يقتله ولي الأمر. وأما سب الله وسب رسوله فليس فيه إقامة حجة ولا إزالة شبهة، فسب الدين يختلف عن سب الله وسب رسوله؛ لأن القاعدة عند العلماء: أن لازم القول ليس بقول حتى يقر صاحب القول بذلك؛ لأن من سب الدين فلازمه سب أنزل هذا الدين. ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر من سب الريح لكن نهاه، وقال: (لا تسبوا الريح) لأن الذي يسب الريح فلازم ذلك سب من أرسل هذه الريح، فلازم القول ليس بقول، فلذلك لا بد أن تقيم عليه الحجة وتزيل الشبهة. وأما من سب الله بواحاً، أو سب الرسول في عرضه، أو قال: عائشة زانية أعوذ بالله من غضب الله، فهي المبرأة الصديقة، وهي زوج النبي في الدنيا وفي الآخرة، فمن رماها بالزنى فهو كافر بلا إقامة حجة ولا إزالة شبهة، لأنه مكذب للقرآن صراحة، ومتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وصل اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

صفحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية

صفحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بين كل فترة وأخرى يبعث الله لهذه الأمة رحمة بها من يجدد لها أمر دينها، ويعيد إليها مجدها، ويحيي ما اندرس من معالم دينها. ومن هؤلاء المجددين: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد كان عالماً جامعاً للعلوم، داعياً إلى الله تعالى، مقيماً للحق، ومن أعظم صفاته: عمله بعلمه، وصدعه بالحق، وحياته مليئة بالدروس فتصفحها وتأملها ففيها أعظم الفوائد.

أقوال العلماء في ابن تيمية

أقوال العلماء في ابن تيمية الحمد لله فاطر الأرض والسماوات، الذي خلق كل شيء فأبدعه، وجعله دلائل على ربوبيته وآيات باهرات، وأجرى البحار والأنهار وأرسى الجبال الشامخات، وزين السماء بالكواكب وجعلها حفظاً من مسترقي السمع وأرسل عليهم شهباً خاطفات، وجعل الشمس والقمر آيتين من آياته الباهرات، وجعل كسوفهما وخسوفهما على العباد من الابتلاءات، وأنزل الكتاب فيه الآيات الواضحات، فأرسل أفضل البشر بالبشارات والنذارات عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليمات، واصطفى له خير صحبة تمسكوا بسنته وصاروا على نهجه، وكان لهم أسمى الصفات والأخلاقيات، وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ورزقهم النصر والفتوحات، ثم اصطفى من بعدهم خيرة خلقه لحمل الكتاب وعن النبي الروايات، وجعلهم واسطة بين الخلق وبين رب السماوات، وقد وصفهم بالنجوم الهاديات، والله نسأل أن يجمعنا بهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنات. أما بعد: فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على ما منّ علينا من إتمام الدروس العلمية، ثم بهذا اللقاء الحافل لإخوة أفاضل وأخوات فضليات، وإن من دواعي سروري وامتناني واعتزازي وافتخاري أن أجلسني ربي بجانب شيخنا الفاضل الكريم في هذه الليلة المباركة، فقد أحسن معنا منذُ التزمنا ومنذ نعومة أظفارنا ونحن نجلس بين يديه إلى يومنا هذا أتم الإحسان، ولا أريد أن أكثر من مدحي فيه، فإنه يستغني عن مدح مثلي، فالحمد لله تعالى الذي تتم بنعمته الصالحات. سنتكلم اليوم عن رجل عز الزمان أن يأتي بمثله، وعقمت النساء أنت تأتي بنظيره، رجل خلقه الله له، كان شديداً على أهل البدعة رفيقاً بأهل السنة، حرباً على أعداء الله سلماً لأوليائه، أحرص الناس على السنة وأشدهم هجراً للبدعة هو: علم الأعلام، مجدد عصره، ودرة دهره، الإمام المفسر المحدث الحافظ الفقيه المجتهد المجاهد محيي السنة وقامع البدعة: شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، إمام زمانه والمقتدى به في أوانه، بركة الزمان وحسنة الأيام، بذل الغالي والنفيس لنصرة الحق، ورفع راية الدين، عانى دهراً يكفأ الباطل ويكشف سيفه، ويحق الحق ويعلي شأنه. قال الذهبي فيه: شيخنا شيخ الإسلام فرد الزمان وبحر العلوم. وقال ابن سيد الناس: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة شيخ الإسلام وسيد العلماء وقدوة الأئمة الفضلاء، ناصر السنة وقامع البدعة حجة الله على العباد، راد أهل الزيغ والعناد. وقال فيه السيوطي: هو شيخ الإسلام الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر نادرة العصر أحد الأعلام كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، ومن الزهاد والأفراد. قال فيه الشوكاني: لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن أنه سمح الزمان بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يطالبهما، قال ابن دقيق العيد بعدما سألوه: رأيته؟ قال: رأيته، قالوا: كلمته؟ قال: كلمته، قالوا: ناظرته؟ قال: لا، قالوا: لِم؟ قالوا: يحب الكلام، وأحب الصمت، وتأول هذا على أنه إذا تكلم كان كالسيل الجرار، فهو بحر العلوم، قالوا: ماذا تقول فيه؟ قال: أقول: لم يرَ مثل نفسه. قال ابن حجر: شهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس. وتلقيبه شيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الذكية، ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقدارهم، أو تجنب الإنصاف، وكان من أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، قال: وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز بين المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن علماء الحنابلة، قال أبو الحجاج المزي: ما رأيت مثله، وأبو الحجاج من جهابذة أهل العلم، كان حافظاً نحريراً مدققاً، عالماً بالجرح والتعديل والرجال والأسانيد، يقول عن شيخ الإسلام: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، ما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أتبع لهما منه؛ لذا حري بنا أن نتصفح جوانب من حياة شيخ الإسلام وسيد الأعلام. ومن هذه الجوانب: الجانب العلمي، ولا غرو ولا عجب، فهو العالم الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم. وقبل الكلام على هذا الجانب المهم من حياة شيخ الإسلام لابد لنا من مقدمة نبين فيها فضل العلم وأهله، تشحيذاً للهمم، وإعانة لمن أراد الوصول إلى القمم.

فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكبر جائزة لـ ابن عباس عندما وضع وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ليتوضأ منه عندما يقوم من الليل، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وفي رواية أخرى في الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم علمه الكتاب)، وقد كان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب). وشتان شتان ما بين القمر وبين سائر الكواكب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). وعن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه وأرضاه خطيباً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما المنطوق فهو: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأما المفهوم فهو: الذي لم يتفقه ولم يلهم العلم ولا الفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، فيا للخسارة على من تخلف عن مجالس العلم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، وهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفهم الذي هو شطر العلم -إن لم يكن هو كل العلم- محض فضل الله جل في علاه، وهذه توافق قول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، هذه الطائفة المنصورة والطائفة الناجية، قال كثير من المحدثين: لا نعرفهم إلا أهل الحديث. قال علي بن أبي طالب للكميل: العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق. وقال أيضاً: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم كانت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا خلف منه، ولا غرو ولا عجب، فإن الله جل في علاه كتب في اللوح المحفوظ: فناء هذه الدنيا وخرابها مناط بموت العلماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى يفشو الجهل ويقبض العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق الله عالماً أو لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فإن الساعة لا تقوم إلا بموت العلماء. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبثه لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقربة عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفى آثارهم. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: مثل العلماء في الناس كثمل النجوم في السماء يهتدى بهم. وقال الإمام أحمد: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك بأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم لنصرة دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: هذا الغرس هم أهل العلم. وبين عمر بن عبد العزيز أن الذي يتعبد على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقال: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني، وليس منكم ببعيد قصة الراهب والعالم عندما أفتيا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً. وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟! لا شيء، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! لا شيء. وقال الحسن: مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، لولا العلماء لكان الناس كالبهائم. وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، فأعتقني، فقلت بأي حرفة أحترف؟ عبد أسود أعتق، أي عمل يعمل بعد ذلك؟ قال: فاحترفت العلم فما تمت بي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له. والأعمش سليمان بن مهران كان جبلاً في الحفظ، وإن كان مدلساً لكن كان نحريراً مدققاً محققاً عالماً بالحديث وبفقه متنه، كان يقول: لولا الحديث لازدراني الناس، ولذلك قال لقمان: إن العلم أجلس المساكين مجالس الملوك. وقال معاذ بن جبل: العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الإيمان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فقد بين معاذ رضي الله عنه أن الله أناط السعادة بأهل العلم، وأناط الشقاوة بأهل الجهل، وقد بوب البخاري يبين فضل العلم على فضل العبادة أوسع ما يكون، فقال: باب العلم قبل العمل، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فرتب الاستغفار بعد العلم: تعلم فليس أخو علم كمن هو جاهل وإليكم أروع الأمثلة للعالم الرباني، الذي يؤتسى به ويقتفى أثره: هذا النحرير العالم فارس الميدان العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية: إخوتي الكرام! لا يخلو عالم ولا طالب للعلم من همة عالية، فإن علو الهمة عنوان التسديد والنجاح، وسفول الهمة عنوان الخسران والحرمان، لقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: العلم لا ينال براحة الجسد، وقد قالوا: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية

ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكبر جائزة لـ ابن عباس عندما وضع وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ليتوضأ منه عندما يقوم من الليل، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وفي رواية أخرى في الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم علمه الكتاب)، وقد كان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب). وشتان شتان ما بين القمر وبين سائر الكواكب! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). وعن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه وأرضاه خطيباً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، أما المنطوق فهو: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وأما المفهوم فهو: الذي لم يتفقه ولم يلهم العلم ولا الفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، فيا للخسارة على من تخلف عن مجالس العلم! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، وهذه إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الفهم الذي هو شطر العلم -إن لم يكن هو كل العلم- محض فضل الله جل في علاه، وهذه توافق قول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا قاسم، والله يعطي، ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله)، هذه الطائفة المنصورة والطائفة الناجية، قال كثير من المحدثين: لا نعرفهم إلا أهل الحديث. قال علي بن أبي طالب للكميل: العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق. وقال أيضاً: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم كانت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا خلف منه، ولا غرو ولا عجب، فإن الله جل في علاه كتب في اللوح المحفوظ: فناء هذه الدنيا وخرابها مناط بموت العلماء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى يفشو الجهل ويقبض العلم، وإن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق الله عالماً أو لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)، فإن الساعة لا تقوم إلا بموت العلماء. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبثه لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقربة عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفى آثارهم. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: مثل العلماء في الناس كثمل النجوم في السماء يهتدى بهم. وقال الإمام أحمد: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ وذلك بأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم لنصرة دينه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: هذا الغرس هم أهل العلم. وبين عمر بن عبد العزيز أن الذي يتعبد على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقال: من عمل بغير علم كان ما يهدم أكثر مما يبني، وليس منكم ببعيد قصة الراهب والعالم عندما أفتيا الذي قتل تسعة وتسعين نفساً. وقال بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟! لا شيء، وأي شيء فاته من أدرك العلم؟! لا شيء. وقال الحسن: مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، لولا العلماء لكان الناس كالبهائم. وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم، فأعتقني، فقلت بأي حرفة أحترف؟ عبد أسود أعتق، أي عمل يعمل بعد ذلك؟ قال: فاحترفت العلم فما تمت بي سنة حتى أتاني أمير المؤمنين زائراً فلم آذن له. والأعمش سليمان بن مهران كان جبلاً في الحفظ، وإن كان مدلساً لكن كان نحريراً مدققاً محققاً عالماً بالحديث وبفقه متنه، كان يقول: لولا الحديث لازدراني الناس، ولذلك قال لقمان: إن العلم أجلس المساكين مجالس الملوك. وقال معاذ بن جبل: العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الإيمان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، العلم إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء فقد بين معاذ رضي الله عنه أن الله أناط السعادة بأهل العلم، وأناط الشقاوة بأهل الجهل، وقد بوب البخاري يبين فضل العلم على فضل العبادة أوسع ما يكون، فقال: باب العلم قبل العمل، واستشهد على ذلك بقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فرتب الاستغفار بعد العلم: تعلم فليس أخو علم كمن هو جاهل وإليكم أروع الأمثلة للعالم الرباني، الذي يؤتسى به ويقتفى أثره: هذا النحرير العالم فارس الميدان العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية: إخوتي الكرام! لا يخلو عالم ولا طالب للعلم من همة عالية، فإن علو الهمة عنوان التسديد والنجاح، وسفول الهمة عنوان الخسران والحرمان، لقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: العلم لا ينال براحة الجسد، وقد قالوا: من جد وجد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقال الشاعر: لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

نشأته

نشأته نشأ شيخ الإسلام تقياً نقياً ورعاً زاهداً ناسكاً عابداً صوّاماً قواماً، ذاكراً لله تعالى، وقافاً عند حدود الله جل في علاه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، له همة كبيرة كالجبال، نفسه لا تشبع من العلم ولا تروى من المطالعة، لا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، فقد ظهرت عليه النجابة منذ صغره، فكان ذكياً فطناً سريع الحفظ، وقد اشتهر أمره وذاع صيته حتى سمع به شيخ من حلب وهو ما زال في طفولته، فجاء يسأل عنه يهتبل الفرصة فلما قابله أراد اختبار حفظه ومعه لوح كبير، فقال: يا بني! هات هذا اللوح وامسح ما به، ثم أملى عليه بعض الأحاديث فقرأها مرة واحدة، ثم رد عليه اللوح فقال: هل تستطيع أن تقرأ عليّ هذه الأحاديث؟ فقرأها عليه من حفظه فانبهر الشيخ! فقال: امسح يا بني هذا، فانتخب بعض الأسانيد فكتبها له، ثم قال: اطلع على هذه الأسانيد، وأعطاه اللوح فرددها عليه من حفظه، فقال الشيخ بعدما انبهر من سرعة حفظه، ومادحاً مكانة هذا الصبي، قال: هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإنه لم يُرَ مثله، وقد كان، ثم فاق شيخ الإسلام أقرانه في الحفظ وسعة الاطلاع وكثرة الاشتغال حتى أفتى ولم يبلغ العشرين من عمره، ثم شرع في التجميع والتأليف حتى صار إماماً لا يشق غباره في كل شيء، فإذا سئل عن فنٍ ما ظن السامع بعد الإجابة أنه لا يحسن غير هذا الفن؛ من شدة إتقانه لهذه العلوم.

تبحره في كثير من العلوم

تبحره في كثير من العلوم كان له قصب السبق في علم التفسير، وكان آية في استحضار الآيات وانتزاع الأحكام منها كما قال الذهبي، وكان يصف نفسه وكثرة اطلاعه وسعة دائرة مباحثه فيقول: ربما طالعت على الآية الواحدة ما يقرب من مائة تفسير، ثم أسأل الله جل في علاه الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، أما علم الأثر فهو جبل الحفظ مع دقة الفهم والنقد والتحقيق والتحرير. قال الذهبي: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه للمتون، وهذا ما انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضار الحديث واستخراج الحجج منهما، وإليه المنتهى في عزوه الحديث إلى الكتب الستة ومسند أحمد. قال الذهبي فيه: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. وهو الذي ربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، ولا غرو ولا عجب فهذا دأب سلفه من العلماء الربانيين، فهذا أبو حنيفة يقول: إن رأيتم قولي يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بقولي عرض الحائط، وهذا مالك الإمام العلم الذي قال فيه الشافعي: إذا ذكر الحديث فـ مالك النجم، قال مالك: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وقال الشافعي عندما سئل في مسألة فأجاب بعض أصحابه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال السائل: يا شافعي! أتقول بهذا؟ قال: وما لي لا أقول بهذا؟ أرأيتني خرجت من كنيسة؟! أريت في وسطي زنار؟! وما لي لا أقول بما قال به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! والقصة المشهورة في مناظرة الشافعي مع إسحاق بن راهويه عندما دخل أحمد على مجلس الشافعي وقال لـ إسحاق: سأريك رجلاً لم ترَ عينك مثله، فنظر إلى الشافعي فوجده شاباً حدثاً فقال: أنترك ابن عيينة يقول: حدثنا فلان عن فلان ونجلس في مجلس هذا الحدث؟ قال: إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي فلن تجده عند غيره، فجلس مجلس الشافعي وكانت المسألة المطروحة هل تباع بيوت مكة؟ وهل تؤجر؟ وهل تشترى؟ وهل تمتلك أم لا؟ فقال الشافعي: تمتلك وتباع وتؤجر، واستدل على ذلك بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قالوا: (تنزل في بيت عمك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع). وفقه الحديث: أن عقيلاً ورث عندما كان كافراً أباه وامتلك بهذا الإرث وباع واشترى في هذه البيوت، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستشهد الشافعي بهذا الحديث، فلم يتفطن إسحاق لفقه هذا الحديث، فأنكر على الشافعي وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة -وانتبهوا هو يعارض قول النبي بقول أفضل البشر أجمعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: حدثني فلان عن فلان عن عائشة: أنها ما كانت ترى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن الزبير: أنه ما كان يرى ذلك، وعدد كثيراً من الصحابة، فقام الشافعي مغضباً، ثم قال: من هذا؟ كأنه يقلل من شأنه، قالوا: ابن راهويه، قالوا: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك، قال: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- وتقول: قال فلان وقال علان، فعلمه درساً لم ينساه أبداً. وقال أحمد: لا تأخذوا مني، ولا من ابن عيينة ولا من الثوري وخذوا من حيث أخذوا، ولذلك رفع هذا الشعار ابن تيمية فربط الناس بالأثر دون تعظيم البشر على حساب الأثر، واستقى ذلك تلاميذه النجباء، وأعلاهم قدراً ابن القيم الذي أتانا بقول يكتب بماء الذهب: ما العلم إلا قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ومن درر كلام شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفهم متنه، ففهم المتن رأس الأمر، وهنا يخلط ابن تيمية بين علم الحديث وعلم الفقه، وهذا ما قرره مصنف من تلاميذ تلاميذه وهو: ابن رجب حيث يقول: طبقات العلماء ثلاث، أعلاها وأرقاها فقهاء المحدثين: كـ الشافعي وأحمد والبيهقي والنووي وابن حجر وغيرهم، ولذلك جمع شيخ الإسلام بين العلمين فقال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وهذا علم الحديث رواية، وفهم متنه وهذا علم الفقه أو فقه المتن، فجمع بين العلمين، ولا يزال العلماء يعتدون بتصحيح ابن تيمية وتضعيفه، وآخرهم محدث الشام علامة الزمان العلامة الألباني، أما في الفقه فهو البحر الذي لا ساحل له، فهو المحرر والمدقق والمحقق، وهو القائل: ليس العلم أن تعلم الحلال من الحرام، لكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف الراجح من المرجوح، أي: أن تعلم خير الخيرين، وشر الشرين. ورحم الله ابن رشد حيث قال: صانع الخفاف ليس كبائع الخفاف، وهذا يقرر كلام ابن تيمية، فـ ابن تيمية يقول: ليس العلم أن تعلم الحلال والحرام، فكل إنسان يمكن أن يفتح الكتاب ويقرأ: هذا حلال وهذا حرام، ولكن العلم أن تحرر محل النزاع، وتعرف كيف ترجح بين الراجح والمرجوح، قال: أن تعلم خير الخيرين وشر الشرين، فيقول ابن رشد: ليس صانع الخفاف كبائع الخفاف، يفرق به بين الفقيه العالم المحرر المدقق المحقق وبين المقلد، كأنه يأمر المقلد أن يصمت، ولا يناقش، ولا يجادل، ولا يرد على أحد، ويتعبد بما قلد به، أما المحرر فالفارق بينه وبين المقلد كما بين السماء وبين الأرض، ولذلك قال الذهبي يبين فضل شيخ الإسلام: قد فاق شيخ الإسلام الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له نظير، وقال ابن سيد الناس: إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته.

من دقائق فهم ابن تيمية

من دقائق فهم ابن تيمية من دقيق فهمه أنه قال: لولا الإجماع لقلت: إن عدة المطلقة ثلاثاً حيضة واحدة، وهذه التي أقف عندها، والتي ستبين لكم دقة نظر شيخ الإسلام، وأنه بحق أعجوبة في الزمان، وأنه خلقه الله له، وأن الله جل في علاه حباه فهماً لم يعطه غيره، فإن عمر بن الخطاب يبين أن الفهم هو كل العلم، عندما بعث إلى أبي موسى الأشعري فقال: الفهم الفهم فيما يأتيك، يقول ابن تيمية: لولا الإجماع لقلت: إن المطلقة ثلاثاً عدتها حيضة واحدة، وسأبين لكم دقة فهمه رحمه الله. فـ ابن تيمية يقول: العدة لها حقان، حق لله وحق للزوج، حق الزوج الرجعة، وقد انقطعت في البينونة الكبرى فلا رجعة، حتى تنكح زوجاً غيره، وحق الله هو استبراء الرحم، واستبراء الرحم لا يكون إلا بحيضة واحدة، فقال: لولا الإجماع لقلت: المطلقة ثلاثاً لا يبقى لها إلا حق الله جل في علاه فلا تكون العدة إلا حيضة واحدة. أما العقيدة والملل والنحل فهذا بابه وفنه الذي من أجله قاتل وناظر، فما تعرفت القرون من بعده على عقيدة السلف الصحيحة إلا به، فله في عنق كل سلفي المنة، فقد أنار الله به منار السنة وأطفأ به نار البدعة، وقد نفض الغبار عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وقاتل بها أهل البدعة والضلالة، والمكتبة الإسلامية زاخرة برسائله وكتبه الماتعة، لاسيما في الأسماء والصفات، ومسائل الإيمان والنبوات والرسالات.

تعرضه للإيذاء

تعرضه للإيذاء أختم كلامي بسنة كونية وهي: ما بزغ نجم عالم أو طالب علم إلا ظهر له من يحقد عليه ويحسده ويوشي به، ويقلل من شأنه ويجهله، وهؤلاء صنفان: صنف يجهل ما يقوله العالم أو طالب العلم، فهذا أحسن من الصنف الثاني؛ لأنه إذا تعلم سكت، وإذا أنصت وعلم قدر العالم عظمه وأعلى شأنه وسكت عن الكلام فيه، وقد قعد لنا علي بن أبي طالب قاعدة عظيمة في هذا الباب طبقها إمام أهل السنة والجماعة، فإن علياً قال: من جهل شيئاً عاداه، وأما التطبيق فقد كان للإمام أحمد عندما قيل له: إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي ويجرحه، فاشتدت دهشته وقال: أو تكلم يحيى بن معين في الشافعي؟! قالوا: نعم تكلم في الشافعي، فقال الإمام أحمد: إن يحيى يجهل ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئاً عاداه؛ ولذلك كانوا يجهلون علم شيخ الإسلام فيقولون: نسأله في المسألة في المشرق فيأتي بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال، فقال ابن القيم مذيلاً يبين لنا ويوضح أن هذا من آفة الجهل: وهذا من سعة علم شيخنا وجهلهم وضيق أفقهم. وأما الصنف الثاني من هؤلاء فهم أهل الحسد والحقد، والحسد مذموم في كل الشرائع، وقد نهى عنه الشرع نهياً جازماً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تحاسدوا)، فهو داء عضال، نسأل الله جل في علاه أن يعافينا منهم، فالحاسد محترق، لا يرضى إلا بموت المحسود، وزوال النعمة عنه، فيطلق بصره ولسانه ويده على المحسود، يتمنى أن يمنع عنه خير ربه وليس بمانع، وهذا الصنف أشر على العلماء وعلى طلبة العلم من الجهال، وهؤلاء أصناف كثيرة عادوا شيخ الإسلام في دمشق وفي مصر، أما في دمشق فقد كان أعلاهم شأناً المنصوري، وأما في مصر فكان زين الدين بن مخلوف، فهؤلاء رموا شيخ الإسلام بالجهل والتجسيم، بل كفروه بعد ذلك، ولاقى ما لاقى من التعذيب والإهانة والسجن والضرب والنفي بسبب وشاية هؤلاء، فإن شيخ الإسلام لما قام بتعليم الناس وربطهم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبذ التقليد وتعظيم الأشخاص فوق دين الله جل في علاه، أغاض بذلك أهل الهوى وأصحاب التقليد الأعمى وأصحاب المآرب والكراسي، فرموه بكل لقب سيء يريدون بذلك صد الناس عنه، وإخماد دعوته والتعمية عليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن نقول كما قال الله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. فالمبتدعة نفاة الصفات قالوا عنه: إنه مجسم؛ لأنه أثبت صفات الله كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلدة العميان المتعصبة للفقهاء فقالوا: قد خرق الإجماع وعادوه بل كادوا يقتلونه من أجل مسألة التبرك، والطلاق ثلاثاً والطلاق في الحيض. وقال القبوريون الذين يعظمون الأولياء فوق تعظيمهم لرسول الله، بل فوق تعظيمهم لله جل في علاه: إنه يبغض الأولياء ولا يعظم الرسل والأنبياء إلى آخر هذه الافتراءات والأباطيل على شيخ الإسلام. فلا غرو ولا عجب أن هذا الموقف لا يقف عند شيخ الإسلام بل يتكرر كثيراً مع كل مصلح، أو مجددٍ، أو مجتهد يدعو إلى دين الله جل في علاه، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى نبذ ما خالفهم، وعدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ومهم جداً أن تعرف قدر العظماء والأفاضل والأماجد والأكارم، لكن لا ترفع قدرهم فوق رسول الله، ولا فوق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجب عدم التعصب للأشخاص مع إجلالهم وتقديرهم، ودون الغلو فيهم، والعاقبة لابد أن تكون لهؤلاء العلماء الربانيين بفضل الله جل في علاه؛ لأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، وما زلنا حتى الآن نتكلم عن شيخ الإسلام وعن فضله، وعن كتبه، وما زال الناس يعظمونه ويعظمون شأنه ويدرسون كتبه، فإن من أراد الله أراد الله له ما يريد، فيا فوز العلماء! ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم! وأترك المجال لشيخنا ليشنف آذاننا بما عنده، جزاه الله خيراً.

بعض صفاته

بعض صفاته الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وآله وصحبه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه آخر، أما هذه الأمة فإن الله تعالى يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى واحد من هؤلاء الأماجد الذين ملئوا الدنيا، وعلموا الناس، وهو حقيق بقول الشاعر المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم هذا غيض من فيض في حق هذا الإمام الجليل، ونحن الليلة نتطفل على مائدة شيخ الإسلام ابن تيمية وننهل من معينه الذي لا ينضب، ونوره الذي لا يكاد ينقضي، فهو شمس أرسلت أنوارها المتجددة إلى عالم ما وراء الزمان والمكان، فهذا الشيخ الجليل العظيم رفع الله تبارك وتعالى له ذكره؛ لأنه أفنى عمره في خدمة دين الله تبارك وتعالى، هذا الرجل الذي أحيا ما اندرس من معالم السنة، وجدد شرع الله تبارك وتعالى، ورفع لواء العقيدة السلفية، وجاهد على كافة الأصعدة، جاهد في الله تبارك وتعالى بالسيف والسنان في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وزهد في كل منصب من مناصب الدنيا الفانية، ولقد كان في وسعه أن يكون أميراً على بلد كامل، لكنه رفض ذلك وقال: أنا رجل ملة ولست رجل دولة، وهكذا فقه مراد الله عز وجل فوظف نفسه لخدمة شرع الله تبارك وتعالى. فـ ابن تيمية ليس رجلاً عادياً إنما هو مفخرة من مفاخر الأمة الإسلامية، وطود شامخ، وصانع من صناع التاريخ، وأمة سكبت في رجل، ومنهج صيغ في شخص، وتاريخ كتب باسم إنسان، هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى. صفحات حياته مضيئة، مشرقة بالأنوار الهادية التي لا تكاد تنقضي، فعندنا نحن المسلمين من بين سائر الأمم من هذه الشخصيات القيادية الريادية ما تخضع لها أعناق الأمم والشعوب، مثل ابن تيمية الذي كتب بأحرف من نور على جبين الزمن فعاش من الخالدين؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر المحسنين، وهي سنة كونية تعمل في هذا الكون، أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهذا الرجل الذي خلط روحه ودمه بشرع الله عز وجل، ووصل ليله ونهاره لخدمة منهج الحق، هذا الرجل رفعته الأمة فوق رءوسها، وما زال صدى شيخ الإسلام ابن تيمية يتردد في آفاق العالم كله. أما الذين ناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة، وفتحوا له أبواب الزنازين والمعتقلات، وأفتوا بإهراق دمه، فقد أخمد الله تبارك وتعالى ذكرهم، فإذا بهم يرقدون الآن صرعى تحت أنقاض الزمن، أما هو فقد جدد الله تبارك وتعالى له ذكره، ورفع له قدره، وصارت الأمة الآن خلفه حتى أن المحاكم الشرعية في سائر أقطار العالم الإسلامي تتبنى اجتهادات ابن تيمية التي كان يطعن بها عليه، وأصبحت الآن منهجاً مقرراً في القوانين والدساتير التي تخط في تلك المحاكم، ورجل كهذا لابد أن يأخذ دوره الريادي، فهو بحق رجل لكل العصور، وابن تيمية جدد منهاج السلف في فترة -لو تعلمون- كانت أنوار السلف فيها خافتة، وظلمات البدعة قد عمت الآفاق حتى أشرقت شمس ابن تيمية فبددت تلك الظلمات، حارب الصوفية الغلاة، وحارب الفرق المنحرفة المبتدعة، وأظهر منهاج السلف، وكتب في كل صعيد، ولم يكتف بالكتابة، وإنما ربى أمة من أفاضل العلماء، حملوا منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فحسب، بل هو الرجل القانت الزاهد الأواب الذي يئوب إلى ربه تبارك وتعالى، ويستعينه في كل معضلة. إنك إذا تأملت سيرة ابن تيمية فإنما تقرأ قصة رجل صنعه الإسلام وصاغته الشريعة الإسلامية لتبين للناس عبقرية الإسلام في إخراج أبناء الإسلام الذين يلفتون الأنظار إلى شرع الله تبارك وتعالى، هو الرجل المجاهد في سبيل الله، القوام بالحق، الرجل الزاهد، الرجل الأسيف الذي يبكي من خشية الله وتضطرب فرائصه وترتعد فرقاً من الله تعالى، وهو الرجل الذي يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، وهو الرجل الذي يقول عن نفسه: وكانت تشكل عليّ المسألة فأهرع إلى المساجد المهجورة وأعفر وجهي في التراب وأسجد وأبكي وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فعلمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان سبحانه وتعالى. فارفعوا عقيرتكم بالجؤار إلى الله عز وجل في كل أمر صغير أو حقير من أمور هذه الحياة، فقوة الإيمان صفحة واضحة المعالم في حياة ابن تيمية رضي الله تعالى عنه.

حاله مع الله تعالى

حاله مع الله تعالى لندع تلميذه ابن قيم الجوزية يحكي لنا طرفاً من حياة ابن تيمية، فهذا التلميذ خصيص بـ ابن تيمية، سجن معه ولم يطلق صراحه إلا بعد وفاة ابن تيمية هو شعاع من نور ابن تيمية أرسله إلى هذه الأمة، يقول ابن قيم الجوزية: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في الدنيا جنة -يعني بها: جنة الإيمان، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم- من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري -أي: الإيمان والعلم- أينما ذهبت فهي معي، أنا سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة في سبيل الله تبارك وتعالى. فأمره كله مفوض إلى الله عز وجل، أسلم قياده إلى تدابير القدر، فما يصنع أعداء الله تعالى بطالب علم أسلم قياده إلى الله عز وجل، يعلم أن له في كل أمر من أمور حياته حكمة مع الله تبارك وتعالى، فاسمه الحكيم سبحانه وتعالى؟ وكان يقول في محبسه بالقلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما وفيت شكر هذه النعمة، رجل مسجون مأسور محبوس، يذكر عن نفسه أنه لو أنفق ملء القلعة ذهباً ما وفى حق شكر نعمة الله تبارك وتعالى، عندما جاءه الجلاوزة ليقتادوه إلى هذا الحبس الذي قضي عليه فيه هش وبش وابتسم، وقال: كنت أنتظر ذلك منذ أمد طويل، وهذا فيه خير عظيم، ثم انطلق معهم إلى السجن، فلما أغلق الباب تفتق ذهنه فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، لذلك يقول ابن قيم الجوزية: كنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الدنيا أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة! فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، يقول ابن القيم: سمعته يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! وحضرته مرة وقد انفتل من صلاة الفجر، ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، فإذا لم أتغذى سقطت قواي، أي: أن ذكر الله تبارك وتعالى هو مادة القوة التي تربط على قلبي، وتنير الآفاق لروحي، فينطلق عاملاً لله تبارك وتعالى، إن هذا المعنى هو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما قال لهم: (إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، قال العلماء: يقصد ما يفتح الله تبارك وتعالى به على قلبه من أبواب المعاني الإلهية فيطعمه ويسقيه: لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد لها بوجهك نور تستضيء به وقت الكلال وفي أعقابها حاد إذا شكت من كلال السير أوعبها روح القدوم فتحيا عند ميعاد إن مثل هذا الرجل العظيم بعثه الله تبارك وتعالى والأمة تتخبط في دياجير الظلمات، وحاله كحال الشاعر وكأنه يصفه يوم قال: ليل ولم يبقَ غير شعاع لم ينعه للمدلجين الناعي ما زال وضاء الثناء بأمة ضل القطيع بها وضل الراعي إن الإخلاص في طلب الحق والتخلص من أدران الهوى صفحة مضيئة من صفحات شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول: ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله، وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله الموضع، فإنها الدين كله، وينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه، وعبادته والاستعانة به كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولقد أحس بإخلاصه كل من عايشه وأدركه، فهذا الإمام السبكي وكان من ألد أعدائه، يقول في رسالته: والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره -أي: ابن تيمية - في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان. يقول الحافظ ابن كثير: لم أرَ مثله في ابتهالاته، واستعانته بالله، وكثرة توجهه إليه. فكل مسلم حري به وحقيق أن يطرق باب ربه تبارك وتعالى، وأن يرفع حوائجه إلى الله جل وعلا، فالإعانة من الله جل وعلا، فإذا أردت أي باب من الأبواب فاقرع باباً لا يغلق آناء الليل وأطراف النهار، وهو باب الله تعالى؛ لذلك قال بعض العارفين: إن من أدمن قرع الباب أوشك أن يفتح له، من وقف على باب الله تعالى قارعاً مبتهلاً متبتلاً أوشك الله جل وعلا أن يفتح له هذا الباب، ليلج مع السابقين الأولين من العظماء الأماجد الذين حملوا مشعل الهداية، وصاروا في ركاب الأنبياء والمصلحين عمالاً مع الله تبارك وتعالى، مجاهدين تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم، وشيخ الإسلام ابن تيمية الرجل العظيم الذي نزل الإسكندرية، وهذه من مفاخر أهلها، وكذلك الصحابة وطئوا أرضها، ونزلها من الأعلام الأماجد الشوامخ ما لا يحصى عدداً، فشرفنا في هذه المدينة بلقاء شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أرسلوه ليحبس في قلعة الإسكندرية. مكث ابن تيمية في مدينة الإسكندرية ثمانية شهور يبث اعتقاد السلف رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وأهدى إلى الأمة كتابات من أبدع ما كتب للرد على الملاحدة والمنطقيين، سئل عن تقريرات المناطقة فكتب كتابه الماتع: الرد على المنطقيين، وسئل عن ابن سبعين الصوفي الملحد فألف رسالته: بغية المرتاد المعروفة باسم السبعينية، وهذه كتبها هنا في مدينة الإسكندرية، ودعا إلى منهاج السلف، ومن يومها ومذهب السلف مستقر في مدينة الإسكندرية بحمد لله تبارك وتعالى.

ثباته وقوته في الحق

ثباته وقوته في الحق أما ثبات ابن تيمية فمن الصفحات المشرقة في حياته، فقد كان ذا شخصية قوية، ونفس لا تهاب الصعاب يقف أمام السلاطين، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاص، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً. يقول خادمه: ثم بعد أيام جاء عند الشيخ شمس الدين بن سعد الدين الحراني، وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية، -أي: الأمراء- وجاءت المشايخ التدامرة -نسبة إلى تدمر بلدة بالشام- وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك، فقال لهم: أنا إن قتلت كانت لي الشهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان الحبس لي معبداً وأنا مثل العنز كيفما تقلبت تقلبت على صوف! هذه كلمات تلاميذ الأنبياء! فيئسوا منه وانصرفوا، ثم ذكر أنه لما ركب مع نائب السلطان قال له أحد تلامذته: يا سيدي هذا مقام الصبر! فقال له ابن تيمية: بل هذا مقام الحمد والشكر، وإنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لفضل عنه، ولو أن معي في هذا الموضع ذهباً وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة! يقول الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام: كان قوالاً بالحق نهاءاً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة.

من مواقفه مع الحكام

من مواقفه مع الحكام من مواقفه الجريئة في الصدع بالحق أنه جاء إلى السلطان الناصر وحثه على القدوم إلى الشام لمواجهة التتار وقال له: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم، وتلا قوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وبلغ هذا الكلام الشيخ ابن دقيق العيد فاستحسن هذا الكلام وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة ابن تيمية للحكام والسلاطين. ووشي بـ شيخ الإسلام إلى السلطان الناصر، فاستدعاه وقال: بلغنا أنك تراسل التتار، وتحاول الاستيلاء على الحكم، فصرخ الشيخ في وجهه قائلاً: أنا أبحث عن الحكم يا مسكين! والله إن ملكك وملك أبيك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، قال ذلك للسلطان في وجهه، والحاشية من حوله؛ فخضعوا لهيبة هذا الشيخ العظيم رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وهو الذي ذهب بالنيابة عن أهل الشام لمواجهة السلطان قازان سلطان الدولة المغولية عندما قدموا لاحتلال الشام، وحاولوا أن يأتوا إلى مصر، فذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وأغلظ له في القول، وقال: أنت تزعم أنك مسلم وأبوك وجدك كانا مشركين، وصدقا معنا، ووفيا بعهودهما، وأنت ما وفيت، فلما قدم له الطعام أمسك شيخ الإسلام عن الأكل فقال له السلطان متلطفاً: لماذا لا تأكل أيها الشيخ؟ قال: كيف آكل وقد قطعتم أشجار الناس فأنضجتم عليه الطعام، وسرقتم الدقيق واللحوم لتأكلوها من أموال الناس بالباطل؟! فعظم في عين السلطان المغولي ونزل على إرادته، يقول من كانوا بحوزته من المراسيل: فكنا نرفع ثيابنا لتوقعنا أن تتناثر دماؤه علينا، فلما خرجوا من عنده غلظوا عليه، وقالوا له: لقد عرضت نفسك للهلاك وعرضتنا معك، سنفارقك، فقال لهم: وأنا أيضاً أفارقكم، فأخذ من طريق فنجاه الله، وساروا هم في طريق آخر فخرج عليهم قطاع الطريق واللصوص فشلحوهم وأخذوا ما معهم حتى جردوهم من ثيابهم! فالذي يعمل لله تبارك وتعالى يكون في كلأ الله وحفظه ومعيته، ويكون في حفظ الله تبارك وتعالى، قال الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. وكان قطلوبك واحداً من أمراء المماليك الظلمة يأكل أموال الناس بالباطل فجاء رجل فقير إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستعديه على هذا الأمير الجبار، فذهب معه شيخ الإسلام فقال له قطلوبك: إذا رأيت الأمير على باب الفقير فنعم الأمير ونعم الفقير، وإذا رأيت الفقير على باب الأمير فبئس الفقير وبئس الأمير، وأنت رجل زاهد أرسل لي وأنا آتيك، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية: قطلوبك! لا تعمل عليَّ دركواناتك -يعني خدعك-، كان فرعون أنحس منك، وكان موسى يأتيه مرات يذكره بالله، وكان موسى خيراً مني، ولم يتكبر على أن يأتي باب فرعون، وأنا آمرك أن ترد إلى هذا الرجل ماله؛ فاستجاب لرغبة شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

إنصافه مع مخالفيه

إنصافه مع مخالفيه ومن صفحات حياة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله تعالى عنه الإنصاف، فقد كان رجلاً منصفاً حتى مع مخالفيه، ولقد هم السلطان أن يقتل الرجال الذين سعوا بـ شيخ الإسلام لديه، وأفتوا بقتله؛ لأنهم أفتوا بخلع السلطان، فلما عاد إلى سدة الحكم استفتى شيخ الإسلام في قتلهم، فجثا على ركبتيه وقال له: اتق الله! هم مادة الإسلام، إذا قتلت هؤلاء لا تجد مثلهم في الآفاق! وما زال بالسلطان حتى رجع عما كان قد أضمره من قتل هؤلاء! يقول القاضي ابن مخلوف وهو من أشد أعداء ابن تيمية ومن الذين أفتوا بقتله ما رأينا مثل ابن تيمية، جاهدنا لنقتله فلما قدر علينا عفا عنا! هكذا يكون العالم منصفاً لله تبارك وتعالى، فهو منصف مع كل الفرق، ويعطي كل ذي حق حقه، ويذكر السلبيات والإيجابيات، وهذا بحر طويل لا يتسع المقام لذكره، لكن لنذكر منه شيئاً! اسمع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن الإمام الغزالي، وهو من رءوس الصوفية وفقهاء الشافعية وأئمة الأشعرية، وكان رجلاً متبحراً في العلوم لكن بضاعته في الحديث كانت مزجاة؛ ولذلك ضل عن السبيل، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه، ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة، ينتهي في هذه المسائل -مسائل الإيمان والغيب- إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك -انظر إلى الإنصاف! - رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف إلجام العوام عن علم الكلام. ما أحرانا بتحري الإنصاف مع الخصوم والمخالفين، لو كان هذا في زماننا وتحدث رجل عن مخالف له لقال لك: المبتدع، رأس النفاق، أستاذ المبتدعة، وغير ذلك من الشقشقات الفارغة التي قطعت حبال المودة بين قلوب الناس، علينا أن نكون منصفين، فإن الله تبارك وتعالى خاطبنا بالإنصاف حتى مع المشركين فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، ولفظ الناس يعم الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم.

شجاعته

شجاعته أما شجاعة شيخ الإسلام ابن تيمية فيضرب بها المثل، يقول الحافظ سراج الدين: كان إذا ركب الخيل يجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، وينكي العدو من كثرة الفتك بهم، ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت. فليس شيخاً يقرر في مجالس العلم اجتهادات واختيارات فقهية، وإنما يخرج إلى ساحة الورى يحمل روحه على راحته ليكون قدوة للعالمين، هكذا يكون طالب العلم، ويكون العالم الرباني، إنه يصول ويجول في سبيل نصرة دين الله تبارك وتعالى بكل ما أوتي من قوة باللسان أو بالسنان. ومن أعظم مواقفه: أنه قاد الأمة يوم وقعة (شقحب) التي انكسر فيها التتار كسرة عظيمة، يقول أحد أمراء الشام: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية يوم وقعة (شقحب) مع التتار ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليه، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت الغبرة فدونك وما تريد، قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال، وأما أنا فخيل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حال القتال بيننا وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار، فقلت: يا سيدي لك البشارة بالنصر، فإنه قد فتح الله ونصر وهاهم التتار محصورون في هذا الوادي، فقال: إن شاء الله يأخذهم الله عن آخرهم، وحمد الله وأثنى عليه! هكذا يطلب من الأمير أن يوقفه في موقف الموت، فيقول: أوقفني موقف الموت! رجل صادق يبحث عن الشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى، لم يخرج مع الجيوش رياء وسمعة، ولم يتخف في بنيات الطريق، وإنما وقف على قمة الجيش يبحث بصدق عن الموت في سبيل الله تبارك وتعالى، لكن الله عز وجل ادخره لهذه الأمة ليواصل المسيرة الحضارية العلمية العظيمة التي أحيا بها ما اندرس من علوم السلف الصلحاء.

تفننه في مختلف العلوم

تفننه في مختلف العلوم كان إماماً مبرزاً وعالماً فحلاً من فحول الأمة في كل أمر من الأمور، ليس في الفقه والحديث والأصول والتفسير والعقيدة فقط، وإنما في التاريخ واللغة، بل حتى في سائر معارف عصره، إنه تعلم اللغة اللاتينية ليدرس كتب الفلاسفة والمناطقة بلغاتهم الأصلية، وتعلم اللغة العبرية ليدرس التوراة والإنجيل بلغتها الأصلية، وتعلم اللغة التركية ليستطيع أن يخاطب بها التتار، فهو عالم موسوعي، من منا الآن تعلو همته ليتعلم ثلاثة لغات لخدمة دين الله تبارك وتعالى؟! إن الذي يحفظ عشرة أحاديث الآن يقال له: أبو فلان كذا، وغير ذلك من الألفاظ العارية عن المحتوى، وهو كان يتحدث ثلاث لغات، ويحفظ الأحاديث حتى قيل: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا من باب المبالغة في إظهار حفظه رضي الله تعالى عنه وأرضاه. علمه كالبحر، حتى إنه تبحر في علوم اللغة العربية، وكان الإمام أبو حيان الأندلسي وهو من كبار النحاة وعلماء الشريعة والتفسير منبهراً بشيخ الإسلام ابن تيمية فجلس معه يوماً يتناقشان في مسألة من الإعراب والنحو، فأغلظ له ابن تيمية وخطأ قوله، فقال أبو حيان: هذا الكلام ذهب إليه سيبويه، فقال له ابن تيمية: وهل سيبويه نبي النحو؟ إن سيبويه أخطأ في كتابه في ثمانين مسألة لا تعلمها أنت ولا سيبويه! حتى في اللغة كان إماماً مبرزاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فليس رجلاً عادياً، وهذه الهمة جعلته فوق هامة الزمن إنما هي همة إسلامية صرفة؛ لأن الله تبارك وتعالى حفظ للأمة منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الزمن الذي يعتور فيه منهج أهل السنة والجماعة الأضاليل والأباطيل والبدع، يخرج العلماء الفحول ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين؛ لأجل ذلك وقف الإمام شعبة بن الحجاج رضي الله تعالى عنه، عندما استشرت حركة الوضع في الحديث على أيدي الزنادقة، وقف على الجسر في بغداد ونادى بأعلى صوته: يا أهل بغداد أيظن ظان أنه يستطيع أحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي بين ظهرانيكم، هيهات هيهات، هيهات هيهات! كان ابن تيمية رضي الله تعالى عنه صناعة إسلامية خالصة، رجلاً مبرزاً في كل الأمور، ليس رجلاً عادياً، فالمهمة تحتاج إلى همة، ولن تنال المجد حتى تلعق الصبرَ، فالإنسان يحتاج إلى أن يخوض الأوحال، وإلى أن يعضه الجوع، وإلى أن يتعرى في الله، وإلى أن يفتقر في الله، وإلى أن يؤذى في الله تبارك وتعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى يصهر الناس في المحن، فإذا صمدوا أخرجهم ذهباً إبريزاً، ثم حملتهم الأمة بعد ذلك فوق رأسها. فهذا الرجل أمضى حياته بياضها وسوادها لخدمة دين الله تبارك وتعالى، حتى إن والده وهو طفل صغير أراد أن يأخذه مع إخوته للتنزه فبكى واعتذر لوالده، وقال له: لا أحب الخروج فمكث، فلما عاد والده قال: يا أحمد! ماذا صنعت في هذه الفترة؟ قال: يا أبي حفظت هذا الكتاب، ثم دفع إليه جزءاً كبيراً فراجعه معه أبوه فلما وجده حفظه عن ظهر قلب، قال: يا بني لا تخبر بذلك أحداً، خاف عليه من العين. ولقد بلغ من محبته لنصرة الحق أنه درس الفلسفة من كتب أهلها ثم أنحى عليهم باللائمة وخطأهم، يقول: كنت أنام فأرى في المنام أنني أناظر أرسطو كبير الفلاسفة، فأقطع حجته، وهذا من محبته للعلم. ولما مرض جاء إليه الطبيب فقال: لا بد من إخراج هذه الكتب من عندك؟ فقال: أنتم تزعمون في الطب أن المحبوب إلى النفس يدفع النفس الغريزية في الإنسان إلى مقاومة المرض أليس كذلك؟ فقال له: نعم، قال: فأنا أحب القراءة والمطالعة، وهذا يقوي النفس الغريزية عندي على مقاومة المرض، فأذن له الطبيب في ذلك، أحب المطالعة في كل صغير وكبير من أمور حياته، لم يقرأ كتاباً ثم يدعي بعد ذلك أنه إمام الأئمة أو سلطان الأمة لا؛ بل أفنى عمره في المطالعة والتضرع لله حتى وهو محبوس مأسور في القلعة، فقد بعث برسالة إلى الإمام ابن قيم الجوزية، يقول: أرجو أن تبعث لي بتعليقة القاضي أبي يعلى، يعرف مكانها أخي، أرسلها على وجه السرعة هكذا يقرأ وهو في السجن، يكتب وهو في السجن حتى أحصى له تلامذته أربعين ألف فتوى في الأمور الفقهية فجمعوها رضي الله تعالى عنه وأرضاه، على كل أمر من أمور حياته مقيم على المطالعة، مقيم على الكتابة، كان يكتب الكتاب الكبير بين الظهر والعشاء! ولما سئل عن الكتابة في المنطق قال: يكفي ما كتبناه في التقرير في النقض على المنطقيين، وقد كتبت ذلك بالإسكندرية في جلسة بين الظهر والعصر، وهو كتاب في مجلد كبير كتبه بين الظهر والعصر استدلالاً واستشهاداً ومناقشة وترجيحاً فرحمه الله تبارك وتعالى! وكتب الصارم المسلول على شاتم الرسول في جلسة بين العصر والمغرب، فقد كان يكتب رضي الله تعالى عنه وأرضاه في كل فن من الفنون، وفي كل أمر من الأمور.

كرمه

كرمه أما كرمه وجوده فحدث عن البحر ولا حرج، فمع ما كان يحياه من ضنك العيش وشظف الحياة إلا أنه كان أكرم الناس للناس، وكان أسعى الناس في قضاء حوائج المحتاجين، قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل، هذا هو السخاء الحقيقي أن يتعفف الإنسان عما في أيدي الناس، هذا تعفف عما في أيدي الناس، وبذل ما في يده لسائر العالمين، ولقد بلغ من كرمه أنه بلغ منزلة يضرب بها المثل، يقول ابن فضل الله العمري: كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، فيهب ذلك بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئاً إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه. وقال الإمام الذهبي: كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد الأفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد، حتى إن رجلاً كان محتاجاً إلى عمامة دخل مجلس ابن تيمية وهو مع أساطين عصره، فلما لمح الرجل يستحي من الطلب خلع ابن تيمية عمامته فشقها بنصفين وأعطى الرجل نصفها واعتم هو بالنصف الآخر! هكذا كان جوده. وكان يتحرى التصدق بين يدي الصلاة، والدعاء ما أمكنه؛ لأنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الدعاء والصلوات أولى من ذلك. أما قوة فراسته فهذا باب بحر خضم يحتاج إلى حديث طويل، ولقد ذكر تلميذه الرباني ابن قيم الجوزية في شرح منازل السائرين من ذلك شيئاً كثيراً، فليراجع ذلك.

سجنه وتحويله السجن إلى مدرسة علمية

سجنه وتحويله السجن إلى مدرسة علمية كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أستاذاً من أساتذة السنة وعاملاً من عمال الله تبارك وتعالى في هذه الأرض، ولقد ابتلي وأوذي وسجن، وهذا معلم واضح من معالم طلاب العلم في هذه الحياة، فإنك إذا ذهبت تستقرئ سير وتواريخ الأنبياء، وأتباع الأنبياء في سائر الأثبات والمصنفات ستجد بعد ذكر اسمه وشيوخه وتلاميذه ومصنفاته يقولون: محنته؛ لأن امتحان طالب العلا لابد أن يكون شيئاً متحققاً: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. وقد ابتلي ابن تيمية رحمه الله تعالى بالإيذاء النفسي، والبدني، وبالتضييق عليه، واعتقل وسجن أكثر من مرة حتى كانت وفاته في السجن رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأنزل الابتلاء والأذى على سائر تلاميذه ومحبيه، وصودر ما لديهم من الكتب، وكانت معه مواجهات صمد فيها صمود الجبال الرواسي حتى إنه لما دخل السجن حوله إلى مدرسة علمية، وانفتل إلى الناس يدرسهم الفقه والحديث والتفسير حتى تحول السجن من مكان للصوص والشطار وأكابر المجرمين إلى مدرسة علمية تربوية! يقول المؤرخون: حتى كان الرجل يأتيه الإذن بالإفراج من الوالي فيبكي ويرفض الخروج من السجن؛ لأنه يريد أن يلازم شيخ الإسلام ابن تيمية، فتحول السجن إلى مدرسة ابن تيمية للعلوم الشرعية رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذه هي الهمة العالية! فالإنسان المثمر هو كالغيث أنى نزل على أرض أنبت فيها المرعى والعشب والكلأ، فلابد أن تظهر آثارنا على المجتمع وعلى من حولنا من الناس، ولا يكون ذلك إلا بعلم وإخلاص وتطبيق وعمل؛ لأن اقتران العلم بالعمل يذهب من النفوس الشك والتكذيب، ويدفع الناس إلى الثقة والانقياد.

مرضه ووفاته

مرضه ووفاته وبعد حياة حافلة حفيلة بالعلم، والعمل، والدعوة، والزهادة، والإخلاص، والإنابة، والتوكل على الله تبارك، وتعالى أثمر فيها في كل الميادين، وانتصر في كل فتح من الفتوح على كافة الأصعدة، آن لهذا البدن المعنى أن يغادر الحياة، ولتلك الروح الغريبة عن عصرها أن تلحق بربها تبارك وتعالى، فمرض شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه كما يقول ابن فضل الله العمري، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان ذلك مبدأ مرضه ومنشأ عرضه، حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة ربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوماً، وأكثر الناس ما علموا بمرضه واستمر به الحال حتى وافاه الأجل. يقول عامة المؤرخين: توفي رحمه الله في العشرين من شهر ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، وقد اتفق موته في سحر ليلة الإثنين، فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة، وتكلم بها الحراس، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب الجسيم، فبادر الناس إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه، حتى من الغوطة والمرج، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، واجتمع حشد عظيم من الخاصة والعامة، وبدأ الناس يختمون القرآن قبل غسله، وأذن للنساء بعد الرجال فزرنه، ولم يبق عند الغسل إلا من كان عليه أن يغسله، واجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه وباب البريد وباب الساعاد. ثم شرعوا في غسل الشيخ، وكان الذي تولى غسله هو الإمام الحافظ المزي رحمه الله تبارك وتعالى، وصلي عليه مرات، وحملت جنازته إلى المسجد الأموي، واجتمعت البلدة على بكرة أبيها، ولم يعرف أن عدداً خرج في جنازة إلا في جنازة الإمام أحمد ما يوافي ما خرج في جنازة ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، حتى حصروهم بثلاثمائة ألف من الرجال غير الذين جاءوا إلى قبره للصلاة، وأعلن بالصلاة عليه، واجتمع الناس، وضجت الأسواق بالنحيب والبكاء والترحم والثناء والدعاء، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وسقطت المناديل والعمائم عن رءوس الناس والناس لا يلتفتون إلى ذلك، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتضاعف الخلق، وكثر الناس، ووضعت الجنازة هناك، وتقدم للصلاة عليه أخوه زين الدين وحمل إلى المقبرة، حيث دفن إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله، ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور، وحصر الرجال الذين حضروا الجنازة ما بين ستين إلى مائتي ألف عدا النساء، ويقدر الحاضرات من النساء بخمسة عشر ألف امرأة عدا من كنّ على الأسطحة والغرف، ولم يعهد مثل هذا الزحام في تاريخ دمشق! قال الإمام البرزالي: ولا يمكن أحد حصر من حضر من الجنازة، وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد، يقول ابن رجب: وصلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام القريبة والبعيدة حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة، الصلاة على ترجمان القرآن، قال البزار: وما وصل خبر موته إلى بلد إلا وصلي عليه في جميع جوامعه، خصوصاً أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وغيرها، ولم يُر لجنازة ما رؤي لجنازته من الوقار والهيبة، وخرج بعض تلامذته لما رأى ذلك متأثراً فصاح في وسط الناس: هكذا تكون جنائز أئمة السنة، فضجّ الناس بالبكاء والعويل! وحق لهم أن يبكوا على الشمس التي رحلت في رابعة النهار مرتحلاً إلى ربه تبارك وتعالى بعد أن شق طريقاً للسنة، وأسس أساساً للمنهج السلفي، وأرسى دعائمه، وبنى قوائمه، وناظر المبتدعة فرماهم بسهام السنة فأصماهم في سويداء قلوبهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومصداق جنازته في تنبؤ الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه يوم قال: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، فاللهم ارض عن صاحب هذه الروح، وافسح له أبواب الجنة، فهي آخر ما كان يرجوه من الفتوح. هذه إضاءات على صفحات مشرقة لإمام من أئمة الدعوة السلفية، ومؤسس المدرسة السلفية المعاصرة في القرون المتأخرة، وحامي ومجدد علوم السلف رضي الله تعالى عنه وأرضاه، تلك هي الصناعة الإسلامية، وبقية الخير في هذه الأمة لا تنزع عنها إلى قيام الساعة، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال). فنحن بحاجة في هذه الأزمنة التي تباعد فيها الناس عن السنة، والتي غلبت فيها الأهواء والشحناء والأحقاد والمنازعات؛ بحاجة إلى الرجوع إلى مثل هذه التراجم للنظر في سير الأئمة الأعلام، أئمة الدعوة السلفية المباركة، الذين حملوها في قلوبهم، فرفعتهم في قلوب الناس، رضي الله تعالى عنهم جميعاً وأرضاهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم أيها السفهاء

هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم أيها السفهاء إن الأقلام ليجف حبرها، وإن الكلمات ليعجز الإنسان عن سردها عندما يكون الحديث عن خير مخلوق عرفته الأرض؛ إنه محمد عليه الصلاة والسلام الذي حاز أعلى درجات الكمال البشري، وحاز على رضا ربه ومولاه، وتمكن حبه من كل قلوب أتباعه، فيجب علينا أن نسير على ما كان يسير عليه، وأن نقتفي أثره، ونتبع سنته.

بيان مكانة النبي الكريم

بيان مكانة النبي الكريم الحمد لله فاطر السماوات والأرضين، الذي تكفل لنا بحفظ الملة والدين، جبار السماوات والأرض القوي المتين، أرسل لنا خير الثقلين وخير خلقه أجمعين، الذي لقبه أهل الكفر أنفسهم بالصادق الأمين، صاحب الأخلاق العلية والأنوار البهية، إمام النبيين والمرسلين، صاحب لواء الحمد الذي به يكشف عن البشرية في يوم الدين. أرسله ربه رحمة للعالمين وهادياً للمتقين وإماماً للصالحين، ومكن له في ربوع الأرض مشارقها ومغاربها ليبلغ هذا الدين، فسارت دعوته إلى جميع الأقطار، وبلغ الدين بإذن ربه ما بلغ الليل والنهار، وما ترك بيت مدرٍ ولا وبر إلا دخلته بعز عزيز أو بذل ذليل، وستبقى طائفة يدافعون عنه وعن شريعته إلى يوم الدين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ولا من تكالب عليهم من الإنس والجن مجتمعين. واختار له خير صحبة على مر الدهور والعصور والسنين، فأحبوه من كل قلوبهم وقدموه على الأموال والأنفس والبنين، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين وعلى أصحابه الطاهرين الغر الميامين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، أما بعد: فقد صدق الله وصدق رسوله ونحن على ذلك من الشاهدين، قال الله تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، قال جل في علاه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109]، وقال جل في علاه كاشفاً عن أوصافهم: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119]. فلا تزال الحرب مشتعلة مستعرة بين أهل الطغيان أولياء الشيطان وبين أولياء الرحمن بشتى ألوانها وأنواعها، وتتمثل الحرب الآن في شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا عجب ولا غرابة في هذا؛ فإن أهل الكفر من اليهود والنصارى قد آذوا موسى عليه السلام من قبل ذلك واتهموا يوسف بالزنا، وآذوا عيسى بن مريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فأرادوا قتله وصلبه. ثم هذه الحرب التي لا هوادة فيها شنوها حرباً ضروساً على سيد الأنبياء والمرسلين، ولذلك كان لزاماً على جميع الأمة صغيرها وكبيرها أن يدفع ذلك بكل ما أوتي من قوة قدر استطاعته فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، وإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وبسبب هذا الهجوم على هذه الأمة نخصص في هذه الليلة هذه المحاضرة التي نتحدث فيها عن رسولنا الكريم لعل الله أن يتقبلنا جميعاً فيمن ينزل تحت لوائه مدافعاً عن عرضه بأبي هو وأمي. نخاطب من خلالها الذين تجرءوا على عرض نبينا صلى الله عليه وسلم أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ينتمي نسبه إلى عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل الذبيح عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فهو أشرف الناس نسباً وأعظمهم قدراً. روى مسلم في صحيحه عن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى منهم قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). سأتكلم بإيجاز في هذه المحاضرة، وأبين لهؤلاء السفهاء مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربنا جل في علاه رب الأرض والسماوات وعند الصحابة الكرام؛ علنا نقتدي بفعلهم وتعظيمهم وتبجيلهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلنا لا نفضح يوم القيامة عند المقارنة بين أفعالهم تجاه جناب رسول الله وبين أفعالنا في هذه الأزمنة، ثم نبين مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المشركين والكافرين، ثم واجب هذه الأمة نحو رسولها صلى الله عليه وسلم.

الرسول يبشر به من قبله من الرسل

الرسول يبشر به من قبله من الرسل إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه دعوة إبراهيم وبشارة عيسى وموسى ورؤيا أمه: أما دعوة إبراهيم فقد حكى لنا الله جل في علاه عنه بقوله عندما دعا ربه {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]. وأما بشارة موسى وعيسى ففي التوراة والإنجيل ذكره حتى بعد التحريف قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. وقال جل في علاه مبينا على لسان عيسى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]. وهذا دأب الكافرين، وأحمد من أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وورد عندهم في التوراة في بعض الأسفار: لقد أضاءت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده. وهذا فيه ذكر محمد صراحة دون أدنى تحريف ولا تأويل. وورد في إنجيل لوقا: الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض إسلام وللناس أحمد، وأحمد المقصود به هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

محمد صلى الله عليه وسلم أفضل المرسلين

محمد صلى الله عليه وسلم أفضل المرسلين النبي محمد هو أعظم الرسل مكانة عند ربه جل وعلا، فهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وقدوة الصالحين، وسيد الملائكة المبشرين، أعظم الرسل قدراً، وأشرفهم مكاناً، وأعلاهم شأناً، فقد أجمعت الأمة على أن رسل الله جل في علاه هم أفضل الخلق على الإطلاق، والرسل بعد ذلك يتفاضلون فيما بينهم قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]. وقد فضل الله أولي العزم من الرسل على البقية، وأولي العزم هم: محمد صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، نسأل الله جل وعلا ألا يفضحنا أمامه يوم القيامة، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وقال جل من قائل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. وذكرهم بالتصريح في آية أخرى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، (ومنك) أي: من محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل هؤلاء الخلق على الإطلاق بلا منازع هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو أكرمهم على ربه جل في علاه. فقد ذكر الله في كتابه الحكيم كل نبي باسمه دون لقبه، إلا رسول الله مبيناً شرف ومكانة هذا النبي العظيم عند ربه جل في علاه، فليسمع هؤلاء الرعاع كيف يلقبه ربه جل في علاه تعظيماً لمكانته قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]. وربنا جل في علاه لم يقسم بحياة نبي قط وهم أشرف الخلق على الإطلاق إلا بحياة رسولنا صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- حيث يقول الله جل في علاه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. ومن الأدلة التي تبين فضل رسول الله على البشر أجمعين وعلى أولي العزم من الرسل أنه ما من معجزة ولا فضيلة ولا عظيمة آتاها الله جل في علاه لنبي من أنبيائه إلا كان الحظ الأوفر والنصيب الأعظم لنبينا صلى الله عليه وسلم، فقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً واتخذه كذلك خليلاً، كما في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). حتى إنه لما أُسري به أم الأنبياء؛ شرفاً وتعظيماً وتكريماً لهذا النبي الجليل. وكانت خاصية موسى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وكلم الله كذلك محمداً صلى الله عليه وسلم أيضاً كما كلم موسى، وهذه ظاهرة جداً في قصة المعراج عندما عرج به وكلم ربه عندما قال جبريل: هنا لا أستطيع أن أتقدم، فتقدم رسولنا على جبريل، فهو سيد الخلق أجمعين بلا منازعة. ويكلمه ربه فيفرض عليه خمسين صلاة، وتنزل إلى خمس صلوات كخمسين في الأجر فضلاً من ربنا ورحمة. وكما أن الله حبا عيسى عليه السلام القدرة على أن يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فإن في غزوة بدر قام ابن النعمان ينافح عن رسول الله فسقطت عينه على وجنته فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعها في مكانها فكانت أصح ما تكون وكانت أفضل العينين لـ قتادة بن النعمان. وعبد الله بن عتيق كسرت رجله فحمل إلى رسول الله فمسح على رجله فاستقامت رجله فكانت أصح الرجلين له، وهذه فضيلة حباها ربنا لرسوله صلى الله عليه وسلم كما أعطاها لعيسى عليه الصلاة والسلام.

فضائل لم يعطهن نبي قبله

فضائل لم يعطهن نبي قبله فضل الله نبينا على جميع الرسل، وخصه بست من الفضائل لم يعطَ نبي فضيلة واحدة من هذه الست، وأعظم من هذه الست القرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. وفضله الله على الأنبياء بأن أعطاه جوامع الكلم، ونصر بالرعب، وأحلت له الغنائم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفضائل الست في قوله صلى الله عليه وسلم: (فضلت على الناس بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون). كان كل نبي يرسل إلى قومه خاصة وأرسله الله كرامة له للناس أجمعين، ولذلك صح في البخاري ومسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! ما يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار). وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وذلك أن يجمع الله له بالقول الوجيز المعاني الكثيرة. فلو تدبر الإنسان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وإذا شرح هذا الحديث في مجلدات ما احتملت المجلدات شرح هذا الحديث. قال: (ونصرت بالرعب) فإن الله جل في علاه -كرامة لهذا النبي العظيم- يلقي في قلوب أعدائه الرعب من مسيرة شهر، قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]، وقال في آية أخرى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. قال: (وأحلت لي الغنائم) وكانت العادة في زمن الأنبياء أن تنزل النار من السماء تأكل هذه الغنائم، فأحلها الله رحمة بهذه الأمة وكرامة لنبي هذه الأمة. قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) جعلت الأرض بأسرها طهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة في أي مكان فلم يجد الماء فله أن يضرب يديه على الأرض ويمسح على وجهه ويديه ويصلي الصلاة في أي مكان مستقبلاً القبلة رحمة من الله بهذه الأمة وكرامة لنبي هذه الأمة. وهذه الفضيلة المهمة العظيمة قال: (وأرسلت للناس كافة) فإن الله جل وعلا أرسله للناس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم، بل وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم للثقلين: الإنس والجن، قال تعالى على لسان نبيه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال تعالى حاكياً عن الجن: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30 - 32]. وأخيراً هو خاتم الأنبياء فلا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]. هذه الكرامات وهذه المكانة العظيمة التي أجلاها الله وصورها في هذه الدنيا إتماماً لهذه الكرامات وإتماماً لتعظيم مكانة رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الله الخلائق يوم الدين، يوم يكون رسولنا الأمين بيده لواء الحمد والأنبياء والمرسلون تحت لوائه كل يكون تابعاً له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد بلا فخر، وما من نبي يومئذٍ -آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول من يشفع ولا فخر) فعندما يشتد الكرب ويدلهم الخطب وتقترب الشمس من الرءوس يغرق الناس في العرق، ومنهم من يصل عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وتزلزل القلوب، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، وعندما يعظم الأمر على الناس يستشفعون بالرسل والأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم للقضاء بينهم، وما من نبي إلا ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، آدم يحيلهم إلى نوح، ونوح يحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول النبي الأمين: (أنا لها أنا لها، فيذهب ويخر ساجداً عند العرش، فيحمد الله بمحامد لا يعلمها إلا في ذلك الوقت)، وهذه خصيصة لرسولنا صلى الله عليه وسلم كرامة وتعظيماً وتشريفاً لنبينا. يقول: (فأحمد الله بمحامد فيقال: يا محمد سل تعط، واشفع تشفع) -بأبي هو وأمي- هذه مكانته عند ربه جل في علاه، فهلا علم هؤلاء السفهاء كيف مكانة هذا الرسول العظيم عند ربه جل في علاه؟!

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة انظروا كيف كان الصحابة الكرام يضحي كل واحد منهم بنفسه وحياته وماله فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إليكم نبأ هؤلاء الأخيار ماذا فعلوا مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، والصحابة هم أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وأحسن الناس خلقاً، وأكثرهم علماً، وأبرهم قلوباً، ومن عظيم فضلهم رؤيتهم لسيد المرسلين، وأهم مناقبهم رؤية وجه النبي الكريم. فكان أحدهم من شدة تعظيمه له لا يستطيع أن يديم بصره إلى وجه النبي الكريم، مع أن النظر إلى وجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من أعظم المناقب كما سلف وذكرنا. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه واصفاً إسلامه: أتيت النبي وكان أبغض الناس إلي، فلما أسلمت كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليّ، وكان من شدة تعظيمه له لا يستطيع أن يرفع بصره إليه، ولو طُلب منه أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فما كان يستطيع النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً وتشريفاً وتكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ومهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يحبونه من كل قلوبهم، ويفدونه بكل غالٍ وثمين، ويقدمون النبي صلى الله عليه وسلم على كل شيء، ويضعون نصب أعينهم قول ربهم جل في علاه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، ويقدمون قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) وهذا الحديث يتوقف عنده كل واحد منا ويخلو بربه ويخلو بنفسه، بعدما سمع ورأى الحرب الضروس على نبينا، والاستهتار بجلاله والخفض من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل نفسه: هل رسول الله أحب إلى أحدنا من نفسه ومن والده ومن ولده ومن الناس أجمعين؟ الإجابة تفصل لك الإيمان ومكانتك عند ربك جل في علاه، لو أنك وقفت موقفاً ورأيت رجلاً سفيهاً قد علا صوته واشتد خطبه عليك وسبك وسب أباك وأمك ومن تعرف، فكيف سيكون موقفك؟ حبك لأبيك يدفعك للرد فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكل منا يقف وقفة مع نفسه ويقول: إن النبي أناط الإيمان بأن أقدمه على نفسي وعلى أبي وعلى أمي وعلى كل شيء، فهل كل منا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل شيء؟ الإجابة عندكم، وكل منا سيضع الدرجة التي يكون فيها ومكانته عند ربه جل في علاه لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين). وقد أظهرت لنا المواقف الرائعة مكانة رسول الأنام عند صحبه الذين برأهم ربهم من درن كثير من الآثام، وإجمالاً سنحكي لكم حالهم مع رسول الله ثم يأتي بعد الإجمال التفصيل. كانوا جميعاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى أحدهم حمل نعله والآخر يحمل وسادته، وإذا توضأ تزاحموا على فضل وضوئه، وإذا تنخم مسحوا بما تنخم به جلودهم تبركاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا عروة بن مسعود الثقفي يحكي لنا كيف كان وضع النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه الكرام قال: لقد وفدت على الملوك وعلى قيصر وعلى كسرى والنجاشي والله! ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله! ما تنخم نخامة ووقعت في كف رجل منهم إلا دلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له ومهابة له. ويقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: ما فرح أصحاب محمد بشيء أشد من فرحهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من يحب) وكلهم يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويتمنون مرافقة رسولهم صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة. ولذلك لما قدم مولى رسول الله الوضوء لرسول الله قال له النبي صلى الله عليه وسلم مكافأة: (تمن علي، فقال له مولاه: أتمنى مرافقتك في الجنة. فقال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذلك) ما عندي إلا ذلك، الدنيا بأسرها لا تساوي دقيقة واحدة بالنظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم! لا تسقطنا من هذه المكانة أبداً، اللهم! اجمعنا معه في الفردوس الأعلى يا رب العالمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعني على نفسك بكثرة السجود)، هذا إجمال حالهم مع رسول الله. أما تفصيلاً: فهذا أبو بكر خير الناس بعد النبيين والمرسلين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس على مثل النبيين والمرسلين مثلما طلعت على أبي بكر)، رضي الله عنه وأرضاه قد فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهله وماله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنتم تقولون: كذب ويقول: صدق، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، واساني بأهله وماله)، لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتذكر العدو من الأمام فيأتي أمام النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حياته لا تساوي شيئاً أمام حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتذكر الطلب من قريش فيأتي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي يميناً ثم يأتي يساراً! كان الصحابة حين يجلسون مع رسول الله أو حين يرون طعامه أو شرابه أو نومه يتأدبون بأدب جم مع هذا النبي الكريم كما في الحديث: (كنا نسير أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ونترك ظهره للملائكة)، ويصف لنا أحد الصحابة الكرام مجلسه قال: كنا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسنا الطير! هيبة وتعظيماً لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا غرو ولا عجب فقد تأدب بأدبهم التابعون وفعل ذلك الذين تبعهم بإحسان، فيذكر أهل السير من مناقب مالك أنه كان ما يجلس مجلس التحديث ليروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغتسل ويتطيب، وكان الناس يرونه يمشي في المدينة حافياً فيسألونه: لم تفعل ذلك؟ فكان يقول: تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بل فوق ذلك كان شغوفاً بالعلم، لكن كان إذا جلس ليكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم يعلوه الوقار والسكينة، وفي ذات مرة في مجلس التحديث تزاحم الناس على ربيعة شيخ الإمام مالك فما وجد مكاناً ليجلس ويكتب الحديث، فكان قائماً والناس يكتبون، ومالك لا يكتب فعلتهم الدهشة! فسألوه: لم لا تكتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال: كنت قائماً فعظمت حديث النبي أن أكتبه وأنا قائم، فلا بد من الجلوس والتعظيم والتبجيل والتوقير لمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. علت أصوات الصحابة أبو بكر وعمر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات مرة فنهاهم الله عن ذلك وردهم رداً رادعاً زاجراً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فيبكي عمر ويبكي أبو بكر ويقولان: حبطت الأعمال، فكانوا يجلسون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أحدهم أن يتنفس النفس وله صوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل تحت طائلة هذه الآية العظيمة! ومن أدبهم مع رسولنا الكريم أنهم كانوا يطرقون بابه بالأظافر خوفاً وهيبة وتعظيماً لهذا الرسول العظيم الذي عظمه ربه جل في علاه. وهذا ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه في أسفاره كان يتلمس أي مكان ينزل فيه الرسول فينزل في هذا المكان، يضع القدم على القدم، ويقول: ليت القدم يكون على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سأل الصحابة: أين كان يبول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيذهب فيبول في المكان الذي بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه! وجاء رجل من أهل اليمن إلى ابن عمر يسأله عن حج النبي صلى الله عليه وسلم وطواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يبتدئ بالوضوء يتوضأ ويدخل إلى البيت فيذهب إلى الحجر الأسود فيقبله، فقال اليمني: أرأيت يا ابن عمر إن دفعوني، يقول: رأيت رسول الله يقبل الحجر، يقول: يا ابن عمر أرأيت إن زاحموني، يقول: رأيت رسول الله يقبل الحجر، اقتداء واحتذاء برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال له: أرأيت يا ابن عمر! لو قتلوني، فقال: اجعل أرأيت في اليمن، قد رأيت رسول الله يقبل الحجر)، حتى ذكر عن ابن عمر أنه كان يقف ليقترب من الحجر فيدفعونه حتى يرعف وينزل الدم من أنفه ومن وجهه ولا يتحرك حتى يقبل الحجر ويقول: (رأيت رسول الله يقبل الحجر)، ولا غرب ولا عجب، فأبوه كان يأتي إلى الحجر الأسود ويقبله ويقول: (والذي نفسي بيده! قد علمت أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). وهذا أنس كان لا يحب الدباء، قال: (جلست مجلساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الدبا على المائدة، ورسول الله يتتبع الدباء في الصحفة، فأصبحت أحب الدباء منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أكل الدبا). وأبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه فضيلته مشهورة معروفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس فنسي آية فما رد عليه أحد، فلما سلم قال: (أفي القوم أبي؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: لم لم ترد علي؟ فقال: خشيت أو استحي

شهادات من أهل الكفر للنبي الكريم

شهادات من أهل الكفر للنبي الكريم هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم لم تقف مكانته العظيمة عند المسلمين، والحق ما شهدت به الأعداء، فإن الله جل في علاه جعل لرسوله العظيم المكانة العظيمة والمهابة الخالدة عند عقلاء الكافرين، وهذا الذي جر كثير من أهل الكفر للدخول في الإسلام. فهذا عروة بن مسعود الثقفي يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظمته وهيبته فيقول للقوم: ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه مثلما رأيت من أصحاب محمد يعظمونه، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. ومن مكانته عند هرقل عظيم الروم أنه قال -عندما جاءه كتاب رسول الله- مبيناً عظمة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو منهم: إني كنت أعلم بخروجه، ولم أكن أظن أنه منكم -أي من العرب-، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه تعظيماً وتبجيلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فما بالنا لا نعظم رسولنا؟! فما بالنا لا نعرف له حقه؟! فما بالنا لا نعرف قدره؟! وأبو جهل كان أشد الناس عداوة وضراوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس تهكماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه في الخلوات كان يعرف قدره ويعرف عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لصاحبه: إني والله! لأعلم أنه صادق! وعبد الله بن سلام كان منصفاً من اليهود يعلم عظم قدر رسول الله، وكان يقرأ صفاته، فلما رأى الصفات متجلية أمامه دخل في الإسلام لعظمة صفات النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل الإسلام قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت فلا تخبرهم بإسلامي، فدخل عليهم رسول الله فسألهم: كيف فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، سيدنا وابن سيدنا، حبرنا وابن حبرنا، فقال: كيف إذا أسلم؟ قالوا: لا والله! لا يسلم أبداً، فدخل عبد الله بن سلام يبين عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقالوا: حقيرنا وابن حقيرنا بغيضنا وابن بغيضنا، فانقلبوا رأساً على عقب! والغرض المقصود أنه علم مكانة الرسول فسارع بالدخول إلى الإسلام.

أنوار من شخصية الرسول الكريم

أنوار من شخصية الرسول الكريم إليكم أنوار من سمات شخصية رسولنا الكريم التي جرت الكافرين للإسلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وأخشاهم وأتقاهم. كان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه. كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، وكان يفطر حتى نقول: لا يصوم، وفي هذه عبادة وتلك عبادة. كان يتغلب على الجوع بالصوم. كان كريماً شهماً يحمل الكل ويعين على المصائب والنوائب. جاءه رجل يسأله فأعطاه وادياً من الغنم، فذهب سفيراً إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وحسن جواره وتعامله مع أهل الكفر أثر فيهم فدخلوا الإسلام، وأنقذهم الله بحسن خلقه من النار، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه ليعود مريضاً يهودياً فلما ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند رأسه فقال: يا غلام! أسلم تسلم، فدخل أبوه اليهودي فقال للغلام: أطع أبا القاسم، فقال الولد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فخرج النبي فرحاً يقول: (الحمد لله الذي أنقذه الله بي من النار)، وهذا من فرط رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس أجمعين، وما أرسله الله إلا رحمة للعالمين، حتى قال تعالى له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] (باخع) أي: قاتل.

واجب الأمة نحو رسولها

واجب الأمة نحو رسولها ختاماً: ما هو واجب الأمة نحو هذا الرسول العظيم الذي عظمه ربه وكرمه وشرفه، وعظمة الصحابة الكرام والتابعون من بعدهم؟ إن هذه الأمة لما استهانت بنبيها صلى الله عليه وسلم باستهانتها لسنته جعلت في الخلف ظهرياً، وعندما أصبحت تعيب على أصحاب السنن وتستهين بهم، بل وتستهين بعلمائها الذين هم حملة الدين وورثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ هانوا عند ربهم بأفعالهم؛ لأنهم حاربوا السنن بقدر استطاعتهم. فعلى هذه الأمة أن تستيقظ من سباتها، وتستفيق من غفوتها، وترجع إلى تعظيم نبيها صلى الله عليه وسلم، وتعظيم سنته، والعمل بها ونشرها بين الناس، فإذا رأى أهل الكفر أن هذه الأمة تعظم نبيها بتعظيم سنته عظموه وهابوا مكانته، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9] وتعظيم النبي وتعظيم سنته وتحكيم شريعته يكون في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل دقيقة؛ ونشر ذلك في كل مكان: على الإنترنت، على الفضائيات، على المذياع، على كل شيء. لا تسكت أنت تستطيع أن تحول أمة بأسرها إن كنت مخلصاً، فلحظة صدق واحدة مع الله لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم تنقلب الدنيا بأسرها لتناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى أم إسماعيل لحظة صدق واحدة صدقت فيها مع ربها جل في علاه فحباها الله زمزم عيناً معيناً إلى يوم القيامة بلحظة واحدة. ولا بد من النصح لأصحاب الفضائيات وغير هؤلاء بوقفهم الهجوم الضاري على سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ويناصح الذين يقولون: إن البخاري أحاديثه موضوعة، ومسلم أحاديثه ضعيفة! علينا أن نناصح هؤلاء القوم بأن نقول: إن سنة النبي فوق الرءوس، فهو قدوتنا وأسوتنا، ولن نرتقي ولن نمكن ولن نرتفع إلا بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بتعظيم سنته. ألخص النقاط التي يجب علينا فعلها ونسأل الله أن نفعلها جميعاً: أولا: التوبة إلى الله: فإن سب الرسول من أردئ وأشد البلايا على هذه الأمم؛ لأن الله يغربل البشر، فإن سب الرسول فيه غربلة لنا، وإن رسول الله جنابه محفوظ، ومكانته عند ربه محفوظة، والمعني بذلك نحن، وإن الله يختبرنا وينظر إلى قلوبنا ويكشف عنا، هل نصدق معه؟ هل نحب رسول الله حقاً؟ هل نتمسك بسنته حقاً أم لا؟ فلا بد من التوبة الصادقة على تفريطنا في دين الله جل في علاه، وعلى تفريطنا في عدم التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا بلاء، وإن البلاء لا ينزل إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة. ثانياً: نشر فضائله في كل الأقطار، فعليك أن تنشر فضل نبيك صلى الله عليه وسلم وأن تعرف رحمته وتعرف سماحته وكرمه وشجاعته وعلمه وتقواه وورعه، وأن تنشر ذلك في كل مكان: في عملك في دكانك في بستانك في أسرتك، علم أولادك حب رسول الله وحب آل بيت رسول الله وتعظيم رسول الله وتعظيم صحابة رسول الله، كما قال عبد الله بن المبارك: إن تعليم الأولاد حب صحابة رسول الله من دين الله جل في علاه فكيف بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثالثاً: التمسك بهذه السنن والعمل بها وتعظيمها وتعظيم من يعمل بها، ولن يتم ذلك إلا بطلب العلم، فلا يمكن أن تعظم سنة النبي إلا أن تعلمها، وكيف تعلمها وأنت على سريرك؟ وكيف تتعلمها وأنت أمام الفضائيات؟ فهم لا يشرحون لك الكتب العلمية، ولا يعلمونك كيف كان يستنبط العلماء كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تتعلم سنة النبي إلا بالعلم، ولن تفوز ولن ترتقي إلا بذلك، وقد قرأت كلام بعض العلماء المعاصرين قال: من أراد التمكين والرفعة لهذه الأمة والرجوع إلى الازدهار الأول وجب عليه التفريق بين القراء وبين العلماء، وبين العلماء والخطباء، لا بد أن تفرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ لأن الأمة لم ترتق إلا بعلمائها، وكل القراء والخطباء والعظماء والمثقفون لابد أن ينزلوا تحت لواء العلماء، وخلفهم؛ لأن هؤلاء كلهم خلف رسول الله، ورسول الله يحمل لواءه العلماء، فعليك أن تعلم أنك لن تنشر سنة نبيك إلا بالعلم، ولن ترتقي إلا بتعلم سنة النبي حتى تنصرها وحتى تنشرها بين الناس. رابعاً: الولاء التام للنبي صلى الله عليه وسلم بكل ما تستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، بالقلم فتكتب عن رسولنا العظيم، ولن تبرأ ذمتك أمام ربك جل في علاه حتى تضرب بسهم في نصرة رسول الله وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. خامساً: حث الناس على مقاطعة كل ما يأتي من قبل هؤلاء، أنا ما كنت أقول بالمقاطعة في السابق حتى عارضين بعض طلبة أهل العلم، فقلت بذلك نظراً للمصالح في هذه المسألة، فهذا عرض رسول الله هذا جناب رسول الله، فكيف نرضى بالدرهم والدينار ليهدم عرض رسول الله؟ لو قمنا بهذه المقاطعات هل سيحدث الفقر؟! وإذا حدث فلنمت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [التوبة:28]. سادساً: لا بد من الوقفة الصحيحة الصادقة مع النفس، فكل واحد يقول: هل نصرت رسول الله أم لا؟ وهذه تكفيك، والإجابة عندكم وليست عندي. سابعاً وأخيراً: الهمة في دعوة غير المسلمين، أنت الآن لا تستطع أن تفعل لهم شيئاً، ولكن تستطيع أن تدعوهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الكفار من أجل القتال ولا من أجل إسالة الدماء ولكن قاتل من أجل نشر الدعوة والتوحيد، فنحن نقول الآن: أنت تستطيع أن تدعوهم إلى الإسلام، فلا بد من الهمة العالية في دعوة غير المسلمين إلى الدخول في هذا الدين؛ لأن هذا من حق نبينا عليك، ومن نصرة النبي أن تفعل ما أمرك به، فمن حق نبينا علينا أن نبلغ عنه ولو آية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وحتى لا يصل الإسلام مشوهاً إلى هؤلاء الذين يقولون عنا: قتلة، ويسيلون الدماء، ويفعلون كذا، فلا بد عليك من أن تتعلم العلم وتنشره بين الناس وتدعو إلى ربك على غرار قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وبقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل ربي الكريم أن يلهمني الإخلاص، وأن يبرئ ساحتي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا أكون مقصراً في حقه إلى يوم الدين.

هل ينسب الشر لله عز وجل؟

هل ينسب الشر لله عز وجل؟ القدر سر الله في الكون، والعبد مكلف بالتسليم لأقدار الله وحكمه فحسب، فالله يخلق ما يشاء ويقدر ما يشاء لا اعتراض على حكمه ولا شقاق لأمره، أفعاله كلها كمال كأسمائه وصفاته، ولا عبث فيما خلق، فكل مخلوق خلق لحكمة جهلها من حجب الله عنه نور علمه، وعلمها من هداه الله لنور حكمته، وعظيم تقديره وصنعه، ومع ذلك فالعبد عاجز عن إدراك حكمة الله في كل دقائق محيطه، والله من رحمته قد جلى له حكماً تنير سبيل تسليمه لربه.

مقدمات ضرورية

مقدمات ضرورية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فسنتكلم في هذا البحث عن مسألة طرحت وتطرح وينظر ويدقق النظر فيها، وهي مسألة نسبة الشر إلى الله، فهل ينسب الشر لله جل في علاه أم لا؟ وهذه مسألة عويصة تكلم فيها من لا علم له فيها فأفسد، وتكلم فيها من أتقن فيها فأجاد، ولا بد في هذه المسألة من نظر أولي بتأصيل علم معين. ومن هذا التأصيل أن نقول: الشر مثل: الزنا، والسرقة، والكذب، والخداع، والغش، هل هو من خلق الله؟ والسؤال الثاني المطروح: هل يحب الله هذه الشرور؟ وهل كل ما خلقه الله يحبه؟ فهذا سؤالان مطروحان لابد من الإجابة عنهما. والإجابة عن هذه الأسئلة تأتي بعد التأصيل الذي سيريح طالب العلم، وهو كالتالي: الأصل الأول: إن الله جل في علاه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وله الكمال المطلق، فله الكمال في أسمائه الحسنى، وله الكمال في صفاته العلى، وله الكمال في أفعاله، فلا يمكن أن ينتج عن فعل الله إلا الكمال. وهذا التأصيل هو الذي يجب أن تعتقده أولاً. الأمر الثاني الذي يجب أن تعتقده: أن الله جل في علاه لم يخلق خلقاً ولم يفعل فعلاً إلا وهو نابع عن حكمة وعلم، فالله جل في علاه هو أعلم العالمين، وهو أحكم الحاكمين، فما خلق شيئاً إلا لحكمة، وما فعل شيئاً إلا لحكمة، وستدرك فائدة هذه المسألة حين تعلم أن الله ما قدر قدراً، سواء كان يسراً أو عسراً إلا لحكمة بالغة. التأصيل الثاني يتناول الشرور وهو: شر الزنا وشر السرقة وشر الغش هل هذه شرور محضة؟ وهل الشر فيها شر محض أم أنه نسبي إضافي؟ وهذا تأصيل ثانٍ لابد لطالب العلم أن يتقنه. فينبغي أن يعلم أن الشرور قسمان: القسم الأول: شر محض مطلق لا خير فيه بوجه من الوجوه، وهذا القسم من الشر لا وجود له بحال من الأحوال، فلم يخلق الله شراً محضاً. القسم الثاني: شر نسبي إضافي، يكون من وجه شر ومن وجه آخر خير، أو من وجوه أخرى خير، ومثال ذلك: قطع يد السارق فهو شر بالنسبة له؛ لأنه فقد عضواً من أعضائه التي كان من الممكن أن يعينه ويساعده على الحياة، وهو ليس بشر محض، بل هو خير من وجوه أخر منها قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فكل سارق سيحدث له القطع الزجر الشديد، ويكون رادعاً له فلا يسرق، فيأمن الناس على بيوتهم وأموالهم وأعراضهم، وكل هذه خيرات من قطع يد السارق. بل فوق ذلك أن هذا الشر الذي لحق بالسارق فيه خير له، وهو أن قطع اليد كفارة لما فعل، فلا يسأل عن السرقة يوم القيامة عند الله جل في علاه، والدليل على ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته المرأة فقالت: إني حبلى من الزنا فطهرني، فأمر برجمها، فلما رجمت تناثر الدم على وجه خالد فقال خالد: لعنة الله عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبها فإنها تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم). ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرها على قولها: طهرني، فيستفاد من ذلك أن إقامة الحد طهارة من الذنوب، وإذا طهرت من الذنب فلا تسأل عنه يوم القيامة بحال من الأحوال، وهذا وجه الدلالة الأول. وهناك وجه ثان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوستعهم)، وهو أن التوبة تجب ما قبلها، ومعلوم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ويؤيده حديث (من تاب تاب الله عليه)، وإن كان فيه ضعف. فدل ذلك على أن إقامة الحد فيه خير كبير للسارق. وقد يظن أن إبليس شر محض، فهو صاحب الغواية والوسوسة، وهو الذي ألزم نفسه وأقسم بربنا جل في علاه أنه يزين لأهل الأرض حتى يدخلهم نار جهنم، وهو شر ليس بعده شر، ومع ذلك خلقه الله جل في علاه، وهنا لا ينبغي أن تقول: رضية ولا تقول: أراده بل تقول: شاءه الله، أي: قدره كوناً، ومع ذلك فهو شر نسبي إضافي. فما الخير الذي يأتي من ورائه إذا قلنا: إنه ليس بشر محض؟ هو شر من وجه ومن وجوه أخرى فيه خيرات، فهل هناك خيرات تأتي من الشيطان؟ كيف وقد لعنه الله حيث قال: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18]؟ كيف والشر كله في إبليس غواية، ووسوسة، وقتل، وتفريق بين الزوجين، وسحر، وغير ذلك؟! نعم، كل هذه شرور من الشيطان، لكن فيه خير، بل خيرات، فمنها مغفرة الذنوب، ومنها التمييز إذ بالشيطان يحدث التمايز، وهذه حكمة بليغة من الله جل في علاه؛ لأن الله من حكمته أنه يضع الشيء في موضعه، ومعلوم أن الشرع يأتي فيفرق بين المختلفين ويسوي بين المتماثلين، وأصل هذه التقعيدات قول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154]. فلولا أن الشيطان موجود، يوسوس لهذا ويوسوس للآخر، ويجعل هذا يزل وهذا يزني وهذا يسرق، لادّعى كل إنسان الخير والصلاح. وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك كل سيدعي أنه من أهل الخير، فالتميز حاصل بالوسوسة التي تمحص المؤمن من الكافر، وتميز المسلم من الفاسق والبر من الفاجر. إذاً: الأصل الثاني: لم يخلق الله جل في علاه شراً محضاً، وهنا قد يقول قائل: إنك أصلت أصلاً أولاً قد رجع عليك بالنقد إذ إنك قلت: كل أفعال الله كمال، خالية من الشر وقد أقررت هنا بالشرور! والجواب على ذلك أن نقول: إن الشر في مفعولات الله وليس في أفعال الله، بمعنى: الشر في الأثر وليس في الأصل، فخلق الله لإبليس كمال محض، من حيث إنه خلق، أما إبليس نفسه ففيه شر، فيعلم أن فعل الله كمال والشر في المفعول وليس في الفعل. ويفسر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من شر ما قضيت)، فالشر في المقضي فحسب، فدل على أن الشر في المفعولات وليس في الأفعال.

الأدب في نسبة المفعولات إلى الله

الأدب في نسبة المفعولات إلى الله من الشرور الزنا والسرقة والقتل والغدر، فهل تنسب هذه الشرور إلى الله؟ الإجابة على ذلك أن نقول: سنقر بهذا لكن بقيد وشرط، ونثبت هذا على التقييد لا على الإطلاق، أو نقول: على التضمين وليس على التصريح، فلنا ثلاثة أمور نقر فيها بأن الله خلق الشر: الأمر الأول: أن نجعل هذه الشرور تندرج تحت الأصل العام، فلو قيل: أخلق الله الزنا؟ أخلق الله القتل؟ أخلق خلق الله السرقة؟ نقول: الله خالق كل شيء؛ إذ إنه من سوء الأدب أن تقول: خلق الله الزنا، أو خلق الله هذا الفحش من الكلام، فمع أن الله خلقه، لكن نقول: هذا الشر في المفعول وليس في الفاعل، فتدرجه تحت الأصل العام ألا وهو: الله خالق كل شيء. الأمر الثاني: أن تنسب هذا الشر للإنسان وكسبه، فالإنسان هو الذي زنى، وهو الذي سرق، وهو الذي قطع، وهو الذي تكلم بفحش الكلام، وقد قال الله تعالى حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فمع أن المرض خلقه الله، إلا أنه نسب المرض لنفسه؛ ولذا يصح أن تقول: الزاني فلان، أو السارق فلان. وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما دخل اليهود وقالوا: يا رسول الله! السام عليك، فقالت عائشة: وعليكم السام، ثم قالوا: السام عليكم مرة ثانية ثم ثالثاً فقالت عائشة: وعليكم السام والموت يا إخوة القردة والخنازير، فلما قالت ذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! قد رددنا عليهم، إن الله لا يحب الفاحش البذيء)، فنسب السب للمكلف، فلك أن تنسب الشر لفاعله. وسبق في مبحث الأسماء والصفات أننا عندما نتحدث عن صفات الكمال ينبغي أن نتحدث عنها بتفصيل فنقول: الله خالق، الله رازق، الله معطي، الله محب، الله ينزل، وعند التحدث عن الصفات السلبية التي هي صفات النقص نتحدث عنها بإجمال، وقد ضرب صاحب شرح الطحاوية مثلاً لذلك فقال: لو دخل رجل على ملك موقر فقال له: أنت ليس في الكون مثلك، أنت لست بزبال ولست بكناس ولست بزان وأمك ليست بعاهرة، ولا أبوك بسارق، فلا شك أنه سيقطع رأسه في الحال؛ لأنه سيء الأدب. وهكذا عند نسبة الشر لله جل في علاه نقول: إنه يندرج تحت القاعدة العامة أو الأصل العام: الله خالق كل شيء، والثاني: أن ننسب لفاعل الشر فعل الشر، وهذا مستقى من قول إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. ومع ذلك لا بد أن يعلم أن نسبة الشر لفاعله ليس على الإطلاق، بل ننسبه لفاعله كسباً وننسبه لله خلقاً وإيجاداً، فإن قال لك قائل: خلق الله الزنا؟ خلق الله الفحش؟ فقل: هذا زان، هذا فاحش، وإذا شئت التفصيل فقل: هذا زان كسباً، ولكن الله جل وعلا خلق كل شيء. الأمر الثالث: عند نسبة الشر لله جل في علاه ينبغي أن تبني بالمفعول، فلا تصرح بنسبة الشر لله، وهذا علمناه من فقهاء الجن، حيث قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فهم عندما تحدثوا عن الكمالات نسبوها صريحة لله جل في علاه، وعندما تحدثوا عن الشرور بنوا للمفعول فقالوا: أريد بهم شراً ولم يقولوا: الله أراد بهم شراً.

مسائل في القدر

مسائل في القدر إن أول ما خلق الله من المخلوقات القلم كما ورد في الحديث: (أولُ ما خلق الله القلم - أو: أولَ ما خلق الله القلم- ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة)، فالله قد كتب كل شيء، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما في مسند أحمد قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه كتاب في يمينه فقال: فرغ ربكم من العباد، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، قال: فختم عليهم بأسمائهم وأسماء ذرياتهم وأسماء آبائهم، وكتاب آخر في شمال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وهؤلاء في النار ولا أبالي، ختم عليهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وذرياتهم) فانتهى الأمر، والله أعلم بما كانوا عاملين.

أهل الفترة وأقوال أهل العلم فيهم

أهل الفترة وأقوال أهل العلم فيهم أهل الفترة هل هم من الذين كتبهم الله جل في علاه من الناجين أم من المهلكين؟ وبمعنى آخر: هل هم من الكفار وسيكونون مع الكفار يوم القيامة أم أنهم من المؤمنين وسيكونون مع المؤمنين يوم القيامة؟ وكذلك ما حكم أطفال المسلمين وأطفال المشركين؟ أما أهل الفترة فإن فيهم لأهل العلم قولان: وقبل أن نذكر القولين لا بد أن نعرف أولاً من هم أهل الفترة؟ أهل الفترة هم الذين فتر عنهم الوحي، أي: انقطع عنهم الوحي، وهم مثل القوم الذين عاشوا بين عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أنهم لم يأتهم النذير، لا الموحى إليه وهو النبي، ولا المبلغ عنه وهم العلماء. فهل هم من المؤمنين أم من الكفار؟ اختلف العلماء في حكمهم على قولين: القول الأول وهو قول جمهور أهل العلم: أنهم في الجنة، أو قالوا: ليسوا بمخلدين في النار، واستدلوا على ذلك بأدلة: الأول: قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهذه الآية قاطعة فاصلة في النزاع بأن أهل الفترة ليسوا من أهل النار. ومفهوم المخالفة هو وجه الدلالة، إذا قال الله: إننا سنعذب إذا جاءت الرسل، فيكون إن لم تأت الرسل فلا تعذيب. الثاني: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. الثالث: قوله تعالى في سورة النساء: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، ولا أحد يستطيع أن يقول للكافر: كافر إلا إذا جاءته الحجة فكفر بها. الرابع: قال الله تعالى مبيناً الحكمة من إرسال الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. وهذه الآية صريحة جداً في أن أهل الفترة ليسوا من أهل النار؛ لأنه إذا لم يكن هناك رسل، فلهم الحجة عند الله جل في علاه يوم القيامة. القول الثاني وهو لبعض العلماء وعلى رأسهم الإمام النووي قالوا: لا نوافق على هذا القول؛ لأنه من الضعف بمكان، بل عندنا الأدلة الخاصة التي تثبت أنهم من أهل النار، ومنها: أولاً: قال الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، وهم كفار قد كفروا بالله جل في علاه. ثانياً: قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذا الدليل عام، وهو مخصوص بالحديث الذي في صحيح مسلم عندما دخل رجل فقال: (يا رسول الله أين أبي؟ فقال: أبي وأبوك في النار). وهذا دليل فاصل في النزاع؛ لأن أبا النبي صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب الفترة، وكذا أم النبي صلى الله عليه وسلم كانت في عصر الفترة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فذهب للقبر فبكى وبكى من حوله). ثالثاً: حديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سألت عن عبد الله بن زيد بن جدعان وقالت: (يا رسول الله كان يكرم الضيف ويصل الرحم ويصنع المعروف، فما له عند الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ما قال يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وهذه دلالة على أن أهل الفترة في النار. أما أدلة الجمهور، فالرد عليها كالآتي: أما قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فنحن نقول: نفى الله العذاب عنهم في الدنيا لا في الآخرة، فهذا خاص بالدنيا دون الآخرة، وعذابهم في الآخرة موجود. فرد الجمهور على ذلك مستدلين بقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:8 - 9]، فكل فئة، وكل طائفة في كل زمان ومكان إذا دخلوا النار سألهم الخزنة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا} [الملك:8 - 9] وقولهم: {قَالُوا بَلَى} [الملك:9] قاطعة بأنه لا فترة الآن؛ لأنهم قالوا: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9] فهذه آية عامة. فرد عليهم: بأن هذه آية عامة والمراد بها الخصوص فيمن أرسل إليهم الرسل، ونزاعنا فيمن لم يرسل إليهم الرسل. رابعاً: ميثاق الفطرة، حين مسح الله على ظهر آدم، فأخرج كل الذرية ووقفوا أمام ربهم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] فشهدوا بربوبية الله جل في علاه، فكان هذا الميثاق حجة عليهم بأنهم أقروا بربوبية الله، فلا يعذرون بالشرك في الربوبية سواء بعث الرسول أم لم يبعث، فهم مطالبون بأصول الشريعة وهو التوحيد الخالص لله جل في علاه. والراجح من القولين هو القول الأول وهو قول الجمهور، فإن أهل الفترة ليسوا من أهل النار، والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وعموم قول الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8]، وأيضاً عموم قول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فالحجة مرتبطة ومناطة بالرسل، فإذا فقد الرسول فلا حجة، وإذا وجد الرسول وجدت الحجة، والله لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، وما كان الله ليظلم قوماً أبداً حتى يبعث إليهم رسولاً يبين لهم طريق القويم الطريق النجاة وطريق الهلاك. أما أدلة القول الثاني فالرد عليها كما يلي: أولاً: زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن فترة ولا فترة بمعنى أن أشخاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانوا من أهل الفترة وآخرين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أهل الفترة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:1 - 3]. فالآية دليل على أن زمن النبي الذي سبق البعثة زمن فترة؛ لأن الله نفى أن يكون قد أتاهم نذير، ولما لم يأتهم النذير لا بالوحي ولا بالبلاغ فهم من أهل الفترة. أما الدليل على أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم زمن فترة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة دخل الكعبة فوجد تصاوير لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانوا قد صوروهما يستقسمان بالأزلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذبوا والله لقد علموا ما استقسما بالأزلام قط)، فعُلم أنهم قد بلغتهم رسالة إبراهيم. وبالنظر في الدليلين: الآية التي تثبت أنه ما أتاهم من نذير، والحديث الذي يثبت أنهم يعلمون من حنيفية إبراهيم وأنهم أتاهم النذير، نجمع بين الآية والحديث بحيث يدرأ التعارض الظاهر فيقال: الآية تثبت عدم النذير لأشخاص معينين، والحديث يثبت أن هناك أشخاصاً علموا دين إبراهيم عليه السلام فلزمهم دين إبراهيم، فلما أشركوا لم يكن لهم العذر عند الله جل في علاه، ويتضح هذا الجمع جلياً في حديث السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة لهم الحجة عند الله: رجل أحمق، ورجل أصم، ورجل هرم، ورجم من أهل الفترة، فأما الأحمق فيقول: رب جاءني رسولك ولم أعلم عن قوله شيئاً -أي: لم أفهم منه شيئاً- وقال الهرم: رب جاءني رسولك ولا أعقل عنه شيئاً -والهرم من وصل إلى أرذل العمر-، ويقول الأصم: رب جاءني رسولك ولم أسمع شيئاً، وقال صاحب الفترة: رب لم يأتني رسولك)، فيوجد ثلاثة أصناف قالوا: جاءنا الرسول لكن الحجة لم تبلغ، وهذه تجعل طالب العلم يدقق النظر، وأن المسألة ليست في الرسول فقط كما يعتقد التكفيريون؛ لأنه لو قيل لأحدهم: هذا رجل طاف بالقبر لأفتى بكفره وأحل دمه! والحق أن يقال: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، لكن لا نكفره حتى نقيم الحجة عليه، ونزيل الشبهة، ولو قيل: من يقيم الحجة؟ نقول: الرسل، فإن رد: قد ماتوا؟ فهنا يجاب بما جاء في الحديث من أن ثلاثة ممن جاءهم الرسول نفوا الحجة، فدل على أن الحجة هي المهمة، وأن الأصل قيام الحجة سواء أقامها الرسول أو أقامها من ناب عن الرسول. أما الرابع فقال: ما جاءني الرسول فعد من أهل الفترة، ولم تقم عليه الحجة، وهذا الحديث ظاهر جداً فاصل في النزاع بأن صاحب الفترة له الحجة عند الله. (فقال الله تعالى إذا أخذت عليكم المواثيق تقرون وتسمعون وتطيعون؟ قالوا: سمعنا وأطعنا، فيأمرهم جميعاً أن يدخلوا نار جهنم، فإذا دخلوها كانت برداً وسلاماً عليهم، وإن لم يدخلوها فهم من أهل النار وبقوا فيها، والله أعلم بما كانوا عاملين)، والحديث صحيح. فتعين أن القول الفصل في هذه المسألة أن أهل الفترة غير معذبين لكنهم مكلفون يوم القيامة، حيث يختبرهم الله جل في علاه ويأمرهم بدخول النار، فإذا دخلوا النار كانت برداً وسلاماً عليهم كما كانت على إبراهيم عليه السلام ثم مآلهم إلى الجنة، وإن عصوا بقوا في النار خالدين فيها؛ لأنهم عصوا الله جل في علاه، والله أعلم بما كانوا عاملين. أما الأحاديث التي استدلوا بها على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فالإجابة عنها: أن زمن النبي قسمان: زمن فترة وزمن لا فترة، زمن فترة لقول الله تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة:3]، وهذا إقرار من المليك المقتدر بأنه لم يأت النذير لهؤلاء، وأما أم النبي وأبو النبي وعبد الله بن زيد بن جدعان فقد

حكم قتل السياح

حكم قتل السياح من سماحة الإسلام وعدله أن حرم قتل الكفار الذين يدخلون إلى بلاد المسلمين بأمان، مثل الذين يدخلون بتأشيرة دخول؛ لأن تأشيرة الدخول بمثابة صك أمان أعطته الدولة لهذا السائح فأصبح حكمه حكم المستأمن الذي لا يجوز قتله.

حكم قتل السياح وحكم تأمينهم في البلاد الإسلامية

حكم قتل السياح وحكم تأمينهم في البلاد الإسلامية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قتل السياح لا يجوز بحال من الأحوال، والمستأمن كذلك لا يجوز قتله في أي حال من الأحوال. ولو حصل أنه يسب الدين ويشرب الخمر ويزني ويفعل ويفعل، ففي المسألة تفصيل. فنقول: هذه المسألة لها وجهان لا بد أن ننظر فيهما: الوجه الأول: لو أعطي التأشيرة فقد أعطي الأمان من قبل المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، فإذا دخل بأمان فلا يجوز نقض هذا الأمان، ولا يجوز لك أن تخون المستأمن بحال من الأحوال في دمه ولا في عرضه ولا في ماله، كما قال علي بن أبي طالب: المسلم والمستأمن يستويان في الحرمة، حرمة الدم والمال والعرض. فإذا قال قائل: هل ينتقض الأمان بزناه أو بفسقه أو بشربه للخمر؟ أقول: لا بد أن تكون فطناً وتقول: شربه للخمر وزناه أو فسقه إن كان في مكانه والباب مغلق عليه، فلا ينتقض الأمان، والدليل على ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما أخذ على الذميين العهد، وأخذ منهم الجزية، ولاهم ما تولوا، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون لحم الخنزير، ولكن في منازلهم، حتى لا يفسدون على المسلمين دينهم، ولا ينشرون الفساد في الأرض، فإن كان الفساد غير معلن، فهذا ليس بنقض للأمان، أما إذا أعلن الفساد فقد انتقض الأمان بإعلانه بسب الدين وسب الرسول وسبِّ الله، فينتقض أمانه على الراجح الصَّحيح. وإذا انتقض أمانه لا يجوز لآحاد المسلمين بحال من الأحوال أن يقتلوه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتجرءوا على ذلك؛ لأنه محظور عليهم إراقة دمه إلا بأمرين اثنين: أن يرفعوا أمره إلى ولي الأمر، فإذا لم يفعل ولي الأمر معه شيئاً، فلا تستطيع أنت إليه سبيلاً؛ لأنه يجب عليك إذا انتقض أمانه أن تكون مؤمناً تقياً تعمل بأدلة الشرع، وتعمل بدين الله فتبلغه مأمنه، ولا يجوز لك حتى لو انتقض أمانه أن تتجرأ عليه فتقتله حتى يبلغ مأمنه، أما سمعت قول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فإذا سمع كلام الله وكفر به فاقتله؛ لأنه أصبح محارباً الآن وقد سب الله وسب الرسول أمامك وهو يسمع كلام الله، وإلا فقد خالفت ظاهر القرآن. فالمقصود: لا بد أن يبلغ مأمنه، ولا تقتله في محله، ولا في مكانه الذي دخل فيه بأمان، ولو انتقض الأمان، فلا يجوز إراقة دمائهم، ولو سمعنا من يأتي بمائة شبهة. نحن نعلم أن هؤلاء كفرة، كفروا بالله وأخذوا يسبون الله ويحاربون دينه، ولكن إعطاء التأشيرة تدور مع مصلحة المسلمين، فولي الأمر إن رأى أن المصلحة هو إدخال الكافر إلى بلاد المسلمين ليستفيد منه بالعشر أو الضريبة التي تضرب عليه، أو الأعشار التي يدفعها مثلاً، أو غير ذلك مما يدر علينا من النفع، أو رأى أن المصلحة استجلابه وإعطاؤه الأمان لمدة وجيزة، فإن ذلك يرجع لنظر أهل الحل والعقد، وأيضاً لنظر ولي الأمر. فهذه المسألة ليست على المحاربة ولا على الكفر ولا الإيمان، فالمسألة رأس أمرها هو مصلحة المسلمين فقط، حتى وإن كان كافراً أو حربياً أو غير ذلك، فأنت لك أحكام تتقيد بها بهذا الشرع الحنيف، فعليك أن تفعل ما أمرك به الشرع، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وليس لك أن تقول: ظلموا إخواننا فنظلمهم! فيجب ألا تستبيح الظلم بظلمهم الله، هل تستبيح أن تسب المسيح عيسى بن مريم إذا سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو فعلت ذلك لكفرت. فالذين يجوزون قتل السياح مهما أتوا من أدلة فكلها منهارة، وليس لهم ثمة دليل، إلا أن يقولوا: مصر كلها كافرة، أو الحكومات كافرة، وولي الأمر كافر، وإذا قالوا ذلك قلنا لهم: أنتم أجهل من دابة البعير، هل تستطيعون أن تكفروا البلاد بأسرها وما أقمتم عليهم حججاً، ولم تقفوا لتنظروا أي كفر وقعوا فيه?! هذه المسألة مشكلة جداً كما قلت، فلو قالوا بهذا القول فقد وقعوا في عذر أقبح من ذنب؛ لأنهم بذلك سيكفرون الناس بأسرهم، ويرجعون إلى منهج مصطفى شكري وطائفته، ثم بعد ذلك يرتقون إلى التوقف والتبين والأفكار الدخيلة الهدامة التي لا تصح بحال من الأحوال، والتي تفسد أكثر مما تصلح. فنحن نقول: إذا دخلوا بأمان، وليس لكم أن تقتلوهم، فإذا انتقض الأمان وأقمتم الحجة وبينتم أنه انتقض الأمان بحق الله، فقد عرفتم المسألة في الشرع.

عدم جواز قتل المسلم بالمحارب أو المستأمن

عدم جواز قتل المسلم بالمحارب أو المستأمن إن المسلم لا يقتل بالمحارب أو المستأمن على الصحيح الراجح عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، أما عند أبي حنيفة فيقتل به، والصحيح الراجح القول الأول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم). الذين ضيعوا الأمة هم الجهلة المتنطعون الذين يرتقون مرتقى صعباً لا يمكن أن يرتقوا إليه، فيتكلمون في مسائل لا يجوز أن يتكلم فيها إلا العلماء الراسخون، وليس العلماء فقط، مثل هذه المسألة؛ ولذلك أنا أنحي نفسي جانباً عنها، وقد بينت ذلك بسبب تفجيرات الأزهر فقط، وقد بينت أن حكم قتل المستأمنين لا يجوز في أي حال من الأحوال، وهذه المسائل شائكة، والناس يريدون سماعها من باب التسلية، أما إن أرادوا الخير فليتعلموا أولاً؛ لأن مسألة القتل والتفجير والتكفير وغير التكفير والمستأمن وغير المستأمن مسائل صعبة جداً، وما ضيع الأمة إلا الجهلة الذين ارتقوا مرتقى صعباً، وأفتوا بغير علم، ولا يزالون إلى الآن يفتون ولا يسمعون لأحد! إن من يتجرأ على إسالة دم امرئ مسلمٍ فإن هذه من علامات الساعة، وإني أنصح الإخوة أن يكفوا عن هذه المسائل، وأن يتعلموا علوم الشريعة، وأن لا يغتروا بالخطب الرنانة؛ لأن الحماسات والثورات والعواطف الهائجة تؤجج وتحرك الناس، وهي تتنزل على كل البشرية على القضاة وغير القضاة والحاكم والمحكوم والسائر والواقف والنائم والقاعد، حيث يهيج الجاهل فيقول: لا بد أن نعمل للإسلام، ولا يجد أحداً يشجعه على ما يريد، فيدخل النت، فيجد ما يشتهي، فيبدأ يفعل ما ترون، ويضيع ويهلك وهو لا يدري.

حكم العمليات الفدائية

حكم العمليات الفدائية والله الذي لا إله إلا هو! إني أدين أن الذي يفجر نفسه في فلسطين بين اليهود فليس بشهيد، إلا بضوابط خمسة قد ذكرتها أكثر من مرة وفصلتها، وابن تيمية يقول: إن صاحب الأخدود ما كان قاتلاً لنفسه لولا المصلحة العامة التي ظهرت بقتله، يعني: لولا أن القرية بأسرها أسلمت بقتله لقلت: هو قاتل نفسه؛ لأن الأصل التحريم القاطع على قتل المرء نفسه. ولذلك نحن نقول: إذا كانت النكاية في أهل الكفر مستيقنة جاز ذلك، وإن كانت النكاية فيهم أعظم من أي نكاية في المسلمين جاز ذلك، وأنى لهم هذا؟! فهو يموت ويقتل نفسه ويسارع بأجله إلى ربه جل في علاه، ولا والله! ليس بشهيد إلا بالضوابط التي ذكرتها، والإخوة يرجعون إلى الأشرطة، ويسمعون الضوابط الخمسة التي ذكرتها حتى يكون مفجر نفسه بين اليهود -الذين هم أغضب أهل الأرض وألعنهم- شهيداً. والأخبار تواترت أن كل الذي قتل في هذا المكان هم المسلمون، أم أن المصريين ليسوا بمسلمين؟! فلا أدري كيف يتجرأ بعض الناس على دم امرئ مسلم؟! وما الذي جره إلى ذلك؟! ولسنا بصدد الكلام في هذا؛ لكن مررت على المسألة بإيجاز مرور الكرام حتى أشبع الرغبة، ومع ذلك فإني على مضض، وإني أرجو من الإخوة أن يتعلموا، فالضياع كل الضياع في أن تجهل دينك ولا تعلم عنه شيئاً، وتشترك في الثورات وهذه الأمور التي على الساحة، وتتأثر بها وليس عندك قول فصل فيها، فتعلم فالعلم أفضل لك.

شرح مناسك الحج [1]

شرح مناسك الحج [1] للحج فضائل عظيمة وفوائد كثيرة في الدنيا والآخرة، ومن أراد الحج فعليه أن يستعد له بالتوبة ورد المظالم إلى أهلها، ويخلص لله في حجه، ويحرص على تعلم أحكامه ليقتدي برسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (خذوا عني مناسككم).

فضائل الحج

فضائل الحج إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فمرحباً بوفد الله وحجاج بيت الله الحرام الذين اشتاقت قلوبهم إلى المشاعر العظيمة، وإلى التسارع والتسابق إلى القربات. وإلى طاعة الله جل في علاه. مرحباً بمن يدق قلبه، وتدمع عينه وهو يقول: لبيك اللهم لبيك -أي: إجابة بعد إجابة- لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك، لبيك تعبداً ورقاً، لبيك إخلاصاً وورعاً، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. بإذن الله سوف نتناول بإيجاز الكلام على مناسك الحج، وأول ما نبدأ به هي بشارة للذين وفقهم الله جل وعلا لحج بيت الله الحرام، وكتبهم في اللوح المحفوظ في ليلة القدر أنهم من حجاج هذا العام، ورزقهم الله جل وعلا النفقة، أبشرهم ببشارة بشرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أوجب الله الكريم عليه الحج في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، هذا الحديث عظيم جليل، وهذا الأجر العظيم لمن حج بشرط ألا يفسق وألا يرفث. والرفث هو الجماع ومقدماته، كالتغزل بالمرأة مثلاً، فمن حج مع امرأته فلا يجوز له حتى أن ينظر إلى عينيها إذا كانت هذه النظرة تفهم منه أنه يشتهيها. والفسق مثل الغيبة، أو النميمة، أو السب، أو عدم الصبر على البلاء والجهد الذي سيعيش فيه، لا سيما في أوقات الزحام الشديد، فعلى الحاج أن يترك الفسق، وألا يتعدى حدود الله، ولو وقع منه ذلك استغفر وتاب وأناب، فهذا الذي يكون له الجزاء العظيم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)، وهذا الحديث عام يعم كل الكبائر والصغائر، حتى الزنا وأكل الربا والسرقة، كلها تمحى عنه بهذا الحج، فيا لها من مثوبة عظيمة! ويا له من أجر جليل لو تدبره المرء. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب)، وكلنا نصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صادق ومصدوق، فالذي يتابع بين العمرة والعمرة لا ينفق نفقة إلا ويخلف الله جل وعلا عليه أضعافاً مضاعفة بدلاً منها، فمن أراد الغنى فعليه بالحج، وعليه بمتابعة العمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، ويأتيان على كل الذنوب فتمحوانها. وأيضاً من الثواب الجليل العظيم الذي يناله الحاج أنه يوم عرفة إذا وقف وهو أشعث أغبر فإن الله جل وعلا ينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا فيباهي بالحجاج الملائكة، وهذا النزول خاص بأهل عرفة، ولا أحد يكرم ويعظم ويشرف منزله إلا من وقف في عرفة، فينزل الله جل وعلا عشية عرفة نزولاً يليق بجلاله، ثم يباهي الملائكة بهؤلاء الشعث الغبر الذين أنفقوا أموالهم وتركوا الدنيا خلفهم. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر عتقاء الله جل وعلا في هذه الليلة) أي: ليلة عرفة، نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا جميعاً على عرفة، وأن يجعلنا من عتقائه من النار. فأبشروا ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأملوا خيراً، فإنكم وفد الله، وإنكم زوار الكريم، والكريم لا يترك أحداً يرجع خائباً، وأملوا أيضاً خيراً بأن الله إن وفقكم وكتبكم من أهل الحج فإن الله جل وعلا يريد بكم خيراً، وما يريد أن يرجعكم ندامى ولا خائبين.

الاستعداد للحج بالتوبة ورد المظالم والديون لأصحابها

الاستعداد للحج بالتوبة ورد المظالم والديون لأصحابها إذا استعد المرء استعداداً تاماً للحج فعليه أمور لا بد أن يقدمها قبل أداء الحج، ومنها: رد المظالم، سواء الظلم بالمال، أو الظلم للنفس، أو الظلم للغير. والعبد يظلم نفسه بالتجرؤ على حدود الله، فعلينا أن نستعيذ بربنا على أنفسنا وعلى الشيطان، ونؤمل خيراً، فربنا غفور رحيم كما في مسند أحمد: (أن رجلاً أذنب ذنباً وقال: رب عبدك أذنب ذنباً وجاء يستغفر، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفره، أشهدكم أني قد غفرت له، ثم عاد فأذنب نفس الذنب ثم استغفر فغفر له)، فالعبد المؤمن خلق مفتناً تواباً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (باب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة) أو كما قال. فأول شيء على الحاج: أن يرد المظالم، ويترك الظلم، ويتوب التوبة النصوح، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:8] فالله جل وعلا يرغبنا في التوبة في كل وقت وحين، وأشد ما يحتاج المرء إلى التوبة عندما يذهب إلى حج بيت الله الحرام، فيتوب من ظلمه لنفسه، ويرد المظالم إلى أهلها، ويتوب من ظلم غيره. وما منا أحد إلا وقد تعدى على أخيه بالنميمة أو بالغيبة أو بالسب أو بالقذف أو بأكل ماله بالباطل، أو بأكل الربا، أو بالسرقة، وظلم العبد لغيره أشد ما يكون عليه يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه اليوم، فيوم القيامة ليس ثمة درهم ولا دينار وإنما هي الحسنات والسيئات) أو كما قال، فإذا تعديت على إنسان فيوم القيامة لو دفعت له ملء الأرض ذهباً أو فضة لن يرض بها، لكن يؤخذ من حسنات الظالم وتوضع في كفة المظلوم، أو تؤخذ من سيئات المظلوم وتلقى على كفة الظالم، والعياذ بالله. وفي مسند أحمد بسند صحيح عن عائشة مرفوعاً: (لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يتركه أبداً، وديوان لا يغفره أبداً، وديوان في مشيئته)، أما الديوان الذي في مشيئته فهو ظلم العبد لنفسه بالمعاصي، والتجرؤ على حدود الله، ورحمة الله سبقت غضب الله جل في علاه، وأما الديوان الذي لا يغفره الله أبداً فهو ديوان الشرك، ونعوذ بالله من الشرك والشقاق والنفاق، أما الديوان الذي لا يتركه الله أبداً، فهو المظالم. أخي الحاج! لا بد أن تذهب للحج نظيفاً طيباً ترجو المغفرة، وترجو أن ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فلابد أن ترد المظالم لأصحابها، وإذا كان في قلبك شحناء على أحد فاتصل به، وإن استطعت أن تدعو له كثيراً قبل أن تتصل به فهذا أفضل، وتحلل منه، وإن كان له عليك حق فلا بد أن تسارع بأن تعطيه حقه، فالسرعة في التوبة من علامات قبول الحج. والأحاديث في تحريم الظلم كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

التزود بالنفقة الحلال

التزود بالنفقة الحلال يجب على الحاج أن يستعد للحج بالمال الحلال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قعد لنا قاعدة فقال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فالحج بالمال الحرام ينبئ بأن هذا الحج غير مقبول، وصاحبه غير مأجور. وفي الطبراني بسند مختلف فيه والراجح صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حاجاً ونفقته طيبة فإذا استوى على دابته وقال: لبيك وسعديك، ينادي مناد من السماء: لبيك وسعديك، نفقتك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، وأنت مأجور غير مأزور، ومن كانت نفقته من حرام فيقول: لبيك وسعديك، فينادي مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزور غير مأجور، نفقتك حرام وراحلتك حرام). فلابد أخي الحاج أن يتحرى الحلال عندما يذهب إلى الحج، فإذا أراد أن يرجع إلى أهله فائزاً مأجوراً غير مأزور، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فليبعد بعد المشرق عن المغرب عن الحرام، فـ (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).

الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله في الحج

الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله في الحج على الحاج أن يهيئ نفسه بأن ينزع عن قلبه الرياء، فلا يحج لأجل أن يقال له: يا حاج، فمن حج بيت الله الحرام لأجل أن يقول: حججت، يريد بذلك الرياء والسمعة، فحجه لا يقبل عند الله جل وعلا، فإن من شروط قبول العمل الإخلاص، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ورسول الله سيد الخلق أجمعين وأحب خلق الله إلى الله يحذره الله جل في علاه من الرياء فيقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، وهذا تنبيه لغير النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من راءى راءى الله به) يعني: أن الله يرائي به الناس، فالذين يمدحونه على ما فعل يذمونه بأنه ما فعل ذلك إلا مراءاة للناس، قال: (ومن سمع سمع الله به). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فعلى العبد أن يتهيأ للحج بقلب صاف نقي لله جل وعلا، مخلصاً في عبادته لله. ولابد أن يكون الحج على هدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون مقبولاً، فإن الله أغلق كل باب، وفتح باباً واحداً وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: متبعاً فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى، وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟! قال: من أطاعني -يعني فعل مثلما فعلت- دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). فعلى الحاج أن يعرف كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يعتمر، فيفعل مثله (حذو القذة بالقذة). قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والله جل وعلا حذرنا من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

مواقيت الحج

مواقيت الحج للحج مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية، فالمواقيت الزمانية هي الوقت الذي إذا أحرم فيه الحاج يصح حجه، وإذا أحرم قبله لا يصح الحج، وهذه المواقيت مذكورة في قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، وأهل التحقيق يرون أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، والمالكية يرون أن شهر ذي الحجة يدخل في أشهر الحج. وفائدة معرفة أشهر الحج أن من أحرم بالحج في شهر رمضان فقال: لبيك اللهم بحجة فلا يكون حاجاً، فالله جل وعلا وقت للحج ميقاتاً مثل ميقات صلاة الظهر، فلو صلى رجل الظهر بعد الفجر بساعة فصلاته باطلة وغير مقبولة؛ لأنه صلاها قبل الوقت، والله جل وعلا يبين لنا أن وقت الحج الذي يقبل فيه الإحرام بالحج من الأشهر الثلاثة: ذو القعدة وشوال وعشر من ذي الحجة، ومن أحرم بالحج في آخر ليلة من ليالي رمضان ففي صحة حجة خلاف. أما المواقيت المكانية فهي المكان الذي يصح الإحرام منه، ولا يصح أن يتعداه. وفائدة معرفة المواقيت المكانية التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصح لأحد أن يجاوزها إلا وقد ارتدى الإحرام وقال: لبيك اللهم بحجة أو بعمرة. والمواقيت المكانية مبينة كما في الصحيحين عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أجمعين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة -وهي أبيار علي على بعد سبعة كيلو من المدينة- ووقت لأهل الشام -ومثلهم أهل مصر والمغرب- الجحفة، ووقت لأهل اليمن يلملم، ووقت لأهل نجد قرن المنازل) ويسمى السيل الكبير، وهو ميقات أهل الإمارات. وميقات العراق ذات عرق، واختلف العلماء فيمن وقته هل هو عمر أو النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته، ووافق اجتهاد عمر توقيت النبي صلى الله عليه وسلم.

أنواع الحج

أنواع الحج أنواع الحج ثلاثة: الإفراد، والتمتع، والقران. فالإفراد: أن يحرم الحاج مفرداً بالحج ويقول: لبيك اللهم بحجة، ويبقى محرماً لا يحل إلى يوم النحر، فإذا أحرم بالحج من أول ذي الحجة فلا يحل إلا يوم النحر، وليس عليه دم. ولو أن رجلاً أحرم بالحج في أول شوال فقال: لبيك اللهم بحجة، فلا يحل إلا يوم النحر؛ لأن الذي أحرم بالحج مفرداً لا يتحلل من إحرامه إلا بعد أن يرمي جمرة العقبة، هذا النوع الأول. النوع الثاني: التمتع، وهو جمع نسكين في سفر واحد، وهو أن يؤدي عمرة ثم يتحلل منها ثم يحج، فيقول عند الإحرام بالعمرة: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم يحل منها بعد أن ينتهي من آخر ركن من أركان العمرة، بأن يحلق شعره أو يقصره، فيحل من إحرامه للعمرة، ويتمتع إلى اليوم الثامن من ذي الحجة الذي يحرم فيه بالحج، وعليه هدي يسمى هدي شكران، بمعنى أنه يشكر الله على أنه سيؤدي نسكين في سفر واحد. والعمرة على الراجح من أقوال أهل العلم واجبة، كما أن الحج واجب، ففي سفرة واحدة يؤدي فريضة العمرة وفريضة الحج، فلذلك يشكر ربه ويطعم فقراء مكة بهدي يسمى هدي التمتع. النوع الثالث: القران، هو يشبه الإفراد ويشبه التمتع، فيشبه الإفراد من حيث أنه لا يتحلل بحال من الأحوال، فإذا قال: لبيك اللهم بعمرة وحج فليس له أن يتحلل إلا يوم النحر، ويشبه التمتع لأنه جمع نسكين في سفرة واحدة، وعليه دم شكراً لله جل وعلا؛ لأنه وفقه لأداء العمرة والحج في سفرة واحدة. والقران يخالف الإفراد والتمتع في أن القارن يكفيه سعي واحد للعمرة وللحج، أما المتمتع فلا بد له من سعيين، فالقارن لو طاف وسعى عند القدوم يسقط عنه السعي يوم النحر، لكن المتمتع يجب عليه طوافان وسعيان، يطوف طواف العمرة ويسعى لها، ثم يطوف طواف الإفاضة للحج ويسعى له.

التزود من الطاعات والإكثار من النوافل

التزود من الطاعات والإكثار من النوافل على الحاج أن يتزود من الطاعات وذكر الله والاستغفار والصدقة، ويتذكر دائماً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، (فأنفق ولو بالكلمة الطيبة، وتبسمك في وجه أخيك الحاج صدقة، فعندما تتعامل معه كن ليناً هيناً؛ لأن أهل الجنة: كل هين لين بشوش. وأكثر من الطاعات في المسجد النبوي؛ لأن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، ولا تصل السنن الرواتب؛ لأنك على سفر، ولكن عليك أن تصلي الفرائض فيه، وإن أردت أن تصلي النوافل فيه فلك ذلك، وأكثر من ذكر الله ومن الصلاة في الروضة، ولا يجوز أن تذهب كل يوم لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتسلم عليه، ولكن أول ما تصل فاذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه، ثم اجعل قبره خلفك واستقبل القبلة وادعو الله وانصرف، ثم إذا أردت الرحيل فاذهب إلى القبر الشريف وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح مناسك الحج [2]

شرح مناسك الحج [2] للحج والعمرة صفة جاءت مبينة في السنة المطهرة، تبدأ من الإحرام وما يجب على المحرم، وما يحرم عليه، وما يستحب له، وتنتهي بآخر أعمال الحج والعمرة، فمن أراد الحج أو العمرة فعليه أن يتعلم صفتها حتى يؤديهما كما أمر الله ورسوله.

صفة العمرة والحج

صفة العمرة والحج

الاغتسال للإحرام

الاغتسال للإحرام يستحب للعمرة أولاً: الاغتسال، ولا يجب، فلو كان البرد شديداً، فلا يغتسل وإنما يكتفي بالوضوء. والسنة أن يغتسل مثل غسل الجنابة، فيغسل يده ثم فرجه، ثم بعد ذلك يغسل يده ثلاثاً، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يغسل رأسه ثلاثاً، والنساء شقائق الرجال في الأحكام، والسنة في غسل الرأس ما ثبت عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يغسل شق رأسه الأيمن ثلاثاً، والشق الأيسر ثلاثاً)، ثم يصب الماء على رأسه كله ثلاثاً، كما قالت عائشة: (وكان يحثو على رأسه ثلاث حثيات)، ثم يصب الماء على شقه الأيمن ثلاثاً، ثم على شقه الأيسر ثلاثاً، ويكون بذلك قد أتم الغسل. وينبغي للمسلم ألا تمر عليه أربعون يوماً إلا ويقلم أظفاره وينتف إبطه ويحلق عانته.

التطيب للإحرام

التطيب للإحرام جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يحرم -يعني عند إحرامه- وأطيبه بعدما يحل قبل أن يطوف)، فمن السنة أن يطيب الرجل نفسه بعد أن يغتسل. وهناك خلاف بين العلماء: هل يجوز استدامة الطيب أو لا يجوز؟ والراجح أنه يجوز، والأصل في المسلم أن يفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيتطيب بدهن العود أو المسك أو أي طيب آخر، ثم يدهن به رأسه، فعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم). فيتطيب ثم بعد ذلك يرتدي ملابس الإحرام.

الإحرام بعد الصلاة

الإحرام بعد الصلاة ليس للإحرام سنة خاصة به، فالنبي صلى الله عليه وسلم اغتسل وصلى الظهر بذي الحليفة ثم أحرم بالحج، فالصحيح أن يصلي المحرم بعد الاغتسال ليس صلاة خاصة بالإحرام، لكن يصلي الفرض ثم يحرم، وإن كان الوقت ليس وقت صلاة فليصل صلاة سنة الوضوء بعد الغسل، أو يدخل المسجد فيصلي ركعتي تحية المسجد فتكون صلاة ذات سبب، لكن لا يصلي للإحرام صلاة خاصة. وإذا صلى الفرض فالرباعية يصليها ركعتين قصراً؛ لأنه على سفر، ثم يحرم.

صفة الإحرام ووقته

صفة الإحرام ووقته الإحرام جاء فيه ثلاثة أحاديث: الأول: أنه بعد أن يسلم يقول: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، وقد ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قالوا: (أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سلم). والحديث الثاني: (أحرم النبي صلى الله عليه وسلم عندما استوى على الدابة)، فقد سمع أناس النبي صلى الله عليه وسلم عندما ركب على الدابة يقول: (لبيك اللهم بحجة وعمرة وهو مستو على دابته). والحديث الثالث: عندما استوى على البيداء، وهو متجه إلى مكة راكباً. والأفضل أن يحرم بعد أن يسلم فيقول: لبيك اللهم بعمرة، وهذا هو الأصح؛ لأنه إذا قال: لبيك اللهم بعمرة بعد أن يسلم يدخل وقت الإحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك ونفقتك)، وهذه قاعدة قعدها العلماء فقالوا: يعظم الأجر على قدر المشقة؛ ولذلك كلما كان البيت أبعد عن المسجد كان الأجر أعظم، وكل خطوة ترفع درجة وتحط خطيئة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال مبيناً فضل الجمعة: (من غسل واغتسل وذهب إلى الجمعة ماشياً ولم يركب، ثم دنا من الإمام فأنصت ولم يلغ؛ كتبت له كل خطوة بأجر سنة صيامها وقيامها). فبعد أن يسلم يقول: لبيك اللهم بعمرة، وإن كان الأيسر على المرء أن يحرم بعد أن يستوي على الدابة فله ذلك، وهذا أيسر له؛ لأنه قد ينسى فيأخذ من أظفاره أو يأخذ من شعره أو يتطيب مرة ثانية، فيكون الأيسر له أن يحرم عندما تستوي به الدابة على الطريق، فيقول: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج. وهل يصح أن يقول المصلي: نويت أصلي فرض الظهر الذي فرضه الله علي بعدما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاود ربه بخمسين صلاة فأصبحت خمس صلوات؟ A لا، فإن قيل: الصلاة بدون نية باطلة، قلنا: النية في القلب، وقد سمع ابن عمر رجلاً يقول: لبيك اللهم بعمرة أتمتع بها إلى الحج فقال: اسكت، أتعلم ربك بما في صدرك؟! لكن الصحيح الراجح أن يتلفظ بها؛ لأن ابن عمر غاب عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن -بسند صحيح- أنه قال: (جاءني جبريل فأمرني أن أصلي في هذا الوادي المبارك -وهو وادي العقيق- وقال: قل: عمرة في حجة)، ولما أهل النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بالإهلال، والتلبية ليست هي النية، فلو أن إنساناً لم ينو الحج، وقال: لبيك اللهم بعمرة، فهو غير محرم، وله أن يمس الطيب وله أن يفعل كل شيء؛ لأنه لم يدخل في النسك، فلا بد من عقد القلب على النسك، فالنية تسبق التلفظ، ثم يقول: لبيك اللهم بعمرة، فتحرم عليه محظورات الإحرام.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام قبل أن نذكر محظورات الإحرام نقول: النساء شقائق الرجال في الأحكام، فكل ما قيل للرجال يقال للنساء، غير أن الحائض عندما تغتسل تنقض ضفائرها، وتدخل الماء في أصول شعرها، لحديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها: (أنها ولدت محمد بن أبي بكر في ذي الحليفة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل)، وقال لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)، فالحائض تغتسل وتفعل ما يفعل الحاج فتقول: لبيك اللهم بعمرة، وتطوف بعد أن تطهر. وحديث ابن عمر يجمع لنا محظورات الإحرام، وهو: (لا يلبس المحرم البرانس ولا القمص ولا العمائم ولا السراويل ولا الخفاف ولا ثوباً مسه زعفران ولا ورس). فالعمامة تحيط بالرأس، والسراويل تحيط بالوسط وبالفخذ وبالرجل، والقميص يحيط بالبدن. وقال الفقهاء: يحرم كل مخيط محيط، ففهم بعض الناس أنه يحرم لبس كل ما فيه خيط، وهذا فهم خاطئ، فالمسألة لا تتعلق بالخيط، وإنما تتعلق بالإحاطة، فالسراويل تحيط بالفرج وبالرجل وبالساق، والقميص يحيط بالأعضاء كلها، فكل محيط بالعضو لا يجوز لبسه، حتى ما يوضع على مفصل القدم والساق عند الكعب لا يجوز لبسه؛ لأنه أحاط بالكعب. بينما النعل العادي يصح لبسه لأنه لا يحيط بالعضو، أما الخف فيحرم على المحرم لأنه محيط بالقدم، إلا إذا لم يجد النعل، وكذلك السراويل لا تجوز للمحرم إلا إذا لم يجد الإزار. ويحرم على المحرم لبس الثوب الذي مسه زعفران أو ورس، بمعنى أنه يحرم عليه الطيب. والحديث الثاني الذي يبين محظورات الإحرام: حديث كعب بن عجرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه والقمل يتناثر على وجهه فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى، احلق رأسك، ثم خيره بين أن ينسك شاة أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين)، فيحرم على المحرم حلق الرأس، وقاس العلماء شعر البدن كله على شعر الرأس، ومنهم من قال: يحرم عليه حلق ثلاث شعرات، ومنهم من قال: أربع، والصحيح الراجح أنه لو وقع منه ثلاث أو خمس شعرات من غير أن يكون قاصداً فلا شيء عليه. ويحرم عليه الطيب، ويحرم عليه قلم الأظفار بجامع الترفه والتمتع، ويحرم عليه أن يرتدي ثوباً يحيط بجسده، أما لبس النظارة فيجوز، ويجوز حمل الأمتعة فوق الرأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وكثير من الصحابة أجازوا ذلك. وهذه المحرمات تحرم على المرأة كما تحرم على الرجل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)، فالمحرمة لا تلبس القفازين، وكذلك الرجل لا يلبس القفازين؛ لأن القفازين يحيطان بالكفين، وهو مثل ما يلبس على الركبة، فلا يجوز للرجل لبسها؛ لأنها تحيط بالركبة، فإن كانت ركبته تؤلمه واحتاج إليها فله أن يلبسها وعليه شاة أو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين. فالمرأة لا ترتدي القفازين ولا تنتقب، وإذا خشيت أن يرى وجهها أحد من الأجانب فترد خمارها على وجهها، وتبعده عن الوجه بقدر استطاعتها، ولو أن ترتدي شيئاً يبعده عن وجهها، وإذا انتقبت أو أسدلت الخمار لغير حاجة فعليها فدية.

صلاة ركعتين بعد الطواف عند المقام واستلام الحجر الأسود

صلاة ركعتين بعد الطواف عند المقام واستلام الحجر الأسود جاء في الصحيح أن عمر قال: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. فبعد الانتهاء من الطواف ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المقام فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، ومقام إبراهيم فيه أثر قدم إبراهيم على الحجر، ولا يقبل المقام ولا يمسه، فهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمصلي يجعل المقام بينه وبين الكعبة، فيصلي ركعتين يقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وليعلن الاستسلام التام، والخضوع والتذلل التام لله جل وعلا. وفي الثانية يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لبيان التوحيد، كما قال عمر وهو يقبل الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، وهذا فيه رد على المتنطعين العلمانيين الذين لا يعرفون عن دين الله شيئاً فيقولون: إن المسلمين يطوفون حول حجارة! و A أنا فعلنا ذلك استسلاماً وخضوعاً لله جل وعلا، ومن المعلوم أنه لا يجوز لأحد أن يسجد لأحد، وأنه شرك وكفر، ولكن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك شركاً منهم؛ لأنهم سجدوا له استسلاماً وخضوعاً لأمر الله جل وعلا، ونحن كذلك نطوف ونقبل الحجر ونقول: والله إنا لنعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكنا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ففعلنا مثل ما فعل، تذللاً وخضوعاً واقتداء وتأسياً به صلى الله عليه وسلم. وبعد أن يصلي ركعتين يذهب إلى بئر زمزم ليشرب من مائه بنية وهو مستيقن بالله؛ لأن كثيراً من الناس لا يفهمون هذه القاعدة، فتجد أحدهم يقول: أنا لي كذا سنة أشرب من ماء زمزم، ولم يتحقق لي مطلوب، فنقول: السيف بتار لكن القابض على السيف ضعيف، فالمسألة كلها مسألة يقين بالله جل وعلا، فعلى المسلم أن يكون صادقاً مع ربه، يعلم أنه لو أخذ بالسبب الصحيح فإن الله سيصدقه. وكما قيل: اصدق الله يصدقك. فيشرب من ماء زمزم وينوي إما نصرة هذا الدين، أو من أجل أن يقترب من أهل الخير، ويترافقوا على الخير نصرة للدين، ثم من أجل تفريج الكربات، فالله جل وعلا يعطيه ذلك إن كان صادقاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وأيضًا يقول: (هو طعام طعم وشفاء سقم) ثم بعد ذلك يذهب إلى الحجر مرة ثانية، فيستلمه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا ما استطاع، فقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فإذا نوينا أن نحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم وما استطعنا، فالله جل وعلا يكتب لنا الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة ثم يذهب قاصداً الصفا والمروة فيصعد على الصفا، وحدود الصفا تبدأ من خط العربات، فهو أول حدود الصفا، فيبدأ الشوط من عنده، لكن الأكمل أن يصعد وينظر، فيتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ويبدأ من الصفا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بما بدأ الله به) ثم يستقبل الكعبة في المكان الذي يراها منه -إن يسر الله له ذلك- فينظر إلى الكعبة ويكبر ثلاث تكبيرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ويقول هذا بقلب متصل بالله جل وعلا متدبر لهذا الذكر، وينظر إلى الكعبة رافعاً يديه ثم يدعو طويلاً، وقد ورد ذلك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضًا ورد عن جابر في سنن ابن ماجة بسند صحيح أنه قال هذا الذكر، وبعض الناس لا يهتم بهذا، وإنما همه أن يكمل الأشواط، فتراه ينهي السعي بين الصفا والمروة في ثلاث دقائق، فيجب على المسلم أن يعلم أنه لم يأت إلى هذا المكان، ولم ينفق هذه النفقة إلا ليرتقي عند الله جل وعلا، وليعلم أن هذه هي المواطن التي يستجيب الله فيها له، فليقطع المسلم أنفاسه في ساعات قليلة وهو يدعو الله، ويطمع في الكريم، فيدعو الله بخيري الدنيا والآخرة، فإن الله له خزائن السماوات والأرض، ثم بعد ذلك يأتي إلى الجسر مرة ثانية، ثم يدعو طويلاً، ثم يأتي إلى الجسر مرة ثالثة ويدعو، ثم يمضي إلى المروة، وأثناء ذلك عليه بالذكر والاستغفار والدعاء وتلاوة آيات القرآن، فإذا وصل إلى الخط الأخضر أسرع أسراعاً شديداً. بدون أن يؤذي الناس، هذا بالنسبة للرجال، أما النساء فلا يسرعن وإنما يمشين المشي المعتاد، فالصحيح الراجح أن المرأة تخالف الرجل فليس لها الإسراع، أما الرجل فإنه يسرع حتى يصل إلى الخط الأخضر الثاني، ثم يمشي مشيه المعتاد، فإذا وصل إلى المروة وقف عليها، لكنه لا يقرأ الآية التي قرأها في الصفا، وكذلك في الشوط الثاني أيضاً لا يقرأ هذه الآية، فهي تقرأ في الشوط الأول فقط. فيسعى سبعة أشواط على هذه الكيفية بين الصفا والمروة، يبدأ من الصفا، وينتهي من الشوط السابع في المروة، ثم يقصر الرجل من شعره، والأفضل الحلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين، اللهم ارحم المحلقين، اللهم ارحم المحلقين)، لكن لأن المصالح تتعاظم، فإن القاعدة عند العلماء تقضي بأن نترك المساحة الصغرى للمساحة الأكبر، والمساحة الأكبر أنك تبقى الحلق إلى يوم النحر، فيقصر المرء من شعره على المروة، ويكون بذلك قد تحلل بفضل الله جل وعلا من عمرته، فيبقى في مكة متحللاً، فيجوز له مس الطيب، ومجامعة النساء، وكل شيء حرم عليه حال الإحرام، حتى اليوم الثامن فيهل بالحج. والتقصير هذا لابد أن يعم كل الرأس؛ لأن الله جل وعلا قال: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فرءوس هنا مضاف، وإذا أضيفت عمت كل جزء منها، فلا يصح أن يأخذ من بعض شعره، أو أن يأخذ من هنا وهنا، ولا يعمم التقصير في كل الرأس، ومن فعل ذلك فربما لا يزال محرماً فليرجع وليلبس ثياب الإحرام ويقصر رأسه كله. أما بالنسبة للمرأة فإنا لا تقصر رأسها أمام الناس، وإنما تصبر إلى أن تذهب إلى بيتها، أو إلى المقر الذي تجلس فيه في مكة، ثم تقصر هناك، وهذا من باب التقوى والورع، فتأخذ شعرها وتجعله في قبضة يديها، ثم تأخذ منه قدر أنملة، أي: قدر الأصبع، فبذلك تكون بفضل الله تعالى قد تحللت وتمت عمرتها.

المكوث في مكة والإكثار من الطاعات بعد تحلل الرجل من العمرة

المكوث في مكة والإكثار من الطاعات بعد تحلل الرجل من العمرة بعد ذلك: على المسلم أن يجلس في مكة، ويلزمه أن يكثر من الطاعات والاستغفار والصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وهذا خاص بالرجال لا بالنساء، فإن بعض العلماء وقفوا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وقالوا هذا حديث متفق عليه، أي: في أعلى درجات الصحة، ولكنه ورد عن عمر أنه قال لزوجته: لا تخرجين، قالت: أتمنعني من المسجد؟ فخاف عمر على نفسه، فقال: لا أمنعك لكني أكره، وابن عمر لما سمع ذلك قال: لنمنعهن! إذاً يتخذنه دغلاً، يعني: غيبة ونميمة، وعائشة رضي الله عنها قالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تفعل النساء لمنعهن من المساجد، لكن أقول: السنة ألا تمنع، وقد ورد أن أحد الفضلاء قال لامرأته: لا تذهبي إلى المسجد قالت: أتمنعني؟ قال: لا أمنعك عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت تصلي العشاء في الظلام، واختبأ لها خلف شجرة، وغمزها في خاصرتها، فرجعت إلى البيت فقال لها: لم أرك في المسجد. قالت: فسد الناس، فقال: أما قلت لك تجلسي في بيتك، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، فالنساء عليهن الاهتمام بالحج، فهو الجهاد بالنسبة لهن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (جهادكن الحج)، فهي لم تذهب لتصلي في الحرم، وإنما ذهبت لترى شعائر الله وتعظمها، ولتؤدي المناسك. ويعلم الله أن أشد فتنة رأيتها في الحرم هي النساء، فتجد الرجل يسجد على المرأة، وهي تسجد عليه، وتساوي معه الصفوف، وأخرى مريضة تخلع ثيابها وتغتسل بماء زمزم، وترى الرجل يصلي والمرأة أمامه، فتركع وتسجد أمامه، ثم يأتي الشيطان فيزينها له. فيجب على المرأة أن تلتزم بقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وإذا ذهبت إلى الحج فإنها تذهب لتؤدي المناسك، ولتعلم أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد الحرام، وخير لها من صلاتها في المسجد النبوي، وهذا ليس قولي، بل قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، ثم قال: وصلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدي هذا) ونفس الأمر فإن صلاتها في المكان الذي ستنزل فيه خير لها من الصلاة في المسجد الحرام، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)، فالأكمل والأصح والأتقى والأورع للمرأة أن تجلس في بيتها، وإنما تأتي لتجاهد في المناسك، وهي بذلك أرفع درجة عند الله من اللاتي ذهبن إلى البيت الحرام فزاحمن الرجال ففتن وفتن.

مناسك يوم التروية

مناسك يوم التروية في اليوم الثامن -يوم الترويه- يغتسل الحاج في وقت الضحى، يعني: الساعة التاسعة صباحاً، كما اغتسل في المرة الأولى، ثم يرتدي الإحرام ويقول: لبيك اللهم بحجة، فيدفع إلى منى، والسنة أن يذهب إلى منى قبل الظهر، ويصلي بمنى الصلوات قصراً لا جمعاً، فقد ورد عن جابر وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في منى قصراً لا جمعاً)، فيصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء ركعتين، والفجر ركعتين؛ لأنه لا قصر في المغرب ولا الفجر، وأما القيام فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل سفراً ولا حضراً، فإذا اعتاد المسلم أن يصلي ركعتين في الليل فلا يدعهما يوم منى، فهذه أفضل الطاعات وهذه أفضل الأماكن التي تعظم فيها الطاعة، فيصلي في الليل ما تيسر، ثم ينام إلى الفجر، ثم يقوم ليصلي الفجر، ثم يذكر الله، ويقرأ أذكار الصباح إلى أن تطلع الشمس، فلا يدفع نحو عرفة حتى يرى الشمس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، أي: ينتظر حتى تطلع الشمس ثم يدفع إلى عرفة، وهذه هي السنة، ولكن من فعل خلاف ذلك فلا شيء عليه، خاصة إذا كان مريضاً أو عاجزاً، فبنيته يكتب له الأجر مضاعفاً.

مناسك يوم عرفة

مناسك يوم عرفة فإذا طلعت الشمس فعلى الحاج أن يذهب إلى بطن الوادي في عرفة، أو يذهب إلى نمر، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى نمرة وضربت له الخيمة هناك، فيذهب الحاج إلى المخيم الذي يخصه، ويضع أغراضه فيه، ثم يذهب سريعاً؛ لأن هذه هي السنة، وخلال ذلك يكثر من التكبير التهليل -بل من حين أن يقول: لبيك اللهم بحجة، في اليوم الثامن، لا يقطع التلبية أبداً إلا عند أول حصاة في رمي جمرة العقبة- ثم يذهب إلى نمرة ويصلي فيها الظهر والعصر جمعاً وقصراً، وذلك مع الناس بعد أن يسمع الخطبة، أما الذين لا يستطيعون أن يذهبوا إلى مسجد نمرة، ولا يسمعون الخطبة فإنهم ينتدبون لهم خطيباً يخطب لهم، فيخطب فيهم ويصلي بهم الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ولكن السنة والأفضل أن يذهب إلى نمرة ويجلس فيها إلى أن يصلي الظهر والعصر فإذا انتهى من الصلاة اذهب إلى عرفة، وخلال ذلك فليلزم السكينة والوقار، فيستغفر الله ويذكره، ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيين قبلي)، وذكر هذا الذكر. ويكثر من الدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن ذلك من النصيحة لله، وقد ورد في صحيح مسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرفق واللين، فإذا نصح المسلم فليكن هيناً ليناً، فتدعو إلى الله وينصح حتى وإن قيل له: لا جدال في الحج، فليقل قولاً معروفاً، ولا ييأس، والمقصود بلا جدال في الحج: لا جدال على باطل، أما هذا الجدال فهو حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجدال المنبوذ الجدال على باطل)، أما الجدال على الحق فإنه لا ينتهي إلى يوم القيامة. ثم بعد ذلك يهذب إلى جبل الرحمة إن استطاع ووجد إلى ذلك سبيلاً -ولا يجب عليه أن يصعد الجبل- فإن لم يستطع أن يصل إلى ذلك فمن السنة أن يستقبل القبلة ويدعو الله بما شاء، والأفضل ألا يقترب من أحد، كامرأته أو ابنه أو أخيه أو غيرهم؛ ليخلو بربه، وهؤلاء قد يشغلوه عن الدعاء والتضرع. فليدع الله وليتضرع بين يديه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله على راحلته، وهذه هي السنة، فلو استطاع أن يحمل كرسياً ليقعد عليه وقت الدعاء فهذا أفضل؛ لأن هذا سيكون أيسر حتى يطيل في الدعاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو طويلاً وهو على ناقته، وخطام الناقة يسقط منه فيأخذ بيده والأخرى مرفوعة إلى السماء. فليدع الإنسان ربه طويلاً، ولا يتوان في الدعاء، فهذا الموقف هو موقف استجابة الدعاء، وموقف المباهاة بعباد الله، وموقف عتق من النيران. اللهم اجعلنا جميعاً من عتقائك من النار.

المبيت بمزدلفة

المبيت بمزدلفة ثم تبقى هناك طوال النهار، ولا يجوز لك أن تدفع قبل الغروب، (فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحين حتى يسقط حاجب الشمس) أي: حتى تغرب الشمس، فتدفع وعليك السكينة والوقار من عرفة إلى مزدلفة، وأثناء الطريق تستغفر الله، وتذكره كثيراً، حتى تصلي المغرب والعشاء في مزدلفة، وهذا هو الأولى لك؛ لأن هذه هي السنة، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فغسل وجهه، أو استنشق وتوضأ وضوء سريعاً، فقال له أسامة: يا رسول الله! الصلاة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمانة) يعني: الصلاة في مزدلفة، فالسنة أن تصلي في مزدلفة قدر الإمكان، لكن إذا تأخرت ولم تستطع أن تصلي في مزدلفة إلا بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً -لأن بعض العلماء قالوا: إن وقت العشاء ممتد إلى نصف الليل فقط- ففي هذه الحالة صلي في الطريق أولى لك، وقد كنت أقول: إن الصحيح أن تصلي المغرب والعشاء في مزدلفة ثم لا تصل شيئاً بعد ذلك حتى الوتر، والدليل على ذلك أن جابراً رضي الله عنه وأرضاه -أحرص الناس على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأروى الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم- قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء وترحل -يعني: صلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم نام، قال: واضطجع إلى الفجر)، فقد سكت عن الوتر، ولو فعله لنقل جابر ذلك، وفي هذا دلالة قوية على عدم الصلاة بعد المغرب والعشاء في مزدلفة، ولكن مع توحيد النظر أرجع عن هذا القول؛ لأن في حديث جابر نفسه قال: (ثم قام في الفجر، فصلى الفجر وذهب إلى المشعر الحرام فدعا)، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى سنة الفجر، وقد أجمع العلماء على أن سنة الفجر لم يكن يتركها النبي صلى الله عليه وسلم لا سفراً ولا حضراً، فنعامل سنة الفجر معاملة الوتر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك قيام الليل سفراً ولا حضراً، ولم يترك القنوت سفراً ولا حضراً، فالصحيح الراجح أن المستحب أن يوتر، وإن لم يوتر فلا شيء عليه. بعد ذلك ينام حتى الفجر، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي الفجر، ثم يذهب إلى المشعر الحرام، أما الضعفاء فإنهم يدفعون بعد غياب القمر، فإن وجد مثلاً رجل شديد وامرأته ضعيفة، فيغلب حكم الضعيف، كما في الحديث الثابت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء، لكن أمرهم ألا يرموا حتى تطلع الشمس) هذا خاص بالرجال، أما النساء فلهن أن يرمين قبل الفجر، والصحيح الراجح جواز الرمي قبل الفجر للكل بعد غياب القمر، أما الشديد الذي يريد أن يستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصلي الفجر في مزدلفة، ثم يذهب إلى المشعر الحرام فيدعو الله كثيراً -وهذا أيضا موقف من مواقف استجابة الدعاء- حتى يسفر، أي: يختلط بياض النهار بسواد الليل، حتى يكون البياض هو الذي عم كل السماء، قبل أن يظهر قرص الشمس، ثم بعد الإسفار يدفع مباشرة إلى منى، ولا يلزمه أن يلتقط الحصى من مزدلفة، بل يجوز أن يأخذ الحصى من منى، ولكن إذا تيسر له بعد أن يدعو الله جل وعلا وهو يدفع إلى منى أن يلتقط الحصى فله ذلك، وإذا فعل ذلك فلا يلتقط عدداً كبيراً من الحصيات للأيام كلها، بل يلتقط سبع حصيات فقط، ومن زاد على ذلك فقد خالف السنة، وله أن يأخذ واحدة أو اثنتين احتياطاً إذا خشي أن تضيع منه بعض الحصيات.

مناسك يوم النحر وأيام التشريق

مناسك يوم النحر وأيام التشريق ويذهب ماشياً إلى منى، وعليه السكينة والوقار، ويكثر من التلبية والتكبير -ولا تكون التلبية جماعية، فإن ذلك من الأخطاء التي يقع فيها الحاج- فيلبي ويكبر ويستغفر ويذكر الله حتى يصل إلى جمرة العقبة، فيرمي السبع الحصيات، وطريقة وقوفه عند رمي الجمرات أن يكون صدره مقابل العمود الذي في الحوض، فتكون مكة عن يساره ومنى ومسجد الخيف عن يمينه، فـ ابن مسعود -بعدما فعل ذلك قال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة. فيرمي سبع حصيات كالحصى الخذف، يعني: هذه الحصى تكون كالحمص أو فوق الحمص قليلاً، ويكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية عند رمي أول حصاة، وليعلم أنه لا يرمي الشيطان، ولا يرمي أحد، وإنما هذا منسك من مناسك الحج. فيجب على الحاج أن يقف الوقفة الصحيحة، ويرمي ولا يسأل أحداً بعد ذلك بأن الحصيات لم تقع في الحوض، أو نحو ذلك، فإن الله جل وعلا قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وهذه هي استطاعتك، إلا إذا كان هذا الحاج مستيقناً أو غلب على ظنه أن واحدة من الحصيات لم تنزل في الحوض، أو أنها ضربت في الشاهد وخرجت -لكن لو ضربت في الحوض ثم خرجت فهذه صحيحة- ففي هذه الحالة عليه أن يعيد رمي هذه الحصاة. فإذا رمى فليذهب لينحر، أو يشهر النحر -ووقت النحر يمتد إلى ثالث أيام التشريق- ثم يذهب إلى الحلاق فيحلق. وهذا الترتيب هو الترتيب السني بالنسبة للتقديم والتأخير، وقد جمعوا هذا الترتيب السني في هذا اليوم بكلمة (رنحط)، يعني: رمي ثم نحر ثم حلق ثم طواف، أي: طواف الإفاضة، وهذا الترتيب هو الأفضل لمن استطاعه، أما الذي لا يستطيع ذلك فلا شيء عليه إن قدم أو أخر؛ لأن النبي النبي صلى الله عليه وسلم (جاءه أحدهم يقول: طفت قبل أن أنحر، قال انحر ولا حرج، وجاء آخر فقال: سعيت قبل أن أطوف، فقال: طف ولا حرج، وآخر قال: رميت قبل أن أحلق، فقال: ارم ولا حرج) فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر في هذا اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج)، فأي إنسان يرى أن السهل عليه أن يسعى قبل أن يطوف فليسع، أو أن يطوف قبل أن يسعى فله ذلك. ثم بعد ذلك إذا فعل هذه الثلاثة يكون قد تحلل، بل يقول بعض أهل العلم: إن الرمي وحده يكفي في أن يتحلل بذلك، أما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه لا بد أن يرمي ثم يحلق أو يطوف حتى يتحلل، والأحوط -خروجاً من خلاف الفقهاء- هو أن يرمي ويحلق، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب قبل أن يطوف؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكنت أطيبه بعد أن يحل قبل أن يطوف بالبيت)، فيتطيب ويغتسل ويحل له كل شيء إلا النساء، وهذا هو التحلل الأول فإذا طاف بالبيت سعى بين الصفا والمروة، وهذا واجب، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إنه لا حج لمن لم ير السعي بين الصفا والمروة، ويخالف طواف الإفاضة مع السعي، طوافَ القدوم، في الرمل والاضطباع، فإنهما خاصان بطواف القدوم أو العمرة، أما طواف الإفاضة فلا رمل ولا اضطباع فيه، فيمشي ويقول ما قلنا في طواف العمرة من الأدعية والأذكار، فإذا فعل ذلك حل له كل شيء، وهذا يفعله وجوباً، والواجب هو الذي لو ترك سهواً أو نسياناً فلا شيء على صاحبه، كما لو كان يمشي بالسيارة ولم يصل إلى منى إلا فجراً، فهذا ليس عليك شيء، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فالمحظورات هذه من ارتكبها بخطأ -بدون عمد- أو بسهو أو بنسيان فلا شيء عليه. ثم في اليوم الثاني -يوم الحادي عشر، وهو أول أيام التشريق- فالسنة أن ينتظر حتى الزوال ثم يرمي، وهذا أيضًا وجوباً، وقد يفتي البعض بأنه يجوز أن يرمي بعد الفجر، أو بأي وقت قبل الزوال، ويحتج هؤلاء بأن ديننا يسر، فأقول صحيح أن ديننا يسر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تصفه عائشة رضي الله عنها فتقول: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، ولكنه قد بين ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف عند الجمرة يتحين الزوال، فإذا زالت الشمس رمى) فلو كان الأيسر على الأمة أن يكون الرمي قبل الزوال لرخص النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يتحين وقت الزوال، فإن ذلك يعني أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال، أما الإحتجاج بعدم القدرة وخاصة النساء والشيوخ، وذلك بسبب كثرة الناس. فالجواب عليه أن الرمي لا يختص بوقت الزوال فقط، وإنما يمتد إلى فجر اليوم الثاني، وبذلك يكون الإنسان قد عمل بالسنة، وأمن على أهله وولده، ورمى وهو يستشعر أنه طائع الله جل في علاه. ومن السنة أيضًا أن ينزل بعد أن يرمي إلى مكة ويطوف بالبيت ثم يرجع يبيت في منى، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا لم يستطع فله أن يجلس في منى الثلاثة الأيام، إن أراد التأخير -وهو الأفضل- قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]. فإذا تأخر إلى اليوم الثالث رمى أيضًا بعد الزوال، ويجوز أن يرمى عن الأولاد وعن الزوجة أيضًا إن لم تستطع، فمن فعل ذلك في اليوم الثالث فقد تم حجه، وقضى تفثه، وأتم السنن والمستحبات والواجبات. ويبقى أن ننبه على أمر قد أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عباس أنه قال: (أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الحاج أن يكون آخر عهده بالبيت)، فطواف الوداع لا يجوز تركه، ومن تركه فعليه دم. هذه إجمالاً أحكام الحج جميعاً، وصلنا إلى نهايتها، ونسأل الله أن يلهمنا الإخلاص، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.

شرح مناسك الحج للنساء [1]

شرح مناسك الحج للنساء [1] الحج ركن من أركان الدين، ومعلم من معالمه، وأساس من أسسه، فهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إلا بها، وقد رغب فيه الإسلام، وحث عليه، من أجل ذلك كان لابد على المسلم أن يتعلم أحكام الحج وكيفيته، ويستوي في ذلك الذكر والأنثى، وإن كان هناك بعض المسائل التي يختلفان فيها نظراً لطبيعة كل منهما.

أعمال يوم التروية

أعمال يوم التروية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن أهم مناسك الحج تبدأ يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة.

الاغتسال يوم التروية

الاغتسال يوم التروية من السنة أن يغتسل الحاج غسل الجنابة وتغتسل المرأة غسلها من الجنابة، ثم ترتدي ما شاءت من الثياب؛ لأنه ليس محظوراً عليها شيء من الثياب، سوى النقاب والقفاز، فالمرأة لا تنتقب ولا تلبس القفازين. فتغتسل هذا الغسل، وتتطيب، والطيب قسمان: قسم له رائحة لا يجوز للنساء استعماله، فهو خاص بالرجال. وقسم له عين وليست له رائحة فيجوز لهن. والمرأة إذا أرادت أن تلتمس السنة، وتصيبها فلتطيب بطيب ليس له رائحة بحال من الأحوال، تعبداً لله جل وعلا، بالتمسك بالسنة.

التلبية يوم التروية

التلبية يوم التروية بعد أن تغتسل تتمهل يسيراً، ثم تلبي من مكانها قائلة: لبيك اللهم بحجة. وبعد أن تلبي بذلك تردفها بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك، فتلبي هذه التلبية، وتخفض صوتها بحيث تسمع نفسها؛ لأن المرأة كلها عورة، فلتتق الله ولتخفض صوتها؛ حتى لا تفتن الرجال.

الدفع إلى منى وقصر الصلاة فيها

الدفع إلى منى وقصر الصلاة فيها فإذا لبت المرأة فلتدفع بإذن الله قبل الزوال إلى منى، فمن السنة أن تدرك وقت الظهر عند الزوال في منى، فتصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثاً -لأن المغرب لا يقصر- والعشاء ركعتين، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان للمرأة ورد من الليل فعليها أن تأخذه قبل الفجر، فإن نسيت فلتقم في النهار، وإن لم يكن لها ورد فحري بكل امرأة جاءت إلى هذه الأماكن المعظمة متمسكة متعبدة لله جل وعلا أن تجعل لها فرصة من الليل تقوم فيها ولو بركعتين، بما تحفظ من الآيات، وما تيسر لها، فتكون قد أحيت ليلها وأرضت ربها، ثم بعد ذلك تصلي الفجر مع الناس جماعة، ثم تذكر الله جل وعلا بأذكار الصباح التي تحفظها، ولتحافظ على الأذكار المؤقتة التي كان لا يتركها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل -كما في المسند بسند صحيح- فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأوصني وأوجز لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، وقد ورد حديث في شعب الإيمان بسند ضعيف، قال: (اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون). فترطب القلوب بذلك وتثبت بإذن الله، ومن اعتاد على الذكر في حال رخائه أتاه الفرج من عند ربه جل وعلا وقت الشدة، ويثبت عند الموت، ويقول: لا إله إلا الله. وبعد أن تنتهي من أذكار الصباح فإن كان لها ورد من القرآن فلتقرأه، حتى تطلع الشمس.

الدفع إلى نمرة

الدفع إلى نمرة فإذا طلعت الشمس فلتدفع إلى نمرة، وهذه هي السنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتنفل حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت دفع إلى نمرة، فلما وصل إليها ضربت له خيمة في نمرة فنزل فيها. هذه هي السنة، ولكن مع الازدحام الشديد في هذه الأزمنة لا يستطيع الإنسان أن يطبق هذه السنة، فإذا أرادت المرأة السنة فلتخبر محرمها أن يذهب بها إلى نمرة؛ لأن هذه هي السنة، وإن لم تستطع، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فليس بواجب، ولا لازم عليها، ولكنها سنة مستحبة، فإذا أرادت أن تحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم فلتذهب إلى نمرة ولتجلس إلى الزوال.

الدفع من نمرة إلى عرفة

الدفع من نمرة إلى عرفة فإذا زالت الشمس عن كبد السماء، واقترب وقت الظهر فلتدفع من نمرة إلى عرنة، ولتجلس في عرنة ولتسمع الخطيب، ثم بعد الخطبة يؤذن للصلاة، ثم تقام صلاة الظهر، فتصلي ركعتين، ثم الإقامة الثانية للعصر، فتصلي العصر ركعتين جمع تقديم لا تأخير، وبعد صلاة الظهر والعصر تستحضر في قلبها الخشوع والذل التام لله جل وعلا، والمقام مهيئاً لذلك، فإن المرء إذا لبس إحرامه الذي هو إزار ورداء علم أنه سيكفن في مثل هذا، فهذا يهيئه تهيئة تامة، والمرأة لها أن تتذكر ذلك فهي تصلي وترى الرجال الذين يرتدون هذا اللباس، فتتذكر أن هذا كفن، وتتذكر الموت، وتخضع وتذل لكبرياء الله، ولعزته وجبروته وقدرته، فتذرف العين دامعةً لله جل وعلا، ويرق القلب شوقاً لرؤية وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وتستحضر في قلبها بأن الله سيباهي بها الملائكة.

آداب الدعاء

آداب الدعاء ولتعلم أن المحل محل دعاء، وعلى المرأ أن يقدم بين يدي دعائه آداب كثيرة:

تقديم طاعة قبل الدعاء

تقديم طاعة قبل الدعاء منها: أن يقدم طاعة، وأفضل الطاعات يوم عرفة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وجدت امرأة متنقبة فلتقل لها: اتقي الله، ولا تلبسي النقاب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين)، وإذا رأت امرأة قد لبست القفاز نصحتها في الله، وإذا رأت امرأة شعرها ظاهر قالت لها: اتقي الله في نفسك، وإذا رأت امرأة أحرمت بالزي الأبيض تقول لها: هذا تشبه بالرجال، فعليك بالسواد أو بالبني أو بالأزرق، وإذا رأت امرأة لبست اللباس الضيق تقول لها: اتقي الله، فإن هذا ليس بلباس المؤمنات. فتشعر بذلك أنها أمة لله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنصح في الله، وتبين الحق من الباطل، وإن عنفها أحد، أو أساء إليها، أو سبها. فذلك في سبيل الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وإذا رأت رجلاً يشرب دخاناً نصحت زوجها أن ينصحه، وإذا لم يكن معها زوجها نصحته هي؛ لأن هذه أفضل طاعة وعبادة تقدمها بين يدي دعائها.

الوضوء واستقبال القبلة

الوضوء واستقبال القبلة ومن آداب الدعاء: الوضوء، فكثير من الناس ينسى هذا، أو يغيب عنه، فتتوضأ المرأة وضوءها للصلاة، ثم تستقبل القبلة، فمن السنة أن تستقبل القبلة وجبل الرحمة، ولكن بعض الناس يتهافتون على الجبل، ومنهم من يترك عرفة بأسره، ويترك الذكر، وقد يترك الصلاة، ويذهب ليتسلق الجبال. فعند الدعاء تستقبل القبلة مع جبل الرحمة -وهذا قيد- فإن لم تستطع فلتستقبل القبلة بخشوع.

ذكر الله قبل الدعاء

ذكر الله قبل الدعاء ومن آداب الدعاء أن تذكر الله جل وعلا قبله ثم تسجد لله كثيراً. وأفضل الذكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله يوم عرفة)، هذا في عرفة، والذكر عام، وأخص وأفضل الذكر قول: لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فلابد أن تكثر المرأة من هذا الذكر، وأيضاً: تكثر من التحميد والتهليل والتكبير والتسبيح: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعد أن تصلي العصر مع الظهر، فلها أن تقول أذكار المساء بعد هذه الصلاة؛ لأن الذكر مرتبط بالصلاة، فإذا قدمت الصلاة فلها أن تقرأ أذكار المساء إن كانت تحفظها، فإن لم تكن تحفظها فلتقرأها من أي كتيب صغير يحتوي على صحيح الأذكار، كحصن المسلم، للمؤلف سعد القحطاني أو غيره.

رفع اليدين والصلاة على النبي

رفع اليدين والصلاة على النبي من آداب الدعاء رفع اليدين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رفعت المرأة يديها في هذا اليوم فلن ترد خائبة أبداً، فتدعو الله جل وعلا بما تشتهي من خيري الدنيا والآخرة، فالله كريم، وخزائن السموات والأرض بيده، فلا يرد عبداً خائباً، فإذا ذهبت المرأة إلى امرأة مثلها قد اشتهرت بين النساء بالكرم الفياض، فإنها لن تعرف كيف تكرمها؟ وهي امرأة ضعيفة عاجزة، يعتريها النقص والضعف؛ فكيف بالرب الغني الكريم سبحانه وتعالى جل في علاه؟ فإن له خزان السموات والأرض. فكل امرأة تستحضر خشوع القلب، وترفع يدها فإنها أقرب لاستجابة الدعاء؛ لأن الله جل وعلا كتب -كما أوحى لنبيه- أن النصر مع الضعفاء، والمرأة أضعف من الرجل، فتكون هي أفضل في استجابة الدعاء.

تكرار الدعاء ثلاثا ثم الاستغفار بعده

تكرار الدعاء ثلاثاً ثم الاستغفار بعده وإذا دعت المرأة بدعوة كررتها ثلاثاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من سنته إذا دعا يكرر دعاءه ثلاثاً؛ ليبين إلحاحه وتضرعه وتذلله لله جل وعلا، فلابد أن تكرر الدعاء ثلاثاً، تذللاً لله وتضرعاً له، وطمعاً في فضله وكرمه جل وعلا، وفي أن تكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، وفي منازل الصحابة رضوان الله عليهم، وطمعاً في أن يملأ الله قلبها بحبه، وبالعمل له، ونصره دينه. وبعد أن تختم الدعاء بإنزال يدها، تستغفر الله كثيراً، وتسبح وتكبر وتحمد وتهلل، وتقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وتظل على هذه الحال حتى تغرب الشمس.

الموفق من وفقه الله

الموفق من وفقه الله التوفيق لا يكون إلا من الله جل وعلا، فإن العبد لا يساوي شيئاً، ولا يتعلم شيئاً إلا بفضل ربه جل في علاه، وهو الذي علمنا أن نقرأ ونقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] فمن وفقه الله وسدده فهو الموفق المسدد، ومن أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً.

تطبيق للدعاء بآدابه

تطبيق للدعاء بآدابه المرأة بعد أن ترفع يدها تثني على الله بما هو أهل له، كأن تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ} [فاطر:1]، الحمد لله الذي فرق الحق، الحمد لله الذي عنده خزائن السموات والأرض، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الحمد لله الواجد الماجد الحميد المجيد، الحمد لله المبدع المعيد الواسع، الحمد لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فتتدبر هذا، وتثني على الله بما هو أهل له، ثم تقول: لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وتختم: لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، وبعد أن تختم بهذا تكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ووالله لو أكثرت على نفسها من الصلاة على النبي بعد كل صلاة لكفاها الله الهم، ورفع عنها الذنب، وأعطاها ما أملت. فتكثر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو، وإذا دعت تذكرت معصيتها وعلمت ما فرطت في حق الله جل وعلا، فتستغفر الله وتقول: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وتتوب إلى الله في نفس الدعاء، ثم تصلي على النبي، وهذا ليس بلازم، وبين كل دعائين وفي كل حين وآخر تكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتدعو الله جل وعلا ما أرادت من خيري الدنيا والآخرة. ولتستحضر الخشوع والخضوع والتمسكن والتذلل والتضرع، ولتكثر من الذكر، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلمة ومسلم، حتى تغيب الشمس، في سكينة ووقار، فلا تفتن ولا تفتن. وكل الذي ذكر هنا تشترك فيه الحائض وغير الحائض، فالمرأة إذا نزل عليها الدم، وجاءها الحيض فلا تيأس ولا تبتئس؛ ولتعلم أن الله إذا ابتلاها فإنما أراد أن يرفعها؛ لأن كل بلية ترفع درجة وتحط خطيئة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى الشوكة يشاكها المرء إلا كانت كفارة له عن سيئاته). والله جل وعلا قد قدر ذلك على النساء، وكتب ذلك عليهن، فعليهن أن يرضين بما قدر الله عليهن، بوجه طلق، أو بقلب منشرح، أو بصدر فرح؛ لأن الله إذا قدر عليهن شيئاً فلن يضيعهن، فالمرأة الحائض تغتسل وتتوضأ ثم تتم مناسك الحج.

الدفع إلى مزدلفة

الدفع إلى مزدلفة وبعد مغيب الشمس تدفع المرأة إلى مزدلفة، ولا تجلس إلا جانب زوجها، الذي هو محرم لها، حتى لا تحدث الخلطة بين الرجال والنساء، دفعاً للفتنة، وسداً للذريعة.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة البيات في منى سنة، والوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، ومن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، والألف واللام هنا: لبيان الكمال، يعني: كمال الحج في عرفة، يعني: من فاته عرفة فاته الحج.

أول وقت الوقوف بعرفة وآخره

أول وقت الوقوف بعرفة وآخره السنة أن أول وقت الوقوف بعرفة هو بعد الزوال -أي: بعد صلاة الظهر والعصر- وآخر وقت للوقوف بعرفة قبيل فجر اليوم الثاني -أي: في يوم العيد- وهذا هو الراجح، والدليل على ذلك: حديث عروة بن مسعود قال: (يا رسول الله! أتعبت نفسي، وكلت راحلتي، ما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا هذه) -أي: الصلاة التي تجب أن تجمع في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه، فآخر وقت للوقوف بعرفة هو قبل أن يطلع الفجر يوم العيد.

حكم المبيت بمزدلفة

حكم المبيت بمزدلفة المبيت بالمزدلفة واجب على الرجال فقط دون النساء، ومن السنة أن المرأة الضعيفة أو القوية تبيت، ولكن يرخص لهن أن يدفعن، فكل امرأة كبيرة أو شابة قوية أو ضعيفة لها أن تدفع، خلافاً لمن يقول: إن الضعفة من النساء فقط هن اللاتي يدفعن ليلة المزدلفة.

الأدلة على أنه يرخص الدفع لجميع النساء

الأدلة على أنه يرخص الدفع لجميع النساء والأدلة على أنه يرخص الدفع لجميع النساء ما يأتي: أولاً: جاء عن ابن عباس أنه قال: (رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والضعفة من الرجال أن يدفعوا بعد غروب القمر، أو بعد غياب نصف الليل الأول) فبعد غروب القمر، أي: حوالي الساعة الواحدة والنصف، أو الثنتين. فتدفع النساء والصبيان، وكذلك الرجل القوي الجلد إذا كان محرماً للمرأة فإنه يدفع معها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رخص للمرأة أن تدفع فقد رخص لمحرمها أن يدفع معها؛ لأنه ملازم لها. وإذا رخص للملزوم رخص للازم، فيدفع معها. إذاً: فالمرأة تدفع سواء كانت قويه أو ضعيفة. وإذا أرادت أن تبيت فلها ذلك إن استطاعت ذلك. فحديث ابن عباس عام في النساء، وخاص في ضعفة الرجال فقط؛ لأنه خص الضعفة من الرجال، وعم كل النساء. ثانياً: جاء في صحيح البخاري بسند صحيح معلقاً بصيغة الجزم: أن أسماء بنت أبي بكر كان معها عبدها فتقول له: انظر غاب القمر؟ فيقول: ليس بعد، فتصلي، ثم تقول: انظر غاب القمر؟ فيقول: ليس بعد فتصلي، حتى غاب القمر قالت: فارتحلوا، فقال: ما أرانا إلا غسلنا. قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن -أي: للظعينة، وتطلق على المرأة، على الهودج التي تذهب به- فدفعت بالليل، ثم رمت. أي: رمت قبل الفجر.

خطأ من قال من دفع بالليل لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، والأدلة على خطئه

خطأ من قال من دفع بالليل لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، والأدلة على خطئه الشيخ الألباني يشترط حتى على المرأة التي دفعت بالليل أن ترمي بعد طلوع الشمس، وليس ذلك بصحيح بحال من الأحوال، لا أثراً ونظراً. أما الأثر: فحديث أسماء. وأما النظر: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ما رخص لهن في الدفع إلا من أجل الرمي. فتذهب ليلاً، وترمي ليلاً قبل الفجر، كما رمت أسماء قبل الفجر، ثم ذهبت إلى البيت فطافت قبل الفجر، ثم جاءت إلى بيتها لتتحلل التحلل الأول، فإن لم تستطع فإنها ترمي وتذهب إلى الحرم حتى تطوف. إذاً: هذه مجمل الأعمال التي تعمل يوم التروية، ثم في يوم عرفة، ثم في مزدلفة.

رمي الجمار

رمي الجمار ثم تدفع بعد ذلك إلى الجمار، ولا تقطع التلبية إلا عند جمرة العقبة، فتستقبلها بصدرها، وتجعل الكعبة عن يسارها، ومسجد الخيف عن يمينها، فتستقبل الجمرة ومعها سبع حصيات، وليس بلازم أن تأخذ الحصيات من مزدلفة، -كما يفعل المبتدعون- وإنما تأخذها من أي مكان يتاح لها، فإن كانت من مزدلفة فخير، وإن لم تستطع فمن منى، فتأخذ سبع حصيات، أو أكثر من ذلك. ولا يكون الدفع إلا بعد أن تصلي المغرب والعشاء في مزدلفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل -كما في حديث أسامة - فشرب فتوضأ وضوءً سريعاً، فقال أسامة: (يا رسول الله، الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة أمانة)، أي: ليست هنا، وإنما السنة أن تصلي المغرب والعشاء في اليوم الثالث بمزدلفة، فتجلس حتى غياب القمر، ثم تدفع بعد غياب القمر لترمي الجمرة، فتستقبل الجمرة بصدرها، وتجعل مكة على يسارها، ومسجد الخيف على يمينها؛ لأنه جاء عن ابن مسعود أنه قال بعد ما رمى بهذه الكيفية: (والذي نفسي بيده! إن هذا المكان هو الذي أنزلت عليه سورة البقرة). أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الرمي ترفع يديها وتكبر مع كل حصاة، وتنظر إلى هذه الحصاة هل نزلت في الحوض أم لا؟ ويكفي في ذلك غالب الظن. وترمي بسبع حصيات، فإن نسيت كم رمت، فالقاعدة: أنها تبني على اليقين، وإلا على الأقل.

طواف الإفاضة

طواف الإفاضة طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، فبعد الرمي تذهب فتسعى، وتطوف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وإذا طافت طواف الإفاضة وسعت فقد تحللت التحلل الأول، أو التحلل الأصغر.

حلق الشعر

حلق الشعر على المرأة بعد الرمي قص الشعر، فتجمع كل شعرها بقبضة واحدة، وتأخذ قدر الأنملة من شعرها، ولا يكون هذا في مجمع الناس، وإنما تؤخر المرأة القص حتى تذهب إلى بيتها إن استطاعت أن تذهب، أو تذهب إلى الحمامات فتأخذ بشعرها وتقصه، وهذا أفضل؛ لأن السنة، هي: أن تقص أو تقصر قبل أن تخرج، وإن استطاعت أن تغتسل قبل الطواف فهذا خير، وإن لم تستطع فلا تغتسل، وإنما تذهب فتطوف وتسعى، وتكون قد أنهت أمرها في يومها بفضل الله. وأسأل الله جل وعلا أن يتم الحج، وأن يجعله حجاً مبروراً. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت.

شرح مناسك الحج للنساء [2]

شرح مناسك الحج للنساء [2] فرض الله عز وجل الحج على كل مسلم مكلف بالغ عاقل مستطيع، إذا كان مالكاً للزاد والراحلة، وقد أوجبه الله عز وجل على الذكر والأنثى، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مناسك الحج قولاً وعملاً، ولم يترك مجالاً لمستزيد، فحري بالمسلم أن يقتفي سنن النبي الكريم في هذه الشعائر العظيمة، متقرباً بذلك إلى الله تعالى.

الترغيب في التوبة

الترغيب في التوبة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل كان في فلاة فضلت راحلته، فيئس منها، فاستظل تحت ظل شجرة وقد أيس من راحلته -أي: ينتظر الموت- فنام نومة، فاستيقظ فوجد راحلته أمام عينه -فأراد أن يحمد الله جل وعلا- فقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) يبين أنه ذهب عقله فأخطأ، وعفا الله عن هذا الخطأ. وجاء عند الشافعي في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة العبد من فرحة هذا العبد الذي وجد راحلته). والله جل وعلا لا يترك ليلة وإلا وينزل فيها نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، لا نعلم كيفيته، وإنما نؤمن بهذه الصفة، بأن الله ينزل، لا كما ينزل البشر، بل ينزل الله نزولاً يليق بجلاله وكماله وعزته وقدرته إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟). والشاهد فيه أنه قال: هل من مستغفر فأغفر له؟ فما من عبد يستغفر الله جل وعلا إلا ويغفر الله له. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (عبدي إن أتيتني نهاراً قبلتك، وإن أتيتني ليلاً قبلتك. إن تقربت إلي شبراً تقربت إليك ذراعاً، وإن تقربت إلي ذراعاً تقربت إليك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة). فالله يهرول، لكن هرولة تليق بجلاله وكماله.

تعلم العقيدة من فروض الأعيان

تعلم العقيدة من فروض الأعيان أصول علم العقيدة فرض من فروض الأعيان، التي لا بد لكل امرأة أن تتعلمها، فإن لم تتعلمها فهي آثمة، وهذه الأصول هي علم التوحيد وما ينافيه من الشرك، فهو فرض عين على كل امرئ أن يتعرف على أسماء الله جل وعلا، وصفاته وتوحيده، أي: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية.

مجمل أعمال الحج يوم الثامن والتاسع والعاشر من ذي الحجة

مجمل أعمال الحج يوم الثامن والتاسع والعاشر من ذي الحجة تبدأ مناسك الحج في اليوم الثامن، وكما فعلت المرأة في العمرة تفعل في الحج، فتغتسل الغسل المسنون المعلوم، وترتدي الملابس غير البيضاء، ثم تلبي: لبيك اللهم بحجة، وتذهب وقت الزوال إلى منى، فتصلي بها الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثاً، والعشاء ركعتين، ثم بعد ذلك تبيت بمنى، وهذا المبيت سنة ليس بواجب، يعني: يمكن للمرأة ألا تذهب، فتبيت بمنى إلى الفجر، فتصلي الفجر، ثم تذكر الله جل وعلا، وتقرأ القرآن، وتأتي بالأذكار، ثم بعد طلوع الشمس تدفع مع زوجها إلى عرفة، وتجلس في وادي نمرة إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإن لم تستطع تجلس في مخيمها مع زوجها، ومع أخواتها، فيصلين الظهر والعصر جمعاً وقصراً ركعتين ركعتين، بأذان واحد وإقامتين. وإذا بلغتهن خطبة الإمام صلين خلف الإمام، وإن لم تبلغهن يقمن شيخاً من الشيوخ يخطب بهن، ويصلي بهن في المخيم ركعتين ركعتين. وبعد ذلك تنشغل بالدعاء والذكر والاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل يوم عرفة، ثم تكثر من الدعاء حتى يسقط حاجب الشمس عند الغروب، فتدفع من عرفة إلى مزدلفة، ولا تصلي المغرب والعشاء إلا في مزدلفة جمع تأخير وقصر، ثلاث ركعات للمغرب، وركعتين للعشاء، وتجلس حتى ينتصف الليل، فتدفع مع محرمها إلى منى، وتلتقط من منى -وهو الأصل- وإن التقطته من مزدلفة فليس فيه شيء، فتلتقط سبع حصيات، وتذهب مع محرمها وترمي جمرة العقبة، -وهي الجمرة الكبرى، آخر جمرة- فتستقبلها لترميها، وتجعل الكعبة على يسارها، ومنىً على يمينها، فترميها بسبع حصيات، وتكبر الله مع كل حصى، وخلال كل ذلك تكبر وتلبي، لا تقطع التلبية بحال من الأحوال، إلا عند أول حصى ترمي بها الجمرة، وبعد ذلك تذهب إلى البيت فتطوف بالبيت، ثم تسعى بين الصفا والمروة، ثم تقصر شعرها في بيتها، وبذلك تكون قد تحللت التحلل الأصغر والأكبر، ثم تعود إلى سكنها، فتغتسل وتتحلل وتنام في السكن حتى قبيل غروب الشمس، وتدفع بعد ذلك إلى منى؛ لتبيت فيها. أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. ولها فضل كبير، وهي من أعظم الأيام، وهي أيام تسبيح وتكبير وتحميد وتهليل وذكر لله، وهي أيام أكل وشرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أيام التشريق: (هي أيام أكل وشرب وذكر لله جل في علاه)، بل جاء في بعض الروايات: (إن أعظم الأيام عند الله هي أيام التشريق)، فهي تابعة للعشر الأوائل من ذي الحجة، وهي أفضل الأيام عند الله جل في علاه على الإطلاق.

مناسك الحج أيام التشريق

مناسك الحج أيام التشريق من مناسك الحج: أن تبيت المرأة وجوباً في منى ثلاثة أيام أو يومين، ثلاثة أيام لمن أرادت أن تتأخر، ومن أرادت التعجيل فتبيت ليلتين: الليلة الأولى بمنى، فتبيت وتنتظر إلى زوال الشمس، يعني: قبيل الظهر بعشر دقائق أو بربع ساعة بالكثير، فتقف وقت الزوال ولا ترم حتى تزول الشمس عن كبد السماء، ثم ترمي الجمرة الأولى -وهي الصغرى- بسبع حصيات، تكبر مع كل حصاة، وتتأكد أن الحصاة قد نزلت في الحوض، ثم تتقدم قليلاً فتأخذ ناحية اليمين، وتجعل هذه الجمرة على يسارها، وتستقبل الكعبة وتدعو طويلاً. وقد كان ابن عمر يطيل الدعاء جداً بعد رمي الجمرة الوسطى، ويرفع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: هذه سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، فهو قد رمى هذه الجمرة، ثم تقدم عنها وجعلها على يساره واستقبل القبلة ودعا طويلاً. ثم تذهب إلى الجمرة الوسطى فتستقبلها أيضاً وترميها وتكبر مع كل حصاة، ثم تتقدم أيضاً قليلاً فتجعل الجمرة عن يمينها، -فالأولى كانت على اليسار، وهذه تكون على اليمين- وتستقبل الكعبة ثم تدعو طويلاً، ثم تذهب إلى الجمرة الكبرى، وترميها بسبع حصيات، ولا تستقبل الكعبة في هذه، ولا تقف ولا تدع، فليس ثم دعاء عند الجمرة الكبرى، وإنما الدعاء عند الجمرة الصغرى والوسطى. ووقت الزوال هو وقت الرمي، ومن رمى قبل وقت الزوال فلا يجزئه ذلك، وهو باطل؛ لأن أول وقت الرمي وقت الزوال؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على التيسير على الأمة، وهو الذي رخص للنساء في الدفع من مزدلفة ليرمين جمرة العقبة، وهو نفسه الذي كان يرمي وقت الزوال، ولو كان الرمي قبل الزوال جائزاً ليسر النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، ورخص فيه؛ لأنه قال: (ما بعثت معسراً، إنما بعثت ميسراً) -وقال: (يسروا ولا تعسروا) -، فالتيسير من أصول هذا الدين السمح الحنيف، والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أن الأيسر للأمة أن ترمي قبل الزوال لأذن به، فلما لم يأذن لأحد أن يرمي قبل الزوال، ولم يرم هو قبل الزوال، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم)، دل ذلك على حرمة الرمي قبل الزوال، ومن يقول: إن للمرأة أن ترمي قبل الزوال، أو للرجال أن يرموا قبل الزوال فقوله ليس بصحيح، وهذا الرمي باطل وغير مجزئ، ومن فعل ذلك فحجه ناقص وعليه دم. إذاً: أول وقت الرمي هو وقت الزوال، وآخر وقت الرمي هو قبيل الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلاً، وهذا فيه دلالة على أنها ترمي في الفجر، يعني: أنها ترمي ليلاً إلى الفجر. فيمكن للمرأة أن تخرج مع محرمها بعد المغرب أو العشاء وترمي، فيكون الأمر أيسر عليها؛ لأنه لا يكون عند الجمرات في ذلك الوقت إلا النادر اليسير من الناس، وهذا أيسر لها وأفضل، ثم ترجع إلى منى فتبيت هذه الليلة بمنى، ثم في اليوم الثاني عشر والثالث عشر ترمي المرأة كما رمت في اليوم الأول، فترمي الجمرة الأولى وهي الصغرى، ثم تجعلها عن يسارها وتتقدم قليلاً، ثم تدعو طويلاً، كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم). ثم ترمي الجمرة الوسطى أيضاً بسبع حصيات، ثم تتقدم أيضاً، وتجعلها عن يمينها، وتدعو طويلاً، ثم ترمي جمرة العقبة، فتستقبلها، وتجعل مكة عن يسارها، والمسجد عن يمينها، وترميها بسبع حصيات. فإذا انتهت المرأة من الرمي وأرادت التعجيل تعجلت، وإن كان الأفضل لها أن تتأخر، امتثالاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعملاً بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]. وهي زيادة طاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يختار إلا الأفضل، إلا أن يشق على أمته. فالله جل وعلا رخص في التعجيل، والنبي صلى الله عليه وسلم اختار الأفضل، فمن أراد أن يتعجل فلابد أن يرمي قبل غروب الشمس، ويرحل من منى، ولو جلس في منى حتى غربت الشمس، فقد وجب عليه المبيت والتأخير، وإذا جلس مختاراً في منى حتى سقط حاجب الشمس فقد وجب عليه التأخير. فإذاً: ضابط الأمر: أنها ترمي بعد الزوال، وتبيت بمنى ثلاثة أيام أو ليلتين وجوباً، وإن تخلفت عن المبيت فإن عليها هدياً، إلا إذا كانت مريضة.

طواف الوداع

طواف الوداع فإذا أكملت الرمي فلتذهب إلى البيت، وتطوف طواف الوداع، فتستقبل الحجر وتشير وتكبر، ثم تجعل الكعبة على يسارها، وتطوف سبعة أشواط، وتصلي ركعتين. وبهذا تكون قد أتمت حجها، وقضت تفثها.

لابد أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت

لابد أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت لا يجوز لمن طاف طواف الوداع أن يشتري أشياء، أو يشتغل في الأسواق، فمن فعل ذلك فعليه أن يرجع إلى البيت مرة ثانية ثم يطوف طواف الوداع، إذ أن آخر عهد المرء لا بد أن يكون بالبيت، فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص للحيض ألا يطفن طواف الوداع إن كن قد طفن طواف الإفاضة، فإذا حاضت المرأة بعد أن طافت طواف الإفاضة فليس عليها طواف الوداع. أسأل الله جل وعلا أن يتم الحج، وأن يجعله حجاً مبروراً. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت.

الرد على منكري أحاديث البخاري

الرد على منكري أحاديث البخاري ابتلي الإسلام بأهل الأهواء الذين يطعنون في الأحاديث التي تخالف أهواءهم، ويشككون الناس في كتب الحديث التي تلقتها الأمة بالقبول، فلا نزال نسمع بين الفينة والأخرى من يطعن في أحاديث في البخاري أو في مسلم بلا حجة ولا برهان، بل بالتحكم والادعاء، وقد تصدى أهل الحديث لهؤلاء المنتحلين الجاهلين المبطلين، وردوا عليهم، ونسفوا شبههم، وبينوا تلبيساتهم، وحذروا الناس منها.

أهمية العلم

أهمية العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإننا نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن يرفع راية هذا الدين، وممن ينصر هذا الدين، وإن كنا في الدنيا غرباء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)، الذين لا يستقيم أمر دنياهم أو دينهم في هذه الدنيا الدانية الدنية القصيرة، أو في الآخرة التي يمتد أمدها إلى مالا يعلمه إلا الله جل في علاه من الخلود الأبدي إلا بالعض بالنواجذ على هذا الدين، والتمسك بالوحيين: الكتاب والسنة، وتعلمها والعمل بما فيها. إن الله جل في علاه شحذ همة نبيه صلى الله عليه وسلم وحثه أن يدعوه بالاستزادة من العلم، لا من أمر الدنيا، حيث قال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وهذه المسألة إجابتها وخيمة، إنها تجعلنا نعتقد أنه لا استقامة لأمر ديننا ولا لدنيانا إلا بالعلم، فما نراه من اعوجاج في تطبيق شريعة الله جل في علاه، أو أي خسارة في أمر من أمور الدنيا أو الدين فسببها الجهل، فسفك الدماء الذي نراه في جميع المواسم قد يسمى جهاداً بسبب الجهل، والتجرؤ على من لا يتجرأ عليه ليس له سبب إلا الجهل، فهم يريدون أن يحسنوا ولا نشكك في النوايا، لكن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما قالوا له: يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا إلا الخير، فقال: وكم من مريد للخير لم يبلغه. فلا بد للإنسان من نور الوحي يستضيء به، ولو أراد أن يبيع نفسه لله جل في علاه فليرفع صوته ويبين للناس أنه مثلاً يريد أن يجاهد في سبيل الله، أو يريد أن ينفق في سبيل الله، أو يتقدم لأي عبادة في سبيل الله جل في علاه، ولكن لا بد من بينة من الكتاب أو من السنة، فلا بد أن يذكر بعضنا بعضاً بأهمية العلم، ثم بعد ذلك نجيب على Q ماذا لو ترأس الجهلاء؟ إن الدنيا الآن أصبحت أبواباً لأناس لم يتعلموا العلم، ولم يبلغوا أن يكونوا أنصافاً من أهل العلم، فلما ترأسوا الناس رأينا التشويش على السنن، والضرب في كبد الحقيقة يزينوها في طرق الناس ويحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعاً، وييسرون على الناس ما هو شاق في نظرهم، وإذا محصت النظر وجدتهم أقل ما يقال فيهم: إنهم جهلاء سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. إن الله جل في علاه أشهد أشرف الخلق على الإطلاق -وهم باقة الله- على أشرف مشهود، ألا وهو: توحيد الله جل في علاه، إذ التوحيد هو أشرف ما في الوجود، قال الله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ)) [آل عمران:18]، فشهد الله والملائكة على توحيده، ومعلوم أن الله جل وعلا إذا استشهد لا يستشهد إلا الأفاضل الأماجد الأكارم، فاستشهد أشرف الخلق، والذين خلقوا من النور، وهم الملائكة، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]، فثنى بأولي العلم تنبيهاًَ على درجتهم، وتشريفاً لمكانتهم وعظم فضلهم، وأيضاً تنبيهاً على أنهم في مكانة أو شرف الملائكة، وبين الله جل في علاه أن أهل العلم هم رءوس الناس، وأرفعهم منزلة عنده، فقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. قال السعدي: هنا يبين الله جل في علاه أن أهل العلم ليسوا بكثرة، بل هم طائفة قليلة فعلى المرء أن يتق الله ربه ويحفظ للعلم مكانته، ويعلم أن لأهل العلم فضلهم وأنهم نور تضاء به الطريق، وأنه بإتباعهم يعبد الله جل في علاه حق عبادته. فالله جل في علاه بين أن هذه الطائفة لا بد أن تجتهد فتحمل عن الأمة فرض الكفاية، وهو علم الوحيين: الكتاب والسنة. وأيضاً: إن الله جل في علاه بين أن أكرم الخلق عليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما قال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، يبين بهذا فضله وعظم مكانته. وبين صلى الله عليه وسلم أن كل عالم لا فرق بينه وبين النبي إلا درجة النبوة، فقال: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا ممن يريد الله به خيراً فيفقه في الدين، فعن معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). فالفقه في الدين أفضل العبادات التي يتقرب بها المرء لله جل في علاه، وقد قال ابن عباس -مبيناً فضل الفقه في الدين- ضمني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). وأيضاً: يقول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله. وإذا كان الأصل في العطف المغايرة فالفرق بين قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين) وبين قوله: (وعلمه التأويل) أن الفقه في الدين هو معرفة المسائل بدليلها، وعلم التأويل هو إسقاط هذا الدليل على الواقعة، وهذا هو دقة الفقه، أو فوق الفقه، ولذلك لما سئل بعض العلماء عند موته: من تخلف لنا من العلماء؟ قال: العلماء كثيرون، ولكن أين العالم الفقيه؟ بمعنى: أين العالم الذي تفقه ثم علم التأويل فأسقط الأدلة على الوقائع، وهذا معنى قول ابن رشد في بداية المجتهد: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ لأن صانع الخفاف أعطاه الله الفقه والتأويل، وبائع الخفاف إما أن يكون مقلداً وإما أن يكون قد تعلم الفقه فقط وفي كلٍ خير. وقد قيل: إن نصف العلم لا أدري، وهذه التي لا يقوى عليها أحد. كان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم من العلماء يقولون: من أدب المعلم أن يعلم التلاميذ أن يقولوا: لا أدري، هذا أصل في التعليم، وأول باب التعليم أن يقول: لا أدري، وهذا ابن عمر عندما يسأله سائل يأخذ على يده ويقبض عليها ثم يقول: لا أدري، فإذا سأله الثانية أخذ على يده ففركها وقال: لا أدري، وفي الثالثة يقول: الحمد لله الذي وفق ابن عمر أن يقول: لا أدري فيما لا يعرف، وهذا هو الحق فطالب العلم إن كان لا يدري فليقل: لا أدري، وإن كان يدري لا بد أن يقول: أدري ويبين. وقد قسم علي وابن مسعود وغيرهم من العلماء الناس إلى أصناف.

فضل العلم

فضل العلم إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جلس بين أصحابه بين لهم الفرق بين العالم الذي تفرغ لطلب العلم وانشغل بالوحيين، والعابد الزاهد الذي طال قيامه، وكثر صومه، وكثرت صدقاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم). وشتان بين القمر وسائر الكواكب، وهذا مما يشحذ الهمم لطلب العلم، فلو غاب أهل العلم فلا بد أن يخرج لنا أناس جهال، فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون، وكما نرى أن الجهاد في سبيل الله والذي هو أشرف ما يكون، ضوابطه الشرعية مغيبة فتسفك دماء بريئة وتكون المفسدة فيه أعظم من المصلحة، وكثير من الجهلة يكفرون الناس البريئة لأنه غاب عنهم أمر العلم. والذي يحج أو يصلي أو يزكي وقد غاب عن العلم فإنه يفسد أكثر مما يصلح. إذا غاب العلماء وانتشر الجهل فإن ذلك دليل على أن القيامة قد قربت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم ويظهر الجهل، وإن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، أو قال: لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). وبعد أن تذهب الدنيا يستحق النار كل من تجبر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة) وذكر منهم قاضياً قضى بغير علم فهو في النار، وإن قضى بالحق وأصاب الحق؛ لأنه أفتى بغير علم وتجرأ على الله جل في علاه، ووقع تحت قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]. ونتائج ذلك كثيرة، منها: أولاً: تضليل الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). ومنها: انتشار الجهل ووضع الشيء في غير موضعه، ففي السفر مثلاً: من السنة أن يؤمر المسافرون أحدهم ليرجع إليه في بعض الأمور، ولكن بعض الذين يترأسون لا يستبصرون بنود الشرع، فيفسدون أكثر مما يصلحون، ويغلبون العاطفة على الحكمة، ويضعون الشيء في غير موضعه؛ بسبب جهلهم، وقد يصاب الناس جميعاً بما لا يحمد عقباه بعد ذلك؛ لأنهم وضع عليهم من لا أهل له في أن يسير الناس على ما يرضي الله جل في علاه. وهكذا فكثيراً من الناس يتأمرون وليسوا أهلاً للإمارة، وقد ورد حديث في مسند أحمد وإن كان فيه ضعف -أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من ارتقى إلى منصب أو مكانة وغيره أولى منه فقد أسخط الله. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتخذ الناس رءوساً جهالاً) يتحقق في الذين يتصدرون ولا يعرفون عن دين الله شيئاً، أو يعرفون عن دين الله أشياء لكنهم تركوا الأصول وهي: الكتاب والسنة.

تجرؤ بعض المتعالمين على الطعن في أحاديث البخاري

تجرؤ بعض المتعالمين على الطعن في أحاديث البخاري وبعض من تصدر لتعليم الناس أمر الدين يتجرأ على أحاديث البخاري ويبتعد عن العلم الذي فيه النجاة من التخبطات إلى الطريق القويم، فيطعن في أحاديث البخاري تصريحاً بعد أن كان تلميحاً. وهو رجل ومعه بعض الناس يقولون: إن أحاديث البخاري ليست صحيحة، ففيها الأحاديث الموضوعة والضعيفة والحسنة والصحيحة، والبخاري جبل الحفظ، وهو رأس السنة، وإمام من أئمة أهل السنة والجماعة فكيف يطعن في حديثه؟! إن أمة لا تعرف قدر رجالاتها خابت وخسرت، وأمة قدرت حق رجالاتها فازت وارتقت وعلت، وهذا الذي حدث في مدة وجيزة من عمر الزمن، فقد امتلكوا الدنيا بأسرها مشارقها ومغاربها؛ لأنها أمة قد عرفت قدر رجالاتها، ثم جاءت أجيال بعد ذلك تطعن في ثوابتنا، وتطرح علية القوم أرضاً، فعلمنا أن الأمة حقاً لن تفيق من هذه الكبوة بحال من الأحوال. لقد طعن هؤلاء في البخاري ثم في مسلم ثم ارتقوا بعد ذلك إلى الطعن في أبي هريرة أروى الناس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ليس بفقيه، ثم بعد ذلك طعنوا في عائشة ولذلك فقد فكرت أن أجتمع بطلبة العلم لأبين لهم فضل العلم، ثم أبين فضل أهل العلم، ثم ماذا لو غاب العلماء وتصدر الذين لا يعلمون عن دين الله شيئاً، ولا يتمسكون بهذه الثوابت؟

صحة حديث إرضاع الكبير والرد على من طعن فيه

صحة حديث إرضاع الكبير والرد على من طعن فيه ومن الأحاديث التي طعنوا فيها حديث رضاع الكبير، فقالوا: إن هذا الحديث موضوع ولو كان في البخاري، فمن البخاري؟ قالوا: والدلالة على الوضع هو المتن، فـ سالم مولى أبي حذيفة يرضع من امرأة تكبر عنه أو تكون موازية له، المهم أنه شاب وهي امرأة كبيرة قد يشتهيها فتكشف له عن ثديها وترضعه منه، فهذا فيه دلالة كبيرة على الوضع، قالوا: لأن أصول الشريعة ترد هذا الكلام لا سيما وأن الشيخ الفلاني -وهو من الشيوخ والأفاضل- قال: بأنه لا بد أن يرضع من ثديها ويلتقمه في فمه. كما استدلوا بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور:30]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب اصرف بصرك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يشج أحدكم بمخيط على رأسه خير له من أن يمس امرأة)، وهنا لن يمس فقط بل سيرضع، وهو أجنبي عنها فكيف يرى عورتها؟ إن التكفيريين أيضاً يردون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نوفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، وهذا الحديث في مسلم فعندما تقول له: هذا رجل دخل بأمان كيف تقتله؟ كيف تتجرأ عليه؟ فيقول: أهل كفر أعملوا في الأرض الفساد، هؤلاء أيضاً من الذين وقفنا لهم وقلنا: سبحان الله لو تعلمتم ما سفكتم من الدماء التي حرمها الله جل في علاه، ولما تجرأتم على ذلك. أيضاً: أخذ الأموال بغير حق، والتهاون فيها، فمن الناس من يبين له أنه إن فعل كذا فعليه دم فيتساهل في ذلك؛ لأنه من السهل عليه أن يفدي، وهذا من الاستخفاف بدين الله جل في علاه، والسبب هو الجهل، فلو تعلموا ما اجترءوا على هذه المسائل، ولرجعوا إلى حضيرة الإيمان، وجعلوا الدين هو الذي يسيرهم وليس الهوى والعاطفة والحماسات والثورات. وأما الذين طعنوا في أحاديث البخاري فعلينا أن ندعو لهم بالهداية، ونحن أصلاً لسنا بصدد العداوة لهم، ونبين أخطاءهم المؤدية إلى الهلاك. فلو تأثر العامة بهذا الكلام، وطرحوا أحاديث في البخاري، وطعنوا في قيم ثابتة من الدين، وطعنوا في رجالاتنا الذين هم قدوتنا، والذي هم أسوة لهذه الأمة بأسرها، فإن ذلك يعني الطعن في الدين. ونحن والله لا نرضى الدنية في ديننا، فلا بد أن ندافع عنه بالدفاع عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وعلينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وحبنا للنبي يجعلنا نقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم فوق رءوسنا، وكلام الناس خلف ظهورنا؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي، فلا بد أن نعتز بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونعتز بثوابتنا وأصولنا، وندعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وليسمع من يسمع، وليعزف من يعزف، فإن الله جل في علاه قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] فما على المسلم إلا أن يبلغ. والبعض ممن ينتمي إلى أهل السنة قال في مسألة رضاع الكبير: يرضع من ثديها، وهذا الذي جعل الحرب الشعواء تشن على أهل السنة حتى من كثير من النصارى، وبعض المؤلفين يقول: إن هذا طعن في الإسلام، كيف يكشف الرجل عن عورة المرأة ثم نقول هذا محرم عليها بعد ذلك؟ لكننا سوف نبين الحقيقة، فمن أخذ بها فله ذلك، ومن لم يأخذ بها فما علينا إلا البلاغ، وهذا الذي نملكه. إن صحيح البخاري قد تلقته الأمة بالقبول، فمن طعن فيه فقد شذ عن الأمة، وشذ عن الإجماع، فالإجماع على أن أصح كتاب بعد كتاب الله هو صحيح البخاري، ومن زعم أنه يحتوي على أحاديث موضوعة أو ضعيفة فقد خالف الإجماع بذلك، وأراد هدم الدين، فأسانيد البخاري كلها سلاسل الذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وديننا دين إسناد ومن طعن في هذه الأسانيد فقط طعن في ديننا، أما رضاع الكبير فإنه يحرم، والرضاع من الثدي مباشرة قال به الشيخ الألباني بصراحة، وهو علامة الشام ولكنه أخطأ في ذلك، ولا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نبين للناس أننا لا نتبع ولا نعظم الأشخاص، وإنما نعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ونعظم الوحيين، فنرد هذا الخطأ بلطف، ونقول: الحق أحب إلينا، والحق إذا جاء من رجل كائن من كان نأخذه على رءوسنا ونتبعه، ومن أخطأ منا ثم ظهر له الحق فليقل بقلب راسخ: لأن أكون ذنباً في الحق خير لي من أن أكون رأساً في الباطل، وهذا هو الإنصاف. إننا ندافع عن البخاري ولا بد أن ندافع عنه، حتى يستطيع طلبة العلم أن يردوا على هذه الشبه، وهذه الشبه ثلاث: شبهة حول رضاع الكبير، وشبهة حول زواج عائشة وهي بنت ست سنوات، وشبهة حول سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك حديث الذباب وشق الصدر وغير ذلك، فالشيخ الألباني ذكر قاعدة قوية وهي: أن الله جل وعلا إذا أباح شيئاً فقد أباح وسيلته -وهذه قاعدة صحيحة- فإذا جعل الشرع رضاع الكبير ليحرم فوسيلته مباحة، فلن يرضع إلا بكشف الثدي، وتقدر هذه القضية بقدرها، فلا يظهر منها إلا الجزء الذي سيلتقمه ويرضع منه، ولا ينظر إلى كل الثدي ولا يمسه كله، وإنما يمس المكان المقصود فلما سمع البعض هذا الكلام تغنوا به وطعنوا به في البخاري، ولو أرادوا الحق ما فعلوا ذلك، ولتأدبوا مع البخاري، وقالوا: هذا الحديث لا تدركه عقولنا، وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم بما قاله، ويكفوا عن ذلك، أو يرجعوا إلى العلماء أدباً؛ حتى يتبين لهم صحة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من الطعن في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة، وتنفير الناس عن البخاري ومسلم، ولكن هذه بغية مقصودة. إن العلم يجعل الناس على الميزان الصحيح، ولما تبين الحق لبعض الذين يطعنون في ديننا رجعوا إلى الحق.

خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير

خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا رضاع للكبير، وأنه لا يحرم، وهذا هو قول الشافعية والمالكية والأحناف، وعلى ما أذكر قول الحنابلة أيضاً، وهو قول جماهير الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ} [البقرة:233]، فالشافعية قالوا: قد أتم الله الرضاعة إلى الحولين، فما بعد التمام من شيء إلا النقصان، فلا يحرم ما فوق الحولين. واستدلوا على ذلك أيضاً: بقول الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا في الحولين)، وهذا تصريح أنه لا رضاع محرم إلا في الحولين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يبين لما سألوه عن الرضاع: (ما أنبت اللحم وأنشز العظم)، أي: تغذت به المعدة وشبع به الطفل، ولا يشبع الطفل من اللبن إلا في غضون الحولين، وبعد الحولين لا يشبعه لبن المرأة، فكل هذه دلالات باهرات تثبت أن رضاع الكبير لا يحرم. وقالوا: إن رضاع سالم مولى أبي حذيفة حالة خاصة بـ سالم، خصص بها العموم، ويرجع العموم على ما هو عليه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم خصصه لأن سالماً كان مولى لـ أبي حذيفة، وكان الرجل يدخل دائماً على امرأته، فلما نزل الحجاب قالت: شق علينا أن يدخل ويرانا بهذه الطريقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه يحرم عليك)، فكانت هذه حالة خاصة بها وبـ سالم وبـ أبي حذيفة، فقالوا: هذه دلالة على الخصوصية، وليس هذا من جهة أنفسنا، وهو من كلام أم سلمة وزينب وغيرهن من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهن أنكرن على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث صريح صحيح أن أم سلمة دخلت على عائشة رضي الله عنها وأرضاها تنكر عليها، وتقول: يا عائشة! يدخل عليك الشاب الأيفع، ولا نرضى أن يدخل علينا، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لـ سالم مولى أبي حذيفة أن يفعل كذا وكذا -وروت لها الحديث- فأرضعيه يحرم عليك. فكانت رضي الله عنها وأرضاها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الأجانب الكبار تجعل أختها أو أحد أقاربها يرضعه، فتكون له خالة، فيحرم عليها، ويدخل عليها رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك مذهباً ومنهجاً لـ عائشة وحدها رضي الله عنها وأرضاها. هذا هو ما أجاب به الجمهور على من قال بأن رضاع الكبير يحرم. القول الثاني: هو على العموم، فرضاع الكبير مباح، وهذا على ما أذكر قول ابن حزم إذا لم أكن واهماً، وهو قول طائفة من أهل العلم، بأن رضاع الكبير يحرم في كل الأحوال، فلو أراد الإنسان أن يدخل على امرأة، ويريد أن يكون محرماً لها، فتسافر به ويدخل عليها فليرضع منها، أو من أختها، وهذا القول من أضعف الأقوال، وهو أوهن من بيت العنكبوت. القول الثالث: وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين أنه قول عطاء والليث بن سعد، وهو الفقيه المصري المحدث الذي قال فيه الشافعي: الليث أفقه من مالك لولا أن قومه لم يحملوه. فشيخ الإسلام ابن تيمية بعدما ذكر قول عائشة والليث بن سعد وعطاء توسط بين قول جماهير العلماء وبين قول عائشة، وقال: أقول: هي واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، فشيخ الإسلام ابن تيمية نظر إلى قول عائشة فوجدها أباحته مطلقاً، وكذلك عطاء والليث ونظر إلى قول الجماهير وأم سلمة وزينب والأئمة الأربعة الذين حرموا رضاع الكبير، وقالوا: إنه خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة. ومعنى قول ابن تيمية: إنها واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها: أنه من كان حاله كحال سالم أخذ حكم سالم، فإذا تربى ولد يتيم بين رجل وامرأة، ثم كبر سنه فخشي الرجل أن يرى امرأته، فإنه يجوز له الرضاع حتى يكون محرماً لهؤلاء النسوة. وهذا هو القول الوسط، وهو الذي أميل إليه، فرضاع الكبير قضية خاصة بـ سالم، ولا تجوز مطلقاً، بل هي واقعة عين يقاس عليها مثلها، وأصول الشريعة توافقه؛ لأن المشقة تجلب التيسير، والحرج مرفوع عن الأمة، فهذا قول قوي، وهو الراجح في هذه المسألة.

كيفية رضاع الكبير من ثدي المرأة

كيفية رضاع الكبير من ثدي المرأة سبب الطعن في حديث البخاري هو: أن الذي أباح رضاع الكبير أجاز أن يمص الثدي وأن يرضع منه مباشرة. والجواب على هذا الطعن هو أن الراجح أنها واقعة عين يقاس عليها مثلها، ولكن ليس معنى ذلك أن الرضاع يجوز من ثدي المرأة مباشرة، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، لكنهم قالوا: إن ظاهر الأدلة أنه رضع من ثديها، قالت: (يا رسول الله! إنه لكبير! قال: قد علمت أنه رجل كبير) وقد جاء في بعض الروايات: أنها عصرت ثديها في قارورة وشربها. فلما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دل على أنه يجوز أن يمص ثديها. وقد يؤيد البعض ذلك بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وهذا خطأ فيحتمل أنه صافحهن بمجرد القول باللسان، وقال: قد بايعت. يعني: أعلم أنه كبير فتذهب نحوه ويلتقم ثديها ويشرب؛ لأن هذا مرخص لك، والذي استنبطه الشيخ الألباني رحمه الله من هذا الحديث هو: أنه يلتقم ثديها ويشرب، وقال: أباح المقصد فأباح الوسيلة له، وهذا تأويل جيد، والقاعدة التي أتى بها الشيخ صحيحة نوافقه عليها، لكن هذا الحديث مجمل، والمجمل يحال على المفسر، والأصل الشرعي: أن النظر إلى عورات النساء حرام، ومن قال بغير ذلك فليأتنا بالدليل غير المحتمل الوسيلة، فنقول: والوسائل تنقسم إلى: وسيلة محرمة، ووسيلة جائزة، ووسيلة مرسلة، فالوسيلة المحرمة: هي التي جاء النص القطعي بتحريمها، ومن ذلك التقام ثدي المرأة والنظر إليه، فهذه وسيلة محرمة، وقد جاء الشرع بتحريمها، يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أصافح النساء) فهذه دلالة شرعية على أن هذه الوسيلة محرمة، والوسيلة المحرمة لا بد من اجتنابها. أما الوسيلة المرسلة فهي التي لم يأت الشرع بتحريمها أو تحليلها، وهذه تستخدم عند فقد الوسيلة. والحلال هو ما جاء الشرع بتجويزه، وهو أن يشرب فيطبق الحديث ولكن دون أن يلتقم ثدي المرأة، ودون أن ينظر إلى العورة، فليس المقصود أن يمص الفم الثدي حتى يصبح حراماً عليها، فالمؤثر في التحريم هو الحليب، وليس مص الثدي ولا النظر إليه، فإن كانت هذه ليست علة مؤثرة والعلة المؤثرة هي وصول الحليب إلى المعدة فيمكن أن يصل الحليب إلى المعدة بأي إناء بعد أن يعصر الثدي وينزل الحليب في مكان معين ثم يشرب، فإذا وصل اللبن إلى المعدة أصبح محرماً. فنحن وإن قلنا برضاع الكبير ولكن لم نقل بأن ينظر إلى ثديها، أو يمصه؛ لأن هذا محرم في ديننا. ونكون قد خرجنا مما قالوا كالشعرة من العجين، وقلنا بقول أهل العلم المحققين الذين قالوا بأن هذه واقعة عين لا يقاس عليها إلا مثلها، فنحن نقول بالرضاع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة مس المرأة والنظر إليها. ولا يجوز للابن أن ينظر إلى ثدي أمه أو ذراعيها أو ساقيها أو الفخذ أو الوريد، فكيف برجل أجنبي؟ فالشريعة تأبى مثل هذا الأمر. فهذا هو الرد عليهم في هذه القضية.

صحة حديث أن النبي عليه السلام تزوج عائشة وهي بنت ست سنين والرد على من طعن فيه

صحة حديث أن النبي عليه السلام تزوج عائشة وهي بنت ست سنين والرد على من طعن فيه وتكلموا كذلك على الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وأرضاها وعمرها ست سنين، فيقول قائلهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رحيم رءوف بالأمة فكيف يتزوج هذه الصغيرة، ويدخل بها وعمرها تسع سنين؟ فإن قيل له: إن البخاري هو الذي روى هذا الحديث، قال: حتى ولو كان البخاري، فيلقي البخاري خلف ظهره ويقدم العقل ولا يقبل هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتزوج امرأة عمرها تسع سنين، بل تزوجها وعمرها ثمانية عشر سنة. ولا ندري من أين أتى بهذا الكلام؟ إن هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بالنساء، فلا يمكن أن يتزوج بنتاً وعمرها تسع سنين، ويقولون: إن الواقع يشهد لذلك، فلو أن أحداً تقدم لخطبة ابنتك وعمرها ست سنين لأنكرت عليه ذلك، فمثل هذا الحديث -كما يقولون- ليس بالصحيح، بل هو من الموضوعات. والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر:7]، فإذا جاء عن النبي أمر من الأمور فعلينا السمع والطاعة، ورسول الله قائدنا وقدوتنا، وقد جاء عنه أنه تزوجها وعمرها ست سنين كما في صحيح البخاري، فإن لم يصدقوا بحديث البخاري قلنا لهم: بيننا وبينكم سلسلة الإسناد، هذا إن كنتم تعلمون ونحن على يقين أنكم لا تعلمون معنى الإسناد، ولا تعرفون كيف تبحثون عن الإسناد، فإن كنتم تعلمون فتعالوا بيننا وبينكم الإسناد المتصل إلى رسول الله صلى، فقد ثبت ذلك بالسند الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما أنتم فإنكم جهال تهرفون بما لا تعرفون، وليس عندكم إلا التشويش النظري.

بالعلم ترد البدع والشبهات

بالعلم ترد البدع والشبهات إن النجاة لن تكون إلا بالعلم، والاحتفاظ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بالبصيرة ولن يعبد الله حق العبادة إلا بالتعلم، فعلى المرء ألا يبخل على نفسه بطلب العلم، وألا يضيع مجالس العلم، لا سيما إذا كان أهل العلم الذين يتعلم على أيديهم قد أخذوا العلم عن العلماء وليس عن الصحفيين، فلو أخذ الإنسان العلم من صحفي فلن يرى خيراً. وقد وضع العلماء ضوابط لمن يؤخذ منه العلم فقالوا: لا بد أن يؤخذ العلم ممن لا يتبع هواه، وإذا روجع في خطأ رجع عنه، كما قال ابن المبارك: إذا رأيت الرجل يخطئ في الحديث ثم إذا روجع رجع فخذ منه الحديث، فإذا ثبت على ما هو عليه فهو متبع لهواه، وعنده من الكبر ما عنده، فلا يؤخذ منه الحديث. فلا بد من طلب العلم ونشره بين الناس، يقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. وكما أن العلم يحيي القلوب والأبدان، فغياب العلم أو انتشار الجهل يقتل المرء، فكما يقتل القلب فإنه يقتل البدن. أما أنه يقتل القلب فهذه معلومة؛ لأن ظلمة الجهل في القلب تجعله يموت ولا يحيى بذكر الله جل في علاه، ولا يتدبر أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ولا يتفكر في عظم قدرة الله جل في علاه، وأما أنه يقتل البدن فهناك دلالات كثيرة على ذلك، منها: أولاً: أن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وذهب فاستفتى الراهب، وهذا الراهب كان عابداً زاهداً لكنه لم يكن ذا علم، فأفتاه بفتوى خاطئة لما قال له: إن الله لن يتوب عليك وقد قتلت تسعة وتسعين نفساً، فقتله فأكمل به المائة، أرأيتم الجهل كيف وصل إلى قتل صاحبه بجهله؟!

قصة برصيص العابد

قصة برصيص العابد وبرصيص العابد قتله جهله، مع أنه كان يعبد الله جل وعلا ليل نهار، ولا يفتر لسانه أبداً عن الذكر، وتتفطر قدماه وهو قائم لله جل في علاه، فهو يصوم النهار، ويقوم الليل، ويتصدق بما معه من المال، ومع ذلك قتله جهله، قتل بنتاً بعد أن زنى بها ثم قتل، وسبب ذلك: أنه جاءه بعض أهل المدينة وقالوا: هذه أختنا أمانة عندك حتى نسافر ونرجع، فجعلها في مكان أسفل منه، وهو فوقها، فينزل لها بالطعام والشراب، وهي تخرج لتأخذه، فجاءه الشيطان وقال له: لا تتركها هكذا، تطعمها وتسقيها ولا ترى أحداً، والشيطان ثقيل في الشر، ولا يقوى إلا على الجهلاء، قال ابن عباس: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. فقال له: انزل فضع الطعام على باب الغرفة ولا تدخل الغرفة، ثم جاءه مرة أخرى فقال له: لم لا تسأل عنها، وتسمع أخبارها، وتسألها هل تصلي أم لا؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ انظروا كيف يستدرجه الشيطان بسبب جهله، فيدق الباب فيسمع صوتها فيسألها ثم ينصرف إلى مكانه يتعبد لله جل في علاه، فيأتيه الشيطان فيقول: لو رأيتها هل هي تأكل أم لا تأكل؟ وهل تتعبد أم لا تتعبد؟ ففتح الباب فنظر إليها، ثم رجع ثم استدرجه الشيطان أن يجلس معها ويعلمها، فلما جالسها مرة ومرتين دخل الشيطان بينهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا وثالثهما الشيطان)، فزنى بها وهو متعبد، وهو زاهد، وهو يسجد لله، وهو يقيم الليل، وهو يصوم النهار! ولما جامعها أصبحت حبلى بالزنا، فجاء الشيطان يقول: هي حبلى من الزنا، ولو علم الناس لقتلوك، كيف والناس يقدمونك؟ كيف والناس يعظمونك؟ أنت الزاهد! أنت العابد! أنت برصيص، فقتلها، فلما قتلها جاءه الشيطان فقال: إخوتها سيسألون عنها، فلا بد أن تدفنها في مكان بعيد، فأخذها فبقر بطنها ودفنها هي وطفلها في مكان بعيد، فجاء إخوتها يسألون عنها، فقال: أختكم قد ماتت، فصدقوه لأنه عابد زاهد، لكنه جاهل قتله جهله. فجاء الشيطان الذي استدرجه بجهله وجعله يقتلها إلى إخوتها فأرى كل واحد من الإخوة الثلاثة رؤيا ما فعل الرجل بأختهم، وأنه قتلها في المكان الفلاني، فاستيقظوا جميعاً في الصباح، وكل منهم يقول: رأيت رؤيا كذا، فاتفقت الرؤيا على أن البنت مقتولة في مكان كذا، فذهبوا إليه فأخرجوا البنت مع الجنين الذي كانت حبلى به، فذهبوا إليه فصلبوه، وأرادوا قتله فأمهلوه، فلما أمهلوه جاءه الشيطان وقال: أنا الذي فعلت بك هكذا، أنا الذي أتيت بهذه المرأة، وأنا الذي استدرجتك لتزني بها فزنيت بها، وأنا الذي جعلت عندك العزيمة لقتلها ودفنها، وأنا الذي جعلتهم يفعلون بك هكذا، ولو سجدت لي لأنقذتك منهم، فسجد له فكفر بذلك وقتلوه، فمات كافراً، ولو مات على هذه المعصية لكان رجمه كفارة له، وهي كبيرة بين حسناته الكثيرة، ويوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، لكن أبى الشيطان إلا أن يكفره؛ لأنه وراءه بالمرصاد، وأبى الله جل وعلا أن يوفق مثل هذا الذي كان يتعبد لله بجهل ولا يتعلم، وكانت هذه النهاية الوخيمة والعياذ بالله.

قصة الذي أصيب بشجة فاغتسل من الجنابة فمات

قصة الذي أصيب بشجة فاغتسل من الجنابة فمات وفي حديث الرجل الذي أصابته شجة في سفره ثم نام فأجنب، وهذه الشجة لو وصل الماء إليها يموت، فاستفتى الصحابة الذين كانوا معه، فقالوا: لا نجد لك رخصة وأنت تجد الماء، وقد قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43]، وما علموا أن الماء قد لا يوجد حكماً أو حقيقة، بأن ينعدم حقيقة، وحكماً: بأن يكون موجوداً لكن لا يستطيع أن يستعمله، فاغتسل الرجل فدخل الماء إلى الشجة فمات، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله! إنما شفاء العي السؤال)، فالجهل شفاؤه السؤال، وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء، والراجح أنه حسن لكثرة طرقه.

آثار الجهل بمناسك الحج

آثار الجهل بمناسك الحج وما أكثر الجهل خاصة في الحج، فبعض الحجاج يقفون في عرفة يوم السابع! وبعضهم يترك المبيت بمزدلفة وهو ليس من الضعفة، وإن كان مذهب المالكية أنه يكفي مبيت جزء من الليل؛ لأن النبي رخص للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة ليلاً، وأطلق ولم يحدها بنصف الليل أو بغروب القمر، لكن جاء في الحديث الصحيح أن أسماء كانت تدفع من مزدلفة بعد غياب القمر، فقال بذلك الفقهاء، لكن بعض الناس ليس من الضعفة وينصرف من مزدلفة بلا عذر، وهذا من الجهل. وبعضهم يتجرأ على محظورات الإحرام ويقول: عليك شيء يسير، وهو دم تشتريه بثلاثمائة ريال! وهذا تجرؤ على حدود الله، والواجب على الحاج أن يسأل من يثق بعلمه، فإن أفتاه بشيء عمل به، حتى لو أفتاه بالرمي قبل الزوال، فلا نقول ببطلان رميه، وأن عليه دماً، فالقاعدة عند العلماء أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وكذلك أفتاه بجواز الرمي في اليوم الثاني عشر بعد المغرب ثم ينصرف إلى مكة فلا حرج عليه، والعلماء قالوا: إذا غابت عليه الشمس لزمه المبيت، وليس عليه دليل قاطع، فلا ينكر على من أخذ بأقوال العلماء المجتهدين، لكن يناصح ويبين له القول الراجح بلا إنكار. نسأل الله جل وعلا أن يصلح عبادتنا، وأن يعلمنا علم الكتاب والسنة على فهم أئمتنا أصحاب المذاهب الأربعة الشافعي أو المالكي أو الحنفي أو الحنبلي، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

§1/1