دروس الشيخ محمد الدويش

محمد الدويش

على مقاعد الدراسة

على مقاعد الدراسة طلاب المدارس اليوم هم أساتذة الغد وقادة البلاد في المستقبل، وما يرسم اليوم في أذهانهم من الاهتمامات والأولويات هو الذي يصوغ شخصياتهم ويؤثر على مواقفهم في الغد، ولهذا يجب أن نهتم بتربيتهم وتوجيه سلوكهم فيما يخدم دينهم وأمتهم.

دعوة للمشاركة

دعوة للمشاركة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أرحب بالإخوة الحضور، وأشكر لهم حضورهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا لقاء خير وبركة. وهذا اللقاء بمشيئة الله سيكون بداية سلسلة دروس شهرية، وستكون هذه الدروس بمشيئة الله في هذا المسجد أول أحد من كل شهر، سواء كان يوافق أول يوم من الشهر، أو سابع يوم من الشهر، المهم أن أول يوم أحد من هذا الشهر سيكون بمشيئة الله مثل هذا الدرس في هذا المسجد وكان المفترض أن يكون هذا الدرس في الأسبوع الماضي، لكن نظراً لأنه حديث عهد ببداية الدراسة أحببنا أن نؤخره إلى هذا الأسبوع على أمل أن نستمر إن شاء الله، وسنحاول قدر الإمكان أن يكون موضوع هذه الدروس وما يطرح فيها حول قضايا الشباب، وما يحتاجون إليه بصفة أو بأخرى. ومن هنا أدعو الإخوة الحضور وغيرهم إلى أن يشاركوا في إفادتنا في مثل هذا اللقاء، فيجب أن نشعر جميعاً بالإيجابية، فأنا أطلب أن يشاركوا جميعاً في اقتراح بعض الموضوعات التي يرونها مناسبة لأن تطرح في هذا اللقاء، مع مراعاة الإطار العام في طرح بعض الأفكار، وبعض العناصر، وبعض المقترحات، والإمداد ببعض المعلومات؛ لأنه مهما بلغ المتحدث علماً وقدرة وإحاطة، فلن يستغني عن إعانة إخوانه، فكيف إذا كان دون ذلك بكثير. لذا فأنا أؤكد على الإخوة أن يحرصوا على أن يعينونا على استمرار هذا اللقاء، سواء بالإمداد ببعض المقترحات، وبعض الموضوعات، أو بعض الأفكار وبعض العناصر. ثم لا يتردد الأخ عندما يقترح علينا موضوعاً فلا يراه طرق، فهذا لا يعني إهمال هذا الموضوع، فقد يكون قبله موضوعات عدة، ونختلف معه في ترتيب الأولويات، المهم على كل حال أن ما تطرحه سيستفاد منه بشكل أو بآخر. هذا الموضوع هو (على مقاعد الدراسة)، ونحن نعني بهذا الموضوع فئة خاصة، فالموضوع يتعلق بالدراسة، فنحن نخاطب الدارسين، سواء كانوا في مستويات متوسطة أو ثانوية أو مراحل جامعية، المهم أننا نخاطب الدارسين من الشباب، ولا نخاطب كل الدارسين، إنما نخاطب الشباب الأخيار الذين يحضرون أمثال هذه اللقاءات والمحاضرات. لذا فقد لا أتحدث مثلاً عن بعض الجوانب السلبية التي تقع من بعض الشباب؛ لأنني أخص بحديثي فئة خاصة من الشباب، وفئة خاصة من الدارسين والطلاب، الذين نأمل أن يؤدوا أدواراً محمودة. وكذلك هذا اللقاء أيضاً قد يعني الأساتذة، فإثارة مثل هذه الأفكار وسيلة لنقلها وطرحها أمام أبنائهم الطلاب، وحتى يساهموا معنا في تقييم مثل هذه المقترحات والتجارب. وسأتحدث في خمس نقاط رئيسة: الأمر الأول: أهمية الدراسة بالنسبة للشاب. الأمر الثاني: الطالب وأستاذه. الأمر الثالث: الطالب والدراسة. الأمر الرابع: الطالب والدعوة. الأمر الخامس: أمور لابد منها.

أهمية الدراسة للشباب

أهمية الدراسة للشباب أما بالنسبة للدراسة وأهميتها بالنسبة للشاب، فهي تأخذ على الشاب حيزاً كبيراً من وقته، فهو يأخذ في اليوم قريباً من ست ساعات كلها داخل المدرسة، وهي تمثل ربع اليوم، وإذا حذفت منه مثلاً ثمان ساعات للنوم، وبعض ساعات الراحة والطعام لا تجد بعد ذلك إلا وقتاً يسيراً. المهم أن وقت الدراسة يأخذ على الشاب جزءاً أساسياً من يومه، وجزءاً كبيراً جداً من وقته، وهذا يعني أنه لابد من أن يعتني بهذا الوقت، ولابد أن يستفيد من هذه الدراسة، ويعتني بحاله في المدرسة. أيضاً: الدراسة تأخذ على الشاب وقتاً طويلاً من عمره، فإذا أنهى المرحلة الجامعية دون تخلف فالغالب أنه سيحتاج إلى ست عشرة سنة حتى ينهي هذه الدراسة. ثم أيضاً هذه الدراسة تأتي في وقت مهم جداً بالنسبة للشاب، وهو وقت زهرة وحيوية الشاب، وكذلك وقت بناء شخصيته. إذاً: هذه الدراسة تأخذ عليك وقتاً كبيراً، سواء من يومك أو من سني عمرك، وتأخذ عليك وقتاً غالياً نفيساً هو حيوية الشباب، فلابد أن تعتني بها، وتستفيد منها.

علاقة الطالب بأستاذه

علاقة الطالب بأستاذه بعد ذلك ننتقل إلى نقطة ثانية وهي: تتعلق بعلاقة الطالب بأستاذه: ولن أطيل في هذه النقاط؛ حتى آتي إلى النقطة الأساسية، وهي ما يتعلق بدور الطالب في الدعوة داخل مدرسته.

مراعاة هدي السلف في التعامل مع الأستاذ

مراعاة هدي السلف في التعامل مع الأستاذ هناك قضايا مهمة لابد من أن يعتني بها الطالب في التعامل مع أستاذه، فالأستاذ يشكل عنصراً أساسياً يتعامل معه الطالب في المدرسة، ومن هنا كان لابد أن يكون هناك ضوابط معينة تحكم علاقة الطالب بأستاذه، والسلف قد عنوا بذلك كثيراً في كتبهم، سواء من كتب في فضل العلم، أو من صنف كتاباً عاماً، بل بعضهم أفرد هذا الباب بتصنيف خاص، ألا وهو ما يعرف عندهم بآداب العالم والمتعلم، وعندما يتحدثون عن آداب المتعلم، فإنهم يفردون جزءاً خاصاً لآداب المتعلم مع شيخه وأستاذه. والمفترض أن الشباب والطلاب يعتنون بهذا الأمر، فيقرءون ما سطره السلف حول ما ينبغي أن يتأدب به الطالب مع شيخه، ويحرص قدر الإمكان على أن يتخلق ويتأدب بتلك الآداب، وفي الواقع أننا عندما نقرأ ما سطره السلف حول آداب الطالب مع شيخه وأستاذه، ثم ننظر إلى واقع طلاب العلم نجد أن هناك مسافة شاسعة جداً بين الحالة التي يرى السلف أن الطالب ينبغي أن يصل إليها من الأدب مع أستاذه، وبين الواقع المعاصر الآن لهؤلاء الشباب. وقد يقول بعض الشباب: إن السلف كانوا يدرسون على علماء، ولا يمكن أن تقارن أساتذة السلف ومشايخ هم بأساتذتنا ومشايخنا، وهذا حق ولا شك، لكن المقارنة تعقد بين الطلاب أيضاً، فقد كان الطلاب في عهد السلف فئة تختلف عن الطلاب في هذا العصر. قد يقول بعض الشباب: إن هذه الآداب إنما ذكرت لعلماء السلف ومشايخ السلف، وقد كانوا يختلفون كلية عن أساتذتنا، وهذه قضية لا نجادل فيها، لكن أيضاً أعقد نفس المقارنة بين الطلاب وواقع الطلاب وحالهم في عصر السلف وحالهم الآن، تجد أن القضية تكاد تكون بعد ذلك متقاربة. ونحن أيضاً لا نطالب الشباب بأن يطبقوا كل ما يقرءونه هناك؛ لأنه قد يجد أشياء يفاجأ بها نظراً لبعده عنها، فيتصور أنها من المبالغات، لكن على الأقل أنت عندما تقرأ ما سطره السلف في ذلك، وتقارن حالك بالصفات التي كانوا يرون أن الطالب لابد أن يتحلى بها، أظن أن هذا يدعوك إلى أن تنتقل نقلة أخرى بعيده في حسن التعامل والتوقير لأستاذك. والسلف ما عنوا ببيان آداب المتعلم مع أستاذه إلا أن له أهمية، وللأسف نجد أن هذا مهمل، فنجد أحياناً أشياء عامة لابد للطالب أن يتأدب بها مع أستاذه وشيخه، ولابد أن يتأدب بها مع العلماء إذا كان يحضر معهم حلق العلم في المساجد وغيرها، وهي أشياء عامة وأمور عامة. لكن أن تؤصل وتعرض النماذج والأمثلة التي ذكرها السلف، فهذا لا شك يساعد أكثر، ولا أريد أن أطيل في هذه النقطة، لكن بإمكانكم الرجوع إلى ما سطر في ذلك، ولعل أفضل ما سطر في ذلك كتاب الحافظ ابن جماعة، وهو بعنوان: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ذكر في هذا الكتاب أدب العالم وأدب الأستاذ، وما ينبغي للأستاذ أن يعامل به طلابه، فعليك أنت بالشق الثاني وهو أدب المتعلم، فإنه ذكر أدب المتعلم مع نفسه، ثم أدب المتعلم مع أقرانه، وأخيراً الذي يعنينا، وهو أدب المتعلم مع شيخه وأستاذه. إذاً: الجانب الأول الذي ينبغي أن يحرص عليه الشاب هو أن يراعي في هذا الأمر هدي السلف في التعامل مع أساتذتهم ومشايخهم. وقد يكون عند بعض الأساتذة نوع من القصور في العلم بطبيعة المادة التي يدرسها، وهذه حالات خاصة، وأحياناً يكون عند الأستاذ مخالفات شرعية مما ابتلي به عامة المسلمين وانتشر بينهم، وأصبح أمراً لا يكاد ينكر، فنحن لا نشك ولا نجادل أن الأستاذ أولى الناس بأن يكون قدوة صالحة للطلاب، سواء في التزامه بالأحكام الشرعية في الأمور الظاهرة أمام طلابه، أو في تعامله مع طلابه، فهو يدعوهم إلى حسن الخلق ولابد أن يكون حسن الخلق، ويدعوهم إلى الصبر ولابد أن يكون صبوراً، وإلى الحلم ولابد أن يكون حليماً. لكن أقول: عندما تجد بعض هذه السلبيات والأخطاء التي يقع فيها بعض الأساتذة، فهذا لا يسقط حق الأستاذ في الأدب، والتعامل معه بالتوقير، وحسن المعاملة. فإن هذا الأستاذ الذي قد يكون عنده بعض المخالفات لا ينظر إليك على أنك شاب ملتزم ومستقيم، وهو منحرف عاصٍ ضال، وأنت أولى منه وأفضل، إنما ينظر إليك على أنك لا زلت طالباً، ولا زلت صغير السن، ومهما كان عندك من الاستقامة والعلم والخير فأنت لا زلت دونه، وهذا في الجملة واقع، ثم هو ينظر إلى نفسه على أنه إنسان لا ينقصه الخير والصلاح، لكن عنده بعض المخالفات التي يرى أنه يقع فيها لسبب أو لآخر، فهو يعاملك بهذا المنطق. ومن هنا يفترض أن تكون حسن الخلق، وأن تكون حسن المعاملة، وأن يرى منك الأدب الحسن، لذا أقول: حتى ولو كان عند الأستاذ ما عنده من التقصير، أو المخالفات التي أصبحت ظاهرة عامة في المجتمع، فهذا لا يسقط حقه في التعامل معه بتوقير واحترام وتقدير، على أساس أنه أستاذ لك، وهو على كل حال أقدر منك علماً وتجربة، ولابد أن تستفيد منه. ونحن لم نقل لك: اتبعه في كل شيء، أو اقتد به في كل شيء، بل عندما يكون عنده مخالفات لا نطالبك بأن تقتدي بها، وليس أحد معصوماً تصدر الأمة عن رأيه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أع

حفظ العرض

حفظ العرض الجانب الثاني الذي يتعلق بالأستاذ والحق عليه: حفظ العرض: كثيراً ما يدور في مجالس الطلاب الحديث عن الأستاذ، إما سخرية بطريقته في الحديث، وفي إيصال المعلومات، وفي التعامل مع الطلاب، فأنت تجد الطلاب يحترفون في هذه الأمور، فأحدهم مثلاً يقلد صوت الأستاذ، والآخر يقلد حركات الأستاذ، ويقلد مواقف الأستاذ، وهكذا تجد الأستاذ يبقى مجالاً للسخرية، وهذه قضية أظن أنكم توافقونني على أنها تحمل قدراً من البشاعة، فأنا على كل حال لا أقول هذا الكلام باعتبار أني أستاذ، لكن أظن أنكم توافقوني جميعاً على هذا الأمر. وهذه قضية فيها من سوء الأدب إلى آخر حد، فالمسلم منهي عن السخرية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أربى الربا استطالة المسلم في عرض أخيه). فهذه حقيقة السخرية، وهذه حقيقة الغيبة، وهي أن تقع في أي إنسان، فما بالك بالطالب الذي يسخر من أستاذه وشيخه الذي يتعلم منه العلم والأدب والخلق، أو يغتابه، فهذه قضية تزيد سوءاً، ولا شك أنه يوجد فرق بين أن تقع الغيبة لإنسان عادي، وأن تقع لإنسان صالح، وأن تقع لإنسان له حق عليك. فأعطيك مثالاً يقرب لك الصورة: السخرية من الناس أمر مذموم، سواء من هو أكبر منك ومن هو أصغر منك، فعندما تسخر من إنسان فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، لكن عندما تسخر من إنسان أكبر منك تزيد القضية سوءاً، وعندما تسخر من إنسان قريب لك كعمك أو خالك تكون القضية أسوأ، وعندما تسخر من والدك فذلك أشد، فالذنب يختلف عظمه وقبحه عند الناس، والدين إنما جاء بما يوافق الفطرة السليمة والمستقيمة. فأقول: من المستهجن أن يسخر الطالب من أستاذه، أو يقع في عرض أستاذه. الشباب الأخيار عادة لا يتصور منهم هذا الشيء، وإن حصل فهي حالات شاذة ونادرة، لكن القضية التي أتصور أنها من حق الأستاذ عليك أن تحفظ عرضه، فعندما يسخر من الأستاذ أو يغتاب تدافع عن عرضه بأسلوب مناسب وحكمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة)، هذا إذا كان عرض أخيك، فعرض أستاذك وشيخك الذي له حق عليك أولى. ثم أحذر من قضية يسلكها بعض الشباب بحسن نية، فهو يحب الأستاذ إلى آخر حد من المحبة والإعجاب والتقدير لسبب أو لآخر، وعندما يسمع طالباً يسخر منه أو يغتابه يأتي ويبلغ هذا الأستاذ من باب المحبة، وهذا لا يجوز إطلاقاً، لأنك الآن تقع في معصية أخرى وهي النميمة. فلا تبلغ الأستاذ مهما كان، وافترض أنك نهيت أخاك وما انتهى، فلا يوجد داعي لنقل الكلام الذي لا مصلحة فيه، بل واجبك أن تنهى من يغتاب أو من يسخر، وإذا لم يستجب فأمره إلى الله.

التعامل مع الأستاذ حين يقع في الخطأ

التعامل مع الأستاذ حين يقع في الخطأ الجانب الثالث: وهو التعامل مع الأستاذ حين يقع في الخطأ: فالأستاذ بشر وليس بمعصوم، ويمكن أن يقع في الخطأ، فمثلاً: قد يتحدث الأستاذ فيستدل بحديث ضعيف، هذه حالة تحصل كثيراً، بل أحياناً يتحدث أحد العلماء ويستدل بحديث ضعيف، وأنت تعرف أن هذا الحديث ضعيف، فلا يعني ذلك أنك أعلم منه، ولا أكثر إحاطة منه، فإن الهدهد قال لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، فهل يعني هذا أن الهدهد كان أعلم من سليمان؟! أو مثلاً: قد يورد الأستاذ كلاماً وعندك فيه اطلاع أكثر، باعتبار أنك سمعته من شخص آخر أو قرأته، فيخطئ الأستاذ. أحياناً بعض الطلبة يفرح بمثل هذه القضية، ويقفز مباشرة في وجه أستاذه ليقول له: إن هذا الحديث ضعيف، أو هذا الكلام فيه كذا وكذا، وسمعت كذا وكذا، ويبدأ يواجه بهذا الأسلوب، وهذا فيه شهوة خفية، وهي شهوة حب الظهور، لأنه عندما يواجه الأستاذ، وعندما يعلم شيئاً لا يعلمه أستاذه يعطيه نوعاً من الثقة بنفسه، ونوعاً من الظهور عند الآخرين، وأنت قد لا تشعر بهذا، لكن هذا من الشهوات الخفية. فيجب أن تسلك الحكمة في تصحيح مثل هذا الخطأ بأسلوب مناسب، لأن الأستاذ يتكلم مع الطلاب، فيصعب جداً أن يعترف بالخطأ أمام الطلاب؛ لأن هذه منزلة لا يستطيع كل إنسان أن يجاهد نفسه عليها، ولذلك ينبغي أن تسلك الحكمة، فيمكن أن تسأل الأستاذ خارج الفصل فتقول: سمعت كذا وكذا، وقرأت كذا وكذا، أو تأتي بكتاب معك في الغد مثلاً، وتعطيه الأستاذ وتقول: أنا قرأت هذا الكلام في كتاب، وأنت قلت هذا الكلام، فكيف أوفق بين كلامك وكلامه. وقد يفهم الطالب فهماً خاطئاً، فيسمع فتوى، أو يقرأ كلاماً، فيفهمه فهماً خاطئاً، ويكون كلام الأستاذ صحيحاً، ثم يأتي الطالب ليواجهه بناء على فهم خاطئ. فعلى كل حال الأستاذ يمكن أن يقع في الخطأ، ويمكن أن تعلم أشياء لا يعلمها أستاذك، ولا يعني هذا أنك بلغت غاية من العلم، فعندما تحصل مثل هذه الأمور فعليك أن تسلك الحكمة في التعامل معها، وأظن أن من أبسط حقوق الأستاذ عليك التأدب في مثل هذه القضايا. كذلك قد يقع الأستاذ في مخالفة شرعية، فالإنكار عليه ليس مثل الإنكار على عامة الناس، فيجب أن تسلك الأسلوب الذي ترى أنه يؤدي المصلحة التي تريد أن تصل إليها وتسعى إلى تحقيقها.

الاستفادة من الأستاذ قدر الإمكان

الاستفادة من الأستاذ قدر الإمكان أخيراً: أمر رابع: الآن ولله الحمد قل أن تجد مدرسة إلا وفيها عدد من الأساتذة من طلبة العلم، لا نقول: إنهم بلغوا غاية من العلم، لكن على الأقل بالنسبة للطلاب ومستويات الطلاب فمستواهم عال لهؤلاء الطلبة، ويمكن أن يستفيدوا منهم كثيراً. ومن هنا فأنا أوصي الشاب أن يحرص ويعرف أساتذته، ويرى أن فلاناً من الناس أو فلاناً عنده قدر من العلم، فيحرص على أن يستغل هذه الفرصة؛ لأن وجودك في المتوسطة ثلاث سنوات، وفي الثانوية ثلاث سنوات، وفي الجامعة أربع سنوات، مدة محددة، وأيضاً تدريسه لك مدة محددة، فتحرص عندما يوجد لديك مثل هذا الأستاذ أن تستفيد منه قدر الإمكان، ولو حتى خارج الفصل من خلال المناقشة، أو تقرأ كلاماً أشكل عليك تحرص قدر الإمكان أن يكون لك صلة خاصة بهذا الأستاذ خارج الفصل وخارج الدرس؛ حتى تستفيد منه، وتنتقل بعد ذلك إلى مدرسة أخرى، وترى أستاذاً آخر، وهكذا. أقصد أن لا تفوت على نفسك هذه الفرصة، وأنا أتصور أنه ليس من العدل مع نفسك أن تكون علاقتك مع مثل هذا الأستاذ داخل الفصل فقط، فعندما تجد أستاذاً متميزاً في علمه، وعنده قدرات ليست عند الآخرين، أو على الأقل يمكن أن يفيدك، فأنا أتصور أن من الإهمال لحق نفسك أن تكون علاقتك مع مثل هذا الأستاذ المتميز داخل الفصل فقط، بل تحرص قدر الإمكان أن تستفيد منه، فمثلاً: قد ينتهي الدرس ويبقى وقت فراغ، فتطرح عليه بعض الأسئلة خارج الدرس، فتحاول قدر الإمكان أن تستفيد من هذا الأستاذ، وأن يكون لك معه علاقة خاصة تمكنك وتعينك على أن تستفيد منه أكثر، وتستطيع أن تستشيره في أي أمر، وتستطيع أن تستفيد منه في كل ما يشير عليك، أو يطرح لك، أو تستفسر عنه.

الطالب والدراسة

الطالب والدراسة بعد ذلك ننتقل إلى نقطة ثالثة وهي: ما يتعلق بالطالب والدراسة:

الإخلاص لله سبحانه وتعالى

الإخلاص لله سبحانه وتعالى وأول قضية لها أهميتها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى: أنت إما أن تدرس دراسة شرعية أو علوماً أخرى غير شرعية، فإذا كنت تدرس دراسة شرعية فأنت تتعلم علماً شرعياً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). فلابد أن تجتهد في تصحيح نيتك، وافترض أنك دخلت ابتداءً لأجل تحصيل الشهادة، فإن هذا لا يحول بينك وبين تصحيح نيتك، حتى تكون نيتك هي طلب العلم الشرعي الذي ينفعك الله سبحانه وتعالى به في دينك ودنياك، فتتعلم العلم الشرعي الذي تستطيع أن تعبد الله به كما أمرك، ويمكن أن تنفع به الأمة. قد يقول شخص آخر: أنا لا أدرس دراسة شرعية، فما معنى الإخلاص في ذلك؟ فنقول: حتى الطالب الذي لا يدرس دراسة شرعية، فإن الأمة تحتاج إلى طاقات في كافة التخصصات، ونحتاج إلى الناس الأخيار في كل مكان، فهذا الطالب نريد منه أن يجعل نيته أن يخدم الأمة، لا أن يلقى قيمة اجتماعية ومعاملة خاصة. فأنت عندما تدرس أي تخصص من دراسات عسكرية، أو علم طب، أو هندسة، أو حاسب آلي، أو علوم إنسانية، أو أدب، أو لغة، فأي تخصص نحتاج إليه، والأمة بحاجة إلى جهود أبنائها، فاحرص على أن تكون نيتك أن تنفع الأمة وتخدمها. ثم إن الإخلاص لا يؤثر نقصاً، فإذا كان عندي طالبان يدرسان، هذا مخلص لله وهذا غير مخلص، فالنتيجة واحدة، كل منهما سيحصل على شهادة، وعلى مزايا مالية، ولن يكتب في شهادتك مثلاً: طالب مخلص، وطالب غير مخلص، فهذه أمور بينك وبين الله عز وجل. ولا تتصور أنك عندما تخلص لله ستفقد هذه المزايا المادية التي يتطلع إليها الناس، بل أنت عندما تخلص لله في أي عمل ستحصل على نفس المزايا التي يحصل عليها الآخرون، لكن تزيد أن عملك هذا يكون عبادة لله، فتدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)، (ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). وكلما يصيبك من تعب، وتبذل من جهد في الاستذكار والامتحانات، تثاب عليه نظراً لأنك تبتغي وجه الله، سواء كنت تدرس علماً شرعياً، أو علماً آخر. وحذار -يا إخوان- من التطلع إلى الشهرة، ومما يؤسف أن النظرة الاجتماعية الخاطئة لا تزال موجودة إلى الآن، فعندما يأتي الطالب متفوقاً يظنون أنه من الخطأ أن يتجه إلى دراسات شرعية، ويرون أن مكانه في كلية الطب، أو كلية الهندسة، أو غيرها من التخصصات الأخرى، فلا تزال النظرة للعلم الشرعي دون ما ينبغي. بل أنا أقول: المفروض أن المستويات العالية من النبوغ تتوجه إلى الدراسات الشرعية، لأن الأمة أحوج ما تكون إلى هؤلاء العلماء، وليس صحيحاً أن العلم الشرعي يصلح لأي إنسان، فنحن نحتاج إلى عالم يحمل قدرة على الاجتهاد، وقدرة على تنزيل النصوص على الوقائع، وقدرة على الربط بين الأحكام الشرعية وواقع الأمة.

احترام التخصص

احترام التخصص ننتقل إلى الجاني الثاني أيضاً الذي يتعلق بالدراسة وهو: احترام التخصص: عندي مثلاً تخصصان: تخصص شرعي وتخصص غير شرعي، بعض الشباب يتجه إلى التخصص غير الشرعي، فالبعض يدرس في كلية الحاسب الآلي ثم يتخرج من الكلية وهو لا يعرف كيف يستخدم الحاسب الآلي، ولا يعرف أي شيء يتعلق بالحاسب الآلي، وخارج الكلية تجده يقرأ في كتب الفقه والحديث والعقيدة، وليس له أي علاقة بتخصصه. نعم، لا شك أن العناية بالعلم مطلوبة، لكن ما قيمة هذا التخصص الذي توجهت إليه، فعندما تختار تخصصاً وتريد أن تخدم الأمة من خلاله يجب أن تبدع في تخصصك، ولو كان ذلك على حساب فقد بعض الجوانب من العلم الشرعي، فحصل القدر الذي لابد منه، واستزد من ذلك، لكن يجب أن تحترم التخصص، وإلا فإذا كان ميلك إلى العلم الشرعي فاتجه إلى العلم الشرعي. وتجد آخر متخصصاً في الهندسة، أو في الطب، أو في علوم إنسانية، أو أي تخصص آخر، ولا يعتني بالتخصص، فإذا توجهت إلى تخصص يجب أن تحترم هذا التخصص وتعتني به، سواء في قراءتك العامة، أو في متابعة ما يصدر من دوريات، أو من مؤتمرات، أو أبحاث، أو كتب، حتى تؤدي الدور الذي نريده منك، وبعد ذلك يمكن أن تطلع وتتوسع في قراءتك الخارجية.

التخصص الشرعي

التخصص الشرعي ننتقل نقلة أخرى: التخصص الشرعي: فالدراسات الشرعية ليست تخصصاً واحداً، فأنت تأتي مثلاً إلى اثنين من الشباب في المستوى الرابع، أحدهما واحد في كلية الشريعة، تخصصه فقه وأصول، والثاني في قسم السنة أو قسم العقيدة، وتعال إلى هذين الشخصين وقارن بينهما لا تجد فرقاً أحياناً، لا في المعلومات، ولا في الاهتمامات، ولا في المكتبة، فتجد هذا في قسم الفقه والأصول ولكن قراءته واطلاعاته واهتماماته متعلقة بالعقيدة أو السنة أو علوم القرآن أو غيره، ولا يعترف بالتخصص، والعكس أيضاً. فأنت -يا أخي- ما دمت تخصصت في شيء، فيجب أن تحترم تخصصك وتعتني به، وأنت تستطيع أن تعرف الإنسان من خلال مكتبته، هذا طالب يدرس في كلية الشرعية، فيجب أن تكون مكتبته متميزة بالعناية بكتب الفقه والأصول، وطالب يدرس العقيدة يجب أن يعتني بهذا العلم، فهو يقتني الكتب المتعلقة بهذا العلم، ومن خلال قراءته الخارجية يركز على هذا العلم، وعند حضوره في وسط العامة يعتني بهذا العلم، ويعتني بالتخصص ويحترمه. وهذا لا يعني إهمال الجوانب الشرعية الأخرى، لكن من خلال توسعه وتركيزه يجب أن يركز على تخصصه حتى يفيد فيه فعلاً، أما أن يكون إنساناً مبعثراً، تخصصه في وادٍ ودراسته في وادٍ آخر، فهذا تعطيل لهذه الطاقات.

الفهم المغلوط

الفهم المغلوط الجانب الثالث هو: الفهم المغلوط: بعض الشباب يتصور أن العلم الشرعي ليس من خلال الدراسة، إنما هو من خلال حلق المساجد، أو القراءة، أو غيرها، فتجده مثلاً يدرس في معهد علمي، أو يدرس في كلية شرعية، ولا يعتني بالدراسة، فيتخرج أحياناً بتقدير مقبول، أو تقدير جيد، أو ينجح في الدور الثاني، فتجده ضعيفاً ولا يعتني بالدراسة إطلاقاً، لكنه خارج الدراسة يعتني بالقراءة الخارجية، ويعتني بحضور مجالس العلم، ويتصور أن هذا هو العلم. صحيح لابد أن يكون لنا قراءة خارجية، ولابد أن نحضر دروس أهل العلم، لكن يجب أن نعتني بالدراسة خاصة عندما نكون أصحاب تخصص شرعي؛ لأنك عندما كنت تحضر درساً في المسجد، فقد تكون مواظباً على درس فقه، ودرس يتوسع فيه المتحدث ثلاث سنوات أو أربع سنوات ولم تصلوا إلى كتاب الصلاة، وقراءتك كذلك. لكنك عندما تدرس دراسة منهجية متكاملة، فتدرس النحو دراسة متكاملة، وتدرس البلاغة، وتدرس الفقه، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، والفرائض، وهكذا، فتدرس كافة العلوم دراسة قد تكون مختصرة، لكنها دراسة متكاملة تبني شخصية، بعد ذلك يشرحها الأستاذ، وتقرؤها في الكتاب، ومرة أخرى تذاكر وتمتحن، بحيث تكون معلوماتك ثابتة. فمهما كان مستوى أساتذتك ومستوى تعليمك، فيجب أن تعتني بالدراسة، خاصة عندما يكون تخصصك شرعياً، واعتبر أن هذا جزء أساسي من طلب العلم، واعتبر أن هذه من أولويات العلم، ثم بعد ذلك أسعى فيما وراء ذلك.

الطالب والدعوة

الطالب والدعوة

اعتناء الشباب بأمور الدعوة العامة

اعتناء الشباب بأمور الدعوة العامة أخيراً: ننتقل إلى الجانب الرابع وهو: الطالب والدعوة: هذا الجانب هو السبب وراء اختيار هذا الموضوع لهذه المحاضرة، وقد نكون أخذنا نصيب الأسد في النقاط الأخرى، فالملاحظ أن هناك إهمالاً لما يتعلق بالدعوة داخل المدرسة من خلال كثير من الشباب، وهناك أسباب كثيرة، ولعل من أسبابها: أن الشاب يعتنون بأمور الدعوة العامة، مثل إنكار المنكرات العامة، وينشغل بمتابعة قضايا المسلمين العامة، وبقضايا عامة بعيدة عن جو الدراسة. فهو مثلاً مشغول بمتابعة أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، أو في الصومال، أو غيرها، وقضية القضايا عنده هي هذه المشكلة، وماذا أصنع؟! وما واجبي؟! وهذا اهتمام جيد ومطلوب، فاهتمامك بالمنكرات العامة عندما يحصل أي منكر، أو أي مقال، أو إعلان، فتجده يتابع القضايا، وينشغل بهذه القضايا، ويتصور أن هذه هي الدعوة، وهذا دوره، لكنه عندما يأتي إلى المدرسة ليس له أي دور إطلاقاً. مرة أخرى أنا لا أنكر، بل أنا أطالب أن يكون للشاب دور في مجتمعه، وأن يكون له اهتمام بقضايا المسلمين، لكن يجب أن نضع أيضاً الأمور في نصابها، فأنت -يا أخي- تبقى في المدرسة ست ساعات، فيبقى زبدة وقتك داخل المدرسة، ماذا قدمت في هذه المدرسة؟ وماذا بذلت في هذه المدرسة؟ فالواقع أننا نجد إهمال واضح لهذه القضية خاصة في الفترة الأخيرة والسنوات الأخيرة؛ نظراً لأن الشاب أحس بأن هناك شيئاً ملأ عليه فراغه، وأخذ جزءاً من اهتماماته الدعوية، فأصيب هذا الجانب بإهمال واضح، ينبغي أن يعيد النظر فيه ونعتني به.

كثرة عدد الطلاب

كثرة عدد الطلاب جانب آخر يبرز أهمية الدعوة في المدرسة، قضية كثرة عدد الطلاب، فعندما تأتي إلى المدرسة المتوسطة تجد فيها أربعمائة طالب، أو خمسمائة طالب، أو ستمائة طالب، والمدرسة الثانوية كذلك، فاحسب مجموع الثانويات، ومجموع المتوسطات والكليات، تجد أن عدد الدارسين عدد هائل. فنحن الآن عندما نعتني بهذا الجانب، فنعتني بالدعوة في المدارس، لا نعدم أن نجد في كل مدرسة ما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين أو أكثر من الشباب المتحمسين للدعوة، والذي عنده استعداد عندما تطرح له برامج في الدعوة يقوم بها، فعندما يكون عندنا في كل مدرسة عدد من الشباب يتحرك ويعمل ويدعو، فسنتعامل مع قطاع عريض جداً من قطاعات المجتمع، وقطاع كبير جداً. فأنت في المدرسة عندك ثمانمائة طالب، أو ستمائة طالب، أو أربعمائة طالب، أو مائة طالب، فعندما يشعر الطالب أن عليه دوراً كبيراً في هذه المدرسة، وكذلك الأستاذ، فعندي في المدرسة عشرون طالباً مستقيماً يتحمس للدعوة يكفيني هذا العدد، وعندي ثلاثة أساتذة أو حتى أستاذ واحد يشعر بأن عليه دوراً في الدعوة وتوجيه الطلاب، ونشعر بأن وظيفتنا الأساسية ودورنا الأساسي، وأحق المواقع بنا وبدعوتنا هو دعوتنا من خلال المدرسة. أتصور أنه عندما توجد عندنا هذه النظرة، ونبذل هذا الجهد ونعتني به، أننا سننتج كثيراً؛ لأننا سنتعامل مع قطاع عريض جداً من قطاعات المجتمع، ومهما كانت المحاضرات التي في المساجد لكنه لا يحضرها إلا فئات خاصة من الناس، والأمور العامة لا يحضرها إلا فئات خاصة من الناس، أما المدرسة ففيها كل من يقع داخل هذا السن من سن ست سنوات إلى سن اثنين وعشرين غالب الشباب لهذا السن هو موجود في هذه المدارس، فسنتعامل مع فئة كبيرة جداً من قطاعات المجتمع.

الطلاب مجال خصب للدعوة

الطلاب مجال خصب للدعوة الجانب الثالث: أن هذه الفئة مجال خصب للدعوة: فالشاب لا يزال طرياً، ومهما كان عند الشاب من انحراف أو فساد فعنده جانب خير، وعنده شعور بالخطأ، وأظن أنكم تتذكرون من حضر منكم المحاضرة التي كانت في هذا المسجد في العام الماضي عوائق الاستقامة، عرضنا فيها نتائج تتعلق حول هذه القضية، وظهر لنا من خلالها أن الكثير من هؤلاء الشباب الذين عندهم سوء، وعندهم معصية وإعراض، أنهم يملكون جوانب خيرة ينبغي أن نستفيد منها ونستغلها.

الطلاب هم رجال المستقبل

الطلاب هم رجال المستقبل كذلك الجانب الرابع: أن هذا الجيل هم عدة الأمة، ورجال المستقبل: فهؤلاء الدارسون سيكون منهم المدير والوزير والمسئول والضابط، فكل المسئولين في المجتمع إنما يمرون من خلال قنطرة التعليم، ومن هنا فالأستاذ يتعامل مع كل هذه الفئات، وأنت أيضاً زميل لكل هذه الفئات، ومن هنا عندما نعتني بهذا الجانب ونوجه الدعوة له، فإن النتائج في المستقبل ستكون مثمرة فعلاً.

الطلاب أحق الناس بالدعوة

الطلاب أحق الناس بالدعوة الجانب الخامس: أن أولى الناس وأحق الناس بدعوتك هم هؤلاء الذين حولك: فهل من المعقول أن زميلك يكون معك في الفصل ثلاث سنوات، أو ست سنوات، ولم يسمع منك كلمة واحدة، فهذا ليس معقولاً أبداً. فأنت دائماً تسأل وتتحدث عن الدعوة، وواجبك تجاه المسلمين في البوسنة وفي الصومال، فهذا شعور طيب، لكن -يا أخي- يوجد ثلاثون طالباً معك في الفصل، فما واجبك تجاههم؟ وستمائة طالب معك في المدرسة ما واجبك تجاههم؟ هل سألت نفسك هذا السؤال؟ أظن أن هؤلاء أقرب الناس إليك، وأنت -يا أخي الأستاذ- هؤلاء أقرب الناس إليك؛ حتى إذا كنت لا تدرس إلا درساً واحداً في الأسبوع، ستدخل على هذا الطالب ثمانية وعشرين مرة، أو ثلاثين مرة في الفصل الدراسي، وإذا كان عندك درسان فسيتضاعف العدد، وهكذا، تقابل هذا الطالب في المدرسة، وخارج المدرسة، فماذا قدمت له؟ وهذا أحق الناس بدعوتك، وأحق الناس بخيرك، وهؤلاء هم أقرب الناس إليك، ومجتمعك أولى الناس بك.

خير مجال يحسنه الطالب

خير مجال يحسنه الطالب الأمر السادس: أن هذا هو -وهي قضية مهمة- خير مجال يحسنه الطالب: فكثيراً ما يقول الشاب: أنا شاب صغير السن، وقدراتي محدودة، فنقول: يا أخي! لا نطالبك بحل مشاكل المسلمين، وإن كنا نطالبك أن تتفاعل معهم، ولا نطالبك بأن تنكر المنكرات العامة وتقف في وجهها، وإن كنا نطالبك أن يكون لك دور فيها. لكن أظن أن المجال الذي تستطيع أن تحسنه وتؤثر فيه هو مجال مدرستك، مهما كنت صغيراً أو جاهلاً، فزملاؤك تستطيع أن تؤثر عليهم، وتستطيع أن تقدم لهم الكثير، فهذا خير ما تحسن، فابذل جهدك -يا أخي- وطاقتك في خير ما تحسن، وضع الأمر في نصابه حتى تنتج، وحتى تستغل طاقتك فيما تحسن، فأظن أن خير ما تحسن وأفضل ما تنتج فيه هو هذا الجو المدرسي. أنا أستغرب من كثير من الشباب حين تجده شاباً طيباً وخيراً وغيوراً ومستقيماً، ومع ذلك فإن معه ثلاثين أو خمسة وثلاثين طالباً في الفصل، وستمائة طالب في المدرسة، فأحياناً وبدون مبالغة تجد أن هذا زميله في الفصل ثلاث سنوات ولم يسمع منه كلمة واحدة، ولا حتى نصيحة. أين الدعوة التي تسألنا دائماً وتقول: ما دوري في الدعوة؟ وما الذي يدعوك مثلاً أن تحضر محاضرة أو تشتري كتاباً، أو تحاول أن تتفاعل مع قضايا الدعوة؟ إنها تلك الروح التي كانت تدعوك لأن تتفاعل مع المسلمين في بورما، ومع المسلمين في يوغسلافيا وفي الصومال، وتسأل عن أخبارهم، وتقرأ ما يتعلق بأمورهم، وتتبرع لهم، هذه الروح لا نريد أن نقضي عليها، فنريدها أن تبقى، لكن نريدها أن تساهم في أن تدفعك إلى هذا الإنسان الذي تراه كل يوم، وتراه خمسة أيام في الأسبوع، وتبقى معه ست ساعات لسنوات عديدة، ومع ذلك لم تقدم له خيراً، أليس هذا أولى الناس بك؟

القدوة ودورها في الدعوة

القدوة ودورها في الدعوة النقطة السابعة المتعلقة بالدعوة هي: القدوة ودورها في الدعوة: وهي قضية مهمة؛ ولذلك أحببنا أن نفردها، وأرجو ألا نطيل فيها: تستطيع أن تدعو بفعلك دون أن تقول كلمة واحدة، ولكن لا تتخذ هذا عذراً وتقول: أنا قدوة ولا أحتاج أن أتحدث، فمجرد مظهري يكفي، صحيح أن هذا له دور، لكن أيضاً هذا وحده لا يكفي. فقد سألت أحد الشباب وكان سيئاً ثم هداه الله، فقلت له: ما هو سبب هدايتك؟ فقال: العامل الأساسي الذي أثر علي أنه كان في فصلي مجموعة من الشباب الطيبين، فكنت أراهم يدخلون الفصل ويخرجون، وعندما أراهم يؤثر في هذا المظهر، لا يتحدثون معي. لم ينصحه منهم أحد، لكنه يقول: مجرد رؤيتي لهؤلاء الشباب جعلني أغبطهم، وجعلني أتمنى أن أكون مثلهم. فهاهو تأثر بمجرد رؤية هؤلاء، فكيف إذا انتقلت القضية إلى جوانب أخرى!

جوانب القدوة

جوانب القدوة

القدوة في العبادة

القدوة في العبادة الجانب الأول: القدوة في العبادة: فأكثر الطلاب يصلون داخل المدرسة صلاة الظهر، فنحتاج أن تكون قدوة في العناية بالصلاة، وأداء الراتبة، وكل ما يتعلق بها، وهناك قضية معروفة عند الجميع وهي أن الأفضل أداء الراتبة في البيت، فعندما يكون الإنسان في مسجده فالأفضل أن يؤدي الراتبة في بيته، لكن أنا وجهت نظري إلى أن الأولى عندما يكون الطالب والأستاذ في المدرسة ألا يؤدي الراتبة في البيت، بل يؤديها في المدرسة؛ لأنه يكون قدوة للآخرين، وخاصة الطالب مهما كان يتأثر، فعندما يراك تعتني بالراتبة، وهو قد لا يحافظ على صلاة الجماعة، وأحياناً قد لا يشهد الصلاة، فلابد أن يتأثر. ثم أنت لا تصلي الراتبة لأجل أن تراءي الآخرين؛ لكن تشعر بأنك قدوة، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

القدوة في الانضباط الشرعي

القدوة في الانضباط الشرعي الجانب الثاني: القدوة في الانضباط الشرعي: فلا يليق أبداً أن نقع في المخالفات الشرعية أمام الناس، وهي ظاهرة محزنة، وأنا أقول: إنها ليست عامة، لكن أحياناً تجد الشاب المستقيم الملتزم يقع في مخالفات شرعية أمام الطلاب، وهنا تصبح قدوة سيئة، وتسمع الكلمات: هذا نفاق، وهذا وهذا، وأحياناً يحق لهؤلاء أن يقولوا مثل هذا الكلام؛ لأنهم يجدون تناقض بين المظهر والمخبر. فيجب أن تكون قدوة في الالتزام في الأحكام والضوابط الشرعية، وفي مظهرك، وفي عدم الوقوع في المخالفات الشرعية أمام الناس، وفي كل شيء، فأنت أولى الناس بفعل الخير، وعندما تفعل معصية أمام الناس فأنت تدعوهم بصورة غير مباشرة للوقوع في هذه المعصية.

القدوة في الأخلاق والآداب العامة

القدوة في الأخلاق والآداب العامة الجانب الثالث من جوانب القدوة: الأخلاق والآداب العامة: لا يليق أن تجد الطالب يقف دائماً أمام شئون الطلاب، أو يقف أمام مكتب الإدارة معاقباً، فيمكن أن أرى أي طالب لكن لا أريد أن أرى الطالب المستقيم والخير، وهذا مظهر سيئ يدل على الإهمال. لا يليق أن ترى الطالب في أي موقف يعاب عليه في الآداب العامة والأخلاق، ولا يليق بالطلاب أن يمزحوا مزاحاً مسرفاً ويعبثوا عبثاً غير لائق.

القدوة في الاتزان

القدوة في الاتزان فأنت يجب أن يكون عندك قدر من الاتزان، وهو الجانب الرابع وله أهمية: الطلاب مثلاً يمزحون، وعندهم أنواع من المزح والمداعبة والعبث، نحن لا نقول: لا تمزح، لكن يجب أن يكون لك قدر تتميز به، بل والناس جميعاً يطالبونك بهذا الاتزان، فيجب أن يكون عندك اتزان، وأن تحفظ اتزانك، فلا تضحك لأي مناسبة، ولا تعبث بأي صورة، بل كن إنساناً متميزاً؛ حتى تدعو الآخرين، وحتى يرى الآخرون أثر الاستقامة والصلاح عليك.

القدوة في الاهتمام بالدراسة

القدوة في الاهتمام بالدراسة كذلك العناية بالدراسة، وأداء الواجبات، والتعامل مع الأستاذ، والحضور، فأتصور أنه لا يليق أن يكون الشاب المستقيم والملتزم قدوة سيئة أو سلبية. حتى الأستاذ عندما يسأل الطلاب: من الذي ما أدى الواجب؟ فيقوم ثلاثة أو أربعة من الطلاب الأخيار، هذا يعطيه انطباعاً بأن هذه النتيجة التي يصل إليها الطالب عندما يستقيم، لكن أنا أريد أن الأستاذ يعرف أن هناك علاقة طردية بين اجتهاد الطالب في دراسته وبين استقامته وصلاحه، فكلما استقام الطالب وصلح؛ كان أكثر اجتهاداً وانضباطاً. وهذا هو الواقع، لكن نريد أكثر من ذلك، نريد أن تكون قدوة عند زملائك، فلا يليق أنك تكون متفوقاً، وعندما تستقيم وتسير مع الصالحين تتأخر، والآن لا زال الطلبة المتفوقون والبارزون في الدراسة غالباً هم الأخيار، لكن نحن نريد أن يكون هذا هدفاً وأمراً نسعى إليه.

القدوة في التعامل مع الأستاذ والطالب

القدوة في التعامل مع الأستاذ والطالب جانب آخر من جوانب القدوة: التعامل مع الأساتذة والطلاب: كما أن الأستاذ يرى أنك عندما تستقيم يجب أن تتميز بحرصك على الدراسة، كذلك يجب أن يجد فرقاً بين تعامل الطالب معه يوم أن كان منحرفاً، وبعد أن هداه الله عز وجل. حتى الأستاذ الذي ترى عليه مخالفات شرعية، يجب أن تكون متأدباً في التعامل معه؛ لأنك تبعث إليه رسالة غير مباشرة بأن هذه النتيجة التي وصلت إليها بعد أن هداني الله عز وجل، وليس المقصود ألا تسيء، بل يجب أن تكون متميزاً بحسن الخلق والأدب. والطالب عندما يحسن الأدب مع الأستاذ يأسر الأستاذ، فأحياناً يقع الطالب في الخطأ ويريد الأستاذ أن يعاقبه، لكنه عندما يتذكر أنه حسن الخلق، وأنه طالب وقور، لا يمكن أن يتجرأ على عقابه، بل عندما يصير للطالب مشكلة، ويرى الأستاذ أنه صاحب خلق عال ورفيع، تجد أن الأستاذ يتدخل ويحاول قدر الإمكان أن يعين هذا الطالب ويساعده. فنحن نريد إذا دخل الأستاذ الفصل أن يستبشر أن هناك طالباً مستقيماً؛ لأنه سيجد منه حسن خلق، ونريد الطلاب جميعاً عندما يدخل عليهم طالب جديد الفصل ويرون أنه مستقيم يستبشر الطلاب جميعاً، فإنهم يرون هذا حسن المعاملة، يتعامل مع الطلاب بلطف، ويقضي حوائجهم. لا يليق أن تكون مثل سائر الطلاب، أحياناً يتخاصم الطلاب على أشياء تافهة، طالب أخذ سجادة طالب، طالب أخذ قلم طالب، فيجب أن تكون متميزاً. فمن أكبر المشاكل التي تثير الصراع بين الطلاب المكيف داخل الفصل، طالب يقول: الجو بارد، والآخر يقول: الجو حار، لكن أنت يجب أن تكون متميزاً عند الطلاب، فلا تكون إنساناً أنانياً، فعندما تأتي وتجد طالباً في مقعدك لا يوجد داع أنك تثير قضايا، وتجلس في مقعده، أريد الأستاذ أن يجد فرقاً واضحاً جداً في التعامل بين الطالب العادي وبين الطالب المستقيم والملتزم، وعندما نصل إلى هذا المستوى من القدوة، فإننا سننجح كثيراً في الدعوة، ولو لم نفعل شيئاً، ولو لم نقل كلمة واحدة.

أهداف مهمة في الدعوة

أهداف مهمة في الدعوة ننتقل إلى النقطة الأخرى، وهي النقطة المهمة، وهي: مجالات ضرورية للدعوة؟ مع أهمية القدوة والعناية بها أقول: لا تكون قدوة تكسلنا، ونقول: يكفينا أن نكون قدوة، لا، نكون قدوة، ومع ذلك لابد أن نفهم، أستطيع أن أضع أربعة أهداف مهمة يمكن أن يسعى إليها الطالب في دعوته:

زيادة المنتمين لجيل الصحوة

زيادة المنتمين لجيل الصحوة الهدف الأول: زيادة المنتمين لجيل الصحوة: فمثلاً: قد يكون بعض الشباب ليس منحرفاً ولا سيئاً؛ لكن همه الرياضة أو العبث أو اللهو، فعندما أنقل هذا الشاب وأجعله يسير مع الناس الصالحين والأخيار، وأجعله يسير في ركب جيل الصحوة، هنا أكون أضفت إضافة مهمة، ولا تحتقر -يا أخي- هذا الجهد أبداً، فأنت عندما تأتي بشخص، والثاني بشخص، والثالث بشخص آخر، سيكون عندنا نتيجة كبيرة جداً. وتعالوا نجري لكم عملية حسابية بسيطة؛ حتى نعرف كيف أننا فعلاً نستطيع أن نصنع الشيء الكثير، فلو جئنا الآن إلى مدرسة فيها ثلاثون من الشباب الطيبين، يلتقون داخل جمعية مدرسية، أو بينهم رابط أو علاقة معينة بصورة أو بأخرى، وكل هؤلاء فعلاً عندهم شعور أنهم لابد أن يساهموا في زيادة هذا العدد، فعندما يقول كل واحد: أنا أريد أن أحاول محاولة واحدة في الشهر فقط، والدراسة عندنا فصلين، احذف أيام الامتحانات وغيرها، سيكون عندك الفصل الأول ثلاثة أشهر، والفصل الثاني ثلاثة أشهر، فسيكون لكل طالب ست محاولات، وسيكون مجموع المحاولات (180) محاولة. فعندما ننجح -يا شباب- بنسبة (5%) من كل مائة محاولة سيزيد العدد تسعة، يعني قريباً من الثلث، فإذا شغلنا كل الطاقات وصار الجهد فقط مرة واحدة في الشهر، وكل واحد له محاولة واحدة في الشهر سنزيد بمقدار الثلث، (الثلث والثلث كثير)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وتعال الآن نعمل إحصائية في المدرسة، نأتي إلى مدرسة فيها أربعون من الشباب الطيبين، العام القادم كم زاد العدد؟ ما النتيجة؟ لا أدري لكن النتيجة أقل بكثير مما يكن أن نصله، لو كان كل واحد منا عنده شعور أنه عندما يضم واحداً إلى الناس الصالحين، فإنه قد ساهم فعلاً، فليست القضية أنك أنقذته واستفاد، هذا صحيح مكسب، ولا تنظر إليه نظرة قريبة، فأنت أحياناً تنظر إليه أن فلاناً من الناس الذي ضممته إلى جيل الصالحين أفدته، هذا جانب. لكن القضية أبعد من ذلك، فالقضية أنك قدمت طاقة أخرى للصحوة، وقدمت طاقة للأمة، فقد يكون هذا إنساناً نابغاً، وقد يكون موهوباً، فيسخر طاقته لخدمة الأمة، فتساهم أنت من حيث لا تشعر بأعمال وجهود أخرى قد لا تلقي لها بالاً، وقد يكون هذا يعمل أعمالاً خيراً منك، فيأتيك أجره، (من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).

محاولة هداية بعض المنحرفين

محاولة هداية بعض المنحرفين الهدف الثاني وهو قريب من هذا الهدف، لكني أؤكد عليه وهو: محاولة هداية بعض المنحرفين: هناك نوعية من الطلاب في غاية السوء، فلا ينبغي أن نيأس من هؤلاء، والآن توجد نماذج كثيرة، فتجد مروج مخدرات يتوب، وتجد مستعمل مخدرات يتوب، وكثير من الشباب الطيبين الأخيار الذين تراهم ولا تعرف تاريخهم كان تاريخه السابق سيئاً، ثم هداه الله عز وجل. فيا أخي! ألم تفكر يوماً من الأيام أن تكون لك مساهمة؟ لماذا لا تنزل إلى الميدان؟ ولماذا لا نحاول أن نكسب واحداً؟ وأنا أقول: لو كان عندنا ثلاثون طالباً وأربعة مدرسين في مدرسة، وكسبنا في المدرسة في السنة اثنين فقط من الناس السيئين والمنحرفين واستقاموا وهداهم الله، سنحقق شيئاً كثيراً، وهناك وسائل كثيرة لتحقيق هذا، منها: النصيحة الخاصة: فعندما أجلس أنا وإياه، وأبدي له بعض المشاعر، وأقول له: أنت صحيح عندك كذا وكذا، لكن عندك جوانب خيرة، فأنت تصلي، وأنت مسلم، ثم تنصحه، قد يسخر منك، لكن في النهاية ستبقى هذه الكلمات تحترق في قلبه، وقد تكون هذه الكلمات سبباً في هدايته. وأحياناً عندما تسأل عن سبب هداية بعض الناس تجده سبباً يسيراً. أسلوب أخر مثلاً: أسلوب الشريط: أنا أطرح فكرة يمكن أن يقوم بها بعض الشباب، لكني أؤجلها للنقطة الثالثة، نأتي إلى هذا الشاب السيئ فتهدي له شريطاً أو كتاباً قد يكون أحياناً سبباً في هدايته، وكم من شاب استفاد بسبب الشريط أو الكتاب وهداه الله. الرسالة: عندما تجلس في البيت وتكتب رسالة صفحتين أو ثلاث صفحات، فيها مشاعر جياشة لهذا الطالب، ونصيحة وموعظة، ولا تعطيه إياها في المدرسة، وعندما تخرج من المدرسة تقول له: تفضل، اقرأ هذه الرسالة، كم سيكون أثر هذه الرسالة عليه؟ أخيراً: هناك فكرة واقتراح أطرحه على الإخوة الأساتذة والطلاب أرجو أن تلقى عناية من الإخوة الأساتذة والطلاب، وأرى أنها وسيلة قد تكون مناسبة لدعوة بعض هؤلاء الشباب الذين يلاحظ عليهم بعض مظاهر الانحراف: مثلاً عندما يأتي أستاذ ويختار أربعة من الطلاب، ويكون هذا الطالب خامسهم، أو ستة من الطلاب، لكن من الطلاب الأخيار، ويأخذ هذا الطالب السيئ، فيكون طالباً وحيداً بينهم، ويخرجون جميعاً في رحلة خاصة، قد يكون لها طبيعة خاصة، ويعودون، ويعتنون بمثل هذه القضية، أتصور أنها ستنجح كثيراً، وقد طبقها بعض الإخوة، واستفادوا، وهدى الله على أيديهم بعض الشباب بسبب هذه الوسيلة. حتى ولو لم يسمع مواعظ ولا نصائح في هذه الرحلة، مجرد كونه يخرج مع هؤلاء الشباب، ويرى كيف يتعاملون، ويأخذ صورة طيبة عن الناس الأخيار، أظن أنها ستنفع كثيراً، لكن لابد من الشباب أن يحذروا من بعض المزالق التي تسبب في ذلك، مثلاً ألا يخرج الطلاب وحدهم؛ لأنهم لن يصنعوا شيئاً، فلابد أن يستشيروا أستاذهم، ويكون معهم أحد الأساتذة، لا يناسب أن الطالب يتوسع مع مثل هؤلاء الذين عليهم انحرافات؛ لأنه قد يكون سبباً في التأثير عليه. أنا أقول: هذه كفكرة أو كنموذج، وأتصور أن الأساتذة والطلاب قادرين على أن يبتكروا وسائل وأساليب أخرى أكثر من هذه عندما يعتنون بمثل هذا الأمر.

نشر الخير والدعوة العامة

نشر الخير والدعوة العامة الهدف الثالث: نشر الخير والدعوة العامة: عندي ثلاثون طالباً في الفصل، ليس بالضرورة أن يكونوا كلهم من الشباب الأخيار، وليس بالضرورة كلهم أن يستقيموا، لكن على الأقل أقدم لهم خيراً، وعندي وسائل كثيرة يمكن أن أصنعها، فمن الوسائل: الكلمات التي تلقى بعد الصلاة في المدارس، فيعتني بها الطلاب والأساتذة، وتقدم كلمات تناسب مثل هؤلاء الطلاب. برامج النشاط العام عموماً، برامج الجمعيات المدرسية والنشاط التي تقدم لعامة الطلاب يعتنى بها، وتكون مناسبة، وتخاطب مثل هؤلاء الطلاب، والأستاذ من خلال الفصل. وهناك فكرة وبرنامج أيضاً آخر أطرحه على الشباب يمكن أن يفكروا فيه هو: أتصور أنه لا يمكن أن أعدم في الفصل أن أجد خمسة من الشباب الطيبين، فيتفق هؤلاء الخمسة ويقولون: كل شهر كل واحد منا يدفع عشرين ريالاً، ويكون واحد منا مسئول عنها، فنستطيع أن نشتري شريطاً للتوزيع بريالين، ونشتري كتيباً ونغلفها، ونوزع على الطلاب كل شهر شريطاً أو كتيباً. افترض أنه لم يقرأ الكتيب ولم يسمع الشريط، فمجرد هذا الأمر له أثر نفسي، الأثر النفسي هذا له دور كبير، فعندما يرى أنه إنسان يتابع صفحات الرياضة، ويتابع الأمور الساقطة وغيرها، ويرى الشاب الآخر أصبح جاداً، وأصبح له اهتمامات أخرى، هذا الشعور النفسي له دور كبير، مع أن الغالب أنه يسمع الشريط، ويقرأ الكتيب. لكن لابد من حسن الاختيار، فمن غير المناسب أن تأتي بمحاضرة موجهة للشباب الطيبين وتوزعها على عامة الطلاب في الفصل، أو تأتي إلى درس في الفقه، فلابد أن تحسن اختيار المادة التي تقدمها إلى هؤلاء الطلاب، (وما ندم من استخار، وما خاب من استشار).

إنكار المخالفات الشرعية التي تحصل

إنكار المخالفات الشرعية التي تحصل الهدف الرابع: إنكار المخالفات الشرعية التي تحصل: يحصل كثيراً في المدرسة مخالفات شرعية أظن أنه ما من أحد يسمع هذا الكلام إلا ويعرف ويرى نماذج كثيرة من هذه المخالفات والتصرفات اللا أخلاقية التي تحصل من الطلاب، فلابد أن يكون لنا دور في إنكار مثل هذه المنكرات. أولاً: أن هذا واجب شرعي علينا (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه). ثانياً: عندما ننكر هذه المنكرات فإننا في الواقع نحمي أنفسنا، لماذا؟ أنت عندما تبقى في الفصل وتشاهد هذه التصرفات، فأنت بشر تستمرئ هذه الأمور؛ وقد تقع فيها أنت، لكن عندما تسعى إلى إنكارها، يكون هذا وسيلة لحماية نفسك، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فمهما بلغت -يا أخي- من إيمان وتقوى، يمكن أن تقع فيما يقع فيه الآخرون، فإنكارك لهذه المنكرات وسيلة لأن تحفظ نفسك وتحمي نفسك. ثالثاً: أن هذا وسيلة لحماية الآخرين، فللأسف -مثلاً- بعض الشباب يتعلم هذه الأمور السيئة داخل المدرسة، والده محافظ عليه في البيت لا يخرج إلى الشارع، ولا يذهب ولا يأتي، لكنه داخل المدرسة عندما تكون هذه الممارسات ظاهرة ومنتشرة يستمرئها، فتجده إنساناً حيياً، وإنساناً لا يمكن أن يقع في هذه الأمور؛ لكنها عندما تظهر أمامه يستمرئها ويقع فيها. فنحن عندما نساهم في منع هذا المنكرات؛ نستطيع أن نقدم الشيء الكثير، ونحن قادرون -يا إخوان- وأمامنا وسائل عديدة لإنكار هذه المنكرات: النصيحة الشخصية، والرسالة، والإنكار العلني أحياناً، ولو بنوع من التوبيخ، يعني: أنت إنسان ما تستحي تفعل هذا أمام الناس هذا لا يليق وهل وصل بك الحد إلى أنك تجعل نفسك ألعوبة في يد هؤلاء إلى غير ذلك من الكلمات الذي قد يكون فيها نوع من القسوة، لكنها أحياناً تؤدي دورها. إذا لم ينفع هذا الكلام، فيمكن أن تستعين ببعض الناس في المدرسة، كالمرشد الطلابي إذا كان مستقيماً وخيراً، أو أستاذ من أساتذتك، أو وكيل المدرسة، أو المسئول عن شؤون الطلاب، تستعين بشخص آخر يساعدك في هذه القضية. وقد تنتقل إلى خطوة أخرى وهي: التهديد، فتقول: نحن لا نرضى بهذا المنكر، وأنت لو تفعل أي شيء لا يعنينا، لكن هذا منكر شرعي، إذا لم تكف فأنا سأخبر الأستاذ أو فلان، أو سأخبر المرشد الطلابي، وهدد بمن يخشى منه ذلك، ليترك المنكر خوفاً من هؤلاء، فزوال هذا المنكر بحد ذاته مكسب. وأظن -يا شباب- أننا لو فكرنا جادين؛ لاستطعنا أن نجد وسائل كثيرة تساعدنا على منع هذه المنكرات، بل أنا أقول وبدون مبالغة: أن الطلاب الأخيار وحدهم قادرون على منع هذه المنكرات، وأنهم يملكون قدرة أكثر من الأستاذ، وأكثر من إدارة المدرسة، فإدارة المدرسة تتعامل مع ما يظهر أمامها، لكن أنت موجود في الفسحة مع الطلاب، وفي داخل الفصل، وفي الممرات، وفي مكان تناول الطعام، وفي كل مكان توجد فيه هذه المخالفات فأنت موجود. فلو كان كل واحد يشعر أن عليه واجباً تجاه إنكار هذه المنكرات، لاستطعنا على الأقل أن نخفف منها، وأتصور أننا وحدنا قادرون أن ننكر هذه المنكرات، ولو لم يتعاون معنا أحد، مع أننا سنجد في كل مدرسة من يتعاون معنا ومن يدعمنا ويشجعنا.

أمور لابد منها في الدعوة

أمور لابد منها في الدعوة أخيراً: ننتقل إلى الهدف الخامس، ولعلي أختصر: هناك أمور لابد منها:

ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية

ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية الأمر الأول: ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية: فأحياناً يأتي طالب فيخبر عن خطأ حصل من بعض الطلاب، طالب -مثلاً- أحضر صورة في الفصل للأسف، وهذه مظاهر أحياناً تتكرر وإن كانت قليلة، لكنها مظاهر مؤلمة أن تحصل في أماكن العلم، أو طالب قال كلاماً أو فعل فعلاً، وتجده أحياناً ما تثبت وما تأكد، فيحرج الآخرين ويجعل الآخرين لا يثقون في المستقبل بأخباره، فيجب أن يتثبت ويتأكد من كل ما يراه ولا ينقل خبراً إلا وقد تثبت منه؛ لأننا كثيراً ما يأتينا بعض الشباب وينقل لنا أخباراً، ونكتشف أنها أخبار غير دقيقة.

لابد من الاستشارة

لابد من الاستشارة الأمر الثاني: لابد من الاستشارة: فعندما تريد أن تصنع أي شيء، كأن توزع كتيباً على الطلاب أو شريطاً، فلابد أن تستشير أستاذك، أو إدارة المدرسة، لأن الأعمال الارتجالية أحياناً يكون لها نتائج وخيمة، فأنت قد تريد أن تحسن فتسيء، ويساء إليك، وتصيبك ردة فعل بعد ذلك، فلابد أن تستشير من هو أولى منك وأنفع منك، وخير منك وأحرص منك على نفع الطلاب، وعنده إدراك أكثر مما عندك، فمثل هذا يدرك ما لا تدرك. كذلك أيضاً المسئولية لها قيمة، فلا يليق أنك تتصرف تصرفات عامة داخل إطار المدرسة بدون إذن، أو تنسيق على الأقل مع أحد المسئولين في المدرسة، فأنت عندما تريد أن تطرح أي مشروع أو أي فكرة ينبغي أن تستشير، وإن شاء الله لن تعدم من يريد الخير. وهذه ظاهرة طيبة -ولله الحمد- لا نجد مدرسة ولا مجال إلا وفيه من الناس الأخيار، سواء مدير أو وكيل أو مسئول أو أستاذ، سنجد فيها من الأخيار ممن سنجد عنده الرأي، بل سنجد عنده الدعم والتشجيع. وأنا أحذر الشباب من أن يعملوا أي عمل ارتجالي، اللهم إلا في الأمور العادية، فلا يعني ذلك أنني عندما أريد أن أنصح طالباً أذهب أستشير، فالاستشارة في القضايا العامة التي يحتاج إلى الاستشارة فيها.

الثقة بالنفس وعدم الاحتقار

الثقة بالنفس وعدم الاحتقار الأمر الثالث: الثقة بالنفس وعدم الاحتقار: دائماً يقول لك الشاب: أنا لا أصلح لشيء، فأنا ليس عندي علم، يا أخي! لا نريد منك أن تعقد حلق علم للطلاب، نريد فقط كلاماً كل واحد منا يستطيع أن يقوله، ونصيحة كل واحد منا يستطيع أن يقولها، ولا داعي أنك تدبج الألفاظ أبداً. يا أخي! حتى لو كنت أصم وأبكم يمكن أن تأتي بشريط وتعطيه، حتى لو كنت مشلولاً يمكن أن تنقل هذا الشريط بوسيلة أخرى لمثل هذا الطالب، ويمكن أن تنقل كتاباً، مع أنك لن تصل إلى هذا القدر مهما كنت من الخجل، ومن الحياء، ومن عدم العلم، لن تصل إلى هذا القدر الذي يجعلك معطلاً إطلاقاً، ألا تستطيع أن تقول كلمة ولو واحدة؟! ألا تستطيع أن تعطي شريطاً لأحد زملائك؟! أو تكتب رسالة لأحد زملائك؟ أظن أنك تستطيع أن تصنع الشيء الكثير.

طول النفس وعدم اليأس

طول النفس وعدم اليأس الأمر الرابع: طول النفس وعدم اليأس: أحياناً بعض الشباب عندما يسمع هذا الكلم يتفاءل، ويقول: إن شاء الله اليوم الأحد، فيوم الأحد القادم تريد أن تتغير المدرسة كلها، هذا ليس معقولاً، ولا بعد سنة أو سنتين، لا، يجب أن نكون أناساً عندنا طول نفس، من طول النفس الذي أريده أنك تقول كلمة، وتنتظر أثرها بعد أربع سنوات، وممكن هذا، قد تقول كلمة لإنسان وتبقى تنمو وتنمو مثل البذرة وبعد ذلك تؤتي أكلها. وقد تقول كلمة ولا تجد ثمرتها إلا يوم القيامة عندما يثيبك الله على عملك، فلا تيأس أبداً، وكن إنساناً طويل النفس، ونحن قلنا: لو نجتمع في المدرسة أربعين طالباً وخمسة أساتذة، وننفق وقتنا كله، ويهتدي على أيدينا ثلاثة طلاب، فأعتبر أننا حققنا مكسباً كبيراً، وتقدمنا خطوات، وأظن أننا قادرون على أن نحقق أضعاف أضعاف هذه النتائج. ثم هناك نتائج ما تستطيع أن تقيسها، فمثلاً الأستاذ عندما يقول كلمة لمائة وعشرين طالباً لا يدرك أثر هذه الكلمة، فلها آثار قد تمتد خارج أسوار المدرسة، فقد تجد من الطلاب من يتحمس لأفكارك، وينقل أفكارك للناس الآخرين. وأنت -يا أخي الطالب- قد تعطي زملاءك الشريط وانتهت العملية، فلا تدري عن أثر هذا الشريط عليهم، لكن له أثر، فقد يؤثر على شخص آخر خارج المدرسة، هذا ما استفاد، لكنه ترك الشريط في السيارة فسمعه فلان من الناس أو أعطى زميله أو صديقه أو أعطاه أخيه، فسمعه فهداه الله عز وجل. فأقول: لا تيأس أبداً، أو تستعجل النتائج. هذه بعض الأفكار وبعض المقترحات، وكما ترون ليس فيها شيء جديد، لكن أنا أقول -يا شباب- وأوجه حديثي للأساتذة ابتداءً، وللطلاب جميعاً: إننا مسئولون، والدور الأساسي الذي يجب أن نعتني به هو داخل أسوار هذه المدرسة، أن يشعر كل أستاذ وكل طالب أن له دوراً مهماً وأساسياً هو نشر هذا الخير، ونشر هذه الدعوة، وعندما ندرك هذه المسئولية أجزم أننا سنستطيع أن نصنع الكثير، وسنستطيع أن نفيد كثيراً، لكن المشكلة أن الأستاذ أحياناً يشعر أن دوره محصور داخل الطلاب الذين يشاركون معه في الجمعية فقط، والطالب يشعر أن دوره مع زملائه فقط في الجمعية وفي حلقة القرآن، أما القطاع العام فليس لنا دور تجاهه، بالعكس فهؤلاء أكثر وأحوج إلى جهدنا وإلى طاقاتنا. أقول: عندما نعتني بالقضية سنكتشف وسائل، ونبتكر أساليب، ونستطيع أن نصنع الكثير الكثير، لكن عندما تكون القضية فعلاً هما يعنينا ونعتني به جميعاً. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، ويرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

مشكلة الخجل في الدعوة

مشكلة الخجل في الدعوة Q أنا شاب ملتزم، وأحب الدعوة إلى الله، ولكني أعاني من مشكلة الخجل، وكثيراً ما تمنعني عن الدعوة إلى الله، فما نصيحتكم لي؟ A يجب أن تعلم أولاً: أنه ليس هناك مشكلة إلا ولها حل. ثانياً: أنك هو الرجل الوحيد القادر على حل هذه المشكلة، ومشكلة الخجل تحتاج إلى أن توجد عند نفسك شجاعة وجرأة، وتعتاد وتتجرأ تدريجياً؛ حتى تستطيع أن تواجه. والآن مشاهد تمر علينا كثيراً، فأحياناً نوعية من الطلاب السيئين تجده يتصرف تصرفات غير لائقة، فيعصي الله أمام الناس ويستعرض بها ولا يستحي أبداً، وأحياناً أشياء في غاية الوقاحة. فلماذا -يا أخي- هذا ما يستحي، وأنت تستحي وأنت صاحب الخير؟! فالأولى أن يستحي صاحب المعصية، وأن يكون صاحب الخير هو الرجل الجريء، وأنا لا أريدك أن تلقي كلمات في الفصل، أو تقوم في درس الإنشاء وتلقي كلمة، وإن كان عندك استعداد لهذا فهذا طيب جداً. لكن -يا أخي- أتعجز أن تمسك أحد زملائك وتقول له كلمتين، حتى بلغتك الدارجة، لا يحتاج إلى أنك تتكلف له اللغة الفصحى، فتقول له: يا أخي! عيب عليك، وأنت إنسان لابد أن تفكر في حياتك، ووضعك هذا لا يرضاه الله ولا رسوله، أما فكرت يوماً من الأيام أن تغير وضعك؟! هذا الكلام أتصور أن أشد الناس خجلاً وحياءً يستطيع أن يقول هذا الكلام. وإذا قد بلغ بك الحد إلى أنك لا تستطيع أن تتكلم نهائياً فيمكن أن تأخذ شريطاً وتعطيه له، أو تكتب له رسالة خاصة وتعطيها إياه، لكن أظن أنه لن يبلغ بنا الحد من الخجل والحياء إلى أن الإنسان لا يجرأ أن يكلم الآخرين أبداً، والحياء مطلوب، والحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء من الإيمان؛ لكن أن يكون عائقاً عن أداء الواجب الشرعي فلا. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وخير الناس حياءً صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما كان يعوقه الحياء أبداً عن أداء هذا الواجب، فلابد أن نتخلص من هذا بالتمرين، فيتعود الإنسان مرة ومرتين وثلاث مرات؛ حتى يعتاد بعد ذلك. فمثلاً: الطفل عندما يريد أن يمشي يجد صعوبة، فيقوم ويسقط، ويقوم ويسقط؛ حتى يعتاد، وأنت عندما تريد أن تقود السيارة تجد أنك تتعب كثيراً، وقد يحصل لك بعض الحوادث وبعض الإصابات، لكن تتحمل، وبعد فترة تقود السيارة، فمثلاً: لو أعطيتك السيارة فقلت: أنا لا أعرف أن أقود السيارة ولا أستطيع، أعطوني حلاً، فإنه لا يوجد حل إلا أن تتعلم، وتقع في الخطأ، وتتحمل بعض النتائج، حتى الرياضة التي يمارسها الإنسان كالسباحة، فعندما تريد أن تتعلم السباحة لابد من أن تحاول. كذلك إذا أردت أن تزيل هذا الخجل لا يوجد وصفة طبية، أنت الذي تستطيع أن تعالج نفسك، وأن تحل لنفسك، وعندما تمارس القضية تدريجياً تجد أن هذا الخجل قد زال، وأحياناً تشعر بأنك تحتاج إلى قدر من الحياء يضبطك أكثر.

الاعتذار عن الدعوة بقلة العلم

الاعتذار عن الدعوة بقلة العلم Q أنا أود الدعوة في المدرسة، لكن إذا كان الداعي ليس عنده علم كافٍ للدعوة، فكيف يدعو؟ A هذا سؤال غريب جداً، فمجالات الدعوة مجالات واسعة، وعندما أطالبك أن تتصدر وتخطب، أو تحاضر، أو تؤلف، حينئذٍ نقول: لابد أن تتحدث بعلم، لكن أنت في واقع تشاهد انحرافات أمامك تعرف أنها حرام، وأنها أمور محرمة. فمثلاً: ترى الطالب في المدرسة يقع في أشياء تعرف أنها حرام، هل هذه تحتاج إلى علم؟! هذه لا تحتاج أنك تحفظ آية من كتاب الله، ثم كلام لأحد الصحابة، أو كلام لأحد التابعين وأحد السلف والإجماع، ونقل هذا الكلام فلان في كتاب كذا وكذا، لا نحتاج إلى كل هذا، نريدك أن تقول كلمة واحدة، لا تحتاج إلى علم، فهناك أحياناً مواقف ومنكرات يعرفها كل مسلم لا تحتاج إلى مزيد من العلم، صحيح أن العلم له دور، وكلما كان الإنسان عنده علم؛ استطاع أن يؤثر على الآخرين. لكن أظن أنك لن تحتاج إلى أن تملك رصيداً من العلم حتى تدعو فلاناً من الناس أن يترك هذا المنكر الذي يقع فيه، وحتى تقول لفلان من الناس: لماذا لا تفكر في تصحيح ما أنت عليه؟ وهل يصل بك الحد من الجهل إلى أنك لا تستطيع أن تفرق بين فلان أهو مستقيم أو غير مستقيم؟! فإذا وصلت إلى هذا القدر، فأنت حينئذٍ معذور. لكن أظن أن كل واحد منا يعرف هذا الشيء، فيعرف المحرمات الظاهرة، ويعرف الواجبات التي يقصر فيها الآخرين، فلا تكون هذه القضايا عائقاً. ونحن نريدك أن تدعو بالعلم الذي عندك، ولا نريدك أن تفتي بغير علم، لكن عندما أطالبك بالدعوة لا أريدك أن تعقد دروساً داخل المدرسة، ولو عقدت درساً فلن يأتيك أحد. لكن أريدك أن تنكر المنكرات الواضحة، فالآن قضية الفساد الأخلاقي نشاهدها في كل وقت، في الشارع، وفي المدرسة، وفي كل مكان، وأحياناً في الفصل، هل هناك أحد لا يعرف أن هذه قضايا محرمة؟ لا أظن أحداً بلغ به الحد من الجهل إلى أن يجهل هذه القضايا، فتستطيع أن تفرق بين فلان المستقيم وفلان غير المستقيم، هذه كلها لا تحتاج إلى علم. وقضية أني أدعي الخجل، وأن ليس عندي علم، كل هذه أحياناً حيل نفسية نحاول أن نقنع بها أنفسنا، ونتهرب بها من مسئوليات الدعوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، وهذا خطاب لكل الناس. فأقول: يجب أن نزيل هذا الوهم من أنفسنا، ويشعر كل مسلم أنه قادر أن يدعو إلى الله عز وجل. لو كان -والله- كل إنسان يشعر بهذا الواجب؛ لاستطعنا أن نصنع الشيء الكثير، ومهما بلغ الإنسان من قلة الثقافة والعلم، فهو قادر أن يقول مثل هذا الكلام، وقادر أن يصنع هذا الشيء، فهذه من وسائل التهرب من المسئولية، ومن وسائل الدفاع عن النفس فقط. ولا يعني هذا أن نهمل العلم، فالعلم ضروري ولابد منه، ولابد أن نعتني ونستغل وقت الشباب لتعلم العلم، لكن لا ينبغي أن تكون هذه عوائق وحواجز لنا عن الدعوة، وعن إنكار المنكرات، وعن نشر الخير.

التخصص والدعوة

التخصص والدعوة Q بعض الشباب يكون تخصصه سبباً في ضعفه في الدعوة كالتخصصات العلمية، فما نصيحتك لهم؟ A ليس صحيحاً، فأنا أولاً لا أتخاطب مع الإنسان الذي يريد أن يأخذ تخصصاً علمياً لكي يشتهر، أو تكون له مكانة اجتماعية، فهذا شخص آخر ليس لنا معه لقاء، لكني أريد الإنسان الذي يختار التخصص سواء من ناحية الدراسة أو العمل وهو يشعر أنه يريد أن يخدم الأمة، فنحن في واقع حرج، وضع الأمة ووضع المجتمع لا يحتمل أننا لا نفكر إلا بمصالحنا الخاصة. فأنا أقول: ما لم يكن هم الدعوة وهم المسلمين يتدخل في تقرير قضية الدراسة، وتقرير مجال العمل، وتقرير أحياناً مجال السكن، فيشعر أن هذا المجال يحتاج، وهذا التخصص يحتاج، ويربط كل هذه القضايا بالدعوة، ويضحي ببعض المزايا، فإذا لم نصل إلى هذا الحد فلن نقدم للدعوة ما تستحق. ولهذا فأنا أخاطب الإنسان الذي يتخصص تخصصاً علمياً؛ لأنه يشعر أنه يريد أن يخدم الأمة من خلاله، وأي إنسان مهما كان حتى الرجل صاحب الحرفة اليدوية التي يمتهنها الناس يستطيع أن يخدم الأمة، لكن عندما يتقي الله، ويعي الصورة. فأنا أقول: أنا لا أريد هذا المتخصص في تخصص يأخذ عليه جزءاً كبيراً من وقته أن يصنع مثلما يصنع الآخرون، أن يقرأ ويحضر ويلقي محاضرات، ولا يعني هذا أن هذا هو الدور، وإن كان هذا دوراً مطلوباً، لكن ليس مطلوباً من كل إنسان. فأنت داخل كليتك نريد أن يكون لك دور مع أعضاء هيئة التدريس، فأنت طالب جامعي وأصبحت على قدر تستطيع أن تؤثر عليهم، وأن تحملهم أفكاراً للإصلاح والدعوة، ومع زملائك، ثم بعد ذلك في مجال العمل، نريد أن يرى الناس أن هذا المهندس وهذا الخبير إنسان فعلاً يوثق فيه، وإنسان يتحمل المسئوليات، فبدلاً من أن يأخذ الموقع إنسان يجعله فرصة أن يأخذ رشاوى، ويستفيد هنا وهناك، نريد أن يوجد إنسان عفيف فعلاً، يثبت للناس أن الناس الأخيار هم الأولى بمثل هذه الأمور. أنا أقول: يستطيع مهما كان ولا يشغله، لكن هذا الوهم نتصوره عندما نقارن أنفسنا بجهود الآخرين، يا أخي! لا تقارن نفسك بجهود الآخرين، فأنت لك ظروف معيشية معينة، أو ظروف دراسة، أو ظروف سكن، ومهما كانت الظروف الاجتماعية أقلم نفسك على هذه الظروف، واسع إلى خدمة الدعوة من خلال هذه الظروف، وهذا الجو، وهذا المحيط الذي تسعى إليه.

كيفية التعامل مع المدرس الشيعي

كيفية التعامل مع المدرس الشيعي Q يدرسني في المدرسة مدرس شيعي، ويأتي بعض الأحيان بأمور مخالفة، فكيف أتعامل معه؟ A يقولون: ثبت العرش ثم انقش، فالأصل أن الرافضة لا يتولون هذه المقامات، فيجب أن يكون عندنا ولاء، وأن نساهم نحن في علاج مثل هذه المشاكل، فهؤلاء الرافضة يعتقدون أنكم كفار، ودماءكم مباحة، والرافضي يعتقد أن مالك إذا ظفر به بصورة أو بأخرى فهو حلال له، لكن يعطي الخمس لأحد طواغيته الذين يسمونهم الشيوخ، والباقي له، ويعتقدون أن أهل السنة كلهم أولاد زنا. المهم أن موقف الرافضة من أهل السنة موقف يجب أن نوضحه للناس جميعاً، وأريدكم أن تقرءوا كتاباً يعكس صورة، ولا يعطي كل المعلومات حول هذا، وهو كتاب جيد: (برتوكولات آيات قم حول الحرمين الشريفين) يعطيك صورة فعلاً للنظرة والعقلية التي يفكر فيها الرافضة، فنحن في وادٍ وهم في وادٍ آخر. فأتصور أننا عندما نعرف هذه القضايا تهون عندنا بعض المخالفات، لكن مهما كان لا يجوز أن نرضى أن هذا يتجرأ ويسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد رافضي إلا ويسب الصحابة، ولو قال لك غير ذلك فهو يقول لك خلاف ما يبطن. ولا يليق أبداً في بلد التوحيد وعند أهل التوحيد أن يأتي هذا الرافضي ويسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقع في شيء من هذا يجب أن ننكر، ويجب أن نقف، ونطالب بوضع هذا الرجل عند حده، إما ألا يتكلم في هذه الأمور، أو أن يوضع عند حده، ونقدم شكوى إلى الإدارة أو إلى المحكمة أو إلى هيئة الأمر بالمعروف، ولو جاء واحد وسب أباك وأهناك ستذهب تشتكي وتطالب، ويعزر ويؤدب. فيا أخي! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من آبائنا، ولا يوجد رافضي -خاصة في هذا العصر- إلا ويعتقد أن أبا بكر وعمر هما الجبت والطاغوت، والكثير منهم يعتقد كفرهما، وهذا محب الدين الخطيب لما تناقش مع أحد الرافضة في الأزهر، قال له: هل أنتم تعتقدون إمامة أبي بكر وعمر أجبني بدون تقية، قال: ما تحت هذه القبة رجل يعتقد الإسلام في أبي بكر وعمر فضلاً عن أن يعتقد إمامتهم. فأنا أقول: لا ينبغي أن يسمح لهؤلاء -فعلى الأقل وأضعف الإيمان- أن ينشروا ما عندهم. وعندما يتجرأ أحدهم ويقول مثل هذا الكلام لا ينبغي أن نسكت، ولا يليق أبداً أن يكون لهؤلاء صوت في بلد التوحيد وبلد الحرمين، فالكلمة ليست هنا إلا لأهل التوحيد وأهل المنهج الحقيقي.

الازدواجية في صحبة الأخيار والأشرار

الازدواجية في صحبة الأخيار والأشرار Q يسأل هنا عن الشاب الذي يعيش ازدواجية في صحبته للأخيار وصحبته للأشرار. A غالباً مثل هذه الحالة يتجاذبها جانبان: جانب خير يدفعه إلى أن يصاحب الأخيار، وجانب شر وميل للشهوات يدعوه إلى مصاحبة السيئين، فهو لما غلبه. فعندما نجد مثل هذا الشاب عندنا وسيلتان: أولاً: أن نقوي إيمانه، ونقوي جانب الخير فيه؛ حتى يتخلى ابتداءً عن أولئك. ثانياً: أن نحرص عليه، ونحرص أن نجلس معه، ونبقى معه، فبدل من أن يجلس في المدرسة يأكل مع فلان وفلان من السيئين، لا نجلس نلومه، ونجلس نقول له: فلان يذهب مع السيئين، فالحل العملي أني أذهب أنا وإياه، فنشكل له حماية بصورة أو أخرى غير مباشرة من الناس السيئين. فأقول: أمامنا وسيلتان لعلاج هذه الظاهرة: الأولى: تقوية إيمان هذا الشاب؛ حتى يصبح فعلاً يمقت أهل الشر. الثانية: محاولة ملء وقته ومصاحبته؛ حتى لا يبقى بعد ذلك وقت لأولئك. أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لطاعته، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

درس في العفة

درس في العفة العفة عن الفاحشة والابتعاد عن المعصية خاصة مع توفر الدواعي وسهولة الوصول إليها وانتفاء الموانع فضيلة عظيمة تجعل المرء ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وقد ضرب سيدنا يوسف عليه السلام أروع الأمثلة في ذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه وغلقت الأبواب وتهيأت له.

أعمال ميدانية في الدعوة إلى الله

أعمال ميدانية في الدعوة إلى الله الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهذه هي المحاضرة الثانية من الدروس التربوية التي اتفقنا أن تكون بمشيئة الله أول أحد من كل شهر، وبين يدي في الواقع بعض الأمور التي أود أن أشير إليها قبل البدء في المحاضرة، منها: أننا اقترحنا بعض البرامج في المحاضرة السابقة، وأفادني بعض الإخوة أنهم طبقوا بعض هذه البرامج، منها ما وردتني رسالة من أحد الإخوة قال: أولاً: وزعنا مجموعة أشرطة أو كتيبات فكانت ردة الفعل جيدة جداً بل ممتازة وجمعيهم يدعون للمهدي ويشكرونه ولم يشذ إلا واحد وضعها فوق لوح السبورة. فهذا يذكر أن جميع طلاب الفصل عندما وزعت عليهم هذه الأشرطة شكروا وقدروا وأنهم كلهم استجابوا ما عدا شخصاً واحداً وضع هذا الشريط فوق لوح السبورة. ويقول أيضاً: إنه كلم بعضهم عن بعض بالقضايا الأخلاقية التي كانت منه سراً فأبدى تجاوباً ملحوظاً وبعضهم كلم في المرة الأولى فلم يستجب فلما كلم مرة أخرى أبدى استجابة كبيرة جداً. وأيضاً يقول: إنه جمع مبلغ مائة وعشرين ريالاً من أربعة أشخاص في الفصل واشترى بعض الكتيبات والأشرطة للفصل. على كل حال أشكر الإخوة الذين قدموا هذا الشيء ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملهم خالصاً لوجهه، وفي الواقع ذكر لي أكثر من واحد من الإخوة أنهم طبقوا هذه الطريقة وكانت ناجحة، وأنا أذكرها من باب حث الإخوة جميعاً على المساهمة، فإن الأخ عندما يرى غيره قد عمل وقد كان لعمله نتيجة وثمرة فإن ذلك يدعوه لا شك إلى أن يعمل أكثر، فعندما يطرح اقتراح محدد يعطي دافعاً، لكن أن تعرض تجربة عملية قد طبقت فهذا يعطي دافعاً أكبر. ومن هنا فأنا أحث الإخوة جميعاً على أن يحرصوا على ما يطرح من برامج أو أن يبتكروا برامج، وكذلك أحثهم على تزويدنا ببعض هذه النتائج مما له أثر طيب حتى تقرأ على الإخوة الحاضرين فيتشجعوا ويشعروا بأن هذه الأمور سيكون فيها إن شاء الله خير كثير. هذا الدرس سنركز فيه على قضايا الشباب، ولكن هذا لا يعني أن نقتصر عليها وحدها؛ ولهذا رأينا أن يكون اسم هذه السلسلة: دروس تربوية. وبين يدي مجموعة من الموضوعات تكاد تكون متكاملة وهذا لا يعني أنني أستغني عن مواصلة الإخوة ومشاركتهم لي بما لديهم، فلدي موضوع بعنوان: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع بعنوان: حصاد الأفلام، وموضوع بعنوان: سد ذرائع الفاحشة، وموضوع بعنوان: إذ تلقونه بألسنتكم، وموضوع: الشباب والمشكلات، وموضوع: عدم الثقة بالنفس، وموضوع: من آفات النجباء، هذه كلها موضوعات تكاد تكون شبه متكاملة، لكني أطلب من الإخوة أن يواصلوني ويعطوني مما لديهم من أفكار أو معلومات، وخاصة في الموضوعين الأولين: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع: حصاد الأفلام، فلدي رصيد طيب من المقالات والإحصائيات وغيرها، لكن إذا كان أحد من الإخوة لديه أي معلومات حول الموضوع أو مقترحات فيزودنا بها؛ لأن المقصود هو فائدة الجميع. وكذلك أيضاً إذا كان أحد الإخوة يقترح موضوعاً معيناً أو بعض الأفكار التي يرى طرحها ولو ضاق عنها هذا الدرس فإننا يمكن أن نطرحها في محاضرة أخرى، أو يستفاد منها في مناسبة أخرى. هذا الموضوع التي سنتحدث عنه هو درس في العفة، وفي الواقع إن من أشد ما يعاني منه الشباب -خاصة في هذا العصر- مشكلة الشهوات، ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار بواعث الفتنة والمثيرات وتنوعها وكثرتها، وفي خضم مثل هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة لنفسه الأمارة بالسوء وهذه الغرائز. وهذا الموضوع لي معه قصة قديمة: فقد كنت ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان: الشباب والشهوة، ثم بعد ذلك أصدرت كتيباً وكان عنوانه: أخي الشاب كيف تواجه الشهوة، وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلي رسائل كثيرة جداً، رسائل بريدية وأحياناً مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشاكل كثيرة حول هذا الموضوع مزعجة، ومنها رسائل أتتني من خارج المملكة، أما من خارج مدينة الرياض فهي كثيرة جداً ويكاد يكون بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعياً منذ أن صدر الكتاب إلى الآن، وأحرص أن أرد على كل رسالة ترد إلي ولو تأخرت في ذلك، ولكن في الواقع هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعوراً بأن الموضوع ذو أهمية، وما كنت أظن أنه سيبلغ هذا الصدى وهذا الأثر عندما طرقته مما يشعر بأن الشباب لا يزالون يحتاجون وأن الشباب فعلاً يعانون من هذه المشكلة. وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن المشكلة أن الكثير من الشباب عندما يبعثون لي بالرسالة يقول: أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب، مع أني لو قرأت جزءاً منها فإنني لن أشير من قريب ولا بعيد إلى واقع مثل هذا الشاب، لكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذ

عوامل إغراء سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة العزيز

عوامل إغراء سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة العزيز أما عوامل الإغراء: فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام، وحتى نعرف كيف كان هذا ابتلاءً لنبي الله لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام، وهي عوامل يستطيع كل واحد منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتخيلها في ذهنه، وقد أشار الحافظ ابن القيم رحمه الله إلى عدة أمور أوصلها إلى ثلاثة عشر كلها كانت وسائل تغري وتثير وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقف. أولها: العامل الطبعي، يعني: أن الرجل يميل إلى المرأة أصلاً، وكل الرجال -إلا من شذ- عنده هذه الشهوة. العامل الثاني: كونه شاباً، ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره، ومع زيادة الشهوة عنده فقدرته على ضبط نفسه وعلى الانتصار على نفسه أقل من قدرة غيره، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر. وتعرفون أنتم أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير، ثم بعد ذلك أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [يوسف:22 - 23] المهم أنه لا يهمنا الآن كم كان سن يوسف لكنه كان ولا شك قريباً من العشرين يزيد عنها قليلاً أو ينقص عنها قليلاً، المهم أنه في زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة. العامل الثالث: أنه كان أعزب لم يتزوج بعد، ولا شك أن هذا أيضاً أمر له أهميته، فالمتزوج قد يسر الله له طريق الحلال والطريق الشرعي، فلو أثاره ما أثاره فأمامه المصرف الشرعي، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية من غيره. ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). العامل الرابع: كونه في بلد غربة، فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله فإن هذا يدعوه أن يمارس ما يمارس خاصة عندما يتركهم وهو في سن الطفولة، فليس هناك وازع يمنعه. فوجود الغربة لا شك أنها تدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي قد تقيده وتحجمه، وكما نشاهد الآن أن المرء إذا اغترب عن بلده أصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند بني قومه وأهله وعشيرته. العامل الخامس: أن المرأة ذات منصب وجمال، أما كونه ذات منصب فهذا واضح، وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن العادة في مثل العزيز أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال. العامل السادس: كونها غير ممتنعة ولا أبية، فإن مما يصد المرء أحياناً عن مواقعة المعصية أن تتمنع المرأة وتأبى، وهي هنا غير ممتنعة. العامل السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة، فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه، فإن الشاب مثلاً قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية لكن أمامه عقبة، وعندما يتجرأ فيصرح برغبته ويطلب ذلك فإنه يقابل عقبة قد تكون كبيرة، وقد تكون حائلاً دون مواقعة المعصية، أما الآن فقد زالت هذه العقبة، بل المرأة قد أبدت رغبتها وصرحت وراودته ودعته وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له فاجتمع له الترغيب والترهيب كما سيأتي. فحينئذ حتى ولو كان الشاب ليس لديه رغبة ابتداءً فإن مثل هذا الموقف يثير الرغبة لديه. العامل الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى أذاها إن لم يطاوعها فاجتمع له الرغبة والرهبة. العامل التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراغبة، فالمرء قد يترك المعصية لا خوفاً من الله عز وجل إنما يخشى من الفضيحة ويخشى من نتائج المعصية في الدنيا، أما الآن فهو لا يخشى فالمرأة هي الراغبة وهي الداعية، فحينئذ يكون في أمان من أن يفتضح ويشتهر أمره. العامل العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يورث طول الأنس. فهو مملوك يقابلها كل يوم ويلقاها ويخدمها ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، بل لا شك أن هذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره وهذا يكون أدعى إلى أن تثور لديه الرغبة، بخلاف من يلتقي بفتاة لأول مرة أو يرى صورة عارية لأول مرة. العامل الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر والاحتيال وهن النساء، فإن النساء عندما كدنها: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف:30 - 31] فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل منهم من قال: إن كيد المرأة قد فاق

وقفة مع ما ذكر في القرآن من هم يوسف بامرأة العزيز

وقفة مع ما ذكر في القرآن من هم يوسف بامرأة العزيز هناك وقفات حول القصة: وهي قضايا تحتاج إلى أن نوضحها ونقف حول ما ذكره المفسرون في هذه القصة ثم نعود بعد ذلك إلى قوارب النجاة والأمور التي استمسك بها يوسف عليه السلام فنجا. أولاً: يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فهنا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن يوسف هم بالمرأة. أما كونها همت به فهذه قضية واضحة لا إشكال فيها، ولكن الإشكال هنا أن يوسف عليه السلام هم بالمرأة، فما معنى الهم هنا؟ أقوال المفسرين كثيرة حول هذه القضية نشير إليها بإيجاز، ثم نختار بعد ما يظهر أنه يليق بمقام أنبياء الله. هناك مقدمة لا بد منها، وهي: أننا نعتقد نزاهة أنبياء الله ونزاهة يوسف عليه السلام، ويوسف ما عرضه الله سبحانه وتعالى في هذه القصة؛ إلا أنه نموذج ومثل يحتذى، ولا ينبغي أن ننساق وراء الأقوال التي يذكرها بعض المفسرين والتي كثير منها منقول عن بني إسرائيل، وفيها أحياناً اتهام ليوسف، وفيها كما قال سيد قطب رحمه الله تصوير لا يليق بنبي الله عز وجل يوسف وقد أسرف بعض من تحدث في هذه القصة وأطال في ذكر الإسرائيليات أحياناً لا تليق بمقام أنبياء الله: ومن ذلك ما يذكره بعضهم أن أحدهم دعته أعرابية فامتنع فرأى يوسف في المنام فقال: من أنت؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت وأنت لم تهم، فكأن مثل هذا يجعل نفسه أفضل وأعلى من منزلة يوسف عليه السلام، ومن أجمل ما قيل فيها ما قاله شيخ الإسلام، قال: هب أن يوسف قال هذا الكلام في اليقظة فإنه يقوله تواضعاً كما يقول المرء: فلان خير مني، ويقول: أنا ظالم لنفسي وأنا مقصر، ولكن مهما كان لا يمكن أبداً يكون مثل يوسف عليه السلام. المهم: أننا عندما نقرأ في التفسير سواء حول هذه القصة أو غيرها يجب أن لا ننساق وراء بعض الإسرائيليات أو الروايات، وعلينا أن نقرأ مثل هذه الأمور ونتعامل معها بروح التقدير واعتقاد العفة والمنزلة العالية لأنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه. هنا قيلت أقوال كثيرة منها: أنه هم بهذه السيئة ولم يعملها حين حدثته نفسه لكنه لم يعمل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة كاملة) وقالوا: فالهم هنا مثل الصائم يرى الماء البارد فهو يحدث نفسه أن يشرب الماء البارد لكنه لا يقدم على ذلك؛ مخافة من الله سبحانه وتعالى، وقالوا: فهذه حسنة يثاب عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب السيئات والحسنات فمن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة). ويقول شيخ الإسلام: إن الله عز وجل لم يذكر عن أي نبي من أنبيائه أنه وقع في معصية إلا وذكر أنه تاب منها واستغفر منها فهو هنا لم يذكر أن يوسف تاب واستغفر، وهذا دليل على أنه لم يقع منه أي معصية. القول الثاني: قالوا: أنه هم بضربها. القول الثالث: أنه حدث نفسه أن تكون زوجة له، فإنه لما رأى جمالها ومنصبها قال: ماذا لو كانت هذه زوجة لي. الذي يقول هذه الأقوال يعتقد أن يوسف عليه السلام بعيد عن كل هذه الأمور ويحاول أن يدافع عنه وينزهه، فيحاول أن يجد مخرجاً يلجأ إليه. وهناك قول آخر ذكره أبو حيان واختاره الشنقيطي في أضواء البيان وأطال في استظهار هذا القول، قال: إن يوسف لم يقع منه الهم أصلاً؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] و (لولا): حرف امتناع لوجود، فهو هنا قد امتنع منه الهم؛ نظراً لأنه رأى برهان ربه، وكأن الكلام فيه تقديم وتأخير فيكون: ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، مثل قول الله عز وجل: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] فهي لم تبد به أصلاً لأن الله ربط على قلبها، فحينئذ يقول: إن يوسف لم يهم أصلاً لأنه رأى برهان ربه، وهو قول له وجاهته كما ذكر أبو حيان وكما ذكر الشنقيطي ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى أضواء البيان. وفعلاً: عندما تتأمل في هذا القول تجده قوياً ووجيهاً فهو نظير قول الله عز وجل: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10]، فهي لم تبد به أصلاً؛ لأن الله قد ربط على قلبها وحينئذ يكون يوسف عليه السلام لم يهم؛ لأن قد رأى برهان ربه. ولو لم يصح هذا القول فإن القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه هو أن يوسف عليه السلام حدثته نفسه كما تحدث نفس الإنسان في أي معصية لكنه لم يفعل شيئاً. أما ما يذكرونه من أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ثم رأى صورة يعقوب ثم أقدم، ثم رأى كفه ثم أقدم، حتى دفعه جبريل بيده كما قال سيد رحمه الله، قال: يخيل يوسف قد بلغ منه الشهوة والاندفاع لحد أنه لا يمتنع حتى يدفعه جبريل عليه السلام، هذه قضية أب

معنى البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام

معنى البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام الوقفة الثانية: ما المقصود ببرهان ربه: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]؟ ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة منها: أنه رأى صورة يعقوب عاضاً على أنامله. منها: أنه رأى كف يعقوب. منها: أنه رأى آية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، ومنهم من قال: إنه رآها مكتوبة على جبهتها وقيل: رآها مكتوبة على الحائط وقيل: إنه خرجت له كف مكتوب فيها: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) ثم لم يمتنع، ثم خرجت له كف مكتوب فيها: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] ولم يمتنع حتى جاء جبريل ودفعه، وهذا كما قلنا لا يليق أبداً بحال يوسف عليه السلام. منهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك. ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة فجاءت تغطيه، فقال: لماذا؟ قالت: أستحي من إلهي، قال: وأنا أحق أن أستحي. على كل حال: كل هذه الأقوال ليس عليها دليل صحيح، وكلها مرويات عن بني إسرائيل، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان فيه حاجة لأخبرنا الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أبهمه: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]. وإنما ذكرناها؛ لأني أعرف أن هناك من يتساءل عنه، وهي قضايا كثيرة أحياناً يوقف عندها، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13] من هم أصحاب القرية؟ في قصة أصحاب الكهف مثلاً {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ما لون الكلب وما اسمه ومن فلان؟ هذه أمور أبهمها الله عز وجل فلا حاجة ولا مصلحة إلى أن نفتش عنها، ومهما ذكرها المفسرون، بل يجب أن نتعامل مع مثل هذه الآيات ومع مثل هذه القصص كما ذكرها الله في كتابه، فنقول: رأى يوسف عليه السلام برهان ربه، وهذا البرهان لا يعنينا بقليل ولا بكثير، المهم أن الله وفقه وأعانه فرأى هذا البرهان. يقول ابن جرير رحمه الله: وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى والإيمان به وترك ما عدا ذلك إلى عالمه. يعني: الصواب أن نقول: إن يوسف رأى برهان ربه، أما ما يروى عن بني إسرائيل فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم). قضية أخرى: قال الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26]. نفس الكلام نقوله في الشاهد، ومن هنا: فأرى أنه ليس هنا حاجة للاستطراد في قضية الشاهد، وما قاله المفسرون هنا حول الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج، فهذا أمر أبهمه الله، ولم يذكر: هل هو رضيع هل هو رجل كبير هل هو القميص والمهم: أن الله وفقه ومنَّ عليه فرأى برهان ربه فأعانه الله سبحانه وتعالى وحفظه فرأى هذا الشاهد فحماه الله سبحانه وتعالى. القضية الرابعة: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، ما المقصود هنا بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي)؟ الأظهر أن قوله: (إِنَّهُ رَبِّي) يعني: العزيز، يعني: سيده، وهذا أمر كان مستعملاً عندهم فقد قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف:50] {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف:41] {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] كل هذه مقصود بها: العزيز. إذاً: فقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] أي: إن العزيز قد أحسن مثواي وأكرمني فلا يليق أن أخونه في أهله، لكن لماذا قال يوسف عليه السلام لما دعته إلى نفسها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] فاعتذر بهذا العذر، فلماذا لم يخوفها بالله، والمانع الحقيقي الذي منع يوسف عليه السلام هو الخوف من الله؟ قال شيخ الإسلام وغيره: إن المرأة هنا امرأة مستحكمة الشهوة لا تخاف الله عز وجل، فلو خوفها بالله لم ترتدع لكنه هو يريد أن يصرفها عن نفسه بأي وسيلة، فأراد أن يخوفها بزوجها فقال: إن هذا الزوج هو ربي وسيدي وأحسن مثواي وأكرمني فلا يليق بي أن أخونه في أهله، كان يظن يوسف عليه السلام أن زوجها يملك قدراً من الغيرة أو عنده بقية من الغيرة فحينئذ المرأة قد لا تخاف من الله عز وجل لكن عندما يخوفها بزوجها حينما يعلم عنها قد ترتدع. وهذا فيه درس أن الإنسان يصرف الفتنة عنه ولو بما دون ذلك، أي: قد يذكر فلاناً من الناس أو يحدثه أو ينصحه ويعظه بما هو دون ما ينبغي، فهو مثلاً قد لا يرتدع من خوفه من الل

ما يدل على براءة يوسف عليه السلام

ما يدل على براءة يوسف عليه السلام أخيراً: برأ الله سبحانه وتعالى يوسف هنا، وهنا عدة أمور تدل على براءة يوسف عليه السلام: أولها: تبرئة الله سبحانه وتعالى له، وأعظم بها شاهدة! {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. الأمر الثاني: الشاهد، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] فقد برأه الشاهد هنا. الأمر الثالث: العزيز نفسه، فإنه لما حصلت القضية قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] فهذا دليل على أن العزيز يعترف فعلاً ويرى أن يوسف بريء من هذه التهمة. كذلك المرأة نفسها قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وفي الآية الأخرى: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]. كذلك النسوة: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] فماذا قال النسوة؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:51]. كذلك هو نفسه عليه السلام تبرأ من هذه التهمة: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف:23]. وأخيراً قالوا: إن الشيطان أيضاً قد شهد ليوسف بالبراءة: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] والله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فقد حكم الله ليوسف بأنه من المخلصين، والشيطان قد أخبر بأنه ليس له سلطان على هؤلاء المخلصين.

قوارب النجاة

قوارب النجاة بعد ذلك ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: قوارب النجاة. ما هي الأمور التي تمسك بها يوسف عليه السلام فكانت بعد توفيق الله عز وجل سبباً لحمايته ولنجاحه في هذا الابتلاء: أول أمر: الورع والخوف من الله عز وجل: والخوف من الله سبحانه وتعالى هو العاصم بإذن الله عز وجل من الوقوع في أي معصية وأي فاحشة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم قال -: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله). الإنسان قد تدعوه المغريات قد يأمن عقوبة الدنيا قد تكون هناك أمور كثيرة تدعوه إلى مواقعة المعصية، لكنه عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه فحينئذ لا يمكن أن يتجرأ على هذه المعصية: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33]. فإذا أردت النجاة من معاصي الله سبحانه وتعالى صغيرها وكبيرها فرب في نفسك الخوف من الله سبحانه وتعالى، واحرص على تحصيل هذه العبادة، واحرص على أن تملأ قبلك من الخوف من الله سبحانه وتعالى وخشيته، حينئذ هذا أعظم رادع ومانع وحاجز للمرء عن الإقدام على معصية الله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: توفيق الله وإعانته، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فإنه لو لم ير برهان ربه لهم بها. ويقول الله عز وجل أيضاً في الآية الأخرى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وتأمل هذا المعنى، فإن الله لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء بل قال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، فكأن السوء والفحشاء صرفت عنه، وهذا أبلغ، وهو من تمام توفيق الله عز وجل وحفظه له؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك) فحينما يحفظ الله سبحانه وتعالى يحفظه الله عز وجل، وأتم حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا العبد أن يحفظه في أمور دينه، وأن يعصمه من الوقوع في المعصية والفحشاء. الأمر الثالث أيضاً: الفرار من أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام خشي الله سبحانه وتعالى وخافه، ورأى برهان ربه، ومع ذلك ما وقف بل فر، {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] فرأى أنه مع خوفه من الله ومع خشيته من الله عز وجل، ومع امتناعه لم يبق في هذا المقام، بل رأى أنه لا بد أن يفارق مكان المعصية وأسباب المعصية. وهذه قضية مهمة في علاج مثل هذا الداء، وهي أن ترك المرء دواعي المعصية، وأن يفعل كما فعل يوسف عليه السلام، حيث وصل به الأمر إلى أن يجري وتجري المرأة وراءه كل يريد أن يدرك الباب قبل صاحبه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) فلا تثق بنفسك وتقف! بل أغلق على نفسك أبواب المعصية، وهذا من تمام اعتماد المرء على الله سبحانه وتعالى وتمام تخليه عن الحول والطول، وشعوره بأنه لا يمكن أن يستغني عن الله سبحانه وتعالى كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين) فإنك إذا وكلك الله إلى نفسك لا يمكن أبداً أن تنجو. وكلما ازداد المرء توكلاً على الله سبحانه وتعالى وأخذاً بالأسباب وتفويضاً إليه سبحانه وتعالى كان ذلك أولى أن يحفظه الله سبحانه وتعالى ويعينه. الأمر الرابع: الدعاء، دعا الله عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، سأل الله أن يصرف عنه كيدهن، وتبرأ إلى الله من كل حول وطول (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فإذا كان يوسف عليه السلام لا يستغني عن توفيق الله وإعانة الله فغيره من باب أولى. فالدعاء هو سلاح المؤمن، وهو الوسيلة التي يتصل بها المرء بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا يخاطب الله عز وجل عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حدي

دروس من قصة يوسف عليه السلام

دروس من قصة يوسف عليه السلام أخيراً: ننتقل إلى دروس من قصة يوسف: أولاً: ضرورة البعد عن أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام بعد أن نجح واجتاز هذا الابتلاء استبق الباب وأصبح يجري يريد أن يخرج من الباب، فلا بد أن يبتعد الشاب عن أسباب المعصية ودواعي المعصية، وهذه لعلها أن يكون لها حديث إن شاء الله في محاضرة لاحقة. الأمر الثاني: ضرورة التضحية والتحمل، لا بد أن يتحمل المرء ما يلاقيه في الدعوة إلى الله، أو ما يلاقيه في طاعة الله عز وجل، أو ما يلاقيه في البعد عن المعصية. فلا بد أن يتحمل ما يعانيه في نفسه من غليان الشهوة والتوقان إليها فيعصم نفسه ويجاهد نفسه ويتحمل، بل يتحمل الأذى الذي قد يصيبه في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذات الله، وانظروا إلى النتيجة التي صار إليها يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] مكن الله سبحانه وتعالى له بعد ذلك وأثابه الثواب العاجل في الدنيا: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57]. فنتيجة هذه التضحية ونتيجة هذا التحمل لا شك أنها ستكون بعد توفيق الله سبحانه وتعالى الأجر العظيم والنجاح في مثل هذا الابتلاء، وستكون النتيجة الثمرة العاجلة التي يجدها المرء في الدنيا. كذلك من الأمور المهمة: مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأشرنا إلى ذلك. أيضاً من الأمور المهمة: دعاء الله سبحانه وتعالى والاستعانة به. الأمر الخامس: خطورة كثرة الخلطة والخلوة، فالذي دعا امرأة العزيز إلى أن تضحي وأن تتجرأ وتدعو وتُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ هو كثرة مخالطتها ليوسف عليه السلام، ومن هنا فيجب أن يحذر الشاب من كثرة مخالطة من قد تكون مخالطته سبباً للوقوع في المعصية. فإذا رأى أن مخالطة فلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية بصورة أو بأخرى فإنه عليه أن يتخفف من لقاءه بفلان من الناس أو على الأقل أن يحرص على أن لا يخلو به. وهذه مكابرة مع النفس وفعلاً يصل المرء فيها إلى حالة قد لا يوفقه الله ولا يعينه؛ لأنه لم يسلك أسباب التوفيق، فهو يرى مثلاًَ أن مخالطته لفلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية، ومع ذلك تجده يخالطه بل قد يخلو به ويجلس معه كثيراً ويبدأ يعيش في صراع، الحل: هو أن يتخلى من مثل هذا اللقاء ومن كثرة المخالطة. الأمر السادس: عدم استغناء العبد عن الله سبحانه وتعالى مهما بلغ من الإيمان والتقوى والطاعة، فالله عز وجل يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستغني عن الله سبحانه وتعالى ويحتاج إلى تثبيت الله عز وجل فغيره من باب أولى، ومن هنا: فمن أكبر المخاطر على العبد المطيع لله هو غروره وإعجابه بنفسه وتقواه وطاعته، فإنه عندما يعجب بنفسه ويثق بنفسه: أولاً: هذا بحد ذاته ذنب يؤاخذ عليه. الأمر الثاني: أنه عندما يعجب بنفسه يكله الله إلى نفسه فكأن هذا الإنسان الذي أعجب بنفسه يرى أنه مستغن عن الله وأن الناس الذين يحتاجون أن يدعوا الله ويسألوه الهداية هم أولئك العصاة أولئك الفساق أما هو فقد من الله عليه بالهداية، كما يقول كثير من الناس: أنا الآن الحمد لله عرفت الخير والشر وإنسان ماسك نفسي. وهي كلمة يقولها كثير من الشباب عندما تتحدث معه فنقول: لا يا أخي! لا عصمة لأحد إلا بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوسف عليه السلام يحتاج إلى أن يريه الله برهان ربه وأن يصرف عنه السوء والفحشاء، فأنت مهما بلغت من الإيمان والتقوى والطاعة لا يمكن أن تصل إلى منزلة يوسف عليه السلام. إذاً: فهو عندما يعجب بنفسه فإن الله سبحانه وتعالى يكله إلى نفسه. الأمر الثالث: أنه عندما يعجب بنفسه لا يأخذ بالأسباب، فالذي يجعل مثلاً الإنسان يسلك أسباب ترك المعصية ويجتنب كل دواعي المعصية ومثيرات المعصية هو أنه يخاف وأنه لا يثق بنفسه ولا يطمئن إليها أقول: فمن نتائج الإعجاب بالنفس أن هذا الذي يعجب بنفسه لا يمكن أن يسلك الأسباب التي تبعده عن المعصية؛ لأنه يرى أنه ليس محتاجاً إلى ذلك وأنه واثق من نفسه وأنه يملك إيماناً يعصمه من مواقعة هذه المعصية. الأمر الرابع: أن هذا هو سبب أول معصية وقعت وهي معصية الشيطان، فإنه لما أعجب بنفسه أضله الله سبحانه وتعالى إلى يوم الدين. ومن هنا فيجب -أيها الإخوة- أن لا نثق بأنفسنا في هذه القضية وأن نتهم أنفسنا وأن نخشى من الله سبحانه وتعالى ونكون على وجل دائماً حتى يرى المرء اليقين، ولا يمكن أبداً أن يستغني المرء عن رحمة الله عز وجل وعن توفيقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

الأسئلة

الأسئلة

الاهتمام بالمرأة في الدعوة إلى الله

الاهتمام بالمرأة في الدعوة إلى الله Q هل تتفق معي بأن المرأة المسلمة عموماً والفتاة خصوصاً مظلومة عند دعاتنا عامة، وأنت خاصة، فالمواضيع التي تخصها قليلة، وللأسف أنها متروكة للمفسدين؟ A أولاً: يعني: من الخطأ أن نطلب من إنسان كل شيء، فهذا إنسان مثلاً مطلوب منه أن يلقي محاضرات، وأن يلقي دروساً علمية، وأن يتحدث عن قضايا النساء، وأن يزور السجون ويعظ المسجونين، وأن يفعل كل شيء، ويتخيل الناس أن هذا الإنسان هو القادر على كل شيء، فإنسان وفقه الله وفتح عليه مجالاً يستطيع أن يسده فينبغي له أن يسد هذا الباب ولا يشغل نفسه بغيره، فأنا مثلاً عندي قناعة أنه ينبغي أن يكون هناك قدر من التخصص فيختص إنسان بطرق موضوعات الشباب ويتواصل معه الناس في ذلك شخص آخر يعتني بموضوعات حول الواقع ومشاكل الأمة الإسلامية شخص آخر يعتني بموضوعات المرأة وهكذا، والإنسان مهما بلغ من الطاقة والقدرة لا يمكن أن يفي بمثل هذه الطلبات، وكم أحياناً نحرج من كثير من الإخوة الذين يطلبون محاضراً ولا يستطيع الإنسان أن يلبي، فمن الخطأ أن نبدأ نحيل هذه الأشياء على الآخرين. الأمر الثاني: في النية أن أطرح موضوعاً يخص المرأة على غرار رسالة إلى شاب، ولكن نظراً لبعدي عن عالم المرأة وجو المرأة فإني احتاج إلى مزيد المواصلة حول هذا الموضوع؛ ولهذا فأنا أطلب من الإخوة ممن له زوجة أو أخت عندها معرفة بواقع النساء أن تعطينا ما تقترح من موضوعات أو من أفكار حول هذا الموضوع، نريد أن نوجه رسالة إلى فتاة غير ملتزمة على غرار الرسالة التي وجهناها: رسالة إلى شاب، وبمشيئة الله لعل هذا أن يكون قريباً. ومن هنا فأنا أؤكد على الإخوة أن يواصلوني بما لديهم من ذلك وليكن عاجلاً، الإنسان لا يمكن أن يقوم لوحده، فلا بد من التعاون.

دور الدعاة عمليا في مساعدة الشباب على العفة

دور الدعاة عملياً في مساعدة الشباب على العفة Q جميل جداً التحدث في هذه المواضيع من قبل الدعاة، ولكن عملياً ماذا فعل دعاة الأمة في مساعدة شبابنا على العفة، أظن الإجابة ستكون: لا شيء! فالمجلات الخليعة في زيادة والأفلام كذلك، هل تتفق معي أن دور الدعاة عملياً لا شيء في هذا الموضوع؟ A لا والله لا أتفق معك إطلاقاً، هذا العدد الموجود وغيره من أين جاءوا؟ يعني: نحن صراحة عندما نتحدث عن واقع لا نفرط في التشاؤم، وماذا تريد من الدعاة أن يصنعوا، فالأمر ليس بأيديهم، الأمر بيد غيرهم، لا شك أن أقول: المجلات الخليعة والأفلام تنتشر ونحتاج على الأقل أن يفرض جزء من الرقابة المفروضة على التسجيلات الإسلامية فتوجه إلى الأفلام والمجلات الساقطة، وإن شاء الله في المستقبل لدي موضوع عن الأفلام سأعرض فيه نماذج وترون ما تقوم به هذه من أدوار سيئة، لكن ماذا تريد من الدعاة أن يصنعوا؟ لا نصنع إلا هذا الشيء، وعلى كل حال لا ينبغي أن نتهم الدعاة وحدهم، أنا أقول لك: أنت ماذا صنعت؟ فالداعية يلقي محاضرة يخطب يعطي الناس برامج إلى غير ذلك؛ لكن أنتم ماذا صنعتم؟ أنا الآن أطرح هذا الرأي فأقول: الآن الأفلام والمجلات الخليعة موجودة، فلماذا لا يتفق الآن الشباب في هذا الحي أو غيره أن يرتبوا لأنفسهم برنامجاً فيزوروا كل المحلات سواء محلات الفيديو أو محلات التموينات وينصحوا أصحاب المحلات، الآن ابدأها أنت، قابل صاحب المحل وانصحه وقل له: اتق الله، فإذا جاء الأول والثاني والثالث والرابع لا بد أن يستحي ولا بد أن يستفيد. بعض الإخوة ذكروا لي أنهم في مدينة الطائف أخذوا مجموعة من الأشرطة حول الربا وكتيباً ووزعوه على جميع الموظفين في البنوك، ويقول إنه في فرع واحد فقط من هذه البنوك انسحب ثمانية وتركوا العمل في هذا البنك، فالناس عندهم خير وعندهم استعداد. فأنا أقول: من الأشياء التي نستطيع أن نصنعها نحن أن نأتي إلى هذه المحلات ونزور أصحابها ونقول لهم كلمات يسيرة، وإن شاء الله في الدرس القادم أريد أن أقرأ بعض النتائج التي حققها الإخوة فتأتينا رسائل تقول: لقد نصحنا صاحب محل فيديو وحصل كذا وكذا، وأنا أقول هذا الأمر وأنا على أمل عظيم، فلا تيأسوا يا إخوان، وخصصوا جزءاً من وقتكم لمثل هذه الأمور، وسترون النتائج إن شاء الله مثمرة.

تعلق القلب بمعصية وصاحبه قدوة

تعلق القلب بمعصية وصاحبه قدوة Q يتعلق القلب أحياناً بمعصية ما وهو يعرف ضررها، بل كثيراً ما يزدري نفسه بسبب تعلقها، وهو مما يظن أنه قدوة لغيره، فما رأيكم في ذلك؟ A إذا وقع الإنسان في معصية فذلك لا يعني أنه يحجزه عن دعوة الآخرين، بل وقوعك في المعصية لا يعفيك من المسئولية ولا من المشاركة في الدعوة، وهب أنك تقع في أي معصية فهل تتصور أن الآخرين لا يذنبون هل تتصور أن الناس لا يقعون في الذنوب؟ أنا الآن الذي تطلب مني الإجابة على هذا السؤال هل تتصور أنني معصوم؟ بل أنا أعتقد أنك خير مني وأتقى لله مني، وما من عمل أشعر أن لي أملاً فيه إلا دعوة صالحة تدعو لي بها أنت أو غيرك من هؤلاء الشباب الذين يحضرون مثل هذه اللقاءات، وأجزم أن أكثر هؤلاء أتقى وأورع لله سبحانه وتعالى مني، ولو كنت أفكر بهذا المنطق والله لم أقل كلمة واحدة، ولكن أهم شيء أن يقول الإنسان الكلمة وهو صادق من قلبه. وهب أنك تقع في معصية وتنهى الناس عنها فما الشأن في ذلك؟ هل وقوعك في المعصية يعني ألا تنهى الناس عنها؟! هذا فهم مغلوط لقول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] أو الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجبنا عن هذه القضية بالتفصيل في محاضرة سابقة بعنوان: فن التهرب من المسئولية.

مجاهدة النفس على ترك العادة السرية

مجاهدة النفس على ترك العادة السرية Q إني شاب أجلس مع ملتزمين وأحب الجلوس معهم، ولكن يوجد علي بعض الأخطاء مثل فعل العادة السرية، وإني حاولت أن أتركها ولم أستطع، فبماذا توجهني؟ A الحديث عنها يطول، لكن لا تترك الشباب الملتزمين ولا تترك الخير ولو وقعت فيها، فجاهد نفسك، وهي معصية تحتاج إلى مجاهدة شأنها شأن بقية المعاصي.

هم سيدنا يوسف قبل النبوة أو بعدها

هم سيدنا يوسف قبل النبوة أو بعدها Q إذا كان الهم من يوسف عليه السلام فقد يكون ذلك كما يحدث الإنسان نفسه بالمعصية ولكن الله عصمه وحفظه من المعصية، فيوسف عليه السلام لم يكن قد أرسل بعد؛ لأن سنه لم يبلغ الأربعين سنة، فما رأيكم في هذا الكلام حفظكم الله؟ A سواء كان قد أرسل أو لم يرسل فذلك لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، وهناك من قال إنه كان قد نبئ وهناك من قال إنه لم ينبأ؛ لكن أظن أن القضية لا تقدم ولا تؤخر، المهم: أن هذه قدوة عرضها الله لنا ينبغي أن نتأسى بها.

التذرع للمعصية بأن يوسف عصم منها لنبوته ونحن لا نملك العصمة

التذرع للمعصية بأن يوسف عصم منها لنبوته ونحن لا نملك العصمة Q ما رأيكم فيمن يقول: إن يوسف عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، والله سبحانه وتعالى أعطاه من المزايا ما تميزه عن غيره من الناس، والله سبحانه وتعالى عصمه عن فاحشة الزنا، فكيف إذا كان هو كذلك ونحن البشر غير الأنبياء لا نملك تلك المزايا التي تميز الأنبياء عن غيرهم؟ A أنت تملك قدرة، فالله سبحانه وتعالى ما أمرك إلا بما تستطيع فعله ولا نهاك إلا عما تستطيع تركه، فليس صحيحاً أبداً الاحتجاج بما ذكر في السؤال.

كيفية تربية الخوف من الله في النفس

كيفية تربية الخوف من الله في النفس Q لقد ذكرت من قوارب النجاة تربية الخوف من الله في نفس الإنسان، فكيف أربي هذا الخوف وأزيد هذا الخوف إذا نقص؟ A معرفة أسماء الله وصفاته تلاوة كتاب الله عز وجل الإكثار من العبادة التفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى التفكر في الجنة والنار كل هذه الأمور مما تربي الخوف من الله سبحانه وتعالى، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله عز وجل بتدبر وتمعن.

رسالة تحث الآباء على تزويج أبنائهم

رسالة تحث الآباء على تزويج أبنائهم Q هل من رسالة توجهها إلى الآباء حيث إن بعض الآباء لا يراقب أبناءه مراقبة جادة، فبذلك لا يحس بمعاناة أبنائه تجاه الزواج فيسارع بتزويجهم؛ وذلك لأنه متزوج ومحصن لنفسه، وكذلك بعض الشباب يخجل من مخاطبة أبيه في ذلك. A أولاً: كثير من الآباء عاشوا في عصر يختلف عن العصر الذي يعيشه الشباب الآن، عاشوا في عصر محافظ عصر لم تكن المغريات فيه والمثيرات كما هو في هذا العصر. الأمر الثاني: أن الأب قد اجتاز هذه المرحلة التي يعيش فيها الشاب معاناته، فيقيس الناس على نفسه؛ ولذلك تجد أكثر الآباء يعيشون في عالم آخر غير عالم الأبناء. واسمحوا لي أن أذكر لكم ظاهرة تتكرر كثيراً: يكون الأب متزوجاً ويأتي ليتزوج زوجة ثانية، وابنه يرغب بالزواج ومع ذلك لا يزوجه ويحتج بأنه لا يجد المال. أنا لست ضد تعدد الزوجات بل أدعو وأحث على ذلك ومن كان عنده قدرة فينبغي له أن يبادر، فهذا قدوتنا النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ ولكن أظن أن الابن على الأقل أولى وأنت قادر أن تتزوج وأن تزوج ابنك؛ لكن تجده يصرف على الزوجة الثانية خاصة مبالغ طائلة، ويستأجر له مسكناً جديداً ويؤثثه وابنه بغير زواج، وعندما تذكر له ذلك يقول: لا أجد. أحياناً يشتري لابنه سيارة فارهة بثمن باهظ والابن قد لا يحتاج إليها، ويمكن أن يأخذ سيارة متواضعة إلى أن يمن الله عز وجل عليه وييسر له مورداً بعد ذلك، فحاجة الابن إلى الزواج أعظم من حاجته إلى السيارة كلها فضلاً عن تلك السيارة الفارهة. فلا شك أنني أحث الآباء على أن يحرصوا أن يزوجوا أبناءهم وأن يتقوا الله، فهذا من مسئولية الأب على ابنه وحتى لو لم يطلب الابن فالمفروض من الأب أو من الأم أن تفاتح ابنها في ذلك وتدعوه إلى ذلك، فإن الابن قد يستحي كما ذكر الأخ السائل.

دور المدرسين في دعوة الشباب إلى الله

دور المدرسين في دعوة الشباب إلى الله Q إن المدرسين لهم دور في هداية الشباب المنحرف؛ لكن لا نرى ذلك في المدرسين وخاصة الملتزمين. A لا شك أن هنا تقصيراً واضحاً حول هذا الأمر -وأتهم نفسي أولاً- فالأستاذ له دور كبير في توجيه الطلاب، ومن هنا أخاطب إخواني وزملائي أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الطلاب الذين هم أمانة بين أيديهم، وأن يعرف المدرس أن هذا الطالب يعاني من دواعي ومثيرات الفتنة التي قد تكون في بيته، ويعيش جحيم الشهوات، فينبغي أن يكون خير معين له على الثبات، ويحرص على توجيه الطلاب وهدايتهم فلعل الله سبحان وتعالى أن يمن عليه فيهدي الله عز وجل على يديه واحداً من هؤلاء، ولو تكاتف الإخوة الأساتذة الأخيار واجتهدوا فعلاً ووجهوا جهودهم في توجيه الشباب وعنايتهم لحصل من ذلك خير كثير. ولا شك أننا أيضاً لا نظلمهم ولا نبخسهم حقهم، فالكثير الآن مما نراه من هؤلاء الشباب الأخيار الكثير هم من جهود أمثال هؤلاء ولكني أقول: إن دور الأستاذ ومسئوليته مسئولية عظيمة وأمانة في عنقه تتخرج من أمامه أجيال وللأسف يأتي الطالب أمام الأستاذ قد يدرس عنده سنة كاملة أو سنتين أو حتى ثلاث سنوات ومع ذلك لم يسمع منه إلا الحديث عن الفاعل والمفعول والحال والتمييز، أو لم يسمع عنه إلا الحديث عن الدوال والمتباينات وغيرها، حتى أحياناً أستاذ المواد الشرعية قد لا يسمع منه إلا حديثاً عن أحكام وقضايا مجردة، أما أن يخاطب الشاب بواقعه أن يخاطب الشباب بمشكلاته أن يشعر هذا الطالب أن أستاذه حريص عليه أن يشعر هذا الطالب أن أستاذه يعيش مشكلاته فهذا قليل. ومهما كان الأستاذ، سواء أستاذ مادة شرعية أستاذ لغة عربية حتى مدرس التربية الرياضية فما دام أستاذاً يتعامل مع الطلاب فعليه مسئولية، وهي فرصة أن ييسر الله للأستاذ مثل هذه النعمة أنه يعمل ويأخذ مكافأة أعلى من غيره ويلتقي بهؤلاء الطلاب ويقول لهم ما يريد، ويثقون به ويقدرونه ويتلقون منه، فهي والله فرصة أن يمن الله على الأستاذ بهذه النعمة، ونعمة ينبغي له أن يشكرها، ومن تمام شكر الله على هذه النعمة أن يستعملها في طاعة الله عز وجل، وقد يحال بينه وبين اللقاء بأمثال هؤلاء الشباب، فحينئذ يتمنى أن يلتقي بهم، فأنا أنقل هذه الرسالة بدوري إلى إخواننا.

ما يعتقد العامة في خطوط اليد

ما يعتقد العامة في خطوط اليد Q هل الخطوط التي في أيدينا الآن هن من أثر النساء اللاتي قطعن أيديهن، أرجو الإجابة؟ A مشهور عند العامة أن الخطوط التي في اليد حدثت عندما قطعت النساء أيديهن، لكن هذه ليس لها أصل فلستم كلكم من نسل هذه النسوة، ومثل هذه المسائل لا ينبغي أن ننشغل بها، سواء هذه من أثر النساء أو لم تكن فهي قضية لا تقدم ولا تؤخر.

دور الشاب المسلم تجاه قضية التلفاز

دور الشاب المسلم تجاه قضية التلفاز Q في هذا العالم وهذا العصر عصر الفتن والمزالق ما دور الشباب المسلم في بيوتهم وقضية التلفاز الذي اجتاز البيوت وانتشر في هذا البلد انتشاراً عظيماً، يدل هذا الانتشار على أشياء خطيرة، أرجو توضيح دور الشاب المسلم؟ A هو دور الشاب والأب وكل إنسان أن يخرج هذا الجهاز من بيته، وتستغرب فعلاً من المنطق الذي يحتج به الآباء لبقاء هذا الجهاز، يعني: شاب عنده شهوة وعنده غريزة بمجرد أن يرى صورة المرأة تثيره، فكيف وهو يرى صورة وتتحسن وتتجمل ثم تتكسر في كلامها وتتحدث عن الحب والغرام إلى غير ذلك من الأمور المخزية التي تعلم منها شبابنا وفتياتنا العلاقات بين الجنسين وتعلموا منها الحب وتعلموا منها أموراً كثيرة كانت من نتائج هذا كله، وما يدري الأب ما يعاني أبناؤه وبناته من جراء مشاهدة مثل هذا الجهاز. فأنا أقول للآباء أولاً: لا يجوز لهم ولا ينبغي بحال أن يبقوا مثل هذه الوسائل ويتحملوا وزر أبنائهم ووزر بناتهم وكذلك الشباب أن يحاولوا بكل وسيلة أن يقنعوا آبائهم في زوال مثل هذا الجهاز.

كيف تحافظ المرأة على عفتها

كيف تحافظ المرأة على عفتها Q كيف تحافظ المرأة على عفتها؟ A على كل حال كل ما يقال للرجل يقال للمرأة، النساء شقائق الرجال، فكل ما يخاطب به الرجل تخاطب به المرأة لكن كما هو في الكتاب والسنة يخاطب الرجال غالباً والنساء يدخلن تبعاً في ذلك.

توجيه النساء بالتقوى

توجيه النساء بالتقوى Q هل من كلمة توجيهية للنساء وخصوصاً ونحن بصدد قصة يوسف وامرأة العزيز التي فسخت برقع الحياء وأخذت تجري خلف يوسف عليه السلام، خصوصاً ونحن في هذه الأيام نواجه صنفاً من النساء يماثل امرأة العزيز في تصرفها، سواء بالمكالمات في الهاتف أو التسكع في الأسواق والشوارع؟ A وصيتنا للنساء هي وصيتنا للرجال، وهي وصيتنا لكل مسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويجتنب هذه الأمور، وأن نتعاون جميعاً على علاج مثل هذه الظواهر والمشاكل، وإن شاء الله لعله أن يكون هناك حديث خاص في المحاضرة التي وعدت إن شاء الله أن أتحدث عنها حديثاً خاصاً للنساء حول ذلك. إن شاء الله سيكون اللقاء القادم، أو المحاضرة القادمة في يوم الأحد الموافق للخامس من الشهر السادس بمشيئة الله، وستكون كما قلنا بعنوان: حتى نستفيد من خطبة الجمعة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كلانا على الخير

كلانا على الخير جبل الله النفوس على الطباع المختلفة والميول المتفاوتة، وعلى هذا فكل نفس تميل إلى عمل وترغب في شيء قد لا يرغب فيه الآخرون، فإذا كان الإنسان على باب من أبواب الخير فلا يحق له تحقير غيره من الأبواب ولا العاملين فيه، لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى التكامل.

جميع أعمال الخير وخدمة الدين مطلوبة

جميع أعمال الخير وخدمة الدين مطلوبة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فهذه المحاضرة هي امتداد للدروس التربوية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي، وقد وعدت أن أستأنف هذه الدروس خلال الإجازة وتكون مفرقة على المراكز الصيفية داخل الرياض وخارجها، وبمشيئة الله سبحانه وتعالى مع بداية العام الدراسي تعود هذه الدروس إلى مكانها وزمانها. وهذا هو الدرس الثامن وهو بعنوان: كلانا على خير، وقد اعتدت وأنا أحرص قدر الإمكان على أن يكون العنوان واضحاً، وتكون له دلالة واضحة على المضمون، حتى يعرف من يقرأ إعلان المحاضرة أو من يقرأ عنوان الشريط مضمون ما فيه، لكن هذه المحاضرة قد نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة حتى نحدد موضوعها. وهذا العنوان عبارة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقد كتب إليه أحد العُبّاد يُنكر عليه اشتغاله بالعلم ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك رحمه الله: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُب رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. فالإمام مالك يقول لصاحبه: إن الأعمال تتفاوت، والله سبحانه وتعالى قسم الأعمال بين الناس، فرُب رجل فُتح له في باب ولم يُفتح له في آخر، وإن كنت أنا على طريق وأنت على طريق آخر فكلانا على خير وبر، فكل هذه الطرق تؤدي إلى المقصود والمطلوب، وحين نلقي نظرة عجلى وسريعة على الجهود المبذولة لإحياء الأمة وإيقاظ الأمة نجد أن هناك أساليب متنوعة وطرقاً شتى فتجد من عُني بالعلم وأخذ على عاتقه إزالة غشاوة هذا الجهل المتفشي في الأمة، فسلك سبيل العلم تعلماً وتعليماً ودعوة إليه، ورأى أن إيقاظ الأمة إنما يكون من خلال هذا الباب. والثاني رأى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فسخّر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة والعامة والخاصة فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يُسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله عز وجل العذاب عن الناس. وثالث قد تألم لحال وواقع من استهواهم الشيطان فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخّر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم من خلال وسائل وطرق وأساليب شتى، فكل وقته وجهده مسخّر لأولئك الذين ضلوا عن صراط الله وسلكوا سبيل الانحراف والغواية. ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية، فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع الأموال من فلان وفلان فينفقها في أوجه الخير على الأرامل والمحتاجين، ولنشر الدعوة والجهاد، إلى غير ذلك من أبواب الإنفاق، فهذا شأنه وهذا ديدنه. والخامس قد استهوته حياة الجهاد، فحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلما سمع هيعة لبى وطار) فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، ويوماً تراه هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح، ورأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأن الجهاد هو السبيل لرفع الذل عن هذه الأمة. والسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً فسخّر جهده لدعوة غير المسلمين. والسابع سخّر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابة وخطابة وتأليفاً فصار يتحدث عن مشكلات الأمة، وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله سبحانه وتعالى. وآخر هؤلاء من رأى أن الأمة عدتها وأملها إنما هو في شبابها وجيلها الناشئ، فسخّر وقته لتربية الشباب، وإعدادها وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة، وهكذا ترى أبواباً من الخير، وألواناً من الخدمة لهذا الدين والدعوة له، أبواب واسعة تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفهامهم، فنتساءل هنا: هل نضيق ذرعاً بهذه الاجتهادات؟ أم هل نرى أن هذا من الخلاف والتنافر والخلل؟ أم أن نبحث عن طريق واحد لأن الحق لا يتعدد، وصراط الله المستقيم إنما هو واحد، والسبيل لإنقاذ الأمة سبيل واحدة واضحة! أو أن هناك منطقاً آخر من التفكير ينبغي أن نفكّر فيه هو أن هذه الجهود كلها مطلوبة، وهذه الجهود لا بد من القيام بها، فلا بد أن يقوم فلان بهذا العمل، والآخر بذاك، والثالث بالعمل الآخر، وهكذا لا بد أن ندخل جميعاً من أبواب متفرقة، ولا بد أن نسد جميعاً هذه الثغور وأن نقف على هذه الفصول، قد نستعجل فنحكم بهذه النتيجة فنقول: إن هذا هو ما ينبغي أن

الأدلة والمبررات لقبول اختلاف الاجتهادات فيما يقدمه المرء للإسلام من الخدمات

الأدلة والمبررات لقبول اختلاف الاجتهادات فيما يقدمه المرء للإسلام من الخدمات إذاً اتفقنا نحن على أن المطلوب هو أن نقبل هذه الاجتهادات جميعاً، وأن تقوم هذه الجهود جميعاً وتتضافر، وأن يكون لسان كل واحد من العاملين لهذا الدين على أي ثغر من هذه الثغور ما قال الإمام مالك رحمه الله: كلانا على خير وبر. للأمور الآتية:

قول الله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)

قول الله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد، بل لا بد أن ينفر من كل طائفة، ومن كل قوم، ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه طائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، ولن تخرج للجهاد إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها، بل إن هذا مسلك غير مطلوب أن تنفر الأمة جميعاً فيترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي.

اختلاف أبواب الجنة باختلاف الأعمال

اختلاف أبواب الجنة باختلاف الأعمال ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه، فالحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة فيدعى كل امرئ من خلال عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما كان يؤدي الصلاة المفروضة! لا، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، لكن أولئك الذين اشتهروا بالصلاة من خلال الاستزادة من النوافل، فصار شأنه الذي يُشتهر به ويُعرف به الصلاة، والآخر قد أقبل على الصدقة، والآخر قد أقبل على الصيام، وهكذا.

اختلاف الطاقات والمواهب البشرية

اختلاف الطاقات والمواهب البشرية ثالثاً: الناس معادن وطاقات ومواهب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الناس يتفاوتون تماماً كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، فالمعدن مثلاً يُحصل عليه شائب يحتاج إلى تنقية فتجد أن ما تحصل عليه من هذا المعدن، قد تكون نسبة الشوائب فيه كبيرة، والآخر أقل، والآخر أكثر، وهكذا. ثم المعادن تتفاوت فيما بينها فالذهب له قيمة ليست كقيمة الفضة، والفضة لها قيمة ليست كقيمة سائر المعادن، ثم ما دون الذهب والفضة من المعادن يحتاج إليه فيؤدي، أدواراً لا يمكن أن تؤديها الذهب والفضة، فيستفاد من هذه المعادن في صناعات وأمور لا يمكن أن تغنينا عنها الذهب والفضة، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، وكذلك الناس يتفاوتون، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]. وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف فكذلك تربيتهم، فمثلاً إنسان ولد في بادية ونشأ فيها وعاش فيها، والثاني عاش في قرية، والثالث عاش في مدينة لا شك أن منطق وتفكير هذا وشخصيته وعقليته تختلف عن منطق وتفكير الآخر، تختلف عن الثاني والثالث، وهكذا، إنسان عاش في عصر معين وآخر عاش في عصر آخر عاش في بيئة معينة تحكمها عادات اجتماعية وظروف اجتماعية أو اقتصادية معينة، لا بد أن تكون له طبيعة خاصة، وعقلية خاصة، أنت ترى مثلاً الآن أن أهل هذه البلاد يختلفون عن أهل تلك البلاد، يختلفون عن أهل البلاد الأخرى تبعاً لتربيتهم وظروفهم وحياتهم. إذاً: فالناس يختلفون في معادنهم وقدراتهم واستعداداتهم ابتداء، ويختلفون أيضاً من ناحية تربيتهم وتنشئتهم والظروف التي يعايشونها، وقد كان السلف كذلك يتفاوتون فيقول ابن المبارك: رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله. وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أحفظهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له

وجود الاختلاف في الخير بين الصحابة

وجود الاختلاف في الخير بين الصحابة رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة). الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام، إلى غير ذلك من أبواب الخير. فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه. زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها. علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً. قلنا: أبو موسى؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: أبو ذر؟ قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).

خالد بن الوليد يمنعه الجهاد عن كثير من القراءة

خالد بن الوليد يمنعه الجهاد عن كثير من القراءة نريد أن نقف الآن عند نموذجين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو ذر خالد بن الوليد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وله مناقب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيف من سيوف الله، ونعم أخو العشيرة، ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـ خالد في حربه أحداً منذ أسلمنا. أي أنه كان لا يقدم عليهما أحداً، والحديث رواه الطبراني. وخالد رضي الله عنه كما في الصحيحين احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يبحث عن خالد رضي الله عنه فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند. خالد هو الذي يقول عبارته المشهورة: ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب بأحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح فيها العدو. وهو القائل: لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف وطعنة من رمح إلى آخر الحديث. خالد رضي الله عنه يقول قيس بن أبي حازم عنه: سمعت خالداً يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة. ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح. إذاً خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه المناقب وهذه الفضائل وصار سيفاً من سيوف الله، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية في العراق، وكان له دور كبير أيضاً مع الروم في غزوة اليرموك، وقبل ذلك كان له دور في تأديب المرتدين، ومع ذلك لا تكاد تجد فتوى لـ خالد رضي الله عنه، ويندر أن تجد له قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، بل إنه قد قال: (لقد منعني الجهاد كثيراً من قراءة القرآن) ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بهم إماماً فأخطأ في قراءته، فها هو مثلاً خالد رضي الله عنه قد نبغ في هذا الميدان وبرز في هذا الميدان، ولا شك أنه قد فاته ما حصّله أُبي بالقراءة، وما حصّله معاذ بعلم الحلال والحرام، وما حصله ابن عباس بالتأويل وفقه الكتاب، وما حصّله سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سائر أبواب الخير، ولكن هذا لن ينقص شأنه ومكانته وفضيلته.

أبو ذر قوال للحق ضعيف في الإمارة

أبو ذر قوال للحق ضعيف في الإمارة أبو ذر رضي الله عنه يقول عنه الذهبي: كان أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه. أبو ذر رضي الله عنه إمام في الزهد وهذا لا يخفى، وكذلك كان مشهوراً بقول الحق، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم). أبو ذر رضي الله عنه له عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: (أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف- وأشار إلى رقبته، فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها) وهذه العبارة مشهورة وقد أوردها البخاري في كتاب العلم تعليقاً. إذاً فهو رضي الله عنه كان إماماً في الزهد، وكان قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، عنده استعداد أن أن يقول الحق حتى لو وضعوا السيف على رقبته واستطاع أن يقول في هذه الفرصة كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم لقالها رضي الله عنه، وورد من الثناء عليه أنه أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) فمع هذه الفضائل له، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه أن يتأمر على اثنين، وأن يتولى على مال يتيم؛ لأنه لا يصلح لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. الآن هنا كون أبي ذر رضي الله عنه لا يتولى هذا المقام، أو لا يصلح لهذا الميدان هل يعني أنه قد أفلس من كل المقومات؟ وهل يعني أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعد مؤهلاً أن يقدم خيراً للمسلمين؟ لا، فليس هذا هو المقياس، إن المقياس مقياس آخر، فلكل ميدانه.

اختلاف ابن عباس وأبي هريرة في مراتب العلم

اختلاف ابن عباس وأبي هريرة في مراتب العلم ابن القيم رحمه الله يعقد مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة فيقول: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الأمة، لا يمكن أن يفوته حديث كما قال عن نفسه في البخاري، قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط رداءك قال: فبسطت ردائي فقال بيديه هكذا، فضممته إلى صدري فما نسيت شيئاً سمعته بعد ذلك)، فـ أبو هريرة أحفظ الأمة على الإطلاق، لكنه في الفقه والاستنباط والفتاوى ليس مثل ابن عباس، كما أن ابن عباس رضي الله عنه ليس في الحفظ مثل أبي هريرة. إذاً فهذا له ميدان وذاك له ميدان آخر، حتى داخل الإطار الواحد كإطار العلم حتى وجدنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبغ وبرز في الجهاد، والآخر برز في الزهد، والثاني في الرحمة بالأمة، والثالث في الشدة في الحق إلى غير ذلك، وعندما نأتي إلى دائرة واحدة وميدان واحد نجد أيضاً أنه داخل هذا الميدان الواحد يوجد تفاوت، ففي ميدان العلم هذا أحفظ وذاك أفقه. أمر وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ولا شك أن يسع غيرهم وسواهم.

اختلاف الوصايا النبوية بحسب الأشخاص

اختلاف الوصايا النبوية بحسب الأشخاص خامساً: كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفدون إليه فيستوصونه فيوصيهم فيقول لأحدهم: (لا تغضب) ويقول للثاني: (كلما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول للثالث: (لا تسبن أحداً) ويقول للرابع كذا، والخامس كذا وهكذا تجد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مختلفة بل تراه يوصي أحدهم أن يوتر قبل أن ينام، ويوصي الآخر أن يقوم الليل الشاهد أن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص إلى آخر، وأيضاً كثير ما كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟) أو (أي الإسلام خير؟) فيجيب هنا بإجابة وهناك بإجابة أخرى، ومن أشهر ما قيل في الجمع والتوفيق بين هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن فلاناً تصلح له هذه الوصية، والآخر كذلك، والثالث كذلك، فلم يوص الجميع صلى الله عليه وسلم بوصية واحدة لاختلاف الناس وتفاوتهم. بل النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس يسلمون، فمنهم من يجلس ويبقى عنده في مكة، ومنهم من يوصله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم للإسلام، وذلك أن الناس كما قلنا يختلفون ويتفاوتون.

عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة

عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة سادساً: عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة. الانحراف والخلل في واقع الأمة هائل ليس في جانب واحد أو مجال واحد فقط، فأنت ترى مثلاً الانحراف في الحكم، فالأمة تحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وتراه في الاعتقاد الأمة حيث تمنح ولاءها لأعداء الله عز وجل، وكل ألوان الشرك وأصنافه تجدها منتشرة في هذه الأمة، وانتشر فيها الجهل والفساد الأخلاقي، والأمية، والفقر، والتخلف، إلى غير ذلك من مجالات وأبواب الخلل في واقع هذه الأمة، وبناء عليه عندما تتسع أبواب الخلل وأبواب الانحراف لا بد أن تتسع أبواب الدعوة. فنحتاج إلى باب مثلاً عندنا خلل في باب العقيدة والاعتقاد، فلا بد أن يتجرد من هذه الأمة من يُعنى بتصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات والتوسع في ذلك تعلماً وتعليماً ودعوة. عندنا خلل فكري فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، عندنا خلل في الجانب الأخلاقي فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، خلل في الجانب السلوكي فقط، مشاكل اجتماعية، مشاكل اقتصادية، قضايا كثيرة تحتاج في كل ميدان إلى جهود كثيرة وإلى أشخاص يتفرغون لها، ومن ثم فمع سعة شقة الانحراف والخلل في واقع الأمة لا بد أن تتوسع مجالات الدعوة ومجالات محاولة إنقاذ الأمة.

العصر الذي نعيشه يتطلب ذلك

العصر الذي نعيشه يتطلب ذلك سابعاً: نحن نعيش في عصر، فلا بد أن نعيش عصرنا، ولا بد أن نفكر بعقلية عصرنا، ولا شك أن هذا فيما لا يعارض أمر الله سبحانه وتعالى، العصر عصر التخصص، وفي السابق قد يكون الرجل موسوعة فتراه يقوم على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها وصار الناس على مبدأ التخصص، فلماذا لا يتخصص فلان مثلاً بالعناية في جانب من جوانب العلم الشرعي، والآخر في الجانب الثاني، والآخر في الجانب الثالث ويتخصص الرابع في مشاكل الأمة الاجتماعية، فيحل مشاكل الناس وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الخامس في دعوة المنحرفين والضالين، ويتخصص السادس في قضية المرأة، والرابع في القضايا الفكرية، والخامس، والسادس، وهكذا كل امرئ في ميدانه وفنه.

الحاجة إلى التكامل

الحاجة إلى التكامل ثامناً: سنأخذ مثالاً يعطينا صورة واضحة عن الحاجة إلى التكامل: لو كان عندنا جيش فإننا سنحتاج إلى مجموعة في القيادة والمقدمة، وفي مواجهة العدو وجهاً لوجه، ونحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، وسنحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، مجموعة يقومون بنقل الذخائر، مجموعة للتمويل بنقل المواد الغذائية، مجموعة طباخين يقومون بخدمة الجيش، وأناس يغسلون الثياب، ومجموعة يحرسون بلاد المسلمين ويحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا من خلفهم، ومجموعة يخلفون الغازين، فأنت ترى الآن أبواباً مختلفة ومتفاوتة فهذا شخص يقف في مقابل العدو والشخص الآخر ليخلف الغازي في أهله ويبقى في بيته، فإذا قال الجالس في منزله ليخلف الغازي: لقد ذهب الناس في الجهاد وبقيت أنا مع النساء والعجزة فلا بد أن أذهب، وقال الذي يعد الطعام كذلك يقول، وقال الذي يقوم بإعداد الذخيرة كذلك، وهكذا؛ فإنه لا يمكن أن يقوم هذا الجيش، لأن الجيش لا يقوم إلا عندما تتكامل هذه الجهود، ومن هذه الجهود من يقعد لا جبناً ولا خوفاً إنما يقعد ليخلف هؤلاء في أهليهم، وحتى لا تؤتى البلاد عن غرة، فترى أنت الآن أن هذا الواجب وهذه المعركة لا يمكن أن تقوم إلا بتكامل جهود متفاوتة ما بين قائد فذ عبقري داهية ورجل شجاع، وبين إنسان مهمته إعداد الطعام فقط، وإنسان مهمته قيادة شاحنات، وإنسان مهمته أن يبقى حتى يحرس فهكذا تتكامل هذه الجهود، ويمكن أن نشبه نحن أبواب الدعوة أو واقع الدعوة في بلد محاصرة يعني افترض الآن أن هذه القرية محاصرة، فهنا حصن في هذه الزاوية، وحصن في هذه الزاوية، وحصن في الزاوية الأخرى، وحصن في الزاوية الأخرى قد يكون العدو من هذه الجهة فهؤلاء الآن في مقابل العدو؛ لكن نحتاج إلى من يقف هنا، ومن يقف هناك، ومن يقف في الميدان الآخر، ونحتاج إلى من يقف في داخل المدينة ويتجول فيها حتى لا يستغل الوضع مثل اللصوص والسُرّاق وقطّاع الطريق، فأنت ترى الآن الجهود مختلفة ومتفاوتة وكلها مطلوبة، ولا يصح أن يأتي الشخص الذي وقف في وجه العدو ويقول: أنتم جبناء أنا أجلس مقابل العدو وأنت جالس تحرس في الخلف! لا، ويقول: أنا أفضل لأني أواجه العدو! لا، الجميع يؤدون مهمة واحدة، ويؤدون دوراً واحداً ولا يمكن أن تقوم هذه القضية إلا بهذا التكامل. فكذلك حراسة الأمة وحماية الأمة والدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإنقاذ الأمة لا بد أن نأخذ نحن جميعاً بهذه الجوانب كلها، هذه الطاولة الآن التي أمامنا لو أردنا أن نرفعها مثلاً واجتمع الجميع كلهم يريدون أن يرفعوها من هذه الجهة، فلا يمكن أن ترتفع، أو ترتفع بوضع غير مستقيم، طيب لو أتى من هنا مثلاً أربعة، ومن هنا واحد فقط ومن هنا واحد أيضاً فسيكون هناك خلل، لكن عندما تتوزع الجهود بشكل متوازن يمكن أن نرفعها، فكذلك هذه الأمة المصابة بهذا الخلل لا بد أن تتضافر الجهود جميعاً وأن تتوزع حتى تقوم هذه الأمة، أما إذا اعتنينا بجانب واحد وركزنا على جانب واحد فلا بد أن يكون هناك خلل ولا يمكن أن تنهض الأمة النهوض المراد.

السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا

السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا تاسعاً وأخيراً: السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فترى عبارات للسلف قديماً وحديثاً تدل على ذلك، ومنها ما سقناه في بداية المحاضرة عن الإمام مالك رحمه الله، وجاء أحدهم إلى الخليل بن أحمد ليتعلم العروض فأحس الخليل بن أحمد أن هذا ليس عنده استعداد لأن يتعلم عروض، فأعطاه بيتاً يقطّعه قال: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم الرجل المقصود وأنه لا يناسب له علم العروض فاتجه إلى علم النحو ونبغ فيه وكان من النحاة. نلاحظ أن الخليل بن أحمد يوجه إلى أنه ليس الميدان واحداً، والعروض أصلاً علم محدود، ولد جملة واحدة أنشأه الخليل بن أحمد، يمكن أن يحيط به الإنسان في وقت يسير، ومع ذلك مثلاً هذا الرجل لم يستطع، لكن لا يعني أنه قد أصبح فاشلاً فأمامه ميدان آخر ومجال آخر، فاتجه إلى الميدان الآخر واستطاع أن ينبغ فيه. والأعمش كان إذا قيل له حدث قال: لا يقلد العلم الخنازير، يعني: ليس كل واحد مؤهلاً أن يُعطى العلم، فالعلم لا يُعطى إلا لمن يستحقه. يقول ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود: ومما ينبغي أن يتعهد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، أي: إذا كان هذا الطفل متهيئاً لهذا العمل بشرط أن يكون مأذوناً فيه شرعاً فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يُفلح وفاته ما هو مهيأ له. يعني ابن القيم أن على الأب أن ينظر إلى حال الصبي، ويعرف استعدادات الصبي والأمور التي يتهيأ لها الصبي فيوجهه إلى هذا الميدان، فإذا كان الصبي عنده حفظ وعقل يمكن أن يوجه إلى العلم، وإذا كان عنده همّة ونشاط وعمل لكنه ليس متوجهاً للحفظ فينبغي أن يوجه إلى ميدان آخر، كذلك الأستاذ ينبغي أن يوجه طالبه هذه الوجهة، والمربي ينبغي أن يوجه من تحته هذه الوجهة، فينظر ما هو مستعد له فيوجهه إليه، وله عبارة طويلة يمكن أن نقرأها في مدارج السالكين: يقول: فإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويُفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبن وخسر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فُتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وأعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة. ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر. وأيضاً يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قول الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور. أظن أن هذه المؤيدات التي سردنا تكفي لأن تعطينا القناعة بأن هذه الطرق كلها يجب أن تُسلك جميعاً، وأن لا يعتب بعضنا على بعض، وأن هذه الطرق على مستوى الأمة مطلوبة جميعاً، لكن على مستوى الأفراد مطلوب من كل امرئ أن يقوم بباب وأن يسد ثغراً من هذه الثغور.

ينبغي أن يوجه الشباب إلى ما يحسنونه حسب استعداداتهم

ينبغي أن يوجه الشباب إلى ما يحسنونه حسب استعداداتهم بعد ذلك ننتقل إلى نقطة مهمة جداً وهي المقصودة من هذه المحاضرة، وقد نكون أطلنا الشق الأول في العنصر الثاني لكن أطلنا قصداً حتى يكون عندنا القناعة وبعد ذلك تكون النتائج سهلة لنستنبطها منها؛ لكن عندما لا يسلم لك بالمقدمة لا يمكن أن يسلم لك النتيجة، فنقول: أولاً: ينبغي أن لا نسلك بالشباب طريقاً واحداً، فالناس كما سبق لهم استعدادات تختلف وطاقات متفاوتة، وكل إنسان له طبيعة خاصة وطريقة خاصة في التفكير وطريقة في العمل، وشخصية مستقلة عن شخصية الآخر، وكذلك قدرات تختلف عن قدرات الآخرين. وأيضاً في المقابل نحن نحتاج إلى سد عدة ثغور، ومن هنا فلا يسوغ أن نربي الشباب جميعاً في إطار واحد وقالب واحد، فمثلاً أن نطالب الشباب جميعاً أن يكونوا طلبة علم، فنقول: إما أن تتوجه للعلم فتقرأ وتحضر الدروس وتتفقه وتحفظ، وإلا فأنت إنسان غير مرغوب فيك وإنسان غير قادر أن تقدم أي خير للإسلام والمسلمين، فهذا الأمر ما تم على وقت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من كان مجاهداً وكان دون سائر أصحاب السنن في الفقه والعلم وقراءة القرآن والحفظ، ألم يكن فيهم من كان يؤدي هذا الدور والدور الآخر، ومن كان يتفرغ للعلم ويتفرغ لهذا الميدان؟ فإذا تفرغ هؤلاء مثلاً لهذا الميدان وتحصيل هذا الميدان، فإننا لن نفلح؛ لأن هناك ناساً غير مؤهلين أصلاً لهذا البناء، ثم يحصل أن تبقى ثغور تحتاج إلى من يسدها. إذاً: فلا يسوغ أن نسلك بالشباب هذا المنهج وهذا المسلك، أو أن نريد أن نحول الشباب كلهم إلى وعّاظ، أو نحول الشباب إلى مربين، أو إلى أي ميدان من الميادين. فيجب أن يكون هناك إطار عام للتربية لكن يبقى جانب يراعى فيه ويتعاهد فيه -كما قال ابن القيم - حال هذا الشاب وينظر إلى ما هو متوجه له فيسار به إلى هذا الطريق ما دام مأذوناً فيه شرعاً، والأبواب المأذون فيها شرعاً أبواب كثيرة وواسعة لن تضيق عنا هذه الأبواب والمسالك، بل لعلنا لا نستطيع أن نأتي عليها ونسدها فضلاً عن أن تضيق عنا.

من سلك طريقا يخدم به الإسلام فلا يجوز أن يحتقر الطرق الأخرى

من سلك طريقاً يخدم به الإسلام فلا يجوز أن يحتقر الطرق الأخرى ثانياً: الإنسان عندما يسلك ميداناً لا يسوغ له أن يحتقر الميدان الآخر، فمثلاً: هذا إنسان سلك طريق الجهاد، فلا يسوغ له أن يقول لغيره: أنت جالس تقرأ وتتعلم مسائل فرعية، والأمة بحاجة للجهاد ورفع السيف، والمسلمون يقتلون وأنت في هذا الميدان حابس نفسك على مسائل فرعية وقضايا دقيقة بين الكتب والمسائل، فأنت إنسان ليس عندك استعداد أن تقدم للإسلام خيراً ولا تضحي بنفسك إلى غير ذلك. والآخر يقول: لا أنا آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأمنع المنكرات الموجودة وأتصدى لها وأسهر وأتعب وأتحمل إهانات، وأتحمل ما أواجه وأنت متفرغ لمجموعة من الشباب تحفظهم القرآن قد يحفظون وقد لا يحفظون، أو هم أصلاً صالحون بدونك ولكنكم تضيعون الأوقات سدى وإلى غير ذلك. والآخر يقول: أنا متفرغ للعلم الشرعي، وهذا الدين إنما يكون بالعلم، والدعوة لا تكون إلا بالعلم، وأنتم أناس جهلة، صحيح أنك تجاهد وتأمر المعروف وتنهى عن المنكر لكن عن جهل، وإلى غير ذلك. وترى كل إنسان أصبح في موقع مهاجم يتراشق وأصحابه، وهذا لا يسوغ أبداً فلا يسوغ أن نحتقر الميادين الأخرى ولا أن ننتقد الآخرين، يا أخي ما دام فلان من الناس قام بهذا الميدان وسد هذه الثغرة في دين الله سبحانه وتعالى فلنقل إنك على باب من أبواب الخير فالزم ما أنت عليه، ونحن على باب آخر، وهذا لا يعني أني أفضل منك أو أنك أفضل مني؛ فكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومنه -أي اختلاف التنوع- ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين. يعني يكون هذا الاختلاف أن هذه الطرق أصلاً مشروعة وسائغة، فهذا سلك طريقاً والآخر سلك آخر فيحصل بينهم من الخلاف ما يحصل وكلاهما مقبول، وأنت ترى الآن الجدل قائماً حول مناهج الدعوة، ماذا نصنع الآن: هل نعتني بمحاربة البدع والخرافات، أم نعتني بما يسمى مثلاً بالعمل السياسي، أم نعتني بدعوة الضالين والمنحرفين، أم نعتني بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو نعتني بنشر العلم، أو نعتني بإنكار المنكرات؟ وترى كل إنسان يحشد الأدلة والمؤيدات أن هذا هو الطريق الذي لا ينبغي سلوك سواه، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعدها، فالذي يحارب البدع يقول: عندما أحارب البدع وأقضي على البدع فإن الذي كان يقع في الزنا سيتوب من الزنا؛ لأني حاربت البدع، والذي كان ينشر الأفلام الساقطة كذلك سيتوب، والذي كان يروج المخدرات أيضاً سيتوب، والذي كان يحكم بغير ما أنزل الله سيتوب على عتبته لأني حاربت البدع. والثاني يقول لك: لا، القضية هي قضية الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا قضينا على هذه القضية ستزول تلك الأمور. والثالث يقول: أهم شيء إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا وكل هذه الميادين مطلوبة، فلا شك أنا بحاجة إلى من يُنكر البدع، بحاجة إلى من يعلم العلم، بحاجة إلى من يجاهد في سبيل الله، بحاجة إلى من ينكر المنكرات وكلها جهود خيّرة ومطلوبة، والجدل الذي يقوم الآن على الساحة الإسلامية أن هذا الميدان أولى، وذاك الميدان أولى كله جدل لا داعي له، ولا يزيد على أن يكون مجرد تراشق، وترف فكري وإهدار لطاقة الأمة فيما لا طائل وراءه، فالأبواب كلها مطلوبة، هذا سلك هذا الميدان، والآخر سلك الميدان الآخر يا أخي أنت إذا كنت ترى فلاناً قصر في هذا الميدان فسد هذه الثغرة، والثالث يأتينا فهو مستعد لهذا الميدان فيرى أن الآخر قصر فيه فيسد هذه الثغرة، وهكذا حتى نسد كل هذه الثغرات. دعني أضرب لك مثالاً آخر: افترض مثلاً أننا راكبون في السفينة فوقع فيها انفجار فحدثت فيها شقوق وصار يدخل منها الماء، فجاء واحد وسد هذا الثقب، فقال له الثاني: لا يا أخي! سد هذا الثقب، والثالث كذلك فمنطقنا هو هذا المنطق وترى واحد عنده ثقب صغير وجالس بكل جهده وطاقته يسد هذا الثقب ويطلب الجميع كلهم أن يتضافروا على هذا الثقب والسفينة تدخل عليها المياه من كل جانب ومع ذلك يقول: يجب أن نسد هذا الميدان، وإذا سد هذا الميدان فستنجو من الغرق. أقول: إن هذا هو واقع من يتراشقون بالتهم، وهذا واقع من يحاول أن يختزل ميدان الدعوة، ويختصر ميدان خدمة الأمة وإنقاذ الأمة وخدمة دين الله سبحانه وتعالى بميدان واحد وزاوية واحدة.

كل ميسر لما خلق له

كل ميسر لما خلق له ثالثاً: كل ميسر لما خلق له. مثلاً هناك بعض الناس قد يكون عنده حماس وطاقة، وتجده إنساناً مثلاً لا يصبر على البقاء في البيت أبداً، لا بد أن يعمل، لا بد أن يتحرك، لا بد أن يذهب ويأتي، لكن إدراكه العقلي محدود، وحافظته محدودة، فليس مؤهلاً أن يتعلم العلم الشرعي، فجاءنا هذا وقال: والله أنا أريد أن أخدم الإسلام، وأنا عندي طاقة، أريد أن أصرفها في خدمة دين الله سبحانه وتعالى فابحثوا لي عن مجال، قلنا له: تعال فعندنا حلقات علمية فبعد الفجر درس وبعده درس، وبعد الدرس نقول له: تعال هنا، المهم أننا سلكنا به ميداناً، لكنه لا يستطيع أن يسير فيه ثم بعد ذلك لن يفلح، والنتيجة إما أن يترك هذا الميدان كله ويترك طريق الخير كله، أو أن يحس أنه إنسان مفلس، أو غير ذلك لكن لو فكّرنا تفكيراً آخر وقلنا: يا أخي هذا ليس ميسراً للعلم، وما دام عنده طاقة وعنده استعداد فلماذا لا نجعله يسافر إلى تلك البلاد فيعطينا تقارير عنها، ويسافر إلى البلاد الأخرى، لماذا لا نجعله مثلاً في جانب إنكار المنكرات؟ لماذا لا نجعله يخدم أحد العلماء الدعاة، هذا داعية يحتاج إلى من يخدمه ويعينه، وهذا عالم يحتاج إلى من ييسر له، والآخر كذلك، فلماذا لا نبحث له عن مجال آخر يمكن أن ينجح فيه؟ وهكذا الثاني، وهكذا الثالث فكل ميسر لما خلق له، لا يسوغ أن نأتي لإنسان يعيش طبيعة معينة فنأطره على ميدان ونريد أن نسلك به ميداناً لا يمكن أن ينجح فيه. إنسان سريع الغضب ولا يجيد التعامل مع الآخرين وقد يكون إنساناً صالحاً وفيه خير، لكن هذه طبيعته، فهذا الإنسان مثلاً لا يسوغ أن نجعله في ميدان تربوي؛ لأن الميدان التربوي يحتاج إلى إنسان حسن المعاملة طويل النفس لكن لا يعني ذلك أنه إنسان فاشل، لا لكن له ميدان آخر، وهكذا الثالث، والرابع فأقول كل ميسر لما خلق له، ولا يسوغ أن نسلك بهذا الإنسان إلا المجال الذي ينبغي أن نراه مؤهلاً له.

لن تحيط بكل ما أمرت به

لن تحيط بكل ما أمرت به رابعاً: لن تحيط بكل ما أمرت، فلا تكلف نفسك ذلك، ولا تطالب الناس به. قد تجد إنساناً فتح الله له في باب من أبواب الخير، مثلاً: واحد من الشباب طالب في الجامعة أو أستاذ وهو مسئول عن مجموعة من طلاب المركز ويستنفذ عليه ذلك وقتاً طويلاً من العصر إلى الساعة العاشرة والنصف مثلاً، ففكّر وقال: أنا يضيع عليّ وقت طويل، والناس يقرءون ويتعلمون، فأنا أريد أن أترك هذا العمل وأذهب إلى طلب العلم، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يسافرون للجهاد في سبيل الله فأريد أن أسافر لأجاهد، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يعينون الفقراء والمعوزين والمحتاجين، ثم يفكّر تفكيراً آخر وهكذا تتقلب به الميادين، أو يريد أن يحيط بكل هذه الأبواب، فمرة تلقاه يعمل هنا ومرة يعمل هناك. فنقول له: لا يا أخي، لا يمكن أن تأتي بكل هذه الأبواب، أنت ما دام أن الله يسّر لك باباً من أبواب الخير لخدمة هذا الدين فاسلكه ولا عليك من الآخرين، ولا تستطيع أن تحيط بها جميعاً. وكذلك شخص متوقد الحفظ والفهم والذهن ويسّر الله له طريق العلم فرأى غيره متفرغاً لإنكار المنكرات أو للجهاد أو تربية الشباب فقال: أريد أن أعمل في هذا الميدان، وترك ما هو عليه. فمن العبث ومناقضة الفطرة والواقع أن تحاول أن تحيط بكل الأبواب، فما دمت -يا أخي- سلكت طريقاً من هذه الطرق ففتح الله لك هذا الباب فامض فيه ولا تتصور أن الآخرين فاقوك، فليست القضية في ميدان دون ميدان، القضية أن تسخّر وقتك وجهدك وما أعطاك الله لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن تدعو لسبيل الله سبحانه وتعالى، وأبواب الدعوة وطرق الدعوة واسعة ومتنوعة، كذلك لا تطالب الناس بهذا، فإذا كان هناك عالم يفتي ويحل مشاكل الناس في قضايا علمية فمن العبث أن نطالبه أن يتحدث عن قضايا فكرية ومشاكل معينة قد تحتاج إلى شخص آخر، ومن العبث أنا نطالبه أن يتصدى لتربية الشباب وإعدادهم، ومن العبث أن نطالبه أن يخرج للجهاد أو يتفرغ لإنكار المنكر أو غيره يا أخي هذا سلك ميداناً فلا داعي لأن نطالبه بغيره. وهكذا، عندما تجد إنساناً يعتني بقضية المرأة فيكتب ويحاضر ويخطب ويتحدث عنها فلا نطالبه أن يلقي محاضرة عن أمور تخص الشباب، أو عن قضية علمية شائكة، أو عن قضية في واقع المسلمين، وهكذا الثاني والثالث، فلا نطالب الناس بكل هذه الأبواب!

قد يطرأ على المفضول ما يجعله أولى من الفاضل

قد يطرأ على المفضول ما يجعله أولى من الفاضل أمر خامس: قد يأتي للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل: وهذه قاعدة شرعية مهمة نبّه عليها شيخ الإسلام ونبّه عليها ابن القيم، وهي أنه قد يوجد عمل مفضول فيعتريه أمر يجعله أولى من الفاضل. مثال: قراءة القرآن أفضل من الدعاء في الجملة فإذا جاء شخص إلى المسجد آخر ساعة في يوم الجمعة، فإنا نقول إن الدعاء في هذه الساعة أولى من قراءة القرآن. إنسان فرغ من الصلاة فالأفضل له أن ينشغل بالذكر، فالذكر مفضول فأتاه سبب جعله أولى من الفاضل، والدعاء كذلك مفضول فأتاه ما جعله أولى من الفاضل تعالوا نطبق هذه القاعدة على هذا الميدان، فقد يكون هذا العلم مثلاً فاضلاً وذاك مفضولاً، لكن يأتينا أمر يجعله أولى فنحتاج مثلاً إلى إنسان يتخصص في الأدب لأن الواقع أن جزءاً من معركتنا معركة الأدب، وتعرفون أنتم أنا غزينا كثيراً من قبل الأدب سواء الأدب اللاأخلاقي والجنسي، أو الأدب الحداثي أو غيره، فنحتاج إلى إنسان يتفرغ للأدب فيحفظ الشعر ويقرأ في دواوين الأدب وكتب الأدب والمدارس الأدبية والنقد الأدبي. مثال أقرب: إنسان مثلاً يقرأ عن الطوائف، يسمع عن القاديانية فيجمع مخطوطات ونشرات ويقرأ عنها وعن عقائدها وما يتعلق بها، ثم عن البهائية ثم عن الوجودية والعلمانية، وغيرها من الطوائف والنحل، وصارف وقته في قراءة خرافات هؤلاء وخزعبلاتهم، الآن أيهما أفضل: القراءة في هذه، أم القراءة في دواوين السنة وكتب السنة؟ لا شك أن القراءة في كتب السنة أفضل، لكن الآن قد نقول لفلان: إن اشتغالك بهذه القراءة أفضل؛ لأن الأمة محتاجة الآن إلى سد هذا الميدان، ومحتاجة إلى سد هذا الثغر فهذا مفضول لكن أتاه أمر جعله أولى من الفاضل، ومصداق ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخروج للجهاد أفضل من القعود، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرّج للجهاد يخلّف بعض أصحابه أميراً على المدينة، فقد خلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أهله في غزة تبوك، فاعترض على ذلك فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) لماذا كان علي بمنزلة هارون من موسى؟ ما وجه الشبه هنا، تشبيه تخلف علي في أهل النبي صلى الله عليه وسلم بهارون وموسى؟ نعم لأن هارون خلف موسى في قومه، وعلي رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، الآن الأفضل لـ علي أن يبقى في المدينة لا أن يخرج إلى الجهاد لأن هذا قد صار متعيناً عليه. إذاً فنقول: إنه لا مجال لأن تقول لي: هذا الميدان أفضل! وذلك ما دمت أنت ستبدع في هذا الميدان وستفلح فيه، أو لسبب أو لآخر هذا ميدان مهجور أو متروك فاسلكه يا أخي ولا تلتفت إلى ما سواك، وإذا أخلصت النية وصدقت الله سبحانه وتعالى فإن الله يعطيك أجر من عمل ذلك العمل.

ليست الشهرة هي قيمة الإنسان

ليست الشهرة هي قيمة الإنسان سادساً: ليست الشهرة هي قيمة الإنسان. ميادين العمل تختلف، فهناك ميادين تتطلب شهرة مثل الخطيب، أو من يتصدر لقضايا الناس أو لنفعهم أو كاتب أو محاضر أو متحدث، فطبيعة عمله تجعله مشهوراً ومعروفاً عند الناس كلهم، وشخص آخر طبيعة دوره تقتضي أنه لا يشتهر؛ لأنه إذا اشتهر سيضايقه الناس فيزدحمون عليه فيشغلونه عمّا ينبغي أن يتفرغ له، الآن لا يسوغ لهذا الإنسان المغمور أن يقول: والله فلان يعرفه الناس ويدعون له فهو أفضل مني! فالقضية ليست بالشهرة، فرب أشعث ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، وإن الله يحب العبد التقي الخفي إلى آخر حديث هذا العبد البعيد عن الأضواء كما يقال الخفي الغير مشهور يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس هناك علاقة مطردة بين الشهرة وبين خدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن مستواك في الدعوة إلى الله عز وجل وما تقدم من خير إنما هو مرتبط بشهرتك، وإن كان عادة ما يشتهر قادة ويشتهر أناس يقدمون الخير للناس فينفعهم الله من هذا الميدان، لكن غيرهم قد ينفعهم الله ويكتب الله لهم الأجر في ميادين أخرى لا يكتب لهؤلاء.

محذورات يجب التنبه لها

محذورات يجب التنبه لها

لا يترك الواجب بحجة التخصص

لا يترك الواجب بحجة التخصص الجانب الأول: أنه لا يسوغ أن يترك الواجب بحجة التخصص، يعني هناك شيء واجب على الجميع، فالعلم الشرعي فيه قدر واجب على الجميع لا يسوغ أن تترك. أنت متخصص في ميدان ما، لكن إنكار المنكرات الظاهرة أمام الإنسان واجب أيضاً، ولا يسوغ أنك تترك إنكار المنكر بحجة أنك متخصص، وهكذا سائر الواجبات الشرعية.

لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص

لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص الجانب الثاني أيضاً: لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص: يعني: يكون عنده خلل فيعاني من فقر مدقع في كافة الجوانب بحجة أنه متخصص! لا، فيجب أن يكون فيه نوع من التكامل، ثم يبدو هذا الجانب أقوى عنده من غيره، فمثلاً هذا الإنسان متوجه للعلم وأنفق فيه نفيس وقته، فلا يسوغ أن يكون هذا الإنسان قاسي القلب وما له حظ من عبادة الله عز وجل! ولا يتمعّر وجهه لمعصية الله عز وجل! أو إنسان لا يقدم النفع للناس، أو غير ذلك، فينبغي أن يكون هذا الشاب قد تربى على عبادة الله وطاعته، وتربى على إنكار المنكر وعلى إيجاد الخير للناس، وعلى كل أبواب الخير، لكن غاية مطلوبه تحصيل العلم قد صرف له كل همه، وتكون تلك الجوانب أيضاً موجودة. يحصل أحياناً خلل واضح من شخصية غير متزنة فعلاً، حيث تجده في جانب من الجوانب مفلس، وهذا يعود أيضاً على الجوانب الأخرى بالإبطال، فمثلاً طالب العلم عندما يكون قاسي القلب لا بد أن يتأثر فيفقد الورع الذي يحتاج إليه في علمه وفي فتاواه، وكذلك المربي عندما يكون قاسي القلب أو يكون ضحل العلم والاطلاع، أو يكون فاقداً لهذا الجانب أو ذاك لا بد أن ينعكس هذا الخلل على عمله بوجوه إذاً فلا بد من التكامل مع التخصص حتى تكون شخصية الإنسان متكاملة.

الحذر من الإغراق في التخصص المبكر

الحذر من الإغراق في التخصص المبكر كذلك الجانب الثالث: يجب أن نحذر من الإغراق في التخصص المبكر: هناك شباب في سن معينة تكون استعداداتهم وتوجهاتهم متقاربة، وكلما تقدم بالعمر بدأت تتضح معالم شخصيته أكثر، فالتخصص المبكر يوقعنا في أخطاء، لأننا عندما نبدأ به من الصغر في التخصص سيقع في خلل ونفقد الجوانب الأخرى، كذلك أيضاً قد يوقعنا في أخطاء، فقد نتصور أن فلاناً يصلح لهذا الميدان بينما هو يصلح لغيره، لكن عندما نتأخر قليلاً في جانب التخصص نتجاوز تلك السلبيات، سواء الخلل يكون قد أوجدنا عنده قاعدة متكاملة، وأيضاً نتجاوز الخطأ في تقويم الشخصية واستكشاف استعدادات الشخص وطاقاته.

عدم التهوين من شأن الجوانب الأخرى

عدم التهوين من شأن الجوانب الأخرى المحذور الرابع: أن نهون من شأن الجوانب الأخرى: فلا يسوغ مطلقاً أن نهون ونغض من شأن العلم الشرعي بحجة أننا ننشغل بإنكار المنكرات الظاهرة، ولا يسوغ أن نهون من شأن إنكار المنكر بحجة التفرغ للعلم الشرعي، وهكذا كل هذه الأبواب أبواب شرعية وأبواب مطلوبة لا يسوغ أن نهون منها ونغض منها، وكم ترى من الناس من يقع في زلل أحياناً لحجة أنه يريد أن يدعو الناس إلى جانب من هذه الجوانب، فيحتقر القائمين بذاك الميدان مع أنهم قائمين بواجب شرعي وعمل مشروع، بل قد يكون هذا الميدان أفضل مما هو فيه، فكم ترى مثلاً ممن ينعى على أولئك المتفرغين لتحصيل العلم الشرعي بحجة أن الأمة تعاني من مشاكل وويلات! وكم ترى أيضاً ممن ينعى على من عاش متنقلاً هناك شرقاً وغرباً، وقد عطّل مشاغله وترك راحته يسافر لخدمة المسلمين وقضاياهم فينعى عليه أن اشتغل بهذا الميدان وترك الميدان الآخر أو ذاك! إن هذا إنما هو في النهاية غمط وانتقاص من هذا الواجب الشرعي، فجميع هذه واجبات شرعية لا يسوغ أن ننتقص شيئاً منها ولا أن ننتقص مجالاً منها.

لا ينبغي أن ننشغل بالدون

لا ينبغي أن ننشغل بالدون خامساً: لا ينبغي أن ننشغل بالدون، فقد يكون فلان من الناس وخاصة النوابغ يصلح لميادين كثيرة فينبغي أن يختار الميدان الأولى والأليق به من خلال حاجة المجتمع، وحاجة الدعوة إلى هذا الميدان، أو من خلال أهمية هذا الميدان أو ذاك فصلاحية الإنسان لعمل أو لآخر لا تعني مباشرة أن يتوجه إليه، بل لا بد أن يختار العمل الأصلح له، ثم قد نجد إنساناً نبغ مثلاً في ثلاثة ميادين، الميدان رقم (أ) هذا ترتيبه الأول، والميدان (ب) ترتيبه الثاني، والميدان (ج) ترتيبه الثالث، قد نقول: نحن نريد منك الميدان (ج) مع أنه بالنسبة لك في الترتيب الثالث؛ لأن تلك ميادين يوجد من يسدها، لكن هذا الميدان شاغر. فهذه قضايا ليس هنا مجال تفصيلها إنما أقصد أنه لا ينبغي أن ننشغل بالدون بحجة أننا قد أفلحنا وقد فُتح لنا هذا الباب، فبعض الناس انشغاله بدون ما هو فيه إهمال وإهدار للطاقة، كما حصل لذاك القاضي الذي يُقال إنه كان يقضي ويعلم الناس ويصلح بينهم فلما قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) ترك القضاء وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق، فهذا قد انشغل بباب من أبواب الخير لا شك، ولكنه انشغل بأدنى مراتب الإيمان وترك الميدان الأنفع والأولى بأمثاله.

لابد من التكامل على مستوى الأمة

لابد من التكامل على مستوى الأمة سادساً: لا بد من التكامل على مستوى الأمة: يعني: قد نسمح أن فلاناً يكون متفرغاً لهذا الميدان وعنده إبداع فيه، لكن على مستوى الأمة وعلى مستوى توجهات الدعوة يجب أن يكون هناك تكامل، ويجب أن تسد الثغور جميعها، فهناك فرق بين الفرد وبين الأمة أو الدعوة على مستوى الأمة.

الأسئلة

الأسئلة

التأسيس في العلم قبل التخصص

التأسيس في العلم قبل التخصص Q أليس الأصل أن يتأسس الشاب على قاعدة ثابتة من العلم، ثم يتخصص بعد ذلك فيما يناسبه؛ لأن بعض الشباب إذا سمع كلامكم قد يمتنع عن طلب العلم فيقول: هذا ليس من تخصصي! A سبق أن أجبت على هذا الإشكال، وقلت إن الشاب المطلوب منه التكامل حتى يصل إلى منزلة عالية ومن المستوى التربوي ويكوّن عنده شخصية متكاملة ثم بعد ذلك يتخصص، الآن مثلاً الطالب يدرس في المرحلة الابتدائية، ثم المرحلة المتوسطة دروساً يدرسها الجميع، ثم يدخل في المرحلة الأولى الثانوية فيدرس أيضاً دروساً يدرسها الجميع، بعد الأولى الثانوية يتوجه إلى تخصص علمي عام أيضاً، أو يتوجه إلى تخصص أدبي، ثم بعد ذلك يتخرج فيتوجه إلى كلية التخصص فيها أدق، وعندما يتخرج من الكلية ويدرس دراسات عليا يكون هناك تخصص أدق، حيث يكون التخصص أيضاً أدق في مرحلة الماجستير ومرحلة الدكتوراه، وهكذا. فنقول: لا بد من التكامل فلا بد من أن نعتني بالعلم الشرعي جملة فنربي الشباب عليه ويستغلوا أوقاتهم فيه، ولا بد أن يتربى الشباب على الصلة بالله وعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا بد من كل هذه الأبواب جميعاً، ثم بعد ذلك يكون التخصص، وما أظن أنه يفهم من كلامي انتقاص هذا الميدان أو الميدان الآخر، بل أنا أقول: لا يسوغ أن ننتقص هذه الميادين ونحتقرها على كل حال أنا أؤيد الأخ فيما قاله، وأنه لا بد من العناية بالعلم الشرعي، وأن كل واحد منا يفرغ جزءاً من وقته لتعلم العلم الشرعي، لكن هذا شيء وأن نطالب الإنسان بأن يتفرغ من كل الأعمال ويترك كل الميادين لتعلم العلم الشرعي هذا شيء آخر، وهناك فرق بين الصورتين والحالتين، فهذا فلان مثلاً يقضي كل يوم ساعتين يقرأ فيها ويتعلم، بل أنت أصلاً داخل هذا المركز الصيفي تتلقى دروساً علمية وحلقات علمية إلى غير هذا، فهذا الإنسان الذي يتعلم ساعتين لا يعتبر متخصصاً، فأنا أعتبره في ميدان آخر لكنه يحتاج إلى ما لا يقل عن ساعتين يومياً من القراءة والاطلاع ومذاكرة العلم لكن بقية وقته يستغله في جوانب أخرى، أما الإنسان المتخصص بالعلم نقول له: لا تكفينا ساعتان منك، بل ينبغي أن تنفق نفيس وقتك في تعلم العلم الشرعي، ثم تبقى منك فضول أوقات تستغلها بعد ذلك فيما سواها من الأعمال.

لا يطلب من الناس أن يتجهوا إلى مكان واحد

لا يطلب من الناس أن يتجهوا إلى مكان واحد Q كثيراً ما نسمع عن أشخاص يطلبون من الناس أن يعملوا العمل الذي قصّر فيه الناس، وأنه لا تتم الدعوة إلا بسلوك هذا الأمر لخطورته وحاجة الناس إليه، فكيف التعامل مع هذا الطلب؟ A نحن ينبغي أن لا نقع في رد الفعل، صحيح أنه قد نجد ميداناً مُقصّر فيه؛ لكن لا ندعو الناس كلهم إلى هذا الميدان، يعني أنا أضرب لكم مثالاً آخر: لو كنا عشرة أشخاص في خيمة فجاءت الرياح عاصفة فإننا نحتاج أن نمسك الخيمة من كل الزوايا، فيأتي واحد يدعونا كلنا يقول تعالوا هذه الزاوية! فهذا غير صحيح، نعم هناك تقصير وهناك خطر فقد تسقط الخيمة من هذا الجانب، لكن لا يجتمع الجميع إلى هذا الميدان؛ لأنهم إذا أتوا إلى هذا الميدان تركوا ميادينهم، فينبغي أن لا يكون عندنا ردة فعل.

تحريك الطاقة الكامنة في النفس بالعمل

تحريك الطاقة الكامنة في النفس بالعمل Q أنا شاب مع مجموعة وأشعر في نفسي أني طاقة كبرى، ولكن لم أجد من يحرك هذه الطاقة، فما نصيحتك لي، هل أترك هذه المجموعة أم ماذا أفعل؟ A هذا وهم ومخادعة للنفس، أنت أصلاً تستطيع أن تحرك نفسك، وتستطيع أن تعمل، لكن الإنسان يكون عنده طاقة وجهد وهو كسول، فيريد أن يبرر الكسل فيتصور أن هذه المجموعة أو هذا المجتمع أو العصر الذي وجد فيه هو السبب في إهماله! ولو كان في الوقت القرن السادس عشر أو في القرن الثالث عشر لكان آية من آيات الله! وهذا غير صحيح صحيح، بل هذا وهم ومخادعة للنفس، ما دمت تزعم وتدّعي أن عندك طاقة فأنت قادر على أن تعمل وتُنتج في أي ميدان كنت حتى وسط هذه المجموعة.

الجمع بين جميع أبواب الدعوة مستحيل

الجمع بين جميع أبواب الدعوة مستحيل Q عندما قال أبو بكر: ألا يمكن أن يدعى أحد من جميع الأبواب؟ أجاب النبي بالإيجاب، أفليس ذلك دالاً على إمكانية الإحاطة بجميع الخير ليكون كلانا على كل الخير، أرجو الإجابة الوافية عن هذا السؤال؟ A يمكن أن يُدعى لكن الذين يدعون إلى هذا الخير قلة، وأنا أسألك: هل تستطيع الآن أن تكون عالماً تفتي في الفقه، ومفسّراً، وأصولياً، وأديباً، وعالماً بالمذاهب، وعالماً بالتيارات المعاصرة، وسياسياً بارعاً، وقائداً في الجيش، ومهندساً، وطبيباً، وإنساناً تنفق على المحتاجين، وتربي الشباب، وتدرس، وتؤذن، وتؤم الناس، وتفعل كل هذه الميادين؟ هذا مستحيل لا يمكن لكن يمكن أن يكون للإنسان من كل عبادة نصيب، أما أن يسد أبواب الدعوة وميادين الدعوة ويقوم بها شخص واحد فهذا مما لا يمكن ولا يطاق، ولو وجد من يجمع أبواباً كثيرة فهؤلاء أناس نوادر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعون كلهم من هذه الأبواب جميعاً.

اتخاذ قرار التخصص بحسب الأغراض الدنيوية

اتخاذ قرار التخصص بحسب الأغراض الدنيوية Q بعض الشباب بعد أن اجتاز المرحلة الثانوية ذهب إلى تخصص حسب الأغراض الدنيوية، ولم يذهب إلى المجال الذي يُبدع فيه، فما تعليقكم على ذلك؟ A هذا إنسان لا تعنيه القضية، أنا أقول: إن الإنسان الذي تعنيه قضية الدين وقضية الدعوة يجب أن تتحكم في كل قراراتك، ومن ذلك اختيار التخصص في الجامعة، اختيار العمل بعد التخرج، حتى اختيار موقع السكن قضايا كثيرة يجب أن تؤثر فيها، فهذه تكون عاملاً مؤثراً في اختيار هذه القرارات وحينئذ يختار الإنسان التخصص الذي يرى أنه يفيد الأمة من خلاله، أو العمل الذي يرى أنه سينفع من خلاله.

الموازنة بين خدمة الدين في ميدان والتعرض للانحراف

الموازنة بين خدمة الدين في ميدان والتعرض للانحراف Q إذا ما نبغ الشخص في مجال نبوغاً فاق فيه الكثير لكن مثل هذه المجالات التي نبغ فيها قد تضعف إيمانه، وقد تؤدي إلى انحرافه، علماً بأن ما هو عليه ثغر ليس له من يسده إلى الآن، فما توجيهكم؟ A لماذا نضع أبيض وأسود، أضرب لك مثالاً حتى تتضح الصورة: نحن نحتاج مثلاً إلى طبيب يكون في المستشفى، المستشفيات فيها فساد وسفور وتبرج، فلا يطلق لنفسه العنان ولا يترك العمل، بل يبقى في هذا الميدان ويحاول أن ينكر، ثم يشعر أنه على خطر فيجتهد في العبادة والدعاء والإقبال على الله عز وجل حتى يكون محصناً من ذلك، ويغض بصره ويجتهد في مدافعة المنكر. الذي ينكر المنكرات في الأسواق مثلاً يحتاج أن يخرج إلى السوق فينكر المنكرات فيتعرض للفتنة، فهو الآخر يحتاج إلى أن يتسلح بالإيمان، وأحوج من غيره إلى زيادة العبادة والطاعة وكلنا نحتاج إلى ذلك، لكن هذا يحتاج إلى أن يكون عنده حرص على العبادة والطاعة ودعاء الله والتوجه إليه، ولو حصل ما حصل عنده من الإخلال بجوانب أخرى نتيجة لأنه سد هذا الميدان فلا حرج، لكن إذا وصلت القضية عند بعض الناس إلى الانحراف في الخطورة فلا، بعض الناس قد يكون عنده شهوة قوية وغريزة قوية ولا يصبر، فهذا مثلاً لا يصلح أن يتصدى لإنكار المنكرات في الأسواق أو الأعمال التي يمكن أن تكون وسيلة لأن يقع في مثل هذا الميدان، فينبغي له أن يبتعد عن هذا الميدان ويسلك الميدان الآخر.

جميع أبواب الدين مفتوحة للعمل فيها

جميع أبواب الدين مفتوحة للعمل فيها Q هل ترى أن هناك أبواباً من أبواب الخير قد اكتفت وتنصح بالتوجه إلى أبواب تحتاج إلى من يسدها، أرجو ذكر أمثلة على ذلك؟ A لا لا يوجد أبواب كل أبواب خدمة الدين وخدمة الأمة لا تزال مفتوحة أمام الجميع، قد يكون هناك باب أولى، وقد يكون هناك مجال أولى، لكن الأبواب جميعاً مطلوبة.

كيفية تحديد منهج النبوغ

كيفية تحديد منهج النبوغ Q الشباب يواجه بعض الصراعات في تحديد منهج نبوغه فتكثر الطرق والسبل، كيف يقوم الشاب بالتحديد؟ A ليس المعنى أن الإنسان ليس إلا خط واحد يسلكه! والتربية تؤثر على الإنسان فالإنسان قد يكون أمامه عدة خيارات، لكنك عندما تطوعه يمكن أن يسلك هذا الميدان أو الميدان الثاني، فمثلاً هذه الخرقة التي أمامي يمكن أن أستعملها عدة استعمالات، فيمكن أن أجعل منها حبلاً، ويمكن أستر بها على الجدار، ويمكن أن أستعملها بوسيلة أو أخرى؛ لكن لا يمكن أبداً أن أجعل من هذه الخرقة مكبّر صوت، وكذلك الشاب يمكن أن يسلك أكثر من ميدان لكن هناك ميادين لا يمكن أن يسلكها، والشاب عندما يتقدم به السن يعرف نفسه، ويستطيع أن يستفيد أيضاً من أساتذته ومن حوله من الناس.

اختلاف الناس في التوجه للعبادة

اختلاف الناس في التوجه للعبادة Q هل هذا الموضوع خاص بالأعمال المتنوعة، وهل تدخل فيه العبادات أيضاً، وكيف يكون ذلك؟ A سبق أن نقلت كلام ابن القيم رحمه الله، والعبادات فيها جانب من ذلك، فمثلاً: الإنسان قد يجد أن نفسه تتوجه لكثرة الصلاة فتراه يكثر من صلاة النافلة لكنه ليس عنده جلد على الصيام، فهذا يجتهد في النوافل مثلاً، أو يرى نفسه تتوجه إلى الإنفاق فيتجه للإنفاق ولو لم يكن له نصيب كبير من الصيام، وهكذا الصيام، أو قراءة القرآن، أو الذكر؛ لكن في الجملة يجب أن يأخذ الإنسان من كل باب بنصيب، فيكون له نصيب من الصيام والصلاة والذكر وقراءة القرآن. وتأمل أنت في الناس من حولك تجد بعض الناس يقرأ القرآن في قيامه وقعوده وجلوسه، وبعض الناس يداوم على ذكر الله عز وجل، وبعض الناس يكف لسانه عن عيب الناس وانتقادهم، وبعض الناس ينفق في سبيل الله، وبعض الناس يصلح بين الناس، وهكذا ترى كل إنسان فُتح له باب خير، فأقول: هذا الكلام يشمل أبواب العبادات والتقرب إلى الله، ويشمل أبواب الدعوة لكن قد يكون بينها بعض الفروق. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الشباب والاهتمامات

الشباب والاهتمامات إن للشباب همة وقوة ونشاطاً، فينبغي استغلال تلك الطاقات استغلالاً جيداً مثمراً نافعاً للأمة، ومجالات الخير والسباق كثيرة من دعوة إلى الله، وطلب للعلم، ومسارعة في الأعمال الصالحة، والناظر في حال شباب الأمة يصاب بالذهول والحزن عندما يرى أكثرهم ليس له همة ولا مسارعة إلا في الرذائل والشهوات والتفاهات، ويراهم معرضين عن معالي الأمور وعن جميل الأفعال.

اهتمامات كثير من الشباب ونتائجها

اهتمامات كثير من الشباب ونتائجها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فموضوعنا لهذه الليلة كما ذكر الأخ المقدم هو: الشباب والاهتمامات، وهذا الموضوع جزء من سلسلة دروس تربوية لعل كثيراً منكم إن لم يكن قد حضرها فإنه قد سمع بعضاً منها من خلال الأشرطة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما نعلم حجة لنا لا حجة علينا. وهذا هو الدرس الحادي عشر من هذه الدروس التي تعنى بالقضايا التي تهم الشباب بدرجة أساس. إن موضوع الاهتمامات موضوع له حساسيته وله أهميته كما ذكر لنا الأخ الفاضل الذي قدم لهذه المحاضرة، ومع هذه الأهمية التي تميز بها هذا الموضوع نجد أننا لا نعتني به، بل ربما البعض يتساءل: هل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد بالحديث عنه؟ وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد بهذه العناية؟ أقول: لعل البعض يتساءل حينما لا يدرك مدى تأثير هذه الاهتمامات على شخصية الشاب، وعلى سلوكه، وعلى توجهه، ولعلنا من خلال عرض الموضوع تتضح لنا أهميته أكثر. عندما نبدأ بالإنسان من مراحله الأولى؛ مرحلة الطفولة، نجد أن الطفل يولد ساذجاً، له اهتمامات غريبة وساذجة، فهو في مرحلة من المراحل يهتم مثلاً باللعبة التي يقتنيها، فهي كل شيء عنده، وهي المقياس، ويرضى ويسخط من أجلها، ودائماً يتحدث عن هذه اللعبة، فإذا كان لديه مبلغ من المال فإنه سيشتري به لعبة، وإذا زار أحد أقاربه فسيقارن بين لعبته ولعبة الابن الآخر، وهكذا تصبح هذه اللعبة هي قضية القضايا عند هذا الطفل، ثم يتقدم به السن وتتقدم اهتماماته قليلاً، لكنها تبقى دائماً محصورة في إطار ضيق، ثم تبقى الفوارق أيضاً عند هؤلاء الأطفال محدودة، ولو أخذت شريحة أو عينة من مجموعة أطفال ونظرت إلى اهتماماتهم لوجدت أنها متقاربة، لكن عندما يتقدم به السن فيصل إلى مرحلة التكليف، فيبلغ ويكلف شرعاً، فحينئذٍ ستجد الاهتمامات عنده أصبحت في مفترق طرق.

اهتمام الشباب بالدنيا

اهتمام الشباب بالدنيا لعلنا قبل أن نتحدث عن الاهتمامات، وما يتعلق بها، وكيف تكون اهتماماتنا، وكيف نضبطها، سنلقي نظرة ولنحرص أن تكون عاجلة حول اهتمامات الشباب، فستجد مثلاً أن فئة من الشباب قد يكون همه الدنيا وتحصيلها، فتصبح هي كل شيء عنده، وهي مقاييسه، وهي التي تستغرق عليه وقته وجهده وتفكيره، حتى قد يصل إلى الحال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). فقد وصل إلى حال أصبح فيه أسيراً للدنيا، وعبداً للدنيا وفي طوعها، فالدينار والدرهم والمال والدنيا هي كل شيء عنده، فيرضى من أجلها، ويسخط من أجلها، ويضحي من أجلها، وهي الهدف الذي لا يساوم عليه، بل لعلك حتى تدرك فعلاً مدى أسر الدنيا لمثل هذا الشخص أن تتصور كيف أنه باع آخرته لدنياه، وهذا يكفي ليعطيك دلالة على مدى أهمية الدنيا عند مثل هذا الشخص. فهذه صورة، وقد تكون هذه الصورة الآن قليلة في محيط الشباب، لكنك تجدها في الطبقات الأكبر سناً.

اهتمام الشباب بالرياضة وأثره

اهتمام الشباب بالرياضة وأثره ننتقل إلى اهتمام آخر أكثر انتشاراً وتأثيراً عند الشباب ألا وهو الرياضة أو الكرة، فالشباب يهتم بالكرة اهتماماً بالغاً، من خلال الممارسة، ولعب الكرة يأخذ جزءاً كبيراً جداً من وقته من خلال ما يسمى بالمصطلح المعاصر التشجيع، وفي العلم نسميه الولاء، فهو في الواقع ولاء لهذا النادي وما يتعلق به. ولو كان الشاب اقتصر على قضية الممارسة للرياضة مع ما تأخذ من الوقت فقد يهون الأمر، فنقول: إن الرياضة تأخذ عليه ساعات، فيصبح الأمر هيناً عندما نقارنه بالصورة الأخرى وهي صورة الانتماء الرياضي، فصار هذا الشاب يشجع نادياً من النوادي، وانظر كيف يؤثر عليه هذا الأمر، فهو مثلاً يهتم بأخبار النادي، واللاعبين، وتاريخهم، وربما يقتني أيضاً صور هؤلاء اللاعبين، ويتابع مباريات الفريق أولاً بأول، ويهتم بهذا، ثم تستولي على مشاعره كثيراً. كذلك يتأثر أيضاً في تفكيره فيصبح تفكيره مربوطاً كثيراً بهذا النادي، حتى إن أشياء ساذجة صارت تحكم عقلية هذا الشاب، فمثلاً اللون الذي يميز هذا النادي يصبح لوناً له قيمته عنده، فهو مثلاً عندما يقتني قلماً يحرص أن يكون القلم يعبر عن شعار هذا النادي، وعندما يضع تلبيسة على سيارته فأيضاً يجب أن تكون تمثل شعار هذا النادي، فصار هذا اللون يحكمه، وصار يعشق هذا اللون؛ لأنه يذكره بهذا النادي الذي أصبح ينتمي إليه. وهذه حققت مكاسب لفئات كثيرة من الناس: أصحاب الدعاية، فيطبع شعارات ويفرد شعارات وتروج هذه الشعارات؛ نظراً لارتباطها بنادٍ معين عند هذا الشاب الذي صار هذا النادي يسيطر عليه. وأنت حتى تدرك فعلاً كم يأخذ هذا الانتماء من الشخص، ومن قدراته، ومن طاقاته، دعني أصور لك هذا المثال: شاب يشجع نادياً من النوادي، والآن لديه مباراة لهذا النادي لها أهمية فقد تحدد موقعه أو مصيره، فهو قبل المباراة سيقرأ الصحف، ويقرأ التحليل عن المباراة والتوقعات إلى غير ذلك، فتأخذ عليه جزءاً كبيراً من وقته ومن قراءته، وما يكتفي بصحيفة واحدة، بل يمكن يقرأ جميع الصحف التي تكتب عن المباراة والتحليل لها، ثم يتناقش مع زملائه، ولك بالضرورة أن تتصور طبيعة النقاش الذي يسود أجواء الرياضيين، فهو نقاش غير مؤدب، ونقاش غير لبق، ونقاش ينم عن مستوى الثقافة التي يتمتع بها أمثال هذه الطبقة، ثم يذهب للملعب، وبالتأكيد سيذهب في وقت مبكر؛ حتى يحصل على مكان متقدم. وانظر ما سيترك من واجبات لأهله ومصالح سيفوتها نتيجة حرصه على الحضور بل الحضور المبكر لهذه المباراة، وإذا لم يتيسر له الحضور انتقل إلى المرتبة الثانية وهي متابعة المباراة من خلال الشاشة، فسيقف أمام الشاشة أو أمام الملعب وتبدأ المباراة وخلال وقت المباراة كله سيعيش جوا مشحوناً، فقد استجمع كل مشاعره من خلال النظر، ومن خلال التفكير، كل هذه المشاعر استجمعها؛ لأجل متابعة هذه المباراة. وهذه المشاعر لا يمكن أن يستجمعها مثلاً وهو يقرأ القرآن، ولا وهو يصلي، ولا وهو يسمع الخير، فضلاً عن أن يستجمعها وهو يسمع شرح الأستاذ، أو في أي قضية من قضاياه الجادة، فيستجمع لها مشاعره، ثم يعيش أيضاً مشاعر وعواطف متناقضة خلال هذه المباراة، فهو مثلاً عندما تكون الهجمة على فريقه يعيش شعور خوف ووجل حتى تتبدد على خير، فيرتاح ويستقر، وتعود مرة أخرى فيعود إلى الشعور المعاكس تماماً، فهنا كان عنده شعور خوف، وهنا الآن صار عنده شعور رجاء، فصار يعيش مدة ساعة ونصف بين هذه المشاعر المتناقضة. فلمصلحة من يضيع الإنسان هذا الوقت وهذا الجهد؟ فهذه المشاعر والعواطف التي عنده: الحب والكراهية والحماس حرام تضيع هذه المشاعر في هذه القضايا، وثق ثقة تامة أنها -كما سيأتي- ستكون على حساب القضايا الأهم. يا أخي! إن الله سبحانه وتعالى خلق لك نفساً قابلة للحماس، وخلق لك مشاعر معينة، خلقها لحكمة، فهذا إهدار لثروة هائلة قد لا نقيم لها وزناً؛ لكن لها أهمية، فنحن نفكر في ثروة المال، ونفكر في ثروات معينة، وقد أحياناً نفكر في الوقت وأنه ثروة، لكن لا يمكن أن نفكر في هذه المشاعر الذي عندنا أنها ثروة مهمة يجب أن نحافظ عليها، ويجب أن نستغلها الاستغلال الشرعي؛ لأجل المصلحة التي خلقها الله عز وجل من أجلها. ثم ما يعقب المباراة والنتيجة التي صارت في المباراة لابد أن يصير فيها إلى حالتين: إما أن ينتصر فريقه، فيصبح يعيش حالة زهو وفرح يسيطر عليه، وتؤثر على حياته كلها في اليوم التالي، أو العكس أن يهزم فيعيش مشاعر أخرى من السخط والحزن والقلق. ولعلكم تسمعون كثيراً مثلاً عن حالات طلاق تحصل عن حالات خصام بين الزوجين؛ نتيجة مثل هذا الجنون الكروي، بل أحياناً قد يصل الأمر ببعض الناس إلى حالة الإغماء وحالة الوفاة.

اهتمام البنات بالرياضة

اهتمام البنات بالرياضة ومن أطرف ما مر علي مقال أحب أن تشاركوني فيه، كتبته إحدى الفتيات، وهي فتاة غيورة كتبت في إحدى الصحف عن علاقة الفتاة بالرياضة، فإنك تجد الفتاة تهتم بأي شيء إلا الرياضة، فهذا المقال كتبته رداً على مقال آخر، تقول الكاتبة: كنت أتصفح إحدى الصحف المحلية ولفت نظري ما أشارت إليه إحدى القارئات بأن تشجيع الفتاة للكرة ليس من تخصصها، ولا يليق بأنوثتها. ورغم أنني أتفق تماماً مع ما ذهبت إليه إحدى الأخوات في رأيها -لاحظ: أتفق تماماً- إلا أنني أود أن أطرح بعض النقاط والتي أتمنى أن تكون موضع اهتمام هذه القارئة وغيرها: التشجيع ليس مقتصراً على الشباب فقط حتى نقول إنه ليس من تخصص الفتاة، فلا أعرف من أين استقت هذه الفتاة هذا الرأي. يعني: هذا نقاش علمي ومطالبة بالدليل والحجة والبرهان! فهل تحرم المواطنة من تشجيع منتخب بلدها مثلاً، أليست هي مواطنة تنتمي لبلدها؟! فهناك وفي أكثر الفنادق رجال يعملون في المطبخ، فلماذا لا نقول: إن الطبخ من اختصاص النساء فقط؟ هذا قياس. إن تشجيع الفتاة للكرة لا يقلل من شأن أنوثتها طالما التزمت برقتها، وهدوئها، وصحيح أنها لا تمارس هذه الرياضة كالشباب لكن من حقها أن تشجعها، ومن حقها أن تمارسها أيضاً، فما المانع؟ عندما تكون هناك نوادٍ، وهناك مباريات رياضية فيما لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية، ولا يتعارض مع شريعتنا الإسلامية ما هو الإشكال؟ وما المانع مثلاً أن يكون فيه أيضاً مسارح فيما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ونوادٍ للرقص مثلاً؟ وإلى غير ذلك. تقول: كرة القدم ليست محتكرة على فئة معينة دون الأخرى، ومن يتفق على أنها حكر على الشباب فأتمنى أن يدعموا رأيهم بأدلة تثبت ذلك. وأخيراً أقول: بأن التشجيع هواية لدى الشباب والشابات بدليل الفنون التشكيلية، والرياضات العالمية، وغير ذلك مما أصبحت فيها الفتاة خير نموذج تؤكد نجاحها في كل المجالات فتخيلوا صورة فتاة تلبس برقعاً ومعها مجموعة من الكرات. إن أخواتنا المسلمات تنتهك أعراضهن في كل مكان، ومنهن من تعيش في السجون، ومنهن من تنتهك أعراضهن، ويتناوب آلاف الرجال عليهن، وتسأل الفتاة: ماذا تصنع بهذا الجنين الذي في بطنها؟ كما نسمع كثيراً عن هذه المآسي. والفتاة الأخرى تحارب عندما تلبس الحجاب، وتقام معارك في الجامعات هل يسمح للفتاة أن تلبس الحجاب أو لا تلبس الحجاب؟ إلى غير ذلك من المآسي التي تعاني منها الفتاة، ونحن نناقش هنا قضية أحقية الفتاة في تشجيع الكرة! فهذه الصورة لا نريد أن نطيل عندها كثيرا.

اهتمام الشباب بالشهوات

اهتمام الشباب بالشهوات صورة أخرى: صورة ذاك الشاب الذي قد سيطر عليه هم آخر وهو الشهوة، فسيطرت عليه الشهوة، فصارت تحكم تفكيره وحياته، فهو يفكر دائماً في هذه الشهوة، وكيف يقضي شهوته ويصرفها، فيجلس أمام الأستاذ في الفصل والأستاذ يشرح، لكنه يعيش في واد آخر غير هذا الوادي الذي هو فيه. ويعيش مع الناس لكنه معهم ببدنه وأما قلبه ففي وادٍ آخر، ويسير بسيارته لكنه أيضاً يفكر تفكيراً آخر، ويتطور الأمر لديه وهو في الفصل ربما والأستاذ يشرح الدرس، فيخرج القلم ويخرج كراسة الكشكول أو الكتاب، فيبدأ يكتب عبارات دون أن يشعر، ويتحرك قلمه فيكتب قصائد حب وغرام، ويكتب عبارات معينة، وحروفاً معينة، ورموزاً معينة، كلها تعبر عن هذا الجحيم الذي يعيشه، وتعبر عن هذا الاهتمام الذي سيطر عليه. وقد يتجاوز الأمر أحياناً فيكتب على كتابه، وربما يكون هذا الكتاب كتاب التفسير، أو كتاب التوحيد مثلاً، وهذا أمر رأيته بعيني، فقد رأيت أحد الطلاب كتب عبارات ساقطة على كتاب التفسير، ولا أستطيع أن أقولها لكم، ولا أتجرأ أن أقول هذا الكلام الذي يكتبه هذا الطالب على كتاب التفسير. ولا شك أنه كتب هذا الكلام في درس التفسير، فهو قد أخرج الكتاب والأستاذ يشرح وهو يعيش في وادٍ آخر، فالأستاذ يتحدث عن أسماء الله وصفاته، وعن اليوم الآخر، وعن هذا القرآن الذي أنزله الله هداية للناس، وصاحبنا يعيش في وادٍ آخر. وربما يتطور الأمر ويصلي ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]. والله سبحانه وتعالى يخاطب عبده كما تعلمون (إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). وصاحبنا يعيش في وادٍ آخر، وله هم آخر، فهو يفكر في هذه الشهوة، وصارت هذه الشهوة مقياساً له يقيس به الناس، حتى قد يتحول الأمر به إلى أن يصبح عبداً وأسيراً لهذه الشهوة تحكمه، حتى إن من الناس من يضحي بدينه، وقد يقول عبارات الكفر -عافانا الله وإياكم- لأجل هذه الشهوة التي أصبح أسيراً لها. أقرأ لكم كلاماً ذكره ابن القيم رحمه الله، وكلامه في هذه المواضع طويل وكثير جداً، لكن هذا كلام ذكره في (إغاثة اللهفان)، قال وهو يتحدث عن حال العاشق: فهو أعظم ذكراً له -أي: لمعشوقه- من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهداً على نفسه، {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]. فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة، وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله -إن جعل له- كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه وخالص ماله، وربه على الفضلة وقته، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسياً، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجي ربه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، إلى آخر كلامه رحمه الله. هذه صورة من صور بعض الاهتمامات التي قد تطغى على الشاب.

الاهتمام بنقد الآخرين أيا كان النقد

الاهتمام بنقد الآخرين أياً كان النقد وهذه صورة أخرى قد تكون أقل من الصور التي قبلها، لكنها أيضاً صورة من صور الاهتمامات الخاطئة، وهي الاهتمام بنقد الآخرين أياً كان هذا النقد، فيصبح هذا النقد يسيطر عليه، فهو يسمع لينتقد، ويقرأ لينتقد، ويسأل لينتقد، فيأتي يسأل فلاناً وهو يريده أن يجيب إجابة معينة؛ لينتقده فيها، فإذا أجاب على خلاف ما يريد الناقد قال الناقد في حق المسئول: إنه يقول ما لا يعتقد، إنه يعتقد كذا وكذا، ثم يطرح السؤال بصورة أخرى ويلح عليه حتى يجيب بالإجابة التي يريد أن ينتقده فيها، فهذا الشخص قد سيطر عليه النقد وأصبح همه.

الاهتمام بطاعة الله والآخرة

الاهتمام بطاعة الله والآخرة لعلنا نرى نماذج من هذه الصور، وقد تختلف النسب بين من هذا همه وذاك همه، قد تختلف الخواطر، ولكنك ترى أن هذه الهموم كلها هموم تسيطر على فئة وقطاع من الشباب، وتتحكم هذه الهموم في مشاعر الإنسان. ويضرب لنا ابن الجوزي مثلاً عجيباً في ذلك، فهو يتحدث عن همة المؤمن، ثم يضرب لنا مثلاً في اختلاف اهتمامات الناس وأثرها عليهم، فيقول: همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى نسج الثياب. والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموت في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما في الآخرة، وذلك يشغله عن كل أمور الدنيا، إلى آخر كلامه رحمه الله. وهناك شاب آخر يعيش الظروف نفسها، فهو يعيش في نفس البيئة التي يعيشها الشاب الأول الذي يهتم بالرياضة، أو الشاب الآخر الذي يهتم بشهوته، فيعيش نفس الظروف، ونفس البيئة، ونفس المتغيرات، وربما يعيش البيت نفسه الذي يعيشه فلان، فأنت ترى الشاب الأول له هذا الهم، بينما الآخر يعيش معه في البيت نفسه، ومن أم وأب واحد، ويتلقون تربية واحدة، ولكن هذا له هم آخر غير هم أولئك، ولسان حاله يقول: يا قومي! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، يا قومي! لي هم غير الهم الذي يشغلكم، فلم تعد الدنيا هماً لي، ولم تعد الرياضة مجالاً أن أفكر فيها أصلاً، فضلاً عن أن أصرف فيها نفيس وقتي ومشاعري وأحاسيسي، وأما الشهوة فهي أبعد إلي من ذلك كله؛ لأني أعرف أنها تقودني إلى ما حرم الله عز وجل. نعم إنني أصرف شهوتي، لكن فيما أباح الله سبحانه وتعالى، وأؤجر على ذلك، وأتعبد الله بذلك، ولكن لي وادٍ آخر ولي هم آخر غير هذا الهم الذي تهتمون به، فهو يهتم بحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فإذا رأى شاباً تساءل في ذهنه: يا ترى كم يحفظ من القرآن؟ ويسمعه يقرأ فيصغي إلى قراءته ليسمع ماذا يقرأ، وإلى أين وصل في حفظ القرآن، وهل فاقه أم لا؟ بينما ذاك الشاب ينظر إلى هذا الشاب نفسه الذي يقرأ القرآن، لكنه ينظر بعين أخرى، ينظر بنظرة أخرى، ينظر وله هم آخر وصورة أخرى، أرأيت كيف يجتمع هذان في النظر إلى هذا الشاب، لكن هذا له نظرة وذاك له نظرة أخرى! تماماً كما ذكر ابن الجوزي يدخل الناس القصر، فهذا ينظر إلى الأخشاب، وهذا ينظر إلى الحائط، وهذا يذكره هذا النعيم بنعيم الجنة، ويذكره هذا الجمال والبهاء في الدنيا بزوال الدنيا وفنائها. وهذه صورة أخرى، فالشاب الذي همه العلم الشرعي وتحصيله، قد تراه يدخل مع غيره المكتبة، وتجد هذا الغير همه مجلة، أو همه صفحة رياضية، أما هذا فهمه كتاب من كتب العلم، ويدخل التسجيلات وله هم، والآخر يدخل تسجيلات أخرى ولكن له هم آخر، في المجالس يتحدث في موضوع، وذاك يتحدث في موضوع آخر. إذاً: هذه صورة عاجلة عن اهتمامات الشباب.

المجالات التي ينبغي أن نهتم بها

المجالات التي ينبغي أن نهتم بها ننتقل بعد ذلك إلى النقطة الأخرى، وهي: ما المجالات التي ينبغي أن نهتم بها، والتي نصرف لها اهتمامنا؟ أظن أنه بعد ما سبق وصلتم على الأقل إلى قدر من القناعة بأهمية هذا الموضوع؛ أهمية أن نعتني باهتماماتنا، ونفكر فيها، ونسعى إلى أن نتحكم فيها ونضبطها. فنقول إذاً: ما القضايا التي يجب أن يهتم بها الشاب؟ وما الأمور التي يجب أن تسيطر على اهتماماته؟

إصلاح النفس

إصلاح النفس أول قضية وأهم قضية: هي إصلاح نفسه، أن يهتم بإصلاح نفسه: كيف أزيد من إيماني وطاعتي لله سبحانه وتعالى؟ وكيف أنمي في نفسي الخوف من الله عز وجل، ومحبته، ورجاءه، والتوجه إليه، والرغبة والرهبة، إلى غير ذلك من عبادات القلب، وكيف أصرفها لله سبحانه وتعالى؟ كيف أربي في نفسي الحرص على الصلاة، على تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، على ذكر الله، ثم كيف أنتصر على المعاصي؟ كيف أضبط شهواتي؟ كيف أضبط نفسي عما حرم الله سبحانه وتعالى؟ ثم كيف أتخلص من داء البخل الذي قد يكون حاجزاً بيني وبين الإنفاق في سبيل الله؟ وكيف أتخلص من داء الكسل الذي يكون عائقاً بيني وبين الكثير من التطلعات التي أتطلع إليها؟ فقد يكون الكسل عائقاً بيني وبين عبادة الله سبحانه وتعالى، وبين طاعة الله عز وجل، وبين طلب العلم، وبين الدعوة، إلى غير ذلك من المجالات التي يجب أن أسلكها. المهم أن هذا هم مهم وأساس يجب أن يسيطر عليك، فتفكر فيه كثيراً، وتتساءل عنه كثيراً، وتثيره مع أقرانك، وتفكر فيه، وتقرأ وتسمع وتوظف طاقات كثيرة تملكها لأجل تحقيق هذا الهم.

تحصيل العلم الشرعي

تحصيل العلم الشرعي هم آخر هو الآخر يجب أن يحتل مكانة بين قائمة اهتماماتك: تحصيل العلم الشرعي. وذلك بدءاً بحفظ كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتصور ماذا سيأخذ عليك من وقتك ومن تفكيرك، فأنت مثلاً تقرأ آيات الله فتفكر فيها، وتسمع حديثاً فتفكر به وتستنبط منه، وترى فيه فائدة مهمة في هذا الموضوع الذي يعنيك، وهكذا تدخل المكتبة فتبحث عن كتب، فهذا كتاب صدر حديثاً، وهذا موضوع جديد، وهذه مسألة تستحق البحث، إلى غير ذلك.

الدعوة إلى الله تعالى

الدعوة إلى الله تعالى هم ثالث: الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وسنتحدث بعد قليل إن شاء الله عن مقدار من العلم يجب أن تهتم به، ومقدار من الدعوة يجب أن تهتم به؛ حتى نضبط هذه الاهتمامات، لكن نحن الآن نتحدث عن مجالات الدعوة في البيت في المدرسة في الحي حتى تصبح هماً تفكر فيه، فترى فلاناً من الناس وتفكر كيف تدعوه، وكيف تنصحه، وكيف تؤثر عليه؟ وتفكر وأنت جالس فيما تدعو، وتفكر في برامج ووسائل يمكن أن تدعو بها إلى الله سبحانه وتعالى، وتفكر في أخطائك في الدعوة إلى الله عز وجل، وتفكر في تجارب الآخرين، وتقرأ، وتبحث، فالمهم أن هذا صار هماً يسيطر عليك.

الاهتمام بمآسي المسلمين ومشاكلهم

الاهتمام بمآسي المسلمين ومشاكلهم أيضاً هم آخر: مآسي المسلمين ومشاكلهم هي الأخرى يجب أن تأخذ مساحة من اهتمامك. فتفكر في أحوال إخوانك المسلمين، وتقرأ وتسمع عن أحوالهم، وتثير هذه القضايا، كل هذه الاهتمامات يمكن أن تصب في نهر واحد، ويمكن أن نقول: إنها طرق تؤدي إلى نتيجة واحدة، ويجب أن يسير فيها الشاب بخط متوازن كما سيأتي. يقول ابن القيم: وبالجملة فالقلب الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]. فيردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه، فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفته، وذوقاً لا تكلفاً، فيأتي بها تودداً وتحبباً وتقرباً كما يأتي المحب المتيم في محبة محبوبه لخدمته وقضاء أشغاله. ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)؛ لأنه يناجي فيها إلهه سبحانه وتعالى، ولهذا كان يدعو صلى الله عليه وسلم ويقول في دعائه لربه: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك). إن هذا الذي يشتاق إلى الله سبحانه وتعالى لن يصبح في قلبه شوق إلى غير الله عز وجل، فهما متناقضان لا يجتمعان أبداً، فلا يمكن أن يشتاق للشهوة الحرام، ولا اللذة الحرام، ولا لما حرم الله، ويشتاق لمحبة الله عز وجل ولقاء الله؛ لأنه يعلم أن هذا يطرد ذاك، وهذا يرفض ذاك، وهذا لا يمكن أبداً أن يجتمع مع ذاك. إذاً: فهذه مجالات ينبغي أن نهتم بها، وحين يهتم بها الإنسان فإنها تسيطر على شعوره وعلى تفكيره، وأنا في الطريق في السفر كنت أسمع أحد الأشرطة، فسمعت حديثاً وكان في ذهني هذا الموضوع، وفعلاً تتعجب من العقلية التي كانت تسيطر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم حديث الدجال فقال: (يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، ويوم كأيامكم)، فهم مباشرة سألوه فقالوا: (يا رسول الله! اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟) يعني: ما فكر الصحابة في طول هذا اليوم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن الدجال، وصارت الصلاة قضية تسيطر عليهم وعلى همومهم، فمباشرة ذهب إلى أذهانهم هذا السؤال. وتحفظون قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن وأفاق قال: أصلى المسلمون؟ وأتاه شاب فلما انصرف قال: ارفع إزارك. وهو يعاني من سكرات الموت. والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته كان يقول: (أخرجوا الكفار من جزيرة العرب)، (لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فكان له هم يسيطر عليه. وهكذا يجب أيها الإخوة! أن ترقى اهتماماتنا إلى هذه المراتب العالية والسامية، ولا يكفينا منك أن تكون هذه اهتماماتك، فقد ترى الكثير من الشباب يهتم هذه الاهتمامات الجادة، لكن قد يكون هناك خلل.

ضوابط الاهتمامات

ضوابط الاهتمامات

التوازن

التوازن ومن هنا نحتاج إلى ضوابط في هذه الاهتمامات: الضابط الأول: التوازن. فلا يطغى جانب على جانب، وقد ذكرت قائمة من الاهتمامات كلها تحتاج إليها: إصلاح نفسك، العلم الشرعي، الدعوة إلى الله عز وجل، مآسي المسلمين، إلى غير ذلك. فيجب أن تسير كل هذه الأمور في خط متوازن، وهذا مجرد تصوير نظري وإلا فأنا أعتبر كل هذه هماً واحداً، ونتيجة واحدة، لكن حتى أصور لك القضية وأقربها لك من خلال التقسيم في الواقع النظري، وإلا فإصلاح النفس لا يتم إلا بالعلم الشرعي، وبالدعوة إلى الله، وبالعناية بمصائب المسلمين. وهكذا تجد كل قضية تقول: أختي أختي! لكن أقول: يجب أن يكون هناك توازن في هذه الاهتمامات، فلا يطغى جانب على حساب جانب آخر، ولا نهتم بجانب ويكون على حساب الجانب الآخر. والقضية -كما سيأتي معنا بعد قليل- أن الاهتمامات تعيش صراعاً، فعندما تزيد نسبة اهتمام معين فلابد أن يكون على حساب الاهتمام الآخر، ومن هنا لابد أن تسعى إلى أن تضبط اهتماماتك فلا تزيد عن القدر الذي ينبغي؛ لأنها ستكون على حساب غيرها.

التكامل

التكامل الضابط الثاني: التكامل: فمثلاً قد تجد شاباً يهتم بأخبار المسلمين، وقضايا المسلمين، فتشغل عليه وقته كله، ثم ينسى العلم الشرعي، وينسى الدعوة إلى الله عز وجل. وتجد شاباً آخر أصبح يهتم بالتحصيل العلمي، ثم ينسى نفسه، فلا يربي نفسه، ولا يعتني بإصلاح نفسه، ولا يهتم بأخبار المسلمين، وعندما تتحدث معه لا يدري الرجل أهو يعيش في عهد الخلافة العثمانية، أو في الحرب العالمية، أو في الحرب الباردة، أو في النظام الدولي الجديد، لا يعرف! ونحن لا نريده أن يدرك هذه المصطلحات، لكن على الأقل أن يعرف واقعه، ويعرف أحوال المسلمين، ويعرف ما هم فيه، فلا يليق أن يهتم بالعلم الشرعي ويعتني به، ثم لا ترى له أي جهد في دعوة غيره، وكأن الواقع الذي من حوله والذي يعيشه ربما في البيت، أو في المدرسة، أو في الحي، أو في موقع العمل، كأن هذا الواقع لا يعنيه بقليل ولا بكثير. إذاً: لابد أن يكون هناك تكامل، فيجمع بين هذه العناصر.

الاهتمام بما يناسب كل فرد

الاهتمام بما يناسب كل فرد نقطة ثالثة: وأريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأننا نجد فيها خللاً في الواقع، وأرجو أن تفهموها فهماً جيداً. مثلاً: يأتيك أحياناً شاب في المرحلة الثانوية، فتجد أنه يهتم بمآسي المسلمين اهتماماً بالغاً جداً، ويسأل عن الأخبار، ويعتني بها، وتسيطر عليه هذه القضية كلية، وينسى القضايا الأخرى التي هي بالنسبة له قد تكون أهم، فما عسى شاب في المرحلة الثانوية أو في المرحلة المتوسطة، يعيش في مدينة، أو يعيش في قرية من القرى، ماذا سيقدم هو لقضية من قضايا المسلمين كقضية المسلمين في البوسنة مثلاً، عندما تكون هي الشغل الشاغل عنده، وهي كل شيء عنده، فدائماً يسأل عن هذه القضية، ويثير هذه القضية؟! كثيراً ما يزورني الشباب، وأجدهم دائماً يطرحون أسئلة حول القضايا الساخنة التي تدور في المجتمع، آخر الأخبار في قضية البوسنة، آخر الأخبار في أوضاع الصومال، ثم قضايا ساخنة في المجتمع، وهذا هو كل شيء عندهم. ونادراً ما يطرح الشباب عليك قضية يعاني منها هو شخصياً، يعني كيف يربي نفسه؟ كيف يصلح نفسه؟ أو قضية علمية تعنيه مثلاً، أو مشروع دعوي هو يفكر فيه ويقترحه. وشخص آخر يهتم اهتماماً علمياً، لكن هذا الاهتمام أيضاً فوق مستواه، فهو مثلاً شاب لا يزال في مراحل مبكرة من العمر، فتجده يهتم بمسألة من المسائل الفرعية، ويقرأ فيها في كل الكتب المطولات والمختصرات، وأقوال العلماء، وماذا قالوا فيها، وهذا الحديث ما العلة فيه، وفلان وماذا قال في فلان، إلى غير ذلك، ويغرق في القضية هذه، ويتصور أن هذا هو العلم الذي يجب أن يعتني به ويهتم له. فيسيطر عليه هذا الهم أيضاً هو الآخر، فيهتم بهذه المسائل الدقيقة جداً، ولهذا لما تسأله في أي مسألة من هذه المسائل الجزئية المشتهرة، يقول لك: هذه المسألة فيها خمسة أقوال لأهل العلم، قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، وصنف فيها فلان، وفيها حديث فيه الراوي الفلاني، وهو شاب في مرحلة ثانوية. أنا والله لا أقول هذا حسداً لهذا الشاب أن يصل إلى هذا المستوى، لكن اسأله في قضية مهمة من قضايا العلم وأساس من أساسات العلم فقد يخطئ فيها. وأنا يمكن آتي لك بشاب يستوعب ما قاله أهل العلم في قضية تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة، والمصنفات وصنف فلان، وقال فلان، وهذا الحديث فيه فلان، أو قضية الإشارة مثلاً بالسبابة، لكنه لا يستطيع أن يفرق مثلاً بين الركن والشرط والواجب في الصلاة، ما الفرق بين هذا وذاك؟ ويمكن أن يخطئ في عد أركان الصلاة، أو في أحكام أساسية هو يحتاج إليها في الصلاة. مرة أخرى أنا لا أقول: إن هذه قضايا لا ينبغي أن نهتم بها ولا نعتني بها، بل يجب أن نهتم بها، وهي قضايا من ديننا، ولا يجوز إطلاقاً أن نقول هذه قضايا ثانوية، ولا يجوز أن نسفه من يهتم بها، لكن يا أخي! الشاب يجب أن يكون مهتماً بقدر ما هو عليه، فالشاب الذي في هذه المرحلة يجب أن يهتم بالقضايا الأساسية، فيهتم بأساسات العقيدة، ولا يهتم بقضايا جزئية في العقيدة قد لا يضره إن جهلها، ويهتم بأساسات الفقه، ولا يهتم بالقضايا الجزئية التي قد لا يضره إن جهلها، ويهتم بالأساسات في علوم القرآن، وفي تفسير القرآن، فإذا صارت عنده قاعدة علمية جيدة بدأ يهتم بالفروع. خذ جانباً آخر قد يهتم به الشاب أكثر من مستواه: الجانب الدعوي. فيأتيك شاب في هذه المرحلة يسألك عن الجماعات الإسلامية، والخلافات التي بين الجماعات، والعمل الإسلامي، ومشاكل العمل الإسلامي، والقضايا التي قد لا يجيد التعبير عنها فضلاً عن أن يستوعبها، ألا توافقني أن هذا الشاب قد أخذ ما لا يطيق، وقد تحمل ما لا يطيق؟ نحن لا نطالبك بعدم الاهتمام بالدعوة، اهتم بالدعوة، لكن في موضع معين، وعلى قدرك أنت، فاهتم بأحوال المسلمين لكن بالقدر الطبيعي الذي فعلاً يطلب منك، وليس من اللائق أن تضيع وقتك في قراءة تحليلات وأخبار، وتسمع الإذاعات، وتستغرق جزءاً كبيراً جداً من وقتك في متابعة قضية من قضايا المسلمين. الجانب الآخر: الجانب الدعوي: فلا تشغلنا في الكلام عن الجماعات الإسلامية، وعن مشاكل العمل الإسلامي، وعن هموم العالم الإسلامي، وأحياناً -مع احترامي الشديد- تجد طالباً في المرحلة الثانوية أو في مرحلة متوسطة قد ألف كتاباً وكتب: تأليف أبي فلان الأثري، إلى غير ذلك من الألقاب، ثم يُقيِّم العمل الإسلامي كله، ويحكم على الدعاة والجماعات الإسلامية. أنا لا أقول: إن هؤلاء معصومون، ولا أقول: إنه ما ينبغي أن يتحدث عن أخطائهم، لكن على الأقل يجب على كل إنسان أن يعرف لنفسه قدرها، فبدل الكلام هذا كله يا أخي! أنت الآن في المرحلة الثانوية، أو مرحلة متوسطة، أو طالب جامعي، أو موظف، أياً كان شأنك، بدل هذا التفكير كله، والكلام الذي قد لا يفيد، وعادة ما يكون تجنياً، ما دمت مصراً على التأليف والتصنيف فصنف لنا مثلاً في أساليب دعوية يمكن أن يسلكها من هو مثلك، فأنت مثلاً طالب اعرض لنا تجربتك في الدعوة إلى الله عز وجل، والأساليب التي يجب أن يسلكها الشاب في الدعوة، وإذا كنت موظفاً اعرض لنا هذه ا

خصائص الاهتمامات

خصائص الاهتمامات أخيراً: ننتقل إلى العنصر النهائي لهذه المحاضرة، وهو خصائص الاهتمامات. أظن أنها قد تقدمت معنا قبل قليل من خلال الحديث العام، لكن نعرضها لكم الآن، وسنجد أنها مصداق لما سبق.

أن الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص

أن الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص أولاً: الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص، فدائماً الإنسان إذا سيطر عليه هم فلابد أن يتحكم في وقته، فيتأثر تنظيمه لوقته، ونظرته لوقته، فرأينا مثلاً كيف أن الشاب الذي أصبح يهتم بالرياضة سيطرت الرياضة على وقته، والشاب الذي أصبح يهتم بالشهوة سيطرت هي الأخرى على وقته، والشاب الذي يهتم بحفظ القرآن سيطر هذا الأمر على وقته، والذي يهتم بالعلم الشرعي سيطر أيضاً هذا الجانب على جزء كبير من وقته، وكذلك الدعوة وغير ذلك، فهذا الاهتمام لابد أن يسيطر على جزء من وقته، والوقت هو حياة الإنسان، وهو عمر الإنسان. إذاً: فهذا الشيء الذي يتحكم في قضاء وقتك وتصريف وقتك ألا يستحق أن تعتني به؟ ألا يستحق أن نتحدث حوله، ونناقش فيه ونأخذ ونبدئ ونعيد؟

أن الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس

أن الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس ثانياً: الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس. فدائماً الإنسان يطرح القضية التي تشكله، وكما يقال: كل إناء بما فيه ينضح. وتجده في المجلس مع الناس، وفي موقع العمل، وفي موقع الدراسة، وفي أي مكان من الأماكن تجده دائماً يثير القضية التي تسيطر على اهتمامه، فيتحدث عنها ويسأل، ويبدي الحديث ويعيد حول هذه القضية.

الاهتمامات عادة يعتبرها الشخص مقياسا للناس

الاهتمامات عادة يعتبرها الشخص مقياساً للناس ثالثاً: الاهتمامات عادة يعتبرها الشخص مقياساً للناس، فيقيس الناس من خلال هذه الاهتمامات التي أصبحت تسيطر عليه، فقد تجد مثلاً من يقيس الناس من خلال الولاء الرياضي، ويقيس الناس من خلال قضية الشهوة، فتصبح نظراته -عافانا الله وإياكم- دائماً تدور وتحوم حول هذه القضية. وكذلك الإنسان الذي يهتم بالعلم الشرعي يقيس الناس ويزنهم من خلال العلم، ما مقدار ما عند هذا الإنسان من العلم؟ فالإنسان الذي يهتم بأي جانب من الجوانب يقيس الناس من خلال هذا الجانب، فصار هذا الاهتمام أيضاً معياراً يقوّم من خلاله الناس، ويزن من خلاله الناس.

الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته

الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته رابعاً: الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته. فصداقات المرء وعلاقاته قد يحكمها ارتياح معين، فمثلاً هذا الإنسان الذي له هم من الهموم عندما يجد شخصاً يشاركه هذا الهم سيرتاح إليه، (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). ولهذا فسيختار الجلوس مع فلان، ويحرص أن يجلس مع فلان؛ لأن فلاناً يشاركه هذا الهم، وسيرفض فلاناً؛ لأن فلاناً له هم آخر غير هذا الهم الذي يشغله، فهي قضية تتحكم في علاقات الإنسان وصداقاته.

تزاحم الاهتمامات

تزاحم الاهتمامات خامساً: التزاحم. فتتزاحم هذه الاهتمامات؛ لأن الإنسان عنده مساحة معينة وقدر معين لا يتسع إلا لطاقة معينة، وإذا تزاحمت أخرجت ما سواها. فمثلاً هذا الكأس أريد أن أضع فيه خليطاً؛ سأضع فيه مثلاً عصير برتقال، وعصير ليمون، وعصير موز، وعصير تفاح، وماء، فيصير خليطاً من خمسة مركبات، فإذا زاد عصير البرتقال سيكون على حساب غيره، أو زاد عصير الليمون سيكون على حساب غيره، فلابد أن تكون بنسب متوازنة حتى لا يطغى شيء على شيء آخر. وانظر إلى تفكيرك واهتمامك، فمثلاً اهتممت بشيء معين، وليكن الاهتمام الرياضي، فالاهتمام الرياضي أخذ مساحة من تفكيرك، ووقتك، وتصوراتك، وولائك، وعلاقتك، وهذا لابد أن يكون على حساب غيره قطعاً؛ لأنك تفكر في هذه القضية، ولهذا لن تفكر في إصلاح نفسك، ولن تفكر في ذنوبك ومعاصيك، ولن تفكر في العلم الشرعي، أو حفظ القرآن، أو غير ذلك، وإنما سيسيطر عليك هذا الاهتمام. وكلما دخل اهتمام آخر أخذ مساحة، واهتمام ثاني واهتمام ثالث، ولهذا تجد دائماً أصحاب هذه الاهتمامات من الناس الفارغين، ولا يمكن أن تجد رجل أعمال مشغول وقته كله بجمع الطوابع، أو الفن التشكيلي، أو هواية رياضية أو غيرها؛ لأنه لا يجد وقتاً أصلاً لهذه الاهتمامات، ولا لهذه الأمور، فهو مشغول بشيء آخر. فهذه تفيدك أنت في عدة أمور، فإذا عرفت أن الاهتمامات لابد أن تتزاحم، ولا يمكن أبداً أن تجمع هذا مع ذاك مع الآخر. أما أولاً: فلأن المساحة التي يمكن أن تشغلها الاهتمامات مساحة واحدة ولا تقبل التوسعة، ولهذا إذا دخل شيء فسيكون على حساب شيء آخر. وأما ثانياً: فلأنها متناقضة، فهناك شيء يؤثر على الشيء الآخر، فمثلاً الإنسان الذي يهتم بالشهوة هذا يناقض الاهتمام بالعلم، وحفظ القرآن، أو إصلاح النفس، فصارت شهوته في هذا الأمر، ولم تعد شهوته في تحصيل العلم، ولا شهوته فيما يرضي الله عز وجل، والآخر الذي هوايته تلك، والثاني والثالث والرابع. إذاً: فأنت عندما تعرف أنها متزاحمة لابد أن تكون بخيلاً فلا تعطي اهتماماً بأي شيء إلا بعدما تراجع حساباتك؛ لأنه يجب أن تعرف أنك عندما تدخل أي شيء في دائرة اهتماماتك فسيشغل مساحة مهمة أنت تحتاج إليها، ولكن فكر هل يستحق أن تدخله في القائمة أو لا يستحق؟ فإذا كان لا يستحق اتركه في الخارج. وهناك شيء آخر قلناه وهو: الاهتمامات المتناقضة. فإذا كان هذا الشيء يناقض الشيء الثاني، فمثلاً لا يمكن أن تجعل في هذا الإناء السكر والملح معاً؛ لأنهما متناقضان، ولهذا فمن كان يحب الغناء ويسمع الغناء تراه يعرض عن آيات الله عز وجل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:6 - 7]. وانظر كيف أثرها عليه؛ لأنه انشغل بسماع الغناء، والغناء صوت الشيطان، والقرآن كلام الله وهما متناقضان، فلما كان منشغلاً بسماع الغناء لم يبق مكان للقرآن، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:7]. إذاً: فيجب أن تعرف أن أي اهتمام إذا أدخلته في اهتمامك فسيطرد نقضيه، وسيؤثر على نقضيه. أيضاً معرفة هذه الخاصية تفيدك في العلاج؛ لأن بعض الشباب يقول: أنا أعاني الآن من أني أهتم بهذا الجانب، أو أهتم بالجانب الآخر، أو أهتم بالجانب الثالث، أو أهتم بالجانب الرابع، وهكذا، فثق يا أخي! أنك عندما تهتم بالاهتمام أَلِف، والاهتمام باء، وتريد أن تتخلص منه فلا يمكن أن تتخلص منه هكذا، بل لابد أن نقلص المساحة التي يأخذها من الاهتمامات، فأدخل اهتمامات جديدة، واهتم بأشياء أخرى جادة. ولهذا نقول دائماً للشباب: الذي يعاني ويقول: أنا أعاني من التفكير في الشهوة، أو مثلاً من الاهتمام بالقضايا الرياضية، نقول له باختصار: أنت عندما تهتم بقضايا جادة ستجد أنها أخذت مساحة وطردت الأخرى، وتدريجياً ستتلاشى تلك الأمور الأخرى من حيث لا تريد أنت، ومن حيث لا تقصد ولا تشعر؛ لأنها قضية تلقائية، فصار لك الآن هم حفظ القرآن، أو تعلم العلم، أو إصلاح النفس، وستأخذ جزءاً من وقتك، ومن تفكيرك، ومن نظرتك للناس، إلى غير ذلك، وستكون على حساب غيرها. إذاً: فأنت ستوظف هذه القضية لأن تطرد عنك الاهتمامات الأخرى التي لا تريدها، فتستطيع أن تتخلص من تلك الاهتمامات دون الحاجة إلى أن تتكلف، وباختصار شديد عليك أن تدخل الاهتمامات الجادة النقيضة لهذه الاهتمامات. ولعلنا أن نختم هذا الموضوع بكلمة للحافظ ابن القيم رحمه الله حول من تعلق بالدنيا، وقد لا تكون في موضعها؛ ولكنها كلمة لها أهميتها حول من أصبحت الدنيا همه، ويتحدث عن قول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلا

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن ابتلي بعشق الأشخاص

نصيحة لمن ابتلي بعشق الأشخاص Q هذا سؤال يتكرر كثيراً بصيغ عديدة، يقول: أنا شاب ابتليت بعشق شخص، وتجدني دائماً أفكر فيه، وأحاول أن أرى ما يسرني منه؛ لأني أحبه، وأحاول أن أقترب منه، وأحاول التمعن في وجه، وهكذا، فما هو الحل لهذه المشكلة التي أعاني منها؛ لأني وجدت ضعفاً في إيماني؟ وهذا يقول: ما هي أسباب العشق، وكيف التخلص منه؟ وهذا يقول: ماذا تقول عن شخص تمتلكه شهوته، فيذهب ويقضيها، وعندما يفرغ منها يبدأ ضميره يؤنبه، ويستمر التأنيب مدة طويلة، ثم تعود الشهوة وتسيطر عليه، وهكذا، فبماذا تنصح هذا الشاب؟ A هذا جزء من الصورة التي حكيناها وهي من يبتلى بهذه الشهوة، فتصبح هماً يسيطر عليه، ولعلنا قرأنا في هذا السؤال ما يشبه ما ذكرنا في المحاضرة من أن هذه القضية قد تسيطر على الإنسان، والحل -كما قلت لكم قبل قليل- في آخر المحاضرة: أولاً: أن الإنسان يتقي الله سبحانه وتعالى، ويحاسب نفسه، ويدرك شؤم المعصية، ثم خطورة التعلق بهذه الشهوات التي قد تكون سبباً في انحراف الإنسان وغوايته، وما أخطر أن تسيطر على الشاب هذه الشهوة، فتحكم تفكيره وتصوره. ومن هنا فيجب أن يكون الشاب حازماً مع نفسه وجاداً، فيقطع الطريق عليها من أوله،؛ لأنه قد يستمر فتصبح عادة فيصعب عليه جداً أن يتحكم فيها، ولهذا فيجب أن يكون حازماً مع نفسه ويتخلص من الآن، ومع بداية الطريق، ثم لا يمكن أن يتخلص الشاب من هذه القضية إلا عندما يتوجه قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلق قلبه بالله عز وجل، ودائماً يعبد الله سبحانه وتعالى بقلبه، ويتوجه إلى الله بقلبه قبل أن يتوجه إليه بلسانه، فهو قد يقرأ القرآن لكنه قد لا يستحضره في قلبه، ويشهد الصلاة لكنه قد يصلي ببدنه، فعندما يقبل على الله سبحانه وتعالى يجد الأنس واللذة، ثم يجد العتاب الشديد، واللوم للنفس عندما تتوجه إلى هذه الأمور التافهة. فهذه خطوة مهمة، ثم خطوة أخرى أن يقطع على نفسه ما يثير هذه القضية، ويثير هذه الشهوة، فيقطع على نفسه النظر الحرام، والتفكير في هذا الموضوع، والتفكير في هذا الشخص، والتفكير في هذه القضية قدر الإمكان، ويحاول أن يشغل نفسه بين فترة وأخرى بالتفكير النافع المفيد. وأخيراً: القضية التي أشرت إليها، وهي قضية التزاحم، فإن أدخل عنده اهتمامات بقضايا جادة فستشغله قطعاً، فإذا اهتم بقضايا جادة سيطرت عليه، فاهتم بإصلاح نفسه، وقراءة القرآن، والعلم، والدعوة، وغيرها، وصار لا يفكر أصلاً بهذه القضية، فلما ينظر إلى فلان لا ينظر من هذه الناحية. ولعل بعد ذلك وقبله أن نوصيه بدعاء الله سبحانه وتعالى، والتوجه إليه، فالله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].

توجيه الشباب الملتزمين المهتمين بالرياضة ومشاهدتها

توجيه الشباب الملتزمين المهتمين بالرياضة ومشاهدتها Q ظهر في فئة من الشباب الملتزمين الاهتمام بالرياضة ومشاهدة المباريات الكروية، فما هو التوجيه لهذه الفئة التي جعلت هذا اهتمامها؟ وسؤال آخر: يقول: ماذا تريد منا يا شيخ! هل نترك التشجيع؟ هل نترك جلسات السواليف في العطل ونحن غير مشغولين، في النهار فراغ وفي الليل فراغ؟ أرجو أن تعطيني جواباً يشفي أمراضاً كثيرة نعيشها نحن الشباب ومدارها على الفراغ يا شيخ! خاصة في العطل؟ A أقول: أولاً: لن أقول لك: أدرك قيمة وقتك، ولن أقول لك: إنك محاسب على وقتك، وستسأل أمام الله عز وجل عن كل دقيقة، وأنه لن تزول قدمك يوم القيامة حتى تسأل أمام الله عن هذا الوقت. ولن أقول لك: إنك في المستقبل ستندم على هذا العمر الذي قضيته، وستندم على هذا الفراغ الذي أنت الآن تشتكي منه، وتتمنى في المستقبل وقت فراغ ولو لحظات تستفيد منها، وتتمنى ساعة فقط حتى تستفيد منها، حتى تقرأ، حتى تعود إلى الله، لن أقول لك ذلك كله؛ لأنه ليس مهماً، لكن لا شك أنه أهم شيء، لكنك تعرفه جيداً وتدركه، ولو فكرت تفكيراً جاداً وبإنصاف؛ لعرفت أنه لا يحق لك أنك تشتكي من الفراغ، بل تتمنى فراغاً أكثر؛ حتى تستفيد وتستثمر وقتك فيما ينفع. لكن أنقلك إلى صورة أخرى: أنت الآن تعيش هذا الواقع القريب منك والبعيد، المجتمع الذي أنت تعيش فيه، والمرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية، الآن كلكم توافقون أن الأمة الإسلامية الآن تعاني أسوأ المراحل التي مرت بها في التاريخ، وهي الآن في ذيل القائمة. ففي الشرق تجد المشاكل التي يعاني منها المسلمون هناك، في الهند مع الهندوس، وفي كشمير، وفي أفغانستان، في طاجكستان، في الجمهوريات التي استقلت. وتأتي إلى ما يسمونه بالشرق الأوسط فترى المعاناة، وأعظم معاناة أن نرى المسجد الأقصى الذي يشرع شد الرحال إليه بيد اليهود، ونجد من يريد أن يساوم على التخلي عن هذه البقعة المقدسة، وتجد المسلمين أيضاً داخل هذه البقعة يعانون ما يعانون من قضايا تسمعون عنها كثيراً، وما الحديث عن الإرهاب والتطرف والأصولية ببعيد عنكم. وانتقل إلى الغرب، انتقل إلى أوروبا، إلى أمريكا، إلى أي مكان وموطن في قارات العالم تجد المعاناة، إما تقتيل، أو تشريد، أو جوع، أو تنصير، أو صد عن دين الله، أو إثارة للشهوات. ألا تدري أنه في مناطق كثيرة في العالم الإسلامي يجر الشاب إلى المحاكمة عندما يخرج إلى صلاة الفجر؟! ألا تدري أن علامات استفهام توضع على الفتاة عندما تذهب إلى الجامعة وقد ارتدت الحجاب؟! ألا تدري أن فتيات منعن من دخول الجامعة في كثير من البلاد الإسلامية نظراً لأنها محجبة؟! ألا تدري أن القضية طالت حول أحقية دخول الطالبة المحجبة كلية الطب؛ حتى وصلت إلى أن تعرض على مجلس النواب؟! ألا تدري أن هناك برامج ومواثيق وعهود يتفق عليها الكثير من هؤلاء لأجل قضية واحدة هي حرب الإسلام، حرب الصحوة، وأدها، صد الناس عن دين الله وفتنتهم؟! ثم تعال الآن قريباً في المجتمع الذي أنت تعيشه، كم ترى من الشباب من أقرانك في السن الذي أنت فيه الآن موجود في هذا المركز، فأنت تقضي فيه هذا الوقت أو في هذه المحاضرة وتجد من الشباب من له هم آخر، من أصبح غارقاً في شهوته، أنت تأتي للمسجد لصلاة الظهر، وهو يذهب ليقف عند مدارس البنات، أنت قد تقوم الليل تتهجد في الثلث الأخير من الليل، وهو مستيقظ في الليل؛ لكن لشأن آخر، فلك هم وله هم آخر. فهذا الواقع المر الذي يعاني منه الناس حولك بالله عليك ما يحرك فيك ساكناً؟ ما يجعلك تنظر إلى وقتك نظرة أخرى؟ فهل يليق أن تقضي وقتك -مع الاعتذار الشديد- تطعيساً، أو من هنا ومن هنا، أو الاهتمام بالكرة، أو غيرها، وأنت ترى هذا الواقع المر الذي يعاني منه المسلمون، سواء الواقع القريب أو الواقع البعيد؟ أضف هذا كله إلى ما ذكرته لك في أول الإجابة عن السؤال، فتجد أنه ليس من حقك يا أخي! أن تفكر بهذا التفكير، فضلاً عن أن تتصور أن الفراغ مشكلة.

علاج داء الاهتمام بالدنيا زيادة على الحد

علاج داء الاهتمام بالدنيا زيادة على الحد Q أنا شاب أعرف الله والحمد لله، وأحافظ على الصلوات الخمس، لكن ألاحظ في نفسي وفي كثير من الشباب أن اهتماماتنا دنيوية ليس إلا، فبين لنا الطريق الصائب والذي يقودنا إلى الله والدار الآخرة؟ A باختصار: أن تعرف أنك ما خلقت إلا لعبادة الله عز وجل، وما خلقت إلا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهذه الدنيا إنما هي مرحلة للدار الآخرة.

حكم الاهتمام بالكماليات اهتماما زائدا

حكم الاهتمام بالكماليات اهتماماً زائداً Q تجد بعض الشباب الملتزم يهتم ببعض الكماليات البسيطة مثل: شكل ولون الثوب، وكذلك الأحذية، والسيارة، والشماغ، وإطار النظارة، ويقول معارضاً لمن ينصحه: يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32]، وقول الرسول صلى اله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، فكيف يرد على ذلك؟ A يقال له: من الجمال مثلاً: أن الشاب يرتدي قلادة ذهب، وساعة ذهب، ومن الجمال أيضاً أنه يتابع أحدث القصات، فيقص شعره بصورة مناسبة ولائقة، ومن الجمال أن يلبس ثوب حرير، فهذا كله جمال. فالجمال الذي يحبه الله ليس كل جمال، وإنما هو محصور في قضية معينة، ثم لماذا نأخذ جانباً من النصوص ونترك الجانب الآخر؟ فمن الذي قال: (إن الله جميل يحب الجمال)؟ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أحرص الناس على ما يحبه الله سبحانه وتعالى، فننظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس وفي الزينة، فنقتدي به صلى الله عليه وسلم. فأقول: إن القضية تحتاج إلى التوسط، فكون الإنسان يكون رث المظهر وقذراً، ومظهره غير لائق هذا ما يجوز، وكونه أيضاً تصير المظاهر هي أهم شيء عنده أيضاً هذه قضية غير لائقة، فالتوسط مطلوب. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن الله جميل يحب الجمال) قال: (البذاذة من الإيمان). والله سبحانه وتعالى قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، وهذا من الإسراف أن يضيع الإنسان مبالغ باهظة في مظاهر أو في قضايا ثانوية. فالاهتمام بالمظهر مُظهر لقضية داخلية أصلاً، فالإنسان الجاد ما يجد وقتاً أصلاً للتفكير في هذه القضايا، ولذلك تجد أن الشاب يعتني بمظهره اعتناء بالغاً، ويهتم به، لكن عندما يستقيم ويهديه الله عز وجل تجده خفف عنايته بالمظهر تلقائياً من دون قصد، لماذا؟ لأنه صار له اهتمامات جادة، فهو في السابق كان شخصاً فارغاً وتافهاً، ولهذا يعطي المظهر اهتماماً بالغاً جداً. فالمطلوب هو التوسط في هذه الأمور.

الأسباب الجالبة للشعور بلذة العبادة والاستقامة

الأسباب الجالبة للشعور بلذة العبادة والاستقامة Q كيف تعلل حال من حفظ القرآن، وطبق الكثير من السنن والأوامر، واجتنب معظم المحرمات والكبائر؛ لكنه لا يشعر بلذة لذلك، ويخاف من الانتكاس؟ A يجب عليه أن يجاهد نفسه، وكما يقول أحد السلف: كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، ثم تلذذت به عشرين سنة، لكن ما بالكم بمن لا يقوم الليل أصلاً عافانا الله وإياكم، ورزقنا وإياكم عبادته، فنحن مقصرون كثيراً ومهملون، ونتمنى أن نجد ما يجده السلف من لذة في طاعة الله عز وجل، وأنى لنا ذلك. وأهم شيء يا إخوان! يجب أن نعتني به هو إصلاح القلوب، فإذا أصلحنا قلوبنا وجدنا اللذة فعلاً، ووجدنا طاعة الله سبحانه وتعالى، فنحن أحياناً نعتني بمظاهر العبادات، ونعتني بإصلاح الظاهر فيغيب عنا الأهم من ذلك وهو إصلاح الباطن، كأن نعتني بأن يتوجه القلب لله سبحانه وتعالى، وأن يكون القلب همه كله لله عز وجل: رجاءً، ورغبة، ورهبة، وخوفاً، وتوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم نطهر قلوبنا من أمراض الرياء والحسد وغير ذلك. فإذا اعتنينا بإصلاح قلوبنا صلحت لنا، ووجدنا ما وجده السلف، وأما الآن فنحن جميعاً أنا وإياك والجميع نشتكي من هذه القضية: أنا لا نجد لذة العبادة؛ لأن قلوبنا مشغولة بالدنيا، وقلوبنا متوجهة إلى غير الله سبحانه وتعالى، ومن ثم لا نجد هذه اللذة، ولا نتمتع بها.

نصيحة لمن تعلق قلبه بحب شاب آخر

نصيحة لمن تعلق قلبه بحب شاب آخر Q أنا شاب تعلق قلبي بحب شاب آخر، وأحياناً يخيل إلي أن حبي له في الله، وأحيان أرى غير ذلك، فما الحل في هذا؟ وهل من طريق لإصلاح هذه الحالة؛ لأني أراها عامة، وفقك الله؟ A هذا السؤال نفسه سبق أن أجبنا عليه قبل قليل، وهذه أحياناً وسائل يخادع بها الإنسان نفسه، فهو عنده غيرة ونفسه تلومه، ولهذا يخدع نفسه أنه يحبه لله عز وجل، ويقول: عندما يزيد في الطاعة تزيد محبتي له، والعكس صحيح، لكن تأمل أنت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله). فيجب أن يحذر الشباب من هذه المزالق، واستفتي قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، وكل إنسان طبيب نفسه، وكل إنسان أعلم بأمراض نفسه.

توجيه في اشتغال المرء بإصلاح نفسه وكفه عن عيوب الآخرين

توجيه في اشتغال المرء بإصلاح نفسه وكفه عن عيوب الآخرين Q أحس أحياناً إذا طغى على تفكيري بعض التنظيمات للدعوة، وأحس بقسوة في قلبي، وذلك من خلال حديثي عن فلان أنه مقصر، وفلان فيه ملاحظة، وهكذا، فما الحل؟ A أولاً: يجب أن نتجاوز قدر الإمكان الحديث عن الناس، ونحرص قدر الإمكان ألا نتحدث عن الناس، وإذا احتجنا أن نتحدث عن أخطاء عامة فما في داعي أن نقول: إن فلاناً يقع في هذا الخطأ، إذا أردنا أن نحذر من خطأ أو قضية ما فلا داعي أن نقول: فلان يقع في هذا الخطأ، أو الجماعة الفلانية تقع في هذا الخطأ، أو الفئة الفلانية تقع في هذا الخطأ، فنتحدث عن خطأ كخطأ دون أن نربطه بشخص أو فئة أو جماعة. ثم أيضاً يجب أن يكون لنا حظ من عبادة الله، والتوجه إليه، فلا يطغى علينا مجرد العمل أحياناً، وهو إن شاء الله كله خير، وعمل لله عز وجل؛ لكن لا يستنفذ وقت الإنسان فلا يبقى بعد ذلك معه فرصة للعبادة والطاعة. وسبق أن ذكرت لـ ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً حول هذه القضية في الدرس التاسع من هذه الدروس، والذي كان بعنوان: التربية الذاتية، فذكر كلاماً جيداً حول قضية الإيثار، وإيثار الإنسان بوقته، وإيثاره بحظه من الله عز وجل، وأنه يجب أن يكون للإنسان خلوة شرعية، ويجب أن يكون للإنسان حالة يخلو فيها بالله سبحانه وتعالى. فأقول: أولاً: يجب أن نضبط حديثنا، فإذا احتجنا للحديث عن الأخطاء أو غيرها فلا نتحدث عن أشخاص، ولا عن فئات، وإنما نتحدث عن خطأ من حيث هو خطأ، وإذا اقتضت المصلحة الشرعية أن أتحدث عن أخطاء أشخاص معينين فلا حرج في ذلك، لكن يجب أن ننظر. ثم القضية الثانية: أن يكون لنا حظ من عبادة الله سبحانه وتعالى، والصلة به؛ حتى تزيل عنا هذه القضية.

نصيحة لمن يترك الاستقامة ثم يعود مرة أخرى وهكذا

نصيحة لمن يترك الاستقامة ثم يعود مرة أخرى وهكذا Q أنا شاب التزمت منذ زمن ليس ببعيد ثلاث مرات، ثم تركت الالتزام، وأنا أريد أن أتوب هذه المرة، فهل تقبل لي هذه التوبة؟ وكيف أتوب؟ A نعم تقبل هذه التوبة، لكن هل ستستمر أم لا؟ فهذه هي القضية، وإلا فما الذي يمنعك من التوبة، يا أخي! الله عز وجل قبل توبة من أشرك، ودعا إلى التوبة من فعل الفواحش، بل دعا إلى التوبة المنافقين، بل دعا إلى التوبة الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:73 - 74]. يا أخي! لقد دعا الله الذين فعلوا الفاحشة، ودعا الذين قتلوا النفس بغير حق، ودعا الذين وقعوا في الشرك، ودعا المنافقين، ودعا الكفار، ودعا الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ودعا الذين تجرءوا على الله، وسبوا الله عز وجل إلى التوبة، وقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. فليس هناك شيء يحول بينك وبين التوبة، لكن أنا أريد منك أن تفكر تفكيراً آخر وأن تسأل نفسك: ما هي الأسباب التي جعلتك ترجع ثلاث مرات؟ ثم انتبه أن تكون هذه المرة هي الرابعة ثم تطرح هذا السؤال مرة أخرى علي أو على غيري: إني التزمت أربع مرات! فأقول: إن قضية التوبة لا تحتاج إلى تفكير ولا نقاش، فهذه القضية مفروغ منها، فكل من تاب تاب الله عليه، لكن القضية هي: كيف تحل المشكلة هذه التي تجعلك تعود إلى طريق الضلالة مرة بعد أخرى.

الاهتمام بما ينفع

الاهتمام بما ينفع Q بعض الشباب يكون متحمساً لقضية ومجال من المجالات التي لا تعود عليه بخير، فإذا نصحتهم ووجهتهم قال: (كل ميسر لما خلق له)، فلو كان الناس كلهم شيوخاً أو علماء أو حكاماً لما كانت الحياة لها طعم؟ A صحيح أن مبدأ التخصص وارد، وكل إنسان له مجال وتخصص معين، فهذه مفروغ منها، لكن يجب ألا نفرط في هذه القضية فتكون على حساب غيرها، فمثلاً: بعض الشباب قد يكون نشيطاً في دعوة الشباب المنحرفين، ويقضي في ذلك وقتاً ويبذل جهداً، وهذا جهد طيب وخير، فإذا قلت له: يا أخي! احفظ القرآن، قال لك: لا يا أخي! أنا أجد نفسي متوجهاً لهذا المجال، وإذا قلت له: بالعلم الشرعي، قال لك: لا أنا متوجه لهذا المجال، والتخصص وارد. فنقول له: صحيح أن التخصص وارد، لكن أيضاً مع التخصص يجب أن يكون هناك توازن، فهناك قدر مشترك يجب أن يحصله الجميع، ثم بعد ذلك يبقى أن فلاناً يركز على هذا الجانب، وفلاناً يركز على الجانب الآخر، لكن هذا التخصص لا يصح أن يدعونا إلى أن نفرط في جوانب مهمة. فمثلاً: كم نسمع ممن يزهد في العلم الشرعي؛ بحجة أن التخصص وارد، والناس ما هم كلهم علماء، صحيح أن الناس ما هم كلهم علماء؛ لكن ليس كل من يطلب العلم الشرعي سيكون عالماً. فنريد منك أن تأتي بالعلم الشرعي، وتطلب العلم الذي على الأقل يرفعك إلى أن تحسن عبادتك، وتدعو الناس من خلال هذا العلم، ويضبط لك كثير من الأمور، ثم بعد ذلك توسع في غيره، فاعتني بحفظ القرآن، ولو لم تكمل حفظ القرآن كله، لكن على الأقل تحفظ جزءاً من القرآن، وهكذا. فلا يصح أن نخلط بين قضية التخصص وبين قضية الخلل في التخصص، فالتخصص مطلوب؛ لكن أيضاً ينبغي ألا يدعونا هذا إلى التركيز على جانب على حساب الجوانب الأخرى، فيكون الإنسان عنده خلل في شخصيته.

فوائد القراءة

فوائد القراءة Q تعلمون ما للقراءة من فوائد عظيمة وكثيرة: من حفظ للوقت، وإنارة الفكر، وغير ذلك؛ ولكن كثير من شباب الأمة منصرفون عنها إلى اهتمامات أخرى غالبها اهتمامات تافهة، فنرجو توضيح بعض فوائد القراءة، والمنهج الصحيح للقراءة؟ A أنت ذكرت بعض الفوائد من حفظ للوقت، وإنارة للفكر، وغير ذلك. فأقول: أولاً: القراءة تحفظ وقتك كما ذكر الأخ، فعلى الأقل تجعلك لا تنشغل في معصية الله، فتكون حفظت هذا الوقت في طاعة الله، فإذا سئلت عنه أمام الله عز وجل فقد قضيته في قراءة علم نافع. وفي الحديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالذي يقرأ لأجل تحصيل العلم فإن الله يسهل له بهذا الطريق طريقاً إلى الجنة. وفيها تحصيل فوائد علمية، والقراءة أيضاً تعينك على تصحيح سلوكك، فلما تقرأ في كتب السلوك والآداب تستفيد فتصحح سلوكك، والقراءة تعينك على الصلة بالله، وتزيد عندك جانب الرقائق، فأنت لما تقرأ في كتب الرقائق تتأثر في ذلك، القراءة تعينك على الدعوة؛ لأنك لما تقرأ في كتب الدعاة وكتب الدعوة أيضاً تتحمس للدعوة، فالقراءة تنمي تفكيرك، وقدرتك على التفكير، وحل المشكلات. فالمهم أن القراءة لا يستغني عنها أحد، وأنا أقول للشباب: الآن في الإجازة يجب على الإنسان العادي أن يقرأ ما لا يقل عن ساعتين، وهذا أمر سهل في الإجازة، ثم الذي يتخصص في العلم هذا له قراءة أخرى، لكن هذا الإنسان مثلاً يقول: أنا تخصصي ما هو بالعلم الشرعي، ولي توجه آخر، مثلاً أنا أجد إني عندي نشاط في دعوة المنحرفين، أو مثلاً دعوة الجاليات، أو غيرها من الأمور الأخرى المهمة، فنقول: لكن لابد أنك تقرأ على الأقل ساعتين، وما سوى ذلك اصرفه في غيره، وأما الذي يهتم للتخصص في العلم فهذا يصرف نفيس وقته في القراءة. فأقول: يا شباب! هذا الوقت فرصة لكم، وأنا أذكر لكم عن نفسي الواحد منا يبحث عن وقت الآن حتى يقرأ فلا يجد وقتاً حتى يحضر لمثل هذا الموضوع الذي ألقيه، فلا أكاد أجد وقتاً من زحمة الأوقات والمشاغل. وكم نعظ أصابع الندم على تلك المراحل الطويلة من الشباب التي قضيناها وأهملنا فيها حظنا من القراءة والتحصيل، والآن وصلنا إلى هذه المرحلة والمستوى -والإنسان يعرف نفسه- لا علم، ولا قراءة، ولا إحاطة، فالواحد يشعر أنه رزق على الأقل شيئاً من القدرة، فأراد أن ينفع الناس به. ونريدكم ألا تكونوا مثلنا، فنريدكم أن تأتوا وأنتم تحملون الإخلاص الذي لا نحمله، والإيمان والصلة والصدق مع الله عز وجل الذي نجد أننا نعاني من فقده، وتحملون العلم الشرعي، وتحملون الوعي والقدرة بحيث لا يبقى لأمثالنا مكان، فنريد أن يبقى المكان للناس الذين هم أعلى، ولن تصلوا إلى هذه المنازل إلا عندما تحفظون أوقاتكم، ومن خير ذلك استغلال الوقت بالقراءة، إلى غيرها من حضور مجالس العلم، وغيرها من وسائل تحصيل العلم الشرعي.

ضرورة التكامل في جميع المجالات

ضرورة التكامل في جميع المجالات Q ما رأيك بالشاب الذي يتوجه إلى الكليات العلمية التطبيقية كالطب والهندسة مثلاً، مع المحافظة على كتاب الله تعالى؟ A كل التخصصات يا إخوان مطلوبة، سواء العلم التجريبي أو التطبيقي كالطب والهندسة وغيرها، أو العلوم الإنسانية من اجتماع واقتصاد وعلم نفس وإدارة، أو غيرها من العلوم الفنية، أو حتى القطاعات العسكرية، فأي جانب من الجوانب مطلوب ومهم أن نسلكه. والآن نحن نتحدث في مثل هذا المعهد الذي هو تخصص معين، فمطلوب أن يوجد أناس يشغلون في هذه الميدان، لكن الإنسان يعرف نفسه، فمثلاً الشاب الذي عنده نهم للعلم الشرعي، وعناية وتوجه وحرص عليه، مثل هذا نقول له: ينبغي لك أن تتوجه لدراسة العوم الشرعية؛ حتى تكمل هذا الجانب، لكن الشاب الآخر عنده نهم في جانب آخر، وهكذا فنوجه كل واحد في مجاله. أيضاً مع سلوك هذا الميدان لا يهمل الإنسان نفسه، فالطالب الذي يتوجه للطب، أو للهندسة، أو للغة الإنجليزية مثلاً، أو للاجتماع، أو لعلم النفس، أو غيرها من العلوم، يجب ألا يهمل نفسه، فيحرص على القراءة، وعلى حضور مجالس العلم، فيكون على الأقل عنده رصيد يعينه على ذلك.

التوفيق بين مطالب الأهل وبين الذهاب إلى المراكز الصيفية

التوفيق بين مطالب الأهل وبين الذهاب إلى المراكز الصيفية Q أنا شاب من الشباب الذين يهتمون بالمراكز الصيفية، ودائماً ما أكون حريصاً على المراكز؛ حتى إن الأمر وصل إلى أنني أرفض أوامر الأهل إذا كانت هذه الأوامر تتعارض مع وقت المركز، فهل هذا العمل الذي أسلكه كل يوم عمل مرضي لله عز وجل أم لا، مع العلم أنني لا أرفض أوامر الأهل إذا كانت لا تتعارض مع وقت المركز؟ A أولاً: كثير من الشباب يرتاحون للمركز، لكن يختلفون: فبعض الشباب يرتاح للمركز لأنه يستفيد منه من خلال برامج المركز، وبعض الناس يرتاح للمركز لأن المركز فيه سعة صدر، وفيه رياضة، وفيه مسبح، ويبدو أن المسبح هذا أيضاً يجلب بعض الشباب، أو فيه ملعب، أو غير ذلك. فأيضاً هذه نقطة يجب أن نضعها في الذهن عند الإجابة على هذا السؤال، ثم مع اهتمامك بهذا المركز يفترض أنك تحفظ فيه القرآن، أو تتعلم العلوم الشرعية، أو تجعله مجلس خير، ولا شك أن هذه المراكز مجال خير، فحتى الشاب الذي يأتي يلعب ويمارس الرياضة هنا فهذا خير له من أن يمارسها في ميدان آخر. فأقول: إن هذه المراكز وما فيها -الحمد لله- ميدان خير، لكن يجب أيضاً أن ننضبط، فلا يجوز أن يعصي الإنسان والديه، أو يخل بواجبات أهله بحجة أنها تتعارض مع وقت المركز، فيكون عنده توازن، فإذا كان للأهل مطالب يمكن أن يقضيها مثلاً في غير وقت المركز فبها، فإن لم يتيسر ذلك فإنه يستأذن يوماً من الأيام ولا يأتي، أو يتأخر، أو يأتي للمركز ثم ينصرف. وأتصور أنا أن الشاب الجاد ما عنده مشكلة، والمشكلة تكون من شخص غير جاد، فوقت المركز يكون في الفترة المسائية مثلاً من العصر إلى بعد العشاء، ووقت الصباح عند الأخ وقت واسع، وأيضاً أيام الخميس والجمعة وغيرها. وإذا وجد شغل يتطلب أثناء دوام المركز وقضية ملحة فيجب على الشاب أنه يوازن ويضحي، ثم إذا صار الشاب جاداً فسيراعونه أهله، وسيكون بينه وبين أهله تفاهم، وأما إذا كان عنده استعداد يناقش أصلاً لأنه ذاهب للمركز فممكن الأهل في المستقبل يمنعونه من المركز، ويمكن أن نعطي الناس سمعة سيئة عن هذه المراكز: بأنها تشغل أوقات الشباب عن أهلهم، وتعطل عليهم مصالح أهلهم، فيكون الشاب لا يرى أهله إلا قليلاً، ولا يقضي مصالح أهله، ولا يعتني بها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعلم الصالح، وأن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يجعلنا وإياكم متحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقترحات في اغتنام الوقت

مقترحات في اغتنام الوقت الوقت هو عمر الإنسان وثمرة حياته، ومن ضيع منه شيئاً فقد ضيع ذلك الشيء من عمره، والكثير من الناس لا يحسن استغلال وقته فيما ينفع، وقد وضع الشيخ في هذه المادة مقترحات لاغتنام الوقت فيما يفيد.

المقصود بإدراك أهمية الوقت واغتنامه

المقصود بإدراك أهمية الوقت واغتنامه الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: العنوان كما سبق أن أشرنا: (مقترحات في اغتنام الوقت). لاشك أن الحديث عن الوقت، وعن أهميته وفضله، وضرورة اغتنامه، حديث ربما يكثر في مجالسنا، وفي مناسباتنا، وفي منتدياتنا، ونسمع الحديث الكثير ممن يتحدث عن الوقت مستشهداً على ما يقول ببعض النصوص الشرعية، ثم بأقوال السلف، وأعمالهم وأحوالهم في اغتنام أوقاتهم. وحين يعيش المرء مع ذلك؛ فإنه يرى العجب العجاب من سير القوم، ويطمح فعلاً إلى أن يدرك أهمية الوقت، ويحرص على اغتنامه. وأظن أن جميع الناس في الجملة يدرك إدراكاً نظرياً ومعرفياً أن الوقت مهم، وأن الوقت قصير، لكن ما هو حجم هذا الإدراك؟ ثم ما مدى تحول هذا الإدراك إلى سلوك؟ أعني هل تحكم هذا الإدراك في سلوكه فصار سلوكه في التعامل مع وقته هو سلوك ذاك الذي يدرك أن الوقت هو الحياة؟ وأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ وأن الوقت هو عمر الإنسان؟ وكل ما مضى من الوقت إنما هو جزء يختصر من عمر الإنسان؟ هل هؤلاء يدركون هذا الأمر حقيقة الإدراك أم لا؟ أظن أن الكثير من الناس إن أدرك شيئاً من ذلك إدراكاً نظرياً ومعرفياً إلا أن هذا الإدراك لم يتحول إلى سلوك، أو -على الأقل- أن سلوكه لم ينضبط بمثل هذا الإدراك وبمثل هذه النظرة لوقته. آثرت أن يكون الحديث حول هذا الجانب بالذات؛ لأن الحديث -كما قلت- عن أهمية الوقت، وإيراد الشواهد على ذلك. ثم أيضاً هو حديث جميل ومفيد، ويؤثر في النفس ولا شك، لكن أشعر أن تحديد خطوات عملية نعيشها في حياتنا اليومية ربما يكون أكثر أثراً، وربما نكون أكثر حاجة إليه. وآثرت التعبير بالمصطلح النبوي تبركاً وتيمناً بهذا التعبير، ولا شك أن المصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما حافظنا عليها فهو أولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اغتنم خمساً قبل خمس، ومنها: فراغك قبل شغلك). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخاسر في وقته إنما هو مغبون كالذي يبيع سلعته بأقل مما تستحق، أو يشتريها بأكثر مما تستحق، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). وذلك أن كثيراً من الناس مغبون، فقد تهيأت له نعمة الصحة، ونعمة الفراغ، لكنه لم يغتنمهما الاغتنام الذي يستحق، فكأنه قد خسر خسارة كبيرة، وهو حين ينفق وقته فيما لا يستحق، أو في أقل مما يستحق، فإنه يكون مغبوناً في وقته. وفرق بين اغتنام الوقت واستثمار الوقت، وبين الاغتنام الأمثل للوقت، الذي ينبغي أن يكون هو شعارنا؛ ولهذا فإن الذي يشتري السلعة التي تساوي عشرة بثلاثين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بعشرين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بخمسة عشر مثلاً يعتبر مغبوناً، كذلك الذي يغتنم جزءاً من وقته، ويضيع الجزء الكبير فهو مغبون، وإن كان الغبن يختلف ويتفاوت بين الناس. وإدراك هذا المعنى الدقيق في الحديث يجعلنا ننظر إلى قضية اغتنام الوقت نظرة أدق، وأن نحاسب أنفسنا على الوقت الذي يضيع أكثر مما نحاسبها على الوقت الذي نغتنمه. أحياناً يعتبر الإنسان أنه اغتنم ساعات أو أوقاتاً، ويرى أن هذه خطوة إيجابية، أو يرى أن هذه صورة من صور اغتنامه للوقت، بينما المفروض أن ينظر ما هي الأوقات التي تضيع؛ لأن الأصل أن يغتنم الأوقات كلها، ويحاسب نفسه على الوقت الذي يضيع. واغتنام الوقت أمر يتفاوت، فليس هو درجة واحدة، والغبن للنفس في هذا يتفاوت.

اغتنام الوقت عند أهل الدنيا

اغتنام الوقت عند أهل الدنيا صنفان من أهل عصرنا يحرصون على اغتنام الوقت: لو تأملنا واقع الناس لرأينا أن هناك صنفين من الناس في عصرنا يحرصون حرصاً شديداً على اغتنام أوقاتهم: أولهم: رجال الأعمال والتجارة، فإنهم يدركون أهمية الوقت جيداً، وهم من أحرص الناس على اغتنام الأوقات، ألسنا مثلاً نفتقدهم كثيراً في المناسبات العائلية، وحتى إذا حضر هذه المناسبات فإنه مربوط ببرنامجه، ربما اعتاد كثير من الناس حين يتناولون طعام الغداء سوياً أن يجلسوا بعد صلاة العصر، أنت لو جلست بعد صلاة العصر لفقدت هؤلاء؛ ذلك أن هؤلاء يدركون للوقت قيمة أكثر من غيرهم من الناس، ولا شك أن هذا أمر مدرك ومجرب. والصنف الثاني: هم الأعداء، فإنهم يهتمون بأوقاتهم كثيراً، وهناك في علم الإدارة ما يسمى: إدارة الوقت، وهو علم يدرسه رجال الأعمال، ويصنف فيه خبراء يقرءون وينظمون دورات لتعليم فن إدارة الوقت، بل ربما نجد أن بعض ما نقوله هنا هو مما سطره أولئك، ومما أخذ منهم، (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى بها). ومن المؤسف أن يكون أعداؤنا أكثر حرصاً على الوقت منا على كل المستويات، فلو نظرت إلى اليوم الدراسي في العالم الإسلامي، واليوم الدراسي في العالم الغربي، لوجدت أن النسبة تختلف كثيراً، ولو نظرت إلى ساعات العمل الوظيفية، لوجدت أولئك أكثر اغتناماً لأوقاتهم. بل الكثير من الناس يستغرب حين تطالب منه الانضباط بموعد من المواعيد، ويستغرب حينما يرى إنساناً يهتم بتسجيل المواعيد وضبطها، ذلك أن الأصل في حياتنا هو الفوضى والتسيب. هؤلاء الأعداء هم حطب جهنم، ولا شك أنهم خسروا الخسارة الكبرى في أوقاتهم حين عمروها بمعصية الله عز وجل، فما بالهم يغتنمون الوقت، ويحرصون على إجراء الدراسات والبحوث عن مضيعات الوقت، ومشتتات الوقت، والوصول إلى نظريات مثلى في إدارة الوقت، ما بالهم يحرصون على ذلك، ونغفل نحن عنه، ونحن نعتبر أن الوقت هو حياتنا، وأن الوقت هو عمرنا.

ضياع الوقت عند الكفار

ضياع الوقت عند الكفار ولا شك أنه في مقابل ما نراه من حرص أولئك على الوقت، فهذا لا يعني أنهم اغتنموا الوقت الاغتنام الأمثل، بل إنهم خسروه الخسارة الكبرى من حيث أنهم أعرضوا عن شرع الله عز وجل، وضيعوا عمرهم في معصية الله تبارك وتعالى، فحين تزول هذه الدنيا يزول معها ما عملوا، ويصيرون حطب جهنم، عافانا الله وإياكم من ذلك. وحين نتأمل مثلاً في سيرهم، وهم يتحدثون عن القراءة، ربما تجد جزءاً كبيراً من تلك القراءة التي يتحدث عنها أولئك قراءة غير مفيدة، فهو مثلاً يقرأ كثيراً في كتب الروايات، أو كتب القصص، أو في كتب لا تستحق أن يضيع المرء فيها عمره المحدود، لكن هم في الجملة يقرءون ويدركون قيمة الوقت. بل إن الوجه الآخر والصورة الأخرى من حال أولئك، أنهم يقضون أوقاتاً هائلة لأمور تافهة، من ذلك مثلاً: أن هناك في فرنسا أكاديمية تسمى أكاديمية السخرية، وتجري مسابقة في البشاعة، فالذي يستطيع أن يحول وجهه إلى أبشع صورة يأخذ كأس أبشع وجه، وحصل على هذا الكأس أحدهم مرتين متواليتين، فأراد الآخر أن ينافسه، وجلس يتدرب لمدة سنة، كل يوم يتدرب ثمان ساعات لتحويل وجهه إلى وجه بشع، واستطاع أن يفوز بالكأس في المسابقة الثالثة. فهذه صورة من صور اغتنام الوقت عند أولئك، ولا شك أن هذا يعتبر أكبر اغتنام للوقت حينما ينفق ثمان ساعات في تحويل وجهه إلى صورة بشعة، وقد خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم. فالذي يقضي ثمان ساعات كل يوم لأجل أن يحول وجهه إلى صورة بشعة وقذرة، أظن أن الهدف الذي عنده أهون بكثير من أهدافنا، فنحن نستهدف رضا الله عز وجل، ونستهدف أن نغتنم أوقاتنا في أمر نلقى فيه إجابة حين نسأل يوم القيامة عن أعمارنا فيما أفنيناها، ونحن نتطلع إلى أن نعمر أوقاتنا بعبادة الله عز وجل، وتحصيل العلم الشرعي، والدعوة إلى الله، ونفع الناس، وتقديم أمور لا يمكن بحال أن تقارن بحال مثل هذا السفيه وغيره. على كل حال أردت بهذا الاستطراد أنه قبل أن يتحدث الناس عن اغتنام أولئك لأوقاتهم، وعن أنهم فاقوا المسلمين في اغتنام الوقت، لكن هذا لا ينسينا أن أولئك حطب جهنم، وأنهم غفلوا عن الاغتنام الحقيقي والأساس للوقت، وربما نجد صوراً كثيرة من إضاعة الوقت عند هؤلاء، كما سبق أن أشرنا.

إدراك أهمية الوقت والشح به

إدراك أهمية الوقت والشح به الاقتراح الأول لاغتنام الوقت: إدراك أهمية الوقت والشح به: فالذي لا يدرك أهمية الوقت لا يمكن أن يغتنمه، فعلى سبيل المثال: من ليس عنده عمل فهو في فراغ أربع وعشرين ساعة فلو أتيت إلى أحد الشباب الفارغين، وقلت له: الآن أمامك يا أخي وقت فراغ لمدة ساعة أو نصف ساعة ينبغي أن تستغله أو تغتنمه، فإنه لا يعرف أهمية هذا الكلام، ويشعر أن هذا الكلام غير معقول؛ لأنه أصلاً لا يدرك أهمية الوقت، فليس عنده مشكلة في أن يجلس للحديث مع زملائه من بعد العصر إلى وقت متأخر من الليل ويعود بعد ذلك وهو لا يشعر أنه خسر شيئاً، أو أضاعه، أو أن هناك أي خسارة تحققت من وراء ذلك. هذا يجب أن نقنعه بأهمية الوقت قبل أن نتحدث عن كيفية استغلاله. إذاً: يجب أن نقتنع ابتداءً بأن الوقت مهم، وإذا لم نقتنع أن الوقت بهذا القدر من الأهمية فلا يمكن أن ننجح في جميع الخطوات التي تأتي، وأن نكون شحيحين بالوقت. ومن الأمور التي تجعلك تدرك أهمية الوقت: أن تدرك أن اليوم لا يمكن أبداً أن يزيد على أربع وعشرين ساعة، ولا الأسبوع على مائة وثمان وستين ساعة، ولا السنة على ثمانية آلاف وسبعمائة وست وستين ساعة، أي أن هناك ساعات محددة لا تزيد ولا تنقص للسنة والشهر واليوم. ثم أيضاً إذا مضت ساعة فهذا يعني أن هناك ساعة من عمرك انتهت، وأنك ابتعدت عن الدنيا ساعة، واقتربت إلى الآخرة ساعة، وهذه الساعة لا يمكن أن تعود. وحينما نتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فإذا كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يغتنموها في ذكر الله عز وجل؛ حتى يكون ذلك رفعة في درجاتهم، فكيف بمن لم يضمن الجنة؟! ويقول الحسن رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على دراهمكم ودنانيركم. وهذه لغة لا يفهمها كثير من الناس، فأنت تستطيع أن توفر جزءاً من وقتك بدراهمك ودنانيرك، والدراهم والدنانير تذهب وتعود، لكن الوقت يذهب ولا يعود. مثلاً: البعض من الناس عندما يريد أن يشتري أي غرض من الأغراض يفضل أن يذهب إلى سوق رئيس، فلو أراد أن يشتري مثلاً فاكهة، يفضل أن يذهب إلى سوق الخضار الرئيس، وهذا يتطلب منه بذل الكثير من الوقت في الذهاب والعودة، بينما يستطيع أن يشتري ذلك من مكان أقرب منه، وربما يزيد مبلغاً يسيراً من المال، لكنه يوفر بذلك الأمر الذي لا يمكن أن يوفره أبداً وهو الوقت. وقل مثل ذلك في قضايا كثيرة، فالوسائل المعاصرة مثلاً يمكن أن تختصر كثيراً من الأمور فتوفر على الإنسان جزءاً من وقته، فهل نفكر هذا التفكير فنشتري الوقت بالدراهم والدنانير؟ وإذا تأمل الإنسان في الوقت وجد جزءاً كبيراً من الوقت يمضي في النوم، وجزءاً في الراحة، وجزءاً في الطعام، وجزءاً في التنقلات، ووجد أن الوقت الباقي له يسير جداً. كما قال الأول: إذا كملت للمرء ستون حجة فلم يحظ من ستين إلا بسدسها ألم تر أن النصف بالنوم حاصل وتذهب أوقات المقيل بخمسها فتذهب أوقات الهموم بحصة وأوقات أوجاع تميت بمسنها فحاصل ما يبقى له سدس عمره ممكن أن نختلف نحن في النسبة، لكن افترض على أقل الاعتبارات أن الإنسان ينام ثمان ساعات، فإذا كان عمره ستين سنة، ذهبت في النوم عشرون سنة، أي أن ثلث وقته ذهب في النوم، ثم احسب بعد ذلك أوقات الراحة، وأوقات التنقلات وغيرها، ستجد أنه لم يبق له إلا الوقت اليسير، وهذا لا شك يدعوه إلى أن يحرص على اغتنام هذا الوقت اليسير، مع أنه إذا احتسب نومته، واتبع السنة في ذلك فإنه لا شك يؤجر على مثل هذا الوقت. من الأمور المهمة التي تعين الإنسان على إدراك أهمية الوقت: هو أن يدرك أن الوقت الذي يضيع لا يمكن أن يعوض: بعض الناس ضاع عليه عصر هذا اليوم، فيقول: إن شاء الله أريد أن أعوض وأستغل عصر غداً، ويتصور أنه عوض هذا الوقت، وهذا الكلام غير صحيح، فإن الوقت الذي ضاع لا يمكن أن يعوض؛ لأن عصر الغد له واجب آخر. ولهذا لما ثقل عمر بن عبد العزيز عن عمل قيل له: أخره إلى الغد، قال: إذا عجزت عن عمل يوم، فكيف إجمع علي عمل يومين؟! هؤلاء الذين يدركون الوقت حقيقة، ونحن بحاجة إلى أن نعود إلى سير أولئك ونقرأ فيها؛ لنعرف كيف كانوا يحرصون على اغتنام الأوقات. عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعتبر أن كل يوم له واجب معين، وله برنامج وأهداف يجب أن يحققها في هذا اليوم، إذا أخرت عمل اليوم فلا يعني أني سأقضيه في الغد، بل سيكون هذا على حساب الواجب الذي أقضيه في الغد. ولهذا عندما تضيع علي موعداً، فليس صحيحاً أنك ستعوضني في المستقبل. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا في المدارج فله كلام جميل حول الوقت، وحاصل ما قاله: أن الوقت هذا لا يمكن أن يعوض؛ لأن ما يستقبل من الوقت له واجب جديد لا يمكن أن تقضي فيه الواجب الذي قد فوته في هذا الوقت الذي ضيعته بالأمس.

تحديد الأولويات

تحديد الأولويات الاقتراح الثاني: تحديد الأولويات: وهذه من أهم القضايا، فأحياناً يشعر الإنسان مثلاً أنه قرأ في هذا الوقت، أو أنه زار أخاً له في الله، أو عمل أي عمل من الأعمال، فيعتبر أنه اغتنم الوقت بشيء مفيد واستفاد من الوقت، وهذا صحيح، لكن يجب أن تضع أولويات للوقت. وأظن أن سلف الأمة أدركوا هذا المعنى جيداً حينما قالوا: إن من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل. فمن اشتغل بالعمل المفضول فقد استفاد من الوقت، لكنه ما راعى الأولويات، والسلف لم يعبروا هذا التعبير، لكنهم كانوا يراعون هذا الأمر فعلاً، وكانوا يخصصون الأوقات، هذا للعبادة، وهذا للتعليم، ويرفضون أن يعتدي أحد على مثل هذه الأوقات، وكانوا يرون أن هذه أولويات في تحديد الوقت. وفي الجملة فتنبيههم العابد إلى أن يحذر من تلبيس الشيطان عليه بإشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل لا شك أنه دليل على اعتبار هذه القاعدة الذي يعبر عنها من يكتب الآن في إدارة الوقت بتحديد الأولويات. وهنا Q هل صحيح أن أكثر الناس انشغالاً هو أكثر الناس إنتاجاً؟ ربما نتصور ذلك، لكن ليس ذلك متحققاً بالضرورة، فقد ينشغل الإنسان كثيراً لكن طريقته في إدارة وقته وإدارة عمله غير منتجة ولا عملية، فيصبح أقل إنتاجاً. ولنفترض مدير مؤسسة أو شركة يربط الأعمال كلها به، وتراه مشغولاً، ومكتبه مليء بالأوراق، ويحمل معه إذا ذهب إلى المنزل جزءاً كبيراً من هذه الأوراق، وحين تراه يعمل تشعر أنه مخلص، وأنه إنسان منتج، وتتصور أنه أكثر الناس إنتاجاً، فلا شك أن هذا إنسان جاد مخلص، لكن ليس بالضرورة أن يكون أكثر الناس اغتناماً للوقت، ربما تجد رجلاً آخر يجد وقت فراغ، لكنه نظم وقته بطريقة معينة، وحدد أولوياته، وصار أكثر إنتاجاً. ولهذا رفعت الجمعية الأمريكية لتقييم المهندسين شعاراً يقولون فيه: اعمل بطريقة أذكى، لا بمشقة أكثر. وهناك دراسات أجريت على عدد من الناس الذين يصرفون أوقاتهم في جزء من العمل، وتوصلت إلى نتيجة صارت مبدأ مشهوراً يسمونه مبدأ بارفيو يقول فيه: إن الكثير من المديرين يبذلون أربعة أخماس وقتهم في القيام بواجبات ومسئوليات تتصل بخمس ما يحققون من نتاج. يعني: أن الكثير من هؤلاء يبذل (80%) من الوقت في تحقيق (20%) من النتائج، وبعبارة أخرى: أنهم لا يحسنون تحديد الأولويات في أوقاتهم. للأسف أن هذه القضية غائبة عنا، فنحن أحوج ما نكون إلى إجراء مثل هذه الدراسات في أوقاتنا، وأظن أننا سنجد مشكلة كبيرة لو أجريت الدراسات عندنا في كيفية قضاء أوقاتنا، ربما تجد بعض طلاب العلم في العالم الإسلامي مشغولاً بأعمال يمكن أن يقوم بها غيره، أو أعمال ربما يعينه غيره عليها فيوفر عليه جزءاً كبيراً من وقته، فيتفرغ هو للاغتنام الحقيقي للوقت، وهذه الأعمال -لا شك- تشغله عن أعمال أهم منها كما سيأتي. إذاً: لا يكفي أن نشعر أننا استفدنا من الوقت، بل يجب أن نضع لنا أولويات، فأنت مثلاً حينما تشعر أنك تقرأ في كتب التراجم ربما تجد أنك أنهيت قراءة كتاب تاريخ بغداد، أو وفيات الأعيان، أو سير أعلام النبلاء، أو غيره، وتتصور أنك وصلت إلى مستوى جيد في اغتنام الوقت، بينما كان يمكن أن تقرأ بدل هذا الكتاب تفسير البغوي، أو تفسير ابن كثير، أو تقرأ جامع الأصول. وأظنكم توافقونني على أن الذي يصرف جزءاً كبيراً من وقته لقراءة التراجم في هذه المرحلة أن عنده مشكلة في تحديد الأولويات، لأنه أحوج إلى قراءة كتب التفسير والحديث، وقل مثل ذلك في أعمال أخرى. المقصود أن الاستفادة من الوقت لا تعني أنك وصلت إلى القمة، بل يجب أن تراعي الأولويات.

تحديد الأهداف

تحديد الأهداف الاقتراح الثالث: تحديد الأهداف: وهذا أمر مهم، وهو يعينك على القضية الثانية، فإنك لا تستطيع أن تحقق قضية ثانية بدون هذا الأمر، أنت مثلاً مقبل على إجازة، وأمامك وقت هائل في الإجازة، وتريد أن تغتنم وقتك، لكن بعدما تنتهي الإجازة تشعر أن هناك أوقاتاً هائلة ضاعت عليك لم تستطع أن تغتنمها. ما هو السبب؟ أظن أن من أسباب هذه المشكلة أنك لم تحدد لك أهدافاً، لكن لو حددت أهدافاً فقلت مثلاً: إجازة الربيع أسبوعان، أريد أن أقرأ فيها تفسير ابن كثير مثلاً، أو حددت لك أهدافاً دعوية، وأهدافاً في التحصيل العلمي، وأهدافاً في القراءة، وأهدافاً تراعي فيها ما سيأتي من وسائل وأمور مهمة؛ وتكون أنت تضع هذه الأهداف بصورة غير واقعية -كما سيأتي-، أو أيضاً بصورة غير مراع فيها الأولويات. المهم أنك تضع لك أهدافاً، هذه الأهداف تعينك على ضبط الأولويات، لأنك حينما تريد أن تضع الأهداف تتساءل عن الأولويات، ولنفترض أنني في الإجازة سأخصص جزءاً من الوقت لأنشطة دعوية وأعمال دعوية، وجزءاً للقراءة، فسنأخذ مثلاً الجزء المخصص للقراءة، فإذا أردت أن أحدد أهدافاً، قلت: أريد أن أقرأ تفسير ابن كثير في هذه الإجازة، مع أني أظن أنه سهل جداً أنه خلال إجازة الصيف، بل ربما مثلاً إجازة الربيع يستطيع الواحد منكم أن ينهي قراءة تفسير ابن كثير أو تفسير البغوي، أو غيره من الكتب. المقصود أني قررت أن أقرأ تفسير ابن كثير، لكن ربما يأتي شخص آخر فيقول: أنا سأقرأ في الإجازة القاموس المحيط، أو لسان العرب، أو أقرأ سير أعلام النبلاء. فأنت عندما تريد أن ترسم الهدف، ستراعي الأولويات، تفكر: هل الأولى فعلاً أني أقرأ تفسير ابن كثير؟ أم أقرأ القاموس المحيط؟ أم أقرأ ديوان الحماسة؟ أم جمهرة أشعار العرب؟ أو أي كتاب. فأنت حينما تريد أن تحدد الأهداف ستضطر إلى تحديد أولويات، لكن عندما لا يكون لديك أهداف ولا أولويات أصلاً، وتأتي إلى المكتبة بعد الفجر، وتجلس فيها إلى الساعة التاسعة، تنظر في الكتب ربما يقع نظرك على كتاب وتمسك به وتقرأ فيه، وتعجب به، وتستمر فيه، فصار عندك هذا الخلل وهو عدم تحديد الأهداف ابتداءً، والذي لابد أن تضطر معه إلى الأولويات، ربما كان خير معين لك على اغتنام وقتك.

ضبط تخصيص الوقت

ضبط تخصيص الوقت الاقتراح الرابع: ضبط تخصيص الوقت: خصص الوقت بطريقة مضبوطة، حتى تعمل العمل المناسب في الوقت المناسب، مثلاً: شخص يريد أن يقرأ كتاباً مركزاً فلا يمكن أن يقرأ هذا الكتاب في وقت الظهيرة مثلاً، وجهاز التكييف الذي عنده مزعج، أو لا يعمل بصورة مريحة، فعندما تريد أن تقرأ عليك أن تختار وقتاً مناسباً، عندما تريد زيارة أو عملاً أياً كان فيجب أن تختار الوقت المناسب. من ذلك مثلاً العبادة: هناك أوقات مناسبة للعبادة، وهناك أوقات تناسب القراءة، ومن الاشتغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل أن تكون قراءتك وتحصيلك في وقت العبادة، فكان أولى أن تصرفه في العبادة، وتصرف في القراءة وقتاً آخر. أوقات الهدوء أوقات مهمة جداً، فمثلاً بعد الفجر إلى الساعة الثامنة أو التاسعة في الإجازة وقت مهم ووقت هادئ، فليس فيه احتمال أن يتصل عليك أحد بالهاتف، أو يزورك ثقيل، أو يزعجك طفل من الأطفال، أو يطلبك الأهل، غالب الوقت هادئ، ومن ثم فالجو هادئ، فهذا الوقت يعتبر قمة من الأوقات، لا يمكن أن تصرف هذا الوقت في شيء آخر ثانوي. جانب مهم أيضاً: طبيعة الشخص: مثلاً الإنسان الذي اعتاد أن ينام بعد الفجر وقتاً معيناً، وهذا يعني أنه لا ينام بعد الظهر، فهو أعلم بنفسه فليست مشكلة، لكن أهم شيء أن تضبط الوقت، ولا يطغى النوم، فلك أن تنام بعد الفجر، أو تنام العصر، لكن تخصص الوقت المناسب لك، فتشعر مثلاً أن وقت الظهيرة مع توفر أجهزة الراحة والتكييف ربما كان مناسباً لك. عندما تريد أن تزور أحداً أو تستقبل أحداً ينبغي أن تختار الوقت المناسب للزيارة، والذي يضبط الوقت فلا يضيعه عليك، فالزيارة بعد المغرب ربما تكون مناسبة باعتبار أنه وقت قصير، لكن الزيارة هذه الأيام بعد العصر خير وسيلة لإضاعة الوقت، والزيارة بعد العشاء في وقت الشتاء هي الأخرى من أفضل الوسائل لإهدار الأوقات. كذلك هناك ما يمكن أن يشترك فيه أكثر من عمل، مثل السفر، فإذا سافر الإنسان فإنه يستطيع أن يصطحب معه كتاباً، بعض الأعمال لا تنجزها في أوقات السفر، لا أدري مثلاً ربما أتكلم عن حالتي الشخصية، من أفضل الأوقات لي أوقات السفر، وأجد فيها راحة، وفراغ أكثر بكثير من أوقات الإقامة، فقد يعود هذا لظروف خاصة، وقد يعود لطبيعة معينة؛ لكن أنا أعتبر أن وقت السفر يمكن أن تجمع فيه بين أمرين، فأنت مسافر مثلاً فتقرأ في الطريق، لأنه يتيسر لك فيه وقت، المهم أنك تستطيع أن تجمع فيه بين عملين، لو حسب كل واحد منا كم يقضي في السيارة لوجد وقتاً طويلاً، إذا افترضنا أن طريقك إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل يستغرق منك ربع ساعة، فهذا يعني أنك تستغرق في اليوم نصف ساعة ذهاباً وإياباً، مع أن العادة أن العودة تكون أطول قليلاً بسبب الازدحام، فلنفترض أنه نصف ساعة، وهذا يعني أن عندك في الأسبوع ساعتين ونصف ساعة، وعندك في الشهر عشر ساعات، هذه العشر الساعات هي الوقت الذي تقضيه في الطريق ذهاباً وإياباً إلى مقر دراستك أو عملك، فهل هي مغتنمة فعلاً أو ضائعة؟ أنت مثلاً خلال هذه العشر الساعات ربما تقلب المذياع تبحث عن إذاعة في حالة من الحالات، أو يكون لك شأن آخر فهذا لا يضر إلا إذا قضيت الوقت كله هكذا هدراً، مع أنك لو رتبت لك برنامجاً لسماع بعض الأشرطة، واستطعت أن تسمع بمعدل عشر ساعات في الشهر لكان ذلك حسناً، وهذا إذا افترضنا أنك لا تذهب وتأتي إلا في وقت الدوام فقط، أما لو حسبت الأوقات الأخرى التي تذهب فيها وتأتي فستجد وقتاً كثيراً. وهذا لا يعني أنك يجب أن تغتنم كل هذه الأوقات، لكن العشر ساعات أعطنا منها خمس ساعات على الأقل، وافترض أنك في الخمس الساعات الأخرى غير مهيأ لاغتنامها. وإذا صرت مجهداً فاغتنم الوقت بالتفكير، فالتفكير من أهم ما يمكن أن يغتنم به الإنسان وقته، فيفكر في وقته، ويفكر في أمور مهمة يستطيع أن يستفيد منها في دينه ودنياه. الإنسان على مائدة الطعام يستطيع مثلاً أن يستمع إلى نشرة الأخبار إذا كان حريصاً على نشرة الأخبار، فبدلاً من أن يخصص لها وقتاً يستمع إليها أثناء تناول الطعام، المهم أنك تستطيع أن تجمع بين أكثر من عمل. إذا كنت تريد إنساناً في مقابلة سريعة ووقت سريع فيمكن أن تلتقي به على وجبة الطعام، فلا تضيع عليك ولا عليه وقتاً، وتستطيع أن تستفيد من هذا الوقت مثلاً في قضاء حاجتك وحاجته. ربما تحتاج إلى إنسان في موعد، تريد أن تتناقش معه في موضوع، أو تستشيره في أمر، فإذا لم تجد وقتاً فيمكن أن تصحبه في السيارة مثلاً، فتذهب به إلى صلاة الجمعة أو إلى أي مكان فتوفر على نفسك وعليه وقتاً. المقصود أن هناك أوقاتاً يشترك فيها أكثر من عمل، ويمكن أن يجمع فيها الإنسان أكثر من عمل، فينبغي أن نعتني بها.

ضبط المواعيد

ضبط المواعيد الاقتراح الخامس: ضبط المواعيد بدءاً وانتهاءً: بحيث تكون مواعيدنا دقيقة، فكثير من المسلمين اعتاد على المواعيد المفتوحة إلى القمة، تقول له مثلاً: متى تأتي؟ فيقول: آتيك بعد العصر مثلاً، بعد المغرب بين الصلاتين المصطلح الشائع بعد العشاء وقت مفتوح. تريد أن تقابل شخصاً لقضية سهلة أو استشارة في موضوع، تقول له مثلاً: ائتني بعد العشاء، وتجلس معه بعد العشاء ساعات طويلة، والمقصود من هذه الزيارة لقاء وسلام، وتفقد للأحوال، أو ربما أمر كان يتم بدون ذلك. لكن لماذا لا نجرب أن نضبط أوقاتنا بدءاً وانتهاءً، فمثلاً بدلاً من أن يكون الموعد بعد العصر نجعله الساعة الرابعة أو الرابعة والنصف أو السادسة، ثم نضبط موعداً لنهاية الوقت، وقد كنت أتصور سابقاً حينما أتعامل مع بعض الناس ومع بعض المشايخ الدقيقين جداً في أوقاتهم، أن هذه صورة من صور تعذيب النفس، لكن عندما جربت ذلك وجدت أنه سهل جداً. بل وجدت أن قمة تعذيب النفس وقمة الإعياء أنه تحدد موعداً لا تعرف متى يكون، وتعيش في قلق لا تدري متى يأتيك صاحبك، وإذا أتاك لا تدري متى يذهب، فشعرت أن الوضع طبيعي جداً، ويستطيع الإنسان أن يضبط أوقاته. لكن يجب أن تكون واقعياً، فحينما تضع موعداً الإنسان إلى الساعة الخامسة، فعندما تأتي الساعة الخامسة وخمس دقائق وما أتى فليس معنى هذا أن فيه صفة من صفات المنافقين حتى يدعها، وأنه مخلف الوعد، أو تعتبر أن هذه وسيلة تستحق أن تعاقب عليها فلا تنتظره. أنا شخصياً أضع فرصة لإنسان في الحدود الطبيعية من عشر دقائق إلى ربع ساعة، فيمكن أنه حدث له عذر أو ظرف، كزحام في الطريق، فإذا تجاوز ربع ساعة شعرت أنه تأخر، لكن الربع ساعة يجب أن تخصمها من الوقت المخصص له، فهو الذي فرط فيه، إذا أعطيت إنساناً موعداً من الساعة الخامسة إلى السادسة وأتاك الخامسة والربع فالمفترض أن نلزم أنفسنا بأن ينتهي الموعد الساعة السادسة، ولا يمكن أن أعوضك؛ لأن الربع ساعة التي أضعتها لا يمكن أن تعوض. فأنا أكون واقعياً على الأقل فلا ألوم الناس، أنا أفترض أنك ربما تخالفني، لكن على الأقل تحدد وقتاً مسموحاً به أو وقتاً يكون فيه مجال للتأخر. أيضاً نفس الطريقة في انتهاء الوقت، فعندما أريد مثلاً موعداً مع شخص في أي أمر ديني أو دنيوي، أو استشارة في موضوع، أو في منقاشة أي قضية، فإني أنظر كم يكفيني من الوقت، فإذا كانت تكفيني نصف ساعة من الوقت مثلاً، فإني أجعل الوقت يكون ساعة إلا ربعاً، لأن الناس ليسوا آلات بحيث يدخل إلى صاحبه فيبدأ بالموضوع مباشرة، فعلى الأقل ما يسمونه بالتدفئة الاجتماعية، كسؤال عن الأحوال والأخبار، ومن هنا وهناك، ثم بعد ذلك يكون النقاش في مثل هذا الموضع. وإذا كان صاحبك غير منضبط أو ثقيلاً، وتعرف أنت أنه لا يستأذن بعد انتهاء الوقت، وقد تشعر أن هناك حرجاً أن تقول له: الوقت المخصص قد انتهى، فيمكن أن تضبط الموعد بوقت الصلاة، فإذا واعدته إلى الساعة السادسة فهذا يعني انتهاء الموعد الساعة السابعة إلا ثلث باعتبار وقت الأذان، وهذه وسيلة جيدة لضبط الوقت دون حرج، مع أني أرى أننا يجب أن نكون صرحاء وواضحين في أوقاتنا كما سيأتي بعد قليل.

الواقعية

الواقعية الاقتراح السادس: الواقعية: سبق أن أشرت إلى جزء منها، فعندما أريد أن أضع أهدافاً لي في الإجازة. مثلاً: إذا افترضنا أن صلاة الفجر في الساعة الرابعة، وصلاة الظهر الساعة الثانية عشرة، فهذا معناه أن الصباح ثمان ساعات، فعندما أقول: سأستغل الثمان الساعات يومياً في القراءة، فهذا كلام غير واقعي، وحتى ست ساعات! فيجب أن تضع أهدافاً واقعية؛ لأن مشكلة الأهداف غير الواقعية أنك عندما تجربها ولا تحققها لا تعود إلى نقطة التوازن، بل تعود إلى التطرف، وتشعر أنك فاشل، بينما كان الخطأ في أنك كنت مثالياً، وقل مثل ذلك في قضية الموعد كما سبق أن أشرنا. فالمقصود أن نكون واقعيين في أهدافنا، وأيضاً لا تقودنا الواقعية إلى التسيب، بحيث لا نكون مستجيبين لأهواء النفس ومشكلاتها، ولا نكون أيضاً مثاليين.

التخلص من مضيعات الوقت

التخلص من مضيعات الوقت الاقتراح السابع: التخلص من مضيعات الوقت: هناك مضيعات كثيرة للوقت منها: الهاتف، من خلال طول الحديث في الهاتف، فبعض الناس لا يحلو له الحديث إلا في الهاتف، ويسأل عن الأحوال والأخبار، ويتحدث معك دقائق طويلة وهو إلى الآن ما دخل في الموضوع، ولا تدري ما هو الموضوع الذي يريده، ربما يكون فارغاً، وربما يكون يعيش هماً وأراد أن يفرج همه بالاستئناس بحديث الإخوان، لكنه لا يتصور ما هو الوقت الذي تقضيه، ولا يتصور أنه ربما يكون عندك إنسان، أو أنك تقرأ، أو أنك منشغل بأي أمر من الأمور. فيجب أن تقدر أوقات الآخرين، وأن يتعلم غيرك أن يقدر أوقات الآخرين، فمن مشكلات الهاتف أنك لا تعرف ما هو منشغل به صاحبك. البعض من الناس يعتب عليك مطالبتك إياه بالاختصار في الهاتف، لكن لأنه يعرف أن هذه المكالمة ربما تكون هي الوحيدة في السنة، أو في الشهر، أو مكالمة فصلية، يتصور أنه لا مشكلة أن يقضي عشر دقائق معك، ولا يظن أن وقتك سيضيع، لكنه لا يتصور أنه عندما يتصل بك بعد العصر أن هناك عشرة اتصلوا مثله، وإذا كان كل واحد سيأخذ خمس دقائق فهذا يعني أن خمسين دقيقة تماماً قد ضاعت في الحديث مع هؤلاء الذين يعتبرون الخمس الدقائق وقتاً يسيراً في المكالمة الهاتفية. أضف إلى ذلك أنها ليست في الواقع ساعة، بل هذا الانقطاع يؤثر كثيراً على العمل الذي كنت تعمله فانقطعت عنه ثم عدت إليه. فيجب أن نتخلص من تضييع الوقت في الهاتف من خلال عدة أمور: الاختصار في المكالمة في الهاتف، وأن نتعود ألا نجيب على الهاتف، أو أن يعتذر الأهل أو أي شخص بأنك مشغول، وإذا كنت مشغولاً فليس بالضرورة أن تجيب على الهاتف في كل وقت. ومن مضيعات الوقت أيضاً: الزائر: أحياناً يأتيك زائر مفاجئ فيضيع عليك وقتك، فافترضوا أنه أتاني زائر وأنا أعد هذا الموضوع وجلس عندي طوال وقت العصر، وتبادلت معه الحديث، فعلى أي حال سآتيكم وبأي صورة، أنا أظن مثلاً أني يمكن أن أكون صريحاً معه، أو ربما أحرج نفسي مع شخص واحد، ولا أحرجها أمام عدد من الطلاب ينتظرونني، ويريدون أن يسمعوا مني، وقد خصصوا هذا الوقت لذلك. من الأمور التي تعين على التخلص من الزائر أن نحدد أوقاتاً للزيارة، فنعتاد على أن نأخذ موعداً للزيارة ولو بالهاتف قبل الزيارة، فيتصل ويقول: أنا سآتيك الآن فهل الوقت مناسب أو غير مناسب؟ فأنت مثلاً تجد أنك عندما تتصل على إنسان وتقول: أنا سآتيك، فيقول لك: أنا مشغول، لكن لو أتيته لا يمنعك. أمر آخر وهو أن يكون لدينا جرأة على الاعتذار، وسيأتي بعد قليل الإشارة إلى هذا المعنى. من مضيعات الوقت الثقلاء والبطالون: وابن الجوزي له معاناة مشهورة مع هؤلاء، أشار إليها في (صيد الخاطر) يقول رحمه الله: أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلقد رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي. وربما أيضاً هذه تكون رسالة لهم أنهم من الناس المضيعين للأوقات. إذاً: هو يسلك عدة وسائل: الأمر الأول: يحرص أنه لا يقابل هؤلاء ابتداءً. الأمر الثاني: إذا قابلهم يقول: أختصر في الكلام، حتى ينتهي ما عندهم ويضطرون لاستئذاني. فإذا لم يكن هناك فائدة خصص أعمالاً لا تحتاج إلى تفكير، فيبري قلماً، أو يرتب أوراقاً، وهو يتحدث مع زائره.

الجرأة على الاعتذار

الجرأة على الاعتذار الاقتراح الثامن: الجرأة على الاعتذار: وأنا أقول بصراحة: يجب أن نكون أمام خيارين: إما أن نكون جريئين على أن نعتذر، أو أن نكون جريئين على إضاعة أوقاتنا، ونختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. بل الناس ربما يتأففون من الجرأة على الاعتذار، والقضية قضية عادة، فإذا اعتاد الناس فيما يستقبل يصبح الأمر سهلاً وديدناً لهم. ثم قبل هذا يقول الله عز وجل: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]. فيمكن أن يأتيني زائر فأعتذر له عن المقابلة، ويمكن أن أجيبه من خلال سماعة الباب وأقول له: أعتذر عن مقابلتك فأنا مشغول، ويجب أن تستعد وتتهيأ نفوسنا لقبول هذا، فإن الله عز وجل قد قال ذلك في كتابه، بل قال: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع). والقضية تحتاج إلى موقف أو موقفين، فربما تخسر شخصاً أو شخصين، لكن أنا أظن أن خسارة بعض البطالين والثقلاء أفضل بكثير من خسارة وقتي، بل أنا أعتبر خسارة البطال مكسباً؛ لأنه عندما يجد في نفسه شيئاً وتخسره ربما أنت تربح؛ لأن هذا لن يأتي إليك مرة أخرى، فتكون قد وفرت جزءاً من وقتك. وبصراحة يجب أن تكون أوقاتنا ثمينة، وهذا يدعونا إلى أن نكون جريئين في الاعتذار. ربما تأتيك أوقات تشعر أنك تضطر إلى المجاملة فيها، فعندما تكون في البيت ويأتيك شخص عزيز عليك فقد يكون غير لائق أن تقول له: ارجعوا هو أزكى لكم، لكن من الأولويات أن تصرف ما أنت منشغل فيه إلى صاحبك، ويسهل تعويض ذلك؛ لأن هذا في الواقع ليس إضاعة للوقت، لكن حينما يكون الأصل عندنا هو الاستقبال، فأظن أن هذا ليس من المحافظة على الوقت. دخلوا على أحد السلف فقالوا: لعلنا أشغلناك! قال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة من أجلكم.

جمع العناصر ذات العلاقة

جمع العناصر ذات العلاقة الاقتراح التاسع: جمع العناصر ذات العلاقة: لنفترض أنك بعد العصر تريد أن تقرأ، وعندك ثلاث أو أربع مكالمات هاتفية، فمن أهم الأشياء أن تجمع، فاجعل المكالمات الهاتفية في وقت واحد، فبعد صلاة العصر مباشرة تتصل، وذلك في وقت تتأكد أنك تجد أصحابك؛ لأن الاتصال دون أن تجد صاحبك إضاعة للوقت مرة ثانية. المهم أنك تجمع الاتصالات في وقت واحد، وتجمع الزيارات في وقت واحد، فتريد أن تذهب إلى مكتبة لتشتري كتاباً، وتريد أن تذهب إلى عيادة الأسنان في الموعد الذي حدده لك الطبيب، وتريد أن تذهب إلى أحد أقاربك، فبدلاً من أن تذهب في هذا الوقت ثم تعود، ثم تذهب في الوقت الآخر، اجمع هذه الأعمال في وقت واحد، فتوفر على نفسك عناء كبيراً. المقصود أن جمع الأشياء المتشابهة في وقت واحد من أفضل الأشياء التي تعينك على توفير الوقت واغتنامه. لكن لو تصورنا أنك قسمت هذه المكالمات الهاتفية الأربع على وقت العصر لضاع عليك الوقت كله.

الانضباط الذاتي

الانضباط الذاتي الاقتراح العاشر: الانضباط الذاتي والعزم مع النفس: هذه من أهم الأشياء، فالكلام الذي نقوله كله جميل، لكن هل تستطيع أن تحزم أو لا تستطيع؟ هذه أهم قضية، ولهذا فالمحك في اغتنام الأوقات هو الإنسان الذي يستطيع أن يعزم على نفسه؛ مثلاً: عندما تريد أن تقرأ يأتي في بالك أن تزور فلاناً، وأن تتصل على فلان، وهناك أعمال صعبة على النفس، وأعمال محببة إلى النفس، فربما يكون من المعايير عندك تقدم هذا. المهم أنك يجب أن تكون حازماً مع نفسك، هذا وقت تريد أن تقرأ فيه فاقرأ فيه، وقت تريد أن تسافر فيه فسافر فيه، المهم على حسب ما حددت يجب أن تكون حازماً مع نفسك، ولا تستسلم لمضيعات الوقت، كالراحة، والكسل، ونحوها.

الحذر من التسويف

الحذر من التسويف الاقتراح الحادي عشر: الحذر من التسويف: والتسويف جزء من عدم الحزم، لكن الحزم معنىً أشمل من ذلك. ولهذا كان السلف يحذرون من التسويف، قيل لرجل من عبد القيس: أوصنا. قال: احذروا سوف. وقال أحدهم: سوف من جند إبليس. لأنك ربما تقول: سوف أفعل كذا فتدركك المنية ولم تفعل هذا الأمر، أو يأتيك مرض، أو يصل الهرم وأنت لم تستطع أن تفعل شيئاً، وكم من الأمور قلنا سوف نعملها ولم نعملها. والحسن البصري يقول: إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت اليوم. وقال أحدهم: ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل إلى غد إن يوم العاجزين غد ولما قيل لـ عمر بن عبد العزيز وقد أعياه الإرهاق من كثرة العمل: أخر هذا العمل قال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين.

ضبط أوقات الراحة

ضبط أوقات الراحة الاقتراح الثاني عشر: ضبط أوقات الراحة: وهذه يمكن أن يكون له علاقة قوية بموضوع الحزم، لأن أوقات الراحة تضيع علينا جزءاً كبيراً من الوقت، انظروا مثلاً إلى صباح الجمعة كيف نغتنمه؟ ينام الإنسان يوم الجمعة من الساعة الرابعة إلى الساعة التاسعة، هذا الذي ينام مبكراً ويستيقظ مبكراً، فيكون قد نام خمس ساعات، ومن الساعة التاسعة يضيع وقته هنا وهناك، ويشعر عموماً أن الوقت من فجر الجمعة إلى الصلاة وقت ضائع، ولهذا يقال: إن صباح الجمعة وقت ضائع. يا أخي! ليس هذا منطقاً صحيحاً، إذا كنت مضطراً أن تنام هذه الخمس الساعات حتى تستمع إلى الخطبة استماعاً جيداً، فتأخر في ليلة الجمعة؛ لأنك ستنام، واغتنم جزءاً من الوقت. المهم أننا ننام جزءاً من الخميس أو وقت الجمعة أو الإجازات؟ أوقات الراحة هذه التي تستهلك تعتبر فيروساً كبيراً للوقت لا نشعر به فعلاً، فيجب أن نضبطها، فيكون الإنسان حازماً مع نفسه، فاضبط نفسك أن تستيقظ الساعة السابعة أو الساعة الثامنة مثلاً، المهم أنك تستيقظ؛ لأجل أن تقرأ مثلاً، أو لأجل أن تعمل شيئاً.

احترام أوقات الآخرين

احترام أوقات الآخرين الاقتراح الثالث عشر: احترام أوقات الآخرين: إذا كنت لا تحترم وقتك فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وهذا من خلال عدة أمور: الأمر الأول: أن تحترم مواعيدك، إذا أعطيت إنساناً موعداً يجب أن تحترم هذا الموعد فلا تضيعه، أو على الأقل إذا لم تستطع أن تعتذر في وقت مناسب؛ لأنه قد يكون مثلاً قد امتنع من مصالح مهمة له لأجل هذا الموعد الذي أعطيته، فتكون قد أضعت عليه الوقت، فلن يستطيع أن يصرف هذا الوقت لأمر آخر كان يمكن أن يصرفه فيه. من احترام أوقات الآخرين: عدم الإحراج، فبعض الناس أحياناً يلح عليك إلحاحاً عجيباً أن تأتي منزله في وليمة، وهي وليمة لا تقدم ولا تؤخر، فتعتذر ولكن لا فائدة، حتى تضطر إلى الاستجابة لإلحاحه. يا أخي! الناس ليسوا مثلك فارغين، فمن احترامك لأوقات الآخرين ألا تلح عليهم وألا تحرجهم بأي طلب أياً كان، يجب ألا تفترض أن أوقات الآخرين مثلك، فمن حقك أن تطلب، لكن ينبغي ألا تلح، والإلحاح ليس بالضرورة دليلاً على الحرص وجانباً إيجابياً، فربما كان جانباً سلبياً. ومن ذلك افتراض الاختلاف حول تحديد الأولويات: فأحياناً شخص يطلب منك عملاً أياً كان هذا العمل، ثم تعتذر فيقول لك: يا أخي! هذا عمل مهم، وهذا عمل مفيد، وهذا ضروري، والناس محتاجون، إلى آخره. يا أخي! أولاً: أنت لا تعرف وقتي كله حتى تحكم، ولو كان أمامك وقتي كله، ثم أتيت إلى هذا العمل الذي ترى أنت أني يجب أن ألغي جزءاً من وقتي لأصرفه له، ربما ترى أن من حقك ذلك، لكن حتى مع هذا قد أرى أنا أن أولوياتي تختلف عن أولوياتك. فمن احترامك لوقتي أن تحترم نظرتي؛ لأن الوقت عمري أنا ووقتي أنا، وأنا المسئول عنه، ولست أنت المسئول عن وقتي، ولن تحاسب عليه، وأنا الذي سأسأل يوم القيامة عن هذا العمر فيم أضعته، وفيم أنفقته؟ ومن الأسئلة لا شك السؤال عن الأولويات، فعندما يصرف الإنسان وقته في شيء مفيد فليس معنى هذا أنه اغتنم وقته -كما قلنا قبل قليل- بل هناك أولويات، ولا يستطيع الإنسان ولو عمر عمراً طويلاً أن يأتي على كل الأمور التي يريد. إذاً: من احترامك لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك في تحديد الأولويات، وأن القضية المهمة عندك ليس بالضرورة أن تكون مهمة عند الناس، أو ربما أن يكون عند الناس ما هو أهم مما عندك. هذا إذا كنا افترضنا أنك عارف بكل أوقات الناس وفيما يقضونه، فكيف إذا كنت لا تعرف أوقات الناس أصلاً، ولا بما هم مشغولون به. بعض الناس -من حسن أدبه! - حينما يطلب منك موعداً فتعتذر وتقول له إني منشغل، أن يلح، فتعتذر، فيقول: إذاً ما هو برنامج اليوم؟ وماذا عندك؟ يا أخي! افترض أنه ليس عندي برنامج لكن هذا وقتي وأنا أحر، إذا اعتذرت فافترض أسوأ الاحتمالات، وهو أن ليس عندي رغبة، فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وافترض أني مشغول. أحياناً بعض الناس عندما تعتذر منه يقول لك: صباح الجمعة، أو مغرب الخميس. يا أخي! كأن الأوقات لا يعرفها إلا أنت، أنا أظن أن الناس المزحومين في الأوقات أكثر منك معرفة كيف يجدون الأوقات المناسبة حينما يريدون ذلك. أقول: إن من الاحترام لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك حول أولوياتك، وافترض أنك ما عذرته، وأنك ترى أن هذه قضيتك هي القضية التي يجب أن تتفرغ الأمة الإسلامية كلها لأجلها، فافترض هذا. ومع هذا فهو المسئول عن وقته، وهو الذي سيحاسب عن وقته، فلا يجوز أبداً أن تفترض أن الناس تابعون لك فيما تريد. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء من هذا المعنى، وهو من يضيع وقته مع الناس، فقال: من ذلك -يعني من الإيثار المذموم- أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله، فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره! وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً، مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضاً إيثار غير محمود. وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع، واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحداً، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله، وأنت لا تعلم.

التفويض

التفويض الاقتراح الرابع عشر: التفويض: فأحياناً ينشغل رب الأسرة بأعمال يمكن أن يقوم بها ابنه، أو قريب له، أو شخص آخر ربما ينوب عنه في القيام بمثل هذا العمل، فيوفر عليه وقتاً يمكن أن يغتنمه في شيء آخر لا يستطيع أن يقوم هذا الابن به. المسئول في دائرة أو مؤسسة قد يشغل نفسه بأعمال روتينية كان يمكن أن يشتغل بها غيره، فمن الوسائل مثلاً أن يفوض جزءاً من صلاحيته لمسئول دونه، فأنا لا أظن أن من الوضع الطبيعي أن مسئولاً كبيراً في دائرة أو في مؤسسة يوقع كل ورقة، وينشغل بتوقيع ورقة تتعلق بإجازة موظف، أو نحو ذلك، فإن هذا من إهدار الأوقات، وهذا المسئول يجب أن يخصص وقتاً للتخطيط، ووقتاً للتفكير، ووقتاً لتطوير العمل، فالتفويض من الوسائل التي تعين على اغتنام الوقت.

التخلص من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت

التخلص من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت الاقتراح الخامس عشر والأخير: التخلص من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت:- وهذه قضية تعود إلى الأولويات، فهناك معايير خاطئة في تخصيص الوقت، فأمامك الآن وقت بعد العصر، وعندك عشر مشاغل، فبأي شيء تبدأ؟ هناك معايير خاطئة مسيطرة على النفس تتحكم في تخصيص الأوقات، منها: طلبات الآخرين: فالشيء الذي يلح عليه الناس ويطلبونه تنهيه قبل، وهذا ليس بالضرورة أنه الشيء الملح، فمثلاً مسئول يحرص على إنجاز معاملة حريص عليها صاحبها، لكن هذا يشغله عن التخطيط لعمله الذي هو أمر مهم، وقل مثل ذلك في أي قضية من القضايا، فطلبات الآخرين ليست معياراً سليماً في تخصيص الوقت. قرب الموعد النهائي: من المعايير المسيطرة علينا كثيراً هو أن الشيء الذي يقترب الموعد النهائي فيه نعتبر له أولوية، وربما كان هذا على حساب الأمور التي ليس لها موعد نهائي، فمثلاً القراءة ليس لها موعد نهائي، والتخطيط للأعمال ليس له موعد نهائي، فهناك أعمال ليس لها موعد نهائي. ولهذا إذا كان هذا المقياس عندك فستهمل أعمالاً كثيرة ربما كانت أولى، وربما رأيت في حالة من الحالات أنك تفرط في أمر مثلاً، وأن غيره أولى منه وعلى حسابه. من المعايير الخاطئة: درجة الاستمتاع: فهناك أعمال ممتعة بالنسبة لك أكثر من غيرها، فأحياناً الزيارة والذهاب والإياب أكثر متعة من القراءة، وهذا معيار خاطئ أن تخصص وقتك للزيارة على حساب القراءة. والقراءة نفسها درجات، فهناك قراءة ممتعة أكثر، فالسير والتراجم والأدب أكثر متعة، فحينما تخصص وقتك لهذه القراءة أظن أن هذا معيار خاطئ. من المعايير الخاطئة: درجة المألوفية: فالإنسان يحب العمل الذي يألفه، ولا يحب العمل الذي لم يعتده، وربما يكون عملاً ما اعتدت عليه ولا ألفته أفضل بكثير من عمل ألفته واعتدت عليه. من المعايير الخاطئة: الأعراف الاجتماعية: فمثلاً أنا لست مقتنعاً أبداً أنه عندما يكون هناك مناسبة بعد العشاء -خاصة أيام الشتاء- أن يقول: عندنا مناسبة بعد العشاء، فواحد يأتي بعد العشاء، والثاني يأتي الساعة الثامنة، والثالث يأتي الساعة الثامنة والنصف، والرابع يأتي الساعة التاسعة، ويجلسون ساعة أو ساعتين ينتظرون إنساناً حتى يشرف ضيافتهم، ومن ثم ينتهي الوقت. يا أخي! من الممكن أن نحدد وقتاً محدداً، نقول مثلاً: الساعة الثامنة، أو الساعة التاسعة، أو التاسعة والنصف، وانتهينا، وبعد الظهر مثلاً وقت ضائع عندما يكون هناك مناسبة. هذه القضايا الاجتماعية لابد أن تضبط، والأعراف الاجتماعية لا يجوز أن تسيطر علينا فتكون مدعاة لإضاعة أوقاتنا، فالمناسبات العادية التي بعد صلاة العشاء كم يضيع فيها من الوقت؟! فلو حددت لما وجدنا حرجاً، فلنجعلها ساعة كاملة أو ساعتين، فليست هناك مشكلة، لكن نحدد لها بداية ونهاية بحيث نغير أعرافنا الاجتماعية. لا يسوغ أبداً أن تكون أعرافنا الاجتماعية حاكمة لنا في تخصيص أوقاتنا، ونحاول أن نعود الناس لا أن نتعود على ما يفعله الناس. وهذه -كما قلت- لا تعدو أن تكون مقترحات ووسائل لاغتنام الوقت، فحديثنا ليس حديثاً عن الوقت جملة، إنما هو عن بعض الوسائل التي تعيننا على اغتنام الوقت. وهذا تنبيه يقول: هناك بحث جيد في الوقت وكم نستغل منه وكم نضيع، نشر في مجلة البيان قبل أعداد بعنوان: فن إدارة الوقت، والبحث اطلعت عليه وجيد، وطيب القراءة فيه.

الأسئلة

الأسئلة

المقارنة بين استغلال الوقت بالحفظ واستغلاله بحضور المراكز الصيفية

المقارنة بين استغلال الوقت بالحفظ واستغلاله بحضور المراكز الصيفية Q المراكز على الأبواب وفيها الغث والسمين، وأرى من نفسي -ولله الحمد- أنني إذا تفرغت أستفيد من وقتي قراءة وحفظاً أكثر بأضعاف مما أستفيد من المركز، فما ترى؟ A أولاً: ليس صحيحاً أن القراءة والحفظ هي وحدها الاستفادة من الوقت، بل مثل هذه المراكز يمكن أن نقول إن فيها بعض الأخطاء، فهذا طبيعي، وهذا جهد بشر، لكن أعتقد أن العبارة فيها نوع من التجاوز أن فيها الغث والسمين، باعتبار أنها مضيعة للوقت. يا أخي! اجعل هذه في مقابل النوادي الرياضية، أو في مقابل الشباب الذين يضيعون أوقاتهم في الشوارع أو هنا وهناك، فأنا أعتبر أنها فرصة كبيرة لاغتنام أوقات الشباب وحمايتهم، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه المغريات والملهيات. وأنت حينما تأتي لمثل هذه المراكز أو الأنشطة أو غيرها، قد لا تستفيد استفادة مباشرة، وقد تكون لو تفرغت استفدت أكثر من وقتك، لكن -يا أخي- عندما تعين غيرك على الاستفادة من وقته فتحضر فهذه استفادة كبرى، وهذا توظيف للوقت في الدعوة إلى الله عز وجل. فمعيار الاستفادة من الوقت ليس في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته حين تسأل عنه يوم القيامة، فهل ترى الإجابة أنها ستكون منجية لك عند الله أم لا؟ أنا أعطيك مثالاً: هذا الوقت الذي قضيناه في إلقاء هذا الدرس، كان يمكن ألا ألقيه عليكم، وأن أغتنمه في حفظ أو قراءة، لكن لا أشعر أني لو جلست أحفظ لاستفدت أكثر، بل أشعر أني حينما ألقي الدرس أستفيد أكثر، من خلال أن القضية ليست في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته هل قضيته فيما ينفع أم لا؟ ومعيار الفائدة له اعتبارات كثيرة، واعتبارات شرعية، وليس مجرد الفائدة الشخصية التي تراها أنت.

مراعاة الميل الشخصي في اغتنام الوقت

مراعاة الميل الشخصي في اغتنام الوقت Q ألا ترى أنه يراعى في استغلال الوقت الميول الشخصية مثلاً في قراءة السير؟ A هذه من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت كما قلنا، فلا تأسرنا الميول الشخصية، فإذا قال شخص: أنا ليست هوايتي القراءة، أقول له: اجعلها من هوايتك، وعود نفسك، واحرص على ذلك.

حكم تضييع الوقت في الترفيه

حكم تضييع الوقت في الترفيه Q هل هناك حكم في تضييع وقت بسيط للترفيه؟ A الإنسان يحتاج إلى الراحة والاستجمام، فمن الطبيعي أن يحتاج الإنسان إلى نوع من الاستجمام والراحة، بل كان السلف يدعون إلى ذلك، وقد ذكروا شيئاً من آداب المحدث، وهذا ربما تجد طائفة منه في (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع). فقد كانوا يقولون: أمتعونا فإن الأذن مجة وإن القلب حمض، وكانوا أحياناً تناشدون الشعر، ويتمازحون في أمور يرون أنها وسيلة لإذهاب الملل والسآمة.

كيفية الانضباط مع الجدول المخطط

كيفية الانضباط مع الجدول المخطط Q أعاني كثيراً من عدم الانضباط مع الجدول الذي أضعه لنفسي، فما الحل؟ A هناك عدة مشكلات تؤدي إلى عدم الانضباط مع الجدول، فلاحظ هذه المشكلات، وابحث عن أيها تنطبق عليك. من هذه المشكلات أولاً: أن يكون تخطيطك للجدول غير سليم أصلاً، إما أن يكون مثالياً، كإنسان ساكن مع أهله ومع والده ووالدته، ووالده كبير السن، والناس يزورونه بعد المغرب، ويقول: أنا مخصص بعد المغرب للقراءة، فهذا وضع غير عملي؛ لأنك تحتاج في هذا الوقت أن تبقى مع والدك وتخدمه، وتستقبل الزوار، وهذا اغتنام للوقت لاشك. فيجب أن تضع وقتاً آخر للقراءة كما قلنا في تخصيص الوقت، أو قد يكون عندك خطأ في رسم الجدول، أو قد تكون مثالياً في الجدول الذي رسمته لنفسك، أو قد تكون كسولاً، وهذه أظن أنها من أكبر الأسباب، فكسول أنك لست حازماً أو تكون غير متدرج، فلا يمكن أن ينتقل الشخص من وضع سيء إلى وضع في القمة، لكن يتدرج الإنسان، ومن ثم يحاسب نفسه، وينظر ماذا عمل في الوقت الماضي؟ وما هي الأخطاء التي وقع فيها؟ ولماذا ضاع عليه هذا الوقت؟ ويستفيد من أخطائه وعيوبه. هذه فيما أتصور بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم الانضباط في مثل هذه الجداول.

اغتنام الوقت وعدم الاحتجاج بمضاعفة الأجر لبعض الأعمال

اغتنام الوقت وعدم الاحتجاج بمضاعفة الأجر لبعض الأعمال Q ما رأيك فيمن يحتج بأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة إلى آخر، والحرف من القرآن بأجر عظيم، والصدقة يربيها الله حتى تعظم، والولد الصالح، وغير هذا في التعويض لما فات من الوقت؟ A هذا غير صحيح، فصل في المسجد الحرام وصل في غيره، فلو دخلت الجنة ستندم على ساعة لم تذكر الله عز وجل فيها.

اغتنام الوقت في الجهاد

اغتنام الوقت في الجهاد Q تكلمت عن اغتنام الوقت وفضله، وعن الفاضل والمفضول، فهل إذا تيسر لي الجهاد في سبيل الله وقضاء الإجازة في تغبير قدمي في سبيل الله أفضل، أو البقاء هنا في تضييع الأوقات والتسويف للاستفادة من الوقت، والحقيقة هذا واقع كثير من الشباب في الإجازة والإجازات خير شاهد؟ A لا شك أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وله منزلة عظيمة، ولعله أن يتهيأ وقت نتحدث فيه عن دور الجهاد في تربية الأمة، والأمة حين تركت الجهاد -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- أصيبت بالذل، وما مر بالأمة ذل أشد من هذا الذل الذي تعاني منه، وإذا تيسرت للإنسان فرص، وكانت ظروفه تناسب، فلا شك أن هذا ميدان طيب، وميدان مطلوب، بل ميدان الناس بحاجة إليه. لكن أيضاً لا يعني هذا أن من يجلس ولا يذهب أنه قد أضاع وقته، بل ربما يتعين بقاء بعض الناس في بلده، أو كان بقاؤه أولى، خاصة في الأمور التي يكون فيها الجهاد نافلة، وليس فرض عين.

الجمع بين أمور الخير في اغتنام الوقت

الجمع بين أمور الخير في اغتنام الوقت Q ذكرت أن من تلبيس الشيطان اشتغال الإنسان عن الفاضل بالمفضول، فهل يدخل في ذلك الشعور بشيء من الملل في قراءة القرآن، فيقرأ كتاباً، أو يحفظ متناً، وإذا كان ذلك ضمن الكلام إذاً فلنترك الكتب وقراءتها، ولنحفظ القرآن إلى آخره؟ A ليس هذا بصحيح، فالإنسان مطلوب منه أن يقرأ في القرآن، ويقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ في تراجم السلف، ويجمع بين هذه الأمور كلها، أرأيت مثلاً الصلاة أليست أفضل من التسبيح؟ فهل يمكن أن يقول الإنسان: إذاً لن أضيع وقتي بالتسبيح، أريد أن أجعل كل وقتي للصلاة، لا يمكن هذا! فينبغي للإنسان أن يجمع بين هذه الأمور، ولو وجد الإنسان مللاً في قراءة القرآن فانشغل بغيره ثم عاد، أو وجد مللاً من أي أمر فهذا لا إشكال فيه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا قام يصلي وغلب عليه النوم، فإنه ينبغي أن ينصرف من صلاته وينام. فأقول: إن هذا الأمر لا يعني بالضرورة الانشغال بالمفضول، بل هذه صورة من الاستجمام حتى يعود إلى هذا العمل الفاضل بصورة أولى.

ضرورة اغتنام الوقت بالدعوة

ضرورة اغتنام الوقت بالدعوة Q ماذا لو أن الشخص في الإجازة أمضى بعض الوقت مما يمكن الاستغناء عنه في أفضل منه، مع جمعه الاستغلال الأمثل للوقت، كمن يستغل وقته صباحاً في الإجازة بالقراءة والفائدة، وأيضاً يشترك بدوره في الحاسب الآلي، أو يشتغل في شركة أو متجر، أو غير ذلك؟ A الإجازة فرصة ثمينة، فمثلاً وقت الصباح ووقت المساء وقت طويل، فيستطيع الأخ أن ينشغل وقت المساء بأعمال دعوية، وأنا أؤكد على هذه القضية، فأنا أرى أن الذي ينبغي الآن هو الأعمال الدعوية، فالناس يحتاجون للدعوة، ولا يسوغ أن نتفرغ لأنفسنا، ونهمل هذه الأمور. فينبغي أن ننشغل بهذه الأعمال في الفترة المسائية، فكل إنسان يستطيع أن يساهم بأي عمل، وبأي دور، فالأوقات التي تضيع سدىً كوقت الصباح وغيره ينبغي أن نغتنمها في القراءة، وأنا لا أوافق على أن نلغي كل برنامج الإجازة ونتفرغ للقراءة، فيا أخي! هناك أعمال مهمة إذا وازن الإنسان بينها استطاع أن يشعر في النهاية أنه اغتنم الإجازة اغتناماً أمثل، ثم سار بخط متوازن، فعمل قدراً من هذا الواجب. فيا إخواني! وقت الصباح وقت طويل يقرب من ثمان ساعات، لو استغله الإنسان لكان ذلك خيراً كثيراً، وليتنا نستطيع أن نغتنم هذا الوقت، ويبقى معنا أوقات أخرى يمكن أن نغتنمها في أعمال أخرى. أسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على اغتنام أوقاتنا، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب. هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

لا تجعلوا بيوتكم مقابر

لا تجعلوا بيوتكم مقابر البيت نواة المجتمع والدولة، وهو محضن تربوي لأفراد الأسرة صغاراً وكباراً، تتزاوج فيه الأخلاق وتتلاقح الطباع، ولذلك ينبغي على المرء أن يحيي بيته بالطاعات والعبادات المتنوعة حتى يطرد منه الشياطين وتحل فيه السكينة، ويتربى على ذلك الأحفاد والبنون.

فضل المساجد وبناؤها

فضل المساجد وبناؤها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الإخوة على دعوتهم وعلى حسن ظنهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال في هذا الشهر الكريم المبارك الذي تصرمت أيامه وانقضت لياليه، وها نحن قدمنا في هذه الليلة وقد مضى شطر هذا الشهر، فنحن في الليلة الخامسة عشرة منه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب. (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) هو عنوان حديثنا لهذه الليلة. الله سبحانه وتعالى خص هذه الأمة بخصائص، وفضّلها على سائر الأمم بفضائل، وتحدث صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الفضائل والخصائص، منها أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما امرئ من أمتي أدركته الصلاة فليصل) وذلك أن الأمم السابقة كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم وصلواتهم، أي: أماكن عبادتهم، أما هذه الأمة فالأرض لها مسجد وطهور، فهم يصلون أينما أدركتهم الصلاة. هذا فيما يتعلق بالصلاة المكتوبة، أما سائر الصلوات فلها شأن آخر، لا شك أن هذه البيوت فيها النور والبركة، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]. فهذه البيوت أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وتطهيرها، وأثنى على أولئك الذين يعمرون هذه المساجد ويذكرون الله عز وجل فيها، وأخبر سبحانه وتعالى أن هذه المساجد إنما يعمرها أهل الطاعة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] ثم قال بعد ذلك {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة:18] إلى آخر الآيات. لا شك في فضل هذه المساجد وأنها بيوت الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكما ورد في الحديث المتواتر: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة) وأن المرء إذا غدا إلى المسجد أو راح أُعد له نزل في الجنة كلما غدا أو راح، وأنه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج المرء من بيته فإن الله يتبشبش له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم).

فضل إحياء البيوت بطاعة الله

فضل إحياء البيوت بطاعة الله كل هذه الفضائل مرتبة على عمارة هذه المساجد لذكر الله وعبادته وطاعته سبحانه وتعالى، لكن هذا قد يصرف المسلم عن إحياء بيته ومنزله بالعبادة والذكر لله سبحانه وتعالى، قد يصرفه عن ذلك ويشغله، ولهذا يأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون لبيت الإنسان نصيب من عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، وألا يقفز بيته من توجهه لله سبحانه وتعالى، وتضرعه له وعبادته له عز وجل، ويظهر ذلك في أمور عدة:

صلاة النافلة في البيت

صلاة النافلة في البيت منها الصلاة، وهي أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذي سأل مرافقته في الجنة أن يعينه بكثرة السجود؟ أوليست الصلاة هي أول ركن عملي يجب على الإنسان، وهي ثاني أركان الإسلام، وهي العمل الذي يكفر تاركه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فلعلو الصلاة وعظم شأنها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى صارت أول الأركان العملية وثاني أركان الإسلام، وصارت حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر والشرك، وصارت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وكلما فضلت فريضته فضلت نافلته. وإذا تأكد وجوب أمر فهذا دليل على محبة الله سبحانه وتعالى له، وعلى أنه يزيد العبد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وعلى أن هذا العمل له أعظم الأثر في إصلاح العبد، له أعظم الأثر في إصلاح قلبه وحاله مع الله سبحانه وتعالى. ومن عظمة الصلاة وعلو منزلتها أن الله سبحانه وتعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس في السماء، وإذا عظمت فريضة الصلاة عظمت نافلتها أيضاً، وإذا كانت الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله فإنه كما في الحديث أيضاً: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، وإن نقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيُكمل بها ما انتقص من صلاته). إذاً: فصارت نافلة هذه الصلاة وسيلة لأن يكمل بها ما نقص من فريضته، فإذا كان هذا شأن فريضة الصلاة فلا شك أن نافلة العمل قريبة من فريضته، فكلما ازدادت الفريضة فضلاً ازدادت النافلة فضلاً، ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء في بيته، يعني النافلة والراتبة، وثبت في أحاديث عدة منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لـ مسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي رواية له أيضاً: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) ولـ مسلم أيضاً: (إذا قضى أحدكم الصلاة فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً). وفي قصة احتجاره صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد وصلاة الناس بصلاته، فصلوا الليلة الأولى، ثم الليلة الثانية، ثم الثالثة ثم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قاله لهم صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة). وهذا نص عام يدل على أن أفضل صلاة المرء ما كان في بيته إلا الصلاة المكتوبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الرواتب في بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يصلوا الرواتب في بيوتهم مع أنه كان في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف فيه الحسنات، وتضاعف فيه الصلاة، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، ومع ذلك يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلوا في بيوتهم، وحقاً وصدقاً فإن صلاتهم في بيوتهم خير لهم من صلاتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم مع ما له من الفضل، فغيره من باب أولى، وهذا الأمر هدي راتب عند سلف الأمة، فحين نقرأ سير السلف نرى أنه قد حفظ عن الكثير منهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومن تلاهم أنهم كانوا يصلون الراتبة والنافلة في بيوتهم. في مصنف ابن أبي شيبة أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته. وفيه أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: لقد أدركت زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلاً واحداً يصليهما حتى يخرجوا فيصلونها في بيوتهم. وروى أيضاً عن ميمون قال: كانوا يستحبون هاتين الركعتين بعد المغرب في البيت. وروى عن عبد الله بن يزيد قال: (رأيت السائب بن يزيد يصلي في المسجد ثم يخرج قبل أن يصلي فيه شيئاً) يعني لا يتطوع. وروى أيضاً عن إبراهيم قال: سئل حذيفة رضي الله عنه عن التطوع في المسجد يعني بعد الفريضة؟ قال: (إني لأكرهه). بينما هم جميعاً في الصلاة كانوا يصلون الفريضة جماعة، ثم أصبح يصلي كل منهم التطوع لوحده، وهذه ليست دعوة منه رضي الله عنه إلى أن يصلوا التطوع والراتبة جماعة ولكنها دعوة إلى أن يصلوا في بيوتهم. وروى عن الأعمش قال: (ما رأيت إبراهيم متطوعاً في مسجد). وأيضاً روى عن الربيع بن خثيم أنه ما رئي متطوعاً في مسجد الحي قط، والربيع بن خثيم من التابعين وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك) كان رجلاً مشهوراً بالزهد والرقة والصلاح والتقوى، وكان من أصحاب ابن مسعود

قراءة القرآن في البيوت

قراءة القرآن في البيوت أيضاً البيت له نصيب من تلاوة القرآن لفعله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض)، وأين كان يتكئ صلى الله عليه وسلم في حجرها إن لم يكن ذلك في بيته صلى الله عليه وسلم. ويأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن في البيت ويخبر أن ذلك مطردة للشيطان كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) والمسلم له نصيب من كتاب الله سبحانه وتعالى، وحاله مع كتاب الله عز وجل كحال سمكة ماء النهر والطائر مع الهواء، وحين يمضي عليه وقت لم يقرأ فيه شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر بضيق ووحشة في صدره وبعد عن الله سبحانه وتعالى وقسوة في قلبه، وخاصة حفاظ كتاب الله عز وجل أمثالكم بإذن الله، وأكثركم من حفاظ كتاب الله إما الآن أو مستقبلاً بإذنه سبحانه وتعالى، والمسلم أياً كان شأنه لا بد أن يكون له نصيب من تلاوة كتاب الله عز وجل، نصيب لا يخل به في أي وقت، وحافظ كتاب الله عز وجل هو أولى الناس بذلك حتى يشفع له كتاب الله عز وجل، فالقرآن حجة لك أو عليك، وهو يأتي يوم القيامة يحاج عن صاحبه ويخاصم عنه قائلاً: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فلا بد أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه.

ذكر الله تعالى في البيوت

ذكر الله تعالى في البيوت والبيت أيضاً ينبغي أن يكون له نصيب من ذكر الله عز وجل، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت). وفي حديث جابر في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (أغلق بابك واذكر اسم الله عز وجل فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وخمّر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله عز وجل). فتكون حال المؤمن حال الذاكر لله عز وجل، فهو يذكر اسم الله حين يدخل بيته، وحينئذ يقول الشيطان: لا مبيت لكم، وحين يغلق بابه يذكر اسم الله عز وجل، والشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ويذكر الله حين يدخل فيسلّم على أهل بيته لأن السلام من ذكر الله عز وجل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم حين سلّم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم ثم قال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة)، فإذا دخلت فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك. وهو يذكر الله حين يطفئ مصباحه يريد أن ينام، وحين يوكي سقاءه، ويذكر اسم الله حين يأوي إلى فراشه، وفي كل أحواله وأوقاته لا يفارقه ذكر الله سبحانه وتعالى، حينها يطرد الشيطان، وتحل البركة في هذا المنزل وهذا البيت. والمسلم لا يفارقه ذكر الله فهو يستحضر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، وهو يتطلع إلى أن يتحقق فيه: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، ويتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله عز وجل كثيراً والذاكرات، فهو يتطلع إلى أن يبلغ منازل الذاكرين ولهذا لا يفتر لسانه من ذكر الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً، حال أولئك الذين أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] فهو يتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه حتى يستحق هذا الوسام، وحتى يستحق هذا التشريف والتكريم، أعني أن يكون ممن وصفهم الله في كتابه بأنهم من أولي الألباب، وأن يكون ممن قال فيهم عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]. وحين يدرك المؤمن هذه المعاني العظيمة في ذكر الله عز وجل يعمر أوقاته وأحواله كلها في بيته وسوقه بذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتمجيده والثناء عليه عز وجل. إذاً هذه نماذج، وهي دعوة إلى أن يعمر المرء بيته بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأن يكون لبيته نصيب من عبادة الله عز وجل وطاعته، وأن لا يكون كحال أولئك الذين لا يعبدون الله إلا في بيعهم وصلواتهم وكنائسهم ومعابدهم، هذه العبادة وهذه الدعوة هي في إطار التصادق الشرعي، فما شرع الله أن يكون في المسجد فهو في المسجد، وما شرع أن يكون في الثغور ففي الثغور، وما شرع أن يكون أمام الناس ومع الناس فهو مع الناس، وما شُرع في البيت فهو في البيت أولى.

آثار إحياء البيت بالطاعة

آثار إحياء البيت بالطاعة

ألا يكون البيت كالمقبرة

ألا يكون البيت كالمقبرة هذه العبادة والتوجه لله سبحانه وتعالى، وعمارة البيوت بذكر الله عز وجل لها آثار ونتائج عدة منها: أن لا يكون البيت من المقابر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شبّه البيت الذي لا يُصلى فيه بالمقبرة، فما وجه الشبه بين البيت الذي لا يصلى فيه والمقبرة؟ و A أن المقابر لا تجوز الصلاة فيها سداً لذريعة الشرك كما تعلمون، لكن أيضاً في هذا الحديث معان أخرى أشار إليها شُرّاح الحديث، منها: أن أهل المقابر لا يصلون في قبورهم، وإنما ذلك خاص بالأنبياء كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره. فأهل المقابر لا يصلون في قبورهم، وحين لا يصلي المرء في بيته يصبح بيته كالمقبرة لا يُصلى فيها. معنى آخر: أن البيت الذي لا يصلي فيه الإنسان يصبح للنوم والاستراحة، والنوم أخو الموت فهو الموتة الصغرى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]. فحين يكون بيت المرء لنومه فقط صار شبيهاً بالمقبرة التي هي للأموات، فصار هذا البيت له كحال القبور لأصحابها فهم لا يعيشون فيها إلا موتى، وهذا لا يعيش فيه إلا ميتاً، ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه قبل قليل: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه كمثل الحي والميت). وعلى كل حال فهذه المعاني كلها محقرة لهذا البيت الذي لا يُصلى فيه واستدل بهذا الحديث على النهي عن الصلاة في المقبرة. ثانياً أهل القبور لا يصلون، وحال هذا البيت الذي لا يُصلى فيه كحال أهل القبور، إلا أنهم يفارقوا أهل القبور أنه يكتسب السيئات وأولئك قد انقضى عنهم، أيضاً هذا البيت ليس إلا للنوم وهو الموتة الصغرى فحاله فيه كحال أهل القبور في قبورهم.

نفور الشياطين

نفور الشياطين الأثر الثاني لإحياء العبادة في البيت هو نفور الشياطين: فإن الشياطين إنما تأنس إلى الأماكن القذرة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نستعيذ بالله حين ندخل الخلاء من الخبث والخبائث؟ أليس يخبر أن هذه الحشوش محتضرة؟ فالشياطين إنما هي نجسة تأوي للأماكن النجسة القذرة المستقذرة، وتأوي إلى الأماكن التي يعصى الله عز وجل فيها، ولهذا فهي تأوي إلى هذه البيوت، وحين يُعمر البيت بطاعة الله عز وجل وتلاوة كتابه وذكره سبحانه وتعالى فإن الشياطين تنفر منه، ويدل على ذلك مما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وأيضاً في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أغلق بابك واذكر اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئ سراجك واذكر اسم الله) فذكر الله عز وجل ينفر منه الشيطان. فتخيل أنت معي هذا البيت الذي إذا دخل رب المنزل ذكر اسم الله، وإذا دخل الابن ذكر اسم الله، وإذا دخلت المرأة ذكرت اسم الله، وإذا أطفأ المصباح ذكر اسم الله، وهم فيما بين ذلك يذكرون الله ويسبحونه ويحمدونه ويكبرونه، وإذا اضطجعوا ذكروا الله، وإذا أكلوا طعاماً ذكروا الله، ثم هم أيضاً يتلون كتاب الله عز وجل في هذا البيت، وهم يحيون هذا البيت بالصلاة النافلة والراتبة، أو بإحياء الليل، فتخيل أي مكان سيجده الشيطان في هذا البيت العامر بالتقوى والإيمان وعبادة الله عز وجل.

نزول البركة وحلولها

نزول البركة وحلولها ثالثاً: هذا مدعاة لنزول البركة وحلولها، فإن البيوت التي يُذكر فيها اسم الله سبحانه وتعالى تحل فيها الملائكة وتنفر منها الشياطين فتحل فيها البركة، ولا شك أن اسم الله عز وجل ما ذُكر على أمر إلا وحلت البركة فيه، وحين يكون أيضاً معموراً بالصلاة والذكر والتسبيح وغيرها من أمور طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته فإن هذا البيت يصبح بيتاً مباركاً على أهله، وعلى من يسكنه. وكم نحتاج إلى أن نعيش في هذا الجو الآمن المطمئن، في جو تنفر منه الشياطين، في جو تحل فيه البركة والخير كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإذا كان السلام مدعاة لأن يكون بركة على المرء وعلى أهل بيته فكيف إذا أُضيف مع السلام ذكر الله في كل الأحوال؟ كيف إذا أضيف مع ذلك تلاوة كتاب الله عز وجل والصلاة والتوجه لله سبحانه وتعالى؟

تربية أهل البيت على العبادة

تربية أهل البيت على العبادة رابعاً: العبادة في البيت مدعاة لأن يتربى أهل البيت على عبادة الله عز وجل وطاعته سبحانه وتعالى، وللأسف كم تفتقر بيوت المسلمين لهذا الأمر، إنك لو أتيت إلى بيوت الصلحاء الخالية من المعاصي والفجور دعك من بيوت من جوارهم وهم عامة وأغلب المسلمين، إنك لو أتيت على بيوت هؤلاء لوجدت أن الأبناء والبنات الذين يعيشون في هذا البيت لا يرون فيه أثر الطاعة والعبادة، فوالدهم الصالح العابد إنما يصلي ما كتب الله له في المسجد وينصرف وهم لا يرون منه في بيته إلا الوجه الآخر، فلا يرون منه إلا الحديث معهم في أمور الدنيا والذهاب والإياب، ويبقون في بيتهم كأنهم في صالة طعام، أو مكان يأوون إليه ويبيتون فيه، وليس هذا شأن البيوت، وليس هذا شأن الأسرة فهي المحضن الذي يتربى فيه أهل البيت على الطاعة والتقوى والصلاح باع أحد السلف جارية وكان بيته معموراً بقيام الليل وعبادة الله سبحانه وتعالى، فلما جاء ثلث الليل قامت توقظ سيدها الذي اشتراها فقال: لم يحن الفجر بعد! فقالت: أوما تستيقظون إلا عند الفجر، إنكم قوم سوء! فلما أصبحت خرجت تبكي إلى سيدها الذي باعها تسأله بالله أن يعيدها إليه، فقد باعها إلى قوم سوء لا يستيقظون إلا مع الفجر. فماذا عسى هذه الجارية أن تقول لو رأت الكثير من بيوت المسلمين والذين لا يستيقظون حتى مع الفجر، ماذا عسى أن تقول؟ وانظر إلى أثر هذا البيت الذي عُمر بالتقوى والصلاح وعبادة الله، كيف كان أثره على هذه الأمة التي كانت تخدم فيه؟ حتى كرهت أن تفارق هذا البيت، فكيف بأثره على الأبناء والبنات والذرية؟ وهو أثر يتركه الأب على أسرته وبيته. وحين يسلكه الشاب أو الفتاة يترك أيضاً أثراً على سائر أهل منزله وبيته، إن أهل المنزل يرون هذا الشاب قد سلك في قطار الصالحين، وسار في طريق الأخيار العابدين، لكنهم لا يرونه إلا أوقاتاً محدودة يرونه لماماً يتناول معهم الطعام، أو يرتاح في المنزل، أو منزوياً هنا وهناك، وقلما يرونه تالياً لكتاب الله سبحانه وتعالى، قلما يرونه مصلياً ذاكراً لله عز وجل، ولهذا نرى أن البعض من الشباب يقل أثره على أهل بيته، والسبب هو إهماله لهذا الأمر، ولو كان شأنه العبادة وديدنه الطاعة فعمر أحواله وبيته بعبادة الله سبحانه وتعالى تلاوة وصلاة وذكراً لله عز وجل لترك أثره على أهل بيته، وكم رأينا من بيوت صلحت واستقام أهلها كبيرهم وصغيرهم بصلاح واحد من الأبناء ربما كان لم يتجاوز الحلم إلا بقليل.

دفع أثر الشرور والآثام

دفع أثر الشرور والآثام الأثر الخامس: أن بيوت المسلمين وللأسف مليئة بالمعاصي وبما يسخط الله عز وجل، أليست الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة؟ فكيف إذا ملئ البيت بالصور الفاتنة والمثيرة؟ فكيف إذا ملئ بأجهزة الفساد واللهو التي تعرض الرذيلة والفساد والسوء فيعيش البيت في جو صاخب من المشاهد المخزية والمعازف ومعصية الله، إن هذا أحرى أن تفارقه الملائكة وأن تحل فيه الشياطين، فحين يبتلى شاب أن يكون في بيته شيء من هذه المعاصي، فهو حين يجعل لبيته نصيباً من صلاته وذكره وتلاوة كتاب الله يدفع شيئاً من هذه الشرور والآثام عن هذا المنزل وعن هذا البيت.

اتخاذ العبادة شأنا وديدنا لأهل البيت

اتخاذ العبادة شأناً وديدناً لأهل البيت سادساً: حين يعبد المسلم ربه في بيته، وحين يكون لبيته نصيب من صلاته وعبادته لله عز وجل فإن هذا مدعاة لأن تكون العبادة شأناً له وديدناً له في كل أحواله، فهو يعبد الله في المسجد، وهو يعبد الله حين يلتقي برفقته وإخوانه الصالحين الأتقياء البررة، وحين يعود إلى البيت كذلك، فتصبح العبادة شأناً له وديدناً، فيلهج لسانه وجوارحه وأحواله كلها في العبادة لله سبحانه وتعالى، فتصبح عبادة الله عز وجل عادة له يشق عليه أن يتركها، وأمراً يألفه فيصعب عليه أن يفارقه، بعد أن كان يجاهد نفسه ويكابدها على هذه العبادة. أرأيت مثلاً الذي لا يشهد صلاة الفجر مع الجماعة، كم يثقل عليه حينما يريد أن يستيقظ للصلاة؟ أما الذي اعتاد أن يستيقظ للصلاة فالأمر هين عليه سهل، بل يثقل عليه ويشق عليه ويصيبه السأم والأسى حين لا يستيقظ مرة من المرات، وهكذا شأن سائر العبادات، فحين يديم المرء عبادة ربه وذكره وتلاوته يصبح جزءاً من حياته لا يستطيع أن يفارقه، يصبح مدمناً على هذا الأمر ومداوماً عليه فيصعب عليه ويشق عليه تركه، فيصبح من المخبتين المتقين المقبلين على الله سبحانه وتعالى. سابعاً: وهي قضية مهمة خاصة للشباب، هو أن كثيراً من الشباب يشتكي من البيت أو يشتكي من الفراغ والخلوة في البيت، وحين يبقى في منزله فهو يبقى كأنه في زنزانة على أحر من الجمر، ينتظر صاحبه الذي اعتاد أن يصحبه كل يوم أن يطرق عليه بابه أو جرس الهاتف مؤذناً له بأنه سيحل عليه، وحين يفارق أصحابه أو يفارقونه يشعر بوحشة وغربة، فيعيش في البيت كأنه يعيش في جحيم، ولهذا تراه يتمنى أن لا يعود مبكراً إلى المنزل، ويتمنى أن يفارق المنزل حين يحل فيه، وله شيء من العذر في ذلك، ذلك أنه يرى أنه حين يكون مع إخوانه ومع رفقته يكون أكثر إقبالاً على الله سبحانه وتعالى، وأكثر طاعة له عز وجل وأكثر بعداً عن معصيته، أما حين يخلو بنفسه ويغلق عليه بابه فإن ذلك مدعاة لأن يستولي عليه الشيطان، مدعاة لأن يوقعه في معصية الله عز وجل، والشيطان يهم بالواحد وهو من الاثنين أبعد، ويهم بالاثنين وهو من الثلاثة أبعد، ولهذا نجد البعض من الشباب قد ينحرف، وقد يضل حين ينقطع عن رفقته، ويبقى وقتاً في منزله، فلم يعتد أن يبقى وحيداً، ويتساءل: ما العلاج لهذه الظاهرة وهذه الحالة؟ لكنه لو اعتاد أن يعمر البيت بالعبادة، فيقرأ القرآن في بيته، ويذكر الله، ويصلي لله عز وجل في أي وقت تكون فيه الصلاة مشروعة ليست خاصة بالرواتب، ولا بقيام الليل بل في أي وقت ما دام ليس وقتاً للنهي فالمرء مشروع له أن يصلي لله سبحانه وتعالى ما كتب له، فهو حين يعتاد هذا الأمر ما أن يخلو في منزله حتى يفزع إلى صلاته، أو إلى تلاوة كتاب الله عز وجل، أو إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا يشعر بالغربة، ولا يشعر بالوحشة، ولا يشعر بأثر فقدانه لأصحابه وإخوانه، بل ربما صار يدعوه ذلك إلى أن يجتهد في أن يكون له نصيب من خلوته بالله سبحانه وتعالى، له نصيب يخلو فيه ويبتعد فيه عن الناس ليركع ركعتين لله في ظلمة الليل، أو يتلو كتاب الله عز وجل، أو يذكر الله بقلبه ولسانه خالياً عله أن تفيض عينه بدمعة خوفاً من الله سبحانه وتعالى، أو شوقاً إلى لقائه ورحمته فيكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). أقول: حينما نعتاد العبادة بأبواها وطرقها في منازلنا فإننا لن نشكو هذه الشكوى بل ربما نسعى إلى أن نوفر جزءاً من وقتنا لنخلو فيه في بيوتنا لنتعبد إلى الله سبحانه وتعالى، وحين يفضل وقت بعد ذلك فهو سيصرفه في قراءة كتب أهل العلم، أو سماع ما يتعلم به فيرى حينها أن وقته قد صار كله معموراً بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته.

تحقيق الإخلاص

تحقيق الإخلاص ثامناً: عبادة المرء في بيته لها أثر عظيم في تحقيق الإخلاص في نفسه، وتجنب الرياء، وقد يجد المرء نشاطاً حينما يصلي مع الناس، وهو ليس باباً من أبواب الرياء بل هو من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب حال أولئك الذين إذا رءوا ذُكر الله عز وجل، فيشعر بنشاط وإقبال، لكن أيضاً العبادة في السر تلاوة وصلاة وذكراً لله عز وجل وتفكراً لها أثر آخر، وأمر آخر، وهما كالجناحين للطائر لا ينوب أحدهما عن الآخر، ولا يقوم أحدهما عن الآخر، إنك لا يمكن أن تستقيم حياتك ولا أن يصلح قلبك حين تعبد الله عز وجل في المسجد وحده، حين تعبد الله مع إخوانك ومع إخوتك فقط، أما حين تخلو بنفسك فليس لك نصيب من ذلك فستطير بجناح واحد ولا يمكن أن يطير الطائر بجناح واحد، ولهذا فلعبادة السر والتي غالباً ما تكون في البيت أثر عظيم أثر عظيم في إصلاح القلب وإصلاح النفس، وفي فتح جوانب من العبودية والتوجه لله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تنفتح للعبد وهو مع الناس وفي مشاهد الناس، ولها أثر في تحصيل الإخلاص في قلبه وتنقيته من شوائب الرياء وإرادة ما سوى الله عز وجل.

ما الذي يبكي عليك

ما الذي يبكي عليك تاسعاً: وأخيراً ما الذي يبكي عليك؟ يقول سبحانه وتعالى حين أهلك قوم فرعون ونسأل الله عز وجل للطغاة أمثالها: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. نعم. لم تعرف الأرض من قوم فرعون إلا الطغيان والتجبر، فقد كانوا يستذلون الناس، ويستحيون نساءهم، ويقتلون أولادهم، كانوا يبدّلون دين الله عز وجل، وكانوا حرباً على موسى ومن معه لا لشيء إلا لأنهم دعوا إلى الله سبحانه وتعالى وآمنوا بالله عز وجل، وأرادوا إخراج الناس من عبودية ورق وذل الفراعنة وطغيانهم إلى عبودية الله سبحانه وتعالى، لذلك انصرفوا غير مأسوف عليهم {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: أن رجلاً قال له: يا أبا العباس! أرأيت قول الله تعالى {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال رضي الله عنه: (إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق باب من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه في الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه)، فسيفقدك مبيتك وغرفتك التي كنت تأوي إليها سنين عدداً، ستفقدك عاجلاً أو آجلاً، فهل تراها ستبكي عليك أم أن لها شأناً آخر، فقد فقدت معصية الله عز وجل، فأنت أعلم بحالك! وحين تعمر مكانك وغرفتك وبيتك بصلاة وذكر وتلاوة لله عز وجل فهي ستبكي عليك يوم تفارقها قريباً أو بعيداً، ورويت آثار عن جمع من التابعين، بل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد: (إن الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً). وقال مجاهد: (ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال فقلت له: أتبكي الأرض؟ قال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان تكبيره وتسبيحه فيها كدوي النحل) هذه معشر الشباب بعض آثار إحياء العبادة في بيوتنا بأنواعها وأبوابها وطرقها، وهي كلها تدعونا إلى أن يكون لبيوتنا نصيب من عبادة الله. فلعلنا أن نعيد هذه الآثار عاجلاً. أولها: أن لا تكون البيوت مقابر. الثاني: نفور الشياطين. الثالث: أن تحل فيه البركة. الرابع: تربية أهل البيت. الخامس: أن بيوت المسلمين مليئة بالمعاصي فلا أقل من أن يكون لها نصيب ولو يسيراً من طاعة الله. سادساً: أن تكون العبادة شأناً وعادة للمرء لا يفارقها. سابعاً: تبكي عليه الأرض. ثامناً: إعانة على الإخلاص وإصلاح القلوب. تاسعاً: انعدام الوحشة، أن الإنسان يعيش في البيت غربة ونفور من البيت لأنه مدعاة للمعصية كما قلنا، فحين تكون العبادة شأناً له في منزله فإنه يعافى بإذن الله من ذلك. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن تبكي عليه السماء والأرض، وممن يعمر قلبه وبيته بعبادته وطاعته، ونترك بقية الوقت للإجابة على الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

صلاة التراويح في المسجد أفضل منها في البيت

صلاة التراويح في المسجد أفضل منها في البيت Q هل صلاة التراويح للإنسان في بيته أفضل من المسجد خاصة إذا كانت صلاته في بيته أكثر خشوعاً وخلوة بالله، ويكون فيها مراجعة للقرآن، وأبعد عن الناس، وأخلص إلى العمل، فهل باعتبار هذه الأمور تكون صلاة التراويح في البيت أفضل أم في المسجد؟ A لا شك أنها في المسجد أفضل وأولى، لأن ما تسن فيه الجماعة فهو أفضل أن يكون في المسجد، لكن لو كان الناس يصلون فرادى في المسجد كان أفضل لهم أن يصلوها في بيوتهم.

كيفية قراءة القرآن وفضلها

كيفية قراءة القرآن وفضلها Q هل قراءة القرآن الكريم تكون بالشفتين أو في النفس، وما هو الأفضل؟ وما هو الأفضل قراءة القرآن أو الاستماع؟ A أولاً: يجب على المسلم أن ينوع بين جميع العبادات، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستمع القرآن فكان يقول: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فيكون له نصيب من الاستماع، وله نصيب أيضاً من التلاوة. ثانياً: الجهر إن كان الإنسان نشيطاً فهو أولى وأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله بشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن).

صلاة المرأة في البيت ينافي كونه قبرا

صلاة المرأة في البيت ينافي كونه قبراً Q أليس صلاة المرأة في بيتها مما ينافي كون البيت قبراً؟ A قبراً لها لكن قد يكون قبراً لك أنت والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك وهو يعرف أن في بيوتهم نساء.

المسجد بين المؤمن وكذلك بيته

المسجد بين المؤمن وكذلك بيته Q كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم: (المسجد بيت كل مؤمن) وبين حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)؟ A لا يوجد تعارض، فللمسلم بيت هو الذي يأوي إليه وينام فيه ويصلي فيه حتى لا يكون قبراً، والمسجد بيت للمؤمنين يأوون إليه، فكما كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، من لم يجد مكاناً من فقراء المسلمين كان يأوي إلى الصفة التي كانت في المسجد كما تعلمون.

مراجعة القرآن بعد حفظه

مراجعة القرآن بعد حفظه Q إني أوشكت على حفظ كتاب الله وليس لدي أي وسيلة لمراجعته، علماً بأني بدأت أنسى ما قد حفظته في السنين الماضية، فوجّه لي نصيحة حفظك الله؟ A خذوا قاعدة: إذا أنهيت حفظ القرآن وأنت جاد تحتاج بعد حفظ القرآن إلى سنتين على الأقل حتى تتقن ما حفظته، فهذا وضع طبيعي وليست حالة شاذة، فمن الطبيعي أن الإنسان يتفلت من القرآن، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد تفلتاً من الإبل في عقلها). وهناك طريقة لمراجعته، وهي تكرار المراجعة وتلاوة القرآن، فلا تيأس، افترض أنك حفظت القرآن وانتهيت منه ونسيت تماماً، فلن تبدأ من الصفر الآن مهما كان، وصحيح أنك تشعر أنك لا تستطيع أن تقرأ مثلاً آية واحدة أو آيتين كاملتين، لكن حينما تريد حفظه سيكون أهون عليك وأيسر عليك، ومرة ثانية ومرة ثالثة سيصبح سهلاً عليك، وقراءته حفظاً وتكرار تلاوته حفظاً مما يعين الإنسان على أن يتقن كتاب الله سبحانه وتعالى.

التعود على الراتبة أول ما يدخل البيت

التعود على الراتبة أول ما يدخل البيت Q كثيراً ما يحرص المرء على أن يؤدي بعض النوافل كالراتبة مثلاً في البيت حتى يظفر بالأجر مترتباً على ذلك، وحتى لا يراه الناس، وما إن يخرج من المسجد حتى يغفل أو ينسى ذلك، وربما يكرر ذلك فيقع في تفويت كثير من النوافل، فما توجيهكم في ذلك والله يحفظكم؟ A يعوّد نفسه أن يصلي الراتبة أول ما يأتي للمنزل مباشرة، ولا يبدأ بشيء قبل الصلاة، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أول ما يبدأ ببيته إذا دخل بالسواك؛ لأنه كان يصلي إذا دخل منزله، فإذا دخلت بيتك فابدأ بالراتبة مباشرة حتى تتعود، يعني: قد ينسى الراتبة مرة مرتين لكن يعتاد بعد ذلك، ويصبح شأناً له وديدناً له أنه حينما يدخل منزله يصلي الراتبة.

من صلى العشاء في مسجد والتراويح في مسجد آخر

من صلى العشاء في مسجد والتراويح في مسجد آخر Q هل إذا صلى الإنسان صلاة العشاء في المسجد وصلى التراويح في مسجد آخر يكتب له قيام ليلة؟ A ما المانع فحديث: (كتب له قيام ليلة) قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صلى مع الإمام وذلك أن رجلاً لما صلوا قال: لو نفّلتنا بقية ليلتنا، فقال: (من صلى مع الإمام كتب له قيام ليلة) يعني يكفيك ما تصليه مع الإمام. ونحن أحياناً نتكلف في معنى اللفظ ونلزم عليه لوازم غير مرادة. فالمقصود أن الإنسان يصلي صلاة التراويح كاملة مع الإمام ولا يترك منها شيئاً، صلى العشاء مثلاً في مسجد وصلى التراويح في مسجد آخر لأمر أو لآخر فلا إشكال في ذلك، وفضل الله عز وجل واسع، والنوافل أمرها واسع، لكن الأصل أن الإنسان يعتاد أنه يصلي التراويح حيث يصلي العشاء، حتى لا يفوته شيء من الصلاة، وحتى لا يشعر الناس أنه ينصرف ولا يصلي التراويح؛ لأن الناس قد يرون أنه لا يصلي التراويح، أو أنه لا يريد أن يصلي مع الإمام وهذا مما يؤثر على الناس أو على الإمام في جماعة المسجد، فالأولى للإنسان أن يصلي التراويح حيث يصلي العشاء.

مكان صلاة الإشراق

مكان صلاة الإشراق Q هل يصح أن نصلي سنة الإشراق في البيت وأنا قرأت في المسجد؟ A إذا جلست في مصلاك بعد الفجر فالسنة أن تصلي في المسجد كما ورد في الحديث، فهذا مما يسن في المسجد، وفيها خلاف بين العلماء: هل هذه هي صلاة الضحى أم غيرها؟ لكنك إذا جلست بعد الفجر في المسجد إلى أن ترتفع الشمس فالأولى أن تصلي في المسجد؛ لأن هذه الصلاة سنتها في المسجد، أما غيرها من الرواتب والنوافل فالأولى والأفضل أن تكون في البيت. نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يكفينا وإياكم الشرور والآثام، وأن يجعلنا وإياكم ممن يصوم هذا الشهر ويقومه إيماناً واحتساباً. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

القابضون على الجمر

القابضون على الجمر في آخر الزمان تكثر الفتن وتزدحم المغريات ووسائل الشر، فيكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، وقد تحقق ذلك في زماننا، حتى وقع الناس في كثير من المخالفات الشرعية وارتكبوا الفواحش، إلا أن الله هيأ جيل الصحوة الذي هب كالمارد يحيي السنن ويجتنب الفتن، وهو مع ذلك لا يسلم من التقصير والخطأ، ولذا تناولته الألسنة والأقلام بالنقد والتقويم حتى كادت فضائله تستهلك بهذه الانتقادات، فكان من الجدير التذكير بفضائله ودوره في إصلاح الحياة.

أهمية الحديث عن شباب الصحوة

أهمية الحديث عن شباب الصحوة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فنحيي الإخوة الكرام في هذا اللقاء في هذا المكان المبارك، وأي مكان أطهر وأقدس من هذه البقعة التي اختارها الله تبارك وتعالى -وهو يخلق ما يشاء ويختار- واصطفاها تبارك وتعالى فخصها ببيته الذي يؤمه الناس من كل فجٍ عميق، في هذه الليلة ليلة الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام ستة عشر وأربع مائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. وأشكر الإخوة في المركز الصيفي في مركز الخدمة الاجتماعية بمكة على إتاحة هذه الفرصة وهذا اللقاء الطيب المبارك، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم فيه من المخلصين في العمل ابتغاء وجهه إنه سميع مجيب، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل إنه تبارك وتعالى قريب مجيب. عنوان حديثنا هذه الليلة: (القابضون على الجمر)، وهو كما تعلمون حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)، وهو ليس حديثاً عن القابضين على الجمر بأصنافهم وأحوالهم وأمورهم، إنما هو حديث عن طائفة نحسبهم والله حسيبهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف النبوي. لقد مرت الأمة بجهود للتغريب، وجهود لسلخها عن دينها، وإخراجها من عقيدتها، ولقد تضافرت جهود أعداء الأمة لصد الشباب وفتنتهم عن دين الله تبارك وتعالى، ورأينا في عالمنا الإسلامي صوراً تدمي وتحزن وتحرك أشجان من كان له قلب، ومن يملك غيرةً وعاطفةً على هذه الأمة المباركة، من بعد الشباب المسلمين عن دين الله تبارك وتعالى، ومن سير هؤلاء وراء قذارة هذه الحضارة المعاصرة، وسيرهم وراء أعداء الله، وفي وسط هذا الواقع المظلم البائس، وفي وسط هذا الانحراف والبعد. رأينا نماذج فذة، ورأينا صوراً إيجابية، رأينا صوراً لامعة من ذلكم الشباب المتدين، الشباب الصالح المحافظ الذي أصبحنا نراه يتوافد على المساجد، يتوافد على ما يدله على دين الله تبارك وتعالى، من مجالس العلم ومجالس الخير والصحبة الصالحة، ورأيناه يأخذ طريقاً غير طريق أقرانه وأترابه، وهاهم هؤلاء الشباب أمام مرأى المسلمين وجمعهم، هاهم يلتزمون بأمر الله تبارك وتعالى، ويستقيمون على طاعة الله عز وجل في هذا العصر المائج المضطرب.

دوافع الحديث عن القابضين على الجمر

دوافع الحديث عن القابضين على الجمر

تثبيت السائرين على طريق الهدى

تثبيت السائرين على طريق الهدى فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر؛ ولعل سائلاً يتساءل: ولماذا الحديث عن الجوانب المشرقة؟ ولماذا الحديث عن الإيجابيات؟ فأقول: الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميزهم الله وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات فإن هذا يزيدهم ثباتا، ويزيدهم إصراراً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.

دعوة التائهين لسلوك الطريق القويم

دعوة التائهين لسلوك الطريق القويم ثانياً: هذا الحديث دعوة لأولئك الذين لما يزالوا على بنيات الطريق، دعوة لأولئك الذين لم يسلكوا هذا الطريق، أولئك الذين لا زالوا يسيرون في ركاب الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، فنقول لهم: هاهو الطريق، وهاهم هؤلاء قد سبقوكم فبادروا، فالميدان رحب واسع فسيح لا زال يتسع لكم ولأمثالكم، وأنتم طالما سمعتم الدعوة من خلال الترهيب من هذا المسلك السيئ الذي تسلكونه، ومن خلال التحذير من مغبة هذا الطريق المعوج الذي تسيرون عليه، لكن ربما كان ذكر بعض الجوانب المشرقة من الطريق الآخر الذي ندعوكم إليه، الطريق الذي سلكه أقرانكم، الذي سلكه أترابكم، ووفقهم الله تبارك وتعالى، بل أكرمهم عز وجل بسلوكه؛ إنكم حين تعرفون مزايا هذا الطريق، وحين تعرفون الجوانب المشرقة، وحين تعرفون تلك المنزلة التي يصلها أولئك الذين جانبوا الشهوات واللذات، الذين هجروا اللهو واللعب، وساروا في طريق الصالحين، ربما كان هذا دافعاً لكم أن تسيروا وأن تلحقوا بالقافلة. كما أن الخطر يتهددكم حين تمضون على هذا الطريق المظلم، حين تمضون على طريق الضلال، كما أن الخطر يتهددكم حين تسيرون على هذا الطريق، فإن الطريق الآخر أمامكم، مفروش بالأضواء، الطريق أمامكم يدعوكم ويقول: هلموا فإن الطريق لا يزال يتسع لكم ولغيركم.

كثرة النقد الموجه لجيل الصحوة وأخطائهم

كثرة النقد الموجه لجيل الصحوة وأخطائهم ثالثاً: لا نزال نسمع الحديث الكثير عن النقد لبعض المظاهر السلبية في واقع الشباب المتدينين، والحديث عن بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وهو حديث لا شك أن الكثير منه يصدر بلغة النصح، ومنطق الإشفاق على هؤلاء، والهدف والرائد له الإصلاح والتغيير، وأشعر أنني ممن يشارك أيضاً في الحديث في هذا الأمر، فقد تحدثت كثيرا عن بعض الجوانب، وعن بعض الأخطاء والسلبيات التي ربما وقع فيها هؤلاء الشباب الأخيار. لا شك أن الكثير من هذا الحديث يصدر بمنطق النصح وتدفعه الغيرة والإشفاق على واقع هؤلاء الشباب؛ لكننا نخشى أنه حينما يكثر الحديث عن هذه الجوانب السلبية، وحينما يكثر الحديث عن الأخطاء، وهو وإن كان بمنطق النصح والإشفاق نخشى أن يحول الصورة لدينا إلى صورة سلبية، وإلى صورة بائسة، وأن نتصور أن الالتزام والاستقامة التي عليها هؤلاء الشباب لا تعدو أن تكون سراباً ووهما، وأنها قضية خادعة، وأن هؤلاء الشباب يقعون في أخطاء في عبادتهم لله تبارك وتعالى ويقصرون، ويقعون في المعاصي، ويرتكبون طائفة منها، ويقعون في أخطاء في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويقصرون وحقوق إخوانهم في حقوق أهلهم في هذا الجانب وذاك، حتى لا تكاد ترى جانباً من الجوانب إلا وترى الحديث عن الأخطاء حوله! ولا شك أن الحديث عن الأخطاء حين يكون رائده النصيحة، ودافعه الغيرة، والهدف من ورائه الإصلاح، لا شك أنه أمر مطلوب، ولا يسوغ أن نلغي الحديث عن هذا الجانب، لكننا نخشى حين تطول هذه اللغة وحين يرتفع هذا الصوت أن تتحول القضية إلى قضية سلبية، وأن نشكك في أصل استقامة هؤلاء الشباب، وفي حقيقة تدينهم والتزامهم؛ لذا كان لا بد من الحديث عن الجانب الآخر، حتى لا نغلو في هذا الجانب وهذا الميدان.

الدعوة لمناصرة شباب الصحوة ومعرفة مكانتهم

الدعوة لمناصرة شباب الصحوة ومعرفة مكانتهم والدافع الرابع للحديث حول هذا الموضوع هو: الدعوة لسائر المسلمين أن يدركوا موقع هؤلاء، الشباب الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الهداية والسير على هذا الطريق، وأن يدركوا عظم منزلتهم ومكانتهم، وأن يدركوا قيمة هذا الإنجاز الذي حققوه، فيتعاطف معهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التعاطف مع قضيتهم. إن هؤلاء الشباب الأخيار مع ما من الله عز وجل عليهم من الهداية والاستقامة على طاعة الله يواجهون أخطاراً تهددهم، إنهم يواجهون الخطر الأكبر الذي يؤرق ليلهم وهو أن يُختلجوا من هذا الطريق، وأن يسلكوا بنيات الطريق فينحرفوا، وهاهم يرون أنهم يعيشون في واقع يعج بالفتن والمغريات، واقع يدعوهم صباح مساء إلى أن يعرضوا عما هم عليه، واقع يدعوهم إلى أن يسيروا مع طريق الضلالة والغواية، ولا عجب فها نحن نرى فئاماً من الشباب ممن كتب له الاستقامة والصلاح في أول عمره ربما تنكب الطريق وزاغ وضل. إنها قضية تؤرقهم، قضية تستدعي أن يتعاطف الجميع معهم، في هذه القضية التي يرونها قضية القضايا عندهم أن يتعاطف الآباء أن يتعاطف المصلحون أن يتعاطف الغيورون في مجتمعات المسلمين، وأن يدركوا أن هذا الجيل المبارك يستحق أن نحميه، ويستحق أن نثبته، ويستحق أن نعينه. ولا شك أن من أعظم ما نعينه عليه ويكون بإذن الله طريقاً إلى تثبيته أن نسعى إلى إغلاق أبواب الفساد، وأن نسعى إلى سد طرق الفتنة. إنه يواجه كيداً وتآمراً من أعداء الإسلام، والذين شعروا أن قضية الإسلام هي القضية التي تهددهم، وأن هذه الصحوة المباركة هي التي سوف تقضي على مكتسباتهم، سنة الله في التاريخ الصراع بين الحق والباطل، والصراع بين أهل الغواية والهداية، وما لبث أولئك وقد شعروا أن هؤلاء قد قطفوا الثمار دونهم، قد شعروا أن هؤلاء عادوا ليهدموا ما بناه أولئك من إفساد في صرح هذه الأمة، وهم يسرهم أن تعلن الأمة ردتها عن دين الله، وأن تتخلى عن دين الله. لاشك أن هؤلاء الأعداء يغيظهم أن يروا هذا الواقع وأن يروا هؤلاء الشباب، ومن ثم فإنهم لا بد أن يتآمروا على فتنتهم وصدهم عن دين الله بكل الوسائل. إن هؤلاء الشباب يعيشون -أيها الإخوة- في هذا العصر مأزقاً بحاجة إلى أن يتعاطف معهم الجميع، إن فتن الشبهات والشهوات قد بدأت تحاصر المسلمين الآن، ولا شك أن للشباب من ذلك نصيباً وافراً، بل لهم نصيب الأسد من ذلك. ومن ثم فنحن نتحدث عن قضية هؤلاء، ونتحدث عن ما أنجزه وحققه هذا النشء المبارك، وهذا الجيل الطيب الذي نسأل الله عز وجل أن يثبته، وأن يعصمه من مضلات الفتن، وأن يكتب له الامتداد وأن يكتب له تبارك وتعالى الخير والتمكين. لا شك أن هذا الجيل يواجه سيلاً جارفاً وبحاجة إلى يتعاطف المسلمون جميعاً مع قضيتهم، وحين يدركوا انجازهم فإن هذا يدعوهم إلى يتعاطفوا مع قضيتهم، لهذا وغيره رأيت أن أتحدث عن بعض هذه الجوانب والتي ربما أهملت، وهي لا تعدو أن تكون استثارة لصور نراها من واقع هذا النشء؛ لكنها دعوة للتذكير بهذه الصور التي قد ننساها. وأنت قد تتهمني بأنها أخذتني العاطفة وأني أنطلق من منطلق عاطفة، وأنا لا أبرئ نفسي ومعاذ الله أن أسعى إلى أن أتخلى عن هذه العاطفة؛ كيف لا وأنا أدين الله تبارك وتعالى وأعبده بحب هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك، لقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما رواه طائفة من أصحابه، في الصحيحين وغيرها (أن المرء يوم القيامة يحشر مع من أحب). فإنني أملك عاطفة تجاه هذا الجيل لأنه أطاع الله تبارك وتعالى، بل أنني أتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل وبالولاء له والتعاطف معه، وأشعر أن قضية الإيمان وأن قضية حب الله تبارك وتعالى تستلزم منا أن نحب من يحب الله ويحبه الله تبارك وتعالى. أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله). أليس صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). إنني حين أسعى إلي دفع تهمة العاطفة حول حديثي هذا فإنني أسعى إلى أن أتخلى عن واجب شرعي وحق شرعي في أن أحب من يطيع الله تبارك وتعالى ويحبه الله، بل إننا جميعاً نتعبد الله بحب الصالحين، ونشعر أن مما يكرم الله عز وجل به من أحب الصالحين أن يبلغه منازلهم ولو لم يلحق بهم. لقد سئل صلى الله عليه وسلم عن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب). ولهذا قال الشافعي رحمه الله: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعه فإن كان الشافعي رحمه الله يقول هذه المقولة تواضعاً منه وإلا فهو -نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً- من الصالحين المصلحين، فنحن نقول هذا حقاً وصدقاً، فنحن نتعبد الله عز وجل بمحبة الصال

مميزات شباب الصحوة وإنجازاتهم

مميزات شباب الصحوة وإنجازاتهم

تحقيق الأوصاف الشرعية

تحقيق الأوصاف الشرعية أول هذه الجوانب وهذه الإيجابيات: أن هذا الجيل وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بتحقق هذه الأوصاف الشرعية، قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر) والحديث رواه الإمام الترمذي وأحمد وأبو داود. لا شك أن هؤلاء وقد استقاموا على طاعة الله تبارك وتعالى وقد ابتعدوا عن الشهوات في عصرٍ يعج بالفتن والشهوات، في عصر يدعوهم إلى ركوب الغواية، لا شك أنهم كالقابضين على الجمر، وهم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهنيئاً لكم يا شباب الإسلام وقد أخذتم على عاتقكم الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فأنتم بين إحدى الحسنيين: إن استجاب لكم الناس وأطاعوكم فأنتم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وإن عصاكم الناس وأعرضوا عن دعوتكم فأنتم سعداء بقوله صلى الله عليه وسلم: (أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله) إلى آخر الحديث. إننا حين نقول هذا فإننا لا نشهد لشخص بعينه أن هذه الصفة أو تلك تحققت فيه، لكننا نرى أن هذا الجيل المبارك بالجملة من أسعد الناس بهذه الصفات، ومن أقرب الناس إلى تحققها.

الاستقامة في وسط يحتقر الدين والتدين

الاستقامة في وسط يحتقر الدين والتدين ثانياً: من إيجابيات ومنجزات هذا الجيل المبارك استقامتهم على الدين في وسط يحتقر الدين والتدين. إن العالم الإسلامي اليوم قد فتن بصورة من صور الردة عافانا الله وإياكم، صورة احتقار الدين واحتقار المتدينين، حتى أصبح البعض من المسلمين يستحيي حين يصلي مع أقرانه، يستحيي حين يعمل طاعة من الطاعات، يستحيي حين يمتنع عن معصية من المعاصي. ولئن تفاوتت الدرجات أو الدركات حول هذه الخطيئة التي عمت بلاد المسلمين فإن مجتمعات المسلمين تشترك في أن لها نصيباً وافراً من احتقار الدين وأهل الديانة والتدين، ووصفهم بأقبح الأوصاف وأحطها، واتهامهم بهذه التهم، ومع ذلك يسير هؤلاء الشباب ويستقيمون على طاعة الله تبارك وتعالى، ويحتملون ما يواجهونه من احتقار الناس، ولعلهم من أسعد الناس بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35]. وقد دأب أهل العلم على أن يحتجوا -كما قال ابن عبد البر - بما نزل من الآيات في الكفار على من تشبه بأعمالهم ولو كان من المسلمين. أيها الشباب المبارك! لا يهولنكم سخرية الناس بكم ما دمتم تعتزون بدين الله تبارك وتعالى، لقد أخبر الله عز وجل عن طائفة من المنافقين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فقال الله تبارك وتعالى عنهم: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. وأخبر تبارك وتعالى عن حال أولئك الذين يقولون لشياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] فقال تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]. أي منزلةٍ أعلى وأكمل من أن يسخر الله تبارك وتعالى بأولئك الذين يسخرون بعباده الصالحين، أن يستهزئ بأولئك الذين يستهزئون بهم، وأي خسارة وبوار لمن يتعرضون لسخرية الجبار وأن يستهزئ بهم تبارك وتعالى. إن استقامة هؤلاء الشباب وثباتهم في هذا الوسط الذي يحتقر الدين والمتدينين ويعتبر من صفات القصور والنقص في المرء أن يكون متديناً، إن هذا من أعظم الإيجابيات، ومن أعظم جوانب الإنجاز التي حققها هؤلاء.

الانتصار على الشهوات

الانتصار على الشهوات ثالثاً: من منجزات هؤلاء انتصارهم على شهواتهم في وسط مجتمع يعج بالفتن والشهوات. إنها قضية ليست بحاجة إلى بيان، وأنتم جميعاً لستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم، إلى أن أذكركم بما تعج به مجتمعات المسلمين من مظاهر الإغراء والرذيلة، من تلك المظاهر التي تدعو الشباب، وتدعو الفتيات إلى مواقعة الرذيلة والفساد، حتى صارت الرذيلة تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة في الشارع، وفي السوق، بل في منزله وهنا وهناك، وصارت الصورة الفاتنة ومشهد الرذيلة يلاحقه في كل مكان، ومع ذلك يثبت هؤلاء الشباب، وينتصرون على شهواتهم، ويسيرون في طريق العفة، وتنتصر الفتيات على هذه الدواعي والدوافع بإذن الله تبارك وتعالى وتوفيقه. إن هذا وحده كافٍ في أن نتجاوز كل ما يقع فيه هؤلاء من تقصير، في مقابل ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في وسط فتن تؤزهم إلى الفساد أزّاً، وتدعوهم إلى الفساد بكل صوره وألوانه.

إحياء سنة حفظ كتاب الله تعالى

إحياء سنة حفظ كتاب الله تعالى رابعاً: أن هذا النشء المبارك قد أحيا سنة حفظ كتاب الله تبارك وتعالى. قضية لا ينكرها أحد، لقد كان قبل سنوات يندر أن نرى في مجتمعنا إماماً يصلي بالناس وهو حافظ لكتاب الله تبارك وتعالى، فضلاً عن أن نجد شاباً حافظاً لكتاب الله، حتى صار يقال: إن في بني فلان شاباً أو رجلاً يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل إنه كان من النادر أن تجد من يتقن تلاوة كتاب الله عز وجل، ولو كان المصحف بين يديه. أما الآن فها نحن نرى هذا الجيل المبارك يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى، وها نحن نرى هؤلاء الشباب قد أقبلوا على حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ونرى العديد من هؤلاء مع الانشغال بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والانشغال بدراسته وبمصالح نفسه ومصالح أهله، مع ذلك نجد المئات من الشباب والفتيات قد أتموا حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل أصبحت لا تكاد ترى شاباً من هؤلاء الشباب المتدينين إلا وقد بدأ في حفظ كتاب الله عز وجل وشرع فيه، حتى أولئك الذين قعد بهم ضعف همتهم، وقعد بهم كسلهم وفتورهم لا نزال نراهم يتطلعون بلهف وشوق إلى أن يحفظوا كتاب الله عز وجل، وها نحن نراهم يتساءلون في كل مناسبة: كيف أحفظ كتاب الله؟ ما الطريق إلى حفظ كتاب الله عز وجل؟ وهي صورة أوضح وأظهر من أن نشيد بها وأن نتحدث عنها.

العناية بالعلم الشرعي

العناية بالعلم الشرعي خامساً: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه. لقد مرت على مراكز العلم وحلقه ودروسه حالة من الجفاف، حالة من الفقر، كادت الأمة فيها أن تنسى العلم الشرعي، فما لبث هؤلاء الشباب، وما لبث هذا الجيل المبارك أن يقبل ويتوافد على حلق العلم وأن يحييها، وإذا أردت مصداق ذلك فاذهب يمنة ويسرة، وتأمل في حلق العلم من هم روادها؟ من هم الذين يثنون ركبهم في حلق العلم؟ في وقت يتوافد فيه أترابهم وأقرانهم على أماكن اللهو والمتعة واللعب، في وقت يدعوهم الناس فيه إلى الشهوات، إلى أن يسعدوا باللهو واللعب، ومع ذلك يضحي هؤلاء ويتركون لذة الفراش والنوم، يتركون لذة اللهو واللعب ليثنوا ركبهم أمام المشايخ وأمام حلق العلم يتعلمون العلم بل يقطعون المسافات لذلك. وها نحن نرى بحمد الله الدراسات الشرعية، والكليات الشرعية تشهد إقبالاً واسعاً منقطع النظير من هذا الجيل، بعد أن مرت بالأمة مرحلة يستحي الطالب فيها أن يقول: إنه يدرس في كلية شرعية بعد أن مرت مرحلة كان يرى المسلمون وللأسف أنه من العيب ومن النقص في الشاب أن يدع سائر التخصصات ويقبل على العلم الشرعي. إن رواج حلق العلم وقيام سوق التخصصات الشرعية في الجامعات في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ورواج الكتاب الإسلامي وانتشاره، بل كون الكتاب الإسلامي هو أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً في العالم العربي كله، إن هذا دليل على إقبال الناشئة على هذا العلم الشرعي، وعلى أن هؤلاء وبحمد الله قد أحيوا هذه السنة وقد أقبلوا يتوافدون على هذا العلم، وهو لا شك أمارة وعلامة على أن الأمة سائرة نحو المنهج الحق، وعلى أن هذه الدعوة المباركة سائرة على المنهج الصحيح وفي الطريق إليه؛ لأن الناس حين يقبلون على علم الكتاب والسنة، فإن هذا بإذن الله عنوان عصمتهم من الأهواء والفتن والصوارف والضلال.

الدعوة إلى الله وحمل هم الإصلاح

الدعوة إلى الله وحمل همّ الإصلاح سادساً: الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح. من هم الذين يقومون بأمور الدعوة اليوم ويحملون همها، ويتحملون اللأواء في سبيلها، أليسوا هم هؤلاء الشباب، إننا وبحمد الله نرى هذا الجيل وهذا النشء المبارك قد أخذ هذه الدعوة على عاتقه، ها نحن نراه يصعد المنبر يخطب الناس، أو يقف أمامهم واعظاً، أو داعياً بأي وسيلة من الوسائل، ها نحن نراه يحيي الدعوة في مدرسته، في جامعته، في حيه، بل ها نحن نرى هؤلاء هم أبرز الناس، وهم أكثر الناس حملاً للدعوة. وقد أصبح هم الإصلاح وهم التغيير في مجتمعات المسلمين يسيطر عليهم، بل يشغلهم عن سائر الأمور التي يهتم بها أقرانهم، ولا عجب ولا غرابة، فقد كان فرط هذه الأمة ورعيلها الأول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير من الشباب، إن خمسة من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من الشباب، كانوا من أمثال هذا الجيل، إن طائفة من السابقين الأولين إلى الإسلام، أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت وغيرهم وغيرهم، كان هؤلاء لم يصلوا إلى العشرين من أعمارهم، ومع ذلك كانت لهم أدوار مثلى وكان لهم القدح المعلى في الدعوة لهذا الدين والجهاد في سبيله والقيام بنصرته، ولهذا لا غرو أن نجد هذا الجيل وهذا النشء المبارك يحيي سنة أسلافه: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) ومن سار على طريق أولئك فهذا بإذن الله حري وجدير به أن يحشره الله تبارك وتعالى معهم: (فالمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب).

إصلاح من في البيوت

إصلاح من في البيوت سابعاً: مساهمة الكثير من هؤلاء الشباب والفتيات في إصلاح بيوتهم، كم هي البيوت التي صلحت بإذن الله تبارك وتعالى بسبب دعوة شاب ربما لم يبلغ الحلم، بل ربما لم يجاوز العشرين من عمره، كم هي البيوت التي صلحت بسبب شاب أو فتاة من الفتيات؟ كم هم الآباء والأمهات الذين أصلحهم الله تبارك وتعالى وتغيرت هذه البيوت فزالت منها المنكرات، واستقامت على طاعة الله تبارك وتعالى بسبب جهد شاب صالح أو فتاة صالحة من هذا النشء وهذا الجيل المبارك!

نفع الناس في أمور الدنيا

نفع الناس في أمور الدنيا ثامناً: النفع للناس بأمور دنياهم. إن هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات الصالحين، قد أخذ على عاتقه حمل قضية الدعوة والإصلاح، وقد شعر أن قضية الناس الكبرى والأساس هي القضية التي خلقوا من أجلها، لعبادة الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وشعر أن أعظم خير ونفع يقدمه للناس هو إن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وأن يدعوهم إلى طاعة الله تبارك وتعالى، ولهذا أخذ على عاتقه هذا الهم، ومع ذلك لم يكن ذلك شاغلاً له عن أن يقوم بالواجب الآخر، أن ينفع الناس بأمور دنياهم، وهو أمر ظاهر بحمد الله، فمن هم الذين يتصدرون في الإحسان إلى المحتاجين والإحسان إلى الفقراء؟ من هم الذين يقومون ويسهرون على المضرات؟ يسهرون في نفع المسلمين في أمور دنياهم، في مسح دمعة يتيم، أو إطعام جائع ذي مسغبة، أو التخفيف عن مصاب في مصيبة، وقد أدرك أعداء الإسلام هذا الجانب، وشعروا أن هذه القضية قد تكسب هؤلاء بعداً عند الناس، ولهذا سعوا في حجب هذه الأدوار عن هؤلاء، لكن حالهم حال أولئك الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، وهانحن نرى هؤلاء والحمد لله هؤلاء الصالحين في كل مكان في مشرق العالم الإسلامي وغربه، حين تلم بالمسلمين كارثة، أو تصيبهم مصيبة، نراهم يبادرون لنجدة إخوانهم ونصرتهم ولمسح الدمعة عنهم، ولا غرو فقد ورثوا هذا الهدي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم: (يحمل الكل ويعين على نوائب الحق) وكان صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الإحسان إلى الناس، في أمور دينهم وأمور دنياهم.

التفوق في مجالات الحياة المختلفة

التفوق في مجالات الحياة المختلفة تاسعاً: مما يميز هذا الجيل المبارك من الشباب الصالحين والفتيات الصالحات التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة. مع ما شغل به هؤلاء من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن حفظ كتاب الله تعالى وتعلم العلم الشرعي، ومن نصرة قضايا المسلمين والاشتغال بها؛ مع ذلك كله هاهم يثبتون للناس أنهم هم المتفوقون في مجالات الحياة، ولا شك أن الاطلاع على نتائج الامتحانات في جامعة من الجامعات في بلاد المسلمين أو مدرسة من المدارس للشباب أو الفتيات تعطينا دليلاً على أن هؤلاء المتدينين الصالحين هم الذين يتصدرون القائمة، وأن أغلب هؤلاء الذين يحققون التفوق هم والحمد لله من هؤلاء. لقد سعى أعداء هذه الدعوة إلى أن يصوروا للأمة أن التدين والاستقامة إفراز لمشكلات نفسيه أو لمشكلات اجتماعية واقتصادية، وأنه إفراز لتخلف يعاني منه هؤلاء، لكن يرى المسلمون بأعينهم أن هؤلاء كما أنهم قد فاقوا في العلم الشرعي، وفي حفظ كتاب الله، فقد فاقوا في سائر التخصصات، فهم الأوائل في الكليات التي تعنى بالدراسات التطبيقية. وفي إحدى كليات الطب كان الخمسة الأوائل من الطلاب في سنة من السنوات كلهم من الشباب المتدينين الصالحين، وهي قضية تزعج أولئك وتقض مضاجعهم، مع أن هؤلاء قد عمروا معظم وقتهم في تعلم علم نافع، أو في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم يصدهم ذلك عن أن يتفوقوا، وعن أن يبزوا أقرانهم. وفي إحدى البلاد الإسلامية، والتي كانت أول بلاد سعي فيها إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب، كانت نتيجة الثانوية العامة على مستوى تلك البلاد أن ثمانياً من العشر الأوائل من الطالبات هن من المحجبات. هذا في بلد هي أول بلد رفع فيه الحجاب، ومع ذلك تأتي هؤلاء الفتيات ليقلن للعالم أجمع: إن الحجاب والتدين ليسا -كما يطرحه أولئك- إفرازاً لعقد نفسية، أو مشكلات اجتماعية، وليثبت هؤلاء أن المتدينين هم أقدر الناس، فهم الذين يدركون أن قضية الحياة قضية جادة، فهم أينما ساروا وأينما ذهبوا هم المتفوقون، وهم الذين يثبتون للناس أنهم متفقون في مجالات الحياة، مع أن غيرهم أولى بالتفوق، لأن هؤلاء قد حملوا هموماً أكثر من غيرهم.

تجاوز الاهتمامات الفارغة

تجاوز الاهتمامات الفارغة عاشراً: من إيجابيات هؤلاء أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة. ما هي القضايا التي تسيطر على هم المسلمين صغاراً وكباراً شيباً وشباناً؟ إنها قضية الدينار والدرهم، إنها قضية الشهوة، قضية اللهو، قضية العبث الفارغ. أما هذا الجيل المبارك فهو يحمل هماً آخر ويحمل قضية أخرى، إن القضية التي تقلقه وتشغل باله، هي أنه كيف يستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى، كيف يحفظ كتاب الله؟ كيف يحصل العلم الشرعي؟ كيف ينفع المسلمين؟ كيف يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟ وهو من أعظم الإنجازات، حين يجتاز هؤلاء ما يهتم به سائر المسلمين والمسلمات ممن لم يسلكوا هذا السبيل ويسيروا في هذا الطريق، ولسان حال أحدهم يقول: يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، يا قوم لكم هم ولي هم آخر، لكم شأن ولي شأن آخر، وهذا جدير بهم أن يكونوا ممن يقول يوم القيامة لله تبارك وتعالى حين يسألون: قد مضى الناس ولم تمضوا، فيقولون: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليهم، وهانحن نفارقهم يوم القيامة أحوج ما يكون الناس إلى ذلك، فنحن ننتظر ربنا تبارك وتعالى، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل.

استثمار المواقف والأوقات في الدعوة إلى الله

استثمار المواقف والأوقات في الدعوة إلى الله حادي عشر: أن هؤلاء أصبحوا يتساءلون في كل موقف وكل مناسبة: كيف يخدمون الإسلام؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل؟ ألسنا نرى الشباب يتساءلون في كل مناسبة، على مقتبل الإجازة، في الحج، في رمضان في كل مناسبة: كيف نستثمر هذا الموقف في الدعوة إلى الله عز وجل، كيف نستغل هذا الوقت وهذا الموسم وهذه الفرصة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، في حين كانت القضية التي تشغل غيرهم في الإجازة هي قضية السفر، وقضية اللهو واللعب، وفي حين كانت القضية التي تشغل بعض المسلمين وللأسف في شهر رمضان هي: كيف يمتعون أنفسهم بأطيب الطعام والشراب؟ كيف يرتبون أوقاتهم في اللهو واللعب، مع ذلك القضية التي تشغل هؤلاء في كل حين وفي كل مناسبة هي: كيف يخدمون هذا الدين؟ كيف ينصرون قضية هذا الدين؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل في كل مناسبة وكل حين؟ ولهم أسوة في نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يدع قضية من القضايا وباباً من الأبواب وميداناً من الميادين إلا ونشر فيه علما، ودعا فيه إلى الله تبارك وتعالى. أليس صلى الله عليه وسلم يأتي في موقف ربما لا يزيد أثره على الناس أن يستثير بعض عواطف الأمومة والأبوة نحوهم، فيرى صلى الله عليه وسلم امرأة تأخذ طفلاً من السبي وتضمه إلى صدرها، فيستوقف أصحابه صلى الله عليه وسلم ويقول: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقولون: لا، فيقول: لله أرحم بهذه من ولدها، أو يقول: والله لا يلقي حبيبه في النار). نعم لقد كانت قضية الدعوة، وقضية التعليم قضية تشغل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستثمر كل هذه الفرص، ولهذا أخذ هذا النشء المبارك هذا الهدي منه صلى الله عليه وسلم، فصارت قضيته وصار سؤاله في كل وقت وفي كل مناسبة: كيف يستثمر هذا الوقت أو هذا الموقف في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى.

إحياء الجهاد في سبيل الله

إحياء الجهاد في سبيل الله ثاني عشر: أن هذا الجيل من الشباب أحيا سنة كادت الأمة أن تنساها، إلا وهي سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. إن تجربة الجهاد الأفغاني تجربة قريبة وتجربة لن تنساها الأمة في وقت كادت الأمة أن تنسى الجهاد، كادت أن تنسى هذه الفريضة، بل للأسف لقد كان بعض من يتصدر للتعليم وتدريس الناس الفقه يقفز من باب الجهاد حين يصل إليه، لأنه قد نسيته الأمة، وحين قام هذا الجهاد في تلك البلاد وفتح الميدان رأينا الشباب ممن لم يتجاوز العشرين، أو تجاوزها بقليل، رأيناه يترك الدنيا ويترك الدينار والدرهم، ويترك كل ما يسير إليه الناس من متعهم، ويرحل إلى بلاد لا يعرف لغة أهلها، ولا يعرف طريقتهم، ولا يعرف حياتهم، ولسان حاله كحال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين ودع أصحابه وقالوا له: حفظكم الله وردكم إلينا، فقال: لا ردنا الله إليكم، وقال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدتي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا وكان يسأل الله الشهادة ويقول وهو يخاطب راحلته: إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء ولسان حاله يقول كما قال الأول: إذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بصحبة يمسون في فج من الأرض خائف لئن كان قالها صاحب بدعة وصاحب ضلاله فهو يقولها وهو على السنة، وهو يتمنى أن يرزقه الله الشهادة هناك. لقد نسيت الأمة صور الشهادة، لقد نسيت صور الجهاد، وها نحن نرى بحمد الله نماذج من هؤلاء، ممن قتلوا ونحسبهم والله حسيبهم من الشهداء في سبيل الله، ممن أحيوا فريضة الجهاد، وضربوا للأمة أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء، في وقت كان يسافر فيه أترابهم وأقرانهم لقضاء الرذيلة ولقضاء الشهوات المحرمة، في وقت كان يسافر فيه الكبار والصغار للنزهة، يسافرون إلى البلاد التي يتيسر لهم فيها ما لا يتيسر لهم في بلادهم، أما هؤلاء فلهم شأن آخر وقضية أخرى وحياة أخرى، وأولئك الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ميدان الجهاد، ولم تشنف أسماعهم بسماع صوت الجهاد، كما كان أحدهم يتغنى: لا شيء يشجيني ويطرب مسمعي كأزيز رشاش وصولة مدفع إنهم إذ لم تكتحل أعينهم برؤية تلك المشاهد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع ذاك الصوت، ولم يحصل لهم شرف المشاركة في تلك الميادين، فإنما عاقهم عائق، وحبسهم حابس عن هذه الميادين، وأحدهم يتمنى أن تتاح له الفرصة، وأن يفتح له الميدان، أليست صورة تستحق الإشادة، أليست صورة تستحق أن نحفل بها وأن نشعر أنها وبحمد الله من منجزات جيلنا المبارك. وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم في دينهم ودنياهم رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار يبتغي القتل والموت مظانه).

إحياء سنة الأخوة الإيمانية

إحياء سنة الأخوة الإيمانية ثالث عشر: أن هؤلاء قد أحيوا سنة الأخوة في الله تبارك وتعالى، بعد أن كادت الأمة أن تنساها. لقد كادت الأمة أن تنسى الحب في الله، والأخوة في الله، فجاء هذا النشء المبارك ليحيي معاني هذه الأخوة، وليتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم، والجيل المبارك الذين تآخوا علي غير أرحام بينهم، ولعل هؤلاء من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) مما حدا بأحد شعراء هذه الصحوة أن يستبشر أي استبشار حين رأى هذا الأمل: الله أكبر إن عيني قد رأت نورا بآفاق السما يتلألا فلعله فجر الأخوة قد بدا يحيي النفوس ويبعث الآمالا ويميط عن هذه القلوب هوانها فتروح ترسل روحها إرسالا

موقفهم من المعاصي

موقفهم من المعاصي رابع عشر: موقف هؤلاء من المعاصي. إن هؤلاء شأنهم شأن سائر المسلمين، قد يقعون في المعصية، وقد يواقعون الذنب، ومن هو الذي لا يقع في الذنب والمعصية: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم). (وكل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون كما قال صلى الله عليه وسلم). إن هؤلاء وإن وقع أحدهم في المعصية، إلا أن حالهم مع المعصية ليست كحال سائر المسلمين، إن أحدهم ما يلبث أن يبادر للتوبة إلى الله تبارك وتعالى والإقلاع، ولعله بهذا من أسعد الناس بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. وبقوله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]. ثم ذكر تبارك وتعالى في صفة هؤلاء أنهم: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]. في حين يصر غيرهم على هذه المعاصي، وهم لو وقعوا في المعصية فإن أحدهم يستعظم المعصية، وتعظم عنده، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى معصيته كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا). كم يستهين الكثير من المسلمين بالنظر الحرام، بل يستنكر حين ينكر عليه هذا الأمر، وكم يستهينون بالكبائر والفواحش! أما هذا الجيل فإنك تراه حين تقع منه نظرة أو حين يقع في معصية يستعظمها، ويقبل على الله عز وجل مستغفراً تائباً، ويشعر أن هذه القضية توشك أن توبقه. وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فإنهم إنما يقعون في المعصية وقوعاً عارضاً، إنهم لا يسعون إلى المعصية، ولا يبحثون عنها، ولا يفرحون بها، لكن قد يواقع أحدهم المعصية وقد غلبته شهوة، وقد غلبه هواه، ولعله أسعد الناس بما قاله ابن القيم رحمه الله وهو من أعلم الناس بأمراض القلوب، قال في مدارج السالكين: إن الله تبارك وتعالى إنما يغفر للعبد إذا كانت مواقعة الذنب منه على وجه غلبة الشهوة والهوى، فإذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خائف، مختلج في قلبه شهوة الذنب، وخوف الله تبارك وتعالى. أما ذاك الذي يواقع الذنب وهو يضحك ظهراً ببطن، وهو الذي لا يدع ذنباً إلا أتاه، فهو من أبعد الناس عن التوبة، ومن أقرب الناس إلى أن يحال بينه وبين التوبة، أو كما قال رحمه الله تبارك وتعالى. وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فهم لا يجاهرون بها، بل يستخفي أحدهم بها، ويخشى أن يراه غيره عليها، ولا شك أن هذا بإذن الله دليل خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ولعله ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم بحديث النجوى: (إن الله يدني عبده المؤمن، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، فيقول: تذكر ذنب كذا وكذا؟ تذكر ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك، قال: أنا ستترها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الفاجر أو الكافر فينادى بذنوبه على رءوس الخلائق). أيها الإخوة! إن هذا الحديث ليس شهادة عصمة، ولا مناداة بالبراءة من الخطأ والزلل والذنب على هذا الجيل، وليس دعوة إلى أن ننسى الأخطاء والسلبيات، لكن كما سبق أن أشرت في أوله، حيث إننا أصبحنا لا نسمع عن هذا الجيل إلا حديث النقد وذكر الأخطاء، فربما كان هذا مدعاة أن ينسينا بعض هذه الجوانب المشرقة، فأحببنا أن نستثيرها في أذهانكم، وأحببنا أن نذكركم بها، وهو لا يعني كما قلت شهادة براءة، ولا يعني الدفاع عن الأخطاء والسلبيات. فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبض على دينه ويكون كالقابض على الجمر. هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وإنك لعلى خلق عظيم

وإنك لعلى خلق عظيم من خير ما يرفع المرء عند الله الخلق الحسن، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً مع جميع الخلق، وهو الذي بعث ليتمم صالح الأخلاق، وهو القدوة الحسنة التي يجب أن نتبعها وأن نتخلق بالأخلاق الحسنة لنفوز برضوان الله تعالى.

الحاجة إلى الكلام عن شمائله صلى الله عليه وسلم

الحاجة إلى الكلام عن شمائله صلى الله عليه وسلم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اصطفاه تبارك وتعالى ليحمل الرسالة للناس إلى قيام الساعة، وليكون صلى الله عليه وسلم هو داعي التوحيد وداعي الله عز وجل، فمن لم يجبه وقد سمع به من هذه الأمة لم يدخل الجنة، فصلى الله عليه وعلى آله وإخوانه إلى يوم الدين، وحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب. أيها الإخوة يشعر المتحدث حين يريد الحديث عن سيرة هذا النبي العظيم، وعن خلقه وعن شمائله صلى الله عليه وسلم، يشعر بالرهبة، ويشعر أنه مهما تحدث فلن يوفي الحديث حقه، وأنى لبشر مقصر أن يوفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله عز وجل وهو تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار. نشعر اليوم أيها الإخوة أن الأمة وأن العالم أجمع بحاجة إلى أن يُبرز أمامه هذا النموذج، وأن تُفتح له هذه الصفحات من سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، ونحن نعيش في وسط تسيطر فيه الأنانية والفردية، في وسط تتشعب فيه الأهواء بالناس، وحتى الصالحون يصيبهم ما يصيبهم من حظوظ النفس، ومن الأهواء، ويسيء المرء الخُلق وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وما أعظم المقولة التي قالها صلى الله عليه وسلم حين استأذنه رجل فقال صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه) عافانا الله وإياكم. إنها صورة ونموذج قد يتمدّح به البعض وأنه يستطيع بلسانه أن يُخرس الناس، يستطيع أن يسفههم، يستطيع أن لا يدع أحداً يفوه بكلمة بعد ذلك، وحينئذ يخاف الناس فُحشه في مقالته وفي كتابته وفي حديثه، هؤلاء عافانا الله وإياكم هم من شر الناس، وأبعد الناس عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم. أيها الإخوة أشعر ونشعر جميعاً أننا بحاجة إلى الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما أردت الحديث عن هذا الموضوع، لكني أشعر أني أُقدِّم رجلاً وأؤخر أُخرى؛ لأني أشعر أنني حين أتحدث عن أي جانب من جوانب خلق النبي صلى الله عليه وسلم فإني أنادي على نفسي بفقدان هذا الخلق وهذا النموذج، إن الناس يرون منا خلقاً ويرون منا سلوكاً، وحين نحدثهم عن هذه الأخلاق يرون صورة أخرى غير تلك التي يرونها عنا، لهذا كنت أرى وأعتقد أن حديثي عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلق الحسن إنما هو شهادة إدانة، فكنت أُحجم عن الحديث في هذا الموضوع، مع أن الحديث عن هذا الموضوع وهذا الجانب لا يعوز طالب علم مهما كان ومهما قل شأنه ومهما قل اطّلاعه. إنك حين تقرأ في كتاب من كتب السنة، أو كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب الشمائل فستجدها مليئة بالشواهد الناطقة على خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تحتاج أن تتصفح أبواب الآداب والأخلاق والشمائل، بل وأنت حين تقرأ في أبواب الأحكام، حين تقرأ في أبواب العبادات، حين تقرأ في أي باب من الأبواب ما روي عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك سترى هذه المرويات كلها تنطق بخلقه صلى الله عليه وسلم، كلها تشهد لهذا المعنى العظيم الذي وصفه به ربه تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وما وصفته به عائشة رضي الله عنها بقولها: (كان خلقه القرآن). ولكن الإخوة اختاروا هذا الموضوع فرأيت أن أتحدث عنه، ولو لم يختاروه ويلزموني به لما كنت أتحدث عنه، لا لأني أرى أنه ليس ذا بال وأهمية، بل لأني أشعر أننا نعاني كثيراً من التقصير في أخلاقنا، من التقصير في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وسلوكه، وأننا حين نتحدث عن هذه الجوانب فإننا ندين أنفسنا، ويرى الناس واقعاً غير ذاك الذي نقول لهم، فنسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون. لكن عزاءنا أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اختاره الله عز وجل من بين الناس، واصطفاه تبارك وتعالى، حتى إن الجيل الأول والرعيل الأول ما كان يمكن أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم في الخُلق والقدوة، كيف لا وهو القدوة للبشرية جمعاء! حين نتحدث عن هذا الموضوع فإننا لن نستطيع أن نوفيه حقه، بل ولن نستطيع أن نأتي بجميع جوانبه، ويشعر المتحدث بالحيرة حين يريد الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، عن ماذا يتحدث؟ إنك لو أخذت جانباً من الجوانب، مثل جانب الرحمة، أو جانب الحياء، أو التواضع، أو الكرم والجود والسخاء، أو الصبر أو كظم الغيظ، لو أخذت جانباً من جوانب الخلق وتصفحت كتب السنة، لوجدت أن المقام يضيق عن أن تتحدث عن هذا الجانب وحده، أو أردت أن تدون شيئاً من ذلك لوجدت أن المقام يضيق، ولهذا فإن الذين ألفوا في شمائل النبي صلى الله

الشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم

الشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم

اختيار الله تبارك وتعالى له

اختيار الله تبارك وتعالى له إننا حين نتحدث عن سمو خلقه صلى الله عليه وسلم، فستطول معنا الشواهد، لكننا هنا نوجز شواهد مهمة على كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الشواهد وأتمها هو اختيار الله تبارك وتعالى له. إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار تبارك وتعالى، وهو الذي خلق البشر تبارك وتعالى وهو أعلم بهم، فاختاره تبارك وتعالى ليحمل الرسالة، واختاره ليكون قدوة وأسوة حسنة، ولهذا فإن هذا الاختيار يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إن هذا الاختيار يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا كالرجال، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسائر الناس. نعم، إنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلهم ينسى كما ينسى الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم شأنه شأن سائر الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم في القمة في كل صفة كمال يمكن أن توجد في بشر، كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى. وها هو عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويشير إلى هذا المعنى فيقول: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ).

ثناء الله عليه في القرآن بحسن الخلق

ثناء الله عليه في القرآن بحسن الخلق الشاهد الآخر: ثناء الله تبارك وتعالى عليه في كتابه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ومن أحسن من الله حديثاً، فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ} [القلم:4]. إنها شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ممن خلقه تبارك وتعالى وممن خلق الناس، وممن يعلم تبارك وتعالى ما تكنه الصدور والضمائر، شهادة من الله تبارك وتعالى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أنه على خلق، وليس على خلق فحسب، بل على خلق عظيم، ويخبر الله تبارك وتعالى أن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق، فقال تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. ويمتن تبارك وتعالى على المؤمنين أن بعث إليهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وماذا نريد أيها الإخوة بعد أن عدّله ربه تبارك وتعالى، وبعد أن أثنى عليه الله عز وجل، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ومن أحسن منه حديثاً تبارك وتعالى.

شهادة الصحابة له بحسن الخلق

شهادة الصحابة له بحسن الخلق وهاهم أصحابه رضوان الله عليهم الذين صحبوه في السراء والضراء، وعاشوا معه أحواله، في المنشط والمكره، هاهم يشهدون له رضوان الله عليهم بأنه أحسن الناس خلقاً يقول البراء رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير). ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم. ويروي مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لمن سألها: (ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن). وهاهو حسان رضي الله عنه يقول: وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء ويقول حين دفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد غيّبوا علماً وحلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد ولسنا بحاجة أيها الإخوة إلى أن نستطرد في إيراد الشواهد من مقولات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليه بحسن الخلق.

إخباره عن نفسه أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق

إخباره عن نفسه أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق الشاهد الرابع: إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، ففي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله، إن الخلق والسلوك قد يأتي أحياناً لدى الكثير من المسلمين، بل لدى بعض طلبة العلم في مرتبة متأخرة، ويشعر بعض هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاج إليه طالب العلم! وحين يأتي الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعّاظ، وأن هذا حديث ينبغي أن يوجه لعامة الناس، وأما طلبة العلم فينبغي ألا يحدثوا إلا بقال فلان ورأى فلان، وفي المسألة وجهان، أو ثلاثة أقوال، وهكذا. قد يتصور البعض من طلبة العلم أيها الإخوة أن الحديث في مثل هذه المسائل هو وحده الحديث الذي يعنيه، وهو الحديث الذي يهمهم، وهو مجال لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه أو يغض منه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والأدب والسلوك ليس من شأننا أو أنه قضية ثانوية، أو أنه قضية يزج بها الحديث فإن هذا خلاف المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، وقد كان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، وكان أحدهم يقول: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودلّه، ويقول ابن وهب رحمه الله: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يأتون طالب العلم بوصية مشهورة يقولون فيها: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد بل إن في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على عظم هذه القضية، أليسوا قد صنفوا في أدب العالم والمتعلم وأدب طالب العلم وما ينبغي له كتباً مستقلة، وأدرجوا ذلك ضمن كتب الحديث وكتب الآداب، وهي كثيرة تلك الكتب التي صنفها أولئك المتقدمون من سلف الأمة، وما كان أولئك يعانون من أوقات لا يدرون بم يشغلونها، ولا يعانون من الإسهال الفكري فيريدون أن يكتبوا ما عنّ لهم، إنما كانت عنايتهم بذلك دليلاً على أهمية هذا الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل، كيف ولا وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، فما دام صلى الله عليه وسلم قد بُعث ليتمم صالح الأخلاق فلا بد أن تكون سيرته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك، وهاهي سيرته وسنته تشهد بذلك لكل من قرأها وتصفحها.

دعاؤه ربه أن يرزقه حسن الخلق

دعاؤه ربه أن يرزقه حسن الخلق وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعو ربه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه، يروي الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلقي). وأيضاً: يروي الإمام أحمد هذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خلْقي فأحسن خُلقي). وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في دعائه المشهور في قيام الليل: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت) ورسول الله صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فقد دعا ربه تبارك وتعالى هذا الدعاء فسيجيب الله عز وجل دعاءه، ولا عجب فقد كان صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الخلق، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه تبارك وتعالى ويستعين به على أن يرزقه حسن الخلق، وعلى أن يحسّن خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذه المنزلة، فقد جُبل صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق وقد زكّاه ربه تبارك وتعالى وعلّمه الكتاب والحكمة، فعلّمه تبارك وتعالى حسن الخلق، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يستعين بربه ويسأله أن يرزقه حسن الخلق، وأن يهديه لأحسن الأخلاق، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء، ويسأل ربه تبارك وتعالى هذا السؤال فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن نرى حين نتأمل في واقعنا صباح مساء تلك الأخطاء التي نقع فيها، ونرى ذلك التقصير، ونرى إخلالنا بهذا الجانب، ونرى أن الكثير من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى أن نترقى في مكارم الأخلاق، وأن نتعلم الكثير الكثير من حسن الخلق.

أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق

أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق أيضاً: كان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أول من يمتثل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم قد حذّرنا وحذّر أمته من أن يقول أحدهم ما لا يفعل، وأخبر أن الرجل يُلقي في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا وتنهانا؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه، عافانا الله وإياكم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الله له كمال الامتثال والتأسي فلا شك أن كل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم ويدعو به أمته؛ لا شك أن ذلك سيكون متمثلاً في حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته. ها هو أبو ذر رضي الله عنه يحكي في قصته التي يرويها الإمام مسلم عن ابن عباس يقول: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فأعلمني علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر). ونقف أيها الإخوة عند هذا المعنى ونتأمل، متى قدم أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مكة، ولما ينزل بعد الكثير من آيات القرآن، ولما تنزل الشرائع والأحكام، وأصبح هذا المعنى معلماً بارزاً في دعوته، فحين أراد صاحب أبي ذر رضي الله عنه أن يلخّص له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ من أن يصفها بهذه الكلمة: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر) إنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمكارم الأخلاق في مكة ودعا إليها لما كان ذلك كافياً، أما أن تكون مكارم الأخلاق هي العنوان لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القضية التي يشعر هذا الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفحّص حاله؛ فهذا يعني أنه معلم بارز واضح يدركه كل من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ولو كان في تلك المرحلة التي كان صلى الله عليه وسلم لا يزال فيها في أول رسالته وأول دعوته، ولما تنزل الكثير من الأحكام والشرائع بعد. وفي الصحيح عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض التي في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويرحم، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).

الخصائص التي امتاز بها النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق

الخصائص التي امتاز بها النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق

أنه اجتمع له من المكارم ما لم يجتمع لغيره

أنه اجتمع له من المكارم ما لم يجتمع لغيره لئن كان صلى الله عليه وسلم امتاز بهذا الخلق العظيم، ومن الله عز وجل عليه بمكارم الأخلاق، فما هي تلك الخصائص والمزايا التي للنبي صلى الله عليه وسلم وليست لأحد غيره من البشر؟ إنك قد تجد من الناس الذين تراهم صباح مساء من يعجبك خلقه، وقد تجد من هؤلاء من تشعر أنك لا تمل في الحديث عن حسن خلقه وأدبه وتتمنى أن تُرزق شيئاً مما رزقه الله عز وجل، ولا شك أن الله تبارك وتعالى خص طائفة من خلقه بشيء من ذلك كما جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصلتين يحبهما تبارك وتعالى الحلم والأناة، فقد جبل الله عز وجل طائفة من خلقه على حسن الخلق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في القمة في كل مجال وميدان من ميادين الخلق إلا أن له صلى الله عليه وسلم من المزايا والخصائص ما لا تراه لسائر البشر، إنه صلى الله عليه وسلم إن ذُكر أهل الحلم فهو أحلم الناس، وإن ذُكر أهل الغيرة فهو أغير الناس، وإن ذُكر أهل الشجاعة فهو أشجع الناس، وإن ذُكر أهل الجود فهو أجود الناس؛ فهو صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الخلق الحسن قد بلغ أعلى غاية وأعلى منزلة يمكن أن يبلغها بشر وأن يصل إليها مخلوق، لكن مع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم له من المزايا ما ليس لغيره: أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع له من الأخلاق ما لا يجتمع لأحد من البشر، إنك قد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالجود وسارت الركبان بالحديث عن جوده وكرمه، بل صار مضرب المثل، وصارت تحكى الغرائب والروايات عنه، وقد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالحلم وكظم الغيظ، وصرت تسمع من الحديث ما لا يكاد يصدقه عقلك، وصار مضرب المثل في ذلك، وقد ترى من اشتهر بالصبر، وقد ترى من اشتهر بالحياء، ترى من اشتهر بأي جانب من جوانب الخلق، وقلما تجد بشراً من البشر أو مخلوقاً من المخلوقين امتاز بحسن الخلق إلا وترى أن هناك خلقاً معيناً هو عنوان خلقه، تراه امتاز بالسخاء، أو تراه امتاز بالصبر أو بالحلم، أو أي باب من أبواب الخلق، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له ذلك كله، وما لم يُجمع لأحد غيره صلى الله عليه وسلم فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الكرماء وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة للحق لا ضغن ولا بغضاء وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضا الكثير تحلم ورياء وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء فقد جمع الله تبارك وتعالى له كمال الخلق في كل مجال وكل باب، تحدث ما شئت عن أي مجال وأي ميدان وائت بالشواهد من هنا وهناك فلن ترى أصدق شاهداً مما روي عن هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، تحدث عن الجود والكرم، تحدث عن الحلم، تحدث عن الرحمة، عن الصبر، عن الشجاعة، عن سائر الأخلاق، عن كل ما يمتدح به الناس من الخلق فسترى أن أصدق الشواهد هي ما يروى عن هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم.

أنه لا يطغى عليه خلق فيخرجه عن الحق فيه

أنه لا يطغى عليه خلق فيخرجه عن الحق فيه الجانب الثاني: إن الكثير من البشر حين يُرزق خلقاً فإنه أحياناً قد يطغى عليه في مواقف كثيرة ويخرجه عن الحق، خذ مثلاً من رزق الرحمة، وصار صاحب قلب رحيم يتحدث الناس عن رحمته، لا شك أنه يفعل خيراً كثيراً ويحسن للناس ويرق قلبه لما يراه من أحوال الناس، لكن ألا ترى أن هذا الرجل قد يأتي موطن يتطلب منه سوى ذلك فلا يستطيع فتغلبه تلك الشفقة والرحمة فتخرجه عن الحق. وقل مثل ذلك فيمن رزق السخاء والجود فصار لا يطيق أن يمسك مالاً يرى الناس يحتاجون إليه، ألا ترى أنه قد يتحول ذلك أحياناً إلى ترف وتبذير للمال في غير محله؟ أو ذاك الذي رُزق الشجاعة فصار الناس يغدون ويروحون بالحديث عن أخبار شجاعته وبطولاته، ألا ترى أن هذه الشجاعة تتحول إلى باب من أبواب التهور؟ أو قل على الأقل قد تخرجه عن الحق في موقف من المواقف وموطن من المواطن. أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، إنه صلى الله عليه وسلم الذي لا يرد سائلاً والذي لا يرد شافعاً، إنه الرحيم صلى الله عليه وسلم بأمته، بل لا يبلغ أحد رحمته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة وشفاعة العبد، وشفاعة الصغير والكبير، وهو الذي يرحم الصغير والكبير، ها هو صلى الله عليه وسلم في موقف يتطلب منه الحق خلاف ما قد يسلكه بعض الرحماء، فنرى منه صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة وأن هذا التقدير للناس وقبول شفاعتهم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم عن الحق، إنه صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة ويأتي يكلم زوجها، يأتي صلى الله عليه وسلم يشفع لرقيق من الأرقاء لدى أسياده. بل يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشفعوا فيقول: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، حين سرقت امرأة في مكة ذات جاه، وثقل على الناس أن تُقطع يدها أرادوا أن يشفعوا لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم إلا أسامة حبه صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله) ثم قام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). إنها فاطمة رضي الله عنها التي يؤلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤلمها، والتي كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث أنه ستكون لها ضرة ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو أنها سرقت لقطع صلى الله عليه وسلم يدها، ويرد النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة وهو حبه وابن حبه ويغضب صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف. وهكذا فإنه ما من خلق يُمدح به النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتراه تحت دائرة الحق لا يخرجه عن الحق، وهذا أمر ينبغي لأولئك الذين طُبعوا وجُبلوا على خلق كريم أن يضبطوا أنفسهم بهذا الضابط، وألا يخرجهم هذا الخلق عن حدود الشرع، إن من جبله الله على الحياء، أو على الكرم، أو على الشجاعة، أو على الجود، أو على الصبر، أو على هذا الخلق وذاك ينبغي أن ينظر لنفسه مراراً، أن يكون هذا الخلق داخل دائرة ما يرضي الله تبارك وتعالى، فإذا شعر أنه سيخرجه عن الحق فإنه حينئذ يصبح خلقاً مذموماً.

أن حسن الخلق لا يحوله إلى رجل ضعيف

أن حسن الخلق لا يحوله إلى رجل ضعيف أيضاً مزية ثالثة أن الخلق الذي اتصف به صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحوله إلى رجل ضعيف. إن البعض ممن يحسن خلقه يضعف فلا يطيق أحياناً ولا يستطيع أن يقف مواقف صارمة جادة، فتقعد به طبائعه وسجاياه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع الله تبارك وتعالى بين تمام الخلق وبين القوة والجرأة في الحق، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الرحمة، وهو صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وهو الذي برحمة الله تبارك وتعالى لان للناس ولو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمح).

جوانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم

جوانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم

التواضع

التواضع وبعد ذلك ننتقل فيما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، بل كما قلت في أول الحديث: لو أنا أخذنا جانباً واحداً من هذه الجوانب وكان موضوع حديثنا، وسعينا إلى أن نتقصاه في كتب السنة لشعرنا أن الوقت يضيق بنا، وشعرنا أننا حين نريد أن نجمع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الجانب قد لا نطيق ذلك ولا نستطيعه، لكنها إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به صلى الله عليه وسلم من تمام الخلق لتكون مجال قدوة وتأس لنا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم. من أهم مجالات الخلق الحسن التي ينبغي أن نتحلى بها التواضع، وما أصعب هذا الخلق على من يكون له مكانة عند الناس بعلم أو جاه أو منزلة، فقد يشعر المرء أن منزلته ومكانته عند الناس تتطلب منه أن يترفع، وقد يكون في قلبه شيء من الكبر من حيث لا يشعر ويرى أن هذا من تمام الوقار ومن تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها بين الناس حتى لا تضيع. وانظروا مثلاً ما الذي يسيطر على تفكير الأستاذ وهو بين يدي طلابه وتلامذته، وما الذي يسيطر على تفكير الرجل الوجيه عند الناس وهو بين عامة الناس، فأي رجل له منزلة ومكانة كالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما). وكان صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أنس يخالط أنساً وأهل بيته حتى كان يمازح أنساً رضي الله عنه فيقول له: (يا ذا الأذنين) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأخ لـ أنس أصغر منه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان له طائر يلعب به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً كاسف البال، فسأل صلى الله عليه وسلم أهله عن شأنه فقالوا: مات نغره أو طيره الذي كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟). هاهو صلى الله عليه وسلم الذي يناجي ربه تبارك وتعالى، والذي يتنزل عليه الوحي، والذي يحمل الرسالة، ويعلم الأمة كلها أجمع، لا يستنكف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة، وأن يمشي مع المسكين، وأن يقضي للناس حوائجهم، وأن يمازح الصبيان ويداعبهم ويسلم عليهم صلى الله عليه وسلم، فعجباً لهذا الرجل صلى الله عليه وسلم! يقول عنه أحد أصحابه وهو يتحدث عنه ويصفه: لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى ويسمع ما قد أسمع الفيل لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل كان أصحابه لا يحد أحدهم النظر إليه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، إذا تحدث النبي صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، وكان صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك أبو سفيان: (ما رأيت رجلاً يحبه أصحابه كما يحب أصحاب محمد محمداً) ومع هذه المنزلة العالية كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع سائر الناس، وصدق صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً).

الرحمة

الرحمة ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الرحمة، بل إن الله تبارك وتعالى أرسله رحمة للعالمين، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال: إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه الإمام مسلم. ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقف عند حد البشر، بل تتجاوز ذلك إلى البهائم. يحكي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حائطاً فرأى جملاً، فحن الجمل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأقبل إليه ومسح ذفراه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين صاحب الجمل؟ فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه). يجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صاحب القلب المليء بهموم الناس وهموم الأمة كلها يجد في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً لأن يعتني بشأن دابة من الدواب، وبهيمة من البهائم، وكأن هذا الجمل قد أدرك حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يعدم مكاناً لدى هذا الرجل العظيم، ثم يأتي صلى الله عليه وسلم فيسأل عن صاحبه؟ ويوصيه به خيراً. وحين يأتي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى طائر من الطيور فيأخذون فراخه، فيأتي صلى الله عليه وسلم فيقول: (من فجع هذه بولدها؟) إن النبي صلى الله عليه وسلم يرحم هذه البهائم والدواب فكيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس؟ بل كيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بالله تبارك وتعالى؟ ولهذا وصفه عز وجل بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم. وفي هذا أيها الإخوة أسوة لكل من ولاه الله عز وجل أمانة ومسئولية على المسلمين صغرت أم كبرت، أباً كان أو معلماً أو موجهاً، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين لا يرحمون الناس لا يرحمهم الله تبارك وتعالى. استنكف رجل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقبّل صبياً من الصبيان، فقال: (تقبّلون صبيانكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)، وفي موقف آخر يقول صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يُرحم). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أن يدعو: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).

الحياء

الحياء ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الحياء. ويكفي في ذلك شهادة الله تبارك وتعالى له: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]. ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فيما رواه الشيخان: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه). إنه صلى الله عليه وسلم كان يستحي أن يصرّح للناس بما يؤذيه صلى الله عليه وسلم من سلوكهم، وهم لم يكونوا يتعمدون إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم حين يريد هؤلاء أن ينصرفوا كان يستحي أن يشعرهم بذلك، فيخرج صلى الله عليه وسلم ويدخل حتى جاءهم وحي الله تبارك وتعالى أنهم إذا دُعوا إلى طعام، فإذا طعموا فلينتشروا ولينصرفوا؛ لأن بقاءهم يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يستحي أن يشعرهم بأنه يريد منهم أن ينصرفوا. ولهذا أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الحياء، وأخبر أن الحياء خير كله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحياء قرين الإيمان، وأنه منزلة من منازل الإيمان، بل أنكر صلى الله عليه وسلم على من وعظ أخاه في الحياء، وأخبر أن الحياء لا يأتي إلا بخير.

العفو

العفو ومن خلقه صلى الله عليه وسلم العفو والتنازل عن حقه. فتقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه الإمام مسلم: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل).

حسن المنطق

حسن المنطق ومن خلقه صلى الله عليه وسلم حسن منطقه. كما روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله؛ حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) عافانا الله وإياكم.

إعطاء السائلين

إعطاء السائلين وأيضاً من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد سائلاً. ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (ما سئُل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا). وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن. قال: نعم -وذكر الحديث وفيه:- ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال: نعم).

مراعاة مشاعر الناس

مراعاة مشاعر الناس ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مراعاته صلى الله عليه وسلم لمشاعر الناس. وهو جانب دقيق وعجيب في سيرته صلى الله عليه وسلم، وشواهده في ذلك كثيرة، منها ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه). وفي الصحيحين أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم حين كان محرماً أهدى إليه رجل صيداً فرده صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم). وحين جاء مالك بن الحويرث وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا عنده أياماً قال مالك رضي الله عنه: (فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد اشتقنا إلى أهلنا فرق لحالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلقوا إلى أهلكم وعلّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي). وحين تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم ترى كثيراً أنه صلى الله عليه وسلم كان يدرك هذه المشاعر، وكان يرعاها صلى الله عليه وسلم، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حتى وهو في صلاته, فالنبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن نفسه أنه يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيلها فيسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة خشية أن تُفتن أمه. وعجباً لهذا الخلق العظيم! إن السنة في حق المرأة أن تصلي في بيتها، والأفضل في حقها ذلك، ولو قيل لأحد ممن يؤم الناس شيئاً في ذلك لقال: اقعدي في بيتكِ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيل فحين يسمع النبي بكاء الصبي يخشى صلى الله عليه وسلم أن تُفتن أمه، فيقصر الصلاة مراعاة لهذه المرأة، والتي كان الأفضل في حقها أن تشهد الصلاة في بيتها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين أوجب الله عز وجل عليهم صلاة الجماعة؟ أحياناً قد يجفو بعض الأئمة الخلق مع الناس فيتسبب في فتنة الناس وصدهم عن أداء الصلاة مع الجماعة والتي هي في حقهم واجبة يأثمون لو تركوها.

الاهتمام بالناس

الاهتمام بالناس ومن خلقه صلى الله عليه وسلم اهتمامه بالناس. وهو أيضاً خلق عجيب! وقد دونت بعضاً مما رأيته في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت أن الأمر يطول حينما أردت أن أجمع شيئاً مما يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالناس ورعايته لهم، ومن ذلك مثلاً ما يرويه عثمان رضي الله عنه يقول: (إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط) رواه الإمام أحمد. وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم حين ماتت امرأة تقم المسجد، فحقّر الناس شأنها وصلوا عليها ودفنوها بليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا آذنتموني) فيذهب صلى الله عليه وسلم فيصلي على قبرها. وحين يمرض أعرابي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيعوده، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال له الأعرابي: ماذا قلت؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال هذا الأعرابي: بل حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فمات ذاك الرجل). وحين مرض شاب غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه رمك أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوياً له ما قاله عبد الله بن أبي فقال له صلى الله عليه وسلم: (قد وفت أذنك يا غلام). إنه صلى الله عليه وسلم لا يستنكف ولا يستكبر أن يعود هذا الغلام. إنه صلى الله عليه وسلم يهتم بشأن خاصة أصحابه ويعتني بهم، ويهتم بشأن الأعراب، ويهتم بشأن الصبيان، ويهتم بشأن القريب والبعيد، بل يبلغ هذا الأمر عند النبي صلى الله عليه وسلم شأناً عجيباً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فدخل أبو بكر فلم يعدّل جلسته، ثم دخل عمر رضي الله عنه فكان كذلك، فلما دخل عثمان تهيأ صلى الله عليه وسلم، وعدّل جلسته، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي فإني أخشى أن يراني على هذا فلا يبلغ حاجته). انظروا إلى هذا القدر من رعايته واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر الناس: تأتي امرأة في عقلها شيء فتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فينطلق معها صلى الله عليه وسلم وتحدثه بحاجتها، وتأتي بريرة وقصتها مشهورة، وهي أمة فحين عتُقت كانت ذات زوج، فحين حدثها صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ارجعي إلى زوجكِ قالت له: أنت شافع أم آمر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: بل شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه). يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر العبد وهو الذي يقود الأمة، ويواجه اليهود ويواجه غطفان، ويواجه قريشاً، ويواجه المنافقين، والأعراب من هنا وهناك، ويقضي بين الناس ويفتيهم ويعالج شئونهم وتعليمهم. وفي الواقع أنك لو أردت أن تستكثر من هذه الشواهد لشعرت أن المقام يضيق بك، اقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته، وانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يهتم بالناس ويعتني بهم، ولا شك أيها الإخوة أن هذا مما يؤثر على الناس، ويجعل الرجل يملك قلوبهم، فما أحوج طلبة العلم، وما أحوج الذين يتصدون للدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإلى تعليم الناس أن يعتنوا بشأن الناس، والعناية بشأن الناس ولو بكلمة طيبة، أو اعتذار لطيف، أو حسن استقبال قد يكفي ويخلق من المودة في قلوب الناس الكثير الكثير، بل والمرء يفعل ذلك تديناً وحسن خلق قبل أن يفعله لأجل أن يكسب مودة الناس. أشعر أيها الإخوة أن الحديث يطول، ولهذا أكتفي بهذا القدر، وأقتصر على هذه النقاط، وإن كانت هناك بعض النقاط التي دوّنتها وأردت الحديث حولها، لنترك بعض الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق فلا يهدي لأحسنها إلا هو تبارك وتعالى، وأن يصرف عنا سيئها إنه تبارك وتعالى سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

توضيح اللبس في الاقتداء بالخلق النبوي

توضيح اللبس في الاقتداء بالخلق النبوي Q ذكرت في معرض كلامك أو أنا فهمت ذلك أننا لن نستطيع أن نبلغ ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بأخلاقه ولا صحابته بقولك: عزاؤنا أن الصحابة لم يبلغوا ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس كلامك هذا فيه تثبيط للهمم؟ الرجاء توضيح ما التبس، كي يرتد إلينا النفس، ونكون كما كان أنس. A لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة ليست كسائر الناس، ولأصحابه منزلة ليست أيضاً لمن دونهم، لكن هذا لا يعني أن لا نتأسى بهم! ولو طبّقنا هذا لأبطلنا مبدأ التأسي أصلاً في العبادة وفي الهدي وفي كل الأبواب والمجالات لأننا لا نبلغ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتصور أحد أبداً أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم، لكن كوننا لا نستطيع أن نبلغ منزلته لا يعني أن نلغي جانب التأسي. وهنا شاهد سريع يشير إلى هذا المبدأ: أبو هريرة رضي الله عنه لما كان يذكر شدة جوعه وما يعانيه يقول: (كنت أخر عند المنبر من شدة الجوع فيأتي الرجل فيقرأ عليّ آية من القرآن يظن أن بي مساً وما بي إلا الجوع) يقول: (بلغ بي الجوع فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، ما أسأله إلا ليطعمني فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت عمر رضي الله عنه فسألته فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: انطلق) من مِن الناس مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ ومع ذلك خفي عليهما أن يدركوا هذا المعنى، ولو أن أبا بكر رضي الله عنه أو عمر أدرك القصد الذي كان يقصده أبو هريرة رضي الله عنه لأطعمه ولا شك. لكن هكذا الناس مراتب ومنازل ودرجات، والإنسان يسعى قدر الإمكان أن يجتهد ويتطلع لمثل هذا المثل الأعلى، لكن إذا قصرت هممنا وتطلعنا إلى المثل القريب لا نستطيع أن نبلغه، يعني لو وضع الإنسان أمامه قدوة من الناس القريبين منه وأراد أن يسعى إليه فهو قطعاً لن يصل إليه وسيكون دونه، لكن لو كانت قدوته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا الرجل الذي يراه أمامه ولا تقصر همته.

الاعتذار عن مكارم الأخلاق بأن النبي لا يمكن أن يكون مثله أحد

الاعتذار عن مكارم الأخلاق بأن النبي لا يمكن أن يكون مثله أحد Q قد يعتذر كثير من الناس حينما يُدعى إلى مكارم الأخلاق والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد اختاره واصطفاه ولا يمكن أن أكون مثله، فما رأي فضيلتكم؟ A حينما نقول له: كن مثل النبي صلى الله عليه وسلم تماماً يقول ذلك، لكن حينما ندعوه إلى مكارم الأخلاق نقول: ليست مكارم الأخلاق درجة واحدة يقفز إليها الإنسان قفزة وإلا كان سيئ الخلق، بل هي درجات ومراتب، والله عز وجل أمرنا ورتّب على حسن الخلق الدرجة العالية، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم، وأنه صلى الله عليه وسلم كفيل ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه. النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا الحث عبثاً، لو كانت الأمة غير قادرة على أن تتخلق بهذا الخلق الحسن لما خوطبت بذلك، ولما كلفت ذلك، والناس لم يكلفوا إلا بما يطيقون، ولم يخاطبوا إلا بما يستطيعون، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا لذلك وأمرنا به فهذا يعني أننا نطيق ذلك. من الشواهد على ذلك أننا اليوم نرى في كل مجال وميدان، ليس من التاريخ البعيد بل من الناس الذين نعيش أمامهم؛ نرى من نتمنى أن نكون على حسن خلقهم في أي باب وأي مجال من المجالات، وهؤلاء بشر مثلك.

دور السلام في ترابط المسلمين

دور السلام في ترابط المسلمين Q مما لا يخفى عليكم دور السلام في ترابط المسلمين، ولكن ألا ترى أن السلام قد اندثر بين المسلمين، فإذا سلمت على أحدهم تعجب وقال: هل هو يعرفني؟ نرجو من فضيلتكم أن تلقي ضوءاً على ذلك؛ لأن له علاقة بهذا الموضوع؟ A النبي صلى الله عليه وسلم ربط السلام بالمحبة: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). ثم أيضاً: هناك السلام الذي يقع بمجرد الالتقاء، مثل لقاء إنسان لا تعرفه، وهذا أمر طبيعي، لكن أحياناً السلام فيه مزيد من الترحيب والابتسامة والتلقي ليجعل من تقابله يشعر بأنك قابلته بوجه طلق. مثلاً: أحياناً تقابل شخصاً تعرفه فيسلم عليك، حينما ينصرف تقول بنفس الشيء، وما قال لك كلمة لكن طريقة سلامه وترحابه بك ورده للسلام والابتسامة لها أثر، فلا شك أن الاهتمام بهذه الجوانب مما يشيع المحبة والود والوئام بين المسلمين.

آداب المزاح

آداب المزاح Q من المعروف أن المزاح من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما ضوابطه؟ وماذا تنصحون ممن يُكثر منه جزاكم الله خيراً؟ A كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه، لكن من أهم ضوابطه أنه لا يقول إلا حقاً صلى الله عليه وسلم، فلا يكذب حينما يمزح صلى الله عليه وسلم، هذا أمر. الأمر الثاني: أن لا يكون غالباً على الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يمازح أصحابه كان يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل) ويخبر صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضحك تميت القلب. وكذلك أن لا يطغى على الإنسان فيصبح شعاراً له، وأن لا يكون في مواطن الجد، فحين يكون المرء في موطن من مواطن الجد ينبغي له ألا يخلط ذلك بمزاح، ثم أيضاً ينبغي أن يحذر من أن يكون المزاح فيما يتعلق بالنصوص والأحكام الشرعية فهذا أمر خطير، بل قد يوقع الإنسان في الكفر عافانا الله وإياكم.

التوفيق بين حسن الخلق وتهاون الناس بمن يحسن خلقه معهم

التوفيق بين حسن الخلق وتهاون الناس بمن يحسن خلقه معهم Q هل ترى أن من حسن الخلق أن تكون هيناً ليناً، ولكن بعض الناس يذهب شخصيتك بالتهاون واللين، ويصفك بالجبن والضعف؟ A هناك فرق بين الضعف والهوان على الناس وبين التواضع، وحينما ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى الصبيان ويداعبهم ويمازحهم، ويقضي حاجات الناس، ومع ذلك ما كان أحد يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم، بل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحسنون معاملته صلى الله عليه وسلم هذا جانب. الجانب الثاني: إذا كنا نريد أن نبحث دائماً عن هالة وقيمة لنا عند الناس نفتعل لأنفسنا صورة فستسيطر علينا كثيراً، والقضية تبدأ من مراعاة هذه النظرة، حيث يقول إنسان: أريد أن أحتفظ بوقاري، فتتحول إلى هالة يفترضها الإنسان لنفسه، ويريد قدراً من الاحترام والتوقير، وقد تدخل به باباً من أبواب الكبر عافانا الله وإياكم، والاحترام والتقدير عند الناس ليس شيئاً يصطنعه الإنسان لنفسه، إنما هو شيء يفرضه الإنسان من خلال خلقه وما يقدمه للناس، ولئن كنت قد تخسر جوانب في تواضعك للناس فإنك ستكسب الكثير الكثير بحسن خلقك من تقدير الناس واحترامهم لك.

تطبيق حسن الخلق

تطبيق حسن الخلق Q نرجو الانتقال إلى توجيه الحضور إلى حثهم على تطبيق صفة حسن الخلق وتربية وتوجيه الأهل لذلك وفقكم الله. A هذا جانب كنت أريد أن أتحدث عنه في آخر المحاضرة، وإن كان موضوعنا الإشارة إلى خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه القضية فعلاً يجب أن نعتني بها في تربيتنا من الصغر؛ لأن حسن الخلق ليس مجرد توجيهات تعطيها للناس! سيتمثلها الناس تلقائياً إنما تحتاج إلى مجاهدة، نعم، منها جانب جُبل عليه الإنسان أصلاً، لكن منها جانب يحتاج إلى تربية وإلى تعود وإلى تلق، فنشيع في المنزل والبيت الخلق والاحترام، يعني إذا كان الأب مثلاً لا يقدر ابنه، وتلفظ عليه بألفاظ نابية ولا يحترمه ولا يقدره، فكيف نريد أن نوجد عند هذا الابن الخلق الحسن؟ قد يكون عنده خضوع لوالده، وتقدير واحترام لكنه مشوب بالرهبة والخوف، فحينما يتعامل مع الآخرين لا يحسن خلقه. حينما يتلفظ الأب على ولده بألفاظ ساقطة، لا بد أن يتلقى الابن من الأب مثل هذه الألفاظ، وإن لم يقلها لولده فسيقولها لغيره من الناس. إذا كنا نريد أن نعود الابن الحلم والصبر والأناة يجب أن يشعر أننا نحلم في التعامل مع الآخرين، هنا ينشأ الابن من الصغر على مثل هذا الخلق في كل مجال، أعني على خلق الصبر والرحمة، والمنطق الحسن، والجود والسخاء والكرم وغيرها من الأخلاق التي نريدها. ننتقل إلى المدرسة، فحينما يعامل الطالب بفظاظة وغلظة وقسوة من الأستاذ أو من المسئول عن توجيهه، أو حينما يعامل بصورة أو أخرى بخلق سيئ فلا ننتظر منه إلا ذلك. حينما يأتي إلى المسجد مثلاً ليحفظ القرآن في حلقة من حلقات القرآن فيجد سوء الخلق ممن يعلمه حفظ القرآن، أو حينما يأتي إلى مجلس من مجالس العلم فلا يجد ممن يعلمه مثلاً النموذج في حسن الخلق، بل يجد منه الإعراض، يجد منه الجفاء فإنه سيتعلم جانباً من ذلك فيجب أن نشيع ذلك في المنزل، في المدرسة، في كل أوساطنا، لا نتصور أبداً يا أخوة أننا يمكن من خلال الحديث والخطاب للناس نستطيع أن نبني ذلك، نعم نحن من خلال الحديث ننبه الناس على أهمية هذا الأمر، ننبه إلى أخطاء معينة، لكن أن نتصور أننا بمجرد التوجيه فقط سنصحح الأخطاء لدى الناس، وسنغرس عند الناس الخلق الحسن! فأظن أننا مخطئون في ذلك.

كيفية اكتساب حسن الخلق

كيفية اكتساب حسن الخلق Q ما رأيك فيمن يتصدر مقام التربية كالمدرس والأب وغيرهم، كيف يرسم منهجاً لنفسه يُعرف عنه بحسن الخلق، ويكون بذلك قدوة لغيره؟ A حسن سالخلق ليس درجة واحدة، فالإنسان بحاجة إلى أن يربي نفسه ويتعاهدها، فنحن بحاجة إلى أن نربي أنفسنا دائماً وأن نتعاهدها، ثم أن نستفيد ولو حتى ممن كان دوننا، وأن نستفيد من أخطائنا وهي نقطة مهمة وينبغي أن نستفيد منها، وأنا أذكر موقفاً حصل لي لا أشعر أنني استفدت مثل هذا الموقف امرأة أرسلت لي رسالة تستشيرني في مشكلة وأنا مشغول في دراسة منهجية، وقد لا يستطيع الإنسان أحياناً أن يجد وقتاً مناسباً للرد على الرسالة، فكتبت للرد على الرسالة وأرسلتها لكن وصلت رسالة منها قبل أن تصل إليها الرسالة، وكانت رسالة عتاب قاسية فعلاً، أنا صراحة عندما تلقيتها شعرت بالخطأ، لكن بعدها فكّرت فعلاً وشعرت أنني كنت وقعت في هذا الخطأ، تستشيرني في مشكلة تخصها، أنا لربما كانت المشكلة عندي ليست ذات بال، لكنها قالت لي في مقدمة الرسالة: أنك لو كنت حاخاماً يهودياً أو قساً نصرانياً واستشرتك في لون ملابسي والطعام المفضل لأشرت عليّ بمباركة الرب كما يقول هؤلاء! لكنني حينما أستشير طالب علم تعلمنا في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ بيده الأمة حيث شاءت وأستشيرك بقضية تهم مستقبل حياتي تنصرف عني، أظن أن هذا ليس من خلق الإسلام! ثم تقول: أتمنى أن تجد وقتاً لمواصلة أبحاثك واهتماماتك وأن لا أكون قد شغلتك برسالتي هذه يعني بشر أول ما يجد مثل هذا الموقف قد يأخذه حظ النفس ويشعر، لكن بعد فترة فكّرت وشعرت أن مشكلتنا أحياناً أننا ننظر إلى مشكلات الناس وقضاياهم كما ننظر إليها نحن، لا كما ينظر إليها هؤلاء! الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كانت تأتيه امرأة في عقلها شيء وتحدثه فيستمع إليها، أقول: فعلاً يجب أن نستفيد من أخطائنا، وسنبقى دائماً نجد أخطاء، ونواجه أنفسنا بصراحة، قد لا نحتاج أحياناً أن نعترف ونواجه الناس بأخطائنا، لكني أتصور أن الاستفادة من الأخطاء التي نقع فيها من أهم الجوانب التي تعيننا على تجاوز السلبيات التي سنقع فيها، فإذا كنت أنت إنساناً سريع الغضب، وغضبت في موقف من المواقف وشعرت أنها ذهبت إلى ما لا تحمد عقباه ستبدأ بعد فترة تحسب حسابك، وكذلك مرة أخرى حتى تشعر أنك قد أصبحت تمسك بلجام نفسك، وقل مثل ذلك في أي خُلق سيئ ترى أنك قد اتصفت به.

تأثر الأبناء بمخالطة أقاربهم

تأثر الأبناء بمخالطة أقاربهم Q من الأسباب التي تفسد أخلاق الأبناء والشباب والفتيات عدم اهتمام الآباء في مخالطة أبنائهم وبناتهم من الأقارب حتى وإن كان خلقهم سيئاً، فما داموا أقارب فلا يهتم بأخلاقهم وسلوكهم، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟ A المشكلة أحياناً أن بعض الآباء ينظر إلى الابن من خلال والده، فعندما يصاحب ولده ولداً آخر يسأل الوالد عن هذا الولد فيقال: ابن فلان، فيرتاح لذلك نظراً إلى أن أب الولد رجل صالح، وهذا لا يكفي، أليس نوح عليه السلام كان له ابن كافر أغرقه الله عز وجل؟ إذا نظر أحد إلى ابن نوح على أنه ابن نوح وابن رسول الله، وابن واحد من أولي العزم سينظر له لا شك نظرة خاطئة، وكم يرتكب هذا الخطأ في موضوع الزواج، وذلك عندما يتقدم شخص إلى الخطبة، فيقال هو ابن فلان أو العائلة الفلانية وهي عائلة معروفة بالخير والاستقامة والصلاح، فسلا يسأل عنه هو، وكأن هذا الأب سيزوج عائلته أو سيزوج والده، وهذه من الأخطاء التي نقع فيها. الذين نختارهم لصحبة أبنائنا أو صحبة بناتنا يجب أن نسأل عنهم هم، ونعرف أحوالهم هم لا أن نعرف أحوال آبائهم، وقد يكون الأب صالحاً وخيّراً لكن ما استطاع إصلاحه، وإنك لا تهدي من أحببت، أو قد يكون صالحاً وخيّراً لكن لم يحسن التربية، فليس بالضرورة أنه حينما يكون الأب صالحاً سيكون الابن صالحاً، وإن كان في حالات كثيرة لا شك أنه يترك أثره على أولاده.

الكتب التي تتحدث عن الأخلاق

الكتب التي تتحدث عن الأخلاق Q حبذا لو أحلتنا إلى بعض الكتب المناسبة التي تتحدث عن الأخلاق؟ A اقرأ أي كتاب في السنة، اقرأ في أبواب الطهارة وفي أبواب الصلاة، مثلاً عندما تأتي إلى أبواب الصلاة تجد باب الحركة في الصلاة، تجد النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي ويحمل أمامة فإذا سجد وضعها) هذا جانب من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء أحد أطفاله يتعثر فنزل ثم أخذه معه ثم عاد إلى خطبته وقال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين). (لما كان صلى الله عليه وسلم يخطب جاء رجل فقال: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بكرسي من حديد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علّمه ثم صعد إلى المنبر). اقرأ في الحج مثلاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءه رجل فقال: اكتبوا لي، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه). هناك مواقف في الحج، في الصيام في أي باب من أبواب السنة اقرأ وتمعن، فستجد خلق النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ليس قاصراً على أبواب الأخلاق والآداب، أما أبواب الأخلاق والآداب فهي مليئة، وقد صنّف العلماء في ذلك كتباً كثيرة من أهمها كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي. نسأل الله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الكريم المبارك أن يجمعنا في دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه سميع مجيب. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

حتى يغيروا ما بأنفسهم

حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الله تعالى وضع لهذه الحياة قوانين ونواميس وسنناً تسير وفقها، ومن أراد أن يفهم أمور الحياة وكيف تسير وكيف تصلح فلابد له من معرفة ودراسة هذه النواميس والتعرف عليها؛ ليسهل عليه فهم خفايا هذه الحياة، والتعرف على سبب الخلل، ومعرفة كيفية الإصلاح.

حاجة المسلمين إلى التعرف على سنن الله في الكون والمجتمعات

حاجة المسلمين إلى التعرف على سنن الله في الكون والمجتمعات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الثالث من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، يتم هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع -جامع التنعيم- وعنوان حديثنا لهذه الليلة كما سمعتم: حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو حديث حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح، إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين أياً كانت ثقافته، وأياً كان مستوى تدينه، وأياً كانت قيمة الدين لديه: هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، والجميع أياً كانوا ينتظرون ويتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدرك المسلمون وهل يعي المسلمون وهم يعيشون في هذه المرحلة التي لم يعد هناك خلاف بين من يملك قدراً من الجدية من المسلمين حول أن التغيير أصبح ضرورة، وأن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ليس هو الواقع الشرعي، هل يدركون وهم كذلك سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟ وهل يدركون كيف يتم التغيير؟ إن هذه السنة من سنن الله تبارك وتعالى واحدة في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة ربما تطول حول هذه السنن الكونية التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والقرآن مليء بالحديث عن هذه السنن كما سيتضح بعد قليل؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن، وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها وهم يتطلعون للتغيير، وهم يتطلعون لإصلاح هذا الواقع الفاسد. إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهماً سليماً دقيقاً؛ لأنهم يطبقون هذه السنن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، والتي جاءت عن الله تبارك وتعالى الذي أمور الكون والخلق بيده عز وجل، إن هذه السنن تجعل الناس يفهمون الأحداث فهماً سليماً، وتجعلهم أيضاً يتنبئون ويتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضاً تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة. إذاً فهذه السنن تؤدي هذه الأدوار الهامة في حياة المسلمين، فتعين على فهم الأحداث، وتعين على التنبؤ وتوقع ما لم يحصل منها بعد من خلال مقدماتها كما سيتضح بعد قليل، وهي أيضاً تمثل منارة وقاعدة يسير عليها المسلمون في حياتهم.

الأدلة على اعتبار هذه السنن من الكتاب والسنة

الأدلة على اعتبار هذه السنن من الكتاب والسنة إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلاً حتى تدركوا أهمية هذه السنن، وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى.

ورود قصص القرآن بذكر هذه السنن دليل على أن هناك سننا تحكم الكون

ورود قصص القرآن بذكر هذه السنن دليل على أن هناك سنناً تحكم الكون إن أول أمر يدل على ذلك: إيراد القصص في القرآن، فإيراد قصص السابقين دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفراداً أو مجتمعات، إن القرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين، والله تبارك وتعالى يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، ويقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111]. ولعلنا نتساءل: لماذا تورد هذه القصص؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين أليس للاعتبار والاتعاظ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن ولم تكن هناك قواعد تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم فسيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم فسيحصلون ما حصل أولئك. إن إيراد القصص للاعتبار والاتعاظ دليل كما قلنا على أن هناك سنناً ثابتة لا تتغير تحكم حياة الناس في هذه الدار. ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأهلكوا؟ أو أن قوماً من الأقوام آمنوا فأنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة فيقيس حاله على حالهم، ويكفي إيراد هذه القصص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى على بيان سنن الله عز وجل في الآفاق والأنفس، وأيضاً يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار، فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، يقول تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، يقول تبارك وتعالى واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. إذاً فلئن سلك قوم سبيل قوم لوط فهم معرضون لأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك القدح المعلى في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائهم قبل، يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. إذاً فلو فعلتم ما فعل أولئك فيصيبكم ما أصابهم، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك فسيصيبه ما أصابهم، لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ، وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيباً على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم، وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيباً على هذه المواطن في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:15 - 16] إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك، ويأمر عباده بأن يتعظوا بمواقفهم، والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصاً بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضاً في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عباده، كما قال تبارك وتعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. فمن كان كمثل ذي النون عليه السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى، فكما نجاه الله عز وجل فكذلك ينجي تبارك وتعالى عباده المؤمنين، وأيضاً يقول تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِ

الإشارة في كتاب الله إلى طائفة من السنن التي تحكم حياة الناس

الإشارة في كتاب الله إلى طائفة من السنن التي تحكم حياة الناس الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس في تاريخهم ومجتمعاتهم، فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المسرفون، ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أياً كانت هذه القرية، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]. وتبقى هذه الآية نذيراً يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، فيتنبئون ويتوقعون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو لهؤلاء؛ لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب، وليسوا يقرءون ما وراء الأحداث، ولكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى. وأيضاً يخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمكذبين المتجبرين لا تتخلف، سنة لأولئك المعرضين عن نور الله تبارك وتعالى، المعرضين عن دعوة الله عز وجل، المستكبرين عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي: أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى يجابهونه بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، يقول تبارك وتعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] على أحد القولين في تفسير هذه الآية، ويقول تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53]. وكأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة كأنهم قد تواصوا على هذه المقولة واتفقوا عليها، لكنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم: أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، واتهامهم بما ليس فيهم. ويخبر تبارك وتعالى متوعداً متهدداً أولئك الذين نجم نفاقهم؛ أهل الإرجاف والنفاق: أنهم إن لم يئوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، يقول تبارك وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60 - 62]. إنها سنة الله التي لا تتخلف، سنة الله التي لا تتغير: أن يحل بهؤلاء المنافقين وبهؤلاء المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يئوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى. وأيضاً يخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه عز وجل فيقول: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:42 - 43]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:10 - 11]، ثم يقول تبارك وتعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر:13]، ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23]، سنة الله أنه حين يتمالأ ويجتمع أعداء الله على عباده المؤمنين أن تحل بهم الهزيمة، وأن يولي هؤلاء الأدبار، ثم يؤكد تبارك وتعالى أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير. ويقول تبارك وتعالى أيضاً مخبراً عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غاف

الأدلة على ذلك من السنة

الأدلة على ذلك من السنة ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن، يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). فهي سنة لا تتخلف: أنه حين يتنافس الناس في الدنيا، ويتنافسون في الدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم. ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: (هذا أوان يختلس العلم، فقال زياد بن لبيد رضي الله عنه: كيف يفقد العلم ويرفع العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة! هذه الكتب عند أهل الكتاب أو اليهود والنصارى فلم تغن عنهم شيئاً)، فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء. وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة: امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأردوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد، ويسقط عنها هذه العقوبة، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموا أسامة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية الخطيرة، والتي إن بدت في الأمة فهي نذير هلاك، أي: إن بدت فيهم المحاباة في أحكام الله تبارك وتعالى فهي نذير عقوبة وهلاك. فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، بل صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، إذاً فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، وعلى أهل الوضاعة وأهل المنزلة التي ليس لها قيمة ومكانة عند الناس، وأما الشرفاء وأما أهل الشأن وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهم موقف آخر. ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم، إذاً هذه المادة أيضاً من الحديث هي عن السنن الكونية في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

استفادة الناس من السنن المادية حينما اكتشفوها ووظفوها

استفادة الناس من السنن المادية حينما اكتشفوها ووظفوها إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، وتحكم دنيا الناس، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، كما أن لله عز وجل سنناً تحكم عالم المادة ودنيا الناس، وحين اكتشف الناس السنن المادية أو ما يسميه العلم المعاصر بقوانين الطبيعة؛ حين اكتشفوا هذه السنن وهذه القوانين استطاعوا أن يستفيدوا منها، وأن يوظفوا هذه القوانين وهذه السنن توظيفاً في خدمة الناس في أمور دنياهم، فمن ذلك مثلاً: قانون الجاذبية، وهي قضية يراها كل الناس ولا يجهدون أنفسهم في التفكير فيها، ولا يجهدون أنفسهم في تفسير هذا الموقف الذي يرونه والذي لا يتغير ولا يتبدل. وحين اكتشف العلم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره، فيعبر القارات، ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون، وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تقبل الاحتراق والتي لا تقبل الاحتراق فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مقصد الناس ومصالحهم في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين القضيتين: يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك مثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وعن سنة من سنن الله عز وجل في التاريخ وهي: أنه حين يقع الناس في المعاصي، ويتجرءون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة: فحين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا إيذان بأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها ولو كان فيها طائفة لم يكن لهم دور في خرق هذه السفينة. وأيضاً يذكر لنا صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس، فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). إذاً ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بقوانين الطبيعة، ما دورهم في التعامل معها؟ أترى الناس مثلاً: يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟ إن هذا هو دأب الناس، وكم استفاد العلم المعاصر من ذلك، وثورة العلم المعاصر إنما قامت على استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وفي دنياهم، ولكن هل نحن نصنع ذلك في تطلعنا للتغيير الاجتماعي؟ وهل نحن نصنع ذلك في قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر؟ وهل نحن نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن، والحديث عن هذه السنن، ولم نكلف عبئاً في محاولة اكتشافها ودراستها.

موقفنا من السنن المادية

موقفنا من السنن المادية

السعي لاكتشافها

السعي لاكتشافها إذاً فما موقفنا من هذه السنن؟ الموقف الأول: هو السعي لاكتشافها، السعي من خلال قراءة ما حكاه الله تبارك وتعالى لنا من قصص السابقين والأولين قراءة يحكمنا فيها قوله تبارك وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، ونسعى من خلال ذلك إلى أن نكتشف السنن التي تحكم حياة المجتمعات وحياة التاريخ، وأن نقرأ تاريخ أمتنا وتاريخ الأمم الغابرة والماضية، بل أن نقرأ تاريخ الأمم المعاصرة ثم نتأمل ما فيه ونستنبط منه هذه السنن التي تحكم حركة الناس وحياة الناس، وهذا ما سعى إليه العلامة ابن خلدون رحمه الله في كتابه الرائع (مقدمة ابن خلدون) في محاولة اكتشاف سنن الله في الدول والمجتمعات، ومن قرأ فيه رأى فيه شيئاً كثيراً من ذلك.

تفسير الأحداث من خلال هذه السنن

تفسير الأحداث من خلال هذه السنن الأمر الثاني: تفسير الأحداث من خلال هذه السنن، فتحصل أحداث كثيرة تمر بالناس سواء ما يحصل للمسلمين في مجتمعاتهم، أو ما يحصل لمجتمعات أخرى معاصرة، فيرون ألواناً من الأحداث: من التمكين لأمة من الأمم، أو إهلاك أمة من الأمم، أو أمة يجعل الله تبارك وتعالى بأسها بينها، فهي أحداث تمر بالمؤمنين ومع ذلك يعجز الناس عن تفسيرها، ولو وعى الناس سنن الله تبارك وتعالى في التاريخ والمجتمعات وربطوها بهذا الواقع المعاصر الذي يعيشونه لاتضحت لهم الرؤية، ولأصبحوا يملكون رؤية واضحة تعينهم على تفسير هذه الأحداث، واكتشاف مغازيها.

الرؤية المستقبلية للأحداث

الرؤية المستقبلية للأحداث الأمر الثالث: الرؤية المستقبلية للأحداث، أو التنبؤ بها من خلال أن يتوقع المسلمون ما سيحل بمجتمعاتهم، أو ما سيحل بالمجتمعات القريبة لهم، ألسنا قرأنا لكثير من المفكرين الإسلاميين وعلماء الإسلام في هذا العصر أنهم كانوا يتنبئون بسقوط الشيوعية ويتنبئون بانهيارها، فكيف استطاع هؤلاء أن يتنبئوا بذلك؟ أهم يعلمون الوحي؟ أهم يعلمون الغيب ويدركون ما وراء السطور؟ أبداً، إنهم علموا ذلك من خلال هذه السنن. ولهذا حين ولى الفرس عليهم امرأة قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فأدرك صلى الله عليه وسلم من هذه السنة التي علمها صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الوحي- أن هذه أمارة ودليل على زوال الفلاح عن هؤلاء؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة، ومن ولى أمره امرأة فإن هذا إيذان بزوال الفلاح عنهم.

استثمار هذه السنن والاستفادة منها

استثمار هذه السنن والاستفادة منها الأمر الرابع: أن نستثمر هذه السنن، وأن نستفيد منها ونحن نتطلع للتغيير في مجتمعاتنا، ونحن نسعى إلى عالم أفضل، فننطلق من خلال إدراكنا لهذه السنن. إننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فنحن إذاً حين نتطلع للنهضة والرقي علينا أن نسلك هذه العوامل، ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار. ونحن إذ نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله تبارك وتعالى فيجدر بنا أن نجتنب هذه الأسباب، وأن نحذر بني قومنا منها. أليس جديراً بنا إذاً ونحن نتطلع للتغيير، ونحن نطلع للإصلاح، ونحن نسعى إلى التغيير في مجتمعات المسلمين أليس جدير بنا أن نتأمل هذه السنن، وأن نعيها، وأن ننزلها على واقعنا، وأن نسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟ وهذا يضيف علينا عبئاً كبيراً، وهذا يجعلنا ندرك أن المسئولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد الجهود المرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها. ولهذا نقف في نهاية هذا الحديث حول سنة من هذه السنن بعد أن عرفنا من خلال هذا الاستعراض أهمية السنن الكونية: أهميتها في تفسير مجرى الأحداث، وأهميتها في التنبؤ بها، وأهميتها في توظيفها واستثمارها للرقي بالأمم، ولتجنب عوامل الانحطاط، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ويقول تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]. وقد أشار صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية إلى هذا المعنى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لن يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت). وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته بسنة بعامة، وسأل ربه ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه الله تبارك وتعالى ذلك، قال: حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضاً. ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا) , فهذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر، وتبقى نذير خطر لأولئك الذين يسعون إلى إغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية، (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالمؤنة وجور السلطان، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبسوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). إنها سنن كونية نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله تبارك وتعالى بهذه العقوبات بما كسبت أنفسهم، إن هذا أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وهو أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وهو حديث يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله تبارك وتعالى تؤيد هذا المعنى وتشهد له، فالله تبارك وتعالى لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم، ولم يكن تبارك وتعالى مغيراً سوءاً حل بقوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم.

نتائج الاهتمام بالسنن المادية

نتائج الاهتمام بالسنن المادية

نحن مسئولون عن هذا الواقع الذي وصلنا إليه

نحن مسئولون عن هذا الواقع الذي وصلنا إليه إن هذه السنن معشر الإخوة الكرام! تعطينا نتائج مهمة جدير بنا أن نتأملها وأن نعيها ونحن نتطلع للإصلاح والتغيير: النتيجة الأولى: أننا نحن المسئولون عن هذا الواقع، وأن الأمة إنما أوتيت من داخلها، فليس الكيد الخارجي والتآمر، وليس فلان أو فلان هم المسئولون عما حل بالأمة، بل نحن المسئولون عما حل بنا، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، فالحال التي وصلنا إليها والواقع المر الذي نعانيه ونعيشه الآن إنما هو نتيجة للتغيير الذي غيرناه بأنفسنا حتى حل بنا ما حل. فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولا نحيل مشاكلنا على غيرنا، ولا نتهم بمشاكلنا ونحمل المسئولية من لا يحتملها، فنحن وحدنا نتحمل كل المسئولية، فكل ما حل في مجتمعات المسلمين من بعد عن دين الله، ومن تخلف، ومن جهل، ومن أمية، ومن فقر، ومن معاناة، ومن حروب، ومن بأس, كل هذه الظواهر التي تعاني منها الأمة إنما هي نتيجة منطقية لما كسبت أيدينا، ونتيجة لما بأنفسنا، فلا نحمل مسئولياتنا غيرنا، ولا نبحث عن شماعة نعلق عليه أخطاءنا، إن هذه سنة الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

لا يتم التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا

لا يتم التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا النتيجة الثانية: أن التغيير لن يتم إلا إذا غيرنا ما بداخلنا، إننا ونحن نتطلع إلى عالم أفضل، إننا ونحن نسعى إلى تغيير ما في الناس من بعد عن دين الله تبارك وتعالى، ونحن نسعى إلى إعادة الناس إلى دين الله عز وجل، وإلى التزامهم بما أمر الله تبارك وتعالى به، وانتهاؤهم وانزجارهم عما نهى تبارك وتعالى عنه، إننا ونحن نتطلع إلى ذلك لا يمكن أن نحققه إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، وإذا غيرنا ما بداخلنا فهي الخطوة الأولى والتي ليس هناك خطوة غيرها للتغيير وللإصلاح. وحين نتطلع لتغيير ما تعانيه الأمة من جهل، ومن أمية، ومن تخلف، ومن فقر، ومن حروب، ومن تمزق، ومن قلاقل فإننا لن نستطيع أن نصل إلى هذا التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، إذاً فجدير بالأمة أن تفقه ما هو سبب معاناتها، وما هو سبب أزمتها، وأن تفقه ثانياً ما هو عامل التغيير وما هي وسيلة التغيير؟

تغيير الواقع أمر ممكن

تغيير الواقع أمر ممكن النتيجة الثالثة: أن التغيير ممكن وليس الواقع المعاصر أمراً حتماً ولازماً، وليس هو قدر الله لهذه الأمة ولا لمجتمعات المسلمين. إن التغيير يمكن أن يحصل، وإن الأمة يمكن أن تنتقل إلى عالم أفضل، وإننا حين ننظر في حال المسلمين وفي حال هذه الأمة وتعاملها مع هذه القضية ومع هذه الحقيقة نرى أن هناك أزمة تعانيها الأمة، وأنها بحاجة إلى من يقنعها بالتغيير، فالكثير من الناس يعتقد أن هذا الواقع يفرض نفسه، ولهذا حين تحدثه عما في نفسه، أو تحدثه عن قضية يعاني منها المجتمع وتطالبه أن يأخذ بيد القائمين والساعين للتغيير يقول لك: إن المفروض شيء والواقع شيء آخر، وهذا يعني: الاستسلام للواقع، والشعور بأن هذا الواقع قد فرض نفسه، وأنه ضربة لازب لا سبيل ولا مناص إلى تغييره. ونحن نرى أيضاً إلقاء تبعة التغيير السابق أو التغيير اللاحق على الآخرين، فنحن نحمل ما أصابنا من مصائب ومن نكبات، ومن بعد عن دين الله، ومن تخلف حضاري وتأخر نحمل المسئولية غيرنا، وأيضاً نحمل مسئولية النهوض بمجتمعاتنا غيرنا، وهي صورة تنم عن جهل في فقه هذه السنن، وعن جهل في وعيها، وهي تدعو المؤمنين إلى إعادة قراءة كتاب الله تبارك وتعالى قراءة تدبر وتمعن، وتنزيل ما في كتاب الله تبارك وتعالى على واقعهم وحياتهم وعالمهم المعاصر. ونحن نعاني أيضاً مرضاً ثالثاً: في تعامل المؤمنين مع واقعهم، ذلكم هو: تسويغ الواقع، وهو داء عضال وجريمة عظمى يرتكبها أولئك الذين يقفون حجر عثرة في سبيل أي جهد يبذل للإصلاح والتغيير، فعجباً لحال هؤلاء! إن هناك وفي هذه المرحلة وهذا الواقع من يسعى لتبرير الواقع وتسويغه، وتسويغ الانحراف الذي تعاني منه الأمة والذي لم يعد خافياً على ذي عينين، إن هناك من يدافع عن تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأمة، إن هناك من يدافع ويبرر كثيراً من مظاهر الشرك والوثنية التي تعاني منها الأمة الآن، ويلبسها تارة لباس المصلحة، وتارة لباس الجهل، وتارة يلبسها لباس أن أولئك يفقهون ما لا تفقهون، ويعلمون ما لا تعلمون، ويريدون ما لا تريدون، وأنكم حين تنزل الحكم الشرعي على هذه الوقائع فتقرر أن هذا الأمر جريمة، أو أن ذاك العمل صد عن سبيل الله، أو أن هذا مظهر من مظاهر الكفر بالله تبارك وتعالى، أنكم حين تسعون لذلك فإنكم تسعون إلى إثارة البلبلة، وإلى تمزيق صف الأمة ووحدتها، وكأن هذه الأمة مدعوة لأن تتحد على الخنى والفجور، وأن تحافظ على هذا الاتحاد ولو كان ذلك على حساب قضية الإيمان وقضية التوحيد وقضية العفة والنزاهة. إن هناك للأسف وفي هذا الواقع المرير الذي يدعو الأمة أجمع إلى أن تهب وأن تقوم يداً واحدة للإصلاح والتغيير، إن هناك من يسعى إلى تسويغ الواقع وتبريره، ومحاولة البحث عن المسوغات وهي جريمة أشنع وأشد من جريمة القاعدين والناكسين. وهناك سلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعور المسلمين أن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين: وهو أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلمين. ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية؟ أين صلاح الدين؟ أين خالد بن الوليد؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً: وغاية الخشونة أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه. فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.

عدم اليأس من تغيير الواقع

عدم اليأس من تغيير الواقع وهناك سلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعور المسلمين أن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين: وهو أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلمين. ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية؟ أين صلاح الدين؟ أين خالد بن الوليد؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً: وغاية الخشونة أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه. فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير. وأخيراً: قد يلجأ الناس إلى الهروب من التفكير في القضية أصلاً، فيهربون من التفكير في الواقع ومرارته، أو يهربون من المناقشة الصريحة في وسائل التغيير والإصلاح، ويصرفون القضية يمنة ويسرة، وهذا فرار من المسئولية، وتخلي عن التبعة لن يفيدهم شيئاً، ولن يغني عنهم شيئاً أمام الله تبارك وتعالى. إذاً: هذه صور تعكس شعور المسلمين أن هذا الواقع الذي يعيشونه ضربة لازب، وأنه أمر حتمي لا يمكن أن يتغير. إن فقهنا لهذه السنن يعني أن ندرك تمام الإدراك، ونوقن تمام اليقين أن هذا الواقع يمكن أن يتغير حين يريد الناس وحين يغير الناس ما بأنفسهم.

ضرورة القراءة المتأنية لمداخل النفوس

ضرورة القراءة المتأنية لمداخل النفوس النتيجة الرابعة: فقهنا لهذه السنة يعني ضرورة القراءة المتأنية لمداخل ما في النفوس لاكتشاف العلة، والسعي لإحداث التغيير، إننا وقد تقرر لدينا أن هذا التغيير الذي أصاب الأمة وقد كانت أمة العز والنصر والتمكين، وقد كانت أمة تسير على شرع الله: أن هذا التغيير إنما أتاها من أنفسها، إنما أصابها من الداخل، إن شعورنا وإيقاننا بذلك يدعونا إلى دراسة وإلى قراءة متأنية لما في النفوس؛ حتى نسعى إلى اكتشاف العلة، والبحث عن مكمن الداء، ثم نسعى بعد ذلك إلى العلاج والإصلاح. إذاً هذا يعني: معشر الإخوة الكرام! أن قضية الإصلاح وقضية التغيير تحتاج جهداً ضخماً من القراءة في سنن الله تبارك وتعالى، ومن خلال قراءة ما في النفوس ووعيها ثم إقناع الناس بواجب التغيير وضرورة التغيير وإمكان التغيير.

شمولية التغيير لجميع جوانب الحياة

شمولية التغيير لجميع جوانب الحياة النتيجة الخامسة: إدراكنا لهذه السنة يعني: شمولية الأمر لجميع جوانب الحياة المختلفة، إن الله تبارك وتعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولا شك أن أول ما يدخل في ذلك: ما في أمور دين الناس. فالله تبارك وتعالى لم يكن ليغير حال الناس من تدين وصلاح وتقوى إلى فجور إلا وقد غيروا ما في أنفسهم والعكس، إن هذا يدخل في هذا الأمر، وأيضاً يدخل فيه ما يعاني منه المسلمون في أمور عالمهم المادي، إن الأمة الإسلامية الآن مدرجة ضمن العالم المتخلف والذي يسمى تفاؤلاً بالعالم النامي، فهي قد بلغت القمة والغاية في الأمية، والجهل، والفقر، والتخلف، والتأخر الاقتصادي، والمديونية، والتفرق، والتمزق، إنها تحمل رصيداً هائلاً من الأمراض البشرية التي تحملها المجتمعات المعاصرة، فهي حين تريد تغيير ما بها ينبغي أن تعلم أن التغيير إنما يتم من الداخل، فإن كانت الأمة صريحة مع نفسها، وإن كانت الأمة تحمل روحاً واقعية وتأملت في نفسها فإنها يمكن أن تغير، وإن أخلدت إلى الأرض فإن هذا الواقع لن يتغير حتى يتغير ما بأنفس الناس.

ينبغي الربط بين معرفة هذه السنن والإيمان بالقضاء والقدر

ينبغي الربط بين معرفة هذه السنن والإيمان بالقضاء والقدر النتيجة السادسة وبها نختم الحديث: ينبغي أن نربط هذه القضية بركن من أركان الإيمان؛ ذلكم هو الإيمان بالقضاء والقدر، إن المؤمنين يؤمنون جميعاً بل لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، ولا يتم إيمان العبد حتى يعلم أن الأمور كلها تجري بقدر الله تبارك وتعالى، وأنه كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50]، وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. إن المؤمنين يدركون جميعاً إدراكاً نظرياً هذه الحقيقة، وهذه القضية هي: أن الأمور كلها في عالمهم المادي، وغير المادي، والأمور كلها التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات إنما هي بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويؤمنون ويدركون أيضاً أن الله تبارك وتعالى قد جعل لهذه الأمور أسباباً، وأن من تمام الإيمان بالقضاء والقدر أن يسلك الناس فعل الأسباب، إن الناس كل الناس يدركون أن الجوع والمرض أمر بقدر الله تبارك وتعالى، لكنهم يسعون إلى منع المرض عنهم، وإلى منع الجوع عنهم، وإلى دفعه عنهم بالطعام والشراب والعلاج، إنهم يدركون جميعاً أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى، وأنه لا يزيده ولا يرده حرص حريص، وأنه لن تموت نفس منفوسة حتى تستكمل رزقها، إن الناس يدركون ذلك ومع ذلك يدركون أنه لن يحصلوا رزقهم إلا إذا فعلوا الأسباب، فيجتهدون ويكدحون ويبذلون وهم يعلمون أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى. ولكن هل نحن في أمور مجتمعاتنا وفي نظرتنا إلى واقعنا هل نحن ندرك هذه القضية وهذه الحقيقة وهي: ارتباط السبب بالنتيجة؟ وهل ندرك أن الأمور بيد الله تبارك وتعالى؟ ونحن كثيراً ما نقول: الأمور بيد الله تبارك وتعالى، ونحن كثيراً ما نقول: القضية قضاء وقدر، ونلجأ إلى الله بالدعاء، لكن هل نحن مع ذلك نفعل الأسباب؟ هل نحن نسعى إلى فعل الأسباب؟ إنه تماماً كما أنه لن نحصل رزقنا إلا بفعل الأسباب فلن ندرك التغيير أيضاً في مجتمعاتنا والإصلاح إلا بفعل الأسباب والاجتهاد في ذلك، وينبغي أن تكون الأسباب على قدر الهدف الذي نتطلع إليه ونسعى إليه. إننا ونحن نرى في واقعنا أن الناس يجتهدون في دفع المرض عنهم وفي العلاج، فينفقون الأموال الطائلة، ويسافرون، ويفتشون يمنة ويسرة في محاولة علاج هذا المرض؛ يدركون أن ذلك من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور بيد الله لكنهم يبذلون هذا الجهد، فهل نحن معشر الإخوة الكرام! نبذل هذا الجهد في تصحيح واقعنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في علاج أمراضنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في دفع الفساد الذي حل بأمة الإسلام؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في إزالة هذه المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين؟ إنه من الجهل بقضاء الله وقدره أو قل: من مخادعة النفس أن نضع يداً على يد ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن نبكي ونتحسر على أمة الإسلام، إن البكاء لن يجدي ولن ينفع شيئاً، وإن الحوقلة والاسترجاع وحدها لن تنفع والدعاء وحده لن ينفع إلا إذا كان معه جهد وبذل وتضحية وتحمل. إننا ما لم نشعر أننا يجب أن ندفع ثمناً باهظاً لإزالة المنكرات لتصحيح الواقع للنهوض بهذه الأمة، وما لم نقم بذلك فإننا غير مؤهلين للتغيير؛ لأننا لم نغير ما بأنفسنا، إننا قد أتينا من قلة فقهنا في قضية الإيمان بالقضاء والقدر، إننا قد أتينا من قلة فقهنا بالعلاقة بين السبب والنتيجة، وإن من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل هناك علاقة مضطردة في حياة الناس بين السبب والمسبب؛ بين السبب والنتيجة، فكل نتيجة يوصل لها سبب معروف يعرفه الناس في أبسط قضايا الناس إلى الأمور المعقدة، سواء في عالمهم المادي أو حياة مجتمعاتهم وحركة التاريخ، وهذا يعني: أن يسعى الناس إلى اكتشاف الأسباب، وأن يسعى الناس إلى بذل الأسباب إذا كانوا يتطلعون إلى نتيجة وحصولها، فالله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء سبباً، والله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً. إن إدراك هذه الحقائق معشر الإخوة الكرام! ضرورة لأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير، فهل ندرك هذه الحقائق؟ وهل نسعى إلى غرسها في مجتمعات المسلمين؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن يغير ذل المسلمين إلى عز، وأن يغير معصيتهم إلى طاعة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه بشرعك، وينتصر فيه للمظلوم والضعيف، إنك سميع قريب مجيب، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

كل شيء بقضاء الله وقدره

كل شيء بقضاء الله وقدره Q قلتم: إن الواقع الذي نعيشه ليس قدراً من الله بل هو من عند أنفسنا، أليس كل ما يجري في الكون من أمور الدنيا والدين يتم بقضاء الله وقدره؟ A ما أدري إذا أنا كنت قلت هذا، وما أحد يقول هذا، لكن ربما أحياناً والإنسان يتحدث قد يقول كلمة تكون سبق لسان منه، ولو كنت قلت هذا فإنني أقصد: أن هذا الأمر ليس ظلماً من الله تبارك وتعالى للناس، وإنما هو من عند أنفسنا، ولعل ما قلت في آخر الحديث يؤكد هذا المعنى من الحديث عن قضاء الله تبارك وتعالى وقدره، وليس هناك أحد يمكن أن يناقش أبداً في أن كل ما يحصل -سواء الأفراد أو المجتمعات- من أمور الدين أو الدنيا أنه كله بيد الله تبارك وتعالى، بل من شك في ذلك فعليه أن يعيد النظر في إيمانه.

ضرورة الاستمرار في التغيير، وعدم التعلق بالأشخاص

ضرورة الاستمرار في التغيير، وعدم التعلق بالأشخاص Q كثير من الناس يتعلقون بأشخاص وشخصيات بارزة كان لها دور في التغيير، فعندما مات أولئك توقفوا معهم، فهل من تعليق حول ذلك؟ A هذا جزء من أمراض الأمة، وهذه القضية أشار إليها مالك بن نبي رحمه الله؛ أشار إلى جزء من هذا فيقول: إن الأمة مصابة بالتعلق بالأشخاص، ودائماً تبحث عن حلها عند هؤلاء الأشخاص، فدائماً تتساءل عن صلاح الدين وعن فلان وفلان؛ لأنهم شعروا أن قضيتهم متعلقة بالأشخاص فقط.

كيفية التعامل مع من يسوغون الواقع ويبررونه

كيفية التعامل مع من يسوغون الواقع ويبررونه Q كيف نتعامل مع من يسوغون الواقع ويبررونه، أو من يحاول أن يزرع في النفوس اليأس من أن يمكن تتغير الأمور إلى الأحسن؟ A هؤلاء المثبطون إما أن يكون عندهم شبهة وعندهم إحباط، فهؤلاء ينبغي أن نسعى إلى إقناعهم، وأما أولئك المثبطون المتخاذلون، والإنسان الكسول الذي يسعى إلى ذلك لتبرير كسله فأظن أنه من إضاعة الوقت النقاش مع أمثال هؤلاء.

سبب حصول المصائب على المؤمنين

سبب حصول المصائب على المؤمنين Q أحياناً تحصل بعض المصائب، فهل السبب هو التغيير في أنفسنا أم هو الابتلاء، نرجو منكم توضيح ذلك؟ A قد يكون هذا وقد يكون ذاك، فقد يصيب المؤمنين أمر هو ابتلاء، وقد يصيبهم أيضاً مصائب، لكن حتى المصائب يكفر الله تبارك وتعالى بها عن عباده.

السبيل إلى نجاة الأمة

السبيل إلى نجاة الأمة Q ذكرتم أن السبيل إلى نجاة الأمة هو العودة إلى الله تعالى، وتغيير واقع الأمة المخزي، فكيف يكون ذلك والاتكالية موجودة بيننا؟ A هذا العرض الذي كنا نقول هو دعوة إلى إلغاء الاتكالية، فعلينا أن نعرف أن قضيتكم بيدكم فأنتم الذين تملكون حق تقرير المصير عن أنفسكم كما يقال، فإذا أردتم تغيير الواقع فالتغيير بيدكم فلا تخرجوه إلى غيركم ولا تلوموا غيركم، فهذه الأمة يجب أن تعي هذه القضية، والحقيقة تتحول هنا إلى بداهية: أن هذا الواقع نحن المسئولون عنه، ونحن القادرون على تغييره بإذن الله تبارك وتعالى، والله عز وجل إنما جعل التغيير بيد الناس، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في نجاة الأمة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في نجاة الأمة Q هل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في هلاك الأمة؟ لأني أرى كثيراً ممن يرى عليه علامات الخير والصلاح وهو يرى المنكر سواء كان ترك صلاة أو تبرج نساء أو سماع غناء، ولا ينكر ذلك المنكر، أرجو توجيه هؤلاء الناس الذين يعملون الخير الكثير من أمور الدين ولا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. A لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب حلول العذاب، ويكفي الحديث الذي أشرنا إليه والذي رواه البخاري، الذي شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم حياة الناس والمجتمع بالسفينة في قوله: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها).

أهم الأمور المعينة على التغيير

أهم الأمور المعينة على التغيير Q ما هي أهم الأمور في نظركم التي تعين على تغيير ما يكون في النفس؟ A من أهم الأمور أولاً: الاقتناع بضرورة التغيير، ثم أن نقتنع بأن التغيير ممكن، فأحياناً قد نكون مقتنعين أن عندنا مشكلة، ومقتنعين أيضاً أننا ينبغي أن نغير واقعنا، لكننا غير مقتنعين أنه يمكن أن يتغير هذا الواقع، وهذه مشكلة، فيجب أن نغرس هذا الاقتناع سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المجتمعات، نغرس فيهم أن التغيير ممكن، وأنه ليس هناك شيء أبداً يمكن أن يحول بيننا وبين التغيير، ثم بعد ذلك محاولة الدراسة المتأنية العميقة لما في النفوس؛ لاكتشاف ما هي الأسباب والعوامل للتغيير، ثم الإرادة الجازمة الجادة في ذلك؛ لأن التغيير صعب؛ لأن العوائد تأسر الإنسان فيخلد إليها، فيصبح تغييرها صعب جداً إلا إذا كان عند الإنسان إرادة قوية وجادة، فكثير من الناس مثلاً: يقع في أمور مقتنع هو أنها تضره سواء في أمور دينه أو أمور دنياه، لكنه لا يتركها والسبب هو أنه اعتاد عليها، وأسرته العادة فصار يشعر أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولو كان عنده إرادة قوية لأمكن أن يتخلى عنها.

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من خير أو شر

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من خير أو شر Q المفهوم من منطوق عنوان المحاضرة؛ الآية الكريمة هو: أن الله لا يغير النعم حتى يتغير أصحابها، والسؤال هل الآية أو العنوان خاص بذلك أم يدخل في ذلك أن الله لا يغير النقم ويزيلها حتى يغير أصحابها ما بهم من سوء؟ A هذا صحيح في الآية الأولى في آية الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} [الأنفال:53]، وكذلك الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، فهذه خاصة في النعم، وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فهي عامة تشمل النعم والنقم، واستدللنا على ذلك أيضاً بقوله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].

كيفية الجمع بين سنن الابتلاء وسنن الانتقام

كيفية الجمع بين سنن الابتلاء وسنن الانتقام Q كيف نجمع بين سنن الابتلاء وسنن الانتقام، لاسيما وقد اغتر البعض بما فتح على الغرب من تقدم تكنولوجي ومن جمال في الطبيعة؟ A أول شيء: قضية الجمال في الطبيعة هذا أمر الله، يعني: ليس هو القضية قدر الله، فالله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، فأناس عندهم جمال في الطبيعة، وأناس عندهم معادن، وأناس عندهم نفط، فمن فقد شيئاً عوضه الله خيراً منه. الجانب الثاني: كونه فتح على الغرب في التقدم التكنولوجي؛ فالله تبارك وتعالى من سنته أن الناس إذا بذلوا واجتهدوا في أمور الدنيا أنه يعطيهم، وأنه تبارك وتعالى يسخر لهم. ولهذا أولئك أدركوا السنن التي تحكم عالم المادة، واستطاعوا أن يتعاملوا مع هذه السنن ويطوعوها، ولا يستطيع الإنسان أن يعدل فيها، وكذلك لا يستطيع أن يعدل في سنن التاريخ، لكنه يتعامل معها كما ذكر ذلك مالك بن نبي رحمه الله، فيقول: إننا لن نستطيع أن نغير سنن التاريخ، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، يقول: كما أننا لا نستطيع أن نغير سنن وقوانين المادة، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، وضرب على ذلك مثالاً بما أشرت إليه من قانون الجاذبية. فالمهم أن هذا جزء من سنن الله، فلم يغير الله ما بأولئك من جهل وبعد عن العلم حتى غيروا ما بأنفسهم، فالتغيير في جانب واحد: في جانب المادة إنما كان نتيجة للتغيير الذي كان في أنفسهم، فحين بذلوا الجهد واستفرغوا وسعهم مكن لهم في الدنيا، والمؤمنون شأنهم شأن غيرهم بل هم أولى وأحق بالتمكين، ومع ذلك يبقون كما قال تبارك وتعالى عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فهذا لا يدعوا إلى أن نغتر بما عندهم، لكن لاشك أن ما حصلوه ليس بخرق للسنن الكونية، فهذا جزء من هذه السنن.

لا يكون التغيير حتى تغير الأمة من حالها

لا يكون التغيير حتى تغير الأمة من حالها Q هل يشترط للتغيير أن يكون من جميع أفراد الأمة تقريباً أو يكتفي بأن يكون من أفراد معدودين عاملين في الدعوة؟ وهل حينما نوجد أفراداً يقودون الأمة وتنقاد الأمة لهم يحصل التغيير، أما أنه حينما لا تنقاد الأمة فلا يمكن ذلك؟ A كما ذكرنا في قصة موسى لما كان مع قومه ولم يستجيبوا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].

الكتب التي ينصح بالرجوع إليها في هذا الموضوع

الكتب التي ينصح بالرجوع إليها في هذا الموضوع Q ما هي الكتب التي تنصحنا بالرجوع إليها عن هذه المحاضرة؟ A هناك كتاب قرأته في الإعداد لهذه المحاضرة وهو مفيد لكن عليه ملاحظات، هذا الكتاب أنصح أي أخ أن يقرأ فيه، وهذا الكتاب هو (حتى يغيروا ما بأنفسهم) حول هذا العنوان لـ جودة سعيد وقدم له مالك بن نبي، لكن فيه بعض الشطحات وبعض التجاوزات، وهو ينتمي إلى مدرسة مالك بن نبي وهي مدرسة معروفة بالمدرسة الحضارية، فهم عندهم إبداع في بعض الجوانب لكن هناك بعض الملاحظات على مثل هذه المدرسة، فالذي يملك عقلية ناقدة جيدة يمكنه أن يقرأه، لكن البعض من الناس قد لا يستطيع أن يقرأ مثل هذه الكتب التي قد يكون فيها ملاحظات، لكن أتصور أن أفضل منه كتاب للدكتور عبد الكريم بكار وهو: نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي.

نصيحة في كيفية تغيير ما في النفس

نصيحة في كيفية تغيير ما في النفس Q أحاول تغيير نفسي من حال إلى حال أحسن وأحسن، ولكن كثيراً ما أحاول ذلك وللأسف لا أوفق، فما الحل الصحيح؟ A الحل أشرت إليه قبل قليل وهو: أن تقتنع أنك ممكن أن تغير، وأن تقتنع بضرورة التغيير، فكونك تملك الإرادة هذا عنصر مهم في موضوع التغيير.

تغيير الحال يؤثر في الأمور الدينية والدنيوية

تغيير الحال يؤثر في الأمور الدينية والدنيوية Q تحدثت عن السنن وأنها لا تتخلف، لكن الناظر في الواقع اليوم يجد أن الدول الكافرة وما هي عليه من دين محرف ممكنة في الأرض، فما هو التفسير الشرعي لذلك حتى تتضح الصورة؟ A هذا دليل يا إخوان على أننا ما نفقه معنى السنن، فهذا يا أخي جزء من سنن الله، لماذا؟ لأنه حين تأخر المسلمون، وحين بذل أولئك مُكِّن لهم، فهذه سنة من سنن الله: أنه حين يتأخر المسلمون ويتقهقرون فإنه يمكن لغيرهم، وأحياناً يبذل أولئك وسعهم، فسنن الله تحتاج إلى قراءة متأنية في القرآن وإلى مراجعة وإلى تأمل، وحينها يستطيع الإنسان فعلاً -كما قلت لكم- أن يفسر الواقع تفسيراً سليماً، ويعطيه ذلك رؤية في المستقبل أفضل وأتم.

معنى السير في قوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا)

معنى السير في قوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا) Q قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [النمل:69] هل السير هنا هو السياحة المعروفة أم البحث عن جديد أم ماذا؟ ثم هل هذا السير واجب أو مستحب؟ A لا، ليس المقصود مجرد أن يسافر الإنسان، لكن المقصود: التأمل والتمعن، فإذا كان لا يتم ذلك إلا بالسير فإن الإنسان يسير في الأرض، فالمقصود: أن آيات هؤلاء باقية ظاهره في الأرض؛ فإذا مر الإنسان رأى تلك البلد التي كان فيها أولئك الذين عذبوا وأهلكوا.

الحل لانحطاط الأمة وتقهقرها

الحل لانحطاط الأمة وتقهقرها Q ماذا نفعل والأمة تمشي إلى الانحطاط في إعلامها وفي تجارتها وفي جميع معاملتها؛ ما هو الدور الذي نقوم به في هذه الظروف التي تمر بها الأمة؟ A هذا هو الذي تحدثنا عنه سابقاً، وهو أن نحقق التغيير، وأن نسعى إلى إقناع الأمة أنها يجب أن تحقق التغيير في أنفسها حتى يتغير ما بها.

الاهتمام بالدعوة في المناطق النائية

الاهتمام بالدعوة في المناطق النائية Q ما موقفنا من الدعوة إلى الله في القرى وبالأخص المناطق النائية والتي يقل فيها طلاب العلم؟ وما موقف أهل العلم من المشايخ والدعاة من ذلك؟ وبماذا تنصحون الجميع؟ A أولاً: لا يصح أن نقصر الدعوة على تلك المناطق النائية، فالدعوة تحتاج إلى كل مجتمعات المسلمين، ولا يجوز أن يهمل جانب لحساب جانب آخر. هذا أمر. الأمر الثاني: أن من أهم الأدوار: أن يذهب إليها أناس يستقرون فيهان وهذا أفضل من الزيارات العاجلة القاصرة، بحيث إنه يحتسب مثلاً أحد الشباب ويتعين في التدريس أو الوظيفة أو العمل هناك ويبقى، ويكون له نشاط ومشاركة، ولا شك أن التجارب تثبت أن هؤلاء يكون لهم خير وفضل كثير بإذن الله. وهذا لا يعني: أن الزيارات المتكررة المتقطعة ليس لها قيمة ولا أهمية، لكن لا شك أن الاستقرار والبقاء يترك أثراً أكبر وأعظم بإذن الله؛ لأن هذا الأستاذ أو طالب العلم إذا ذهب هناك وصار له دروس وصار له نشاط سيكون له تلاميذ من أهل البلد، فيتعلمون العلم ويحرصون عليه ويتربون، وينشأ من أهل تلك القرى وأهل تلك البقاع جيل يساهم في التغيير والإصلاح من أهل البلد نفسها، ولا يصبح هؤلاء عالة ينتظرون غيرهم. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

إنهم فتية آمنوا بربهم

إنهم فتية آمنوا بربهم ذكر الله تعالى في القرآن كثيراً من القصص التي تحمل الدروس الكثيرة والعظات الجميلة، ومن ذلك قصة أهل الكهف الذين فارقوا قومهم وأووا إلى الكهف فناموا فيه مئات السنين، وهي مليئة بالعبر التي يجب أن يستفيد منها كل داعية.

فضيلة سورة الكهف واشتمالها على الدروس والعبر

فضيلة سورة الكهف واشتمالها على الدروس والعبر إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة: إنهم فتية آمنوا بربهم. وخير ما عمرت به خير البيوت -المساجد- ذكر الله عز وجل، وأن تعمر بتلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وتدارسه: (فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يذكرهم تبارك وتعالى فيمن عنده إنه سميع مجيب. هذه السورة العظيمة سورة يرددها المسلم ويقرؤها كل أسبوع، وهذا يعني أن فيها كثيراً من المعاني التي يحتاج الناس إلى تكرارها وإلى إعادتها، إننا دون أن نخوض في جدل وتساؤل عن الحكمة وراء تكرار هذه السورة وقراءتها كل جمعة دون أن نصل إلى إجابة لهذا السؤال فإننا نوقن أنه لم يؤمر بتكرار هذه الآيات وقراءتها إلا أن فيها معاني يحتاج الناس إلى أن يتذكروها، وأن يذكروا بها، وأن يتدبروها، وألا تغيب عنهم، هذه السورة العظيمة سميت بهذا الاسم: سورة الكهف، لأن فيها قصة هؤلاء الفتية الذين شهد الله لهم بالإيمان، وأثنى عليهم تبارك وتعالى. وهذا الحديث الليلة ليس تفسيراً لهذه الآيات، فلست مختصاً بهذا العلم وهذا الميدان الذي له رجاله وفرسانه، إنما هو وقفات وإشارات لبعض الدروس والعبر التي ينبغي أن نستفيدها من هذه القصة، وبين يدي الحديث حول هذا الموضوع أرى أننا بحاجة إلى أن نؤكد على هذا المعنى التربوي الذي يرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، ونرى أن اهتمامنا به وعنايتنا به لا يتناسب مع المكانة التي أولاها القرآن إياه، فالقرآن الكريم مليء بالقصص، والله تبارك وتعالى أخبر أنه يقص علينا أحسن القصص في هذا الكتاب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، وأخبر تبارك وتعالى أن في قصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب، وأنه حديث صدق وحق: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] نعم؛ لأن القصص يدخل فيها الأساطير والخرافات والأقاويل، أما كلام الله عز وجل فيتنزه عن ذلك. إن هذا القرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى أنزله الله عز وجل على عباده من فوق سبع سموات حين يكون مليئاً بالقصص والإشارة إليها والتعقيب عليها، فإن هذا يعطي المربين درساً مهماً في شأن القصة وأهميتها في التربية، وحين ندرك هذا المعنى نرى أننا نهمل شأن القصة أو أننا لا نعتني بها كما ينبغي، وأولى القصص التي ينبغي أن نعتني بها؛ هي ما جاء في كتاب الله عز وجل وما قصه الله تبارك وتعالى في كتابه، وهو دليل على أهمية هذا الموضوع وعلو شأنه. إن كل واحد منكم يستطيع أن يطرح تساؤلاً حول موضوع يختار للحديث عنه، وقد يرى أن هذا الموضوع ليس ذا بال وليس ذا أهمية، ومن حقه أن يرى هذا الرأي، وأن يرى أن غيره أولى منه، لكن أن يقول امرؤ: إن قصة جاءت في كتاب الله أو قصها النبي صلى الله عليه وسلم ليست ذا بال فهذا أمر لا يمكن أن يجرؤ عليه مسلم ولا يقوله، وهي قضية لا مجال فيها للنقاش والجدل. قصة جاءت في كتاب الله، تعني أننا بحاجة إلى أن نتدبرها، وأن نقف عند معانيها، وأن نقيس حالنا بحال أولئك الذين قص الله عز وجل علينا شأنهم، قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم تعني أن لها شأناً ولها قيمة، فهي قضية تتجاوز مجرد الحديث التاريخي البحت الذي يعنى بتسطير الأخبار والروايات والأحداث، وحين نقرأ في كتاب الله ونحلل أساليب عرض القصة نرى أن القصة لا تأتي قصة مجردة تحكي أحداثاً إنما تأتي القصة وفي ثناياها الإشارة إلى العبر والعظات والدروس المهمة التي ينبغي على الناس أن يعوها. ولهذا فحديثي سيكون عبارة عن جملة من الوقفات لا يجمعها جامع إلا أنها وقفات حول هذه القصة العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجل.

الشباب هم من يحمل الدعوة

الشباب هم من يحمل الدعوة أول قضية تستوقفنا حول هذه القصة: أنهم كما أخبر الله عز وجل فتية، فقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال عز وجل: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمة لم تأت اعتباطاً كقضية تاريخية، يعني: أنت حينما تكتب مثلاً قصة تقول: كان محمد أباً لأسرة فقيرة إلى آخره فاسم محمد هذا لا يعني شيئاً بالنسبة للكاتب ولا يعني دلالة، وحينما يقول: كان شاباً كان شيخاً طاعناً في السن فربما لا يعني دلالة حتى عند صاحب القصة؛ لكن كلام الله عز وجل لا يمكن أن تأتي فيه كلمة عبثاً، فحينما يأتي وصف هؤلاء بأنهم فتية في موضعين والقصة أجملت أولاً في ثلاث آيات، ثم فصلت: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12] بعد هذا الإجمال قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. إذاً: هذه الكلمة لا تأتي عبثاً، ولا تأتي مجرد وصف لا قيمة له، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟ يعني: دلالات عدة، أول هذه الدلالات: هي سنة الله عز وجل في هذه الدعوة، وهي دعوة التوحيد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، فهذه أمة واحدة بدءاً بنوح وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجدداً وحاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة واحدة ودعوة واحدة. وجاء هذا التعقيب وهذا الوصف بعد ذكر قصص الأنبياء في سورة الأنبياء، بعد أن ذكر الله عز وجل نوحاً ولوطاً وزكريا وإلياس وسائر الأنبياء أخبر أنها أمة واحدة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، فهي سنة أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله عز وجل يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، ولهذا قال قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] هم أولئك الفئات السذج بسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق. وقال الله عز وجل عن أتباع موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] فهم ذرية، فأقران موسى ليسوا من الذين آمنوا بموسى، بل الذين آمنوا به الذرية، واستنبط ابن كثير رحمه الله من هذه الآية قال: يخبر الله عز وجل أنه لم يؤمن لموسى إلا فئة قليلة من قومه وهم الشباب، وكذلك أتباع الأنبياء. وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره، وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك، فالعشرة المبشرون بالجنة وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام كان خمسة منهم دون العشرين في أعمارهم، ويعجب القارئ بهذه السير: كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم، وربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة، وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من هذه الطبقة من الشباب: سعد بن أبي وقاص والزبير بين العوام وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم كثير، بل أول من أسلم من أهل المدينة والأنصار وأول من يحفظ إسلامه كان غلاماً صغيراً وهو إياس بن معاذ، قدم مع قومه، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يطلبون الحلف فقال: (ألا أدلكم على خير مما جئتم إليه؟ فدعاهم إلى الإسلام، فتكلم هذا الغلام وقال: هذا والله خير مما جئنا إليه) فزجره أحدهم، ثم قال: فكانوا يسمعونه يسبح ويهلل فما كانوا يشكون أنه مات مسلماً. وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب رضي الله عنه إلى بيعة العقبة واجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس وهو على دين قومه يطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل

درس في القدوة

درس في القدوة وكونهم أيضاً شباباً وفتية يعطي درساً مهماً وتساؤلاً مهماً نطرحه اليوم ونحن نعيش أزمة في عالم الشباب الذين يتعلقون اليوم بالأمجاد والبطولات الزائفة والبطولات الزائفة التي يصنعها الأعداء، أو تكون نتاج إغراق الأمة في لهو وعبث فارغ، لا يعدو أن يفرغ قضية الأمة الكبرى والأساس من مضمونها ليخرج جيلاً إنما تتعلق البطولة والأمجاد لديه بتوافه الأمور، أليس الشباب اليوم في العالم الإسلامي وهم يعيشون هذه الأزمة أحوج أن يبرز أمامهم هذا النموذج وهذا البديل؟ ويتساءل المسلم اليوم بمرارة وأسى: أيعرف شباب المسلمين اليوم عن شأن أهل الكهف، وعن شأن أصحاب الأخدود، وعن شأن الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون عن أهل الفن واللهو والعبث الباطل الزائل؟ إن الإجابة على هذا التساؤل إجابة مُرَّة، وهي تطرح مطلباً ملحاً لكل من ولاه الله مسئولية في تربية وتوجيه الأمة أجمع أن الأمة اليوم والشباب بوجه أخص يعانون من أزمة قدوة، وها هو البديل إن كنا جادين وصادقين، فلماذا لا تبرز هذه النماذج للشباب على أنهم هم المثل الأعلى؟ إذا كان الشباب يبحثون عن البطولات والإنجاز والأمجاد فها هو إنجاز أولئك الشباب ومجدهم الذي يستعلون على شهواتهم وعلى رغبات الدنيا، ويستعلون على الفتن التي تأتيهم من هنا وهناك فيعلنون إيمانهم بالله عز وجل: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:14 - 15]. وأي مجد -أيها الشباب- وشأن أعلى من أن يتعلق الشباب بالمثل العليا؟ أن يتعلق الشباب بالقضية الكبرى التي خلقوا من أجلها؟ وألا تصرفهم الفتن والصوارف ويثبتوا أمامها في سبيل قضية كبرى، أيقارن هذا المجد بأمجاد الدنيا الزائفة التي يتطلع إليها الشباب اليوم؟ واسأل شباب الأمة اليوم عن قدوتهم، عن مثلهم الأعلى، عن الشخصية التي يتمنون أن يصلوا إليها، عن أمنيتهم في الحياة لتدرك المرارة والأسى وتدرك الحاجة الملحة إلى مثل هذا النموذج الذي لا يتطرق إليه الشك ولا الكذب، إنه نموذج يعرضه أمامنا كتاب الله عز وجل. ثالثاً: ارتباط هذه القضية بالشباب تعطي الشاب الذي يعيش اليوم غربة ثقة بنفسه وثقة بطريقه، ويشعر اليوم وهو يرى ربما أنه يسير على طريق يخالفه الناس من هنا وهناك يشعر أن له امتداداً بعيداً يتجاوز هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها؛ ليدخل ضمن هذه الدائرة الشباب الصادقون من سلف الأمة، والشباب الصادقون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوز تاريخ الأمة المحمدية ليشمل تاريخ تلك الأمم الموحدة منذ أن أهبط الله عز وجل آدم إلى أن تقوم الساعة، فيشعر الشاب حينئذ بالاعتزاز وهو ينتمي إلى هذا المنهج، ويرى أنه لا يعيش غربة، وأنه لا يعيش حالة شاذة، وإن بدا من خلال النظرة القريبة العاجلة التي يعيشها وينظر إليها اليوم غريباً شاذاً، إنه حين يقرأ كتاب الله عز وجل ويرى هذا النموذج البعيد على تلك القرون المتطاولة على مدى التاريخ فيرى أن له إخوة ساروا على الطريق نفسه، لا شك أن هذا يدعوه إلى الثبات والثقة بالطريق الذي هو عليه، ولسان حاله وهو يقرأ هذه النماذج أن يقول: لست وحدك في الميدان ولست وحدك على الطريق، وإن أصابك ما أصابك ورأيت ما رأيت فاصبر فإنه طريق طويل، إنه طريق يتجاوز مدى الزمان، ويتساءل: أين الشباب العابثون اللاهون التائهون الذين متعوا أنفسهم بالشهوات؟ أو أين أولئك الشباب الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا أسر عصرهم وزمانهم، أين هم على مدى التاريخ؟ وماذا حفظ التاريخ عنهم؟ أما أهل الكهف فهاهم على مدى التاريخ يتحدث الناس ويتساءلون عنهم وعن أسمائهم، وعن اسم ذاك الكلب الذي صحبهم، أين الكهف الذي عاشوا فيه؟ إلى آخر تلك التساؤلات، وإن كانت طائفة من هذه التساؤلات تساؤلات غير جادة، إلا أن هذا يعني أن أولئك حفظ شأنهم وبقي شأنهم وبقيت قيمتهم، وما عند الله عز وجل لهؤلاء ولغيرهم من المؤمنين الصادقين أعلى وأتم من هذا الذكر الذي بقي في الدنيا. وهو أيضاً يعني قضية أخرى مهمة: أن الإيمان والدين يرفع المرء مراتب، ويتجاوز الاعتبارات التي يضعها الناس لدنياهم، فهذه فئة من الشباب خالفوا قومهم وشذوا عن منطق قومهم وما هم عليه، فذهبوا وأووا إلى غار فباتوا فيه مدة طويلة ثم بعد ذلك ماتوا، فماذا يعني ذلك؟ لقد أعلى الله شأنهم، وأثنى عليهم، وشهد لهم بالإيمان وزيادة الهدى. فهكذا الإيمان والصلة بالله عز وجل، إنها تتجاوز كل الاعتبارات التي يعليها الناس اليوم من الجاه والنسب والمال وسائر المطامع التي يسعى إليها الناس، تتجاوز ذلك كله لتبقى هي الرصيد الذي لا يزول ولا يفنى.

لمز المشركين الذين لم يؤمنوا

لمز المشركين الذين لم يؤمنوا درس آخر ووقفة أخرى: الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، بدأ بهذا المعنى، وهذا فيه إشارة وإيماء ولمز بالمشركين الذين لم يؤمنوا، وجاءوا يتساءلون عن شأن أهل الكهف: ما شأنهم؟ حدثنا عن فتية كانوا في غابر الزمان، فجاءت أول إشارة لهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]، وأنتم ما شأنكم وقد كفرتم بربكم؟

الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق

الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق وقفة أخرى: الله عز وجل قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وهي قضية مهمة كثيراً ما يشير إليها القرآن، وقد نغفل عنها، وهي أن الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق، يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4]، وفي قراءة: (قاتلوا في سبيل الله)، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. إذاً: أيها الإخوة، فالهداية والتوفيق من الله عز وجل لها أسباب، ومن أعظم أسباب الهداية والتوفيق: اجتهاد المرء في العمل الصالح والإيمان وتقوى الله تبارك وتعالى؛ فقال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].

قلوب العباد بيد الله

قلوب العباد بيد الله أيضاً: معنى آخر نحن أحوج ما نكون إليه اليوم في هذا العصر الذي أصبحنا نرى الناس يتهاوون صرعى على جنبات الطريق ذات اليمين وذات الشمال ويكيدون ويضلون عافانا الله وإياكم، والحديث اليوم الذي يسيطر على كثير من الشباب الصالحين الأخيار هو السؤال عن الثبات والهداية، وتأتي الإجابة هنا: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14]. فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، والأمر أولاً وآخراً بيد الله تبارك وتعالى مقلب القلوب، فالثبات بإذن الله والتوفيق والربط على القلوب إنما هو بيد الله عز وجل، وقد جعل الله تبارك وتعالى لذلك أسباباً، فحين يشعر الشاب اليوم أن الفتن قد بدأت تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، ويشعر بالخطر والخوف على إيمانه فعليه أن يدرك أن الله عز وجل هو الذي يربط على قلوب المؤمنين الصادقين حين يفعلون السبب: آمنوا بالله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم إذ قاموا فقالوا، قالوها صريحة: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:14 - 15]. فلا يخشى الشاب حين يؤمن بالله ويصدق مع الله عز وجل، بل يوقن بأن الله عز وجل سيثبته ويعينه ويربط على قلبه.

دعوة التوحيد هي دعوة جميع الأنبياء

دعوة التوحيد هي دعوة جميع الأنبياء وقفة أخرى أيضاً: يقول الله عز وجل عنهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]. فذكر هؤلاء توحيد الربوبية والألوهية: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] إنها دعوة واحدة وهي دعوة جميع الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وما أرسل الله عز وجل من رسول إلا أوحى إليه تبارك وتعالى بهذه الكلمة؛ أوحى إليه: إني لا إله إلا أنا فاعبدون، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات). فقضية التوحيد هي قضية الأنبياء، هي قضية الأنبياء منذ آدم ونوح وهود وصالح، فكل هؤلاء ومن تلاهم ومن لم يقص الله علينا شأنهم كانت مقولتهم لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ} [الأعراف:59]، وهي أيضاً مقولة أهل الكهف الذين آمنوا بالله وزادهم هدى. والتوحيد الذي يأخذ هذا القدر وهذه القيمة هو التوحيد بمفهومه الواسع، لا بالمفهوم الضيق الذي يحصره كثير من الناس في قضايا معرفية بحتة، إن كثيراً من المسلمين اليوم يشعرون أنه من الخلل بالتوحيد أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، أو أن يقول: لولا الله وفلان، ونعم، هذه أمور ينبغي أن يحذر منها الناس، وأبواب الشرك الأصغر والأكبر ينبغي أن يحذر منها الناس ويعوها، لكن أولئك الذين يحذرون من قول: ما شاء الله وشئت قد يقول أحدهم في الثناء على مخلوق بلسان الحال لا بلسان المقال: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار إن أهل التوحيد لا يليق أبداً أن يكون في قلوبهم تعظيم لغير الله عز وجل، إن أهل التوحيد لا ينبغي أن تمتلئ قلوبهم إلا بالتوجسه لله تبارك وتعالى، وأولئك الذين تعلقوا بالدنيا وتعلقوا بالشهوات وصارت هي الحاكم الأول لكل ما يريدون، أولئك الذين صارت الدنيا هي كل شيء لديهم ينبغي أن يراجعوا توحيدهم، إنهم لو عظموا الله ووحدوا الله عز وجل وامتلأت قلوبهم بتوحيد الله تبارك وتعالى وتعظيمه لما تجرءوا على ذلك. وأولئك الذين يتجرءون على شرع الله عز وجل فيحرم الله أمراً تحريماً صريحاً واضحاً فيتجرأ أولئك على إباحته على رءوس الأشهاد، أولئك ما قدروا الله حق قدره، وما وحدوا الله عز وجل حق توحيده، وأولئك الذين يتجرءون على مقام الألوهية فيشرعون ما لم يأذن به الله، أولئك قد طعنوا في توحيدهم، وقد جعل الله عز وجل هاتين القضيتين قرينتان: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقضية العبادة لا يتقرب بها المسلم إلا إلى الله عز وجل، وكما أنه لا يصلى ولا يسجد إلا لله عز وجل فلا يحكم إلا شرع الله تبارك وتعالى، والفصل بينهما خلل في قضية التوحيد، إذاً فكانت قضية التوحيد هي قضية هؤلاء.

عظم شأن الدعاء في التوحيد

عظم شأن الدعاء في التوحيد جانب آخر أيضاً له أهميته: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، وهو عظم شأن الدعاء في التوحيد، وقد سماه الله عز وجل عبادة، فإبراهيم عليه السلام يقول: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48 - 49]، فسماه الله عز وجل عبادة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لماذا كان الدعاء هو العبادة؟ ولماذا صار الدعاء قرين التوحيد؟ و A إن الدعاء يعني توجه القلب لهذا الذي يدعوه المرء، فحين يدعو المرء غير الله فهذا يعني: أنه يرجو غير الله، يعني: أنه يعظم غير الله عز وجل، يعني: أنه يشعر أن قضيته بيد فلان أو فلان، أما أولئك الذين يخلصون دعاءهم لله تبارك وتعالى فأولئك لا يرون لبشر عليهم فضلاً، ولا يرون لبشر عليهم منة، ولا يرجون من بشر نوالاً، ولا يخافون من بشر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

أهمية الدليل والبرهان

أهمية الدليل والبرهان جانب آخر ووقفة أخرى: يقول هؤلاء: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائماً أن يحكم ما نقوله في كل قضية، والحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة أولئك يفرون من منطق الحجة والبرهان، ولا يخشى الدليل ولا الحجة ولا البرهان ولا الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون، ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم ودعوتهم، أما أهل الحق فلا يخشون من ذلك، بل إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرءوا على الشرك فقال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في القرآن إلا في موضع الذم والنهي، بل جاء التشبيه البليغ لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق فقال الله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:171]، كمثل الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها، فالغنم تسمع صوت الراعي لكن لا تفقه ما يقول، تسمع دعاء ونداء يدعوها فتسير وراءه وتمشي وراءه، ولا يسوغ أبداً أن نتربى على أن نكون قطيعاً نسير وراء كل ناعق، وأن تتربى الأمة على أن تكون قطيعاً ينعق لها هنا وهناك فتسير، فالأمة رباها القرآن على: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، والذي عنده برهان وسلطان يمكن أن يطرحه، ويقول: هذا ما عندي، وأنتم: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4]، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، هذا هو المنطق الذي ينبغي أن يسود في دعوتنا، ينبغي أن يسود في تربيتنا، ينبغي أن تتربى عليه الأمة حتى تكون أمة مستقلة واعية، هل من مصلحة الأمة أن تكون أمة يغيب عنها الوعي؟ أن تكون أمة مغفلة؟ أن تكون كالقطيع؟ إذا كنا كذلك فنحن نريد أن تكون الأمة (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء)، وما وصف الله عز وجل الأمة بأنها قطيع يسير وراء من ينعق به ويدعوه.

الصلة بالله تعالى

الصلة بالله تعالى من الجوانب المهمة التي تبدو في هذه القصة: الصلة بالله عز وجل، وهي قضية ينبغي ألا تفارق المسلم، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:13 - 15] ثم قال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، اعتزلوا أقوامهم ولجئوا إلى الله تبارك وتعالى، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، فلجوؤهم إلى الله عز وجل واعتصامهم بالله تبارك وتعالى أمر مهم ينبغي ألا نفتقده في أي موطن وفي أي حال، وهاهو هذا الدرس نتلقاه في قصة موسى في سورة القصص، فلما جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى قال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:20 - 22]، ثم لما أوى إلى الظل قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وهكذا الله عز وجل حين ذكر طائفة من أخبار الأنبياء في سورة الأنبياء قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. فينبغي أيها الإخوة ألا نفتقد هذه القضية في كل موطن وفي كل حين، والمؤمن الموصول بالله يجد الطمأنينة والسكينة في كل ما يواجهه، حينما أمر الله عز وجل موسى أن يذهب إلى فرعون: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:45 - 46].

الثبات وأسبابه

الثبات وأسبابه جانب آخر: وهي قضية مهمة ترتبط بالثبات يجب نعيها، فالله عز وجل أخبر أنه ربط على قلوب هؤلاء وثبتهم وأعانهم ووفقهم، وذلك لأنهم بذلوا السبب فآمنوا بالله، ثم لما رأوا أن بقاءهم مع قومهم قد يكون سبباً لفتنتهم تركوا قومهم وأووا إلى الكهف: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، ثم حين بعثوا أحدهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:19 - 20]. إذاً: فالمسلم حتى يثبته الله يحتاج إلى أن يبذل الأسباب، وأن يجتهد فيبتعد عن مواقع الفتنة ويحذر منها ويتجنبها، ثم يكل أمره إلى الله فيثبته الله عز وجل حينئذ، أما الذي يرمي نفسه في اليم ويسأل الله الثبات فهذا لم يفعل السبب الذي يستحق من أجله أن يوفق وأن يعان.

حفظ الله لأوليائه والسنن التي يجري ذلك وفقها

حفظ الله لأوليائه والسنن التي يجري ذلك وفقها جانب آخر عجيب في هذه القصة: حين ذهب هؤلاء وغادروا قومهم فرأوا كهفاً فقال: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:17 - 18]. لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة: أولاً: أن جاءوا إلى هذا الكهف، فالشمس إذا طلعت تزاور عنه ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، فاختير لهم من هذا الموطن وهذا الكهف الذي لا تدخله الشمس حينما تطلع أو حينما تغرب، ولهذا ذهب بعض المفسرين إلى أنه إلى جهة الشمال، فاختار الله لهم هذا الكهف. ثانياً: أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]. ثالثاً: ألقي عليهم الرعب والمهابة بحيث لو رآهم أحد فر منهم. إنه حفظ الله لأوليائه، وفيه عبر: أولاً: أن الله حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يظنون، فأمر الله فوق ما يفكر فيه البشر ويدور فيه البشر، حينما جاء هؤلاء الفتية أرادوا أن يختفوا وأن يستريحوا وأن يناموا، ربما ناموا تحت شجرة، أو في كهف إلى جهة المشرق، أو في كهف إلى جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أنهم سينامون هذه القرون وسينامون هذه السنين الطويلة، فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم، جاءوا فوجدوا هذا الكهف وأووا إليه، لكن الله اختار لهم هذا الكهف، إذاً فأمر الله وإرادة الله فوق ما يتصور الإنسان، والله عز وجل يحفظ أولياءه وعباده من حيث لا يحتسبون من حيث لا يظنون والعاقبة أمرها إلى الله عز وجل. أمر آخر أيضاً حول حفظ الله لأوليائه: سنة الله تبارك وتعالى أن الله يجري أسباباً عادية، إن الله عز وجل كان من الممكن أن يحفظهم، وقدرة الله عجيبة، بل هذا الحدث فيه قدرة عجيبة أن يبقى هؤلاء نائمين ثلاثمائة سنة، لكن الله عز وجل كان يمكن أن يحفظهم وهم قد ناموا تحت شجرة، أو ناموا تحت كهف إلى جهة المشرق أو إلى جهة المغرب، ويمكن أن يحفظهم الله عز وجل ويحميهم، لكن سنة الله عز وجل أن يسيروا وفق أسباب طبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك. وهذا فيه تربية للأمة؛ لأن حينما يكون هناك جيل يتعلق بالخوارق يبقى جيلاً غير عملي فلا يحمل المسئولية، ويجب أن نحذر من هذا في تربيتنا اليوم للحيل الذي يراد منه حمل الرسالة حينما نقول له: إن الله سينصر دينه وسيتم كلمته، فإن هذا حق وأمر الله فوق كل شيء، لكن يجب أيضاً أن نقول لهؤلاء: إن النصر والتمكين لا يكون إلا على أعتاب التضحيات والبذل والجهد، فهذه سنة الله عز وجل. ففي قصة مريم حينما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة أوحى الله عز وجل إليها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] يقول بعض المفسرين: النخلة لو هززتها ما أسقطت تمرة، هل يستطيع أحد أن يهز جذع النخلة فتسقط عليه من الرطب فضلاً عن امرأة تعيش حالة نفسية صعبة وهي لا تزال في ساعة الولادة فتؤمر بهز النخلة، أعني أننا قد لا نتصور أن هزها لجذع النخلة هو الذي سيساقط عليها الرطب، لكن سيسقط عليها الرطب وتهز لتربي الناس على بذل الجهد والسبب. خذ مثالاً أوضح في قصة أصحاب الأخدود حين جاء الغلام ورأى الناس قد وقفوا وراء دابة قد سدت الطريق، فدعا الله عز وجل فقال: اللهم إن كان دين الراهب أحب إليك من دين الساحر فاقتل هذه الدابة على يدي وأخذ حجراً فرماها به فقتلها، والحجر لا يقتل الدابة وإلا فالناس ليسوا عاجزين حتى يأتي هذا الغلام ليرميها بحجر، إنما كانت آية، فهل تعيش الأمة اليوم هذا المعنى؟ وهل نشعر أن من مسئوليتنا أن نبذل الأسباب في كل شيء ونجتهد، وانظر إليهم كيف بذلوا السبب، وسنأتي إلى قضية أخرى في ختام الحديث أيضاً تشير إلى هذا المعنى وأن هذه الروح كانت موجودة عندهم. إذاً: فسنة الله عز وجل أن يحفظ أولياءه من حيث قد لا يحتسبون، وأن يجري ذلك وفق سنن طبيعية ثم قد تأتي خوارق. وأمر آخر: الله عز وجل قال في أول هذه الآيات: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، ليست هذه أعجب آيات الله

الصحبة الصالحة والحاجة إليها

الصحبة الصالحة والحاجة إليها من الجوانب المهمة والدروس المهمة أيضاً في هذه القصة: أثر الصحبة الصالحة وارتباطها بقضية الثبات، والحاجة الملحة إليها خاصة في أوقات الفتن والمحن، أو في الأوقات التي يزيد فيها الفساد فأحوج ما يكون المرء إلى هذه الصحبة، فجاء هؤلاء فتية واجتمعوا وتعاونوا ولهذا صار يوصي بعضهم بعضاً ويعين بعضهم بعضاً على الحق، بل إن بعض المفسرين ذكر لطيفة وليست هي أكبر قضية في شأن الصحبة الصالحة، لكن قال: هذا الكلب صاحبهم فجاء ذكره في القرآن وصار المفسرون يتحدثون عن اسم هذا الكلب وعن شأنه وعن خبره فيقولون: إذا كانت الصحبة الصالحة قد انتفع بها الكلب فأن ينتفع بها المخلوق من باب أولى، لكن أكثر من ذلك دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر: (فيصعدون إلى ربهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك. قال: فماذا يسألونني؟ ومم يستجيروني؟) إلى آخر الحديث وفيه: فلما قال الله عز وجل: (أشهدكم إني قد غفرت لكم) قالوا: فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة يعني أنه ما جاء حتى مجاملة ولكن جاء يريد حاجة، يمكن أنه أتى يبحث عن أحد الموجودين فرآهم في المجلس فما أراد أن يقطع عليهم الحديث فجلس فقال الله عز وجل: (هم قوم لا يشقى بهم جليس) إذا كان هذا يا أخي فما بالك بالذي لرغبة وإن كان خطاء أو مقصراً؛ لكن جاء لرغبة وجاء يقول: لعل الله عز وجل أن يرزقني البركة في مصاحبة الصالحين، وأن يجعلني ممن أحب قوماً ولما يلحق بهم، فالله عز وجل يحشر المرء مع من أحب. أيضاً الحاجة إلى التعاون على الثبات والخير والتلاقي، وكلما أصبحنا نشعر اليوم أن الفتن أصبحت تهدد المسلمين ينبغي أن يدعونا هذا إلى أن نتكاتف جميعاً وأن نتواصى بالحق وأن نتناصح وأن نتعاون على الثبات، وألا يهمل بعضنا بعضاً، وألا يدع بعضنا بعضاً، بل يأخذ كل منا بيد أخيه ليعينه ويثبته ويسدده على هذا الطريق. جانب آخر أيضاً: حينما استيقظ هؤلاء تساءلوا: قالوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19]. لما استيقظوا بدر إلى الذهن سؤال طبيعي وكأنهم استطالوا النوم فقالوا: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، ثم قالوا بعد ذلك: ربكم أعلم بما لبثتم، يعني: النقاش في الموضوع ليس بعمل، والنقاش في الموضوع ليس هو المرام، فننا الآن أمام قضية يجب أن نعالجها ونعتني بها وهي أنهم يحتاجون إلى الطعام فليذهب أحدهم إلى المدينة وليختر الطعام ليأتي به، وهي قضية مهمة فيما نملأ به مجالسنا وفي أدب النقاش والحوار والجدل، فأحياناً القضايا التي ليست ذات بال قد تثار للنقاش وقد تطرح سؤالاً نجيب عليه هنا وهناك، لكن لا ينبغي أن تملأ مجالسنا، بل يأتي التعقيب على هذه القصة بهذا المعنى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]. والعجب أن هذه الآيات تؤكد على هذا المعنى، والسورة كلها تؤكد على هذا المعنى، أي: على عدم الجدل فيما لا يفيد، إلا أنك تجد بعض المفسرين يستطرد في كلام كثير فيذكر أسماءهم واسم الكلب والغار وغير ذلك. والله عز وجل ما أنزل علينا هذه الآيات لهذا، ولكن لنعتبر ونتعظ ونأخذ ما فيها، والقضية لا تختلف سواء كان الكهف في أسبانيا أو في الهند أو هنا أو هناك، ولو كان في الأمر قضية نحتاج إليها لما أهملها القرآن ولذكرها القرآن. أيضاً من اللطائف التي نشير إليها أنهم قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] يعني: يختار طعاماً طيباً مناسباً، قال بعض المفسرين: إن اختيار الإنسان للطعام الطيب والحسن أمر لا يخالف المشروع، وذكر الله عز وجل ذلك وهو يثني عليهم، فلا حرج أن الإنسان يختار طعاماً طيباً وإن كان يجد ما هو دونه في غير سرف ولا ما إلى ذلك. جانب آخر أيضاً في هذه القصة: قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19] وهذا يعني: أنه كان عندهم ورق وعندهم نقود، ثم قالوا: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:19]، وهذا استنبط منه بعض المفسرين أنهم كانوا أثرياء وأبناء طبقة ثرية وكان معهم ورق ولذا اختاروا طعاماً طيباً، والطعام الطيب لا تختاره إلا فئة اعتادت عليه وألفته، وليسوا من الطبقة الفقي

الحث على التحرز والبعد عن مواطن الفتن

الحث على التحرز والبعد عن مواطن الفتن من الجوانب والدروس: هؤلاء حينما استيقظوا وأرسلوا أحدهم، قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] ينتبه ويحذر ويكون إنساناً فطناً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]. وأشار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى جزء من هذا المعنى قال: ومنها -يعني من فوائد هذه القصة- الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواطن الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين. أقول: هنا جوانب مهمة، وهي أولاً: أن المسلم ينبغي أن يفر من الفتن ويبتعد عنها وينأى عنها، فإذا جاءت صبر وثبت، وهنا يقع الخلط، إما أن يغلب الإنسان الثبات والنظر إلى الأجر الذي يترتب على الثبات على الفتنة والابتلاء فيبحث عن الفتنة ويسعى إليها، وهذا غير مشروع، ودليل على ثقة الإنسان بنفسه، وقد يكون سبباً في أن يوكل الإنسان إلى نفسه وإذا وكل الإنسان إلى نفسه ضاع وتاه، ولهذا فمن المهم أن يبتعد عن الفتن ويحذر منها بالوسائل المشروعة، فإذا جاءت ثبت. في قصة أصحاب الأخدود لما جاء الغلام قال: إني رأيت دابة سدت على الناس الطريق وقتلتها فذهب الناس، فقال الراهب: أي بني! قد غدوت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي! أخذ الموقف حين رأى أن الغلام أفضل منه فشعر أن من سنة الله أنه سيبتلى، ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقال له ما قال، قال: (ليتني حياً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، فأي رجل يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يواجه وغيره، لكن ما هو الحل؟ الثبات والفرار من الفتن، فالراهب ماذا قال للغلام؟ قال: إن ابتليت فلا تدل علي، لكن لما عذب الغلام وما أطاق ودل على الراهب ثبت الراهب فما ترك دينه وما تخلى عن دينه. أيضاً: الفرار من الفتن لا يدعو المرء إلى أن يرتكب ما حرم الله، أو أن يدع ما أوجب الله عليه بحجة الفرار من الفتن، فالميزان هو ميزان الشرع، ولهذا فالنظرة المتكاملة لهذه القضية تمنع الإنسان من الشطط هنا أو هناك، يعني: من الغلو في النظرة إلى الجانب الآخر وثقته وإفراطه بنفسه، أو من الغلو في مسألة الفرار من الفتن؛ فيرتكب الحرام ويدع ما لا يسوغ له أن يدعه بحجة الفرار من الفتن، والثبات بيد الله، تركت أم فعلت، فسلم أمرك لله عز وجل يوفقك الله ويعينك تبارك وتعالى. أيضاً: في هذه القصة الحرص على الدين والشح بالدين، ولهذا جعل الحافظ البيهقي من شعب الإيمان: الشح في الإيمان بالدين، وهنا قال: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، حرصهم على دينهم وشحهم بدينهم جعلهم يفرون من قومهم، ثم يأوون إلى الكهف، ثم أرسلوا واحداً فقط ما أرسلوا اثنين أو ثلاثة، فذلك أسهل للتخفي، ثم حذروه: تلطف؛ لأننا إذا عدنا إلى قومنا صرفونا وصدونا عن ديننا. فينبغي أن يشح المسلم بدينه، وأن يكون حريصاً عليه، وليست القضية أن نأخذ هذه الصورة القريبة ونجعلها هي القاعدة، بل نأخذها على مدى أوسع، يعني: إذا كان هؤلاء يأتيهم الخطر على دينهم من جهة أن يظفر بهم قومهم المشركون فيصدونهم عن دينهم، فغيرهم من الفتية والشباب الذين لهم أسوة في هؤلاء قد يكون الخطر عليهم من أن ينظر أحدهم إلى صور عارية أو إلى مجال أو ميدان فيه سفور وتبرج أو إلى أي فتنة أخرى. فلا بد أن يكون المسلم شحيحاً بدينه، وفاراً من الفتن وحريصاً على دينه، وهذا من أسباب توفيق الله عز وجل وتثبيته.

العواقب أمرها إلى الله

العواقب أمرها إلى الله من العبر المهمة أيضاً: أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، وكانوا يشعرون هم أن فطنة قومهم إليهم وظهورهم عليهم أمر لا يخدمهم وليس في مصلحتهم، لكن ما الذي حصل؟ ظهر قومهم عليهم واطلعوا عليهم: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] فأعثر الله عز وجل عليهم، وقد كانوا يتصورون أنه حين يعثر عليهم قومهم أن هذا لا يخدمهم، وأنهم إما أن يرجموهم أو يعيدوهم في ملتهم، وهذه فيها درس وعبرة عظيمة، وهي أن العواقب لا يعلمها إلا الله، فالمسلم مأمور أن يأخذ الأسباب ويتعامل مع الأشياء الظاهرة الواضحة أمامه، ثم يكل الأمر إلى الله، فالأمر الذي تحذر منه قد يكون فيه الخير، وإليكم مثالين من السيرة: في حادثة الهجرة لما جاء سراقة ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: رأيت هاهنا أسودة فلعله محمد ومن معه؟ قال سراقة: إنهم بنو فلان خرجوا يتعقبون بعيراً لهم، واستقسم بالأزلام، فخرج أن لا يضرهم، واستقسم أخرى فخرج أن لا يضرهم، فهو يستقسم بالأزلام، لكن مع ذلك يخالفها فعنده ازدواجية إلى الآن، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله هذا سراقة، النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً مطمئن البال، فلما لحق بهم سراقة وصار من شأنه ما صار، قال الراوي في آخر القصة: فكان أول النهار جاهداً عليهما، وآخر النهار حارساً لهما. إذاً: ربما ونحن نعيش القصة، يعني: الإنسان يقرأ القصة لأول مرة وتفاعل معها في عواطف، يتمنى أن سراقة يموت ما يلحق بهم، لكن الأمر وراءه أمر آخر، كان من مصلحتهم أن يلحق بهم سراقة، سراقة الذي كان يطلبهم ويبحث عنهم لما لحق بهم صار آخر النهار حارساً لهما، يا أخي القضاء والقدر أمر عند الله ما هو عندك ولا عند فلان ولا غيره ولا بيد هؤلاء وغيرهم. نموذج آخر: في صلح الحديبية كان من الشروط: أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المستضعفين فعليه أن يرده، وهذا كان صعباً على المسلمين وزاد الصعوبة أنه موقف قدره الله، موقف يثير عواطف الناس، يأتي أبو جندل يرسف في قيوده فيلقي بنفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه، فأعاده إليهم، فصاح بالمسلمين: يا معشر المسلمين! تردونني للمشركين ليفتنوني في ديني، ولهذا ما أطاق عمر رضي الله عنه الصبر على هذا، والمسلمون أصبحت عواطفهم مع هؤلاء المستضعفين، فيعاد أبو جندل رضي الله عنه إلى قومه، ثم يأتي أبو بصير ويفر من المشركين ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأتون ليطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على الشروط فيرسله، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم رسالة يفهمها أبو بصير: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، ومضى أبو بصير وقتل صاحبه، ثم هرب إلى العيص، فلحق به أبو جندل ولحقه سائر المستضعفين. فلهذا الشرط هو الذي جعل أبا بصير يفر إلى ذاك المكان، ويعلن الحرب؛ لأنه غير داخل تحت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنهى ما عليه، وليس على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطارد أبا بصير ويقبض عليه ويعطيه للمشركين. فجاء أبو جندل وسائر المستضعفين وانضموا إلى أبي بصير، فصار هذا الشرط من مصلحة المستضعفين أنفسهم، بعد أن كان الصحابة والمشركون يظنون أنه ليس من مصلحة المستضعفين، حتى تأتي قريش وترجو من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن هذا الشرط، ولذا فالعواقب لا يعلمها إلا الله. مثال ثالث: في قصة عائشة رضي الله عنها حينما قذفت رضي الله عنها بالفرية العظيمة، ففي بادئ الأمر ما كان يمكن أن تظن عائشة أن هذا خير لها، هل كان أحد يظن أن عائشة كان خيراً لها أن تقذف بالزنا؟ فبقيت عائشة رضي الله عنها شهراً كاملاً، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم كذلك حتى تجرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله). ثم ينزل الوحي ببراءتها فتقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآن يتلى، وكنت أرجو أن يري الله نبيه رؤيا تنزل فيها براءتي، فتلك الفرية التي جاءت لـ عائشة كانت سبباً في أن ينزل فيها آيات من ك

تذكر قيام الساعة

تذكر قيام الساعة أختم بهذه العبرة: ولأنهم حينما استيقظوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] وهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً كما قال الله عز وجل، والله عز وجل ربط هذا الموقف بالساعة، فقال: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ولهذا قال بعض المفسرين: إن حال هؤلاء يشبه حال الناس حينما يقومون لرب العالمين: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45]، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113]، إذاً: فالدنيا كلها بما فيها ستتحول يوم القيامة إلى ساعة من نهار، وستتحول إلى يوم أو بعض يوم كما حصل تماماً لأهل الكهف؛ حين استيقظوا صارت الثلاثة القرون كيوم أو بعض يوم. هذه بعض الوقفات، وهي كما قلت ليس تفسيراً لهذه السورة ولا لهذه الآيات، إنما هي إشارات وعبر وكلما قرأنا هذه الآيات ووقفنا عندها سنرى أنا نستنبط منها دروساً وعبراً أعجب وأعظم مما يبدو لنا، وهذه من عجائب القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، ولا يمل منه الإنسان، وكل يوم يتدبر فيه ويقف عنده يستنبط أموراً وفوائد جديدة لم يكن استنبطها من قبل، وهذا كلام الله عز وجل لا يمكن أن يقاس بكلام خلقه. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم إنه سميع مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

المفهوم الأوسع للتشبه

المفهوم الأوسع للتشبه Q طرقتم قضية التشبه والتقليد، ألا ترى أننا قد نهتم أحياناً بقضايا التقليد الظاهرة كاللباس والمظهر والكلام، ولكننا قد نغفل أحياناً عن قضايا التشبه بأمور أعظم دون أن نشعر، نرجو تعليقكم على ذلك مأجورين؟ A قضية التقليد والتشبه أعم من أن تكون مجرد المظهر، كون الأمة تكون اهتماماتها مثل اهتمامات الكفار وقضايا تشغلها مثل قضايا الكفار أنا أتصور أن هذا لون وباب من أبواب التشبه بهؤلاء.

مكان وجود الكهف

مكان وجود الكهف Q يوجد كهف في الأردن يدعون أنه كهف أصحاب الرقيم، هل ثبت مكانه عند أهل العلم؟ A القاعدة في هذه القصص ألا يثبت منها إلا ما جاء في القرآن أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، والمرويات عن بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، ففيما أعرف أنه لم يثبت شيء صحيح في ذلك، ولو كان يترتب على مكانه وموقعه أمر ذو بال لأرشدنا الله عز وجل إليه، فما ترك الله عز وجل في كتابه خيراً لنا إلا ودلنا عليه.

هجرة أهل الكهف إلى الكهف

هجرة أهل الكهف إلى الكهف Q هل ذهاب الفتية إلى الكهف هو نوع من أنواع الهجرة أم لا؟ A هي هجرة وفرار من قومهم؛ لأنهم شعروا أنهم إذا بقوا عند قومهم سيفتنونهم ويصدونهم عن دين الله فخرجوا وهاجروا في سبيل الله عز وجل.

نصح الفتية أهل الكهف لقومهم بالتوحيد

نصح الفتية أهل الكهف لقومهم بالتوحيد Q هل هؤلاء الفتية تركوا قومهم ولم ينصحوا لهم بالتوحيد؟ A لا، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، ثم إذا كانوا ما نصحوا قومهم، فلماذا يرجمهم قومهم أو يعيدونهم في ملتهم؟ لماذا يواجههم قومهم؟ وهذه قضية مهمة أشير إليها عاجلاً، نقارن بين عداوة قريش اللدودة لدعوة التوحيد، وقد كان هناك مثلاً زيد بن عمرو بن نفيل وورقة وقس بن ساعدة وكانوا موحدين يجهرون بهذا الكلام عند قريش، وقريش ما كان عندهم مشكلة أبداً، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم تغيرت الصورة تماماً واختلفت القضية، يعني: هل ممكن أن نقول: أن الحنفاء استطاعوا أن يوحدوا الله وأن يدعوا إلى التوحيد من دون مشكلات؟ نعم هم فعلاً دعوا إلى ذلك بدون مشكلات، لكن المنهج الذي نتعبد به نحن منهج النبي صلى الله عليه وسلم لا منهج الحنفاء.

أهمية الصحبة الصالحة

أهمية الصحبة الصالحة Q وهذا كلام جميل أقرؤه وأكتفي به، والأخ طلب التعليق، يقول: لقد كان زيد رضي الله عنه يفخر على باقي الصحابة بأنه الوحيد الذي ذكره الله من فوق سابع سماء في القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، ونرى في سورة الكهف أن الله عز وجل قد ذكر الكلب في قصة هؤلاء الفتية الصالحين، ذكر القرطبي في تفسيره: أن الكلب نال هذه المنزلة العالية بأن يذكر في القرآن بسبب صحبته لأهل الصلاح والخير، انتهى، يقول: فكيف بمن هو فوق هذا الكلب بالمنزلة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] حين صحبته للصالحين، ونحن نسمع من يحذر من صحبة الصالحين ويلقي في طريق التائب الشبهات لكي يحول بينه وبين الصحبة الصالحة لكي يبقى في ضلالة، فهل من كلمة لأهمية الصحبة الصالحة في الثبات على دين الله في ضوء هذه الآيات؟ A التعليق الذي ذكره الأخ جميل ويكفي، وأنا أشير إلى قضية: أن الله عز وجل بعد أن ختم هذه الآيات، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بأن يصبر نفسه مع هؤلاء فغيره من باب أولى.

الحكمة من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

الحكمة من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة Q ما الحكمة من قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة؟ A الله أعلم، ونحن ذكرنا من دروس أهل الكهف أنه لا يشغل الإنسان نفسه بما لا يترتب عليه فائدة كبيرة، ممكن نتساءل إذا وجدنا نصاً معيناً يدل على هذا المعنى، وإلا فلا نشغل أنفسنا، لكن أخشى أننا ننشغل بالسؤال عن الحكمة منها أكثر مما نعتني بقراءتها.

كيفية معالجة السلوك الخاطئ

كيفية معالجة السلوك الخاطئ Q بصفتكم أصحاب تخصص وباع في التربية، فكيف يكون معالجة السلوكيات الخاطئة في البيت أو المدرسة أو المجتمع؟ وما الكتب الهامة في التربية عموماً وهذا المجال خصوصاً؟ A هذا سؤال عريض لا نستطيع أن نجيب عليه في هذا المقام، لكن أحياناً نقع في خطأ عند معالجة الخطأ نفسه، ومعالجة الخطأ أحياناً يترتب عليها ما هو أكبر منه، ومن ذلك مثلاً قصة الرجل الذي بال في المسجد، فلما جاء الصحابة يعالجون الخطأ نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، أحياناً يسيطر علينا الخطأ نفسه وضخامته مثلاً فلا نفكر بعاقبة، بعاقبة العلاج ولا بأسلوب العلاج، وهل ستكون خطوة ناجحة أم لا؟

علاج الفتور عند الشباب

علاج الفتور عند الشباب Q ما علاج الفتور الذي يرى ويشاهد في أوساط الشباب في هذا الوقت؟ وما نصيحتكم لهم بصورة سريعة ومختصرة؟ A هو اللجوء إلى الله عز وجل دائماً، وتلاوة كتابه، وذكر الله عز وجل، وإحياء القلب والقراءة في الرقائق وسير الصالحين والزهاد، هذه من أفضل الوسائل لعلاج هذا الأمر بإذن الله عز وجل. والاجتهاد في العبادة والإقبال على الله عز وجل، وكلما أدرك المرء قصوراً أو فتوراً أو تفريطاً في نفسه فليبادر إلى علاجه وحله قبل أن يستفحل؛ لأن القضية تبدو مجرد ضعف يسير ثم يتطور، فإذا تركه الإنسان دون علاج تطور واستفحل حتى يقضي عليه تماماً، مثل المرض أحياناً يبدأ بصورة يسيرة، ثم يتحول بعد ذلك إلى داء يستعصي على الأطباء علاجه.

اليائسون من انتصار الدين

اليائسون من انتصار الدين Q هناك من يعتقد أنه لم تعد هنالك مجالات مفتوحة للدعوة إلى الله ونصرة هذا الدين، ويوصي الإنسان أن يشتغل بنفسه فقط دون العناية بالدعوة؛ لأن الباطل قد ظهر وتمكن، فبماذا تنصح في هذا الموضوع؟ A هذا كما قال الإمام أحمد: إن كان هذا عقله فقد استراح، لأن من ذهب عقله فهو غير مكلف بالدعوة، فهذا منطق اليائسين، اقرءوا قصص الأنبياء وكيف كانوا مع أقوامهم، وكانت الأبواب مغلقة، ومع ذلك فإن أمر الله ودين الله فوق كل شيء. والله تعالى ما أنزل الدين علينا إلا ليظهره على الدين كله، ولم ينزل الدين ليكون مجرد وسيلة يتآمر عليها الأعداء، وليكون أولياء الله عز وجل ألعوبة في يد هؤلاء، لكن هي مراحل يبتلى فيها الناس، قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] وعد الله عز وجل لا يمكن أن يتخلف أبداً.

الفرار من الفتن بالوسائل المشروعة

الفرار من الفتن بالوسائل المشروعة Q بعد هذه المحاضرة القيمة والتي هي قريبة من الشباب قد يتحمس البعض فيسعى ليطبق هذه القصة، ويدور في باله إجراء مقارنة بين هذا المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه وتلك الظروف والبيئة، وبين ما نحن فيه فيأوي إلى كهف ويعتزل الناس، فنرجو منكم الإشارة إلى الفرق بين الاقتداء والتقليد الغير المنضبط ولو كان بالصالحين؟ A هذا سؤال مهم نبهني إلى قضية كنت أريد أن أشير إليها، وهي هل العبرة مثلاً في أهل الكهف أن الإنسان يبحث له عن كهف إلى ذات الشمال ويبقى فيه أم ما هي هذه العبرة؟ و A العبرة هي أن يفر الإنسان من الفتن بالأساليب والوسائل المشروعة، ولاحظ الآن أن هذا الأصل متفق عليه بين المؤمنين من أتباع الأنبياء كلهم أنهم يفرون من الفتن، لكن كيف يفرون؟ إذا كان الله عز وجل قد شرع لأولئك وسيلة فليس بالضرورة أن تكون هذه الوسيلة مشروعة؛ لكن الأصل واحد وهو أن يفر المسلم من الفتن، فحينما تقتدي بهم تقتدي بهم في الفرار من الفتن، في الثبات على الدين، بالوسيلة التي شرعها الله عز وجل لك.

الاجتهاد والجد في حفظ القرآن

الاجتهاد والجد في حفظ القرآن Q إنني شاب أقرأ القرآن الكريم كل يوم ولله الحمد والمنة وأحفظ وأجتهد فيه، ولكنني لا أحفظ سورة منه إلا بعد وقت طويل، فما الطريقة المناسبة لحفظ القرآن ومراجعته، وأسأل الله أن يثبتني وإخوتي على هذا الدين القويم؟ A هو يحتاج إلى جهد، يعني: دائماً أي شيء ثمين نسعى إليه لابد أن نبذل ثمناً يتناسب معه، حتى في مقاييس الدنيا من كان يريد أهدافاً طموحة لابد أن يضحي ويبذل، والله عز وجل أعلى منزلة حفظة القرآن وأهل القرآن فينبغي أن نسعى نحن إلى حفظ القرآن ونضحي ونبذل ونجتهد.

ماذا قدمت لإخوانك

ماذا قدمت لإخوانك Q نرجو توجيه سؤال لكل من حضر، ماذا قدم لإخوانه الذين لم يحضروا ولم يتذوقوا طعم السعادة وطريق الاستقامة؛ كل حسب استطاعته بصبره وحسن خلقه وابتسامته وإفشاء السلام وكثرة الخصال الحميدة التي لها الأثر في التأثير على هؤلاء، وفقكم الله؟ A السؤال الذي طرحه الأخ يكفي فينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.

الموازنة بين مدح الشباب الملتزم وتوجيهه لتدارك الخطأ

الموازنة بين مدح الشباب الملتزم وتوجيهه لتدارك الخطأ Q ألا ترى أننا نبالغ كثيراً في ذكر الشباب ومدحهم وإعطائهم فوق قدرهم حتى أنهم رضوا بهذا المدح والذكر عن طلب الرفعة والمنازل العالية وحمل هم الأمة، وها نحن نرى الواقع المرير اليوم في واقع الشباب، وخاصة شباب الصحوة من انتكاسات وضلال عن هذا الطريق، وشكراً؟ A لكن يا أخي أنت لماذا لا تنظر إلا إلى هذه النظرة؟ شباب الصحوة نضعهم في قفص الاتهام دائماً، وصحيح أحياناً تدعونا الرغبة في العلاج أخطاء والغيرة، لكن يا أخي الكريم هؤلاء شباب على الأقل يعيشون في عصر أين أقرانهم؟ الشاب الذي يحبس نفسه في المسجد يحفظ القرآن من دون ما يجبره أحد، بل أحياناً بعض الناس يصده وتجده يجاهد ويسعى ويحفظ القرآن ويصحب الصالحين ويجتهد ويضحي وكل يوم يجلس في المسجد ويذهب هنا وهناك يطلب العلم وأقرانه في الشوارع وراء الشهوات، في معاكسة النساء، ويفرح أحدهم إذا حظي بالخطيئة، ويرى أنه عيب حينما يتحدث مع زملائه يكون ليس له مغامرات يشيد بها أمام زملائه، فهذا واقع هؤلاء، أما أولئك الشباب فإذا وقع من أحدهم هفوة أو زلة شعر بأنه منافق وشعر بالخطأ، فشتان بين هذا وذاك، الشاب الذي انتصر هذا الانتصار، والذي استقام أصلاً على الدين في هذا العصر وهذه في حد ذاتها منقبة لا يسوغ أن نهملها، يعني: لماذا لا ينظر إلى زاوية أخرى؟ ما أريد التفصيل حول هذه النقطة وقد سبق الحديث حولها في محاضرة سابقة بعنوان: القابضون على الجمر، نرجو يا إخوان ألا يشغلنا النقد ولا يسيطر علينا فنسحق هؤلاء الشباب ونحولهم إلى ناس لا يملكون شيئاً، وأنهم هازلون وغير جادين وليس صحيحاً أنكم ملتزمون ولا إلى آخره. يا أخي شاب يستيقظ لصلاة الفجر وأهله لا يستيقظون للصلاة، هذا دليل على جانب الجدية، شاب حينما يقع في زملاؤه يفاخرون بالزنا والفساد واللواط، وقد يفتعل أحدهم مواقف غير صحيحة يفاخر زملاءه، وهو إذا وقعت منه هفوة أو زلة شعر بالمرارة والأسى والخوف من الله عز وجل، شتان بين الحالتين. شباب يعيشون هموم الشهوات والأهواء والرياضة، وهو يعيش هموماً عالية كبيرة، فهذا غير هذا، مع أن الملتزمين يواجهون سخرية واستهزاء، والأعداء من اليهود والنصارى وغيرهم وظفوا كل الجهود لحربهم، الفساد اليوم الذي في العالم الإسلامي ما المستهدف به إلا الشباب، فمجرد الثبات والاستقامة خير كبير، ولماذا نتهم الشاب الملتزم إذا كان لا يقوم الليل أو كان يقصر في الرواتب أو كان لماذا نضع عليه علامة استفهام، وأن هذا ليس بجاد في التزامه؟ نعم الخاصة من طلبة العلم والدعاة ينبغي أن يجتهدوا في النوافل؛ نبالغ فنصور أن هذا دليل على أنهم غير جادين؛ وأنه التزام فيه نظر ويحتاج إلى إعادة نظر، وأرجو أن نتوازن في نقدنا وطرحنا، يعني: أتاني طلب من إحدى الأخوات قالت: أريد أن تتحدث عن أخطاء الملتزمات، قلت: مع احترامي للاقتراح أنا لا أشعر أنا بحاجة أن نتحدث عن أخطاء الملتزمات، وأخشى أن يتحول الحديث من عندنا إلى إحباط فعلاً، وأن الناس غير جادين، أنا أشعر أننا بحاجة إلى أن نبعث الأمل، وبحاجة إلى أن نبرز الوجه الآخر.

سنة السلام والمصافحة عند دخول المجلس

سنة السلام والمصافحة عند دخول المجلس Q إذا دخل الإنسان المجلس هل يسلم أو يصافح؟ A السلام سنة والمصافحة سنة، إذا تيسر أن يصافحهم، لكن أحياناً يكون في المجلس ناس كثر أو مشغولون بحديث ولا يريد أن يقطع عليهم حديثهم فيكتفي بالسلام والأمر فيه واسع.

من صفات المربي

من صفات المربي التربية للأحداث حتى يصلوا إلى النضج والهداية والاستقامة مسئولية ملقاة على عواتق المكلفين بها من الآباء والأمهات والمعلمين ونحوهم، ولها أهمية بالغة يكشف عنها حجم الخلل الذي تعيشه الأمة اليوم، ولا تعني التربية المنشودة القيام بأدوار قصة هزيلة يظن فاعلوها أنهم أسقطوا بها ما وجب عليهم في هذا الميدان، بل هي عملية تتوقف على جملة من العوامل في نجاحها، ومن أهمها وآكدها معرفة صفات المربي وتحقق القدر الأكبر منها فيمن يتولى هذه القضية العظيمة.

أهمية التربية

أهمية التربية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فقد كنا برهة من الزمن نخاطب الآباء والأمهات، ومن ولاهم الله تربية الجيل، نخاطبهم بمسئولية التربية، ونحدثهم عن أهمية التربية والعناية بها، ونحذرهم من خطورة التساهل والتهاون بهذه المسئولية، وما نزال نحتاج إلى هذا التذكير، وما يزال المؤمن يحتاج إلى أن يذكر ويوصى، ولقد أدرك اليوم الجميع وهم يرون النتائج المرة لإهمال التربية وعدم العناية بها أن قضية التربية قضية ملحة، وأدرك الجميع أن الكثير من مظاهر الفساد والانحراف والخلل في الأمة في دينها وعبادتها لله تبارك وتعالى، وفي تأخرها في أمور دنياها، وكونها في قافلة الركب، أدرك الجميع أن هذا التأخر والتخلف ليس إلا مظهراً من مظاهر إهمال التربية. ومن ثم شعرنا بأننا نحتاج إلى حديث آخر، وأننا ينبغي لنا أن نتجاوز الحديث عن أهمية التربية وضرورة التربية، لا لأنه ليس حديثاً مهماً، بل لأن أولئك الذين لم يستفيقوا إلى الآن، ولم يدركوا أهمية التربية بعد ليسوا مؤهلين للتربية فعلاً، وهم يرون النتائج اليوم ماثلة أمام أعينهم. أننا نسمع الشكوى كثيراً أيها الإخوة، نسمع الشكوى من الآباء، ونسمع الشكوى من المعلمين، ونسمع الشكوى من الصغير والكبير من مشكلات كثيرة نعاني منها من جيلنا، ويشعر الجميع أن هذه المشكلات إنما هي إفراز لسوء التربية وإهمال التربية، ويتداعى الجميع إلى ضرورة العناية بالتربية، ودورها في إصلاح الناشئة، وفي تعبيدهم لله تبارك وتعالى، وتحقيق الغاية التي من أجلها خلقوا، وهي العبودية لله تبارك وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. لكن هل نتصور -أيها الإخوة- أن التربية التي تعنى بإعداد هذا الإنسان بنفسيته المعقدة، وطبيعته، والعوامل والمتغيرات التي تؤثر في شخصيته، هل نتصور أن هذه التربية يمكن أن يقوم بها الإنسان بخبراته الشخصية، وتجاربه الشخصية، أو بما ورثه وتلقاه عن آبائه وأجداده، فيتصور أن تلك التربية التي كان يتلقاها في محيط أسرته، أو من آبائه وأجداده هي التربية المثالية، وحين يناقش في هذا الأسلوب أو ذاك يفاجئك بعيداً عن المنطق، وبعيداً عن الحجة والبرهان بأنه: هكذا تربى؟!

ضرورة معرفة صفات المربي

ضرورة معرفة صفات المربي أقول: إن التربية التي ننشدها ينبغي أن يكون لمن يقوم بها مواصفات وقدرات، فينبغي أن نفكر كثيراً، وأن نراجع أنفسنا، ونراجع أساليبنا في التربية، ونحن نرى وندرك الأخطاء يوماً بعد يوم، التي نرى أنها نتيجة للخلل في التربية وسوء التربية. إن التعرف -أيها الإخوة- على صفات المربي ضروري؛ لنختار من يقوم بالتربية، فحين نريد اختيار فرد ليقوم ويتولى مسئولية التربية، وحين نريد أن نختار معلماً، أو نختار معلمة، أو نختار موجهاً يتصدى لتربية الناشئة وإعدادهم؛ ينبغي أن نتساءل كثيراً: ما الصفات التي تؤهله ليقوم بهذه المهمة، وليؤدي هذا الدور؟ إن الناس اعتادوا في وظائفهم في أمور دنياهم أن يطرحوا شروطاً ومواصفات لمن يتصدى لأي عمل وأي مهمة، فما بالنا بمن يتصدى لأكبر مهمة ووظيفة؟! إنها -لا شك- مهمة الرسل، فلقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أمته يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنها وظيفة الأنبياء والمصلحين. ومن ثم فنحن حين نختار من يتولى التربية ينبغي أن تكون لدينا معايير واضحة، وصفات محددة؛ لنرى هل تنطبق على هذا الشخص أم لا؟ أما حين تكون التربية ويكون التعليم وظيفة من لا وظيفة له، ومهنة من لا مهنة له؛ فهذا احتقار لشأن التربية، وهذا إيذان بإخراج جيل يعاني من المتناقضات، ويعيش في فوضى لا أول لها ولا آخر. ثم إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي؛ وينبغي أن نكون كلنا كذلك، سواء أكنا آباء أم معلمين، أم كنا موجهين للناس هنا وهناك، فإننا نقوم بالتربية. إننا -ونحن نقوم بالتربية- نشعر -ويجب أن نشعر- بالمسئولية العظيمة، والأمانة الملقاة على عواتقنا، هذه المسئولية -أيها الإخوة- لا تنتهي عند حد شعور الإنسان بالتبعة، بل لابد أن يسعى إلى إتقان العمل؛ فالله تبارك وتعالى أمرنا أن نتقيه ما استطعنا. إنك إذا كنت تستطيع أن تتعلم، وأن تقرأ، وأن تفكر كيف تربي وكيف توجه؛ كان فعلك لذلك من تقوى الله في هذا العمل، وهذه الأمانة، وهذا الدور الذي تقوم به، فلست معذوراً حينئذٍ حين تخل بهذه الأمانة. إن المربي الذي يشعر بالأمانة والمسئولية يشعر أنه بحاجة إلى أن ينمي نفسه، وبحاجة إلى أن يوجد في نفسه الصفات التي تؤهله لأن يقوم بهذا الدور، ويؤدي هذه المهمة خير أداء، ومن ثم فإن المربي نفسه يحتاج إلى أن يتعلم صفات المربي؛ حتى يسعى إلى تفقدها في نفسه، ويسعى إلى أن يحقق في نفسه ما كان يفتقد من هذه الصفات. إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي حينما نفكر بالقيام ببرامج لإعداد المربين، وينبغي أن تعتني الأمة بذلك، وأن تعتني الصحوة بهذه القضية، بأن يكون لها برامج لإعداد من يتولى التربية، فالعالم كله لا يقبل اليوم في وظيفة التعليم ومهنة التعليم إلا من تحقق في نفسه شروط، ومن اجتاز خطة دراسية معينة يرى القائمون على المؤسسة التعليمية أنها تؤهله للتربية، بغض النظر عن نظرة هؤلاء للتربية، وبغض النظر عن سلامة منهجهم أو انحرافه، لكنهم يرون أن هناك إعداداً لابد أن يتلقاه من يقوم بالتربية. ولهذا فحين نفكر في إعداد المربي لابد من أن نعلم ما نعطيه، وبما نخاطبه، وما هي الجوانب التي نرى أنه ينبغي أن نغرسها فيه؟ وإن هذا السؤال لن نجيب عليه إلا إذا تعرفنا على صفات المربي. وإنما نحتاج إلى التعرف على صفات المربي؛ لأن مثل هذه الصفات بمثابة المحددات لسلوكنا، فحين نقول: إن هذه الصفة أو تلك ينبغي أن توجد في المربي؛ فإن هذا يعني أن التربية السليمة ينبغي أن تسير على هذا النمط وعلى هذا الأسلوب، وسيأتي -بإذن الله- مزيد بسط لهذه القضية. إن هذه الأمور وغيرها تطرح بإلحاح ضرورة التعرف على صفات المربي والحديث عنها.

الاقتراب من الكمال في صفات المربي هدف منشود

الاقتراب من الكمال في صفات المربي هدف منشود وقبل أن نتحدث عن هذه الصفات لابد من أن نعي قضية مهمة، هي أننا حين نسرد قائمة طويلة من هذه الصفات، ثم نأتي فنبحث عنها بين الناس لنرى من تحققت فيه هذه الصفات، ومن منا قد حقق هذه الصفات، حينئذٍ قد يصاب المرء بإحباط، ويرى أنه غير قادر على ذلك، ذلكم أن هناك صفات جبل عليها الإنسان، وأموراً قد لا يستطيع أن يخرج عنها. إن هناك من الناس من يتصف بالحدة وسرعة الغضب مثلاً، ومهما حاول أن يطبع نفسه على الحلم فإنه سيشعر أنه يقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من جبل على العجلة والتعجل في أمره، ويشعر أنه مهما عود نفسه على الرفق سيقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من يشعر أنه يفقد العاطفة والرحمة والحنان، ومهما تكلف ذلك سيقف عند حد معين. وهكذا الناس لهم طبائع وصفات جبلوا عليها، ومهما تخلق المرء فإنه سيشعر أنه لن يستطيع أن يصل إلى الكمال، والبشر بشر لابد أن يكون فيهم قصور. إذاً: فنحن حينما نذكر هذه الصفات، فإننا لا نفترض أن تكون كلها موجودة في كل إنسان مرب؛ فإن هذا الأمر ربما يكون من المستحيل، وإلا فماذا نصنع بهذا الأب الذي سيكون مربياً شئنا أم أبينا، وقد جبله الله على هذا الخلق أو ذاك؟! وماذا نصنع بهذه الأم أو فلان أو فلان من الناس؟! إن معرفة هذه الصفات تدعونا إلى أن نجتهد قدر الإمكان في تحقيقها في أنفسنا، وفي تحقيقها لدى من يهيئون ويعدون للتربية، وأن نجتهد في الاقتراب منها، وأظن أننا لن نستطيع -بل أجزم أننا لن نستطيع- أن نبلغ الكمال ونصل إلى القمة، ولذا نسعى إلى الاقتراب منها. فحين نشعر أن في أنفسنا أو في غيرنا قصوراً في صفة من الصفات؛ فإن هذا لا يعني أن نشعر بأنه غير قادر على التربية، أو بأننا في غنىً عنه، فالأمة بحاجة إلى المزيد من الطاقات، فكلما استجلينا هذه الصفات، وأصبحت واضحة أمامنا وماثلة للعيان؛ فإننا سنكون قد وضعنا منارات في طريقنا وفي طرق المربين الذين يسعون إلى الاهتداء بها، ويسعون إلى السير عليها، ولهذا آثرت أن يكون العنوان: (من صفات المربين). وإنني حين أزعم أنني أريد أن أتحدث عن كل صفات المربي فإنني أدعي أمراً لا أستطيعه ولا أطيقه، لأن هناك جوانب أجزم بأن قصوري البشري وضعفي سيحول دون إدراكي لها، فضلاً عن أن الوقت المخصص للحديث حول هذا الموضوع قد يضيق، ولهذا آثرت أن أتحدث عن بعض الصفات التي أرى أنها ضرورية، وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن تكون هذه الصفات هي أهم الصفات، فإنني قد تجاوزت صفات أرى أنها مهمة وضرورية، ولكن يعلمها الجميع ويدركها الجميع، ورأيت أن أركز حديثي حول صفات وجوانب أرى أننا نقصر فيها، أو أننا قد لا نشعر بأهميتها وضرورتها، ولهذا فإن هذه الصفات التي أتحدث عنها ليس بالضرورة أن تكون كل ما أراه ينبغي أن يكون في المربي، بل ليس بالضرورة كونها أهم ما نراه، فقد بقيت هناك جوانب ضرورية ومهمة أشعر بأنه ينبغي أن أتجاوزها، لا لأنها ليست مهمة، بل ربما تكون أهم من غيرها، وإنما لأنها معروفة ومقررة لدى أمثالكم، فلا أريد أن يكون الحديث تكراراً.

أهم صفات المربي

أهم صفات المربي

الهدي والسلوك والسمت الحسن

الهدي والسلوك والسمت الحسن إن من أهم الصفات التي ينبغي أن تتحقق لدى المربي: الهدي والسلوك والسمت الحسن: ذلك أن المربي يترك آثاره بهديه وسمته وسلوكه أضعاف أضعاف ما يترك بحديثه وكلامه، ولهذا أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، وأمرنا أن نتأسى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل والفعل يترك أثراً في النفوس لا يتركه القول. لقد جاء قوم أهل فقر وضعف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حالهم، فدخل وخرج، ثم صعد المنبر، وحث الناس على الصدقة، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (من سن سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة). لقد سمع الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وموعظته، ولكن ربما كان العمل في هذا الموقف وهذا الموطن من هذا الرجل -وهو دون النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً- أعظم أثراً منه؛ لأن العمل يترك من الأثر ما لا يتركه القول. ولهذا فإننا حين نكون -أيها الإخوة- قساة القلوب، وحين نعاني من جفاف العيون، ومن موت القلوب، ومن قلة خشية الله تبارك وتعالى، ونريد أن نعظ الناس، ونريد أن نترك أثرنا على الناس، وسلوكنا لا يشهد بذلك، ولا ينطق بذلك، وحالنا مع الله تبارك وتعالى، وحالنا في سلوكنا وهدينا يخالف ما ندعو الناس إليه، إننا حينئذٍ نسعى إلى أن نبني قصوراً في الرمال، ونسعى إلى أن ننحت في البحر كما يقال. لذا قال أحد السلف حين سأله ابنه: ما بالك إذا وعظت بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم يتأثر الناس؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة. ولهذا كان السلف كثيراً ما يؤكدون على هذا المعنى، ويؤكدون على أن طالب العلم ينبغي أن يتعلم الهدي والسمت والسلوك من مشايخه. يقول ابن وهب: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه. ويقول إبراهيم: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله. وكانوا يقولون: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد لقد كانوا -كما حكى ابن سيرين رحمه الله- يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. فكان أولئك المربون بحق والمعلمون بحق يتركون آثارهم على تلامذتهم بسمتهم وهديهم وسلوكهم أضعاف أضعاف ما يتركونه بتعليمهم. وتأمل ما قاله ابن وهب، وهو واحد من كبار تلامذة الإمام مالك المحدث الفقيه الذي كان الناس يضربون أكباد الإبل في زمنه فلا يرون إلا إمام دار الهجرة فيأتون إليه، ومع ذلك يرى أن ما لقيه وحصله من هديه وسمته وسلوكه أكثر مما تعلمه من علمه. إذاً: فهي -أيها الإخوة- قضية مهمة ينبغي أن نعتني بها بتحقيقها في أنفسنا، وتحقيقها لدى من يتولى التربية، وحينئذٍ يشعر المربي بأنه لن يحتاج إلى مزيد من الحديث، ولن يحتاج إلى مزيد من الوعظ، ولن يحتاج إلى مزيد من النصح والتذكير، إنما حاله يذكر بهذا الأمر، وهديه وسمته وسلوكه يخبر بما وراء ذلك. وما أقبح -أيها الإخوة- أن نرى من ينتسب للعلم الشرعي وتعليمه للناس، أو يتصدى لوظيفة شرعية، ثم نرى أثر المعصية على وجهه، لا تفارقه أينما ذهب! إنها -أيها الإخوة- صورة من صور إعلان التناقض بين القول والعمل، إن هذا المرء ليقول للناس بلسان حاله قبل أن يقول بلسان مقالة: إنني أقول لكم قولاً، وعملي وفعلي وسلوكي ينطق بخلافه، فيهدم هذا المرء بعمله وسلوكه أضعاف ما يبنيه بقوله ونصحه وتوجيهه.

امتلاك المربي ما يقدمه للآخرين

امتلاك المربي ما يقدمه للآخرين والصفة الثانية من صفات المربي: أن يملك المربي ما يقدمه للآخرين: أن يملك العلم الشرعي، وأن يملك الخبرة، وأن يملك القدرة على حل المشكلات، إنه يحتاج إلى أن يقدم العلم والتوجيه والنصح، وأن يعطي الناس ويقدم للناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن أبداً أن ننتظر من المرء المفلس أن يقدم شيئاً للناس، ومن هنا كان الرصيد العلمي والبناء العلمي أمراً لا يستغني عنه مربٍ أياً كان، فيتعلم ويدرك ما يرى أنه يحتاج إليه في تعليمه ودعوته وتربيته للناس. كما ينبغي أن يكون هذا المربي قادراً على حل مشكلات الناس، وعلى إعطائهم، وعلى أن يقدم لهم؛ لأنه حين لا يملك شيئاً من ذلك فماذا عساه أن يصنع ويقول ويقدم؟!

قدرة المربي على العطاء

قدرة المربي على العطاء الصفة الثالثة: أن يكون قادراً على العطاء: إن المرء قد يمتلك رصيداً من العلم، وقد يمتلك رصيداً من الخبرة، وقد يمتلك قدرات، ولكنه قد لا يكون قادراً على الإعطاء، وقد لا يكون قادراً على غرس هذه المعاني لدى الناس، فليست القضية -أيها الإخوة- مجرد أن يملك ما يقدم للناس، بل أن يملك ما يقدم، وأن يكون -أيضاً- قادراً على أن يقدم للناس ما يحتاجون إليه، وأن يكون قادراً على أن يحل مشكلات الناس، وقادراً على أن ينقل ما يملكه من علم، وما يملكه من خبره وقدرات إلى الآخرين.

حسن الإعطاء

حسن الإعطاء الصفة الرابعة -وهي صفة مهمة، وقد أتوقف عندها قليلاً-: أن يكون حسن الإعطاء: أي: أن يقدم ما نبغي وما لديه بالصورة المناسبة، فالقضية -أيها الإخوة- ليست أن يملك الإنسان شيئاً، ولا أن يستطيع أن يقدم هذا الشيء، بل أن يقدمه بالصورة المناسبة للناس. وهي قضية مهمة -أيها الإخوة- نفتقدها كثيراً في تربيتنا، حيث نشعر أحياناً بأننا أدينا المسئولية وقمنا بالواجب حين نقول كلمة، أو ننهى عن خطأ، أو نصحح سلوكاً ونخطئ آخر، وننسى أننا لم نقدم هذا الأمر بالصورة المناسبة اللائقة بالناس. إن هناك -أيها الإخوة- فرقاً كبيراً بين كلمة يقولها الإنسان بلغة، وبين كلمة يقولها بلغة أخرى، وبين كلمة يقولها بلغة ثالثة، وإن كانت تؤدي المعنى نفسه. ولنضرب على ذلك مثالاً: فلو شعرنا -مثلاً- أن التكييف في هذا المسجد مزعج، ودرجة البرودة لا نتحملها، فقد أشير على واحد منكم بعينه وأقول له: قم فأطفئ جهاز التكييف. وقد أؤدي هذه الكلمة بلغة أخرى، فأقول: من يتبرع منكم فيقوم فيؤدي هذا العمل؟ وقد أقوله بلغة ثالثة، فأقول: إنني أشعر بأن الجو بارد جداً، ألا تشاركونني هذا الشعور؟! إن هذه الكلمات تؤدي معنى واحد، وتؤدي رسالة واحدة أريد أن أوصلها إليكم، لكن هناك فرق بين الأمر المباشر في الصورة الأولى، وبين الصورة الثانية، وبين الصورة الثالثة. ولم يكن المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن هذا المنهج، وهو الذي اختاره الله تبارك وتعالى لهذه الرسالة، واختاره لا لتربية أصحابه فحسب، بل لتربية الأمة والمربين كلهم، فقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يستبان، يسب أحدهما الآخر، فغضب أحدهما واحمر وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم موجهاً الخطاب لأصحابه -كأن الأمر لا يعني هذا الرجل-: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). انظر إلى الفرق بين هذه الكلمة التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً لأصحابه، وبين ما لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً له وهو في هذه الحالة: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والنتيجة واحدة والمؤدى واحد، ولكن هناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب. وحينما يجد الأب ولده قد تأخر عن الصلاة؛ قد يعاتبه بكلمات لاذعة قاسية، فيقول له: إنك لا تهتم بالصلاة، ولا تقيم لها وزناً، وقد يخاطبه بلغة أخرى، فيخاطبه بلغة الأمر فيقول له: اذهب إلى الصلاة منتهراً إياه، وقد يخاطبه بلغة ثالثة ومنطق ثالث، فيأخذ بيده فيقول: لنذهب سوياً إلى المسجد لنصلي. وهناك فرق -أيها الإخوة- بين هذه الصور، فلماذا نتصور أن أداءنا لأمر أو نهي على أي صورة كان، وأن إبلاغنا لقضية بأي صورة كانت وبأي شكل كان، لماذا نتصور أن هذا الأمر كاف، وأن هذا الأمر مسقط للمسئولية عنا؟! إنك حين تشعر -مثلاً- أن ابنك يعاني، فلا يستيقظ للصلاة إلا بصعوبة؛ قد تعاتبه، وقد تقول له: إن عملك من عمل المنافقين، وقد تقول له كلمة أخرى، لكنك لو أهديت له ساعة لتوقظه، أو اتفقت معه على أن تذهبا جميعاً إلى المسجد، أو أيقظته بأسلوب أو بآخر؛ فإن هذا الأمر وهذا الأسلوب يترك أثراً في نفسه أعظم بكثير من ذاك الأمر المباشر أو النهي المباشر. قد أقول لابني: لا تصاحب فلاناً وفلاناً من الناس، وقد أقول كلمة مناسبة في موقف معين، ولكنني حين أقول له: إنه ينبغي أن تحسن اختيار من تصادق، وإنني اقترح عليك أن تعيد النظر، وأن تفكر في واقع أصدقائك، أو أن اثني على فلان من الناس، فأقول: إنه يعجبني سلوك فلان، وخلق فلان، وأتمنى أن يكون صديقاً لك، وأتمنى أن يكون أخاً لك، حين أقول ذلك أوجد لمقالي أثراً في نفسه. فهناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب حينما نصدر أمراً، وحينما نعالج خطأً، وحينما نوجه توجيهاً، هناك فرق -أيها الأخوة- بين أسلوب وأسلوب آخر، ومن ثم كنا بحاجة إلى حسن العطاء فعلاً، وبحاجة إلى نفكر كثيراً كيف ننقل ما لدينا إلى الآخرين؟ وكيف نصلح أخطاء الآخرين؟ وكيف نأمرهم؟ وكيف ننهاهم؟ وكيف نوجههم؟ بل إن الكلمة الواحدة أحياناً يختلف وقعها وأثرها، فقد يسألك رجل سؤالاً، فتقول له: (نعم) بلهجة فيها التهديد أحياناً، وقد تقولها وهي توحي بعدم المبالاة، وقد تقولها وهي توحي بعدم التصديق، وقد تقولها وهي توحي بالترحيب. وحينما يصنع لك رجل معروفاً، فتقول له: جزاك الله خيراً، قد تقولها كلمة عاجلة أحياناً كما يعتادها الناس، وقد تقولها بشعور ينبئ عن الاهتمام، وقد تقولها أيضاً بما هو أكثر من ذلك، والكلمة هي هي، فقسمات الوجه، ووقع الكلمة، والصوت، وجرس الكلمة، كل هذه لها آثار، فتعطي هذه الكلمة أثراً لا تعطيه تلك الأخرى، وإن كانت هي هي بحروفها، ولكن قسمات الوجه، وجرس الكلمة، والصوت، كلها تترك آثاراً غير ما تتركه تلك الأخرى. لهذا كان علينا أن نفكر كثيراً كيف نوصل ما عندنا لمن نربيهم، وألا تكون القضية مجرد أن نقول كلمة أياً كانت، بأي وسيلة، وبأي لغة، ونتصور حينئذٍ أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة، وأ

الاتزان العاطفي

الاتزان العاطفي والصفة الخامسة مهمة، وهي: الاتزان العاطفي: إن الله عز وجل خلق عواطف للناس، فعند الناس رحمة ومحبة ومشاعر وارتياح، هذه العواطف لم يخلقها تبارك وتعالى عبثاً، وحينما ندعو إلى إلغائها عند الناس فإننا ندعو إلى تغيير خلق الله، وندعو الناس إلى أن يتخلوا عما فطرهم الله عليه، وحين تستبد بنا العواطف وتحكمنا العواطف نكون حينئذٍ ضحية لهذه العواطف، ونناقض صريح المنقول والمعقول، ونبقى أسرى لهذه العواطف التي قد تقودنا إلى مهالك. إن المربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن يملك العاطفة والحب والرحمة والحنان، فيشعر هذا الذي يتربى على يديه بهذا الشعور، فالله تبارك وتعالى قد قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] مع أن هؤلاء أصحابه، ومع أن هؤلاء يعلمون أنه ليس ثمة حق إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الحق كل الحق في اتباعه صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، وأن كل حق يراد من غير طريقه ومن غير سبيله فليس حقاً، وأن كل ما يخالف ما دعا إليه باطل وضلال، مع هذا كله يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: كيف تتصور أن يراك الناس، وأن ينظر إليك الناس؟! هل نتصور أن الناس سينظرون إلينا على أننا نحن الذين نملك الحق وحده، فنغضب الناس، ونسخط الناس، ونقسو على الناس، ونسيء أخلاقنا معهم، ونفتقد كل هذه المشاعر، ثم يقبلون علينا؛ لأننا نملك الحق، ونحمل الحق؟! إن هذا الأمر لم يتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن هو دونه؟! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل هذه المشاعر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب بأصحابه فدخل الحسين -وهو صبي- يتعثر في ثوبه، فينزل صلى الله عليه وسلم فيحمله، ثم يقول: (إن ابني هذا سيد). ويأتيه وهو ساجد فيعلو ظهره، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم سجوده، فيقول: (إنه ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته). وحين حضر الموت أحد أحفاده الصغار بكى، فرأى أحد الصحابة دموعه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: (هذه رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده). وحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراه يقبل الصغار، فقال: أتقبلون صبيانكم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يرحم لا يرحم). إذاً: هكذا كان المربي صلى الله عليه وسلم يملك رحمة، وإحساناً إلى الناس، ومحبة، يقول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). ويقول صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً). ويثني صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه، فيفدي أحدهم، فيقول: (ارم فداك أبي وأمي)، ويقول في الزبير: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)، إلى آخر ذلك من النصوص التي يشعر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بمحبته إياهم، وسؤاله عنهم صلى الله عليه وسلم، وعطفه عليهم، فالمربي يجب عليه أن يملك هذا الشعور، وأن يملك العاطفة والرحمة والود. وحين يعرض الناس عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يناقضون الفطرة، فأحد أهل التصوف مات طفل له، فحين دفنه صار يرقص على قبره، وكأنه يعلن أن هذا من تمام الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى! وهل يظن هذا أنه أثبت قلباً من النبي صلى الله عليه وسلم الذي دمعت عينه حين مات ولده إبراهيم، وقال: (إن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا). وعلى الجانب الآخر ينبغي أن تضبط هذه الانفعالات والعواطف فلا تنحرف، ولا تتحول الصلة بين المربي ومن يربيه إلى عواطف ومشاعر متبادلة، ولا تطغى هذه العواطف على ما يحتاج إليه هذا الشخص من الحزم أحياناً، ومن الجد، ومن معالي الأمور. إن الإغراق في العاطفة يخرج جيلاً هش البنيان، وجيلاً يعيش على العواطف، وجيلاً غير جاد، وجيلاً غير عامل، وفي المقابل يخرج فقدان العاطفة جيلاً قاسي القلب، قد نزعت من قلبه الرحمة، فلابد أن يعيش المربي على هذا التوازن، وأظن أنه ليس أحدهما بأسوأ من الآخر، وأظن أن المربي المفرط في عاطفته ليس بأسوأ من ذاك الذي فقد العاطفة أو فقد المشاعر الإنسانية، والعكس كذلك.

الاتزان الانفعالي

الاتزان الانفعالي الصفة السادسة -وهي أيضاً تتعلق بالتوازن-: الاتزان الانفعالي: أن يكون المرء متزناً في انفعالاته، فهو قد يغضب مثلاً، وأمر طبيعي في حق من يتعامل مع الناس أن يأتيه ما يأتيه مما يستدعي الغضب والسخط، ويستدعي انفعالاً أو موقفاً معيناً تجاه هذا الشخص، فينبغي أن يكون هذا المربي متزناً، قادراً على ضبط هذا الانفعال. ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قمة الشجاعة، فقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). وفي حديث آخر قال: (ما تعدون الشديد فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرع، قال: الشديد: الرجل يغضب، فيحمر وجهه، ويقشعر جلده، ثم يكظم غيظه)، إنه يغضب، ويأتيه الغيظ، لكنه يكظم غيظه. إنه حين تكون تصرفات المربي استجابة لهذه الانفعالات، وردود فعل؛ فإنه كثيراً ما يفقد التصرف المناسب، فقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه الغضب، وليس التصرف الذي يمليه عليه الشرع، وليس التصرف الذي يرى أنه هو المناسب في مثل هذا الموقف أو ذاك، وقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه رضا أو موقف آخر أياً كان، فضبط المربي لانفعالاته واتزانه فيها أمر له أهميته؛ حتى يضبط تصرفاته، وردود أفعاله، ومواقفه.

الاتزان الاتصالي

الاتزان الاتصالي الصفة السابعة -وهي حول التوازن والاتزان-: هي ما يمكن أن نسميه بالاتزان الاتصالي: فعملية التربية هي اتصال بين المربي ومن يربيهم، فحينما يكون المربي مجرد ملقٍ يتحدث، والذي يتربى دوره دور التنفيذ والسماع، حينما يكون الاتصال وحيد الاتجاه، فيبقى دور المتربي أن يسمع الأوامر، ويعطى نصائح دون أن يكون له فرصة للمناقشة، ولسماع ما عنده، ولسماع مشكلاته، ومن هنا فالمربي أحوج ما يكون إلى تحقيق هذا التوازن: أن يسمع كما يعطي، وأن يأخذ من هذا كما يعطيه، وأن يعطي فرصة لهذا الذي يتربى على يديه لكي يسأل ويناقش ويراجع، يعطيه فرصة ليتحدث عن مشكلاته، وليتحدث عن همومه. إن الكثير من الأبناء اليوم يشكون أنهم لا يجدون الوقت والفرصة حتى يبثوا همومهم لآبائهم، وحتى يبثوا مشكلاتهم لآبائهم، وإن وجد الوقت لا يوجد الصدر الواسع الذي يستمع، ويستوعب ما عند هؤلاء. ولننظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي أصحابه، فهاهي عائشة رضي الله عنها تسأله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر شأن الحساب يوم القيامة، فقال: (من نوقش الحساب عذب، قالت: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟!) فهو سيحاسب يوم القيامة حساباً يسيرا، فتشعر عائشة رضي الله عنها بنوع من التعارض بين هذا المقال الذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذه الآية، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليجيبها صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لتتجرأ رضي الله عنها على أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تناقش، وأن تبدي له ما لديها لو لم يكن صلى الله عليه وسلم قد عودها على أن يستمع منها. ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فتحدثه حديثاً طويلاً كما في الصحيح في قصة أم زرع، فيستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثها بإنصات، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع). فالمتربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن نترك له فرصة للسؤال والمناقشة والاعتراض، ويحتاج إلى أن نترك له فرصة للحديث عن مشكلاته، والحديث عن همومه، وأن يبث ما لديه، وإلا فسيكون البديل هم أهل السوء، فحينما لا يجد الصدر الواسع من أبيه، ولا من أمه، ولا من معلمه وأستاذه؛ فإنه سيرى البديل عند من يستثمر هذا الضعف لديه، ومن يستثمر هذه المشكلة؛ ليحقق من وراء ذلك المقاصد والأغراض السيئة التي لا تليق. ومن هنا كنا أحوج ما نكون إلى أن نعيد النظر في طريقة إلقائنا للأوامر، وإلقائنا للتوجيهات، وأن نعود هذا الجيل على أن يتحدث كما يسمع، وأن يأخذ ويعطي. إن هذا النوع من التربية الذي يتعود فيه الشخص على أن يتلقى فقط يخرج جيلاً اتكالياً إن سلم من المشكلات، جيلاً لا يعتمد على نفسه ويعتمد على الآخرين، لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ لأنه لم يعتد أن يقول كلمة واحدة، ولم يعتد أن يناقش، ولم يعتد أن يبدي شيئاً مما لديه، ومما يعاني منه.

القدرة على التقويم

القدرة على التقويم الصفة الثامنة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على التقويم: وهي من الصفات المهمة التي ينبغي ألا يفتقدها، لماذا؟ لأنه سيحتاج -مثلاً- إلى أن يحدث تلميذه أو ابنه عن مشكلة من المشكلات، أو حدث من الأحداث، أو أن يقوم له كتاباً، أو مدرسة فكرية، أو فكرة، أو رأياً، أو مشكلة، وحين لا يملك القدرة على التقويم الجيد، فإنه لا يستطيع أن يوصل له الرسالة المناسبة، ولا يستطيع أن يوصل له الحكم المناسب. ثم إنه يحتاج -أيضاً- إلى التقويم؛ ليعرف من يربيه، وليعرف أي مرحلة قطعها وتجاوزها، وليعرف الأخطاء، وجوانب القصور، وجوانب الضعف وليعرف القدرات التي يملكها هذا الشخص، وليقوم -أيضاً- عمله وجهده وتربيته. وهي موهبة وملكة توجد لدى المرء، لكنه -أيضاً- يستطيع أن يتعلم ويتطبع على شيءٍ منها، حينما يتعود أن يكون عميقاً في نظرته، وحينما يتعود أن يكون موضوعياً لا يتأثر بالعواطف، ويحكم من خلال الموقف الواحد، فحينما يعتاد ويتعود على هذا النمط من التقويم؛ يستطيع أن يملك قدرة على التقويم يحتاج إليها فيما يقدم للآخرين؛ لأنه سيقدم تقويماً للأعمال للناس، وسيقدم تقويماً لفكرة، أو لرأي، أو لمشروع، أو لعمل أياً كان، ثم سيسعى إلى تقويم من يربيه ويوجهه.

القدرة على النمو والاستمرار

القدرة على النمو والاستمرار الصفة التاسعة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على النمو والاستمرار: إن بعض الناس قد يملك قدراً من العلم والثقافة والقدرات، لكنه يقف عند حد معين، وإذا كان ما يملكه من علم وفكر وقدرة وخبرات يقف عند هذا الحد؛ فإنه سيشعر بعد مرحلة بأن تلامذته ومن يتربون عليه قد تجاوزوه، وقد أدركوا ما عنده، ويتطلعون إلى ما وراء ذلك، وحينئذٍ يفتقدون الثقة به، ويشعرون أنه قد استنفذ ما لديه، واستهلك ما عنده. إن الأحداث تتجدد، والظروف تتغير، فالأب الذي عاش في عصر سابق حينما يتعامل مع أبنائه الذين هم نتاج عصر آخر يختلف عن عصره بالكلية، وتختلف فيه أفكار الناس واهتماماتهم وعقلياتهم، حينما يأتي هذا الأب وثقافته وعقليته وعلمه لا تعدو أن تكون امتداداً للعصر السابق الذي عاشه؛ فإنه لن يستطيع أن يقدم لهذا الابن ما يحتاجه. ولهذا ندرك فشل كثير من الآباء الخيرين الغيورين في تربية أبنائهم؛ لأنه قد توقف الأب عند عصر معين ومرحلة معينة، فقد تربى هذا الأب في بيئة وعاش في ظل وسط محدود، يوم كان يعيش في قرية محدودة حين يقول من في أقصاها كلمة يسمع من في أدناها هذه الكلمة، ومظاهر المدنية والحضارة بعيدة عنه، حيث كان الناس وقتها يعيشون في الأرياف، ويعيشون في مزارعهم، ويعيشون في أعمالهم، وفي همومهم الخاصة، بعيداً عن ضجيج وصخب المدينة، وبعيداً عن هذه المؤثرات، أما اليوم فقد أصبح الجيل أمام عالم آخر يختلف تماماً عن ذاك الجيل. فحينما يأتي الأب ليربي ابنه بالنمط نفسه الذي تربى به، وحين يقال له: إن هذا الأسلوب لا يجدي، فيقول: هكذا تربينا، وهكذا عشنا، حينها لا تثمر تربيته. نعم قد تكون تربيتك سليمة، وما تربيت عليه سليماً، والأسلوب الذي تلقيته كان ناجحاً، لكنه كان كذلك في وقت من الأوقات، أما هذا الوقت فله ظروف أخرى، وله حالة أخرى. ولهذا كان الأب بحاجة إلى أن يتجاوز هذه الفجوة الحضارية، وإلا فسيشعر أنه يعيش في مأزق مع أولاده، وقل مثل ذلك حتى مع من هم دونه. إن المعلم والمربي الذي تربى على نمط معين وعلى طريقة معينة، لا يسوغ له أبداً أن يتصور أن هذا النمط وهذا الأسلوب هو الأسلوب الناجح والمناسب لتربية الناس كلهم، فالعصر قد تغير، والظروف قد تغيرت، والعوامل قد تغيرت. إن هذا التغير السريع المذهل الذي نراه اليوم يؤكد على ضرورة أن يكون المربي قابلاً للنمو، وقادراً على النمو، وأن يملك القابلية والقدرة، وأن يسعى دائماً إلى تطوير نفسه والمتابعة، وإلا فسيشعر بأن هذا الجيل قد تجاوزه، وسيشعر بأن هذا الجيل قد أدرك أن هذا الرجل الذي أمامه لم يعد يملك ما يقدمه لهم.

المعرفة التامة بالمتربي

المعرفة التامة بالمتربي الصفة العاشرة: أن يكون المربي على معرفة بمن يربيه، وعلى معرفة تامة بطبيعته وخصائصه وظروفه: وهي قضية كثيراً ما نجهلها أيها الإخوة، فنحن نتعامل مع أطفالنا -مثلاً- ونجهل طبيعة الطفل وخصائصه، ونجهل كيف يفكر الطفل، وكيف ينظر الطفل إلى الأمور، وكيف ينظر إلى الحياة، وكيف يقيمها، ولهذا نقع في أخطاء فادحة غير مقصودة في تعاملنا مع أطفالنا، ونحن إنما أوتينا من جهلنا بهذه الطبيعة للأطفال. وخذ على سبيل المثال مرحلة أخرى مهمة، وهي مرحلة المراهقة، وهي مرحلة من أخطر المراحل لدى الشاب والفتاة، حينما نجهل طبيعة الشاب في هذه المرحلة، وكثيراً ما تقع مشكلات من الأب أو المعلم أو المربي أو غيرهم مع هذا الشاب المراهق، والسبب أنه يجهل طبيعة هذا الشاب في هذه المرحلة، ويجهل كيف يفكر، ويجهل مشكلاته، وقل مثل ذلك في الفتاة، فحينئذٍ نصادم هؤلاء. وكثيراً ما نسمع هذه الكلمة من الآباء والأساتذة والمربين: كان هذا الطفل وديعاً، وهادئ الطباع، ومطيعاً، ومستجيباً، ففوجئنا به إنساناً متمرداً، وإنساناً معانداً، وإنساناً مشاكساً، بدأت تظهر عليه آثار الانحراف إلى آخره، ونريد أن نتعامل معه باللغة نفسها، وبالمنطق نفسه، وبالأسلوب نفسه الذي كنا نعامله به حين كان طفلاً، والسبب أننا لم نفهم هذه الشخصية. إن المراهق يحتاج إلى الإقناع، ويحتاج إلى إشباع حاجاته، ويحتاج إلى إشعاره بأنه رجل، وأنه يملك الرجولة، وحين يجد من يحترم عقله، ومن يدرك ظروفه، فإنه سرعان ما يمنحه ثقة، بل الثقة المفرطة، فيسلم نفسه له ليصنع فيه ما يشاء. إننا نصطدم كثيراً مع أبنائنا ومع تلاميذنا في هذه المرحلة، ونحن نريد أن نرفع عليهم العصا الغليظة؛ لأننا نرى أنها هي التي تربيهم، وقد كنا نشعر أنها في مرحلة سابقة كانت أسلوباً ناجحاً معه، ونتصور أنها ستنجح معه اليوم، وهكذا. فالمقصود -أيها الإخوة- أن معرفة المربي بمن يربيه فيما يتعلق بخصائص المرحلة التي يعيشها وطبيعتها، ومعرفته بظروفه الخاصة، من حيث كونه فلاناً من الناس، وشخصيته، وطبيعته، أو ظروفه الاجتماعية، أو مشكلاته، معرفة ذلك من الأمور المهمة التي لا يستغني عنها المربي.

القيادة

القيادة وآخر ذلك صفة أختم بها الحديث عن هذه الصفات، وهي: القيادة: أن يكون المربي قائداً لا أن يكون آمراً، وفرق -أيها الإخوة- بينهما، فالذي يقود الناس يقنعهم. إنك قد تستطيع أن تأمر ولدك -مثلاً- فيذهب إلى المسجد، وربما يذهب معك إلى المسجد ولا يفارقك، لكن حينما تغرس لديه حب الصلاة، وتورثها لديه، يكون ذلك شأناً آخر. إنك تستطيع أن تأمر ولدك أن يصاحب الأخيار، وتجعله يعيش مع الأخيار، ولكن هناك فرق بين هذا وبين أن تغرس لديه حب الأخيار، وقل مثل ذلك في سائر المعاني التربوية. إننا نستطيع أن نملي على الناس كثيراً من الأمور، فيأخذوها تقليداً، ويأخذوها بحسن ظن، لكن أن نقنعهم بها وما وراءها أهم بكثير، وأنجح وأولى، وهذا يخرج جيلاً ويخرج قادة لا أتباعاً. هذه -أيها الإخوة- بعض الصفات التي أرى أنها مهمة، وفي الواقع هناك صفات كثيرة كنت أريد الحديث حولها، لكن الوقت ضاق، وهناك صفات قد تكون أهم من هذه الصفات، ولكن نظراً لأنها معروفة ومقررة لدى الإخوة آثرت أن أتجاوزها.

الأسئلة

الأسئلة

بيان سوء تصرف بعض المدرسين في خطابهم لتلاميذهم

بيان سوء تصرف بعض المدرسين في خطابهم لتلاميذهم Q ما رأيكم في بعض الإخوة المدرسين الذين يخاطبون الشباب بألفاظ سوقية ساقطة لا تليق بإنسان، فضلاً عن كونه مدرساً معلماً؟ A هذه صورة لا تليق أبداً، وصورة من غرس الخلق السيئ عند الناس، إن المعلم يستطيع أن يتحدث كثيراً مع طلابه عن الخلق الحسن، وعن حسن الخلق، لكنه سرعان ما يهدم هذا بكلمة واحدة يقولها حين يغضب، فيواجه هذا الطالب بكلمات نابية، أو -بمصطلح شرعي- بكلمات فاحشة. لقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش له النبي صلى الله عليه وسلم وبش، فسألته عائشة عن ذلك، فقال: يا عائشة! متى عهدتني فاحشاً؟!) أي: هل علمت مني الفحش في القول؟! وفي رواية أخرى قال: (يا عائشة! شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه). إن من يتركه الناس حتى لا يغلظ عليهم، وحتى لا يفحش شره عليهم من شر الناس وسوء الناس، عافانا الله وإياكم، فحين يهاب الناس لسانك وسلاطته، فاعلم أن هذا أمارة على أنك من شرار الناس، عافانا الله وإياكم، وذلك لا يليق أبداً بالمربي. نحن نريد أن نربي طلابنا على الحلم، والأناة، وحسن الخلق، لكننا أحياناً لأجل قضية تافهة -كما لو أن هذا الطالب ما أدى الواجب، أو ما حفظ، أو تأخر، أو حصل منه أي خطأ- لا نفترض في الطالب إلا أن يقع في الخطأ، فتجد المدرس أحياناً يغضب، وقد يتكلم بكلمات غير لائقة، ويخرج عن الحدود فعلاً، وعن الأدب الذي يليق بالإنسان، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن يتصدى ويوجه للتربية، وأحرى بهؤلاء أن يُربَّو فضلاً عن أن يكونوا مربين للجيل.

مكانة الضرب البدني في العملية التربوية

مكانة الضرب البدني في العملية التربوية Q نريد توضيحاً شافياً لقضية استخدام العقاب البدني في التربية من منظور الشرع، ونرجو إلقاء الضوء على ثمرة التعاون بين المربين والمعلمين خاصة، ونسأل الله أن يثيبكم؟ A أولاً: الشرع جاء بالضرب كوسيلة للتربية في الحدود، فهناك من الحدود ما يستوجب الجلد، كما في حد القاذف، والزاني البكر، وشارب الخمر، وجاء الشرع بالإذن بالضرب في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله). والصحيح في قوله: (حد من حدود الله) أن المقصود به: أوامر الله ومعاصيه، وليس المقصود بذلك الحد العقوبة المقدرة، وإلا فلا يجوز أن يعزر الإنسان بأكثر من عشرة أسواط، فحينما يقع الشخص في خطأ يجوز أن يعاقب، لكن لا يجوز أن يزاد على عشرة أسواط إلا إذا كان في حد من حدود الله، أي: مخالفة لأمر الله، كما قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأولاد حين يمتنعون عن الصلاة لعشر سنين، بل في القرآن أخبر الله تبارك وتعالى أن من الأساليب التي قد يستخدمها الزوج مع زوجته أن يضربها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح). فنقول: حينما يأتي الشرع بتقرير هذه العقوبة لا يجوز أن نلغيها أبداً، وحينما نقول: إن الضرب ليس وسيلة تربوية وإنه لا يصلح؛ فإن هذا اعتراض على شرع الله، والله هو الذي خلق الإنسان، ويعلم تبارك وتعالى نفسه وعواطفه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. لكن القضية الأخرى: هل الضرب هو الوسيلة المناسبة في كل وقت وكل حين؟ هنا السؤال مهم، وهذا الخطأ الذي نقع فيه أيها الإخوة، فالخطأ الذي نقع فيه ليس أننا نضرب، إنما لأننا نضرب في موطن لا يستوجب الضرب، ونضرب في موطن لا يستحق ذلك، وحين نضرب لا نضرب ونعاقب بالطريقة المناسبة أيضاً. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي علمنا ذلك عامل من خدمه عشر سنين صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لشيء فعله: لم فعلته؟ ولم يقل لشيء لم يفعله: ألا فعلته؟ فهو صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك، وهو الذي شرع لنا صلى الله عليه وسلم ضرب الزوجة في بعض المواطن وقال: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح)، ثم حكى عن أولئك الذين يضربون أزواجهم فقال: (إنهم ليسوا بخيارهم). فهذا يدل على أن القاعدة والأصل خلاف ذلك، فالعقوبة -أيها الإخوة- أياً كانت -سواء كانت عقوبة بدنية أو غيرها- إنما هي حينما لا يجدي غيرها، والأصل هو الإقناع، والأمر، والتربية، والتوجيه، ثم نتدرج في العقوبة إذا شعرنا حينها أن الضرب هو العقوبة المناسبة، فعلينا حينئذٍ أن نضرب بأسلوب مناسب، ثم إذا ضربنا نضرب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح) ضرباً لا يقترن بالانتقام والتشفي. وهناك قضية أخرى مهمة أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجدلها الحد، ولا يثرب) أي: يجلدها ولكن لا يلومها ولا يؤنبها؛ لأن هذا الجلد هو العقوبة التي استحقتها، فنحن نضرب أحياناً التلميذ والابن، ونؤنبه، ونثرب عليه، وفي كل مناسبة نذكره بهذا الخطأ الذي وقع فيه، فحين نضرب يجب أن نقتصر على هذه العقوبة فقط، ونتجاوزها بعد ذلك، ولا نكثر من اللوم والتأنيب، وإذا كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التثريب على هذه الأمة وقد وقعت في كبيرة من السبع الم. وبقات؛ فكيف بما دون ذلك؟!

حدود المزاح المطلوب من المدرس مع الطلاب

حدود المزاح المطلوب من المدرس مع الطلاب Q أنا مدرس للمواد الشرعية، وأنا أكثر من المزاح مع الطلاب؛ لكي أجلب قلوبهم، وأحببهم إلى هذه المواد من غير أن يطغى ذلك على شخصيتي، أو يكون ذلك مدعاة للفوضى أو الشغب بين الطلاب، فهل تنصحني بذلك؟ A المزاح حين يكون أمراً طبيعياً وغير متكلف، وليس سمة للإنسان ليس فيه إشكال، بل مطلوب، فقد كان السلف أحياناً في بعض مجالسهم إذا ملوا يقولون: ذكرونا بالشعر، فإن الأذن مجت، والقلب حمض. فيتحدثون بالشعر، لكن حينما يكون سجية للإنسان، فيصير الإنسان كأنه صاحب طرفة ودعابة، ويشتهر بذلك؛ فشأن المسلم والمربي أكبر من ذلك.

خطأ ترك ميدان التربية بدعوى مقارفة المعصية

خطأ ترك ميدان التربية بدعوى مقارفة المعصية Q المربي كغيره من البشر يصيب ويخطئ، بل ويقع في المعصية تلو المعصية مما قد يؤخره إلى الوراء، فيبتعد عن مقاعد المربين، ويرضى بالدون، بدعوى أنه عاصٍ، فهل هذا الفعل صحيح؟ A هل هناك مسلم لا يقع في المعصية أصلاً؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وقال: (كل بني آدم خطاء)، فإذا كنا نريد من المربي ألا يذنب ولا يقع في الذنب؛ فحينئذٍ لن نجد أحداً يربي على الإطلاق. لئن لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد

توجيه للوالدين في القيام بدورهما في البيت

توجيه للوالدين في القيام بدورهما في البيت Q يحدث أحياناً أن أطلب من زوجتي زرع بعض السلوكيات في أولادي، وأطلب منها الاهتمام بذلك، ولكنها تقول: أفعل ذلك أنت، وأبين لها أنها أفضل مني، فهي تقضي معظم الوقت معهم، بينما أكون خارج المنزل، لذا أرجو توجيه النصح لزوجتي خاصة، وإلى النساء عامة، وجزاك الله خيراً؟ A أولاً: أوجه النصيحة لك ولنفسي، فإنه يجب أن تقضي جزءاً من الوقت مع أولادك، وتهتم بذلك، وليس بصحيح أن نهمل أولادنا، فنحن نحتاج إلى أن نقضي جزءاً من أوقاتنا معهم، هذا جانب. الجانب الثاني: أن قضية التربية مسئولية مشتركة على الأم والأب، وهناك أدوار، والله عز وجل حكيم جعل الأم يغلب عليها جانب العاطفة والرحمة والشفقة، والأب يغلب عليه الجانب الآخر؛ لتكون القضية متكاملة، ويؤدي الجميع دوراً متكاملاً، وحينما تكون التربية من الأب وحده والأم وحدها؛ لن تكون تربية سليمة ومستقيمة؛ فهي دور مشترك على الجميع.

كتب في التربية

كتب في التربية Q هل هناك كتب حول هذا الموضوع، أرجو منكم ذكرها، وجزاكم الله خيراً؟ A هناك كتب كثيرة تتحدث عن قضية التربية بصفة عامة وعن المربي، وكتب السلف كثيرة في أدب العالم والمتعلم، ككتاب ابن عبد البر، وكتاب الخطيب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، والآجري في (أخلاق العلماء)، والرامهرمزي في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)، وغيرها. فكتب آداب العالم والمتعلم معروفة، وفيها جوانب من أخلاق وآداب المربي، وهناك كتب -معاصرة -أيضاً- اهتمت بهذه القضية من أهمها كتاب صدر حديثاً عنوانه: (علم النفس الدعوي) للدكتور عبد العزيز المغيمشي، وهو كتاب ذكر فيه بعض الجوانب والخصائص التي ينبغي أن توجد عند المربي.

المربي بين الغلظة واللين

المربي بين الغلظة واللين Q يوجد كثير من الموجهين والمربين ممن يستخدم الواحد منهم مع طلابه أسلوب الغلظة لإبراز الشخصية، ويوجد من المربين من يستخدم الأسلوب العكسي تماماً، فأي الفريقين أقرب للصواب؟ A نحن ذكرنا من صفات المربي: أن يكون عنده اتزان وتوازن، لا هذا ولا ذاك، كلاهما بعيد عن الصواب، فالغلظة والقسوة والفظاظة ليست من صفات المؤمن، وإهمال الحق وترك الحق، والسير وراء العواطف صفة لا تليق بالمربي. فالمربي الأقرب إلى الصواب هو الذي يقف في الوسط، فيضع العاطفة والحب والمشاعر حين يحتاج إليها، ويستعمل القسوة والحزم حين يحتاج إليه.

الموقف من الناصح المقصر

الموقف من الناصح المقصر Q ما رأيك فيمن عنده شيء من العلم، ولكن يرى عليه أثر المعاصي، وهو ينصح الناس، وإذا قلت له: يا فلان! اترك هذه المعصية قبل أن توجه الناس، يقول: خذ من علمي، ولا تنظر إلى عملي، فنرجو التوجيه؟ A أولاً: بالنسبة لك أنت خذ من علمه فعلاً، يعني: إذا وجدت علماً عند أحد من الناس -ولو كان صاحب معصية، ولو كان مقصراً، ولو كان فاسقاً- فخذ من علمه، فالحق يؤخذ ممن أتى به مهما كان، والحق ضالة المؤمن. وأما هو فينبغي أن يتذكر قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، والوعيد الشديد الذي ذكره صلى الله عليه وسلم للرجل الذي يلقى في النار، عافانا الله وإياكم، قال: (فتندلق أقتاب بطنه فيها، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) عافانا الله وإياكم.

بيان أصل الانحراف في حياة الأبناء

بيان أصل الانحراف في حياة الأبناء Q إذا كان الأب لا ينصح ولده، والولد ضائع في الشوارع مع أصحاب السوء، فهل هذا من صفات المربي؟ أم أن ذلك ضعف في التربية؟ A هذه الصورة من صور الإهمال، فالأب قد يشكو من ولده، وأن ولده ضائع، فتسأله: هل جلست يوماً من الأيام معه، وتحدثت معه بهدوء ووعظته؟ فيجيبك بقوله: (لا). فنحن لا نعرف أحياناً من التربية إلا أسلوباً نخطئ فيه فقط، ولا نعرف التربية إلا عندما يقع المرء منا في الخطأ، فيشعر الأب بدوره في التربية، فهو لما يرى ابنه -مثلاً- ما صلى ينهاه ويزجره، ولما يرى ابنه وقع في الكذب يزجره، ولما يرى ابنه وقع في خطأ ينهاه، وهذا واجب شرعي على الأب، لكن قبل ذلك يجب أن تعظه أصلاً، وتربيه، وتغرس عنده الخير، ونسأل: هل بيوتنا الآن تغرس الإيمان، وتربي الإيمان عند الأبناء، أم أننا نشعر أن التربية فقط هي مجرد الأمر والنهي؟! إننا نقرأ في القرآن: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] هذه الوصايا العظيمة التي كان يوصي بها ابنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من تحته، فقد علم الحسن دعاء القنوت صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم يعلمون من تحتهم، فمنهم من كان يجلس فيعلم أبناءه القرآن، ومنهم من كان يعلمهم المغازي ويقول: هذه مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، لقد كانت بيوت مليئة بالإيمان والعلم والتربية. فقبل أن نسأل عن الانحراف يجب أن نسأل عن الأصل، فالقضية أن الأصل أن نبني ونوجه، ونغرس عندهم الحب، لا أن تكون التربية مجرد علاج أخطاء، فالتربية ليست علاج أخطاء، فحينما يقع في الخطأ قد لا تستطيع أن تعالجه؛ لأن الخطأ كان نتيجة إهمال وتقصير، حينما تكتشف أن الابن أو التلميذ أو فلاناً من الناس قد وقع في الخطأ، وصار عنده انحراف، فتأتي لتعالجه قد لا تستطيع، وتأتيني تستشيرني فأقول لك: يا أخي! ليس الأمر بيدي، كنت تملك الحل قبل أن يقع الخطأ، أما بعد أن يقع الخطأ فليس بالضرورة أن يكون ذلك في مقدورهم. ولو شعر بذلك فلا ييأس، فينبغي للمربي -مهما كان خطأ الابن أو البنت- ألا ييأس، وأن يسأل الله له الهداية، وأن يجتهد في بذل الأسباب.

طرق اكتساب صفات المربي

طرق اكتساب صفات المربي Q ما الطرق التي يتمكن من خلالها المسلم أن يكتسب صفات المربي التي ذكرتها؟ A انظر إلى الناس الذين علموك، فأنت مررت بمرحلة في الدراسة ذات سنوات عديدة، وعدد كبير من المدرسين، ففكر فيهم، وانظر من الشخص الذي كان مؤثراً عليك بدرجة كبيرة؟ ومن الشخص الذي شعرت أن توجيهاته كانت تترك أثراً عليك؟ انظر إلى الناس حولك، مَنْ مِنَ الناس يعجبك تعامله وتأثيره؟ استفد من تجارب الناس، ولا تحتقر شيئاً، قد يكون هذا الرجل ناجحاً في أسلوب غرس المحبة بينه وبين أبنائه، والثاني ناجحاً في أسلوب آخر، والثالث في أسلوب آخر، فتجمع ما عند الناس، فهذا مصدر مهم، وأن تستفيد من أخطائك وتجاربك مصدر آخر، وكذلك القراءة والاطلاع، بأن نكلف أنفسنا ونبحث ونقرأ في كتب السلف، وفي الكتب المعاصرة، وفي الكتب التي اهتمت بشأن التربية. ووالله! لو سألت أي أب، أو أي معلم: ماذا قرأت أنت فيما يتعلق بالتربية؟ وما عندك من الكتب التي تهتم بالتربية؟ لوجدت عجباً، إنه يمكن أن نجد في بيوتنا أحياناً كتب الطبخ أكثر من الكتب التي تعنى بالتربية، فهل معقول أن الأم دورها واهتمامها أن تعد الطبخات؟! فأين حاجتها لتربية الأبناء؟! إننا نقرأ في الصحف أحياناً والمجلات أكثر بكثير مما نقرأ في هذه الكتب التي تعيننا ونستفيد منها، والحق ضالة المؤمن، فقد تجد -مثلاً- من الكفار أحياناً من يحسن نوعاً من أنواع التربية، وليس المطلوب أن تأخذ كل ما عنده، فقد يحسن أن يقنع ابنه، ويحسن أن ينقل ما عنده لابنه، فتستفيد من كل ما عند الناس، والحق ضالة المؤمن.

ضرورة الصدق في توجيه المربي

ضرورة الصدق في توجيه المربي Q أنا أعمل مدرساً، وأحياناً آمر الطلاب بأشياء طيبة لا أستطيع أن أفعلها أنا، فهل هذا نوع من أنواع النفاق، مع أن نصيحتي لهم تكون خالصة لوجه الله؟ A لا، ليس هذا من النفاق، يعني: أنت قد تقول لهم: ينبغي أن تحرصوا على قيام الليل، وأنت تجد أنك ما تستطيع أن تقوم الليل كل وقت، وقد يكون فيك تقصير، وقد تدعوهم إلى الحرص على ذكر الله، لكنك لا تستطيع أن تقوم بذلك كما ينبغي، فلا حرج في ذلك، المهم أن تكون صادقاً ومخلصاً، النصيحة التي تقولها ليس فيها نفاق، بل صادقة، ثم تجتهد في أن يكون هذا عاملاً لأن تسأل نفسك: كيف أدعو الناس إلى أمر وأنا لا أعمل به؟!

أمثلة على صفة القدرة على العطاء

أمثلة على صفة القدرة على العطاء Q هل لك أن تعطي أمثلة على الصفة الثالثة، وهي: القدرة على العطاء؟ A أحياناً يكون الشخص -مثلاً- عنده معلومات كثيرة، لكن ما يستطيع أن يوصلها إلى الناس أصلاً، فنسمع بعض الناس أحياناً يقول: الفكرة واضحة في ذهني، لكن لا أستطيع أن أعبر عنها. فلا يستطيع أن يوصلها إلى الناس بطريقة مناسبة، فهو يعرف ظاهرة معينة، ويعرف الحل لمشكلة معينة، ولا يستطيع أن يعطي. قد تجد إنساناً قدوة في عبادته وفي أخلاقه وفي سلوكه، قد جمع المواصفات التي تتمنى أن تكون موجودة عند الناس، لكن لو أردته أن يربي فقد لا يستطيع بالضرورة أن يربي، وإن كان قد يترك أثراً على الناس بسلوكه فقط، لكن أن يعطي وأن يؤثر على الناس؛ فليس بالضرورة فعل ذلك، فليس كل من يعجبنا ما عنده يكون بالضرورة مؤهلاً لأن يربي.

توجيه في تقصير بعض المربين في القيام بدورهم تجاه أبنائهم

توجيه في تقصير بعض المربين في القيام بدورهم تجاه أبنائهم Q هناك بعض المربين يكونون عند غير أهليهم في كامل قوة التوجيه والإعداد الجيد في التربية، ولكنهم -في المقابل- أمام أبنائهم ضعاف لا يستطيعون توجيه أبنائهم إلا بالضرب والقسوة، فهل من كلمة توجيهية إلى هؤلاء الأشخاص؟ A هؤلاء أقرب شيء إليهم أبناؤهم، وقد قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته). ونحن بحاجة إلى أن نعيد النظر كثيراً في حالنا في بيوتنا، وفي طبيعة علاقاتنا مع أبنائنا، وفي حسن علاقتنا معهم؛ إذ كيف نستطيع أن نؤثر على الآخرين ولا نؤثر على أبنائنا؟! وهذا دليل أنه ليست المشكلة تعود إلى قدراتنا، فنحن نملك القدرة، لكن الإنسان أحياناً يعيش في جو من الراحة والطمأنينة في خارج بيته، لكن إذا جاء إلى بيته فإنه يعيش في سجن وفي قفص يتمنى أن يخرج منه.

الموقف من إساءة الوالد إلى ولده

الموقف من إساءة الوالد إلى ولده Q ماذا تقول للوالد الذي يجتهد أبناؤه في رضاه وبره بكل وسيلة، ولكن هذا الأب -مع الأسف- يقابل ذلك بشيء من الجفاء، وافتعال مواقف يعاملهم فيها بشيء من عدم الاحترام والتحقير بناءً على سوء الظن عند هذا الأب، الأمر الذي يجعل الأبناء يشعرون بالإحباط، إذ كيف يقابل الإحسان بالنكران؟! وهل من حقهم أن ينتقلوا من بيت أبيهم إلى بيت قريب لتفادي كثرة هذه المواقف مع حرصهم على طاعة والدهم؟ A مهما كان فقد يقع عند بعض الآباء هذا الحال، نتيجة جهله، وقد يكون حريصاً، ومن الحرص ما يقتل، فيؤتى الإنسان من حرصه، وليس كل حريص يجيد الأسلوب المناسب، ولكن مهما بدر -أيها الإخوة- من الآباء، فحقهم علينا أعظم بكثير، فيجب أن نصبر، وأن نحتمل، وأن نسعى إلى إحسان معاملتهم وعشرتهم مهما بدر. فيا أخي! ليس هناك شيء أعظم من الشرك، وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] حتى لو جاهداك على الشرك فإنك تصاحبهما في الدنيا معروفا. فمهما كان من الخطأ والقسوة وسوء المعاملة وسوء التربية من الأب، فلا يسوغ بحال أبداً أن نسيء إليهم، وأن نغمطهم حقهم، فـ (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ هذا الباب أو أضعه).

دور المحفزات المادية في التربية

دور المحفزات المادية في التربية Q هل لكم أن تحدثونا عن دور الأشياء التشجيعية في التربية كالهدية والجائزة؟ A هذه قضية مهمة جداً ونغفلها أحياناً، وهي التشجيع والثناء، والتشجيع والثناء أحياناً قد يكون مادياً، وقد يكون معنوياً أكثر، وهو أسلوب كان يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في حث الناس، فقد سأله أبو هريرة فقال: (أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث قبلك)، لما علم من حرصه على الحديث، وهذا ثناء عظيم يثني به صلى الله عليه وسلم على أبي هريرة فيدفع أبا هريرة إلى التعلم. ولما سأل أبي بن كعب عن أعظم آية في كتاب الله قال: (ليهنك العلم أبا المنذر). وفي غزوة ذي قرد أردف النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وراءه، وقال: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة). فهذا الثناء يترك أثراً كبيراً وتشجيعاً، وله دور كبير في التربية، وأثر في التربية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله كثيراً في الثناء والتشجيع، وليكن كلمة حسنة، وليس بالضرورة أن تكون الأمور التشجيعية مادية، فقد تكون مادية، وقد تكون ثناء معنوياً، وقد تكون، المهم أن لها دوراً، وينبغي أن نعتني بها ونكثر منها، لكن ينبغي ألا تكون دائماً هي الأصل، وأن يتعود المرء على أنه لا يعمل لأجل هذا الثناء، ولا يعمل ليجد مثل هذه الجائزة والمكافأة، لا، ينبغي أن تكون ذلك دافعاً فقط، أما أن يكون كل شيء فلا؛ لأنه بعد ذلك سيتوقف أثر السلوك على هذا التشجيع، وتصبح القضية معاوضة، وتتحول إلى عقود المعاوضات بعد أن كانت من عقود التبرعات. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يصلح شباب المسلمين وفتياتهم وجيلهم إنه سمع مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

العلم المفقود

العلم المفقود الخشوع روح العمل، وهو فيه كالتنفس للجسد، وهو مرتبط بالعلم ارتباطاً وثيقاً، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولكننا اليوم صرنا نرى أن الخشوع يكاد ينزع من القلوب، وأن طلبة العلم يغرقون في حفظ المتون وجمع المسائل والأقوال في منأى عنه، وهذا مرض يجب أن يبحث عن أسبابه ويعمل على علاجه.

المقصود بالعلم المفقود

المقصود بالعلم المفقود الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فأول سؤال يطرح نفسه ما المقصود بالعلم المفقود؟ وأظن البعض يتساءل وهو يسمع هذا العنوان: ماذا يقصد بهذا العنوان: (العلم المفقود)؟ هذا العلم المفقود هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الإمام الدارمي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدرون منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً). ولا شك أن من يتأمل في حالنا، وفي حال الصالحين من الناس، يرى أن هناك فقداناً لهذا العلم، وأن هذا السمت والهدي الذي ينبغي أن يتسم به أهل العلم والصلاح والتقوى يعاني كثيراً من فقداننا له، والخطورة تزداد حينما لا نشعر بالمشكلة، أو لا نسعى إلى علاجها، والحديث أيها الإخوة حول هذا الموضوع حديث يطول، وأشعر أنني لا يحق لي أن أتحدث حول هذه القضية، لأنني حين أتحدث عن مثل هذه القضية وأحدثكم عن مثل هذا الموضوع، فإنني أشعر أنه يصدق علي قول القائل: فاقد الشيء لا يعطيه، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. ولا شك أن من احترام المرء لنفسه ولمن يستمع لحديثه ألا يتحدث إلا بما يحسن الحديث عنه، ولهذا آثرت ألا أتحدث عن هذا الموضوع جملة. إنما أتحدث عن جانب واحد له أهميته، ولعله من أهم أسباب معاناتنا، وأسباب فقدنا لهذا العلم، ذلكم هو الكلام عن العلم والخشوع، هي الصلة بين العلم والتقوى والصلاح، ذلك أنه في مثل هذه العصور المتأخرة، عاش الناس عزلة بين العلم وبين الرقة والخشوع، حتى ساد عند البعض أن الانشغال والانهماك في مسائل العلم مما يقسي القلب، وصار الوعظ والرقائق باباً آخر غير باب العلم، ولهذا يطلق على فلان أنه واعظ، لا يجيد إلا لغة الوعظ، والآخر فقيه بعيد كل البعد عن الوعظ والتأثير في القلوب، وهذه العزلة المفتعلة لها جذورها القديمة، ولها أسبابها وظواهرها، ولسنا بصدد الإفاضة بالحديث عن أسباب هذه الظاهرة، التي هي ظاهرة قد بدأت منذ قرون قديمة، منذ أن غاب عن الناس روح العلم الشرعي، وتعلقوا بالتقليد والتفريع والتأصيل على قواعد المذاهب وما يتعلق بها، فحين غابت عن الناس روح العلم الشرعي، صرت لا تستنكر أن ترى طالباً للعلم قاسياً قلبه معرضاً. إن ما أريد الحديث حوله في هذا اللقاء، هو التأكيد والدعوة إلى هذه الصلة، وإلى أن نعيد هذا الاعتبار للعلم، أن يرتبط العلم بالخشوع، وأن يرتبط العلم بالزهد والتقوى والصلاح، وألا نفترض أنهما قسيمان لا يلتقيان، نعم، قد يوجد من الناس مثلاً من يجيد الوعظ والتأثير في القلوب أكثر من غيره، وقد يوجد من الناس من يجيد التفريع والتأصيل في مسائل العلم أكثر مما يجيد تحريك القلوب. لكن هذا ينبغي أن يكون ضمن دائرة التخصص، لا دائرة التنافر، كما أننا قد نجد من أهل العلم من يجيد علم الحديث أكثر من إجادته للفقه، ومن تكون إحاطته بالتفسير أكثر من إحاطته بعلم الأصول والمعتقد، إلى غير ذلك من التخصصات. حين تكون القضية باب تخصص واهتمام فالأمر لا غبار عليه، مع التأكيد على القدر المشترك الذي لا بد منه هنا وهناك، أن يحمل الواعظ قدراً من العلم يمنعه ويحميه من الزلل والشطط، والمبالغة هنا أو هناك، وأن يحمل طالب العلم والمتعلم قدراً من الرقة والتقوى والخشوع، تؤدي به إلى أن يقوم بواجب العلم ودوره. ولعل من أمارات ذلك، أنك حين تلقي نظرة على واقع التعليم الشرعي في بلاد المسلمين، التعليم الذي يقدم حتى في المساجد، وتتصفح في هذا التعليم لتبحث عما ما يحرك القلوب، وما مدى نصيبه، وهل هو قسيم لتعلم الأحكام والحلال والحرام ومسائل الفقه والمعتقد، أم أنه من شأن الوعاظ، الذين لهم شأن آخر وباب آخر غير باب العلم. أما حين تنتقل إلى التعليم النظامي في الكليات الشرعية في العالم الإسلامي، فإنك لا تكاد أن ترى لمثل هذا العلم أثراً.

طالب العلم معلم بفعله قبل قوله

طالب العلم معلم بفعله قبل قوله إن المؤمل في طالب العلم الشرعي أن يجد في تعلمه وأن يجد في دروس العلم وحلق العلم، ما يحرك قلبه، وما يزيل الران عنه، وما يمحو القسوة التي كثيراً ما يعاني منها. وإننا حين نطالب بهذا المطلب، تدفعنا لذلك أمور عدة: أولها: أن طالب العلم داعية ومعلم بفعله وعمله قبل أن يكون معلماً بقوله. إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقتصر دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته. ولهذا يقول أبو العالية رحمه الله: كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه. بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته، مطلباً أعلى من تعلم المسائل، ويعد المتفقه والمتأدب والمتعلم على أحد أهل العلم أنه إن ظفر بتعلم هدي هذا العالم وسمته فقد ظفر بخير كثير، ولهذا يقول إبراهيم: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله. وهذا الأثر رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. وروى أيضاً عن ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. نعم كانوا يعنون بتعلم الهدي والسمت والخشوع والصلاح، تماماً كما يعنون بتعلم العلم. ونقف مرة أخرى عند هذا الأثر لنتساءل كيف نتعلم نحن هذه الأبواب الهامة من العلم؟ بل التي يعدها البعض -للأسف- خارج دائرة العلم، ويرى أن العلم أن تحفظ قول فلان وفلان في المسألة، وأن تحفظ طائفة من النصوص، وتتقن قدراً من المتون، أما هذه فلها باب آخر وشأن آخر. فهل نحن نعتني بتعلم هذه الأمور ودراستها كما نعتني بتعلم مسائل وأبواب العلم؟ لعل إدراك هذه الحقائق يجيب على تساؤل طالما طرحناه: لماذا قلوبنا قاسية؟ روى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث، وأوصى الأديب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني، أصحب الفقهاء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث. إن هذا أيها الإخوة يدعو طالب العلم إلى أن يدرك ويعي أنه لا يمكن أبداً أن يدعو الناس بما يقوله ويسطره فقط، بل إنما يتعلم الناس منه بهديه وسمته وأحواله وخشوعه وتقواه لربه تبارك وتعالى، أضعاف أضعاف ما يتعلمون ويفقهون من قوله، وما يرونه من حاله فإنه أعظم أثراً مما يسمعونه من مقاله. ولا شك أن العلم حين لا يكون وسيلة وخطوة للتعليم والدعوة ونشر الخير فإنه يصبح ترفاً وتكثراً، ويصبح وسيلة لأن يكون حجة على العبد يوم القيامة، حين يسأل عن علمه ماذا عمل به. الأمر الثاني: أن هناك عوائق تعترض طالب العلم، وهي عوائق تعترض الناس أجمع، لكنها في شأن طالب العالم أكد، فهي أخطر وأعظم أثراً عليه، وهذه العوائق لن يستطيع أن يتجاوزها طالب العلم، إلا حين يعنى بتعلم هذا الباب من العلم المفقود.

الآفات المصاحبة لطلب العلم

الآفات المصاحبة لطلب العلم

الإعجاب بالنفس

الإعجاب بالنفس من هذه العوائق: الإعجاب بالنفس، وهذا -عافانا الله وإياكم- عنوان الضلال، وبداية الشطط، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان قد طرد من رحمة الله تبارك وتعالى، حين أعجب بنفسه واستكبر. إن تعلم المرء للعلم وإدراكه لمسائل يشعر أن الناس من حوله لا يدركونها، ويشعر أن الناس يسألونه، وينصتون إذا تحدث، ويقدرونه؛ إن هذا مدعاة لأن يصاب بالعجب، وأن يدخل في نفسه ما يدخل، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، وخشية الله تبارك وتعالى، والإقبال عليه عز وجل، فإن هذا العلم سيكون من أعظم الأبواب للعجب والغرور عافانا الله وإياكم. ولهذا يقول الغزالي حول العجب: والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب. وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (أن الملائكة لا يدخلون بيتاً فيه كلب). وكلاً منا -أيها الإخوة- حين يتأمل في نفسه يرى أنه قد تدخل عليه هذه المداخل، وقد يعجب بنفسه، وقد يشعر أن الناس محتاجون إليه، وأن الناس ينصتون لقوله، وأن الناس يسألونه ويستفتونه ويستشيرونه ويأخذون برأيه، وهذا لا شك قد يكوك باباً من أبواب العجب والكبر، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، ولا يربيها على خشية الله عز وجل ومخافته والإقبال عليه، فإن هذا قد يوقعه في الضلال عافانا الله وإياكم. وقد يكون بداية للانحراف والضلال، بل البعض من الناس قد أدى به إعجابه بنفسه إلى الضلال، بل إلى الردة عافانا الله وإياكم.

الحسد

الحسد والداء الثاني: الحسد وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة يسعى الشيطان إلى إيقاعها بين الصالحين، وحين يشعر طالب العالم أن هناك غيره ممن قد يستمع الناس له، أكثر مما يستمعون لحديثه هو، وقد يتجه الناس إليه أكثر مما يتجهون له هو، وقد يشعر أن له قدراً أعظم من قدره، فإن النفس قد يدخل فيها ما يدخل فيها من الحسد، وحينئذ يبدأ رحلة مع الشيطان تقوده إلى إثارة الشحناء والبغضاء، وتقوده إلى تلمس المعايب والنقائص عند فلان، والطعن فيه والحديث عنه، بحجة الغيرة والحماية للدين، وليس الأمر إلا أنه رأى أن له منزلة أكثر مما له من المنزلة. ولهذا صارت هذه المنزلة التي يسلم فيها المرء من الحسد منزلة عالية، قل من يطيقها، يحدثنا عن ذلك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين بشر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة، فتلمس عمله وفتش فلم ير فيه كثير صيام وصلاة إلا أنه يبيت وليس في قلبه شيء على أحد من المسلمين، قال: تلك التي لا نطيق.

الهوى

الهوى المدخل الثالث: الهوى، والهوى حين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلا، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً. ولهذا أخبر تبارك وتعالى أن الجنة لا يستحقها إلا أولئك الذين سلموا من الهوى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. وأخبر تبارك وتعالى أن من الناس من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، أرأيت أو قرأت في التاريخ يوماً من الأيام أن رجلاً نصب تمثالاً يعبر عن الهوى فصار يركع ويسجد له؟ أم أن القضية أن الهوى صار قائداً للمرء، فما يدعوه الهوى إلى فعله يفعله، وما يدع وإلى تركه يتركه. وما أخطر الهوى معشر طلاب العلم على الصالحين! إنه يري المرء الحق باطلاً، ويريه الباطل حقاً، حتى ترى هذا المرء يسارع في الصد عن سبيل الله، ويسارع في الفتنة بين المسلمين وهو يعتقد أنه يحمل الغيرة على دين الله تبارك وتعالى. وليس يصدق على هؤلاء أعظم من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. إنهم أولئك الذين خاب سعيهم، وضل سعيهم وهم يظنون أنهم بذلك يحسنون الصنع، وأنهم يعبدون الله عز وجل بهذا الضلال. ولهذا صار أصحاب الأهواء من أبعد الناس عن التوبة والإنابة، وأهل الشهوات وإن عملوا ما عملوا، أقرب من هؤلاء للتوبة، لأن صاحب الشهوة يعلم أنه يواقع معصية، وقد تلومه نفسه، وتحدثه بالتقصير. أما صاحب الهوى فهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأن عمله يرضي ربه تبارك وتعالى، وأي هلاك وبوار أعظم من أن يشعر المرء أنه يتقرب بهذا العمل إلى الله، وهو مما يؤزه إليه الشيطان ويدفعه إليه.

لبس الحق بالباطل

لبس الحق بالباطل آفة رابعة: وهي من أخطر آفات طلاب العلم: لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، وقد حذر القرآن الكريم كثيراً من هذه القضية، وأخبر تبارك وتعالى أنه أخذ المواثيق على أهل العلم، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. وتوعد تبارك وتعالى الذين يكتمون العلم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160]. نعم، حتى أولئك الذين شعروا بشناعة جرمهم وتابوا لا تقبل توبتهم إلا أن يصلحوا ما أفسدوه، وأن يبينوا للناس ما كتموه. والله تبارك وتعالى يخبر وينعى على بني إسرائيل أنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأنها ستسير خلفهم حذو القذة بالقذة حتى لو دخل أولئك جحر ضب فستدخله هذه الأمة. إنها قضية صعبة أيها الإخوة، نعم، إن تحصيل العلم يفرض على من يحصله واجباً، ويفرض عليه وأن يقول هذا العلم، وأن يبينه للناس، وأن لا يكتمه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الميثاق على أصحابه وبايعهم على ذلك، والبيعة لا تكون إلا على أمر ذي بال، كما يحكي أولئك الذين شهدوا هذه البيعة: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيث كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم). وأولئك الذين يكتمون العلم قد توعدهم تبارك وتعالى بالوعيد الشديد، في أنهم لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب إليم. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، فما الذي يعصم طالب العلم من هذا المسلك، وما الذي يعين طالب العلم على القيام بهذا الواجب إلا حين يتربى على تقوى الله تبارك وتعالى، وخشيته فتهون الدنيا لديه، ويهون شأن الناس لديه، فلا يقدم ولا يرى إلا مرضاة ربه تبارك وتعالى.

التوصل بالعلم إلى المكاسب الدنيوية

التوصل بالعلم إلى المكاسب الدنيوية الآفة الخامسة: من الآفات التي قد تدخل على طالب العلم: التوصل بالعلم إلى الأغراض والمكاسب الشخصية. إن العلم قد يتيح للمرء علواً وبروزاً أمام الناس، وقد يتيح له فرصاً لا تتاح لغيره، فحين لا يتقي ربه تعالى قد يجعل هذا العلم سلماً لتحصيل هذه المكاسب، وقد توعد الله تبارك وتعالى أولئك الذين يجعلون العلم وسيلة لتحصيل الثمن العاجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:174 - 175]. ولله در الجرجاني رحمه الله حين قال: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمعاً صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانه ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما ولهذا كان السلف يوصون طالب العلم في مقتبل طلبه للعلم، أن يحفظ هذه الأبيات، لما فيها من المعاني، وتربية النفس على البعد عن السعي لهذه الأغراض الدنيئة. أيها الإخوة: ليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، إنما هذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها. فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها، وهل نحن نعنى بإعطاء طالب العلم الأداة التي تعين على ذلك، أم أننا نعطيه العلم، ونهمل هذا العلم الذي لا يؤدي العلم الآخر ثمرته بدونه. إن هذه الآفات أيها الإخوة، إنما تنشأ وتترعرع في تلك القلوب التي فقدت الخشوع، وفقدت التقوى، وفقدت الصلاح.

صفات أهل العلم في القرآن

صفات أهل العلم في القرآن الأمر الثالث: صفات أهل العلم في القرآن. لقد جاء الحديث في كتاب الله تبارك وتعالى كثيراً عن الخشوع والتقوى ومخافة الله تبارك وتعالى، وهي صفات أولى من يتصف بها حملة العلم، وحملة كتاب الله تبارك وتعالى. وهي آيات كثيرة، ولن نتحدث عن هذه الآيات، إنما أريد أن أشير إلى الآيات التي يربط فيها القرآن بين العلم وخشية الله تبارك وتعالى. فما هي صفات أهل العلم في كتاب الله عز وجل؟ إنهم أولئك الذين يسجدون لله، ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. إن هذا أيها الإخوة، ليس أمراً خاصاً بهذه الأمة، وليس هدياً خاصاً بها، بل هو شأن الذين أوتوا العلم في الأمم السابقة: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء:107]. هذه حالهم حين يسمعون آيات الله بتارك وتعالى، إن هذه الآيات ليست صفة للمتقين، وليست صفة للخاشعين، إنما هي صفات لأهل العلم. ولهذا ينبغي أن يعنى طلاب العلم، وأهل العلم بتحقيق هذه الصفات في نفوسهم، لهذا قال عبد الأعلى التيمي رحمه الله: من أوتي من العلم مالا يبكيه، لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله نعت العلماء ثم قرأ القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} [الإسراء:107] {يَبْكُونَ} [الإسراء:109]، وهذا الأثر رواه الإمام الدارمي. والعلماء هم أهل الخشية لله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. والعلماء هم الذين يقنتون لله سجداً وقياما، ويحذرون عذابه ويرجون رحمته: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. فلنقف أيها الإخوة عند هذه الآيات، ونتمعن فيها، إنها صفات لأهل العلم، إنها صفات للذين يعملون. إذاً فشرط أساس من شروط طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وكما أن على طالب العلم أن يتعلم النحو والأصول والمعتقد والفقه، فعليه أن يتعلم الخشوع، وخشية ربه تبارك وتعالى، وإلا فإنه لا يتصف بصفات أهل العلم، وصفات طلاب العلم. وأما ما جاء في القرآن من وصف المتقين والمؤمنين، والخاشعين وعباد الله الصالحين فأكثر من أن نحيط به في هذا المقام. ولا شك أن أهل العلم أولى أن يتصفوا بتلك الصفات، لأنهم حملة كتاب الله عز وجل، والدعاة إلى كتاب الله، والله تبارك وتعالى أخبر أن هذا الكتاب آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. لكني آثرت هنا أن أقتصر على هذه الآيات التي يربط فيها القرآن بين الخشوع والخشية، وبين العلم بهذا المصطلح، حتى لا نرى أن هذا الأمر باب آخر غير باب العلم، وحتى نعلم وندرك أنه يجب علينا أن نتعلم هذا الباب، وأن نتعلم هذا العلم، وأن نعلمه في مدارسنا، وفي مساجدنا وفي حلقاتنا، وأن نرى أنه من واجبنا كما أن من واجبنا أن نعلم هذا الطالب مسائل الطهارة والصلاة والمعاملات وما يحل وما يحرم وأن نعلمه ما يجب أن يعتقده في ذات الله تبارك وتعالى، وأن نعلمه علوم الأدوات والوسائل وغيرها. فيجب أن نعلمه الخشوع وتقوى الله تبارك وتعالى، كما نعلمه هذه المسائل.

العناية بعصر النبوة

العناية بعصر النبوة الأمر الرابع: العناية بهذا في عصر النبوة: ويصور لنا هذا المعنى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أحد الشباب، وهو جندب بن عبد الله رضي الله عنه، فيقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا) رواه ابن ماجة. فما أحوج الشباب اليوم إلى أن يتأسوا بهدي سلفهم رضوان الله عليهم، وكانوا وهم فتيان يتعلمون الإيمان ومسائل الإيمان كما يتعلمون القرآن، وتعلمهم لمسائل الإيمان ليس تعلمهم للمسائل الجدلية الكلامية، ولا للخلاف بين أولئك الذين يدخلون العمل في مسمى الإيمان أو يخرجونه، وإن كانت مسائل لا بد أن يتعلمها طالب العلم. إنما كان تعلمهم للإيمان هو ذلك الإيمان الذي يحرك القلوب، والذي يصل القلوب بربها تبارك وتعالى، حتى تستجيب لأمر الله عز وجل، فحين تتعلم القرآن بعد ذلك تزداد إيمانا، ويترك القرآن أثره في النفوس. وأيضاً يؤيد ذلك المعنى الأثر الذي ذكرناه في أول المحاضرة، وهو ما يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدر منه على شيء، قال فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء فأخبرته بالذي قال، فقال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع). فسماه رضي الله عنه علم الخشوع قال: (يوشك أن تدخل المسجد مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعا). ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. ثلاث مرات) رواه مسلم. فانظر كيف كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه، فكانوا يتعلمون هذه المسائل، ويتعلمون هذه الأبواب، كما كانوا يتعلمون القرآن أول ما ينزل، وكما كانوا يتعلمون سائر مسائل العلم، وأبوابه. فقد كان العلم هكذا في عصر النبوة، ولم يعرف عصر النبوة هذا الفصل المقيت بين العلم والخشوع، فيصبح هذا باباً، وذاك باب آخر، هذا له فئة وذاك له فئة أخرى.

عناية السلف بالخشوع وأقوالهم في ذلك

عناية السلف بالخشوع وأقوالهم في ذلك الأمر الخامس: عناية السلف بهذا الأمر، والحديث عن أحوال السلف، في الخشوع والصلاح والورع والتقوى حديث يطول، بل إنك لو أخذت سيرة علم واحد من أعلام السلف رضوان الله عليهم، لشعرت أن المقام لا يسعك في الحديث عن أحواله، في الخشوع والعبادة والتقوى والصلاح. واقرأ في تراجم الفقهاء والعلماء من سلف الأمة، بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عبد الله بن مسعود وابن عمر، وأبي موسى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاذ وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وانتقل إلى الحسن وإلى سفيان وإلى أيوب، وإلى مكحول، وإلى غيرهم، ثم انتقل إلى الليث وابن سيرين ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ثم انتقل إلى من تلاهم فاقرأ في سيرة ابن قدامة وابن الجوزي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم. وانظر كيف كانت حالهم في العبادة، والتقوى والصلاح، وأنت حين تتأمل في سيرة البعض، فقد ترى أن المأثور عنهم في أبواب الزهد والرقائق أضعاف المأثور عنهم في مسائل الفقه والحلال والحرام. وهذا يعني أن السلف رضوان الله عليهم لم يكونوا يعرفون هذا الفصل، ولم يكونوا يعرفون هذه الهوة المفتعلة بين هذا العلم وبين مسائل الحلال والحرام، وسائر أبواب العلم والفقه. وهاهي طائفة من أقوال سلف الأمة، وهي كثيرة من أرادها فليرجع إلى مظانها، مما صنفه أهل العلم في أبواب أدب العالم والمتعلم، أو صنفه أهل الحديث في أبواب العلم، لكني أشير إلى طائفة يسرة من النقول عنهم، ولن أشير أيها الإخوة إلى أخبارهم في الخشوع والصلاح والتقوى، ولا إلى ما قالوه في ذلك، إنما سأقتصر على ما نقل عنهم، من الربط بين العلم والخشوع، لأن هذا هو موضوع حديثنا، وإن كانت جميع أقوالهم وأحوالهم تعتبر دليلاً على ذلك، لأن أولئك هم حملة العلم، وهم أهل العلم، فإذا كانت حالهم كذلك، فإن هذا يعني أن هكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، وينبغي أن يكون طلاب العلم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. وروى أيضاً عن مالك رحمه الله يقول: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل). وقد أخبر الله تبارك وتعالى أن هذا الكتاب قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]. نعم إن العلم وسيلة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الهوى والتعصب والحقد والحسد إلى نور سلامة الصدر والقلب وصفائه. ويقول مالك أيضاً فيما رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: (إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله). ويروي الإمام الآجري في أخلاق العلماء، عن يحيى بن أبي كثير: (العالم من خشي الله، وخشية الله الورع). وروى الإمام الدارمي عن سعد بن إبراهيم أنه قيل له: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه. وينقل لنا الحسن رحمه الله فيما رواه ابن عبد البر والآجري عنه وصفاً دقيقاً لأحوال السلف يقول: (إن كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده. وإن كان الرجل ليطلب الباب من أبواب العلم، فيعمل به فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها، لو كانت له، فجعلها في الآخرة). إذاً: فالقضية ليست مجرد أحوال، ارتقى إليها بعض سلف الأمة. وليست مجرد أقوال ذكرت عن بعضهم، إنما هو سلوك كان سائداً عند السلف رضوان الله عليهم، فكان أن يبدأ الرجل في طلب العلم، حتى ترى هذه الأحوال لديه، ونتساءل معشر طلاب العلم اليوم، ونحن نتعلم العلم، فنقرأ ونحضر مجالس العلم، ونعلم العلم، أين هذا في أحوالنا؟ وهل يرى ذلك علينا؟ أترون أن هذا عيب في العلم؟ أترون أن العلم لا يرقق القلوب، أم أن لنا شأناً مع العلم ومع طلب العلم غير شأن السلف رضوان الله عليهم، وأنا فقدنا هذا الجانب؛ لذلك أصبحنا نتعلم أبواب العلم، ونحصل المراتب والشهادات العالية، ونحن من أقسى الناس قلوباً، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم رقة القلب وخشيته تبا

الأسئلة

الأسئلة

دعوى أن التخصص في العلم سبب للفصل بين العلم والخشوع

دعوى أن التخصص في العلم سبب للفصل بين العلم والخشوع Q ألا ترى أن من أسباب وجود تلك التفرقة أو الانفصام في شخصية الطالب بين الخوض في مسائل الفقه والحديث، وبين الخشوع والرقائق كما ذكرتم، من أسبابها التخصص، فحين يتخصص طالب السنة والحديث في هذا التخصص لا بد أن يسخر أوقاته في الحفظ والمراجعة ومعرفة أسماء الرجاء ومذاهب الأئمة، والتفتيش في الكتب والمطالعة الدائمة فيطغى ذلك على شخصيته، أو طالب الفقه في معرفة مذاهب الأئمة وملازمة كتب الفقه، فمن هنا يغرق كل واحد في تخصص ما، ويطغى وقته على هذه الأمور؟ A لا أوافق على ذلك، فقد يحتج البعض في ذلك بهذه الحجة، ولعل الأخ يقصد سياق الحجة ولا يقصد التأييد على ذلك؛ لكن ماذا نريد من إنسان يحفظ مسائل العلم ويتقنها ثم بعد ذلك لا يملك ما يضبط هذا العلم وما يجعله يؤدي الدور الحقيقي. والعلم إما أن يكون خيراً على المرء وللناس، وإما أن يكون وبالاً عافانا الله وإياكم. لأنه حين يتسلل الهوى والشهوات والأغراض إلى طالب العلم، فإنه يصبح وسيلة لإضلال الناس، ويصبح وبالاً على نفسه وعلى المسلمين، ولهذا فحين نفتقد هذه المعاني، ونفتقد هذه الأمور، فإنه مدعاة إلى تسلل هذه الأهواء. ثم بيني وبينك يا أخي كتاب الله بعيداً عن هذا كله، فهذه صفات أهل العلم في كتاب الله عز وجل، فمن لم يتصف بها فقد نقص وفقد صفة مهمة من صفات أهل العلم، فالقرآن والسنة وأقوال سلف الأمة الذين برعوا في العلم، وبرعوا في هذه المسائل كلها ناطقة بأن العلم لا ينفصل عن هذه القضية، ولا ينفصل عن هذه الحقيقة. ومما يؤسف أنك تجد في العالم الإسلامي كثيراً من حملة الشهادات العليا في التخصصات الشرعية تجده في مظهره غير ملتزم. يعني طبيعي جداً تدخل جامعة في العالم الإسلامي، فتجد أستاذ شريعة وأستاذاً في السنة واسع الإطلاع على المسائل لكن مظهره الشرعي بعيد عن الالتزام الشرعي، فتجد أنه حالق لحيته، مسبل ثوبه، لا يؤدي الصلاة مع الجماعة أو لا يحافظ عليها، فلماذا نشأ هذا الأمر؟ نشأ من الفصل بين هاتين القضيتين. فلا يليق أبداً بأي حجة أن نلغي هذا الأمر، بل نعتبر أن هذه القضية ليست قضية تخصص، وأن الخشوع مطلب أساسي لكل طالب علم، لا يجوز أن يخل به أبداً، كما أن هناك علوماً مما هي بالنسبة لطالب العلم فرض عين لا يسقطها التخصص، كذلك هذا الأمر من أهم الأمور. نعم قد يكون التخصص في جانب إبداع هذا الإنسان وقدرته على التأثير على الناس بشكل أكبر، وهذا موجود حتى عند السلف، فقد وجد عند السلف من كان في الوعظ أكثر تأثيراً من غيره، هنا يأتي جانب التخصص، أما أن نلغي هذا وأن نفتقده فلا، لأنا نكون قد فقدنا القدر الواجب الذي لا يستقيم علم الإنسان بدونه.

معالجة مرض عدم الخضوع لا يكون الخشوع لا يكون بترك طلب العلم

معالجة مرض عدم الخضوع لا يكون الخشوع لا يكون بترك طلب العلم Q العلم الخشية، وقد يتبادر إلى أذهان البعض أنه من لم يجد الخشية في علمه الذي يطلبه، فإنه يترك العلم، أرجو التأكيد على هذه النقطة. A الخشية والخشوع هي أول علم يفقد، وحينما يشعر المرء بأن هذا العلم الذي يتعلمه أو يطلبه لا يحقق لديه هذا الجانب، فالحل ليس في تركه، ولا التخلي عنه، إنما الحل في إصلاح النفس، والحل في المراجعة والبحث عن الأسباب التي جعلته لا يجد هذا الأمر في نفسه، والخطأ لا يعالج بالخطأ. وهذا الذي لم يتحقق له الخشية والخشوع من طلب العلم، فلا شك أنه حين يترك طلب العلم فإنه أولى أن يكون أكثر بعداً عنه.

مناقشة أهل البدع أو ترك ذلك

مناقشة أهل البدع أو ترك ذلك Q لا يخفى عليكم وجود شرائح متنوعة من الشباب الملتزم، ومن هذه الشرائح شريحة يجتمع فيها اتباع الهوى والحسد وتلبيس الحق بالباطل على الناس، والمؤسف أن كثيراً من هؤلاء الشباب من المغرر بهم، ويظن كما ذكرتم أنه يعمل لدين الله، ويشغل نفسه بأمور وأحداث لا فائدة من ورائها، فما السبيل في إقناع هؤلاء، بأن ما يظنون أنه حق هو باطل، أم أن من الأفضل عدم نقاشهم والخوض معهم في مثل هذه الأمور؟ A النقاش ينبغي أن يكون أولاً مع من يحترم النقاش، فمن تجد أن لديه استعداداً للنقاش والأخذ والعطاء وسماع رأي الآخرين فممكن أن تفتح معهم النقاش. أما الإنسان الذي يناقشك ليقنعك بما عنده، وليس عنده استعداد أنه يستمع لوجهات نظر الآخرين، فإن النقاش معه لا يقسي القلب ويضيع الوقت، فينبغي ألا نضيع أوقاتنا في مثل هذا الجدل العقيم. ولا شك أن تربية الناس على التقوى والتجرد وخشية الله تبارك وتعالى، ومراقبة الله عز وجل وإرادة وجه الله والدار الآخرة، ومحاسبة النفس والمراجعة، مدعاة أن يستفيق الإنسان من هذه الأمراض. وهذه الأمراض من الهوى والحسد وغيرها خطورتها أنها خفية لا يتفطن إليها الإنسان، فيخيل للإنسان أن هذا العمل صالح لا معصية فيه، وأنه تقوى لله عز وجل وخشية لله تبارك وتعالى، وأنه بهذا الأمر يقوم على حراسة الدين، وعلى حماية الأمة، وهو يثير الفتنة ويصد الناس عن سبيل الله عز وجل، عافانا الله وإياكم. أقول: حينما يكون هذا الأمر خفياً فإنه يصبح صعباً أن يتعرف الإنسان عليه، لكن حين يتقي الله ويقبل على الله عز وجل فإن الله تبارك وتعالى يعين الإنسان، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه تبارك وتعالى أن يريه الحق حقاً ويرزقه اتباعه، وأن يريه الباطل باطلاً ويرزقه اجتانبه. ويقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). هذا الدعاء الذي يتكرر كثيراً، بل يدعو المسلم به ربه تبارك وتعالى كل يوم مرات ومرات، لأن الإنسان قد يلتبس عليه الحق بالباطل، وقد يرى الحق باطلاً والباطل حقاً. فالعناية بإصلاح القلوب والتجرد لله عز وجل وسؤال الله تبارك وتعالى الهداية، ومحاسبة النفس والمراجعة مما يعين الإنسان بإذن الله عز وجل على تجاوز هذه الأبواب الخطيرة، والموفق والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى.

المطلوب هو الخشوع بالقلب والعمل

المطلوب هو الخشوع بالقلب والعمل Q هذه قصة أحب أن تذكر بها الناس: يروى عن بعض المشايخ أنه كان يبكي في درس النحو ثلاث مرات، أثناء ذكر الأمثلة من كتاب الله، وكلما ذكر آية بكى. الشيخ: نحن لا نفتش عن حال بعض من يبكي في درس النحو، لكن من يعظ الناس أن يتحرك قلبه، فليست القضية فقط على البكاء، ثم أن البكاء والخشوع هو خطوة لخشوع القلب وتقوى الله. وأيضاً ينبغي أن لا يكون هذا هو النهاية، وألا يكون الإنسان مثل الذين جاءوا أباهم عشاء يبكون، أعني أنه قد يبكي الإنسان ويتأثر تأثراً صادقاً غير مصطنع، لكنه أحياناً ينتهي أثره، فالخشوع والتقوى ينبغي أن يرى أثره على المرء في هذه الأحوال، ثم أثرها أيضاً بعد ذلك ينبغي أن ينتقل الإنسان في عمله وإصلاح قلبه، وخشوعه لله عز وجل.

أسباب كمال العلم

أسباب كمال العلم Q ما الأسباب التي تؤدي إلى كمال العلم عند الطالب جزاك الله خيراً؟ الشيخ: الأسباب هي التي أشرنا إليها في ختام المحاضرة، وهذا ليس مقصود الحديث، فالهدف من طرق هذا الموضوع وطرق هذه المحاضرة هو الإشارة إلى هذا العلم المفقود، والإشارة إلى الربط بين القضيتين، إلى أن قضية الخشوع والخشية قضية لا تنفصل عن العلم وعن طلب العلم. أما وسائل العلاج وتحقيق ذلك فهذا يحتاج إلى حديث مستقل، وكان في الذهن أن أتحدث حول هذه القضية، لكن أشعر أنه سيضطرنا إلى الاختصار وأنه يمكن أن نكتفي بأن يكون هدفنا من الحديث حول التنبيه وإثارة الاهتمام بهذه القضية، لكن أشرت باختصار في نهاية الحديث إلى أن العناية بالقرآن والسنة وأحوال السلف وأخبارهم، والقراءة في كتب الرقائق والآداب مما يعين الإنسان على ذلك، والحرص على العبادة الاستفادة منها، وتقوى الله عز وجل.

الربط بين العلوم الطبيعية والخشية

الربط بين العلوم الطبيعية والخشية Q كيف نربط بين الخشية والعلم الطبيعي كالطب والهندسة أو تدريس هذه العلوم؟ الشيخ: الحديث الذي سلف عن قضية الربط بين العلم والخشية والخشوع، هم يعنون بذلك العلم الشرعي، ولا شك أنه ينبغي أن لا نتدخل ونشعر أن دراسة الهندسة والطب والطيران أو دراسة الأدب الأوروبي أو الأدب في العصور المتتابعة أو النقد أو غيره أو دراسة النحو وما يتعلق به أنه مدعاة الخشية والخشوع. وهذا لا يعني أيضاً تسفيه أهل هذه التخصصات والدراسات، والأمة تحتاج إلى هذه التخصصات، فالقضية الأولى: أن الربط بين العلم والخشية والخشوع، وأن العلم مدعاة للخشية والخشوع إنما هو في العلم الشرعي. الأمر الثاني: أن هذا لا يعني أيضاً أن أصحاب هذه التخصصات والدراسات ينبغي أن تكون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فينبغي أن يعتني هو بتخصصه وعمله ويهتم به ويبدع فيه، وينفع الناس. وأنا لا أدعو أصحاب هذه التخصصات إلى أن يهملوها، وأن ينشغل الإنسان بقراءات أخرى على حساب تخصصه، فيصبح غير نافع في المجال الذي هو فيه، فإن الأمة تحتاج إلى أن تستغني عن أعدائها، وتجتهد أن تكون النموذج أمام الأمم لأنها أمة أخرجها الله لتكون خير أمة تحمل هداية الناس، وما لم تكن الأمة مستغنية عن أعدائها فإننا لن نستطيع أن ننشر ديننا للناس، ولن نستطيع أن نقوم بهذا الدور والواجب الشرعي الذي أوجبه الله عز وجل علينا، لكن على الإنسان الذي في مثل هذا العمل وهذا الموقع أن يسعى إلى ما يرقي القلب في مجالات أخرى، من خلال قراءة القرآن، والقراءة في كتب الرقائق والآداب، وقد يوجد هذا النموذج بجانب آخر. خذ مثلاً رجل الهيئة، قد يتطلب عمله نزوله إلى الأسواق، والدوام فيه، وهذا لا شك مدعاة لأن يرى من المناظر والمشاهد ما يصيبه ببلادة الإحساس أحياناً، لأنه كلما اعتاده الإنسان رؤية المنكرات أصيب ببلادة إحساس، وقد يزداد قسوة، لكن هل نترك العمل الذي هو من أعظم الأعمال لأجل هذا الاعتبار؟ لا، لكن يجب أن يعمل، ثم يسعى إلى علاج هذا المريض، خلال وسائل وأبواب العلاج الأخرى. نكتفي بهذا القدر من هذه الأسئلة، وأسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بصلاح قلوبنا وأعمالنا، إنه سميع مجيب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا إنه سميع مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد إلا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الشباب والشهوة

الشباب والشهوة لقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل له شهوة كامنة فيه، فإن صرفها بصورة صحيحة كان أمره قائماً ومحموداً، وإن أساء في استخدامها وتصريفها جرفته إلى المهالك والمهاوي، وكان عاقبتها خسراناً في الدنيا والآخرة.

خطورة الانزلاق وراء الشهوات

خطورة الانزلاق وراء الشهوات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة حتى أتاه اليقين من ربه، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه. أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن أبدأ في هذا الموضوع أود أن أنبه إلى عدة أمور: أولها: موضوع حديثنا: الشباب والشهوة، ولا يعني هذا أن الأمر لا يعني إلا الشباب، فكما أنه يعني الشباب فهو يعني بدرجة كبيرة من الأهمية الآباء وأولياء الأمور، ويعني أيضاً بدرجة أخرى الأساتذة الذين يتولون تربية الشباب وإعدادهم، فجدير بهم أن يعرفوا ما يدور في خواطر هؤلاء الشباب، وأن يعرفوا الأخطار المحدقة بهم والتي تهددهم. أمر آخر: أنا أتحدث في مسجد مع رواد المساجد، ومع أناس -أحسبهم والله حسيبهم- من الناس الأخيار، وأعرف مع من أتحدث. إذاً: فقد يقول القائل: لم تتحدث عن مثل هذا الأمر مع هؤلاء؟ إن هذا الكلام ينبغي أن يوجه إلى أهل الأرصفة والشوارع. فأقول: إن هذا الأمر يعني الشباب حتى الأخيار منهم؛ لأنهم يعانون من هذا الأمر، ويعانون من هذه الشهوة الخطيرة، كما سأشير إلى شيء من ذلك في ثنايا الحديث. فجدير بهم أن يعتنوا بحماية أنفسهم، وأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في إيمانهم وطاعتهم لله عز وجل. والأمر الثاني: أن الشباب الذين منَّ الله عليهم بالهداية ينبغي أن يحملوا مشعل الدعوة والإصلاح لغيرهم من الشباب، فجدير بهم أن يكونوا على علم بمثل هذه الأمور. أيها الإخوة! إن الشهوات أمر عام يشمل كل ما ركبه الله سبحانه وتعالى في نفس ابن آدم من الأمور التي يحبها ويميل إليها، فشهوة المال شهوة، وشهوة السلطان شهوة، وشهوة الاستعلاء والجاه شهوة، وشهوة الفرج -أو ما تسمى في لغة العصر شهوة الجنس- شهوة أيضاً. وحينما نقول: الشهوة، فإن (أل) هنا عهدية، فنعني بذلك هذه الشهوة، ونعني بذلك هذا الأمر الذي أمر الله سبحانه وتعالى بحفظه، ورتب على ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة، وإرث الفردوس، نعني بذلك هذا الفرج الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم وتكفل لمن حفظه ورعاه بالجنة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة). أيها الإخوة! إن هذا الأمر خطير جداً -أعني: أمر الشهوة-، خطير لأنه يترتب على الانسياق وراء الشهوة ذلك الوعيد الشديد في الدار الآخرة، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به من أتبع نفسه هواها، وانقاد وراء شهوته. والكثير من الشباب الذين تزل بهم القدم ويهوي عندما نفتش عن أسباب ذلك؛ نجد أن الكثير منهم كان السبب وراء ذلك الانزلاق هو هذه الشهوة. فهذا الموضوع خطير وخاصة في هذا العصر؛ حيث كثرت فيه المغريات، وكثرت فيه وسائل الفتنة ودواعي الفتنة، وتفنن أعداء الله بما يملكون من وسائل وقدرات في فتنة الشباب وتزيين الباطل لهم، والشيطان يؤزهم في ذلك أزاً. أيها الإخوة! في دراسة أجراها بعض طلبة جامعة الإمام على إحدى الدور الاجتماعية بمدينة الرياض كانت نتيجة الدراسة أن (80%) من أفراد العينة قد وقعوا في عمل قوم لوط، عافنا الله وإياكم من ذلك، وإن (80%) منهم كان يمارس العادة السرية. إن مثل هذا وغيره يدل دلالة واضحة على مدى تفشي هذه الأمور وهذه الظواهر السيئة في مجتمعنا الذي هو من أكثر مجتمعات المسلمين محافظة، فكيف بغيره من المجتمعات!

الحكمة من ابتلاء الله تعالى للعباد بهذه الشهوة وجعلهم يميلون إليها

الحكمة من ابتلاء الله تعالى للعباد بهذه الشهوة وجعلهم يميلون إليها وقد يسأل سائل أيها الإخوة! فيقول: لماذا يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده بهذه الشهوة، وهو الرحيم بهم سبحانه وتعالى؟ ولماذا أودع الله عز وجل في عباده الميل لهذا الأمر، ثم نهاهم عن هذه المقارفة، ورتب على ذلك العقوبات الشديدة في الدنيا والآخرة؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم، وهو سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، إننا حينما نتأمل في هذا الأمر نستطيع أن ندرك بعض أطراف حكمة الله سبحانه وتعالى من هذا الأمر، أعني: كونه ركب الشهوة في نفوس الناس، ثم نهاهم عن مقارفة الحرام، ورتب على ذلك خزي الدنيا ونكال الآخرة. فندرك بعض الحكم ولا نستطيع أن ندرك جميع حكمة الله سبحانه وتعالى. ومن الحكم في ذلك أيها الإخوة: بقاء الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى ركب في نفس الإنسان هذه الشهوة؛ حتى يميل إلى النكاح، وحتى يميل الرجل والمرأة إلى النكاح، مما يساعد على التناسل وعلى بقاء الإنسان، وبدون ذلك لا يبقى نوع الإنسان. أيها الإخوة! ومن أعظم الحكم في ذلك الابتلاء والامتحان، حين يكون طريق المعصية محبباً إلى النفس، ويكون طريق الطاعة شاقاً محفوفاً بالمكاره، وحينما يكون الأمر كذلك لا يسلك هذا الطريق -طريق الطاعة- ولا يجتنب ذاك الطريق -طريق المعصية- إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى، ومن يملك الإيمان الحق والقناعة بهذا الدين، والإيمان الذي لا يتزعزع بما أعد الله سبحانه وتعالى لمن أطاعه، وبما توعد به من عصاه يوم القيامة. فلا تظهر حكمة الابتلاء، ولا يظهر الصادق في إيمانه والجاد إلا حينما يكون طريق الخير محفوفاً بالمكاره، وطريق النار محفوفاً بالشهوات، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). أيها الإخوة! ومن الحكم في ذلك: ظهور فضل أولياء الله سبحانه وتعالى الذين يطيعون الله عز وجل، والذين ينهون النفس عن الهوى، والذين يحفظون حدود الله وحرمات الله سبحانه وتعالى، فيدعوهم إيمانهم بالله عز وجل، ومحبتهم له، وخوفهم منه، ورجاؤهم لما عنده، يدعوهم ذلك إلى أن يجاهدوا أنفسهم، ويدعوهم ذلك إلى أن ينتصروا على شهواتهم ويستعلوا عليها. وحين يغفلون عن أعين الناس يعلمون أن الله سبحانه وتعالى يطلع عليهم، وأنه محيط بهم، وحين لا يراهم أحد يعلمون أن الله عز وجل يراهم سبحانه وتعالى. إذاً: أيها الإخوة! إن في هذا الأمر ظهوراً لفضل أولياء الله سبحانه وتعالى، وفضل عباده المتقين، الذين يحفظون حرمات الله عز وجل.

مخاطر الانسياق وراء الشهوة

مخاطر الانسياق وراء الشهوة ننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى وهي: ما مخاطر الانسياق وراء الشهوة؟ الانسياق وراء الشهوة نعني به أن يرتكب المرء ما حرم الله سبحانه وتعالى مما يتعلق بهذه الشهوة؛ بدءاً بصغائر الأمور، وانتهاءً بالفواحش والكبائر، عافانا الله وإياكم من ذلك.

الوعيد الشديد في الدنيا

الوعيد الشديد في الدنيا أول أمر يترتب على هذا: الوعيد الشديد الذي يرجف فؤاد المسلم حينما يسمعه، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). فهذه معاصٍ نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن مرتكبها، وأخبر كما في إحدى روايات الحديث: (أنه يرتفع الإيمان فوقه حتى يكون كالظلة)، حينما يعلم هذا الوعيد الشديد فإنه يخاف على إيمانه، ويخشى على إيمانه، يخشى أن يقارف هذه المعصية العظيمة الشنيعة، فيكون مستحقاً لهذا الوعيد الشديد؛ بل ويتورع عن الصغائر في ذلك؛ لأنه يعلم أنها هي الخطوة الأولى في طريق الفواحش والكبائر.

الوعيد الشديد يوم القيامة

الوعيد الشديد يوم القيامة الأمر الثاني من مخاطر الانسياق وراء هذه الشهوة: الوعيد الشديد يوم القيامة لمن فعل ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، يقول: (أتاني رجلان فانطلاقا بي إلى أرض مقدسة -وذكر الحديث بطوله-، قال: فأتيا بي على تنور فإذا به رجال ونساء عراة، وإذا يخرج من تحتهم لهب، فإذا ارتفع اللهب ضوضوا وصيحوا، فسألت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء الزناة والزواني). هذا أيها الإخوة! بعض ما يتعرض له من ارتكب هذه الشهوة الخطيرة، وبعض ما يتعرض له من تساهل في نهي الله سبحانه وتعالى المؤكد عن الانسياق وراء هذه الشهوة.

الولوع بالفواحش والتعلق بها من أعظم أسباب سوء الخاتمة

الولوع بالفواحش والتعلق بها من أعظم أسباب سوء الخاتمة الأمر الثالث أيها الإخوة: أن الولوع بالفواحش والتعلق بها من أعظم أسباب سوء الخاتمة، عافانا الله وإياكم من ذلك، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك -وذكر الحديث وفيه-: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). ولذلك كان بعض السلف يقول: والله إني لا أخشى الذنوب، وإنما أخشى سوء الخاتمة. أيها الإخوة! في حال الاحتضار يكون المرء في أضعف أحواله، فتجتمع عليه شياطين الجن تحتوشه تخشى أن يموت على الإيمان، وفي هذه الحال الشديدة وهو يعيش هذا الهم والغم، ويعيش الكرب، ويعاني من سكرات الموت التي عانى منها أطهر الخليقة وأبرها صلى الله عليه وسلم، في هذه الحالة الشديدة الكئيبة التي يعيشها المرء تجتمع عليه شياطين الجن تحاول أن تصده عن دينه؛ لأنهم يعلمون أن هذه آخر فرصة لهم، فيحاولون أن يصرفوه من هنا وهناك. وحينئذٍ لا نجاة ولا أمل للعبد إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وحفظ الله عز وجل له، وإلا فلو وكل الله سبحانه وتعالى العبد إلى نفسه طرفة عين في هذه الحياة الدنيا لضاع وضل، كيف به وهو يعاني من أهوال الموت! وفي هذا الموقف أيضاً أيها الإخوة! يحضر المرء ما كان يدور في خلده، وما كان يشغل باله في الحياة الدنيا، وحينئذٍ يبدأ يتفوه ويهذي بما كان يشغله في الحياة الدنيا، فإن كان مطيعاً لله مات على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن كان من المتعلقين بالدنيا أصبح يردد ما يتعلق بالدرهم والدينار، وإن كان من المتعلقين بالفواحش أصبح يردد ما يتعلق بذلك. أيها الإخوة! ذكر الأخبار حول هذا الأمر يطول، وليس هذا وقته، وقد ذكر طرفاً من ذلك عبد الحق الإشبيلي في كتابه (العاقبة)، ونقل بعضاً منه الإمام ابن القيم في كتابه القيم (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، فمن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى هذه الكتب. ولعلي أورد قصة مختصرة حول هذا الأمر، ذكر عبد الحق في هذا الكتاب عن رجل، وكان من الناس الصالحين، والعلماء الأخيار، رأى غلاماً أمرد فتعلق قلبه به، وكلف به حتى فقده، فلما فقده مرض واشتد به المرض، فذهب الناس يسعون إلى هذا الغلام؛ لعله أن يأتي إليه لأجل أن يراه فقط، فما زالوا به حتى أقنعوه أن يجيء إليه، فلما بلغ هذا الرجل موافقة الغلام سر وعادت إليه بعض حاله، فلما أخبر الغلام بذلك خاف من الله سبحانه وتعالى، فعدل عن مجيئه، وهنا اشتدت الحال بهذا الرجل، وأصبح يردد بيتين -عافانا الله وإياكم منها- كفر بهما بالله سبحانه وتعالى، قال فيهما: أسلم يا راحة البال العليل ويا شفاء المدنف النحيل رضاك أشهى إلي من رحمة الخالق الجليل عافانا الله وإياكم، ومات وهو يردد هذين البيتين. أيها الإخوة! إنه أمر خطير جداً أن يتعلق المرء ويتعلق قلبه بمثل هذه الأمور، فتحضره عند وفاته يوم لا ينفعه -بعد توفيق الله سبحانه وتعالى- إلا عمله الصالح.

استيلاء الشهوة على القلب ينسي الإنسان مصالح دينه ودنياه

استيلاء الشهوة على القلب ينسي الإنسان مصالح دينه ودنياه الأمر الرابع أيها الإخوة! من مخاطر الشهوة: أن استيلاء الشهوة على القلب ينسي الإنسان مصالح دينه ودنياه، فتصبح الشهوة همه، فتقيمه وتقعده، يفكر بها في كل شئون حياته، حتى قد تجده -والعياذ بالله- يفكر بذلك في صلاته، ويفكر بذلك في نومه، وفي سائر أحواله، ويصبح همه وتفكيره منساقاً وراء هذه الشهوة، فيتعلق قلبه بها، فينسى بذلك مصالح دينه، وينسى بذلك ما فيه الخير له في الدين والدنيا، وينسى بذلك مصالح دنياه.

تعلق القلب بالشهوة يكون على حساب محبة الله ورسوله

تعلق القلب بالشهوة يكون على حساب محبة الله ورسوله الأمر الخامس من مخاطر هذه الشهوة: أن تعلق قلب الإنسان بها ومحبته لها يكون على حساب محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن القلب لا يمكن أن يجتمع فيه النقيضان، لا يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم التي بها يجد العبد حلاوة الإيمان، (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، ومحبة غيرهما مما يجلب للقلب القسوة. إن الرجل الذي تستولي الشهوة على قلبه وعلى فؤاده جدير بألا يبقى في قلبه مكان لمحبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم. واعلم أخي المسلم! أنه بقدر ما يتعلق قلبك بأمر من أمور الدنيا، وشهوة من شهوات الدنيا بقدر ما تفقد من ذلك من محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.

التعلق بالشهوة من أكثر أسباب الضلال والانحراف بعد الهدى

التعلق بالشهوة من أكثر أسباب الضلال والانحراف بعد الهدى الأمر السادس: أن التعلق بالشهوة أيها الإخوة! من أكثر أسباب الضلال والانحراف بعد الهدى. فكثير هم الشباب الذين كانوا على طريق الاستقامة والخير والصلاح، وكانوا يضرب بهم المثل في الورع والتقوى، وطاعة الله سبحانه وتعالى؛ لكن البعض منهم قد يتعلق بهذه الشهوة، فتتدرج معه حتى تأسر فؤاده حتى يقع بعد ذلك في الحرام، ثم يأتيه الشيطان فيقول له: هاأنت قد وقعت في الوحل فخض فيه، هاأنت قد هلكت فلا مجال للنجاة، فمتع نفسك بشهوات الدنيا ولذاتها.

التعلق بالشهوة وانتشارها من أكبر أسباب الأمراض النفسية والجسدية

التعلق بالشهوة وانتشارها من أكبر أسباب الأمراض النفسية والجسدية الأمر السابع أيها الإخوة!: ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وذكر بقية الخصال). أيها الإخوة! إن الفواحش سبب كثير من الأمراض النفسية والجسدية، وهانحن نسمع الآن العالم بأسره يعاني من ويلات ما يسمونه بالأمراض الجنسية، وكلما اكتشفوا علاجاً لمرض ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بمرض وطاعون لم يكن في أسلافهم. أيها الإخوة! إن المتعة الحرام؛ بدءاً بالعادة السرية التي يمارسها الكثير من الشباب، يجني صاحبها الكثير من الآثار والأمراض النفسية والجسدية، فمن ذلك: الهم والحزن، وبلادة الذهن، وفتور الهمة، وضياع المروءة، والخجل، والإضرار بالذاكرة، والبصر، وتقوس الكتفين، وضعف الهضم، فهذه بعض أضرار ونتائج ممارسة العادة السرية، فما بالكم بما هو فوقها من الزنا، وعمل قوم لوط، عافانا الله وإياكم. ولعلي أشير إلى بعض الإحصائيات عن بعض الأمراض الجنسية التي يعاني منها العالم، وكلما اكتشفوا علاجاً لمرض ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بمرض آخر: ففي إحصائية نشرت عام 1977م أن عدد المصابين بمرض السيلان -وهو مرض يصيب المنحرفين جنسياً- 250 مليوناً سنوياً، ومرض الزهري يصاب به 50 مليوناً سنوياً، وعدد الأمريكيين المصابين بمرض الهربز التناسلي بلغ 20 مليوناً في عام 1983م. ثم خرج بعد ذلك مرض العصر، وعقوبة الله سبحانه وتعالى: مرض الإيدز، ولعلكم سمعتم كثيراً عن هذا المرض الخطير، وقد أجريت دراسة على المصابين به في الولايات المتحدة التي تمثل الرقم القياسي في الإصابة بهذا المرض؛ لانتشار الشذوذ فيها، فيبلغ عدد الشاذين قريباً من 20 مليوناً، هؤلاء الذين يجاهرون بالشذوذ ويعلنون به أمام الناس، والشذوذ في مصطلح هؤلاء يعني عمل قوم لوط. هذه الإحصائية دلت على أن 73% من المصابين بمرض الإيدز هم من الذين يعملون عمل قوم لوط، و17% من الذين يتعاطون المخدرات عن طريق الحقن. يقول أحد نجوم السينما الأمريكيين الذين أصيبوا بهذا المرض وهو على فراش الموت: أنا بانتظار القدر أن يدق بابي، استمعوا إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا، ومن خلال هذا المرض الإيدز سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين، وتهنئتي بالتماثل للشفاء، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي اللحظات الأخيرة. يقول هذا وهو على فراش الموت، وهو يعاني من آلام وويلات المرض. ويقول رئيس قسم أبحاث الإيدز الدولية: إن تكلفة المرض في أمريكا ستصل في عام 1986م إلى 10 بلايين دولارات، يعني: 10 آلاف مليون دولار، هذه تكاليف العناية والرعاية، وإلا فمن أصيب به فلا أمل بعد ذلك بالشفاء، لكن هذه التكاليف لأجل رعاية المرضى، وهذا المرض ينتشر على شكل متوالية هندسية، والمتوالية الهندسية كما يعرفها المتخصصون بالرياضيات تعني تضاعف العدد، ولعل هذه الإحصائية تصور لنا ذلك التضاعف الرهيب للمصابين بالإيدز. في الولايات المتحدة في عام 1981م كان عدد المصابين 252، وفي عام 1983م بلغ عدد المصابين 2643، وفي نهاية الشهر السادس من عام 1985م بلغ عدد المصابين به 12067، وبعده بثمانية أشهر بلغ عدد المصابين به 17001. هذه الإحصائية عام 1986م، فلنتصور من خلال هذه الإحصائية الانتشار السريع والهائل لهذا المرض، وبعد ذلك انتشر المرض في سائر الدول، وعلى رأس القائمة -كما قلنا- الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ثم انتشر المرض في كوريا الجنوبية لسببين: السبب الأول: أن عمل قوم لوط، أو ما يسمونه بالشذوذ منتشر في كوريا الجنوبية، وقلنا: إنه من أكبر أسباب انتشار الإيدز. السبب الثاني: أنه انتقل إلى هذه البلاد عن طريق القوات الأمريكية التي كانت موجودة في ذاك الوقت، فقد كان يوجد في كوريا الجنوبية 40 ألفاً من القوات الأمريكية، وكانت هناك إحدى النساء تشتغل في صالون تجميل قريب من معسكر هؤلاء الفجرة، فعبث بها أحد هؤلاء المصابين بالإيدز، ثم انتقلت العدوى بعد ذلك وانتقل المرض وانتشر في تلك البلاد. أيها الإخوة! هذه بعض النتائج والدلائل التي تدل على مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: (ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم). وهانحن نرى العالم وقد ابتلي بأمراض الزهري والسيلان، فلما اكتشفوا العقاقير ابتلوا بمرض الهربز، ثم بعد ذلك ابتلوا بمرض الإيدز، ولا ندري لعل المستقبل كفيل بأمراض وعقوبات أشد من ذلك وأقسى؛ وقد ظهرت بعض الحالات في بعض بلدان العالم الإسلامي، إلا أن الكثير من الدول لا ترغب في إعلان مثل هذه الإحصائيات.

الانسياق وراء الشهوات سبب للقلق والأمراض النفسية

الانسياق وراء الشهوات سبب للقلق والأمراض النفسية نتيجة أخرى أيها الإخوة! للانسياق وراء الشهوة. إنها سبب للقلق والأمراض النفسية، فنحن نشاهد أن البلاد الغربية التي ينتشر فيها التحلل والفساد هي أكثر بلدان العالم أمراض نفسية وعيادات نفسية. ولا شك أيها الإخوة! أن هذا الأمر مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فحينما يتمرد الإنسان على فطرة الله عز وجل، حينما يعرض عن محبة الله سبحانه وتعالى، وينساق وراء الشهوات، فإنه يدفع هذه الضريبة الغالية ألا وهي القلق والأمراض النفسية التي تصيب الكثير من هؤلاء.

الانسياق وراء الشهوات سبب لتفكك الأسر وانهيار النظام الاجتماعي

الانسياق وراء الشهوات سبب لتفكك الأسر وانهيار النظام الاجتماعي الأمر التاسع: أن التفسخ الجنسي، والانسياق وراء الشهوات سبب لتفكك الأسر، وانهيار النظام الاجتماعي. والعالم الغربي أيها الإخوة! الذي انتشرت فيه الفاحشة يدلنا على ذلك دلالة واضحة وصادقة، ولعلنا نشير إلى بعض الإحصائيات حول ذلك الأمر: ففي السويد وهي من أكثر بلاد أوروبا ثراء، وترفاً، وانتشاراً للفاحشة، يوجد من كل أربعة أطفال طفل غير شرعي، أي: ولد زنا. وفي الولايات المتحدة كانت نسبة الأولاد غير الشرعيين 5%، ثم ارتفعت خلال عشرين سنة إلى 17%، أي: 17% من الأطفال الذين يولدون كلهم أولاد زنا، وأولاد غير شرعيين، هذا ونحن في عصر انتشار وسائل منع الحمل بكافة أنواعها. وأجريت إحصائيات تدل على أن نسبة 40% من طالبات الثانويات حوامل وهن غير متزوجات! أيها الإخوة! عندما يخرج هؤلاء للمجتمع كم من مجرم سيخرج من هؤلاء؟! وكم من عاهر سيخرج من هؤلاء؟! وأي تربية سيتلقاها مثل هذا الغلام ومثل هذا الفتى الذي ينشأ في جو العهر والفساد والانحلال؟! ناهيك عن ارتفاع نسب الطلاق، فقد وصلت في بعض بلدان أوروبا إلى نسبة 33%، وكلما ازداد هؤلاء بعداً عن منهج الله، وانسياق وراء الشهوة؛ ازدادوا تفككاً، وازدادت حياتهم انهياراً.

الانسياق وراء الشهوات سبب لعقوبة الله وانهيار المجتمعات

الانسياق وراء الشهوات سبب لعقوبة الله وانهيار المجتمعات الأمر العاشر أيها الإخوة! من نتائج ذلك: أنه سبب لعقوبة الله، وانهيار المجتمعات. كلنا نقرأ القرآن، ونقرأ كيف صنع الله بقوم لوط لما جاهروا بهذه المعصية، فقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى بعقوبة لم تكن في أسلافهم، وأخذهم الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، وخسف الله سبحانه وتعالى بهم، وأتاهم عذاب الله عز وجل وهم غارون نائمون. والذين يقرءون التاريخ يعرفون سبب هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الأولى، لقد كانت فرنسا رمزاً للتحلل، حتى كانت دور البغاء تأخذ تصريحاً رسمياً من السلطات، وكانت النساء تأخذ إذناً رسمياً بالبغاء، وانتشر الزنا والفاحشة في صفوف الجيش الفرنسي، فما استطاعت فرنسا -وهي الدولة القوية- أن تصمد أمام الزحف الهتلري إلا 17 يوماً فقط، فوقعت بعد ذلك أيدي جيوش الألمان، وقد صرح الكثير من زعمائهم في ذاك الوقت أن السبب الأول وراء هذه الهزيمة هو الانسياق وراء الشهوات. واسمعوا ما يقوله الزعيم الأمريكي كينيدي يقول: إن مستقبل أمريكا في خطر؛ لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، ومن بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين؛ لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية. وقريباً من هذا التصريح صرح الزعيم الروسي في ذاك الوقت. إذاً: أيها الإخوة! هذه مخاطر ونتائج الانسياق وراء الشهوة.

الأسباب التي تدفع الشباب إلى الوقوع في هذا الأمر

الأسباب التي تدفع الشباب إلى الوقوع في هذا الأمر ما الأسباب التي تدفع الشباب إلى الوقوع في مثل هذا الأمر؟

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان هناك جملة من الأسباب أولها وأهمها: ضعف الإيمان. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). والمؤمن يقرأ القرآن، ويقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن من مقتضيات الإيمان ومن صفات المؤمنين حفظ الفرج والعفاف والطهر، فإذا ضعف إيمان المرء، وقلت تقواه وخشيته من الله سبحانه وتعالى تجرأ على المعصية.

ضعف العلم بالله سبحانه واليوم الآخر

ضعف العلم بالله سبحانه واليوم الآخر السبب الثاني -وهو مرتبط بالأول، وأفردته لأهميته-: ضعف العلم بالله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر. ولعله يأتي مزيد حديث عن هذه القضية عند الحديث عن العلاج.

رفاق السوء

رفاق السوء السبب الثالث: رفاق السوء. في دراسة أجريت على نزلاء دار الملاحظة بالرياض كان من نتائج الدراسة: أن 75% من الذين أجريت عليهم الدراسة شاركهم رفاقهم السلوك الإجرامي، يعني: شاركوهم ذلك السلوك الذي كان سبباً في إيداعهم في الدار، وأما البقية الباقية وهي نسبة الـ 25% فلا يعني أن رفاقهم لا يشاركونهم في المعصية، وإنما قد يكونون لم يشاركوهم في مثل هذه القضية التي كانت سبباً في وقوعهم في لك. وأفاد 52% منهم أن رفاقهم هم السبب في إيداعهم في الدار، و67% منهم أفادوا أنهم يقضون أوقاتهم دائماً مع رفاقهم. ومثل هذه الدراسات تدلنا على مدى أثر الرفقة على الشباب، ومن أكثر الآثار السيئة التي يجنيها الشاب من وراء رفاق السوء هو الانسياق وراء الشهوات. ففي تحقيق أجرته جريدة الأنباء يقول أحد المتحدثين وعمره 17عاماً: وفي أول مرة شاهدت فيها هذه الأفلام كان منذ سنين حيث كنت في زيارة لأحد أصدقائي، وكان في غرفته فيلم، فقام بتشغيل الفيلم، ثم ذكر اسم الفيلم، وذكر بعد ذلك ما حصل له. الشاهد منه: أنه كان يجتمع مع زميله، وهو الذي عرفه على هذه الأفلام السيئة. ويقول أحد الذين أودعوا في دار الملاحظة، ثم خرج منها وأعيد إليها مرة أخرى، لما سئل عن السبب في عودته للدار يقول: إن سبب عودتي أني عدت إلى نفس الشلة، ونفس رفقاء السوء؛ لأني إذا خرجت من الدار أجدهم ينتظرونني ويدعونني إلى العودة إلى المشاكل السابقة بعد أن حسنوا لي القبيح، وقبحوا لي الحسن، فأنسوني توبتي وعزمي على الاستقامة، فلذلك عدت إلى الدار بسبب هذه الشلة الفاسدة.

انتشار المثيرات

انتشار المثيرات السبب الرابع: انتشار المثيرات. ولن أتحدث عن الأسواق وعن التبرج، وعن ما يجري في ذلك، ولن أتحدث عما يفعله بعض الشباب الفسقة من الدوران حول مدارس البنات أثناء خروجهن من المدارس، إنما سأتحدث عن قضايا أخرى مرتبطة بالمثيرات: أولها: الفيديو، وأفلام الفيديو التي يشاهدها الشباب أكثرها وغالبها مما يدور حول هذا الأمر، ففي دراسة أجراها بعض طلبة جامعة الإمام على نزلاء إحدى الدور الاجتماعية أفادت أن 100% من أفراد العينة يشاهدون الفيديو، وعندما سئلوا عن نوعيات الأفلام التي يشاهدونها أجاب 99% أنهم يشاهدون أفلان جنسية، والأفلام الجنسية تعني الأفلام المتفسخة، لأن ما يعرض الآن في التلفاز من أفلام الحب والغرام هذه لا يقصدون أنها أفلام جنسية، وإنما يعنون بذلك الأفلام التي تعرض الناس كما ولدتهم أمهاتهم. وعندما سئلوا عمن يملك منهم جهاز فيديو أجاب 25% فقط من هؤلاء بأنه يملك في بيته جهاز فيديو، إذاً 75% منهم أين يشاهد الفيديو؟ يشاهده عند رفاقه، وتصوروا شاب مراهق ضعيف الإيمان يشاهد مثل هذه الأفلام الساقطة الوقحة مع زملائه ومع أقرانه!! ولذلك يتحدث أحد الذين سقطوا في هذه الرذائل -عافانا الله وإياكم- وهو لا يزال شاباً في أوائل المرحلة الثانوية يتحدث مع أستاذه فيقول: أجتمع أنا وبعض زملائي فنشاهد الأفلام الساقطة، ثم بعد ذلك نطبق ما فيها. وكنت أتحدث مع شاب، كان هذا الشاب مستقيماً على طريق الخير والصلاح، فسألته عن سبب انحرافه لما تغير، فقال: إني كنت مع رفقة صالحة، فشغلت عنهم بسبب بعض المشاغل، فأصبحت أجلس في الحي، فرآني أحد الشباب من أهل الحي فدعاني إلى منزله، ثم نظرت إلى جهاز الفيديو، وبعد ذلك وقعت في كل ما تتصوره في ذهنك لما رأيت مثل هذه الأفلام. وفي دراسة أجريت في الكويت على مجموعة من الشباب ليسوا من نزلاء الدور الاجتماعية، وليسوا كلهم منحرفين، أفاد 45% من الذكور من أفراد العينة أنهم يقضون وقتهم في مشاهدة الأفلام الممنوعة، و40% من الإناث أنهن يقضين وقتهن في ذلك. إذاً: أيها الإخوة! ينبغي أن نتخذ مواقف حاسمة من هذا الأمر، وليست القضية حتى في الأفلام الممنوعة، فأكثر الأفلام التي تعرض الآن والتي تباع في محلات الفيديو هي مما يثير غريزة الشباب، وأكثرها ساقطة، فماذا تتصورون في هذه الأفلام التي تعرض والتي يبيعها هؤلاء؟ هل تتصورون أنها تربيهم على الخوف من الله عز وجل، وخشية الله عز وجل واليوم الآخر، أنهم يعرضون سير الصالحين والدعاة وشباب الصحابة؟ فيجب أن نقف وقفة حازمة أيها الإخوة! يجب أن نقف ونطالب بفرض رقابة صارمة على أمثال هؤلاء، نطالب بإغلاق هذه المحلات، فمن يؤجر محل الفيديو؟ يؤجره أنا وأنت والآخر، فبعض آباء المسلمين قد يؤجر هذا المحل طمعاً في مال وعرض زائل، ويتسبب في إفساد شباب الحي، ويتسبب في إفساد الشباب والفتيات بمثل هذا الأمر، ولو أن صاحب محل فيديو لم يجد من يؤجره، ولو أنه إذا أتى ليفتح المحل اجتمع عليه أهل الحي وقالوا: لا نرضى أن تفتح في هذا الحي، واجتمعوا إلى صاحب المحل وقالوا: لا نرضى أن تؤجره هذا المحل، لو أننا نتعاون جميعاً ونتكاتف لاستطعنا أن نحد كثيراً من هذه الظاهرة. أيضاً العامل الثاني المثير: التلفاز وما يعرض فيه. فالمراهق بمجرد أن يرى صورة امرأة تثور غرائزه، فكيف وهو يرى صورة امرأة تتزين، وتخرج وهي تتكسر في حديثها وفي حركاتها، كيف وهي تتلفظ بألفاظ الحب والغرام، ويشاهد المسلسلات والتمثيليات التي كلها تدور حول الجنس والحب. في دراسة أجرتها جامعة أم القرى حول مجموعة من الشباب أفاد 57% من أفراد العينة من طلبة المرحلة الثانوية أنهم يقضون أوقات الفراغ في مشاهدة التلفاز، وماذا تتصورون أن هؤلاء الشباب ينظرون في هذه البرامج؟ هل يتابعون ما يسمونها بالبرامج الدينية، أو تلاوات القرآن، أو يتابعون برامج وأموراً أخرى؟ هؤلاء يقضون وقت الفراغ في مشاهدة هذه البرامج، ناهيك عمن يقضون بعض الوقت في ذلك. وفي دراسة أجريت أيضاً في لبنان على 381 شاباً سئلوا عن رأيهم في التلفاز، فـ41% منهم يقول: إنه يؤدي إلى شيوع الرذيلة والجنس، وأيضاً 72% منهم يقول: إنه يضر بالمجتمع أكثر مما ينفع. ويقول أحد الأطباء النفسيين في كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة جيم، فإن التلفاز هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث. والحديث حول التلفاز يطول، ولا أريد أن أطيل في الحديث؛ لأن أمامي قضايا أخرى أرى بالضرورة الحديث عنها، والإفاضة فيها، لكن أحيلكم على مجموعة من الكتب تحدثت عن هذا، منها: كتيب (بصمات على ولدي) لـ طيبة اليحيى، وكتاب (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون)، وأيضاً كتاب الشيخ سعيد علي زعيب حول أثر التلفزيون، وأيضاً كتاب عوض منصور (التلفزيون بين المنافع والأضرار)، وهناك كتب كثيرة مدعمة بالإحصائيات والدراسات والأرقام التي تعطينا قناعة بخطورة مثل هذا الجهاز. وأقول هذا الكلام أيها الإخوة! ورغم أن كثيراً مما يعرض عند

الفراغ

الفراغ السبب الخامس: الفراغ: في الدراسة التي أجرتها جامعة أم القرى فإن 52% من أفراد العينة يقول: إن لديه أكثر من سبع ساعات فراغ في أيام الإجازة، يعني: في أيام الخميس والجمعة عنده أكثر من سبع ساعات فراغ، فكيف تتصورون أن يقضي الشاب وقت الفراغ؟ وفي دراسة أجريت في الكويت أن 45% من أفراد العينة قالوا: إنهم يقضون وقت الفراغ في مشاهدة أفلام ممنوعة، و40% من أفراد العينة يقول: إنهم يقضون وقت الفراغ في تكوين علاقات مع الجنس الآخر. وفي تحقيق أيضاً أجرته جريدة الأنباء: أن شاباً عمره 20 عاماً لما سئل عن سبب مشاهدة الأفلام، قال: السبب الذي شدني لرؤية الأفلام الممنوعة هو الفراغ الذي أعيش فيه. ويقول أيضاً أحد الذين خرجوا من دار الملاحظة وعاد إليها مرة أخرى، لما سئل عن سبب عودته يقول: إن سبب عودتي يرجع إلى الفراغ، وعدم وجود ما يشغلني ويقضي على وقتي بأشياء مفيدة، فكان أن عدت إلى الدار، ولم أستفد من وقتي منذ خروجي، ووجد الشيطان ونفسي الأمارة بالسوء إلي سبيلاً، فارتكبت ما أعادني إلى دار الملاحظة.

غياب التوجيه

غياب التوجيه السبب السادس: غياب التوجيه: في إحدى الدراسات التي أجريت على بعض نزلاء الدور الاجتماعية 31% من أفراد العينة يقول: إن أحد أفراد العائلة دخل السجن. يعني: أن ثلث أفراد العينة يعيش في تربية غير سليمة، وأفراد العائلة: إما الأب أو الأخ، فكيف نتصور هذا الشاب الذي تربى في مثل هذا الجو! أيضاً في التحقيق الذي أجرته جريدة الأنباء يقول أحدهم: أما بالنسبة لأهلي فهم لا يعرفون إلى أين أذهب، وماذا أعمل، والدي تاجر وكل وقته يقضيه في عمله، وأمي كل همها السيارات والأثاث والديكور إلى آخره. ولما سئل أحد المدخنين عن سبب وقوعه في الدخان، قال: إن أولياء أمورنا هم المسئولون بالدرجة الأولى، فأنا لم أر والدي يسألني أين أذهب، ومع أي شخص أمشي، وحتى لو علم بأني أدخن فلا يعمل شيئاً، وقد وصل الإهمال عند أولياء أمري لدرجة أني سافرت في العطلة إلى الخارج وجلست هناك خمسة عشر يوماً، وعندما رجعت لم يسألوني من أين جئت! ويقول أحد الذين خرجوا من دار الملاحظة وعادوا إليها مرة أخرى، لما سئل عن سبب عودته إلى الدار، قال: أبي لا يهتم لأدائي لفروضي الدينية: من صلاة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، فوالدي لو قام بتنشئتي تنشئة إسلامية خالصة لجعل لدي درعاً واقياً أمام الشيطان وانحرافاته، لذا فإني لا أقوم بواجبي الديني على أكمل وجه؛ حيث إني لا أعرف كيف أؤدي بعض هذه الواجبات التي من المفروض أن تكون أساسية منذ نشأتي؛ كالصلاة. ويقول الآخر أيضاً: إن ولي أمري الذي هو القدوة والمثل الأعلى لي، يطلب مني أشياء وواجبات أقوم بها وهو لا يؤدي هذه الواجبات، فيطلب مني عدم شرب الدخان وهو يشربه، ففقدت جانباً مهماً وهو القدوة، فسبب لي ذلك ازدواجية في تعلم المفاهيم وتطبيقها، كان من نتائجها أن عدت إلى الدار. أيها الإخوة! عندما نعنى بالتوجيه هنا فإننا لا نخاطب الآباء وحدهم، وإنما نخاطب الآباء، ونخاطب الأساتذة أيضاً، ونخاطب كل من له صلة بجو الشباب، فيجب عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن هؤلاء الشباب الذين تحت يديه أمانة في عنقه، وسيسأله الله عز وجل عنهم يوم القيامة. فكفى تشاغلاً أيها الإخوة! والله إنه مما يدمي أن ترى الأب ينشغل بدنياه، وينشغل بجمع أمواله، وينشغل بالسهر هنا وهناك، ويضيع أوقاته، وبعد ذلك يفاجئ بابنه وقد وقع في مصيبة، حينئذ يضع يده على رأسه ويقول: كيف يحدث هذا؟! لم أكن أتوقع هذا؟! السبب هو أنت، السبب هو غفلتك. وتذكروا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. تذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). تذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه). أقول أيها الإخوة! إن من أكبر أسباب الوقوع في مثل هذه الأمور: غياب التوجيه، وعدم عناية الآباء وأولياء الأمور، والبعض ممن يتولون أمور الشباب من الأساتذة وغيرهم في الحديث عن مثل هذه الأمور، وتحذير الشباب منها ووقايتهم.

كيف يقاوم الشاب شهواته

كيف يقاوم الشاب شهواته أخيراً: نجيب على هذا التساؤل، وهو في الواقع أهم ما يعنينا في هذا الأمر: كيف يقاوم الشاب شهوته؟ بعد أن أدركنا مخاطر هذه الشهوة، ومخاطر الانسياق وراءها، وبعد أن أدركنا الأسباب، وأظن أن إدراك الأسباب جزء كبير من الحل، فإن المرء حين يدرك هذه الأسباب يجتنبها، ويجنب من ولاه الله سبحانه وتعالى الأمانة والمسئولية.

الزواج

الزواج أول أمر ينبغي أن نفكر فيه سواء الآباء أو الأبناء: هو الزواج، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). والزواج هو الوقاية؛ فيه يستطيع الإنسان فعلاً أن يصرف شهوته ليس فقط فيما أحل الله له، بل بما يؤجر عليه كما قال صلى الله عليه وسلم لما قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بذلك أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال فإن له أجراً). فلابد أيها الإخوة -وأنا أوجه هذا الحديث للشباب- لابد أن نفكر تفكيراً جاداً في الزواج، فلماذا نؤخر الزواج إلى هذا الوقت؟! لماذا يتأخر الشاب؟ لماذا يسوِّف؟ وعندما تتحدث عن الزواج يتصور الشاب أنه ليس مخاطباً بهذا الحديث، عندما نتحدث عن الزواج المبكر يتصور الشاب أن المخاطب بهذا الحديث من بلغ سن الثلاثين أو سن الخامسة والعشرين، أو من مضى على تخرجه أربع أو خمس سنوات. ومن أين نشأ لنا أن الشاب لا يتزوج إلا بعد أن يتخرج؟ الله عز وجل يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، فإذا كانت القضية قضية المصروفات المادية فقد تكفل الله عز وجل لك بها، الذي {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، والذي يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. فلا يصح أن نتأخر يا إخوة في الزواج بحجة أننا لا نستطيع الإنفاق، وأن الزواج يتطلب تكاليف مادية، أبداً، ولذلك كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: التمسوا الغنى بالنكاح. يعني: من أراد الغنى فليتزوج، وقد أخذها من قوله عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم، ومنهم: الناكح يريد العفاف). فإذا استطاع الشاب أن يجد مهر الزواج وتكاليف الزواج فلا عليه بعد ذلك مما بعد الزواج، وأما قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] فهو في الذين لا يجدون نفقة في الزواج ابتداءً، والذي لا يجد المهر وتكاليف الزواج، فإذا استطاع أن يأتي بتكاليف الزواج من هنا وهناك فلا عليه أن يفكر فيما بعد؛ فإنه قد تكفل عز وجل به. أخي الشاب! أيما أهم عندك، وأيما أنت أحوج له: أن تعف نفسك، وتحفظ نفسك، وتعيش في ذاك الجو الساكن، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، جو زواجة وطمأنينة، وسكينة، ورحمة، والذي يعيش الشاب فيه الاستقرار النفسي، والاطمئنان، والحياة الحقيقية فعلاً لا يعيشها الشاب إلا بعد الزواج. والشاب الأعزب الآن لما يقرأ حقوق الزوجية، ولما يقرأ الآيات من حقوق الزوجية يحس أنه غير مخاطب بمثل هذه النصوص، لما يقرأ قول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]. فلماذا نفرط في حماية النفس وسعادة الدنيا؟ (وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، فينبغي أن نفكر ونبادر، وأيضاً للأسف كثير من الآباء يحتج بأنه لا يملك النقود، ولا يستطيع تكاليف الزواج، وقد تجده يشتري لوالده سيارة بمبلغ لو وفر هذا المبلغ للزواج لحفظ ولده، فتجده يندم ويعظ أصابع الندم عندما ينحرف ابنه، وعندما يهوي ويضل ابنه، وحينئذٍ يتمنى أنه بادر في مثل هذا.

الصوم

الصوم الأمر الثاني: الصوم: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). ماذا يصنع الشاب الذي لم يتزوج؟ أرى أن الحل الأول، والحل الأساسي، والحل الشرعي هو الزواج، فإذا لم يستطع الزواج فليس أمامه إلا الوجاء، وليس هناك حل سحري، وليس هناك وصفة طبية إذا وصفت للشاب انتهى صراعه، لا، سيبقى المرء في صراع، بل سيبقى في صراع مع الشهوات كلها حتى ينتهي من الحياة، وحينئذٍ ينتهي هذا الصراع. أيها الشباب! ليس هناك حل سحري، وليس هناك خطوات عندما يسلكها المرء يضمن النجاة لنفسه، فلن تضمن النجاة أبداً، وليس هناك حل للمجاهدة، ولا يعني ذلك التيئيس، لا، كما أن الله عز وجل ابتلانا بهذا الأمر، فإنه لم يتركنا وحدنا في المعركة، فالله عز وجل قال عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].

الطرق التي ينبغي أن يسلكها الشاب إن لم يستطع الزواج

الطرق التي ينبغي أن يسلكها الشاب إن لم يستطع الزواج

الإيمان بالله تعالى والصلة به

الإيمان بالله تعالى والصلة به وأنا سأشير إلى بعض الأمور التي ينبغي أن يسلكها الشاب إذا لم يستطع الزواج: أولها وأهمها: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والصلة به عز وجل. إن الإيمان أيها الإخوة! هو الضمانة لوقايتنا من الانحراف، إن المرء وحينما يؤمن بالله سبحانه وتعالى، حينما يترقى في مراتب الإيمان والدين حتى يصل إلى أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فهو يعلم أن الله عز وجل يراه، حينما يصل إلى هذه المرتبة فإن هذا الإيمان سيصرفه عن الكثير من هذه المعاصي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) دليل على أن المرء لا يقع في مثل هذه الأمور إلا عن ضعف إيمانه وصلته بالله سبحانه وتعالى. إنه أيها الإخوة! حينما يتصل بالله سبحانه وتعالى، وحينما يملأ قلبه بالشوق إلى الله عز وجل، وبمحبة الله سبحانه وتعالى، وبالتضرع إليه، وباللجوء إليه، فحينئذٍ لا يتعلق قلبه في هذه الدنيا بشيء غير الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يتحقق فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان). وحين يجد العبد حلاوة الإيمان، وحين يجد لذة الإيمان، وطعم الإيمان، والصلة بالله سبحانه وتعالى لا يمكن أبداً أن ينصرف قلبه إلى غير الله عز وجل، ولا أن يتوجه إلى غير الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن يتوجه إلى هذه المعاصي التي يدرك شؤمها عليه في الدنيا والآخرة. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة)، فقد سأل الله عز وجل أعلى نعيم الآخرة، وهو رؤية الله سبحانه وتعالى، ثم سأله أعلى نعيم الدنيا وهو الإيمان، والشوق لله سبحانه وتعالى، وهذا الجزاء مترتب على ذاك العمل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية حين يكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجه: (فلا ينصرف أهل الجنة إلى شيء من النعيم)؛ لما يرون، فهم قد منعوا أبصارهم، وحجبوا أبصارهم عن النظر إلى غير وجه الله سبحانه وتعالى، فكان هذا الأمر نتيجة لأنهم حجبوا قلوبهم في الدنيا عن التعلق بغير الله، وعن التوجه لغير الله سبحانه وتعالى. أيها الإخوة! حينما يعمر الإيمان قلب العبد، وحينما يأنس بعبادة الله، وطاعة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يجد اللذة والراحة بطاعة الله عز وجل، ويجد حلاوة الإيمان ولذة الإيمان، حينئذٍ لا تتوجه نفسه لمثل هذه التوافه، ولا تحدثه، وحينئذٍ لا يطمع فيه الشيطان.

معرفة الله تعالى وتذكر علمه وإحاطته، وتذكر اليوم الآخر

معرفة الله تعالى وتذكر علمه وإحاطته، وتذكر اليوم الآخر الأمر الثاني: معرفة الله عز وجل، وتذكر علمه، وإحاطته سبحانه وتعالى، وتذكر اليوم الآخر. أخي الشاب! حينما تخلو بنفسك، وتغلق الباب، وترى أنه لا أحد يراك، اقرأ قول الله عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:8 - 10]. وحين تدعوك نفسك للمعصية تذكر أن الله يراك، وأن الله سبحانه وتعالى محيط بما تعمل، ولو كنت غائباً عن أعين الناس، وتذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدني عبده فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا وكذا؟). كيف بك عندما تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى في هذا الموقف العظيم، ويقررك الله عز وجل بذنوبك؟ وحينما تدعوك نفسك للمعصية تذكر قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:20 - 22]. هل تستطيع أن تقارف المعصية بعيداً عن جوارحك؟! إنها هي التي ستوقفك أمام الله وتشهد عليك، كما قال صلى الله عليه وسلم في محاجة العبد ربه: (قال: إنك لا تجيز الظلم ولا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي، فيقول الله عز وجل: نعم، لا نقيم عليك إلا شاهداً من نفسك، فيختم الله على لسانه، ويقول لجوارحه: انطقي، قال: فأول ما تنطق فخذه، فتنطق بما كان يعمل، ثم تنطق ساقه، ثم يده، ثم لسانه، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً؛ فعنكن كنت أناضل). وحينما تدعوك نفسك للمعصية تذكر وصية العبد الصالح لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. فحينما تتذكر علم الله وإحاطة الله عز وجل، وحينما تتذكر اليوم الآخر وما يجري فيه، فلا يمكن أبداً أن تدعوك نفسك للمعصية، ولا يمكن أن تقارف المعصية؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17]. وكما قال السلف: لا يعصي الله إلا جاهل.

الدعاء

الدعاء الأمر الثالث أيها الإخوة! الدعاء: يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، ويقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. أيهما أكثر اضطراراً وأحوج وأرجى إلى إجابة الله: رجل يرى عليه خطراً من أخطار الدنيا، أو شاب يقف بين يدي الله في ثلث الليل الآخر يوم ينزل الله إلى السماء الدنيا ويقول: (من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) يقف يبكي بين يدي الله، ويتضرع، ويلح بين يدي الله عز وجل، يسأل الله الحماية والحفظ في دينه، أليس هذا أحرى أن يجيبه الله؟ أليس هذا أكثر اضطراراً؟ ولذلك لما واجه يوسف عليه السلام الصراع مع الشهوة توجه إلى الله، فقال الله عنه أنه قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. فأكثر من الدعاء أخي الشاب! أكثر من دعاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظك، وأن يعينك على التوبة، وأن يعينك على شياطين الإنس والجن، واعلم أنك ما دعوت الله، وصدقت معه، ولجأت إليه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجيب دعاءك.

اجتناب المثيرات وخاصة النظر

اجتناب المثيرات وخاصة النظر الأمر الرابع: وأؤكد عليه أيها الإخوة! اجتناب المثيرات وخاصة النظر: للأسف أيها الإخوة! أنه انتشر في مجتمعنا، وبين صفوف الكثير من الشباب عمل قوم لوط عافانا الله وإياكم، الإنسان قد يتورع عن النظر إلى النساء، والتزام النساء بالحجاب والتستر قد يحول دون ذلك، ولكن البلاء أن ينظر إلى بني جنسه. ولذلك حذر السلف من ذلك، كما قال أحدهم: إني أرى مع المرأة شيطاناً، وأرى مع الغلام الأمرد اثني عشر شيطاناً. فاحذر أخي الشاب! من أن ترسل النظر، فتبدأ المسألة بنظرة، ثم تتعلق الصورة في قلبك، ثم تتذكر وتفكر وتتدرج حتى بعد ذلك يملك على المرء فؤاده وقلبه. ناهيك عن وسائل الإعلام: من صحف، وتلفاز، وأفلام وغيرها. ولا يصح أبداً أن يأتي الشاب يتصفح هذه الصور الخليعة ويطلق نظره يمنة ويسرة، ثم يقول: ماذا أفعل؟ أنا أشكو من كذا، وأشكو من سيطرة هذه الشهوة، وأشكو من العادة السرية، اجتنب يا أخي هذه المثيرات، اجتنب هذه الأمور، وارجع إلى الله عز وجل، وأكثر من عبادة الله سبحانه وتعالى.

من أخطر المثيرات التفكير والانسياق وراءه

من أخطر المثيرات التفكير والانسياق وراءه ومن أخطر المثيرات أيها الإخوة: التفكير، والانسياق وراء التفكير: فالشاب لا يجد حرجاً في التفكير، وقد يجد فيه متعة، فيستلقي على فراشه، ويبدأ يفكر في هذا الأمر، وهو يعلم أنه ليس عليه حرج، ويسترسل به التفكير يوماً ويومين، وبعد فترة يملك التفكير عليه فؤاده، حتى تتحول المسألة إلى رغبة، وإلى همة، حتى يقع في الأمر. فإياك إياك والاسترسال في التفكير، وإذا أتاك هذا الخاطر فأزله عنك وانشغل بعد ذلك: بالأمر الخامس: وهو الانشغال بالتفكير الجاد، والعمل الجاد، وبالذات الدعوة إلى الله عز وجل.

الانشغال بالتفكير الجاد والعمل الجاد

الانشغال بالتفكير الجاد والعمل الجاد إن أمامنا أموراً نشغل فيها التفكير يا إخوان! أمامنا واقع الأمة الذي يرثى له، والتفكير في أي جانب من جوانب حياة الأمة: صلة الناس بالله عز وجل، انتشار المعاصي، حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، أحوال الأمة الإسلامية، أحوال مجتمعنا، قلب نظرك في أي جانب من جوانب حياة الأمة، وابحث عن جانب واحد يسر. أليس مثل هذه الأوضاع جديرة بأن تدعونا إلى التفكير الجاد، وأن نفكر فيها، وأن نفكر ماذا نصنع، وأن نفكر ما دورنا تجاه هذا الأمر، وأن ننشغل بالعمل الجاد؟ ينبغي أن تنشغل. أخي الشاب! عندما تشغل نفسك بالدعوة إلى الله عز وجل: بدعوة إخوانك، باستصلاح إخوانك بأي وسيلة تستطيع أن تسلكها مع إخوانك الشباب، عندما تشغل نفسك بهذه الأمور الجادة، وبطلب العلم، وبالقراءة، وبعبادة الله عز وجل، فإنك تشغل وقتك دائماً. وذكرنا من أسباب الوقوع في هذا الأمر: الفراغ، فبقدر الإمكان لا تبق للشيطان عليك طريقاً بأن تبقى فارغاً، وأن تسترسل مع وقت الفراغ.

التفكر في حقيقة الشهوة وزوال النعمة

التفكر في حقيقة الشهوة وزوال النعمة الأمر السادس: أن تفكر في حقيقة الشهوة وزوال النعمة: ماذا يحصل للإنسان إن أتى بما يجلب له الشهوة، وحقق تمام الشهوة، ما الذي يحصل؟ انتهى الأمر بزوال هذا الوقت الذي مارس فيه الإنسان الشهوة، وانتهت القضية، فهل بقي بعد ذلك يتمتع بالشهوة؟ لا، بقي بعد ذلك الحسرات؛ حسرات قلبه، فإن كان طائعاً منيباً لله عز وجل يبقى يتألم على هذه المعصية التي فعلها، وإن كان غير ذلك فيبقى يشتاق ويفكر في هذا الأمر. ويبقى له بعد ذلك نتائج هذه الشهوة، فما الذي يحصل؟ من نتائجها التي أشرنا إليها: الأمراض الخطيرة؛ الأمراض الجنسية، والأمراض النفسية، فتفكر في مثل هذه العواقب، وتفكر في آثار هذه المعصية على المجتمع، وتفكر في آثارها على نفسك، وفي حقيقة هذه الشهوة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه شاب ثارت الشهوة في نفسه ويريد الزنا فقال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا)، هذا الشاب هل تتصورون أنه بمجرد أن رغب في هذا الأمر أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة؟ لا، نحن لا نعلم ما يدور في نفسه، لكن يغلب على ظني أن هذا الشاب لما فكر في الأمر يعلم أن الزنا حرام، وعنده خوف من الله عز وجل، ففكر في الأمر ثم تردد، وفكر وتردد، وفكر وتردد، حتى عزم على الأمر، ولما عزم على الأمر قرر أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذنه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه فقال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا)، فهم الصحابة به، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو المربي، الذي قال عنه أحد أصحابه: (فبأبي وأمي رسول الله، ما رأيت أحسن تعليماً ولا تأديباً منه). دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه، وقال له: (أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: ولا الناس يرضونه لأمهاتهم)، فهذه المرأة التي ستزني بها هي أم للناس، هل ترضى أن يأتي أحد يزني بأمك؟! وقال له: (أترضاه لأختك؟) فهذه المرأة التي ستزني بها أخت للناس. وقال: (أترضاه لعمتك؟ ثم دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم حصن فرجه، وطهر قلبه، فانصرف الشاب وليس شيء أبغض إليه من الزنا). فهذا الحديث أوجهه إلى الشباب، وإلى المربين الآباء والأساتذة وغيرهم، أن يسلكوا مثل هذه الوسائل.

تذكر الحور العين في الجنة

تذكر الحور العين في الجنة أيضاً يا إخوة! من الأمور التي تعين الشاب: أن يتذكر الحور العين في الجنة: {كَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33]، {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38]. {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر في الصحيحين أول زمرة يدخلون الجنة في حديث أبي هريرة، فذكر صفاتهم، ثم قال: (لهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم). ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: (لو أن امرأة من نساء الجنة أطلت على أهل الدنيا لأضاءت ما بينهما، ولنصيفها -أي: خمارها- على وجهها خير من الدنيا وما فيها). أخي الشاب! أيما أحب إليك أن تمتع نفسك بالشهوة العاجلة، ثم تعيش آلام وجحيم هذه الشهوة، أو أن تتمتع بالحور العين في دار الخلد، في الدار التي لا يهتم فيها الإنسان؟

تذكر صفات المؤمنين

تذكر صفات المؤمنين أيضاً من الوسائل يا إخوان! أن يتذكر صفات المؤمنين، ويرى أنه محروم منها: فالله عز وجل يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]. عندما تنساق وراء شهوتك، وتقرأ هذه الآيات تشعر أنك ليس لك فيها نصيب. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]. إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]. ثم قال بعد ذلك في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]. فعندما تقرأ هذه الآيات وأنت لم تحفظ فرجك، ترى أنك لست مؤهلاً لهذه المنزلة.

تذكر نماذج العفة

تذكر نماذج العفة وأيضاً تذكر نماذج العفة، وخير نموذج على ذلك يوسف عليه السلام، وقد طال بنا الوقت، ولا أريد أن أطيل في وصف حالته عليه السلام، فقد اجتمعت له كل أسباب الفاحشة والمغريات: شاب، وغريب عن بلده، وفي بيت السلطان، ودعته المرأة إلى نفسها، وهي ذات منصب، وذات جمال، وغلقت الأبواب، وهددته، ومع ذلك قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. لما تقرأ هذه القصة وهذا النموذج وأنت لم تحفظ فرجك تتألم كثيراً، ولما تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظلة، وذكر منهم: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

اختيار الجليس الصالح واجتناب الوحدة

اختيار الجليس الصالح واجتناب الوحدة أيضاً من العوامل المعينة على ذلك: اختيار الجليس، وتجنب الوحدة: وقد عرفنا أن من أسباب الوقوع في هذا الأمر الجليس السيئ، والجليس يا إخوان! هنا لا نعني به فقط الجليس الذي يوقعه في الكبائر والموبقات، لا، فأي رجل يدعوك لمعصية فينبغي أن تجتنبه، وحتى في محيط الأخيار وفي تجمعات الناس الأخيار قد يوجد شاب ليس على مستوى من المحافظة، وعنده ميل إلى مثل هذه الأمور، أو عنده بعضها، فكون الشاب في محيط الأخيار لا يعني أنه قد أصبح مبرأً، وأنه ينبغي أن تجالسه، كلا، فينبغي أن تختار من تجالس، وأنت أعلم بمن تجالس، ومن تصطفي ومن تخالط. وإذا رأيت عند شاب تقصير في مثل هذا الأمر وأنه يقودك إلى ذلك، فقل: هذا فراق بيني وبينك، وتجنب الوحدة أيضاً؛ فإنها من أقوى الدواعي إلى التفكير، وأقوى الدواعي بعد ذلك إلى الوقوع في مثل هذه الأمور. وأخيراً: لا تتهاون بالصغائر: النظر، العادة السرية، وغيرها من الأمور، فكثير من الشباب يتهاون فيها، ويقول: هذا أمر يسير، فقد تنظر نظرة إلى صورة جميلة فترتسم الصورة في ذهنك، فالشيطان يعيد لك هذه الصورة في ذهنك مرة بعد مرة، حتى تتحول المسألة إلى تفكير، حتى يملك عليك فؤادك، حتى تتدرج بعد ذلك إلى الوقوع، فقد تقع في معصية صغيرة، ويتدرج الشيطان في عرضها عليك، والشيطان طويل النفس، وقد أقسم {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]. فاحذر التهاون بالصغائر، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً). ويقول صلى الله عليه وسلم: (مثل ما تحقرون من أعمالكم كقوم استبطنوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أشعلوا نارهم، وطبخوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه). خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وبعد ذلك أقول: لو وقعت في مثل هذه الأمور، فلا تتردد أبداً في أن تأتي إلى والدك، أو إلى أحد أساتذتك الذين تثق بهم، وتثق بدينهم وورعهم وخبرتهم، وتثق بأنهم يكتمون السر الذي تبديه لهم، وبأنهم ينصحون لك، وأفصح لهم عما في نفسك، واطلب منهم الإعانة، واطلب منهم التوجيه، فلا حرج في ذلك، وهو خير لك من أن تبقى أسير الشهوة، وخير لك من أن تهوي. أيها الإخوة! في ختام هذه الكلمة أقول: والله إن الحديث عن هذا الأمر ذو شجون، والحديث يثير الأشجان، وهناك أمور كثيرة يود المرء أن يقولها، لكن الوقت لا يتسع لمثل ذلك. وختاماً أقول: إن الدواء الناجح، والدواء الناجع بعد الزواج وبعد الصيام هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وتعلق القلب به عز وجل، فلنسلك أسباب ذلك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا وإياكم، وأن يجنبنا أسباب سخطه، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

معنى حديث (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)

معنى حديث (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) Q قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أرجو توضيح هذه العبارة، ويفضل ذكر مثال لذلك. A هذا السؤال اختبار، وضح العبارة مع التمثيل، لأن الطلاب في جو امتحانات فمتأثرين بذلك الجو. هذا الحديث يا إخوان! (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) معناه: أن تكون محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء سوى الله ورسوله. ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: والله إنك الآن أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر). يا إخوان! لا يوجد محبوب من مال أو شهوة أو نفس أو أي شيء ينبغي يحبه المرء أكثر من محبة الله ورسوله، والمحبة أمر قلبي؛ لذا لا أستطيع أن أمثل لذلك، ولا أستطيع أن أحضر لكم شخصاً وأقول: هذا يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما، فالمحبة في قلبك، لكن المحبة تدرك بآثارها. فإنسان مثلاً مستلقٍ على الفراش، ويسمع المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، وينام، ولا يصلي الفجر إلا بعد صلاة الجماعة، هل يمكن القول: إنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟! وإنسان يقال له: أنفق في سبيل الله، ويفتح مجال تبرعات فيتبرع بالخمسة الريال أو بالريالين، وأما في المناسبات في أحوال تقتضي المجاملة للأقارب فإنه يدفع الألف والألفين ريال، وهو مجرد إحراج ومجرد مجاملة، لكن لما يأتي الإنفاق في سبيل الله عز وجل فإنه يبخل، هل هذا يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟ وعندما يكون الطالب مثلاً يتأخر كثيراً عن صلاة الفجر، فإذا جاء وقت الامتحان فما يمكن يفوته الامتحان أبداً، لماذا؟ لأن النوم سلطان جائر في غير أيام الامتحانات، وفي أيام الامتحانات أصبح غير سلطان جائر! فهل هذا الطالب يصدق عليه أنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟! كلا. وإذا نظرنا في حياتنا فإننا نجد نماذج على ذلك كثيرة، فهذه آثار المحبة، وليست هي المحبة، فالمحبة في القلب، ولذلك يخطئ بعض الناس فيفسرها بآثارها، فهذه لوازمها وآثارها ونتائجها، وأما المحبة فهي في القلب، ولا شك أن المحبة لابد أن ينشأ عنها مثل هذه الآثار، فهذه آثار وعلامات نستطيع أن ندرك بها محبتنا لله ورسوله. وفي ختام هذه الكلمة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يحفظنا وإياكم وشباب المسلمين من مضلات الفتن. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أخطاء في المناهج

أخطاء في المناهج المنهج هو الطريق الواضح المستقيم، ويقصد به هنا المعالم العامة والأمارات الواضحة لطريق الدعوة إلى الله عز وجل والعبودية له سبحانه، والأصل في المنهج المحجة التي تركنا عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة، ومع طول الزمان وتباعد الأجيال ظهرت أخطاء في هذا المنهج نتيجة ما حصل للناس من اللبس والخلط في مفاهيم معينة، وهذا مما يحتاج إلى دراسة مستفيضة للخروج بحلول صحيحة.

الدلالات اللغوية والشرعية لكلمة المنهج

الدلالات اللغوية والشرعية لكلمة المنهج بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المعهد -ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله معقل علم وخير وبركة- على تنظيم مثل هذا اللقاء، ونحن في الواقع نحتاج إلى أن تكون مؤسساتنا التربوية بأسرها تؤدي مثل هذه الأدوار للمجتمع، وألا يكون الدور فيها قاصراً على ما يتلقاه التلاميذ على مقاعد الدراسة، وليس هذا بغريب عن مثل هذه المعاهد، فهي معاقل علم وخير وبركة، أسأل الله أن يبارك جهود الإخوة القائمين عليها. في المعهد العلمي في مكة في هذه الليلة ليلة الخميس الثاني من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، نلتقي لنتحدث عن أخطاء في المنهج. وبادئ ذي بدء أعتذر لكم؛ إذ أني كنت قد دونت بعض النقاط المتعلقة بهذا الموضوع وبعض النقول، لكن لأسباب فنية كما يقال لم أتمكن من إحضارها، ولهذا دونت بعض النقاط وأنا في الطائرة مما كنت أستذكره في هذا الموضوع، فمعذرة إن كان في الموضوع قصور أو خلل. معشر الإخوة الكرام! الحديث عن المنهج حديث نسمعه الآن كثيراً، ولا شك أنها خطوة إيجابية، وخطوة مثمرة أن يبدأ الحديث عن المنهج، وأن يبدأ الناس يتساءلون عن المنهج، ويبحثون عن المنهج الصحيح، وهي خطوة بإذن الله لأن تترسم معالم هذا المنهج واضحة جلية للناس، وقبل أن نتحدث عن هذه القضية وهذه الأخطاء نشير إشارة سريعة إلى المقصود بالمنهج. المنهج عرفته كتب اللغة بمعان عدة: منها الوضوح، والمنهج: هو الطريق الواضح المستقيم. وأيضاً يقال: نهج فلان كذا إذا سلك هذا الطريق، وله معان أخرى لا تدخل ضمن هذا الاستخدام، وهو مصطلح جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون)، ثم قال في آخره صلى الله عليه وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، إذاً فهي ليست كلمة مبتدعة محدثة، وإنما هي كلمة عرفها العرب وتحدثوا عنها في أشعارهم وفيما يروى عنهم، وهي كلمة جاء بها القرآن وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وحين نتحدث عن المنهج فإننا نعني: المعالم العامة الواضحة لطريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والعبودية له عز وجل، والمنهج يطلق على الطريق الذي يسلكه المسلمون أجمعون، لكنه الآن في عرف الكثيرين ممن يتحدثون عن المنهج صار يطلق على مناهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وعلى الجهود التي تبذل في سبيل إحياء مجد الأمة وإزالة هذه الغربة عن الأمة. إذاً: فالمنهج يعني: معالم واضحة، فهي معالم رئيسة وواضحة وليست قضايا جزئية، وليست مسائل فرعية، ولا من أبواب الاجتهاد، إنما هي معالم ظاهرة واضحة، وهذا يعني: أن من خالف فيها فعنده نوع من الانحراف والخلل في المنهج. والأصل في المنهج المحجة التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، لكن في هذا العصر وقد استجدت مستجدات وحصل للناس من اللبس والخلط ما لا قبل لهم به، صاروا بحاجة إلى حديث جديد تنزل فيه هذه القضايا على هذا العصر الذي يعيشونه.

مناقشة أخطاء المنهج يجب أن تكون وفق منطلقات صحيحة وسليمة

مناقشة أخطاء المنهج يجب أن تكون وفق منطلقات صحيحة وسليمة قبل أن نتحدث عن الأخطاء في المنهج، نطرح تساؤلاً: حينما يتحدث الآن عن المنهج ويكتب عنه ويطرح في المنتديات والمناسبات، هل ما يطرح الآن هو محاولة لاستكمال معالم المنهج وإيضاحها وبيانها للناس؟ وهل هي محاولة للوصول إلى معالم واضحة وإلى أسس لا يعذر أحد بمخالفتها، ويعتبر من تجاوزها وتعداها قد انحرف وتجاوز المنهج، أم أن ما يعرض لا يعدو أن يكون صراعاً وعراكاً داخل دائرة أهل المنهج الصحيح، وداخل دائرة المنتمين إلى أهل السنة والجماعة؟ وإنه لمما يأسى له قلب المسلم ويتفطر أن يعود الصراع إلى الداخل، وأن يعيش جيل الصحوة حلقة مفرغة من الجدل والنقاش حول قضية المنهج، مع أنهم يسيرون في الأصل على أسس واحدة، وعلى أصول متفقة، وإن حصل ما حصل من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف؛ فإن هذا لا ينبغي أن يحول إلى اختلاف في المنهج. إننا نتساءل ونحن الآن نسمع الحديث كثيراً حول المنهج، وحول الحكم بأن هذا هو المنهج الصحيح، وبأن هذا هو منهج السلف، وبأن منهج فلان أو فلان أو الطائفة الفلانية يخالف منهج السلف، ونحن نسمع الكثير من هذا الحديث نتساءل: هل هذا الحديث وهذا الزخم من إثارة هذه القضية يتوازى ويتناسب مع الحديث عن استكمال معالم المنهج وإيضاحها للناس من خلال الدليل والبرهان والحجة البينة الظاهرة التي لا يخالفها إلا مبتدع صاحب هوى معاند؟ فأقول بادئ ذي بدء: إن قضية المنهج قضية لا يعذر أحد في الإخلال بها، وإن الاختلاف يمكن أن يكون في أي باب إلا في المنهج، وهذا يعني: أن المنهج يشمل أسساً ثابتة ومعالم ظاهرة واضحة، وهو من الأمور المسلّمة في دين الله تبارك وتعالى، وهو مما جاءت به النصوص المتضافرة من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عمل سلف الأمة، ولا يسوغ أن يحول المنهج إلى ما سوى ذلك، وداخل هذا الحديث وهذا اللغط نحن أحوج ما نكون إلى مراجعة، وأحوج ما نكون إلى دعوة إلى استكمال معالم المنهج، وإلى إيضاح الثوابت التي لا تعذر دعوة ولا يعذر داعية في أن يتجاوزها وأن يتخلى عنها، ولا يقبل الخلاف فيها، إن الجهود ينبغي أن تنصرف إلى تحرير هذه القضايا بعيداً عن الأهواء، وبعيداً عن المؤثرات، وبعيداً عن كل دافع وعن كل عامل إلا الانطلاق من منهج الطائفة المنصورة، ومن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة من القرون المفضلة. إننا ونحن نسمع الحديث عن المنهج نرى أن هناك أخطاء كثيرة؛ أخطاء في الحديث عن المنهج، وأخطاء في تحرير معالم المنهج، ونريد أن نقف عند شيء منها، وليس حديثنا الآن حديثاً عن المنهج ومعالمه، إنما هي إشارة إلى بعض الأخطاء التي ربما تخفى، وهي منطلقات ينطلق منها البعض في تقرير المنهج أو في الحكم على أحد من الناس بأنه قد خالف المنهج، وهي منطلقات تخالف المنهج في أصله وهي منطلقات تحتاج إلى إعادة النظر فيها.

أخطاء في تقرير المنهج والحكم عليه

أخطاء في تقرير المنهج والحكم عليه

اعتبار آراء الرجال مقياسا للمنهج

اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج أول خطأ من هذه الأخطاء: اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج. إن هذا الدين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والعبودية في الناس إنما هي لله تبارك وتعالى، والاتباع إنما هو لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أحد في الأمة صغر أم كبر يتوجب على الأمة كلها أن تصدر عن رأيه، وأن تدين الله باجتهاداته وآرائه، هذه قضية بدهية لا يجادل فيها مسلم، ولا يكابر فيها إلا مكابر، إن الأئمة الأعلام والرجال الكبار لهم شأنهم ولهم قيمتهم، ولهم اعتبارهم ووزنهم، ولا ينبغي أن تسفه آراؤهم ولا أن تهان منزلتهم ومكانتهم، ولا يجوز أن يدعى إلى إسقاط مثل أولئك الرموز الذين تفتقر إليهم الأمة، لكن هذا شيء وأن تحول أقوالهم إلى حجة تلزم الأمة كلها بقبولها شيء آخر. ومن ادعى هذا الادعاء فنقول له: أعطنا نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كلاماً لإمام معتبر من أئمة أهل السنة يرى أن الأمة ملزمة برأي فلان من الناس، لا سبيل إلى ذلك، بل هذا هو عنوان الابتداع، وهذه أمارة من أمارات الإعراض عن المنهج، فمن نصب شخصاً أياً كان، فوالى على موالاته، وعادى على معاداته، وجعل كلامه برهاناً على الحق والباطل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة الأعلام، وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى كان أولئك رضوان الله عليهم يرون أن آراءهم وأن اجتهاداتهم ليست ملزمة للأمة. فها هو ابن عباس رضي الله عنه يقول في شأن رجلين من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هما أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يوشكون أن يهلكوا؛ أقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: قال أبو بكر وعمر، نعم إن رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل قول فرد من الناس ولو كان حتى من أولئك الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم واختارهم تبارك وتعالى ليكونوا فرط هذه الأمة وقدوة هذه الأمة، إن هذا الأمر سبب للهلاك، وسبب للانحراف؛ فالأمة لم تتعبد إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما آراء الرجال أيّاً كانوا وفي أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان فينبغي أن تعرض على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذاً فلا يسوغ بحال أن نجعل كلام فلان أو فلان من الناس مهما علا قدره وارتفع شأنه أن نجعله هو المنهج، فضلاً عن أن نتهم من خالفه في اجتهاد أو في موقف أو في رأي أنه قد خالف المنهج، وأنه قد انحرف عن المنهج وتنكب الطريق، والأمة إنما هي متعبدة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولهذا كان سلف الأمة والمصلحون يشتكون من هذا العائق الذي يطرحه الكثير من الناس في وجوههم، كما قال أحدهم: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك وهكذا كان أولئك يعترضون تارة بقول أشهب، وتارة بقول غيره، ثم يقول: فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك نعم إن ذكرت لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن مالكاً إنما ترك هذا الحديث لأنه قد أتاه حجة وبرهان. وإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك فالمنطق هنا هو نفسه، والشكوى هي ذات الشكوى التي يطرحها كل مصلح في كل زمان حين يصدم بهذا الحاجز، وهو حاجز التقليد، وتعبيد الناس لآراء الرجال.

اعتبار واقع مجتمع بعينه مقياسا للمنهج

اعتبار واقع مجتمع بعينه مقياساً للمنهج الخطأ الثاني: اعتبار واقع مجتمع من المجتمعات مقياساً للمنهج. قد يمتاز مجتمع من المجتمعات بأنه مجتمع محافظ أو أكثر محافظة وأبعد عن الانحراف والبدعة والخلل من سائر مجتمعات المسلمين، فيصبح المجتمع الرائد في عصره وزمانه، وهذا قد يدفع البعض من الناس لأن يجعلوا واقع هذا المجتمع هو المقياس وهو المعيار لسلامة المنهج، فكل رأي طارئ أو وافد أو جديد على هذا المجتمع يعتبر انحرافاً عن المنهج، ويعتبر مما لم نسمع به، وكوننا لم نسمع به دليل على أنه منهج منحرف، ألسنا نسمع كثيراً الطعن في بعض الآراء بحجة أنها آراء وافدة، وبأنها آراء جديدة، وبأنها آراء لم نسمع بها؟ إنا نطرح السؤال نفسه مرة أخرى: هل هناك مجتمع ما تكون الأمة متعبدة بما اتفق عليه هذا المجتمع؟ إن هذا المصطلح لا يعرف عند أهل العلم إلا فيما يسمى: (عمل أهل المدينة) وهي مرحلة قد مضت، ومسألة طال فيها الجدل والخلاف بين علماء الأصول، أما غيرها من المجتمعات والأزمنة والعصور فإنه لا يوجد من ينطق باسم الإسلام، ولا من يعتبر واقعه هو الواقع الذي يمثل الإسلام، وكل ما عداه وكل ما خالفه منحرف وزائغ وضال. نعم قد يكون مجتمع من المجتمعات أكثر انضباطاً، وقد يكون الانحراف وتكون البدعة فيه أقل من غيره، ويكون في الجملة أسلم من غيره، لكن هذا لا يعني أن يكون كل طارئ وكل جديد على هذا المجتمع مرفوضاً وانحرافاً، وأن يكون كل ما ألفه هذا المجتمع أو ذاك منهجاً صحيحاً وسليماً، إن المناط والحجة إنما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إن الرأي الوافد والرأي الجديد والمنهج الذي لم يألفه المجتمع، ينبغي أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج سلف الأمة، فإن وافق فحيا هلاً وأهلاً وسهلاً به، وإن خالف فهو مرفوض لا لأنه وافد، ولا لأنه طارئ على هذا المجتمع؛ لكن لأنه قد خالف الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، فينبغي أن يكون المعيار والميزان في ذلك إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف الأمة، وإلا أصبحنا عافانا الله وإياكم من أولئك الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].

خلط المصطلحات والنصوص الشرعية وتنزيلها تنزيلا خاطئا

خلط المصطلحات والنصوص الشرعية وتنزيلها تنزيلاً خاطئاً الخطأ الثالث: الخلط في المصطلحات الشرعية وتنزيلها على غير مواقعها. إننا نسمع الحديث كثيراً من خلال المصطلحات الشرعية التي جاء بها الشرع، سواء أكانت ثناءً أم كانت في مقام الذم والمنع، إننا نسمع الحديث عن الفتنة وأن الشرع قد جاء بذم الفتنة وإثارتها والدعوة إليها، وهي قضية لا يخالف فيها مخالف، ولا يجادل فيها مجادل، ونسمع الحديث عن المصلحة وأن المصلحة تقتضي كذا وكذا، وأن هذا الأمر مما دعت إليه المصلحة، وهي قضية مسلمة من أصول هذا الدين، ونسمع أيضاً عن الكثير من العبارات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم واستخدمها سلف الأمة، سواءً أكانت في مقام الثناء والمشروعية، أو كانت في مقام الذم والعيب، لكن الذي يحصل أن هذه النصوص وهذه المصطلحات تنزل أحياناً على غير مواقعها، وقد استقر في أذهان الناس أن كل ما يحقق المصلحة فهو مما دعا إليه الشرع، وأن كل ما يجلب المفسدة فهو أمر مرفوض، وينسى الناس أن يناقشوا أن هذا الأمر يحقق المصلحة، أو أن هذا الأمر ابتداع في الدين أصلاً، أو أن هذا الأمر إثارة فتنة، أو أن هذا الأمر كذا وكذا إلى آخر المصطلحات الشرعية. ولنضرب مثالاً سريعاً على ذلك بقضية يكثر الحديث عنها الآن: وهي قضية إثارة الفتنة، وإثارة الفتنة أمر مرفوض ولا شك، ولا يمكن أن نرى مسلماً يتعبد لله عز وجل ثم يتعمد السعي إلى الفتنة والدعوة إليها، لكن ما هي الفتنة التي جاء الشرع بذمها؟ وما هي الفتنة التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليست هذه القضية بحاجة إلى أن تحرر وأن توضح ثم تنزل الأحوال عليها، فما كان فتنة فهو مرفوض، وما كان سوى ذلك فلا يمكن أن يوصف بأنه إثارة للفتنة، إن الله تبارك وتعالى يقول في شأن أولئك الذين قاتلوا في الشهر الحرام: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، لقد قاتل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وعابهم المشركون بأنهم تجرءوا على الشهر الحرام، وتجاوزوا حرمته، فنزل القرآن يقرر خطأ هؤلاء، ويقرر أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لكن الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله أشد عند الله تبارك وتعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، ما المقصود بالفتنة هنا؟ إنها صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، إننا الآن نسمع الحديث كثيراً عن الفتنة لكن هل نسمع يوماً أن من الفتنة صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى؟ وأن من الفتنة السعي إلى إغراق الناس في الفساد والشرك والبدعة وصدهم عن سبيل الله؟ إنها فتنة وأيّ فتنة وهي أشد من القتل، يقول تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وهكذا حين نتحدث عن هذه القضية ينبغي أن نجمع النصوص الشرعية مما جاء في الكتاب والسنة وعن سلف الأمة ثم ننزل هذه القضايا على مواقعها. وقل مثل ذلك في قضية المصلحة والحكمة، وغيرها من المصطلحات التي جاء الشرع بها، إن هذه المعاني مستقرة عند الناس ومقبولة إما إيجاباً أو رفضاً، فالحكمة أمر يسعى إليه الجميع ويقبله الجميع والمصلحة كذلك، والفتنة أمر يرفضه الجميع، والذي يحصل أننا تنزل أحياناً هذه المصطلحات الشرعية على غير مواقعها فيبادر الناس بالقبول والرفض، ويشعر الناس أنها قضية مسلمة بدهية؛ لأن الشرع جاء بتحقيق المصالح؛ ولأن الشرع جاء بدرء المفاسد؛ ولأن الشرع جاء بالحكمة، وجاء بالمنع من الفتنة، ويغيب عن الناس مراجعة تحقيق هذا الأصل، وتنزيل هذه الألقاب الشرعية على مواقعها، وعلى مظانها.

الخطأ في تحديد منهج السلف

الخطأ في تحديد منهج السلف الخطأ الرابع: الخطأ في تحديد منهج السلف. إن منهج السلف لا يجادل أحد اليوم في أنه هو المنهج المقبول، بل هو المنهج الذي تتعبد به الأمة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تجد مسلماً داعياً إلى الله تبارك وتعالى في مشرق الأرض ومغربها أياً كان مقدار استقامته وانحرافه يرضى بأن يوصم بأنه يخالف منهج السلف، وحينما يتهم أي واحد من هؤلاء بأنه قد خالف منهج السلف فإنه يبادر إلى الدفاع عن نفسه، وإثبات أنه لا يزال على منهج السلف، وأنه لم يخالف منهج السلف، وهي قضية إيجابية ونقلة مهمة انتقلت إليها الأمة أن يتفق الجميع على منهج السلف في الجملة، لكن الذي يحصل فيه الخلل هو تقرير منهج السلف. إننا بدأنا نسمع كثيراً عن أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا خلاف ما عليه السلف، ونتيجة لتعظيمنا لمنهج السلف وقبولنا له ورهبتنا من أن نصوم بأننا قد خالفنا منهج السلف فقد تحدث هذه القضية في أذهاننا ما تحدث، لكن القضية التي ينبغي أن تثبت أولاً هي أن هذا المنهج هو بحق منهج السلف، إن منهج السلف ليست دعوى يدعيها كل إنسان ويتاجر بها فيقول: إن هذا هو منهج السلف، أو هذا على خلاف منهج السلف، أو هذا ليس على منهج السلف، وسأشير هنا إشارة سريعة إلى بعض الأخطاء التي قد يقع فيها البعض في تقرير منهج السلف: أولهاً: أن يجعل رأي آحاد السلف هو منهج السلف. فقد يأتي البعض من الناس ليقرر قضية من القضايا فيورد لك قائمة النقول عن جمع من التابعين وسلف الأمة ليستنبط بعد ذلك ويخرج بنتيجة أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا هو مذهب السلف، لكنه قد يخفى عليه أن هناك طائفة من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين ساقهم هذا الرجل يخالفون في ذلك. إذاً: ليس لنا كلما وجدنا قولاً لواحد من آحاد السلف أن نعتبره منهج السلف، وأن نعتبره المنهج الذي لا يسع الأمة أن تقول بخلافه، لا شك أن المسلم يقدر أقوال سلف الأمة، ويضعها في موضعها ويزنها بميزانها، لكن أيضاً أن تحول آراء آحاد السلف إلى منهج تتعبد الأمة به، ويوصم الناس بالانحراف لأنهم خالفوا رأي فلان أو فلان من السلف، فهي قضية بحاجة إلى أن يعاد النظر فيها، مثلاً: لو أتانا رجل وادعى أن منهج السلف هو وجوب الاستثناء في الإيمان، فإنه يستطيع أن يأتي بطائفة من أقوال السلف تنص على ذلك، ويقرر بعد ذلك أن هذا هو منهج السلف، وأن من لم يجز الاستثناء في الإيمان فقد خالف منهج السلف، لكن قد يقابله رجل آخر فيورد أيضاً قائمة أطول من تلك القائمة التي أوردها والتي ينقل فيها عن بعض السلف أنهم قالوا بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وأنا هنا مثلت بقضية واضحة ظاهرة معروف الخلاف فيها بين السلف، بغض النظر عن تحرير موطن الخلاف حول هذه القضية، لكنها قضية تؤكد لنا أنه ليس بمجرد أن يقال: قال فلان وهو من السلف أن هذا يكون هو منهج السلف، مع تأكيدنا على احترام آراء السلف وتعظيمها وتنزيلها منزلتها، لكنه لا يمكن أن تحوّل آراء فلان أو فلان إلى دين تلزم الأمة بقبوله، ويوصم من خالف هذا الاجتهاد وهذا الرأي بأنه منحرف، وإلا فبم نفسر ما ورد عن السلف من خلاف في مسائل كثيرة؟ خاصة وأن الكثير ممن يتحدث في هذه القضايا يغض الطرف عن عمد أو عن غير عمد عن أقوال أخرى لجماهير من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين حكى عنه تخالف هذا القول، إن الأمانة العلمية تقتضي أن تورد أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء ثم توفق بينها، واحترام عقل القارئ يقتضي منك أن تورد هذا كله، أما أن تضع يدك على عين وتنظر بعين واحدة وتتعامل مع جانب واحد فهذا عنوان دخول الهوى، وحين يدخل الهوى إلى ميدان البحث فإن هذه أول خطوة لمجانبة الصواب والانحراف عن المنهج. الخطأ الثاني في قضية منهج السلف: إهمال عامل الزمان واختلاف الأمور. لا شك أن هناك قضايا مسلمة في كل وقت وفي كل زمان لا تختلف فيها الأمور، لكن هناك قضايا نقلت فيها عن السلف أقوال قالوها في زمان معين أو عصر معين أو ظروف معينة، لا يمكن أن تكتسب هذه النصوص وهذه الأقوال صفة العموم والتعميم، ومهما كانت آراء السلف فهي لا ترقى إلى منزلة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان. ولأضرب على ذلك مثالاً حتى تتضح الصورة: لو تأملنا ما كتبه السلف لوجدنا أنهم ينهون كثيراً عن صحبة الأمرد وعن مجالسته ولو لمصلحة تعليمه وتهذيبه وتربيته، والنقول في ذلك عن السلف لا تخفى، ولهذا قد يأخذ بعض الغيورين هذه النصوص وينزلها على هذا العصر، ويقول: ينبغي ألا يصحب هؤلاء، وينبغي للصالحين والأخيار أن يبتعدوا عن صحبة هؤلاء، وأن يبتعد هؤلاء عن مثل هذه المجالس والمجامع؛ لأن السلف كانوا ينهون عن ذلك، وقد ينسى هؤلاء -وهم لا شك ينطلقون من منطلق الغيرة والحرص على اتباع منهج السلف- مراعاة فارق الزمان، وفارق ذاك الوقت الذي قيل فيه هذا القول والوقت والمرحلة التي نعيشها، إننا الآن حين ننهى الصالحين الأخيار عن مصاحبة هؤلاء والأخذ بأيديهم وتربيتهم وتهذيبهم فهذا يعني أن يترك هؤلاء هملاً يتيهون في الشوارع والأز

عدم التفريق بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط

عدم التفريق بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط الخطأ الخامس من الأخطاء في المنهج: عدم التفريق بين الخلاف في الأصل وبين الخلاف في تحقيق المناط. إن هناك مسائل مقررة من هذا الدين ولا تحتمل نقاشاً ولا جدلاً، لكنه قد يحصل هناك خلاف في تنزيل هذه المسائل على وقائع معينة، وعلى أحوال معينة، فيحول هذا الخلاف إلى خلافٍ في الأصل، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة: قضية تاريخية قريبة حصلت ودار حولها لغط كثير وهي قضية الجهاد في أفغانستان، حين دار بين المجاهدين ما دار من الصراع، واختلف الكثير من أهل المنهج الحق -أهل السنة والجماعة- حول الموقف من هذه القضية، فهناك من صور أن القضية صراع بين السنة والبدعة، وأن القضية صراع بين التوحيد والشرك، ولهذا رأى أنه لا يسوغ لمسلم أن يقف موقف الحياد في هذه القضية، وأن الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم هو الموقف الواضح المحدد، وهناك من خالف في هذا الأمر ورأى أن القضية لها أسباب وعوامل أخرى غير عامل العقيدة. أقول: بغض النظر عن هذه القضية والموقف منها، لكن هذا الخلاف إنما هو خلاف في تحقيق المناط، فالجميع يتفقون على أن قضية التوحيد قضية لا يساوم عليها، وأن المسلم لا يجوز له أن يقف على الحياد في قضية يكون فيها صراع بين أهل السنة وأهل البدعة، ولا ينبغي له أن يتردد في موقفه حين يكون الجدل بين دعاة التوحيد ودعاة الفتنة والتصوف والضلال، لكن الخلاف في تقرير هذه القضية، هل هي أصلاً صراع بين أهل التوحيد وأهل الضلال أم أن لها باباً آخر؟ وقل مثل ذلك حينما يختلف مسلمان في تكفير فلان من الناس، حينما يقرر فلان أن فلاناً ممن وقع في أمر يكفره أنه قد كفر وارتد بهذا العمل عن الإسلام، والآخر لا يكفره، هل يسوغ لذاك الذي حكم بعدم تكفيره أن يصم هذا بأنه من الخوارج ويرى رأي الخوارج، أم أن القضية تحتاج إلى البحث والمناقشة؟ فإن كفّر بأمر يكفر فيه سلف الأمة وأهل السنة فإن هذا الأمر لا يمكن أن يحوله إلى رجل من الخروج وأهل الوعيد. نعم، قد يكون الخلاف على التكفير بعمل لا يكفر فيه أهل السنة فهذا لا شك مسلك الخوارج، أما حين يكون هذا المرء قد ارتكب عملاً مكفراً بنصوص الكتاب والسنة، والخلاف إنما هو في تنزيل التكفير على هذا الرجل المعين فإن القضية ليست من هذا الباب في شيء، إنما هي خلاف في تحقيق المناط بغض النظر عن ملابسات هذه القضية من وجوب الورع والاحتياط والبعد عن تكفير المسلم، لكن فرق بين أن تحكم عليه بالخطأ في تنزيل هذا الحكم على هذه القضية وبين أن تلزمه بالأصل وتحكم عليه بمخالفة المنهج. إذاً: فينبغي أن نفرق في قضايا الاختلاف بين ما كان خلافاً في الأصل وبين ما كان خلافاً في تحقيق المناط وتنزيل الوقائع على الأصول.

الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة

الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة الخطأ السادس: الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة. قد يعيش المسلمون أحداثاً عنيفة وقد يعيشون أزمة، والأزمات بطبيعتها تسبب نوعاً من عدم التوازن في التفكير ومن عدم التوازن في المواقف، ولهذا يضطرب الناس ويموجون عند الفتن، والفتنة إذا أقبلت لا يدركها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها وأدركها الجميع، فطبيعة الفتن والنوازل أنها تحدث نوعاً من الخلل وعدم الاستقرار في التفكير، فقد ينطلق البعض في تقرير المنهج من خلال موقف من قضية معينة أو حادث معين، وهذا خلل في المنهج، نعم، قد نعلق على هذه القضية أو على هذا الموقف أو قد نتخذ موقفاً من حدث معين، أو من قضية بعينها، لكن أن تكون هذه القضية منطلقاً لتقرير المنهج أصلاً، فهذا أمر يحتاج إلى إعادة النظر.

الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال

الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال الخطأ السابع: الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال. قد يحصل خطأ ينتشر عند البعض من الناس، وقد يرفض هذا الخطأ فيبالغ في رفضه، ثم يعمد تجاه هذا الخطأ أو تجاه هذا الموقف أو تجاه هذا الواقع إلى تقرير المنهج متأثرين بردة الفعل. إن قضية المنهج كما أنها يجب أن تحمل قدراً من الثبات والوضوح، فهي بحاجة إلى أن تحمل أيضاً قدراً من الاستقرار والتوازن مما يجعلنا نتلافى قدر الإمكان الاستجابة لردود الأفعال، والاستجابة للتأثر بالأحداث في تقرير المنهج، فحين نقرر المنهج ينبغي أن نتحرر قدر الإمكان من أحداث معينة تركت آثارها في أذهاننا، ونتحرر من ردود فعل تجاه أخطاء البعض من الناس أو تجاه تقصيرهم أو تجاه موقف أو آخر.

اعتبار مسائل الاجتهاد من أصول المنهج

اعتبار مسائل الاجتهاد من أصول المنهج الخطأ الثامن: اعتبار مسائل الاجتهاد من المنهج. إن هناك مسائل قد جاءت بها النصوص فهي ظاهرة واضحة، لا يعذر أحد بخلافها، وهذه بلا شك لا يسوغ أن تجعل ميداناً للجدل واللغط، وينبغي أن يخضع لها الدعاة ويخضع لها المسلمون أجمع، لكن ثمة قضايا هي من مسائل الاجتهاد، وقضايا لم يرد فيها نصوص قاطعة، ولهذا فهي تحتمل أن تختلف فيها الآراء والاجتهادات، وما دام أنه ليس في المسألة نص ظاهر يجب على المسلمين قبوله فالأمر واسع في ذلك، ويجوز فيه اجتهاد الدعاة والمصلحين، ويجوز لهم أن يتلمسوا ما يرون أنه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع وأقرب إلى امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيجتهدون في تحقيقه قدر الإمكان، وما يهديهم إليه اجتهادهم يسلكونه ثم يعذرون الآخرين، ولا شك أن من أخطأ في مسائل الاجتهاد فهو معذور، وهذا منهج سلف الأمة، بل إن الذي يقرنون بين الخطأ والإثم والضلال هم أهل البدع كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن من كتبه، وأهل البدع هم الذين يحولون مسائل الاجتهاد إلى مسائل يفرقون فيها بين الأمة، وإلى مسائل يؤثمون بها المخالف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، وكم هي المسائل التي اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تحول هذه المسائل إلى منهج يخطأ من خالفه. إننا نرى الآن في عصرنا خلافاً حول قضايا مستجدة ربما كانت محلاً ومجالاً وميداناً للخلاف، ثم نرى من يحول هذه القضايا إلى منهج، ويجعل هذه القضايا معياراً للولاء والبراء، ويجعل هذه القضايا علامة على سلامة المنهج، ويجعل الإخلال بها علامة على الانحراف عن المنهج، ومن أبرز ذلك الخلاف في بعض وسائل الدعوة، فوسائل الدعوة المعاصرة لا شك أنه يحصل فيها خلاف كثير باعتبار أنها نوازل وقضايا طارئة، ولم يتفق فيها العلماء المعاصرون على رأي موحد، فلماذا تحول هذه المسائل إلى قضايا من أسس المنهج، وتجعل هذه المسائل علامة على أن من قال بها فهو من أهل المنهج الصحيح، ومن خالفها فهو من أهل المنهج المنحرف المبتدع؟ ولماذا لا يسعنا الخلاف فيها؟ نعم قد يرى فلان من الناس أنه لا يسعه إلا هذا القول، وقد يرى أنه يدين الله تبارك وتعالى بهذا القول، لكنه حين يلزم نفسه بهذا الاجتهاد ويقرره ويدعو الناس إليه فهذا شيء، وأن تحول هذه المسائل إلى أصول وإلى منهج يضلل من خالف فيه فهذا شيء آخر؛ لأننا حين نقرر هذا فمعناه أن يكون لدينا من المناهج بقدر ما لدينا من الدعاة، ويكون لدينا من الطرق والوسائل بقدر ما لدينا من الأفراد، فلا يستقيم على كل منهج إلا فرد واحد، لأنك لن تجد رجلين مهما كان وجه التقارب بينهما إلا ويختلفان في قضية من القضايا.

اعتبار عدم النجاح في تحقيق هدف ما دليلا على انحراف المنهج

اعتبار عدم النجاح في تحقيق هدف ما دليلاً على انحراف المنهج الخطأ التاسع والأخير: اعتبار عدم النجاح في تحقيق الهدف دليلاً على انحراف المنهج. لا شك أيها الإخوة أن الداعية إلى الله تبارك وتعالى حين يرى أن هذه التجربة أو تلك لم تنجح فإن ذلك يدعوه إلى أن يعيد النظر في نفسه، وأن يعيد النظر في اجتهاداته، وأن يعيد النظر في آرائه، ولا شك أيضاً أنه وهو يقرأ تجارب الآخرين من السابقين واللاحقين الماضين والذين يعيش معهم، لا شك أنه حين يقرأ تجارب من سبقه وعاصره يرى أن هناك تجارب لم يكتب لها النجاح، فيدعوه هذا إلى المراجعة، ويدعوه إلى أن يفتش عن أسباب؛ لأن الفشل له أسباب، لكن هل فشل فلان من الناس يكون بالضرورة سببه الانحراف في المنهج؟ قد يكون ذلك، فالمنهج المنحرف لن يكتب له النجاح، لكن ليس هذا بالضرورة فقد تكون هناك أسباب أخرى أدت إلى ذلك، منها تقصيره في الأخذ ببعض الأسباب المادية. إن الله تبارك وتعالى أمرنا بأخذ القوة وأخذ العدة، وأن نتقيه ما استطعنا في كل شيء، قد يكون الإنسان على منهج صحيح، وعلى منهج سديد مستقيم لكنه يفرط في بعض الأسباب وبعض القضايا المادية التي ينبغي له أن يأخذ بها كما أمره الله تبارك وتعالى؛ فيفشل عمله أو يصاب بنكسة نتيجة إهماله وتفريطه، فهو هنا لا شك أُتي من تقصيره، لكن منهجه ليس منهجاً منحرفاً، ولا يسوغ أن نعود بعد ذلك لنقول: إن فشله في تحقيق هدفه دليل على انحراف منهجه، وقد يكون أيضاً فشله وعدم نجاحه عائداً إلى نوع من الخلل في نيته، قد يكون على منهج صحيح ومنهج سليم في الجملة، ولم يقرر باطلاً ولا بدعة، لكن قد يدخله في العمل بعض حظوظ النفس وبعض الرغبات الشخصية، وهنا قد لا يكتب له النجاح لعدم تحقيق تمام الإخلاص، فلا يدعونا هذا إلى أن نخطئ المنهج، نعم هو إنما أتي من عند نفسه، لكنه أتي من قضية النية، وأما المنهج الذي سلكه في الجملة فهو منهج سليم، فلا يسوغ أن نرفض منهجاً لأنه لم ينجح. وقد يكون في الأمر ابتلاء وامتحان، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده المؤمنين، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد) فهل يسوغ أن نتهم هذا النبي الذي لم يستجب له إلا رجل أو رجلان رغم أنه استمر دهراً طويلاً في الدعوة، هل يسوغ أن نتهمه بأنه منحرف في المنهج بدليل أنه فشل في تحقيق الهدف الذي سعى إليه؟ هل يسوغ أن نتهم نوحاً عليه السلام -الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً- بأنه منحرف في منهجه بدليل أنه خلال هذا الدهر الطويل لم يؤمن معه إلا قليل؟ لا يمكن أن يجرؤ مسلم أن يقول هذه المقولة، إذاً فالأمور لها عوامل أخرى. ونموذج آخر: أصحاب الأخدود حين جاء ذاك الغلام الذي حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، وهدى الله عز وجل على يديه وزير الملك وجليسه، وهدى على يديه الكثير من الناس، ثم أخذ جليس الملك وشق بالمنشار نصفين كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ الراهب وقتل، كل ذلك بسبب استجابتهما للغلام وبسبب دعوة الغلام، فهل يمكن أن نتهم هذا الغلام بأنه منحرف في المنهج؛ لأنه قاد هؤلاء إلى هذه النهاية، بل إنه قاد كل أولئك الذين آمنوا بالله إلى أن يحرقوا بنار الدنيا؟ وهل حرق أولئك جميعاً وقتلهم يعني أنهم قد فشلوا، وأن هذا الغلام مسئول عن تلك الدماء التي أريقت؟ لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البقعة المباركة ودعا إلى الله تبارك وتعالى فآمن به من آمن، واتبعه من اتبعه صلى الله عليه وسلم، وتعرض المسلمون لما تعرضوا له من التعذيب والإيذاء والفتنة، فمنهم من قتل، ومنهم من بلغ به الأذى ما بلغ، ومنهم من هاجر إلى الحبشة وتغرب، ومنهم من هاجر إلى المدينة حتى كان كما قال أولئك: فرق بين الرجل وزوجه، وفرق بين الابن وأبيه، وحتى التقى الابن مع أبيه بسيفيهما في غزوة بدر، وحتى قاتل الأخ أخاه، هل يمكن أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته هي السبب فيما أصاب سمية، أو هي السبب فيما أصاب ياسراً حين قتلا تحت التعذيب، أو هي السبب في اغتراب المسلمين وهجرتهم إلى الحبشة أو إلى المدينة أو في كل ما أصاب المسلمين؟ لا يمكن أن يقول ذلك قائل. إذاً: لا يجوز أن تنسب هذه النتائج إلى الدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وأنهم هم المسئولون عنها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى خطوة أخرى وهي الاستشهاد بذلك على الخطأ في المنهج واتهام المنهج. هذه أيها الإخوة بعض الأخطاء التي نقع فيها عند تقرير المنهج وتبيين معالمه، وأكرر ما قلت في بداية حديثي: إننا أحوج ما نكون الآن إلى محاولة الخروج برؤية واضحة يتفق عليها جميع أهل السنة حول الثوابت التي لا ينبغي لأحد أن يخالف فيها، بدلاً من الجدل واللغط والخصومة واللجاج، فتحرير معالم المنهج يضمن النجاة بإذن الله؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن تنجو إلا الطائفة التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحديد معالم المنهج الوا

الأسئلة

الأسئلة

ما يجب على الابن إذا ألزمه والده باتباع مذهب فقهي معين

ما يجب على الابن إذا ألزمه والده باتباع مذهب فقهي معين Q إن أبي يلزمني بالمذهب الحنفي، فهل أطيعه أم لا؟ علماً بأن عصياني له فيه من المفاسد والتفرقة، وكل أهلي كذلك مثل أبي؟ A لا شك أن البعض من المسلمين وخاصة العامة قد ينشئون في محيط ويعتادون عليه، ولهذا قد تصعب عليهم مخالفته، وقد يشعر الابن أن فيما عليه أهله ما لا يسعه أن يقرهم عليه، ويوافقهم عليه، لكن ينبغي له أن يتبع الحكمة في ذلك، وسواءً كان المذهب حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً فليست العبرة بالصحة والخطأ في قضية المذهب، إنما العبرة بما وافق الدليل، فإذا كنت تشعر أن ما يدعوك إليه والدك يخالف دليلاً صريحاً في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن تبين له بالحكمة والأسلوب الحسن أننا متعبدون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المذهب لا نقاش فيه ولا جدال حوله، لكن حينما يجد المرء دليلاً يخالف ما عليه المذهب فإنه من التزامه بالمذهب أن يتبع ما قاله أبو حنيفة رحمة الله عليه حين قال: إذا خالف قولي الدليل فاضربوا بقولي عرض الحائط.

تقليد آحاد الناس للمجتهدين الثقات لا يعني إلزام غيرهم بذلك

تقليد آحاد الناس للمجتهدين الثقات لا يعني إلزام غيرهم بذلك Q التنبيه على وجوب التقليد للمجتهدين المخلصين. A هذه قضية كنت أريد أن أشير إليها، وهي أنك حين تقول لبعض الناس: إن آراء الرجال ليست حجة، يرد عليك بقوله: إنني من آحاد الناس وليس لدي علم ولا حسن إدراك لمثل هذه القضايا، ولهذا أرى أنه لا يسعني إلا أن أقلد فلاناً من الناس الذين أثق في علمهم وتقواهم. فأقول: نعم قد يسوغ التقليد لفئة من الناس ممن لم يعرف الحق، فإذا كنت من هذه الفئة فلا يجوز لك أن تحكم بانحراف الناس لأنهم خالفوا هذا الرأي الذي تتبعه؛ لأنك أصلاً شهدت على نفسك بعدم العلم، فإذا ساغ التقليد فلا يسوغ معه أن تأخذ هذا القول الذي أخذته تقليداً وتدعو الناس إليه، وترى أن الناس متعبدون باتباعه، وأن من خالف فيه فهو منحرف، وإذا ناقشك الناس بالحجة والبرهان قلت: أنا ما أعرف، إنما أتبع فلاناً أو فلاناً من الناس، فإذا كنت أنت يا أخي تتبع فلاناً من الناس، وترى أنه لا يسعك الخروج من رأيه، فإن غيرك قد يفهم من كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب عليه الخروج عن رأي فلان أو فلان في مثل هذه المسألة أو تلك.

منهج السلف ضابط يتحاكم إليه عند الاختلاف

منهج السلف ضابط يتحاكم إليه عند الاختلاف Q التحذير من اتباع من يدعون القيام بمنهج السلف، بينما يتركون بعض أساسيات هذا المنهج مراعاة لمصالحهم الشخصية أو الجماعية. A منهج السلف واضح ونحن نتحاكم مع الناس إليه، فمن كان على منهج السلف في معتقدهم وأخلاقهم وهديهم وسمتهم فهو كذلك، ومن خالف في شيء من ذلك فيحكم عليه بالبعد عن منهج السلف بقدر ما خالف فيه.

بعض الكتب التي تعنى بقضية المنهج

بعض الكتب التي تعنى بقضية المنهج Q هل من كتابات ترشدنا إليها في هذا الموضوع وطرحه، وفي المعالم الرئيسية للمنهج؟ A المشكلة أن هناك كتابات كثيرة حول قضية المنهج، لكن كلها -كما قلت في المقدمة- تتناول الموضوع بنوع من اللجاجة والخصومة لا أقل ولا أكثر، وربما بدأت محاولات جديدة في هذا الوقت، وهي جديرة بالاعتبار، فمثلاً هناك كتاب: أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى، وكتاب: الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي للدكتور: صلاح الصاوي، وهذه تعد محاولات للخروج برؤية واضحة حول ذلك، وهناك أيضاً رسالة صغيرة في منهجية العمل الإسلامي للشيخ: أحمد سلام، ورسالة صغيرة بعنوان: حتى لا نسقط في الفتنة، وهي حول قضية منهج الحوار بين دعاة أهل السنة، وهذا مما تيسر لي أن أقرأه حول هذا الموضوع.

الخطأ في المنهج سبب من أسباب الفتور في جوانب الدعوة

الخطأ في المنهج سبب من أسباب الفتور في جوانب الدعوة Q إن ما نراه من الفتور في الدعوة هو نتيجة الأخطاء في المنهج، نرجو من فضيلتكم الحديث عن هذا حفظكم الله. A لا ينبغي يا إخوان أن تصيبنا عقدة أحادية التفكير، بحيث أن كل القضايا نحيلها إلى قضية واحدة، الفتور موجود، لكن ليس بالضرورة سببه الخطأ في المنهج، بل هناك أسباب كثيرة من تقصير في الطاعة وغير ذلك، فالخطأ في المنهج يعد سبباً منها، لكن يجب أن نتخلص من عقدة الأحادية ولا نجعل كل قضية نتحدث عنها مسئولة عن كل مرض من أمراضنا، وعن كل ظاهرة من الظواهر التي نعالجها.

كيفية الجمع بين حضور مجالس العلم والتفرغ لحفظ القرآن الكريم

كيفية الجمع بين حضور مجالس العلم والتفرغ لحفظ القرآن الكريم Q كيف يستطيع طالب العلم التوفيق بين حفظ القرآن، وبين حضور الدروس العلمية المفيدة والمحاضرات النافعة؟ A لا شك أنه ينبغي للشاب أن يحرص على هذا وذاك، فيحرص على حضور حلقات القرآن، وعلى حضور المحاضرات والدروس العلمية، وما أتصور أن هناك تعارضاً كبيراً، فينبغي له أن يحرص على أن يوفق بينها، فيخصص وقتاً لحضور حلقات القرآن وحفظ القرآن، ووقتاً لحضور مجالس العلم والمحاضرات العامة؛ لأن النفس قد يصيبها الكسل، فالإنسان قد يتفرغ لحفظ القرآن، لكنه قد يكسل ويمل، فيكون حضوره هنا ومشاركته هنا مما يجدد له نشاطه وحيويته، ثم أيضاً -وهذا جانب مهم جداً- قد يتفرغ لحفظ القرآن؛ لكنه قد يضعف، ومجالس العلم والخير تزيد من إيمان الشاب، وتزيد من ثباته، وتزيد من الدافع لديه، وتضع قدميه على الطريق الصحيح، ويستمر في هذا وهذا، ومع ذلك فإني أنصحه إذا لم يتم حفظ القرآن أن يعطي جهداً أكبر للعناية بذلك. Q من هو الذي يمكن أن يتبين خطأ أو صحة رأي عالم من العلماء، ويرد ذلك للكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل الأمر متروك لكل شخص التزم وتدين قريباً، ونصب نفسه من أئمة الجرح والتعديل، أم أن الأمر بضوابط وقيود؟ آمل توضيح هذه النقطة، لأن كثيراً من الشباب قد افتتن بهذا الأمر ووقع في لحوم العلماء وسفه آراءهم. A هذا كلام صحيح وجميل، فليس معنى هذا أن نفتح الباب على مصراعيه، لكن لو تكلم إنسان مثلاً نقول له: ما هو الدليل من القرآن والسنة؟ ويكون النقاش باعتدال، فإذا رأينا دليله ظاهراً واضحاً من الكتاب والسنة نقبله ويبقى العالم والمجتهد له احترامه وله قيمته، ورد اجتهاده لا يعني بحال من الأحوال تسفيه رأيه، فنحن لو قلنا -مثلاً- في مسألة الجد والإخوة بقول غير قول أبي بكر، هل يعني ذلك أننا نسفه رأي أبي بكر، ولو قلنا في مسألة من مسائل الكلالة أو الربا برأي غير رأي عمر رضي الله عنه هل يعني أننا نسفه رأي عمر، وقل مثل ذلك في سائر المسائل، لذا فإن مخالفة رأي فلان من الناس لا يعني تسفيه رأيه، كذلك لا تجعل هذه القضية سبباً للفرقة، ولا يكون اكتشاف خطأ على فلان من الناس فرصة للنيل من عرضه والطعن فيه، فهذا مرفوض أيضاً.

عدم اعتبار أقوال الرجال في تحديد المنهج لا يعني منع تقليد العلماء مطلقا

عدم اعتبار أقوال الرجال في تحديد المنهج لا يعني منع تقليد العلماء مطلقاً Q كيف الجمع بين رفض أقوال الرجال في تحديد المنهج، والقول بأن هذا الدين وهذا المنهج الذي أخذ من الكتاب والسنة لا يفهم ولا يعرف إلا بالرجال؟ A القضية ليست تطرفاً إما كذا أو كذا، نحن ما قلنا أن على كل إنسان أن يستغني عن قراءة كتب أهل العلم، وعن الاستماع إليهم، ويعرض عنهم، ويبقى يقرأ النصوص بنفسه ويستنبط منها مباشرة، هذا لا يمكن، فأهل العلم الذين بلغوا الغاية والقمة إنما استفادوا من آراء من سبقهم، ولا يمكن أن يستغنوا عن آراء غيرهم، لكن يا أخي هذا شيء وقضية التقليد المطبق شيء آخر، فنحن نرفض التقليد المطبق، ونرفض أن تكون آراء الرجال هي المقياس في المنهج؛ لأننا الآن نجد أن فلاناً يتهم بأنه منحرف في المنهج أو أخطأ في المنهج بحجة أنه خالف رأي فلان أو رأي الجهة الفلانية أو العالم الفلاني، هذا هو الخطأ وهذه هي القضية التي نرفضها، أما أن نهمل آراء العلماء والأئمة والاستفادة منهم فلا أظن أن أحداً يدعو إلى ذلك، ولا يقول ولا أظن أن أحداً يفهم مما نقوله أننا ندعو إلى مثل هذا.

تبني الفرق الضالة لبعض جوانب المنهج الصحيح لا يلزم منه براءتهم من البدع والضلال

تبني الفرق الضالة لبعض جوانب المنهج الصحيح لا يلزم منه براءتهم من البدع والضلال Q نرى الآن من بعض آبائنا بعض الأخطاء في العقيدة كحبهم لبعض الطوائف مثل الصوفية، أو الرافضة إلخ، بسبب بعض الأعمال التي يقومون بها. A نعم هذا حاصل، فمثلاً الرافضة اليوم -كما نرى من دولتهم- يرفعون راية الإسلام ويقومون ببعض الأعمال التي لم يقم بها كثير من المسلمين، وقل مثل ذلك في بعض طوائف التصوف، لكن هذا لا يعني أن منهجهم صحيح أو سليم، بل هؤلاء الكثير منهم يتاجر بمثل هذه الشعارات، ويتاجر بمثل هذه الأمور، وينبغي لنا نحن أن نكون واقعيين ومنصفين ومحايدين، فنقول: هذا الموقف الذي وقفوه موقف يجب على المسلمين أن يقوموا به، ويجب على المسلمين أن يقفوا مثل هذا الموقف، لكن هذا لا يعني الشهادة لهم بالبراءة من البدعة والضلال، ولا يعني أن يقود المسلم إلى حبهم والثناء عليهم، ألسنا نعلم أن أحد المشركين كان له أعمال من الصلة وإطعام الطعام، وتقديم الخير للناس، وحين سئل صلى الله عليه وسلم عنه قال: (إنه لن ينفعه، لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدي)، وهكذا فأعمال هؤلاء هي من هذا الباب.

من أخطأ في اتباع المنهج بعد أن بذل وسعه واجتهد فيرجى له أن يكون معذورا

من أخطأ في اتباع المنهج بعد أن بذل وسعه واجتهد فيرجى له أن يكون معذوراً Q ما المنهج السليم الذي يمكن سلوكه لتجنب ما يبعد عن المنهج الذي رسمه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يمكن التمسك بهذا المنهج تمسكاً سليماً خالياً من الأخطاء؟ A يجب علينا أن نعود إلى دراسة منهج أهل السنة والجماعة دراسة عميقة واسعة، ونعرف ما هي القضايا التي اتفق عليها أهل السنة، وما هي المسائل التي اختلف فيها أهل السنة، ثم نسعى إلى تنزيل هذه القضايا على عصرنا وعلى واقعنا، ونرجع في كل أمورنا إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله بإذن الله أمارة الوصول إلى المنهج السليم، ولو أخطأ الإنسان بعد ذلك الاجتهاد ووقع في الخطأ ولم يوفق في سلوك الحق فإنه معذور بإذن الله، وعلينا أن نستكثر دائماً من الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه).

موافقة الحق هو الميزان الصحيح لتقييم الأفراد والجماعات

موافقة الحق هو الميزان الصحيح لتقييم الأفراد والجماعات Q كثر في هذا الزمان الكلام عن الجماعات والعداء بينها، مع أن بعضها على خير، فما هو الميزان الصحيح في هذا الموضوع؟ A الميزان الصحيح في تقويم الرجال والجماعات والهيئات والأعمال أن ينظر المسلم ما وافق الحق فيقبله، ويثني عليه، وما خالف الحق فيرده ويرفضه، ومن كان صوابه أكثر من خطئه، واستقامته أكثر من انحرافه فإنه يحمد في الجملة، وإذا اقتضت الحاجة يبين ما وقع فيه من خطأ، ومن كان خطؤه وانحرافه وضلاله أكثر من صوابه فإنه يحذر منه في الجملة، وإن أتى بخير فإنه لا ينبغي أن يترك هذا الخير بحجة أنه جاء به فلان، لكن أرى أنه ينبغي لنا ألا نشغل أنفسنا بالحكم على الناس، وعلى الأعمال والجهود؛ لأن الإنسان إذا انشغل بهذه القضايا فإنه سينشغل عن عيب نفسه بعيوب الناس، ولن يسأل الإنسان في قبره عما يعتقد في فلان أو فلان من الناس، ولو مات وهو يعتقد أن فلاناً على الحق وكان بخلاف اعتقاده فيه فإن هذا لن يضيره أبداً. المقصود: أننا ينبغي أن ننشغل بأنفسنا وأن ننشغل بعيوبنا، إما إذا كان هناك حاجة لبيان الموقف من قضية معينة أو جهة معينة فينبغي أن يكون ذلك بعلم وعدل، وأن نحذر من الهوى؛ لأن هذه القضايا من أكبر مداخل الهوى وحظ النفس.

إخضاع آراء الرجال للكتاب والسنة يقي المسلم من التقليد المذموم

إخضاع آراء الرجال للكتاب والسنة يقي المسلم من التقليد المذموم Q لا شك أن تضخيم الناس لأقوال الرجال باعتمادها في كثير من القضايا يعتبر من الأخطاء الواضحة في المنهج، لكن ما الحل في علاج مثل هذا الخطأ الفادح، لا سيما وأن ممن يقع فيه بعض طلبة العلم الفضلاء؟ A العلاج هو أن نعبد الناس للكتاب والسنة ونخضعهم لهما، ونحن علينا أن نستفيد من آراء العلماء، ومن آراء الرجال، ويكون لها احترامها وقيمتها في نفوسنا، لكن بالمقابل ينبغي ألا تعظم آراء الرجال أكثر من الكتاب والسنة. الآن الناس وسعهم أن يتركوا مذهب الإمام أحمد، ووسعهم أن يتركوا مذهب الشافعي، ووسعهم أن يتركوا مذهب أبي حنيفة، وما يرون غضاضة في ذلك، بل إن من دعا إلى مذهب من هذه المذاهب فإنهم يضعون عليه علامة استفهام، لكنهم في ذات الوقت يرون أنه مما يشق عليهم جداً أن يخرجوا عن قول عالم معاصر. فأقول لهؤلاء: إذا وسعكم تقليد عالم معاصر فإن اتباع المذاهب أولى وأجدر؛ لأن أصحاب تلك المذاهب كانوا أعلم، وكانوا أئمة، واتفقت عليهم الأمة، وكان لكل مذهب منها مدرسة فقهية متكاملة، حررت قواعده وأصوله ومسائله، بخلاف آراء فلان أو فلان من الناس، فلا ينبغي لنا أن ننتقل من تقليد إلى تقليد آخر، ولا أن نذم خطأً ونرتكب خطأ آخر مثله أو أشد منه.

اقتناع المرء أنه على المنهج الحق لا يلزم منه أن غيره على منهج باطل

اقتناع المرء أنه على المنهج الحق لا يلزم منه أن غيره على منهج باطل Q لماذا يصر البعض من الناس على عدم سلوك المنهج الصحيح، مع علمه أن المنهج الذي يسلكه هو منهج خاطئ؟ A أولاً هذا يحتاج إلى أن نقرر أن هذا الكلام سليم أصلاً، يعني: بعض الناس يرى فلاناً يسلك طريقاً، ويرى هو أن هذا منهج خاطئ، ويبين له ذلك، ثم بعد ذلك يصل إلى نتيجة أنه قد بين له الحق، وأنه قد رفض الحق وكابر. أقول: يا أخي ربما أنه هو على منهج سليم وصحيح، وأن الخلاف بينك وبينه مما يسع فيه اختلاف وجهات النظر والرأي أصلاً، وليس خلافاً في المنهج، وربما كان على صواب وأنت على خطأ، وربما كان هو على خطأ فعلاً وأنت على صواب، لكنه ما اقتنع وما وضح له الحق، فلماذا دائماً نتهم الناس بفساد النية، وخبث الطوية؟! نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكتب النصر والتمكين للطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأن يجعلنا وإياكم من أتباع منهجه صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، وأن يوردنا حوضه، وأن يحشرنا تحت لوائه إنه سميع مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

نحو تربية جادة

نحو تربية جادة التربية الجادة من الأمور الضرورية لإنشاء جيل عملي مؤهل لحمل الأعباء والتكفل بالقيام بالمسئوليات المناطة به، وهذه التربية لا يكفي فيها مجرد الطرح النظري والخطب والمقالات التي تلقى في المحافل؛ بل لا بد من وضع خطوات عملية والقيام بدور القدوة الحسنة في ذلك.

المواجهات الضخمة تتطلب تربية جادة

المواجهات الضخمة تتطلب تربية جادة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فتدرك الأمم أجمع اليوم أهمية التربية وضرورتها، وتدرك أنها لن تحقق أهدافها ولن تصل إليها إلا من خلال التربية وإعداد الجيل، ومن هنا فإن الأمم التي تقدر جيلها وناشئتها تشعر أن أولى ما تقدمه لهذا الجيل هو التربية؛ لذا تحظى هذه التربية عند أولئك بعناية كبيرة، بغض النظر عن فلسفتهم للحياة، وبغض النظر عن قيمة الحياة عندهم، لكنهم جميعاً يشعرون أن هناك مبادئ ومعارف وقضايا ينبغي أن تتربى عليها الأمم والشعوب، ولا شك أن الأمة التي تطمح إلى قيادة الأمم، والأمة التي تطمح إلى أن تتبوأ المكانة التي خلقها الله عز وجل واختارها من أجلها، لا شك أنها تدرك أن بلوغ هذا الهدف يعني أن تربي جيلاً يؤهل لذلك، وأن تكون مستوى تربيتها وأن يكون جيلها وأن يكون أفراد هذه الأمة مؤهلين بقدر هذا الهدف الذي تتطلع إليه. ولئن كانت الأمة تحتاج إلى التربية في كل وقت وحين فهي في هذا العصر أحوج ما تكون إلى التربية الجادة. إننا أمام متطلبات ضخمة وأهداف طموحة ينتظر من هذه الأمة أن تبلغها وتحققها، وهي لا يمكن أن تتم من خلال عواطف تفجر هنا وهناك، أو من خلال كلمات لا تعدو أن تكون نتاج خواطر مبعثرة، وإذا كنا نتصور أننا نستطيع أن نصنع الجيل من خلال هذا الجهد فإننا نبني قصوراً في الرمال ونسعى وراء السراب إننا بقدر ما تسمو أهدافنا وبقدر ما تعلو طموحاتنا ينبغي أن تكون تربيتنا، من هنا كنا نحتاج ونفتقر إلى التربية الجادة التي تخرج لنا الأمة الجادة وتخرج لنا الجيل الجاد الذي يحمل المسئولية ويقدر الأمانة ويكون أهلاً بإذن الله أن يكتب النصر والتمكين على يديه. وسبق أن تحدثت بمناسبة سابقة حديثاً كان بعنوان: التربية الجادة ضرورة، وكتبت في ذلك، ووردت علي اقتراحات عدة من بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الحديث أو قرءوا ما كتب في ذلك؛ اقتراحات تؤكد على ضرورة طرح برامج ووسائل يمكن أن نصل من خلالها إلى هذه التربية. لقد كان الحديث منصباً فيما سبق حول أهمية وضرورة أن نرتفع بتربيتنا وأن تربى الأمة وجيلها المبارك تربية جادة، وأشعر أن مثل هذا الحديث يقطع خطوات جيدة ويشعر الناس بضرورة المراجعة، لكن أيضاً لأننا اعتدنا -وهي ظاهرة سلبية نعاني منها- أن نحتاج إلى قضايا محددة وألا نكلف أنفسنا عناء التفكير والابتداع المشروع في ميدان التفكير حين اعتدنا هذا الكسل الفكري أصبحنا نحتاج إلى أن توضع لنا النقاط على الحروف؛ ولهذا أحببت أن أتحدث في هذا اللقاء حديثاً أركزه حول بعض الوسائل والمقترحات من أجل تربية جادة.

من عوامل طرح موضوع التربية الجادة

من عوامل طرح موضوع التربية الجادة أما الحديث عن أهمية التربية الجادة وما يتعلق بها وشواهد ذلك فقد سبق فيما أشرت إليه، وأقرأ في بداية هذا اللقاء مقتطفات من رسالة لأحد الشباب وردت إلي حول هذا الموضوع، ولا أخفي أنها كانت من العوامل وراء طرح مثل هذا الموضوع. يقول الأخ: قرأت كتابكم: التربية الجادة ضرورة وكذلك استمعت إلى الشريط، وبدافع من آصرة التواصل ومبدأ المناصحة وجدتني أخط هذه الرسالة. عند سماعي للشريط كنت متلهفاً للوصول إلى نقطة: مقترحات للنقلة؛ لأنها في رأيي أهم نقاط الموضوع إذ هي التي تحول العلم النظري إلى واقع عملي ولكن صدمت عندما سمعت نقاطاً عامة، أو معالم في طريق التربية الجادة، فقلت في نفسي: لعل في الكتاب زيادة بسط في الحديث ولكن ما زاد الكتاب عن الشريط في شيء، وقد عزيت ذلك بأن الهدف من الكتاب هو الاقتناع بضرورة التربية الجادة، ولكن هل مشكلتنا تكمن في عدم اقتناعنا بضرورة التربية الجادة، أم المشكلة في تخاذلنا في القيام بهذه التربية وتحمل مشاقها، ثم ذكر قضية خاصة له وقال في نهاية الرسالة: أعود إلى الكتاب فأقول: إن هذا الجهد وهذا الكتاب لا بد أن يتوج حتى تكتمل فائدته بكتاب أو رسالة يؤخذ فيها فصل مقترحات للنقلة بشيء من التفصيل والتوسع. حين نتحدث عن التربية الجادة، أو حين نقترح بعض الوسائل التي نرى أننا حين نسلكها في تربيتنا توجد بإذن الله جيلاً وأمة جادة فإننا بحاجة إلى أن نقف وقفة ولو كانت قصيرة حول صفات الشخصية الجادة التي نتطلع إليها؛ لأنه قد يسير معك الناس في الحديث والنقاش حول هذه القضية لكن مواصفات الشخصية الجادة ليست مشتركة بينك وبينهم، ومن هنا ربما لا يدركون لماذا كان مثل هذا الحديث ومثل هذه النقطة وهذا الاقتراح.

صفات الرجل الجاد

صفات الرجل الجاد قد ينطبع في الأذهان حين نتحدث عن الشخصية الجادة أو الرجل الجاد أن الجد الذي نعنيه هو المعنى المضاد للهزل والضحك، وأننا نعني بالرجل الجاد ذاك الذي لا يمزح إلا نادراً ولا يضحك إلا لمماً، ولا تبدو منه الابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين. لا شك أن استمراء الضحك والهزل والفكاهة مدعاة لموت القلب، لكن ليست في الضرورة هذه التي نريد، وماذا نريد من رجل صامت قد أطرق رأسه، ماذا عسى أن يصنع في هذا العصر الذي تواجه الأمة فيه تحديات وتواجه فيه الخطورة، إن هذا أسهل حل يمكن أن يسلكه المرء، أعني: أن يطرق وأن يخرس لسانه وأن يستمع ولا يتحدث وينظر ولا يتحرك ولا يعمل. إننا حين نطلب الشخصية الجادة فإننا لا نعني مثل هذا النموذج، إنما نعني الرجل الذي يملك صفات محددة، ويمكن أن نلخص هذه الصفات بصفات ثلاث: الأولى: العمل والإنتاج، إن الرجل الجاد الذي نعنيه ونريده هو الذي يعمل هو الذي ينتج هو الذي يعمل أكثر مما يتحدث وحين تريد أن تتفقد مدى جديتك وأن تعرف مدى القدر الذي تحمله من هذه الجدية فانظر إلى نفسك وإلى عملك: كم يشكل العمل من اهتماماتك، وما هي النسبة بين حديثك وعملك بين مقترحاتك وأعمالك بين أفكارك العالية الطموحة وما تقدم وتعمل، فالرجل الجاد هو العامل الذي يعمل في كل الميادين والظروف. أيضاً من المواصفات الهامة: جدية الاهتمامات، الناس تأسرهم اهتمامات شتى في هذا الواقع، فمنهم من الدنيا أكبر همه، ومنهم من همه الشهوات، ومنهم من همه الرياضة واللهو اللعب، ومنهم من همه تحصيل الجاه أمام الناس، وهكذا تتنوع اهتمامات الناس، انظر الآن كم تأخذ قضية الفن والرياضة من أجيال المسلمين من أوقاتهم ومن حماسهم ومن اهتماماتهم، أليست هذه صورة وعلامة وأمارة على قلة الجدية. إن الرجل الجاد قد يمتع نفسه بشيء من الرياضة واللهو المباح لكن أن تسيطر عليه هذه القضية وتشغل باله وتصبح من الأولويات لديه فهذه أمارة على قلة جديته. وقل مثل ذلك في ذاك الشخص الذي أصبحت الدنيا أكبر همه وأصبحت هي قضيته الأولى والأخيرة، فلا يفكر إلا في المستقبل والمستقبل هنا ينتهي بالدنيا قضية الدار الآخرة غير واردة عنده فيما يتعلق بالمستقبل، لا يفكر ولا يقيس الأمور ولا يزنها إلا بما يجلب له الخير والمصلحة في الدنيا. إن هذه الشخصية التي تقف اهتماماتها عند هذا النموذج أو ذاك شخصية غير جادة، وشخصية لا ننتظر منها النتاج، فحين نراجع اهتماماتنا والقضايا التي تشغلنا نستطيع أن نقيس من ذلك مدى جديتنا. المعيار الثالث والمقياس الثالث: أوقاتنا وكيف نعتني بها وكيف نصرفها، وانظر إلى المرء كيف يتعامل مع وقته وكيف يقضي وقته لتقيس مدى جديته، ومدى جدية الحياة لديه؛ لأن الرجل الجاد يشعر أن الوقت هو حياته هو عمره هو رصيده؛ ولهذا يضن به ويبخل به، ويكون كما قال السلف: أدركنا أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دراهمكم ودنانيركم.

برامج التربية الجادة

برامج التربية الجادة لا أريد أن أطيل في هذه المقدمات لأدخل في الحديث في بعض البرامج والمقترحات للوصول للتربية الجادة، وهي مقترحات قد يتناسب بعضها مع طبقة من الناس أو مع فئة من الناس وقد لا يتناسب غيرها، بل ربما تستطيع أن تضيف على هذه المزيد، وهي لا تعدو أن تكون محاولة لأن نضع أقدامنا في هذا الطريق هذا الطريق الذي نشعر أنه يستحق منا الكثير وأن قضية التربية والعناية به تستحق منا أكثر؛ لأنها هي التي تعنى بإعداد الرجال في كل جوانب الحياة. وقد قسمت هذه الوسائل إلى شقين رئيسين: الشق الأول: وسائل معرفية. والشق الثاني: وسائل عملية تطبيقية. الشق الأول: في بعض القضايا التي يمكن أن نطرحها للناس، ونتحدث مع الناس من خلالها، فتساهم هذه القضايا في تحقيق التربية الجادة والوصول إليها سواء من خلال تعرفنا عليها بأنفسنا أو من خلال حديث المربين مع من يربونهم أو من خلال إبراز هذه الجوانب أمام الجيل وأمام الناشئة. والشق الثاني: هو الحديث عن بعض الوسائل التطبيقية العملية. ولعلي أعطي الشق الثاني والقسم الثاني النصيب الأكبر من الحديث.

الوسائل المعرفية للتربية الجادة

الوسائل المعرفية للتربية الجادة

العناية بموضوع التربية وإدراك أهميته

العناية بموضوع التربية وإدراك أهميته نبدأ في الحديث عن بعض الوسائل المعرفية التي حينما نتعرف عليها ونعتني بها تدفعنا كثيراً نحو مستوىً أعلى من الجد والنتائج، وحين نطرحها أمام الجيل فإنها تساهم أيضاً في إيجاد وخلق جيل جاد يدرك المسئولية. أول قضية: العناية بالموضوع أصلاً والنقاش فيه وإدراك أهميته، إننا حين نعتني بهذه القضية وتصبح هدفاً ونطرحها في مجالسنا وفي منتدياتنا وفي مناسباتنا سواءً في المنتديات الثقافية العلمية الرسمية من خلال محاضرة أو خطبة الجمعة أو الدرس في الفصل أو الكتابة من خلال هذه الوسائل التي تأخذ طابع الحديث المنظم الموجه إلى من يستمعون أو من خلال مجالسنا التي نتبادل فيها الحديث ونتناقش فيها والتي كثيراً ما يأخذنا الحديث فيها حول قضايا من أمور دنيانا ومن متاع الدنيا، بل ربما وكثيراً ما يلابس هذه المجالس اللغط واللغو والقول الباطل. إننا حين نطرح هذه القضية بل أي قضية للنقاش في مجالسنا ومنتدياتنا أجزم أننا سنصل من خلال هذا النقاش إلى فوائد وإلى نتائج وإلى توصيات مهمة في حياتنا، وحين ننبه الناس ونتحدث فنحن نوقظ الوسنان النائم ونذكر الناسي وننبه الغافل حول هذه القضية أو تلك.

إدراك سير الجادين من السابقين

إدراك سير الجادين من السابقين الجانب الثاني أو الأسلوب الثاني: إدراك سير الجادين. إن النماذج والقدوات العملية تترك أثرها في النفوس وتبقى شواهد حية على مدى تأهل هذه المعاني النظرية إلى أن تتحول إلى واقع حي ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر وهذه الاقتناعات في عمل وفي سلوك وفي مواقف في جوانب الحياة كلها، والتاريخ مليء بهذه النماذج التي حين نقرأ فيها ونبرزها أمام الجيل فإنها تورث التطلع إليها، إن جيلنا اليوم يعاني من أزمة حادة في القدوة، نعم، إنه تبدو أمامه قدوات ونجوم لامعة في مجالات وجوانب من اللهو والعبث الفارغ، وما كان لمثل هذه النماذج الساقطة أن تتبوأ هذه المنزلة لولا أن الساحة شاغرة، ولو منحت هذه الساحة للنماذج الحقة المنتجة لم تجد تلك الشخصيات الساقطة لها مكاناً في مثل هذا الميدان. وهو منهج وأسلوب قرآني فقد عني القرآن كثيراً بإبراز النموذج الجاد أمام المسلمين وأمام الأمة، ولنأخذ على ذلك أمثلة من قصص القرآن! لو سألتكم: عددوا لي القصص التي جاءت في كتاب الله عن أنبياء الله والمرسلين وفي كم موطن كررت القصص التي جاء الحديث فيها عن أقوام ليسوا بأنبياء كم يأتي الحديث كثيراً في كتاب الله عن مثل هذه النماذج خاصة في الفترة المكية والتي كانت فترة تعد فيها تلك القاعدة التي حملت الرسالة وحملت هذا الدين كم كررت قصة موسى مع قومه في القرآن؟ وماذا يعني إبراز هذا النموذج أمام المسلمين من المستضعفين في مكة إذ ذاك؟ إنه كان يعني أن يبرز هذا النموذج الجاد قدوة للمسلمين حين آمن سحرة فرعون وتوعدهم فرعون إذ آمنوا دون أن يأذن لهم وهذا الإيمان كان في مصطلح فرعون وعرف فرعون حيلة ومؤامرة يخفى وراءها مطامع وأهداف: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123] وقال لهم متوعداً مهدداً: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] كان فرعون يقول هذه الكلمة وهو يعي ما يقول وكان على أتم استعداد أن ينفذ ما يقول، وكان أولئك السحرة هم الأداة التي يبطش بها فرعون فهم يعرفونه جيداً ويعرفون أنه سينفذ ما يقول، فماذا كانت مقالتهم وماذا كان موقفهم؟ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:72 - 75]. كم أبرز هذا النموذج أمام المؤمنين في مكة حيث كانوا يعانون الاضطهاد والإيذاء في دينهم، وذلك ليكون هذا نموذجاً وقدوة حسنة. الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول ربه تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34] {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]. وهكذا في آيات كثيرة يُخاطَبُ النبي صلى الله عليه وسلم ويُخاطَبُ المؤمنون وتُخاطَبُ الأمة بمثل هذه النماذج والصور الجادة. وفي غزوة أحد حين أصاب المسلمين ما أصابهم ونزلت تلك الآيات تعقيباً على هذا الموطن أبرز هذا النموذج الجاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أ

إدراك بذل الأعداء وجدهم في حرب الدين

إدراك بذل الأعداء وجدهم في حرب الدين الأمر الثالث في المقابل: إدراك بذل الأعداء وجهدهم وجديتهم: كم يبذل الأعداء وكم يجتهدون في سبيل نشر ضلالهم وباطلهم وهو منهج أيضاً استخدمه القرآن، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. إننا حين ندرك ما يبذله الأعداء من صبر ومن جهد ومن تحمل للمشاق نستهين ونسترخص ما نبذله في سبيل دعوتنا، ونحن كما قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] إنكم أصحاب منهج حق أصحاب نية صادقة خالصة؛ ولهذا حين يدرك المسلم ما يبذله الأعداء من جهد وجلد وصبر لأجل حرب هذا الدين لأجل نشر الباطل لأجل تحقيق شهوات الدنيا؛ يشعر أنه هو أولى أن يكون جاداً أولى أن يبذل أضعاف ما يبذله أولئك. والحديث حول هذا الجانب يطول لكني أشير إلى موقف عجيب رأيته بعيني: قرية نائية في دولة كينيا من دول أفريقيا، لا تستطيع أن تصل إليها بالسيارة، فيها رجل منصر، ذهبنا إلى تلك القرية وزرناها، فوجدنا أساليب الحياة الضرورية فيها غير متوفرة، رجل جاء من أوروبا وبقي فيها عشرين سنة تقريباً لأجل أن ينصر المسلمين ويذهب ويسافر إلى أوروبا ويتلقى دعماً مباشراً من المؤسسات التنصيرية التي هناك، ويقيم المشاريع ويحفر الآبار ويبني المدارس لأجل أن ينصر أبناء المسلمين، وبالفعل تنصر فئات من المسلمين في تلك القرية والمنطقة؛ لأنهم لا يملكون الماء، وهذا الرجل هو الذي يحفر البئر فيعطيهم حتى يتنصروا فهذا رجل أوروبي اعتاد حياة الترف حياة النعيم حياة اللهو واللعب، يأتي إلى تلك البلد بلد أمراض فقر متطلبات الحياة الضرورية لا يكاد يجدها ليس هناك اتصال بالعالم الخارجي ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحياة الضرورية، ومع ذلك يبقى فيها عشرين سنة. ونحن الذين كثيراً ما نتحدث عن الدعوة والتضحية في سبيل الدعوة، وحاجة الأمة للدعوة، ونتحدث كثيراً عن سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه وما بذل حين يعين أحدنا في منطقة نائية جميع الخدمات فيها متوفرة ويذهب إليها بسهولة ويتصل بأهله متى شاء، ويسافر متى شاء، ينتظر اليوم الذي يستطيع أن ينتقل فيه من هذه البلدة، ويبدأ يبحث عن حجج ومعاذير، وقد نفع الله على يديه كم نفع الله على يد هؤلاء الشباب الذين يغتربون؟! ويغترب ويرتاح ويبتعد عن ضجيج المدينة وصخبها وكل وسائل الحياة متاحة له، والناس يستمعون إليه ويتقبلون ويرى نتاج عمله، ومع ذلك يتذمر ولا يكاد يبقى سنة أو سنتين إلا وقد أدركه اليأس وشعر أنه يريد أن ينتقل يريد أن يذهب، أين الحديث عن الدعوة وعن البذل والعمل والنشاط! أذكر أحد الشباب تعين في منطقة محتاجة ودرس فيها سنة واحدة، ثم انتقل وأتى وأعطاني برنامجاً جيداً واقترح برنامجاً دعوياً للمنطقة وأعطاني إياه، فرميته عليه وقلت له: اسمح لي يا أخي الكريم! إذا كنت جاداً فابق هناك! فمن السهل جداً أنك تأتي وتقترح برنامجاً على الناس تريد أن يقدموه، لكن العمل والنتاج الذي نريد هو أن تبقى هناك وأن تقدم وأن تعلم الناس بما أعطاك الله، ليس بالضرورة أن تكون صاحب علم وصاحب موسوعة ليس بالضرورة أن تكون صاحب قضايا بعيدة، والوسائل حتى الآن متوفرة وكل ما تريد يمكن أن يتيسر لك، فإذا كانت القضية تهمك وتشغل بالك فابق هناك حتى تترك الأثر. هل نحن نبذل كما يبذل المنصرون؟ والنهاية أن جهدهم يضيع ومع ذلك يصبرون ويتحملون العجيب أن في نفس المنطقة جاء مجموعة من الشباب قدراتهم متواضعة ومحدودة ورآهم بعض الدعاة في تلك المنطقة وشعروا بالمشكلة، فقدموا بعض الأعمال وحفروا بئراً فبدأ الناس يعودون ويتركون هذا الرجل المنصر، وبدأ يشعر بالإفلاس، ومع ذلك فهو باق ومتحمل وهو يشعر فعلاً أن النتاج الذي يحصله لا يتناسب مطلقاً مع الجهد الذي يبذله. لا أريد أن أطيل في هذه القضية لكن أشعر أننا بحاجة أن ندرك ما يبذله الأعداء في كل مجال وما يتحملون في سبيل نشر أفكارهم، ماركس وإنجلز اللذين كانا وراء نشر الفكر الشيوعي في نصف الكرة الأرضية يوماً من الأيام وكانا وراء دولة حكمت نصف العالم وكان الغرب يرهبها، بقيا في السجن كثيراً واغتربا وطوردا من بلد إلى بلد! واليهود كم تحملوا وكم بذلوا حتى استطاعوا أن يجتمعوا كانوا شرذمة في الآفاق حتى جاءوا مصداقاً لوعد الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104] كم بذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف والتخطيط له؟! يا إخوان! نحن المسلمين أسمى وأعلى هدفاً: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِ

إدراك الواقع وتحدياته

إدراك الواقع وتحدياته الأمر الرابع: إدراك الواقع وتحدياته: إننا حين ندرك الواقع وتحدياته وندرك واقع الأمة إدراكاً جيداً، والفساد المنتشر في الأمة وتحدياته، يدفعنا إلى أن نكون جادين، لأنه إذا أدركنا هذا الفساد المنتشر في الأمة إذا أدركنا انتشار الجهل إذا أدركنا حاجة الأمة إلى البذل والجهد والعمل والتربية؛ فإن هذا يجعلنا نشعر أننا لا نستطيع أن نقوم بهذا العبء إلا أن نكون جادين، وأن نبذل كل ما نستطيع من طاقتنا ووسائلنا.

الثقة بتحقق الهدف

الثقة بتحقق الهدف الأمر الخامس: الثقة بتحقق الهدف: وهي قضية يجب أن نربطها مع القضية التي قبلها؛ لأننا أحياناً قد يسيطر علينا الشعور بالمرض الواقع، فقد ينقلنا إلى مرحلة اليأس، لكننا حينما ندرك الهدف وندرك أن هذا الهدف لا بد أن يتحقق وأن نصر الله عز وجل للأمة لا بد أن يتم، فذلك يعطينا دافعاً أن الإنسان الذي عنده شعور يتحقق هدفه، وأنه سيبلغ الهدف، فيزيده هذا الشعور طاقة وحيوية والله تبارك وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]. يا أخي! مهما كاد أعداء الله ومهما فعلوا ومهما بذلوا فلا تخف على الدين ولا تخش عليه، القضية فقط أن نملك الروح التي نعمل بها وأن نكون على مستوى المسئولية، وهذا الدين دين الله سيظهره الله وينصره مهما كاد أولئك، وسيكون كل جهدهم كما قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]. وانظر كيف علق القرآن على ما فعله قوم صالح: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:48 - 49] ماذا كان تعقيب القرآن؟ {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] انتهت القضية خلاص لك أن تتصور ماذا سيفعل هؤلاء وماذا سيحيق بهم؟! {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51]. إذاً: حين ندرك جميعاً أن الهدف سيتحقق وتكون البشائر واضحة أمامنا، وشعورنا بأن الأمة مهما وصلت إلى حال التخلف والتقهقر أنها بإذن الله قادرة أن تتأهل إلى هذا الدور فإن هذا يدفعنا للعمل، ونضيف إلى ذلك شيئاً آخر مهم جداً: أن يشعر الداعية ويوقن أنه لو لم يحقق الهدف كأن لم يستجب له الناس ولم يصل إلى تحقيق ما يريد فإن أجره على الله. أرأيت أولئك الأنبياء الذي مضوا إلى ربهم ولم يستجب لهم أحد؛ أترى أن ذلك ينقص من قدرهم؟! وغيرهم كثير من أولئك الذين لم يستجب لهم أحد ولم يحققوا أهدافهم في الدنيا؛ أترى أن جهدهم ذهب هدراً؟ كلا! إنك أيضاً حين تدرك هذه القضية وتدرك أن العمل بحد ذاته هدف -بغض النظر عن النتيجة- فإنك تشعر فعلاً بالروح التي تدفعك للعمل وأن جهدك لم يذهب سدى.

إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها

إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها الأمر السادس: إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها: الحديث حول هذا يطول، لكن في القرآن: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها)، (ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع قيد -يعني: سوطه- خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) والحديث في الصحيحين. وفي الحديث الآخر عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفته فمر بجدي أسك -قصير الأذن أو مقطوع الأذن- ميت فتناوله فأخذه بأذنه فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟! فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم، قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت فقال: والله للدنيا أهون من هذا عليكم). وحين مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة يسحبها أهلها قال: (أترون هذه هانت على أهلها؟ قالوا: نعم، قال: والله للدنيا أهون على الله من هوان هذه على أهلها) هذه الدنيا، وهذه حقيقة الدنيا. حينما نعي هذه القضية ترخص عندنا الدنيا بكل ما فيها ويشعر الإنسان أنه مهما بذل من وقت ومن جهد، ومهما ضحى ومهما فاتته من الفرص الدنيوية، فإن ذلك يهون كثيراً عند تحقيق مرضاة الله تبارك وتعالى وعند تحقيق الأهداف التي يسعى إليها.

الوسائل العملية لتحقيق التربية الجادة

الوسائل العملية لتحقيق التربية الجادة ننتقل بعد ذلك إلى الشق الثاني من الوسائل، وهي الوسائل العملية. ما ذكرنا من الوسائل وسائل نظرية وهي مهمة، وقد عني القرآن بتحقيقها ودعوة الناس إليها، وعني النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بتربية أصحابه على هذا المنهج وهذه القضايا؛ لكن لا ينبغي أن نقتصر على هذه الجوانب وحدها، وهذه من الأخطاء التي نقع فيها بتربيتنا أننا نشعر أن مشكلاتنا التربوية وأهدافنا التربوية إنما نحققها من خلال الطرح المعرفي البحت ومن خلال الحديث عن هذه القضايا حديثاً نظرياً، ونهمل الجوانب العملية التطبيقية التي هي أهم.

العبادات

العبادات ومن هذه الوسائل وأهمها: العبادات: فإن العناية بها والحرص عليها يربي الإنسان ويجعل الإنسان يصبح إنساناً جاداً يدرك حقيقة حياته وعمره؛ ولهذا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي ذكر فيه أنه رأى ربه صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة فقال له في المنام: (أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟) ثم قال له في الكفارات والدرجات والدعوات، قال: (وما الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات ويحط به الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة). ولهذا فإن هذه العبادات عظيمة، أعني: إسباغ الوضوء في الوقت الذي يكره فيه الإنسان في الحر الشديد والماء حار، أو في البرد والماء بارد، والمشي على الأقدام إلى المساجد وخاصة في وقت الظلمة، والعبادة تتطلب جهداً من الإنسان حين لا يسعى إلى تحصيل مشقة، يعني: ليس من المشروع أن يبحث الإنسان على المشقة لكن حين تكون المشقة ملازمة للعبادة فإن المرء حين يجتهد بها فإن هذا أعظم أجراً كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك) إذاً: فالعبادات والعناية بها والحرص عليها يربي في النفوس الجدية ويجعل النفوس تنتصر على أهوائها وعلى رغباتها وعلى شهواتها.

السعي إلى تحقيق رتبة الإحسان

السعي إلى تحقيق رتبة الإحسان أيضاً الأمر الثاني: أن يسعى الإنسان إلى تحقيق رتبة الإحسان: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن أمور الدين سأله عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) حينما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة ويجتهد أن يحقق في نفسه هذه الصفة يراقب الله عز وجل في كل وقت وحين، ألا يصبح رجلاً عاملاً رجلاً جاداً رجلاً منتجاً؟ لا شك أنه حينما نراقب الله عز وجل في أوقاتنا وحينما نعبد الله تبارك وتعالى كأننا نراه، ونوقن أن الله تبارك وتعالى يرانا ويطلع علينا، فإن هذا لا شك سيدعونا إلى أن نعيد النظر في كثير من الأوقات التي نضيعها سدى في كثير من الاهتمامات التي لا تليق بالرجال الجادين.

القدوة العملية

القدوة العملية الوسيلة الثالثة وهي من أهم الوسائل العملية: القدوة العملية: تحدثنا في الجوانب المعرفية عن إبراز نموذج من التاريخ والحديث عنه والتعليق عليه لكن القدوة المنظورة التي يراها الناس تترك أثراً عظيماً في النفوس أفضل بكثير وأكثر من ألف كلمة وألف حديث يقال أمام الناس، وهاهو المربي الأول صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً في ذلك، كان قدوة صلى الله عليه وسلم يشارك الناس في جوانب كثيرة، ولنأخذ على ذلك أمثلة: في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه في قصة بناء المسجد حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبنون المسجد فكانوا كما قال أنس: وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم ويعيش معهم في الميدان، لا شك أن هذا كان يمثل أعظم دافع للمسلمين؛ وكان يمثل هذا العمل نموذجاً ممتعاً لهم ويتمنى من يقرأ هذه الأخبار أن كان يعيش معهم مثل هذا الموطن، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليجلس ويأمر أصحابه ويوجههم، أو كان يجلس من بعيد ويشير لهم، حتى المشاركة التي كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت لأجل قضية دعائية، ولكن كان يشارك فعلاً ويحمل معهم ويبذل ويجتهد صلى الله عليه وسلم. وفي حفر الخندق كما قال أحد الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو سهل بن سعد رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره). ولهذا استطاع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفروا هذا الخندق في مدة قياسية فعلاً فلا توجد وسائل حديثة بأيديهم، فكيف استطاعوا أن يعملوا؟ هل هو من خلال كلمات ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أو خطبة؟ لا، ولكن نزول الميدان قدوة عملية، يرون النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم فيترك هذا العمل أثره العظيم أكثر من ألف خطبة وألف موعظة. ولما جاء جابر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه من الجوع والتعب، فرق لحال النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إلى امرأته وأمرها أن تعد طعاماً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ائت يا رسول الله! أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك. نموذج آخر من هديه صلى الله عليه وسلم يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر وهو على فرس لـ أبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا!) فرس لم يسرجه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجد وقتاً ليسرجه، فحين فزع المسلمون لينظروا ماذا يعني هذا الصوت وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد عاد إليهم وقد استبرأ الخبر. كيف يتربى هذا الجيل الذي يرى هذا النموذج أمامه، ولهذا كان هذا الجيل هو الجيل المؤهل لحمل الرسالة، كم كان أولئك الذين عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، وانظروا إلى فتوحاتهم ومواقفهم وأين وصلوا؟ يقول أحد التابعين: أرتج علينا الثلج ونحن في أذربيجان مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ووصل أبو أيوب إلى أسوار القسطنطينية، والآخر وصل إلى المحيط إلى هنا وإلى هناك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا كانوا بهذه الروح؟ لأنهم تربوا تربية عملية؛ فهذه أفضل وسيلة نقدمها للناس حين نريد أن نربي الجيل نكون جادين نحن فعلاً، وسنترك بأعمالنا أضعاف أضعاف ما نتركه بأقوالنا، ولسنا بحاجة إلى ترديد الحديث أكثر من حاجتنا إلى النموذج العملي. أرأيتم إلى حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه إذ قال: (جاء قوم عامتهم من مضر بل كلهم من مضر مجتابي النمار، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، ثم خطب صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق رجل من درهمه من صاع بره من صاع تمره، فجاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) انظر إلى أثر النموذج العملي الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمر أصحابه أن يحلقوا لم يحلق أحد منهم، فجاء يستشير أم سلمة فقالت: (اخرج ولا تكلم أحداً وادع بالحلاق واحلق رأسك) فحين حلق ونحر تقاتل الناس، فهل نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى؟ نعم حين نكون نحن جادين فلنعلم أن جيلنا سيكون جاداً حين يكون المربون والموجهون وأهل الرأي فعلاً جادين فإنهم يصنعون من خلال تعاملهم مع

صحبة الجادين

صحبة الجادين وسيلة عملية رابعة: صحبة الجادين: أن يختار الإنسان الجادين لصحبته؛ لأن هؤلاء يتركون أثراً عليه ويدعونه إلى معالي الأمور، ثم هو حين يراهم يشعر بالتقصير ويشعر بالضعف ويسعى إلى تجاوز ما هو عليه، ويلوم نفسه حين يرى أولئك قد فاقوه وسبقوه.

التخلص من المعوقات

التخلص من المعوقات الأمر الخامس: التخلص من المعوقات. هناك معوقات تعيق الإنسان وتحول دون الجد يجب أن نتخلص منها: منها العجز والكسل: والكسل هو أصل الداء، وجميل أن نقرأ ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في الجزء الثاني حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) وذكر أن الكثير من الشر والبلاء مصدره من هذين الداءين؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منهما كل يوم. من المعوقات أيضاً الإغراق في الترويح واللعب واللهو: فيجب أن نضبط هذه البرامج سواء ما نقوم به لأنفسنا أو ما نقدمه للجيل والشباب، لا شك أن الإنسان لا يستغني عن أن يروح عن نفسه لكن يجب أن نضبط هذا الترويح؛ لأنه حينما يسيطر على الإنسان ويستولي عليه فإنه يشغله عن معالي الأمور. وانظروا الآن لجيل الأمة الذي قد شغل فعلاً باللهو واللعب وصار همّ الإنسان اللهو واللعب والسفر للنزهة، فهو يتحمل في سبيله كل شيء، لكن حين تريد منه عملاً دعوياً يصعب عليه ذلك، فمثلاً: انظر في هذه المواسم والأوقات حين تخضر الأرض، تجد الناس يبحثون عن مواطن الربيع ويسافرون مسافات طويلة ويتعبون ويشعرون أن هذه قمة الراحة النفسية والبدنية؛ لكن لو طلبت من أحدهم سفراً من أجل عمل دعوي لاعتذر بالمشاغل والأوقات ومشقة السفر إلى آخره وقل مثل ذلك في اللهو اللعب فكم يأخذ من أوقات المسلمين، وكم تضيع فيه من الجهود! ومن هنا كان لا بد أن نكون حازمين وأن نضبط البرامج التي تقدم للجيل من الشباب الصالحين، لأنه لا يسوغ أن تتحول الترويح والرياضة إلى غاية ومطلب نحفل بها ونهتم بها ونعطيها دعاية بشكل يجعلها تتجاوز القدر الطبيعي لها وموقعها. من المعوقات أيضاً صحبة البطالين: وهم الذين يصاحبهم المرء لأجل أن يؤانسهم ويؤانسوه يضيعون عليه الأوقات، بل يحطمون عنده معاني الجدية. من المعوقات الترف ومظاهره والذي سيطر على حياتنا وصار معوقاً لنا عن الكثير من الأمور الجادة؛ لأننا ألفنا حياة الترف وصار يصعب علينا جداً أن نتخلى عنها ونتنازل. إذاً: التخلص من هذه المعوقات يعيننا كثيراً على أن نكون جادين.

الواقعية

الواقعية وسيلة سادسة وأسلوب سادس مهم: الواقعية: أي: أن نكون واقعيين؛ لأن الإنسان حينما يسمع مثل هذا الحديث ويرى هذه النماذج يتطلع إلى أن يكون جاداً متميزاً فيجتهد ويبذل، ويثقل على نفسه فلا يطيق التحمل، والنتيجة تتحول إلى ردة فعل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). تعرفون قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه حينما كان يديم الصيام والقيام، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكبر ويطول به العمر، وقال: (إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه) يعني: أنك لن تطيق الاستمرار على هذا الأمر فاقتصد. إذاً: الواقعية المعقولة ليست الواقعية المفرطة ليست الواقعية التي يجعلها الإنسان مبرراً لإضاعة الأوقات والكسل والقعود، لكن المقصود أن نكون واقعيين ولا نحمل أنفسنا إلا ما نطيق، فهذا جانب مهم؛ لأن الإنسان قد يتحمس فيأخذ أشياء أكثر من طاقته فلا يطيقها، فقد يقول: أنا إنسان غير جاد وغير قادر على الجدية، أو أن يصاب بردة فعل فيعود إلى الوراء.

الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة

الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة الأمر السابع: الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة. هناك أعراف خاطئة سيطرت علينا وكبلتنا وأصبحنا لا نستطيع أن نتجاوزها، مثلاً: الأعراف الاجتماعية والمجاملات والعلاقات الاجتماعية يعني: كم تأخذ منا المناسبات الاجتماعية من أوقات طويلة وتسيطر علينا وتضيع علينا جهودنا مجاملة. إضاعة الأوقات هنا وهناك الاعتذار قضايا كثيرة أحياناً تسيطر علينا هذه المجاملة والأعراف فنسايرها ونحن غير مقتنعين، والقضية تحتاج إلى جرأة، وأظن أن أوقاتنا وأهدافنا تتطلب منا أن نضحي بهذه الأعراف الخاطئة ونتجاوزها ونكون أصحاب جرأة وشجاعة، وأظن أن هذا مما يربي الناس على الجدية، بحيث يحترم الإنسان وقته ويدرك أن وقته هو عمره؛ فيستطيع أن يعتذر بكل جرأة من الناس حينما يدعونه لمجرد مناسبة وأنس؛ لأن وقته ثمين لا يمكن يضيعه، أو على الأقل يشعر أنه يقتصر على جزء من وقته ويعتذر عن الكثير من هذه المطالب غير المجدية وغير النافعة، ويعتذر عن كثير من هذه الاعتبارات والارتباطات التي تضيع عليه وقته وتشغله فيما لا طائل من ورائه. إذا كنا غير جرآء على تجاوز هذه الأعراف والأنماط التي اعتدنا عليها فإنها ستكبلنا كثيراً وتقعد بنا.

مراعاة العمل المناسب

مراعاة العمل المناسب وسيلة ثامنة: مراعاة العمل المناسب: وهذا الجانب مهم؛ لأنك حين تتحدث عن التربية الجادة قد يذهب وهل الناس إلى نموذج معين، وهو أن الجدية تتمثل مثلاً في طلب العلم وكثرة القراءة والاطلاع والحفظ، وهذا جانب لا شك أنه مهم لسنا بحاجة إلى أن نتحدث عن ضرورته وأهميته، لكن ليس هو النموذج الوحيد المناسب لكل الناس؛ فلهذا بعض الشباب قد لا يكون أعطاه الله القدرة على مثل هذه الجوانب، ولكن عنده طاقة في جوانب أخرى، فحينما نحصر هذا الجدية في هذا النموذج، أو في النموذج الدعوي أو في أي نموذج آخر فإننا قد نشعر بأننا فاشلون في تربية أنفسنا؛ لأننا لا نطيق ذلك، أو نشعر بأننا فاشلون في تربية فلان أو فلان من الناس؛ لأنه لم يصل إلى هذا القدر. وهذا أمر نبه عليه الأوائل، يقول معاوية رضي الله عنه لـ صعصعة بن صوحان: صف لي الناس، فقال: خلق الناس أصنافاً فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، وجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق يعني: أن البقية يكدرون الماء ويضيقون الطريق ويغلون السعر، فإياك أن تكون من أمثال هؤلاء. يقول قيس بن أبي حازم: سمعت خالداً -يعني: خالد بن الوليد رضي الله عنه- يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة، وذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال ابن القيم رحمه الله: ومما ينبغي أن يتعمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيأ له منها فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح وفاته ما هو مهيأ له. وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً وهو قيام مصلحة دينهم وديناهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور. ولهذا لا نحصر النموذج الجاد في نموذج واحد، إنما نريد الإنسان أن يعمل وفق طاقته وفق ما آتاه الله في أي ميدان، المهم أن يكون رجلاً عاملاً فعالاً منتجاً يقدم الخير للناس، وأبواب الخير كثيرة وأبواب الجنة ثمانية يدعى الناس إليها من أعمالهم، فمن كان من أهل الصلاة دعي من أبواب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، وخصال الخير أربعون خصلة من عمل بها دخل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم.

الأخذ بالعزائم

الأخذ بالعزائم الأمر التاسع: الأخذ بالعزائم والتعود على ذلك: أخذ النفس بالعزيمة والإصرار والتعويد فإن العادة تربي الإنسان، فحينما يعود الإنسان نفسه قد يجد مشقة في البداية وصعوبة لكن تصبح قضية عادية عنده، كما صارت الفوضى عادة لك يمكن أن يصبح النظام عادةً لك، وكما كان الكسل والعجز عادةً لك تصبح الجدية والعزيمة هي الأخرى عادة لك، فالحزم على النفس والأخذ بعزائم الأمور والتعود وتعويد الناس لا شك أنه خير معين على ذلك.

حسن اختيار المربي

حسن اختيار المربي الأمر العاشر: حسن اختيار المربي: ليس كل شخص يصلح أن يتولى التربية، وليس كل شخص مؤهلاً؛ ولهذا يجب أن نختار النموذج الجاد النموذج العامل المؤثر الذي يؤثر بقدوته وعمله قبل أن يؤثر بقوله، وذكرنا نموذجاً من تأثير القدوة وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الناس من خلال عمله وبذله، وذكرنا أن هذا النموذج أعظم أثراً من مجرد الطرح النظري والحديث مع الناس، وهذا يحتم علينا أن نضع مواصفات دقيقة لأولئك الذين نختارهم لتربية الجيل والناشئة.

التعويد على العمل

التعويد على العمل الأمر الحادي عشر والأخير وهو من أهم الأمور خاصة للمربين: التعويد. تعويد الناس على المشاركة والعمل بأنفسهم، ولنأخذ على ذلك نماذج: في البيت مثلاً يجب أن يعوَّد الطفل من الصغر على أن يرتب حاجاته بنفسه وأن يقوم بمسئولياته، وليس لائقاً أبداً أن يستمر الطفل إلى أن يشب وهو يشعر أنه مخدوم، فحين يقدم له الطعام لا يكلف نفسه العناء أن يحمله ويعيده ترتب له غرفته تقضى له حوائجه ويشعر أنه يعيش في البيت مخدوماً مرفهاً، والفتاة هي الأخرى كذلك فهذا يخرج لنا جيلاً غير عامل غير جاد، جيلاً اعتاد على الكسل واعتاد أن يخدم، هل نريد من هذا الإنسان الذي لا يجد عناء في ترتيب غرفته أو في قضاء حوائجه أن يعمل بعد ذلك أعمالاً جادة ومنتجة ويتحمل ويبذل؟! أشك في ذلك. كذلك أيضاً تعويده على قضاء حوائجه الخاصة وتحمل المسئوليات وتكليفه بواجبات وأعباء، وكذلك الفتاة، لأننا حين نأمر الشاب ونكلفه بأعمال ونعوده عليها يصبح إنساناً عاملاً تخلص من الكسل والترهل وصار العمل سهلاً عليه ويسهل أن يذهب ويأتي ويتحمل بالأسلوب المناسب بدون مشقة وبدون تكليف كذلك الفتاة حين تعود من الصغر فإن هذا يعودها على أن تتحمل المسئولية، لكن حينما نوفر لأبنائنا وبناتنا الخدم ونقضي لهم حوائجهم لأجل أن يتفرغوا ماذا نفعهم هذا التفرغ؟ يعني: توفر الوقت في القراءة والتفوق والتحصيل والجد أم في ماذا؟ حين قضينا لهم هذه الأمور وأمنا لهم هذه الحوائج ما الذي حصل؟ حصل عندنا جيل يبحث عما يقضي به وقته جيل غير جاد وليس عنده استعداد أن يتحمل أي مسئولية في التعليم وهو جانب مهم: يجب أن نغير نمط تعليمنا فهو تعليم يولد الكسل الفكري ويربي الناس على التسول العلمي والتسول الفكري، لأن الطالب اعتاد أن تقدم له المعلومات جاهزة ويقرأ هذا الكتاب ثم يحفظه ثم يكتب ما فيه في الورقة دون أي جهد ودون أي بذل؛ ولهذا لا ينشأ عندنا جيل قارئ لا ينشأ عندنا جيل يبذل الجهد فلا نكلف الطالب عناء الوصول إلى المعلومات ليس بالضرورة أن يأخذ من مصادر أخرى، لكن من خلال النقاش؛ كيف نوصل المعلومات للناس، حين أعطيه مقدمات وأطالب بالوصول إلى النتيجة وأناقشه فإني أربيه على التفكير وعلى الجهد ليشعر أنه يحصل معلومات بنفسه حين أحيله على مراجع بالقدر المناسب له وهي موجودة في مكتبة المدرسة كتب ميسرة فأعطيه الكتاب أطالبه بالرجوع إلى هذه القضية وأحيله إليها وأعوده تدريجياً على هذه الأعمال، فإنها تعود لنا هذا الجيل، لكن حينما يكون عند الأستاذ يسمع فقط وينصت لا يمكن في النهاية أن يكون عنده قدرة على القراءة ولا تعامل مع الكتب ولا تحصيل ولا إدراك لقيمة هذا العمل. كذلك في تحميل المسئوليات، ونعود مرة أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الأمة على أن تتحمل مسئوليات وعلى أن تشارك المسئوليات الجماعية في الحديث المشهور حديث النعمان بن بشير لقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها) إلى آخر الحديث والحديث مشهور ومعروف ماذا يعني هذا الحديث؟ النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الأمة كلها المسئولية، ويشعر كل فرد من أفراد الأمة أنه مسئول فحين يحمل هؤلاء المسئولية يشعرون بضرورة الجدية وتحمل المسئولية. وفي مواقفه العملية مثلاً كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يستشير أصحابه في غزوة بدر في غزوة أحد في الخندق في كل مناسبة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس! ويأخذ برأيهم ماذا كان أثر هذه الاستشارة؟ كانت لها آثار عديدة أولاً: غرس الثقة لديهم ثانياً: شعورهم بالمسئولية، يعني: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتخذ القرار لكانوا يشعرون دورهم هو مجرد المشاركة، لكن حينما يشاركون في القرار ويناقشون ويأخذون ويعطون يشعرون بتحمل المسئولية؛ ولهذا خرج جيل يتحمل المسئولية وقام بالأدوار بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم خير قيام؛ لأنه جيل تربى على المشاركة وليس جيل أتباع وهناك مشكلة نقع فيها في تربيتنا حينما نعود الناس في كل قضية أن نعطيهم قضايا جاهزة تماماً، ونربي الناس على الكسل فلا يفكرون لا يستشارون، فيصبح الجيل غير قادر على حل مشكلاته جيل غير قادر على سد الفراغ الذي يتركه فلان وفلان من الناس الذين كان يعلمهم ويربيهم ويوجههم فحين يذهب يذهب أثره، أما حينما يربي رجالاً فإنه يربي قادة لا أتباعاً، وهذا جانب يجب أن يعيه المربون. ولنعد إلى السيرة وننظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أصحابه ويربيهم من حيث تأميرهم في السرايا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل سرايا ويؤمرهم عليها، بل في مهمات صعبة حينما جهز صلى الله عليه وسلم جيش أسامة لغزو الروم، فهذه تربية عملية تخرج جيلاً جاداً عملياً، تربى عل

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للشباب الذين لا يحضرون الدروس العلمية

نصيحة للشباب الذين لا يحضرون الدروس العلمية Q كثير من الشباب الذين لهم دور في الدعوة وعلى ثغر من ثغور الإسلام لا يحضرون الدروس العلمية ويذهبون إلى رحلات وزيارات ويقولون: نستمع الدروس من خلال الشريط، مع العلم أن طلعاتهم لا تتعارض مع أكثر الدروس، فما نصيحتكم تجاه الإخوة هؤلاء؟ A حضور الدروس مهم، ولا شك أن سماع الشريط لا يكفي عن الحضور مطلقاً لأمور كثيرة ليس هذا وقت الحديث عنها، لكن إذا كان الأخ مشغولاً بعمل خير ودعوة وبرامج خير فلا ينبغي أن يقطعها، فيتيسر له أن يجمع بين الأمرين فيستمع لمثل هذه الأشرطة ويحضر ما تيسر، لكن يمكن أن يختار الشاب درساً أو درسين في وقت مناسب له ليس عنده فيه ارتباط فيجمع بين الأمرين، لكن لا يعطل نشاطه وعمله وجهده لأجل هذا؛ لأن معنى هذا الكلام: أنه لا يتصدى أحد لمثل هذه الأعمال التي تحمي الشباب وتحمي الجيل من الانحراف والفساد والتي تعين على تربية الجيل بإذن الله.

تعليق على ظاهرة الفتور في العبادة

تعليق على ظاهرة الفتور في العبادة Q يقول: كنا في فترة من الزمن نرى شباب الصحوة في قوة وحماس للتمسك والالتزام بالدين والمحافظة على السنة في شتى المجالات، من ذلك المظهر والملبس والموعد والعبادة وصيام النفل وطلب العلم، أما اليوم فنرى الحال قد تبدلت وتغيرت إلى آخر ما يقول، فهل من تعليق؟ A لا شك أن هذه الظاهرة بدأت تظهر فعلاً، ونحن بحاجة إلى أن نتدارك أنفسنا؛ لأن المشكلة أن الإنسان قد يفتر عن الخير والنوافل فيقصر في الفرائض فقد يقع في الانحراف عافانا الله وإياكم، فيجب أن نتدارك أنفسنا وإخواننا ونتواصى بالخير دائماً وتقوى الله عز وجل والعبادة.

كيفية التعامل مع الكتب التربوية

كيفية التعامل مع الكتب التربوية Q هل تنصحون بقراءة كتب التربية الموجودة في الأسواق أم أن هناك ضابطاً لهذه المسألة، وهل يمكن الاستغناء عنها؟ A المشكلة أن الكثير من المسلمين لا يجيدون الكتابة في مثل هذه القضايا، للأسف أنك تجد الغربيين أحسن كتابة في مثل هذه القضايا، مع الفارق الكبير بيننا وبينهم؛ لكن حينما يتحدث عن الطفل والتعامل معه، وحينما يتحدث عن قضايا معينة وتقارن بينه وبين ما يكتبه المسلمون تجد فرقاً، المشكلة ليست لأن أولئك يملكون علماً لا نملكه أو يحملون خيراً لا نحمله، لكن نحن لا نكلف أنفسنا الاجتهاد والقراءة والبذل والتفكير، إنما صارت الكتابة عندنا مجرد تجارة. ثم إن هناك كثيراً من الكتب التربوية موجودة قد لا تكون موجهة توجيهاً جيداً؛ لكن حين نفترض النضج عند المربين خاصة، أنه قادر أن يقرأ اقرأ يا أخي في مثل هذه الكتب وخذ ما يوافق الحق واترك ما ترى أنه لا يوافق الحق، وإذا كنت تريد أن يكتب لك شيء جاهز في كل قضية فأظن أن هذه مشكلة، وأظن أن المربي الذي يحتاج أن يكتب له في كل شيء في التربية غير مؤهل للتربية لأنه سيتعود على أن نربيه بهذا الأسلوب ولا بد أن نتجاوز هذه المرحلة ونشعر فعلاً أننا نستفيد مما حولنا أياً كان، ونستطيع أن نفرق بين الحق والباطل ونتناقش، ففي مناسباتنا وفي لقاءاتنا يجوز أن نأخذ بعض هذه الكتب ونقرأها ونتناقش فيها وفي السلبيات والأخطاء التي فيها، وجوانب الخير والإبداع التي فيها، والمؤمن يقبل الحق ممن قال به ولو كان من الشيطان.

نصيحة لمن حلق لحيته بعد أن كان ملتزما بالسنة

نصيحة لمن حلق لحيته بعد أن كان ملتزماً بالسنة Q هذه أول محاضرة أحضرها وأنا حالق اللحية، ولقد كنت من الشباب المستقيم وأنا أعلم أن هذا ليس من التربية الجادة، أرجو منك وضع الدواء على الداء؟ A أنا أشعر أن شعورك بالمشكلة بحد ذاته خطوة نحو الحل، واعلم يا أخي أن هذه المشكلة تبقى أمارة في وجهك بحيث أن كل من رآك يرى فيك معصية، يعني: هناك معاص يفعلها الإنسان بينه وبين الله فتبقى معصية مستترة، أما حينما تكون المعصية ظاهرة فأظن أن هذا أمر غير لائق، وعليك أن تفكر ماذا ستخسر حينما تلتزم بهذه السنة وهذا الأدب الشرعي، وما النتيجة التي تكسبها حين تحقق ذلك، أحياناً قد تكون بعض المعاصي وبعض الشهوات تقسر الإنسان فيقع فيها وهو لا يستطيع ثم يتوب ويرجع؛ لكن مثل هذا السلوك ما الذي يدفعك ويأطرك إليه إلا تسويل الشيطان، فحاول أن تنتصر على نفسك ولعل صحبة الأخيار تعينك لأن تجعلك تشعر بالحياء والخجل، فمن فوائد صحبة الأخيار أن تعينك وتجتنب الناس الذين قد تخشى من سخريتهم وتعليقهم.

التحذير من اليأس من أحوال الناس

التحذير من اليأس من أحوال الناس Q ألا تعتقد أن في هذا الزمان الذي كثر فيه الفتن والملهيات أنه من الصعب أن تسيطر على كثير من الناس لانغماسهم في هذه الشهوات والملذات بأنواعها، فأصبحوا بعيدين كل البعد عن هذا الدين الحنيف؟ A لا والله يا أخي أنا لا أعتقد هذا، ولو كنت ما أعتقد ما جئت أكلف نفسي عناء الحديث حول هذا الموضوع، فيجب أن نحذر من هذا التفكير وهذا السلوك الذي يميتنا، نحن مع شعورنا بالواقع وما فيه يجب أن يكون عندنا أمل. يا أخي! هذا الدين دين أرسله الله إلى قيام الساعة، ومعنى هذا أن الأمة مؤهلة أن تحمل هذا الدين إلى أن تقوم الساعة، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. نكتفي بهذا القدر، ونعتذر للإخوة الذين لم نجب على أسئلتهم. ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح إنه سميع مجيب.

العاطفة بين الإهمال والإغراق

العاطفة بين الإهمال والإغراق العاطفة أمر فطري جبل الله تعالى الناس عليه، وقد تباينت أفعال الناس فيها تبايناً لا يحمد منه إلا نمط واحد، فبعضهم أفرط في نقدها والجرح بها متناسياً هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بطبيعته البشرية، وبعضهم أغرق فيها إغراقاً سلبياً أورث حياته صوراً من الضرر العاطفي لا تصح معها مسيرة بناء النفس وتربية الأجيال، والوسط في ذلك هو الأمر المحمود.

ثناء واعتدار

ثناء واعتدار الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهي فرصة طيبة كريمة أن نلتقي بكم -معشر الإخوة الكرام- في هذا المكان الطيب المبارك، وفي هذا الجامع، وفي هذه الليلة المباركة. وفي الواقع أني مدين لكم كثيرا ًمعشر الإخوة، مدين لكم بالحب والوفاء والتقدير، الذي هو عروة وثقى، وصلة وشيجة بين المسلمين جميعاً، والسالكين على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ومدين لكم أنتم أهل هجر، وأشكر لكم صبركم على جفائي، وعلى مطلي، ومطل الغني ظلم. وقد كانت الدعوة من الإخوة سابقة، وأخرتهم إلى هذا الحين، أسأل الله عز وجل أن يثيبهم، وأن يجزيهم الأجر والمثوبة على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح. وإن كنت أشعر أني حين أتحدث إليكم كجالب التمر إلى هجر، لكن الناس ألفوا أن يسمعوا الصوت الغريب، وأن يكون له وقع ليس كوقع الصوت القريب، هذا فقط هو ما أشعر أنه يؤهلني للحديث أمامكم؛ ولهذا فقد لا آتيكم بجديد حول مثل هذا الموضوع: (العاطفة بين الإهمال والإغراق)، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة، وهو حديث ذو شقين: حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق.

بيان معنى العاطفة في اللغة

بيان معنى العاطفة في اللغة وقبل أن ندخل في موضوعنا لابد أن نقف وقفة سريعة عجلى حول ما قاله بعض أئمة اللغة حول معنى العاطفة. يقول ابن فارس: العين والطاء والفاء أصل صحيح يدل على انثناء وعياج، يقال: عطفت الشيء: إذا أملته، وانعطف الشيء إذا انعاج وتعطف بالرحمة تعطفاً والرجل يعطف الوسادة: يثنيها ويقال للجانبين: العطفان. وقال في اللسان: وتعطف عليه أي: وصله وبره، وتعطف على رحمه: رق لها، والعاطفة: الرحم، صفة غالبة، ورجل عاطف وعطوف: عائد بفضله حسن الخلق، قال الليث: العطاف: الرجل الحسن الخلق، العطوف على الناس بفضله، وعطفت عليه: أشفقت. وهكذا نرى أن المعنى اللغوي لا يبتعد كثيراً عما يطلق عليه في المصطلح المعاصر: العاطفة، وإن كانت أخذت مداً أبعد من ذلك، فحين تطلق العاطفة فإنها تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيالة، التي تدعو الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول والرفض أو الحب أو الكره، تطلق على تلك الحماسة التي تتوقد في نفس صاحبها؛ لقبول هذا العمل أو رفضه.

لون الحديث حول العاطفة اليوم

لون الحديث حول العاطفة اليوم وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض وحديث الانتقاد، مع أننا أيضاً نعاني من إغراق في العاطفة، والأولى أن توضع في موضعها الصحيح، وحيث إننا نعاني ونشتكي من الإغراق، فإن هذا لا يعني أن نلقي العاطفة في قفص الاتهام، وأن تصبح من مصطلحات الجرح لدينا، فصار يكفي أن تجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه صاحب حماس، أو -كما يقال- متحمس، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أن فاقد العاطفة، وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل. إننا ومع شعورنا بالإغراق، بل ومزيد من الإغراق في العاطفة، ومع شعورنا بأن ثمة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً، وأننا لابد من أن نحجمها ونحد منها، إننا مع ذلك ينبغي ألا نهمل دور العاطفة، وألا نقع في خطيئة الإهمال لها. وهنا سنبدأ في الحديث حول إهمال العاطفة.

الموقف من إهمال العاطفة

الموقف من إهمال العاطفة

فقد العواطف شذوذ

فقد العواطف شذوذ إن الدعوة إلى إهمال العاطفة -كما قلنا- دعوة بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة النظر، إن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره والقبول والرفض والحماس، فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها تعني بكل بساطة أن هذه العاطفة لم يكن لها حكمة في خلق الإنسان، وأنها خلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه سبحانه وتعالى عبث، فالله سبحانه وتعالى ما ركب هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها. ثانياً: على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ: إن الرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرق قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين، أو مشاعر الرفض تجاه من يرفض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقد في قلبه حماسة أياً كان الموقف، لا شك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف. بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يقبل صغيراً، قال: تقبلون صغاركم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!). إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل -كما قال صلى الله عليه وسلم- قد نزعت من قلبه الرحمة، فصار تصرفه، وصار سلوكه سلوكاً غير مرضي، وسلوكاً مرفوضاً يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه ألا يملك في قلبه الرحمة للصبية الصغار، فصار لا يقبل أحداً منهم.

وفي العاطفة النبوية هدي

وفي العاطفة النبوية هدي حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم. وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع. النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل). وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر. إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة: كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم. ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم). ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده). ويموت ولده إبراهيم، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون). في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ. ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته). ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).

الصياغة العاطفية في الأدب دليل أهميتها

الصياغة العاطفية في الأدب دليل أهميتها رابعاً: يحفل الأدب بأساليب تعبر لك عن معاناة يتيم، أو معاناة أرملة، أو معاناة من فقد فقيداً له، وتقرأ هذه الأبيات فلا تملك إلا أن تتجاوب معها، وتعيش وكأنك ترى حال صاحبها، وكأن النعي ما يقوله الشاعر في وصف تلك الأرملة: لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها بكت من الفقر فاحمرت مدامعها واصفر كالورس من جوع محياها إنك حين تسمع هذه الأبيات لا تملك إلا أن تتفاعل مع مثل هذا الموقف، ويرق قلبك وفؤادك لمثل هذه الأرملة المسكينة، التي يصفها الشاعر، وربما لم يكن رآها قط، ربما كانت قضية من نسج الخيال، لكن النفس مفطورة على تذوق الرواية التي تصور لك مأساة هذا الرجل الفقير أو المسكين، أو ذاك المظلوم.

الحاجة إلى العاطفة الحماسية في الجهاد

الحاجة إلى العاطفة الحماسية في الجهاد خامساً: ونرى أثر العاطفة في إذكاء الحماسة، بل نرى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، نرى أن المسلمين يحتاجون إلى من يشعل حماسهم، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون، أيطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم ماذا يصنعون؟ فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبونها الشهادة، والله إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتل الناس بهذا الدين، قالوا: فحمس عبد الله الناس، فمضوا إلى أمرهم. أرأيت كيف يصنع الحماس؟ أرأيت كيف توقظ هذه الحماسة أصحابها، فتدفعهم إلى الجهاد، تدفعهم إلى أن يلغوا ذاك الخيار الذي اجتمعوا من أجله، وحين سار رضي الله عنه وودعهم أهل المدينة، قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردني الله إليكم. وسار ومعه غلام في حجره وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه، سار وصار يتغنى ويخاطب راحلته: إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء فبكى زيد رضي الله عنه، فوخزه وقال: لا عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل؛ لأنه قد يكون أبقى له مكاناً. وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد عقد العزيمة على ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام، وحين قتل صاحباه، وتقدم تردد وتلكع، فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه: أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة فيخاطب نفسه بهذه الأبيات، ثم يدفعها دفعاً إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه. وهكذا حين تقرأ في السير، قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه، فيخاطبهم، ويحمسهم، ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، ويبين لهم فضل الشهادة، وفضل الجهاد في سبيل الله؛ حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل. وما ترى معركة أو غزوة قادها المسلمون إلا وترى الشعراء والخطباء قد أوقدوا حماسة الناس لهذا الجهاد، أيسوغ بعد ذلك أن ندعو إلى إلغاء الحماس والعاطفة؟!

العاطفة حاجة مهمة في التربية

العاطفة حاجة مهمة في التربية سادساً: العاطفة حاجة مهمة في التربية، وحين يفقد المتربي العاطفة، فإنه ينشأ شاذاً، وهي صورة نراها فيمن مات أبوه، أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه، أو عند غيرها من النساء التي لا تشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب؟ إن الغالب من هؤلاء ينشأ شاباً شاذاً، ينشأ شاباً يعاني من الفراغ العاطفي، وكثيراً ما نرى المشكلات تتمثل عند هؤلاء، ذلك أن ثمة حاجة ملحة هم بحاجة إلى أن يعطوا إياها، ألا وهي الحنين والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه، وحجر أبيه، ويتربى أيضاً بعاطفة أمه. ولحكمة بليغة يخلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها المواقف، عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته، فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين، فيعيش حينئذٍ متوازياً ومستقراً، وحين يشد أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو حين يفقد أحدهما؛ فإنه يعيش عيشة غير مستقرة. ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحن عليه، ويشفق عليه، وحين ينشأ على خلاف ذلك، فإن الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الإحساس، وفاقداً لهذا الشعور.

إنكار على داعية إلغاء العواطف

إنكار على داعية إلغاء العواطف مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتب واللوم على ذاك الذي أغاضه انتهاك لحرمة من حرمات الله عز وجل، فدارت حمالق عينه، وغضب غضبة لله عز وجل، حينئذٍ يوصف بأنه متحمس طائش، بأنه لا يحسب عواقب الأمور. أما ذاك الذي لا تثيره حرمات الله عز وجل، لا تحرك لديه ساكناً، الذي يرى المنكرات، ويرى مصائب المسلمين، ويرى جسد المسلمين يقطع إرباً إربا، ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب، يضع الأمور في مواضعها. إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جور في الحكم، إننا ومع رفضنا للإغراق في العاطفة إلا أننا نرى الغضب والحمية لدين الله من واجبات المسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً سهلاً ليناً، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء. ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حمالق عينه، أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل؟! وكيف نصنع بتلك المواقف الفذة من سلف الأمة، التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل، حمية مجلجلة، واضحة صريحة قالوها؟! ولا شك أن الذي دفعهم لذلك هو الحماس، نعم، والغضب، نعم، والعاطفة، نعم، لكنها عاطفة صادقة، وحماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها. وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا -أيضاً- ينبغي أن ننكر -وبنفس القدر- على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري، ويرى حرمات الله تنتهك، ويرى دين الله عز وجل ينقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ذلك ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل، أيهما أولى أن يعاب؟ أيهما أولى بالذم والنقص والعيب؟ لست أحكم أيهما أكثر خطأً، لكننا حين نتحدث عن خطأ هذا، فينبغي أن نتحدث أيضاً عن خطأ ذاك، ولا يسوغ أن ننظر بعين الأعور، وأن ننظر إلى القضية بعين واحدة.

ضرر الإغراق في العواطف وصوره

ضرر الإغراق في العواطف وصوره ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني: وهو الإغراق في العاطفة: إن الوسط سنة الله عز وجل في الحياة، هذا المسجد الذين نحن فيه حين يزداد فيه التبريد يصبح حداً مزعجاً لا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول يؤلم الناس الحر ويزعجهم، فلا يطيقون الصبر عليه، وهكذا، الماء حين يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة كذلك، والطعام، وفي الحياة كلها الوسط، والتطرف أمر مرفوض. أما دين الله عز وجل فلا شك أنه قائم على الوسط، ودين الله عز وجل وسط بين الغلو والجفاء، فكما أن إهمال العاطفة وإلغاءها أمر مرفوض، فالإغراق فيها والتحليق في التجاوب معها أيضاً هو الآخر أمر مرفوض، وينبغي أن نكون وسطاً بين هذا وذاك. وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق الأول، إلا أنني أرى أننا أحوج ما نكون إلى الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة، فنحن نعاني من إغراق في العاطفة تختلف صوره ومظاهره ومجالاته.

سيطرة العواطف على المرء في الحكم والتقويم

سيطرة العواطف على المرء في الحكم والتقويم إن من هذه الصور أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم، فحين نحكم على فلان من الناس سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من الأعمال، أو على جهد من الجهود، وخاصة الجهود والأعمال الإصلاحية والأعمال الإسلامية، حين نحكم عليها، وحين نقوم الناس، لا يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونحلق في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى إلى جوانب القصور وجوانب الخلل، وحين نقوم أعمالنا وجهودنا فلا يسوغ أن تكون العاطفة هي المعيار والحكم، ومن في حكمه لابد أن يكون شخصية متطرفة، إما ثناءً أو ذماً، وإما سلباً أو إيجاباً؟ كثيرة هي الأحكام -معشر الإخوة الكرام- التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، ففي أحكامنا ومواقفنا من الرجال ومواقفهم ما يكون فيه الحاكم الأول والأخير والقاضي والشهود والمدعي هو العاطفة وحدها، وحينئذٍ لابد أن يكون الحكم حكماً جائراً، حكماً بعيداً عن العدل. إننا مع تأكيدنا على أن الثناء على من يحسن أمر مطلوب، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يدعى إلى إلغائه والتخلي عنه، لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نفرط، ولا يسوغ أن تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة. أضرب لكم مثالاً: تجربة عشناها كنا أغرقنا فيها، وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي، تجربة الجهاد الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنها لن تعرف الجهاد، ولن ترى الجهاد، وصار الذين يدرسون الفقه يقفز بعضهم من باب الجهاد؛ لأنه لم يعد له مجال وميدان. فجاء أولئك وأحيوا سنة قد أميتت، وفريضة قد نسيتها الأمة، وحينئذٍ استفاقت الأمة، استفاقوا على هذا الصوت، واستفاقوا على داعي الجهاد، وصدموا بأولئك الذين خرجوا في تلك البلاد، وقاموا لله عز جل، وأحيوا الجهاد في سبيل الله، وكان جهاداً حقاً ولا شك، وقام بدور في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن يطوى، ولا يسوغ أن يهمل. لكن الذي حصل أننا أغرقنا كثيراً في العاطفة، لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء، وذلك شأن البشر، وفيه انحرافات، وذلك شأن البشر، وفيه خلافات، وذلك شأن جهود البشر، فما بالكم بهذا الواقع التي تعيشه الأمة؟! وما الجهاد الأفغاني، وما الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة التي تعيشه. وبدأ الجهاد وفيه ما فيه من خطأ وخلل وفرقة وانحراف، وفي الصف منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعياً، كان جهاداً يستحق الدعم من الأمة، وأن تقف في صفه، لكن الذي حصل أننا أغرقنا في العاطفة، فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة. وصرنا نفرط في الحديث عن الكرامات، ونستدل بها، ما كان منها صحيحاً، وما كان منها لا يقبله عقل ولا منطق، بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة الذين اعتدنا منهم على هذه الأباطيل، وصرنا نتهم من يشكك في شيء منها، صرنا نتهم من يتحدث عن أخطاء الجهاد، وعن أخطاء المجاهدين، ومن يطالب بتنقية الصف، صرنا نتهمه بأنه مخذل. وصار هذا الإرهاب الفكري يمارس ضد أي صوت ناصح، يطالب مع البداية حين بدأ الجهاد بتنقية الصف، بتصحيح النية، يطالب بإذابة الخلافات، يطالب بمراجعة المنهج، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العوج، وكنا نتجاوب في عاطفة جياشة، ونتصور أن ذكر الأخطاء والحديث عنها لا ينفع ولا يحقق المصلحة، ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا الجهاد. وطال عمر الجهاد، وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟ وماذا كان موقف الناس؟ إن موقفنا لا يزال؛ ما زلنا غير آسفين على دينار واحد قدمناه للمجاهدين، وما زلنا غير آسفين على كلمة قلناها في دعمهم؛ لأنا نرى أنها كلمة حق، ولم نغير مواقفنا، لكننا نرى أننا نحن السبب في هذا الخطأ؛ حيث كنا نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ولهذا أوقدت عاطفة في نفوسنا لم نستطع أن نضبطها ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع فيها تصريح الزعيم الروسي السابق جورباتشوف حيث يقول: لو علمنا أن الأفغان سيصنعون ما صنعوا لسلمناهم كابل منذ زمن بعيد. كم يدرك قلبك المأساة؟ فالسلاح الذي كان وراءه أموال المسلمين ترى حامليه الذين صعدوا على جماجم الشهداء من كل بقاع المسلمين، ترى أحدهم يوجه السلاح والرصاص لأخيه، وأياً كان الموقف لا عذر بعد ذلك. إنني هنا لست بصدد تقويم هذا العمل، وهذا الجهاد، وهو مع ذلك لا يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها، لكن الشاهد هنا أننا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع العاطفة، وكنا نمارس الإرهاب الفكري، ونمارس التثبيط ضد أي صوت ناصح يدعو إلى تنقية الصف، يدعو إلى تصحيح المسيرة. وأخشى أيضاً أن يتكرر الخطأ نفسه، وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة، مع ما فيها من إنجازات، فهي فيها أمراض بحاجة إلى علاج، بحاجة إلى مراجعة، بحاجة إلى مصارحة، بحاج

التجاوب مع العاطفة في اتخاذ القرار

التجاوب مع العاطفة في اتخاذ القرار ومن إغراق العاطفة أيضاً: أن تكون هي الدافع الوحيد للعبد، أن يتجاوب المرء مع عاطفته، أو يتخذ قراراً، أو يقف موقفاً، أو يقيم مشروعاً حين يكون الدافع الأول والوحيد له هو العاطفة فحسب، فإن هذا عنوان الفشل. ومع عدم إهمالنا لدور العاطفة، ومع أننا نرى أنه لابد أن يدفع المرء إلى أي عمل حماس وعاطفة تتوقد في قلبه، ونرى أن من يفقد العاطفة لا يمكن أن يحمل الدافع لعمل وإنجاز، مع ذلك كله نرى أن العاطفة وحدها حين تكون الدافع للعمل ستقود إلى نتائج غير محمودة، ونرى أن التجاوب والإغراق في التفاعل مع العاطفة وحدها إهمال للطبيعة الإنسانية، فقد خلق الله الإنسان بعقل وحلم وعاطفة، خلقه الله عز وجل بمشاعر وخصائص شتى، والموقف الذي يقفه المرء ينبغي أن يكون إفرازاً لتفاعل كل هذه الخصائص التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، أما حين يكون إفرازاً لعامل واحد فقط فهذا إغراق في العاطفة، وغلو وتطرف.

نشوء العلاقات العاطفية بين بعض الشباب

نشوء العلاقات العاطفية بين بعض الشباب ثالثاً: ومن الإغراق في العاطفة: العلاقات العاطفية التي قد تنشأ بين بعض الشباب أو بعض الفتيات: فقد ينشأ بين شابين أو فتاتين علاقة ومحبة يتجاوز قدرها، وتعلو حرارتها، حتى تتجاوز الموقف الذي ينبغي أن تقف عنده، فتتحول إلى علقة، وقد يكون الدافع الأول الذي دفع إليها هو الحب في الله، وهي صور ومواقف نراها جميعاً. وكثيراً ما ترد إلي هذه الشكوى، إما سؤال في محاضرة، وإما رسالة يحملها إلي البريد، وهي رسائل مؤثرة يحكي صاحبها معاناته مع هذا الجحيم الذي يعيشه من لأواء هذه العلاقة العاطفية. وكثير من هؤلاء يطلب الواحد منهم مني ألا أنشر رسالته، مع أني أعرف أنه لن يعرف من وراء ذلك، لكن ما دمت قد استؤمنت على ذلك فلا يجوز أن تخون من ائتمنك، وإلا قرأت عليكم بعض تلك الرسائل التي تصور لكم عمق المعاناة التي يعيشها مثل هذا الشاب. وتبدأ هذه العلاقة حباً في الله عز وجل، ثم تتطور إلى حد يتجاوز بعد ذلك هذا القدر، فتتحول إلى مشاعر عاطفية، يبديها فلان والآخر، ويحاول كل منهما أن يغلف هذه العلاقة بغلاف الحب في الله، ويحاول أن يطعم هذا اللقاء بشيء من التواصل، وشيء من التعاون على طاعة الله عز وجل، وهي مكائد وحيل نفسية وشيطانية؛ حتى يغفل عن الداء، وحين تستحكم حينئذٍ يصعب ويعز الفراق. فترى زيداً حين تراه وأنت تنتظر قطعاً أن يأتي عمرو، وحين يعتذر زيد عن المشاركة، فهذا يعني بالضرورة أن يعتذر عمرو، وليس ثمة سبب إلا أنه قد اعتذر، وحين يكون الأول مشغولاً مع والده، فسيكون الآخر مشغولاً مع والدته، وإن لم يكن كذلك فثمة شغل هنا أو هناك، والقضية تتحول إلى أن يربط مصيره بمصير فلان من الناس، حتى لا يصبر على فراقه، ولا على لقائه، وهكذا الشأن أيضاً عند الفتيات. إن في العاطفة والتجاوب معها صورة تقود إلى نتائج خطيرة، صورة تجعل هذه العاطفة تحجب عن غير هذا الشاب، فلا يحب في الله إلا هذا الرجل، ولا يبغض في الله إلا من أبغض هذا الرجل، ويصبح هذا الرجل هو مقياسه، والآخر يبادله الشعور نفسه، وأما أصحابه وخلانه وإخوانه فلم يعد لهم مكان فسيح في قلبه، حيث: أتاه هواه قبل أن يعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فاستحكمت هذه العلاقة، واستحكمت هذه المحبة، حتى لم يعد في قلب كل واحد منهما مكان لغير صاحبه، ويكتشفان حينئذٍ الخطأ، لكن حين يفوت الأوان، وحين يكونان قد انساقا مع هذه العاطفة، وتجاوبا معها، فيصعب عليهما التراجع حينئذٍ. ويأتي يبث شكواه، ويطرح Q كيف الخلاص؟ أشعر أني أحب فلاناً، أشعر أنها ليست محبة خالصة لله، أشعر بعمق المأساة والمعاناة، إلى غير ذلك، لكنه حينئذٍ أصبح لا يطيق الصبر والفراق، فيبحث عن العلاج حين صعب عليه الأمر. ولو كان منطقياً وجاداً، وكان مقتصداً في بذل المشاعر العاطفية، والعبارات التي ترق عاطفة، وكان مقتصداً فيها؛ لاعتدل فيها فيما بعد، وقد تؤدي إلى هذه النتيجة، وقد تؤدي إلى نتيجة أكبر. وقد تتحول هذه العلاقة وهذه المحبة إلى محبة شيطانية، وحين يدخل الشيطان ستدخل الأغراض والشهوات فيها، وحينئذٍ يأتي الداء العضال عافانا الله وإياكم، والسبب والمشكلة هي الإغراق في العاطفة ابتداءً. نقول ذلك ولا نرفض الطبيعة التي تجعل فلاناً من الناس يشعر بارتياح لصاحبه، ويشعر أنه يميل إليه أكثر من غيره من الناس، وهذه فطرة فطر الناس عليها، والأرواح جنود مجندة، لكن أيضاً يبقى هذا بقدر معين ومحدود إذا تجاوزه تحول إلى مرض وداء عافانا الله وإياكم، وما على من ابتلي أو ابتليت بمثل هذه المشاعر إلا أن يقطع الطريق من أوله، حيث قد يصل إلى مرحلة قد يشق عليه الرجوع بعدها.

التربية العاطفية

التربية العاطفية رابعاً: ومن الإغراق في العاطفة: التربية العاطفية: حين تسيطر العاطفة على المربي أباً أو أستاذاً، أياً كان موقعه وتربيته، حين تكون العاطفة هي المسيطرة عليه، فحينئذٍ يتعامل مع من يربيه بعاطفة جياشة، ويتجاوب مع مشاعره، وتساهم هذه العاطفة في حجب الرؤية السليمة والصحيحة لهذا المربي، الرؤية لواقع هذه العاطفة أيضاً في حجب ما يحتاج إليه، فهو مع حاجته إلى الترغيب يحتاج إلى الترهيب، ومع حاجته إلى الحب والحنان يحتاج إلى نوع من الجفاء حين ينفع الجفاء، والخشونة قد تنفع فهي كاليد تغسل أختها. إن إغراق المربي في العاطفة يحجب عنه الأخطاء، يحجب عنه العيوب، يحجب عنه الموضوعية، يحجب عنه الحزم الذي يحتاج إليه في مواقف الحزم، فينهار حينئذٍ تجاوباً مع هذه العاطفة الجياشة، ويتخذ مواقفه وقراراته، ويرسم برامجه استجابة لتلك العاطفة، فهو يخشى أن يمل الشباب، يخشى أن يتضايق الشباب، يخشى أن يسأم الشباب، يريد أن ينفس عن الشباب، ولا تكاد تجد عنواناً أدق لهذه الأوهام وهذه المخاوف إلا التربية العاطفية. وحين يكون قضاء وقدر هذا الشاب أن يتعامل مع غير صاحبه الأول، فإنه لا يطيق التعامل مع غيره، ولا يطيق الفراق، وحين ترى من تربيه لا يطيق فراقك، ويحن إليك حنيناً زائداً، فهذا عنوان إغراقك في العاطفة، فإنك أيضاً ينبغي لك أن تربي تلميذك، وينبغي أن تربي من تحتك على أنه على أتم الاستعداد لأن يتخلى -لا كرهاً- عنك، إنما حين يكون الأولى أن يتخلى، حين يكون الأولى أن يفارقك. نعم قد يشعر بحنين كم منزل في القلب يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل لكن حين يزداد هذا الحنين، فيتأثر القرار بهذا الحنين، حين يساوم على هذا القرار، فهذا دليل على الإغراق في التربية العاطفية، وجدلاً نقنع أنفسنا بأن هذا عنوان نجاحنا، وأن هذا عنوان إقناعنا للآخرين، وليس هذا إلا حيلة نفسية نخادع فيها أنفسنا. الله الله في هذه النشء، الله الله في هذا الجيل، إننا -معشر الشباب ومعشر المربين- بحاجة إلى جيل حازم، بحاجة إلى جيل يتحمل المسئولية، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: لا، فيستجيب، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: سر في غير هذا الطريق، فيسير في غير هذا الطريق. أما الجيل الذي لا يستجيب إلا مع عواطفه، إلا مع مشاعره، فهذا لا يثبت وقت المحنة، ولا وقت الفتنة، ولا يؤمل فيه خير.

جني الإغراق في الاستجابة للعاطفة

جني الإغراق في الاستجابة للعاطفة ولن نجني فائدة من العاطفة في هذه الصور أو غيرها، لن نجني من الشوك العنب، إننا سنجني أولاً الغلو، ومجانبة الاعتدال، سنجني الغلو قبولاً أو رفضاً، والغلو والتطرف أمر مرفوض، ترفضه الطباع المستقيمة والسليمة، فضلاً عن المتأدب بأدب الشريعة وهديها. وها أنت ترى أنك بمجرد أن تصف فلاناً بأنه غالٍ تكفي في التنفير منه، ويكفي في نقد موقفه وطريقته أن تصفه بأنه غالٍ ومتطرف. إن المحرك الأول للغلو والتطرف والإفراط هو العاطفة، فالغلو في المدح والثناء ليس إلا تجاوباً مع العاطفة، والغلو في الحب والتعلق هو الآخر، والغلو في الرفض والرد هو الآخر كذلك. والإغراق في العاطفة مدعاة لمجانبة العدل والإنصاف، فحين يقبل يقبل جملة، وحين يرفض يرفض جملة، إن صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها، لا يملك أن يقول: هذا صواب، وهذا خطأ، لا يملك أن يزن الأمور بميزان العدل، فهو لا يحمل إلا حكمين لا ثالث لهما: القبول، والرفض، الحب المغرق فيه، والبغض المغرق فيه، أما طريق الوسط والعدل والإنصاف فهو لا يملكه، وهذا شأن من يشتط ويتطرف، لقد تطرف هو أولاً فاستخدم ميزاناً واحداً، وسار على طريق واحد هو طريق العاطفة، فقاده إلى هذه النتيجة والنهاية المتطرفة. وهو أيضاً يقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير سليمة، وغير منضبطة، وكثيراً ما نجني من حماسة لم تضبط ولم توزن، أو نجني من عاطفة لم تحكم ولم توزن بميزان العقل والشرع، كثيراً ما نجني منها المواقف الخاطئة، والنتائج التي لا يقتصر وبالها على صاحبها.

علاج الإغراق في العواطف

علاج الإغراق في العواطف وبعد ذلك ما العلاج؟ قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكني أشعر أن وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والدواء، أشعر أننا حين ندرك أن إهمال العاطفة جملة أمر مرفوض، فإن هذا يعني أن نضع عواطفنا في موضعها، وأن نعرف أن من الإيمان أن يتألم المسلم لآلام إخوانه، وأن يرحم، وأن يعطف، وأن يشفق، وأن يتحمس في مواضع الحماس، ويرحم في مواضع الرحمة، ويشفق في مواضع الشفقة، ويحب في مواضع الحب. ونشعر أيضاً بأن الإغراق في العاطفة أمر مرفوض، وأننا -كما قلت- نعاني من جيلنا المبارك إغراقاً في العاطفة أكثر من الإهمال، ونعاني من مواقف كثيرة هي أكثر ما تكون تجاوباً مع العاطفة، وأرى أن الحل يتمثل ببساطة في أن نزن مواقفنا، وأن نزن أعمالنا، وأن نفكر فيها، وأن نشعر أن الله عز وجل كما خلق فينا عواطف خلق فينا أيضاً عقلاً وحلماً، وأعطانا سبحانه وتعالى علماً بكتابه سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قد أعطانا موازين وقيماً غير هذا الميزان وحده، وحين لا نملك إلا هذه الصنجة، ولا نزن إلا بهذا الميزان، فإن هذا عنوان التطرف والغلو. ووزن الأمور، والتأمل فيها والمراجعة مما يعيننا كثيراً على تجاوز هذه النتائج والآثار السلبية. ولذا أرى أن وزن الأمور بالموازين كلها جميعاً دون ميزان واحد مما يعين على الرؤية السليمة المستقيمة، ويبعدنا عن الشطط، والإهمال غلو، والإغراق والمبالغة في التجاوب هو أيضاً غلو، والوسط بين هذين الطريقين، وبين هذين السبيلين. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، إنه سميع مجيب، واعتذر لكم إن كان اعتور عرض الموضوع ما اعتوره، فقد كنا حديثي عهد بسفر الحج، وتعرفون أثر ذلك من الجهد والنصب، أسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا وحسناتكم جميعاً، وأن يقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

الأسئلة

الأسئلة

طلب محاضرة توجيهية للأبناء

طلب محاضرة توجيهية للأبناء Q لقد دبت الحياة في نفوس بعض الآباء بمحاضرتك القيمة، ولكن نشكو نفوس الأبناء، ومما نراه أن الآباء يعانون كثيراً من غفلة أبنائهم، فهم ركيزة الأمة، فهل ستكون محاضرة أو رسالة للأبناء بعنوان: (يا بني) فكل يود ذلك؟ A في النية أن تكون في هذه الإجازة إن يسر الله عز وجل.

الفرق بين الرحمة والعاطفة

الفرق بين الرحمة والعاطفة Q الرحمة والعاطفة كلمتان مترادفتان، فأيهما الأشمل والأعم، وهل هناك فرق بين الكلمتين؟ A قرأنا في كلام أهل اللغة أن العطف يطلق على الرحمة والرفق، لكن في المصطلح المعاصر توسع المعنى، وصارت تدور حول الرحمة والحب، ومشاعر كثيرة، فالقضية -كما قدمت- ليست قضية مصطلحات، القضية قضية معان، مادام الناس قد اعتادوا التعبير عن مثل هذه الأمور بمثل هذا المصطلح، فتحدثنا ونحن نقصد هذا، ولست أريد الرحمة وحدها فقط، وإن كان في النية حديث حول الرحمة وما يتعلق بها، نسأل الله أن يعين عليه.

المراد بتذوق الجمال المطلوب

المراد بتذوق الجمال المطلوب Q لقد أشرتم في مقدمة حديثكم أن من لم يشعر بالجمال ويتذوقه، أنه إنسان فاقد للعاطفة، وفي نظري أن هذا الإطلاق غير مناسب، فهو يفتح باباً أمام أرباب الهوى والشذوذ ليتمتعوا بالجمال فيما حرم الله، أرجو من فضيلتكم تقييد هذا الإطلاق، فهو حقيق بالتقييد؟ A أولاً: أرجو أن يرتفع مستوانا في الفهم، فلا نجلس لنحاكم العبارات إلى مثل هذا، وهذه من المشكلات التي كثيراً ما توصم بها أخطاء الناس، فما أحد منكم يتصور، ولا أحد حتى من أرباب الهوى -وهو يسمع كلامي- يتصور أنني أقصد أن من لم يحب فتاة رآها في الشارع، أو غير ذلك، أنه فاقد للإحساس، لا أحد يتصور هذا، وإذا تصور فالخطاب إنما هو للعقلاء وحدهم، والعقل من شروط التكليف. فأنا أقول: أولاً: يجب أن نهون على أنفسنا، ولا نبدأ نقيد كل عبارة نقولها وكل كلمة، فأنا أشعر بأن السياق، والشخص الذي يقول الكلام، والمناسبة، كل ذلك يدل على المراد وأنا أقصد -وكلامي واضح- أن الشخص الذي لا يتذوق الجمال يعني الشخص الذي عندما تضعه في روضة غناء، وأزهار، وقت الأصيل، أو وقت البكور، أو تضعه على سفح جبل في عاصفة هوجاء، يكون المكانان عنده سيان، يعني: لا شك أنه شخص فاقد الإحساس بالجمال، وشخص شاذ تفكيره، هذه وجهة نظري ورأيي، فإذا كنت ترى رأياً آخر فهذا من حقك. أما أرباب الهوى، فلهم شأن آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جميل يحب الجمال)، وأقر من أحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة على ذلك، وكان عمر رضي الله عنه أتى له بحلة يتجمل بها للوفود صلى الله عليه وسلم، فالجمال وما يتعلق به أمر فطرت النفوس عليه.

صلة الرحمة بالعاطفة

صلة الرحمة بالعاطفة Q أرى أن هناك خلطاً في المحاضرة بين مفهوم العاطفة ومفهوم الرحمة؛ لأنه قد مضى جزء من المحاضرة في ذكر صور هي من الرحمة؟ A سواء هذا أو ذاك، سبق أن نبهت على القضية أنها جزء من العاطفة، لكن ذكرنا الحماس أيضاً وما يتعلق به، وأشرنا إلى الحب وما يتعلق به، كل هذه صور من صور العواطف.

توجيه للمتأثر بعاطفته تجاه حال المسلمين إلى حد كبير

توجيه للمتأثر بعاطفته تجاه حال المسلمين إلى حد كبير Q إن العاطفة تأخذ مني مأخذها، حتى أصل إلى حد القنوط، وذلك لأن الجرح كبير، والخطب عظيم، فأنا أحمل عاطفة تجاه المسلمين في كل مكان، ولكن هذه العاطفة قد تؤثر على تفكيري، فما هي نصيحتكم لي؟ A هنا ندعو إلى ضبط العاطفة، وأن نحول العاطفة دائماً إلى رصيد عملي، فأنت ما دمت تتألم لمصائب المسلمين، فهذه العاطفة يجب أن تكون عند كل مسلم، بل من الإيمان، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فلا شك أن من صفات الإيمان أن يحمل المسلم الحرقة والألم على مصائب إخوانه المسلمين، وهذا مما يمتدح به الرجل، ويعاب على فقده، وكذلك حين يقف عند هذا الحد، لا يصنع شيئاً، فلابد أن توقد هذه العاطفة، أقول: هذه العاطفة ينبغي أن تشعل رصيداً من العمل، تدفع إلى العمل والمبادرة والجهد والإنجاز، أما حين تبقى حزناً فقط، وبؤساً فقط، فإنها لا تصنع شيئاً. ومما يهون على المرء أن يشعر بأنه مع عمق الجرح، وعظم المأساة، ليست مسئوليته إصلاح واقع المسلمين كلهم، وليست مسئوليته تغيير الواقع، إنما مسئوليته أن يعمل جهداً فحين يسأل أمام الله عز وجل يجيب، وحين يضع هذا نصب عينيه، فإنه يستطيع أن يقف في نقطة يتوازن فيها بين تلك العاطفة وبين العمل؛ لأنه إذا ازدادت حدة العاطفة أخذت مساحة من الجهد الذي ينبغي أن يصرفه الإنسان إلى العمل.

كيفية الموازنة في العاطفة

كيفية الموازنة في العاطفة Q كيف يوازن الشاب في العاطفة بين الإفراط والتفريط، وما هو السبيل في ذلك؟ A سبق أن أشرنا إليه، قلنا: إن الاتزان والمراجعة والاعتبار بموازين الشرع، والتفكير بالأمور بعقل، واتهام النفس، مما يعين الإنسان على أن يتوازن، ويتلافى أثر ذلك.

الموقف من حماس الشباب الغيور

الموقف من حماس الشباب الغيور Q ألا ترى أن الشباب اليوم في حاجة ماسة لضبط عواطفهم، واستبدال حماسهم في هذه الفترة الحرجة التي يتربص فيها كثير من أعداء الإسلام لضرب الصحوة؟ A نعم، إلى الحماس، وإلى الهمة، ليس بصحيح أنا دائماً نهبط حماس الناس، وأن نقول للناس: دعوكم من الحماس، دعوكم من العاطفة، ذلك يعني إذاً أن نرضى ونرضخ للواقع، وما هو بصحيح، وهذا كلام غير مقبول وغير سليم، وها نحن نرى الآن أن الجهود المبذولة لتغيير الواقع جهود لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى حجم الصحوة، أليس في الصحوة من يفقد الحماس الذي نريد؟! من يفقد العاطفة؟! أنا متأكد أن الكثير من هؤلاء لو كان عنده الحماس الذي ينبغي، والعاطفة التي تنبغي؛ لدفعته إلى العمل، نعم حين ندعو إلى ذلك فنحن لا ندعو إلى الحماس غير المنضبط، لكن أيضاً لا يسوغ أن ندعو الناس دائماً إلى إلغاء الحماس، وإلى أن الحماس كله خطأ، والعاطفة كلها خطأ، أتصور أنه منطق غير سليم. وإذا ما تحمس الإنسان لدين الله، وما غار لحرمات الله عز وجل، وصارت عرى الإسلام تنقض عروة عروة، وحرمات المسلمين تنتهك، وهي لا تحرك فيه ساكناً، فإني أرى أنه بحاجة إلى أن يعيد النظر في إيمانه، وغضبه وحميته لدين الله سبحانه وتعالى.

أثر العواطف على النصح والتوجيه

أثر العواطف على النصح والتوجيه Q هناك كثير من الشباب تتحكم فيهم العاطفة بشكل كبير وخاصة شباب الصحوة، فمثلاً: إذا كان الشخص لا يحضر إلى الحلقات والدروس التي هي من أسس التربية للفرد، فإنك تجد إخوانه لا ينصحونه ولا يوجهونه؛ خوفاً من غضبه، فهل يعتبر هذا تصرفاً للعاطفة، وماذا ننصح من يفعل ذلك؟ A نعم هذا من مراعاة العواطف والمشاعر، ونحن بحاجة إلى نربي جيلاً جاداً، بحاجة إلى أن نربي جيلاً يعتمد على معالي الأمور، لكن التربيت على الأكتاف، والخوف من أن يزعل، والخوف من أن تؤثر فيه هذه الكلمة، وأن الكلمة هذه قد تكون مؤثرة، وهذا الموقف قد يكون مؤثراً، إذا كنا نتعامل بهذه الحساسية وهذه العاطفة الجياشة، فلن نعد الرجال الذين تريدهم الأمة. نعم لابد أن نراعي الناس، وأن نرفق بهم، ونراعي مشاعرهم، وهذا هدي ورثناه من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن -أيضاً- مع ذلك لا يسوغ أن يكون على حساب الجد والحزم في التربية، والأخذ بمعالي الأمور. فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، هو صلى الله عليه وسلم الذي هجر كعباً وصاحبيه، وهو الذي ظهر غضبه على أصحابه حينما خرج وهم يتمارون في القدر، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (فغضب صلى الله عليه وسلم كأنما فقئ في وجهه حب الرمان من الغضب، وقال: بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟!). فهو هو صلى الله عليه وسلم، فنأخذ سيرته صلى الله عليه وسلم كلاً متكاملاً؛ لنصل منها إلى النموذج التربوي الذي ينبغي أن نسير عليه، ونصل إليه.

الموقف من العاطفة المذهبية

الموقف من العاطفة المذهبية Q بعض الناس -هداهم الله- تقول له: قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: قال الإمام الفلاني والفلاني، فهذه عاطفة مذهبية، فما توجيهكم لهذا الشخص؟ A أنا أقول: إن عندنا عقدة نعاني منها معشر المسلمين، عقدة التقليد أياً كانت، الجميع يرفض التقليد، والجميع عندما تقول له: هل قول أحد من الناس حجة؟ يقول لك: لا، ليس حجة، والحجة في كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حينما نأتي إلى الواقع لا نجد ذلك، فحينما يأتي شخص ويقرر قولاً واجتهاداً بأدلة شرعية، يضرب في وجهه أن فلاناً أكد خلاف هذا، أن فلاناً قال بخلاف هذا، ليست الحجة فقط إلا قول فلان، ورأي فلان. والناس والعلماء والأئمة أياً كان شأنهم، وأياً كانت مكانتهم، ليس واحد منهم أبداً حجة على الأمة، الحجة على الأمة كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أما البشر أياً كانت إمامتهم فهم يبقون بشراً بعد ذلك، وعلى هذا تواترت وصايا الأئمة. يقول مالك: كل يأخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. لكنك حين تعيد النظر في قول فلان من الناس على جلالته وإمامته، فحينئذٍ يضرب في وجهك أنك لا تقدر العلماء، ولا تحترم أهل العلم، وأنك لا تصدر عن رأي أهل العلم، وإلى غير ذلك، وهذا هو محض التقليد الذي كنا نعيبه على غيرنا. نعم نحن ندعو إلى التوازن، والانضباط، واحترام ووضع آراء الرجال في موضعها، لكن التقليد، والصدور عن رأي شخص أياً كان وحده أمر مرفوض، وهذا تعطيل لأفكار الناس، واستعباد لعقولهم، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

ضرر الالتزام الناشئ عن العاطفة فقط

ضرر الالتزام الناشئ عن العاطفة فقط Q ما هي نصيحتكم لمن التزم بأوامر الله تعالى عن إثر عاطفة فقط، وهذا يوجد كثيرا ًفي مجتمع النسوة، حيث إنهن يعتمدن على العاطفة، ولا يطلبن العلم، ولا يسمعن كلام أزواجهن، حتى في أوامر القوامة الشرعية؟ A يبدو أن الكاتب من الرجال، على كل حال المشكلة موجودة عند الطرفين، ما هي عند النسوة وحدهن، نجد عدداً كبير من الناس يلتزم ويستقيم بعاطفة، وهذا سرعان ما يستجيب حين تأتيه عاطفة أخرى تدعوه إلى خلاف ذلك. وينبغي أن نحيط استقامتنا وصلاحنا والتزامنا بسياج العلم الشرعي، والوعي، وتربية الإيمان في نفوسنا؛ حتى يكون معيناً لنا بإذن الله وتوفيقه على الثبات.

دواء الحماسة للعمل في مجالس أهل الخير وتركه في غيرها

دواء الحماسة للعمل في مجالس أهل الخير وتركه في غيرها Q إذا دخلت مجالس الخير أجد أني أكون من شباب الخير، وإذا خرجت يذهب عني الإحساس ولم أفكر فيه؟ A هو طبيعي أن الإنسان إذا حضر مجالس الخير والإيمان ازداد إيماناً، وإذا افتقدها قل شعوره، لكن بحد معين، إذا وصل إلى حد أن الإنسان لا يعمل الخير إلا مع الناس، ولا يتحمس للخير إلا مع الناس، فهذا مرض وداء. ومن الأشياء التي تعين الإنسان على التخفف من هذا هو أن يجتهد في أعمال السر بينه وبين نفسه، الصلاة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والذكر، يجتهد فيها، فإنها تعينه على تجاوز مثل هذا الأمر.

علاج مرض النسيان

علاج مرض النسيان Q أنا شاب أعاني من مرض النسيان، بحيث إذا حفظت آية أو حديثاً فسرعان ما أنساه، فذهبت إلى الصيدليات، فلم أجد عندهم الدواء لهذا المرض، والآن أتت صيدلية الدويش إلى منطقة الأحساء، فأرجو منك إعطائي دواء لهذا المرض؟ A نحن نعرف أن الصيدلية كلها يصعب أن تأتي، على كل حال لست بالصيدلي، لكنه كما قال الشافعي في وصيته: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وحين جاء الشافعي إلى الإمام مالك ليطلب العلم عنده، فتفرس في وجهه، قال: إني أرى في وجهك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية. وقيل للإمام مالك: هل شيء يصلح الحفظ؟ فقال: إن كان فإنه ترك المعصية. فتقوى الله عز وجل، وسؤال الله عز وجل يعين الإنسان، ثم بعد ذلك لا يضجر الإنسان فهذا ما أعطاه الله عز وجل، وأنا أجزم أن الأخ ما نسي نصوصاً معينة تبقى نصوصاً لا ينساها، فمع تكراره للنصوص والآيات والأحاديث؛ سيبقى جزء منها على الأقل لا ينساه.

حكم ما يبقى من النقود عند الشاب المهتدي لرفقائه في طريق الغواية

حكم ما يبقى من النقود عند الشاب المهتدي لرفقائه في طريق الغواية Q كنت شاباً مفرطاً في أوامر الله، وكنت أستعمل المخدرات، وبعدها هداني الله إلى طريق الخير، ويوجد عندي لبعض الشباب المنحرفين نقود لأشتري لهم مخدرات بها، فهل أردها إليهم، أم ماذا أفعل، علماً أنه مضى علي أكثر من خمس سنوات؟ A إذا كان عندك حقوق للناس ينبغي أن تعيدها إليهم، لكن لا تعنهم على المعصية، فتكون وسيلة لإعانتهم على المعصية، أما حقوق الناس فينبغي أن تعاد إليهم.

الحل لعاطفة التأثر بأيام الصبا

الحل لعاطفة التأثر بأيام الصبا Q أنا شاب ربما أكون غزير العاطفة، حيث أتأثر بالمواقف التي حصلت لي أيام الصبا، ومراحل المراهقة المبكرة، فما هو الحل في مثل ذلك؟ A الحل أنك تخفف من العاطفة، وتشغل نفسك دائماً، النفس إذا شغلتها بأمور جادة، ومعان جادة؛ انشغلت عن مراتع الصبا وتذكرها، والإنسان الذي يحمل هماً، ويحمل دعوة، ويحمل غيرة لدين الله، يشعر أن هناك أشياء تملأ اهتماماته تشغله عن الإفراط في تذكر مراتع الصبا وأيامها.

دواء الإفراط في العلاقات العاطفية

دواء الإفراط في العلاقات العاطفية Q بعد أن سمعنا هذه الكلمات التي شنفت أذاننا، ورطبت قلوبنا، ووجهت عواطفنا، وضبطت ما تفلت من مشاعرنا، بعد هذا كله يأتي سؤالي: إنني أعرف مجموعة من الشباب قد تشاكلوا في طباعهم وفي أشكالهم وفي أعمارهم، وقد نشأت بينهم عاطفة غير منضبطة، فقد غرق بعضهم في شخصية بعض، بل وذابوا في ذواتهم، وكل هذا باسم العاطفة الصادقة؟ A هذا خبر ما هو بإنشاء، ويبدوا أنه يريد الحل، سبق أن أشرنا إلى القضية، ولعل الأخ كتب السؤال مبكراً، لكن هذه من الأدواء، الإفراط في العلاقات العاطفية من الأدواء، وأشرنا إلى بعض نتائجها المؤلمة.

نصيحة ودواء لذي العاطفة الشهوانية

نصيحة ودواء لذي العاطفة الشهوانية Q شاب يعاني من عاطفة ميالة إلى الشهوات، حيث يفتن كلما رأى شاباً جميلاً، حتى إنه يجلس يفكر فيه معظم الوقت، فما دواء هذه العاطفة؟ A هذه لا شك أنها في الحرام، ولا يسوغ أن نلمعها بأوصاف أخرى غير هذا الوصف، إنها شهوة محرمة، بل هي شهوة شاذة، شهوة قوم لوط الذين كانوا شاذين، فعاقبهم الله عز وجل بعقوبة لم يعاقب بها غيرهم من الأمم، أن رفع قراهم ثم خسف بهم بعد ذلك. فالحل أن يتقي الإنسان الله عز وجل، ويغض بصره، وينصرف عما حرم الله، ويشغل نفسه بطاعة الله عز وجل، واللجوء إليه، وإدمان ذكره، وتلاوة كتابه، وكلما ازداد المرء حباً لله عز وجل شغله ذلك عن حب ما سواه.

كيفية معالجة قوة العاطفة تجاه الآخرين

كيفية معالجة قوة العاطفة تجاه الآخرين Q إن عاطفتي تجاه كل من أتعامل معهم من أهلي وأصحابي وزملائي في العمل وغيرهم كبيرة جداً جداً، حتى إنني أشعر أنها تكاد تفسدهم علي، وذلك من خلال تعاملهم معي في حياتهم الاعتيادية، وأنا أعلم بذلك، أرشدني إلى الطريق الصحيح وفقك الله؟ A أنت أدركت الآن المشكلة، وأدركت الخطأ، حاول أن تتخفف، أنا لا أستطيع أن أقول لك حلاً غير هذا، أنك تحاول أن تتخفف، أنت أدركت أن عاطفتك زائدة جداً جداً كما وصفت أنت، فخففها جداً جداً، وحاول بقدر الإمكان أن تتخفف من ذلك، وتتوقف -مثلاً- في تبادل بعض العبارات وغيرها، التي تذوب عاطفتك، وتعود على نوع من الحزم، حتى تعتاد ذلك، والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

وأنكحوا الأيامى منكم

وأنكحوا الأيامى منكم الزواج قضية تدعو إليها الفطرة ويرغب فيها الشرع، وبها يكتمل شطر الدين وتستقر النفس وتزول كثير من مشاكل العزوبة ومعاناتها.

وقفة حول العنوان

وقفة حول العنوان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد. فعنوان هذا الدرس كما تعلمون جميعاً: (وأنكحوا الأيامى منكم)، وهو الدرس المتم للعشرين من هذه الدروس التربوية التي تلقى في هذا الجامع جامع السالم، وهو في هذه الليلة ليلة الأحد الثامن من شهر شوال عام 1414للهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. وحديثنا في هذا الدرس سيدور حول العناصر الآتية: أولاً: وقفة حول العنوان. ثانياً: من منافع الزواج. ثالثاً: السلف والزواج. رابعاً: الفقهاء والزواج. خامساً: غيرنا والزواج. وأخيراً: ماذا نجني من الزواج المبكر؟ وآثرنا أن نزاوج بين العناصر، فالعنوان حول النكاح والعناصر تأخذ عنوان الزواج، وكلاهما مصطلحان معروفان مشهوران. الوقفة الأولى حول العنوان والتعريف بموضوع المحاضرة، ولمن يوجه الخطاب فيها؟ لعل ما يستوقفنا في العنوان هو كلمة (الأيامى)، والأيم في اللغة وفي هذا العنوان الذي هو جزء من آية كريمة: هو من لا زوج له سواء كان ذكراً أو أنثى، سواء كان قد تزوج قبل وطلّق أو أُرمل، أو لم يتزوج، فكل من لا زوج له ذكراً كان أو أنثى، بكراً كان أو ثيباً فهو أيّم. قال ابن سيده: الأيّم من النساء التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، ومن الرجال الذي لا امرأة له، وهو كما قلنا يطلق على الذكر والأنثى، وإن كان الغالب في الاستعمال أنه للأنثى، والدليل على أنه يُطلق على الذكر قول الشاعر: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي يد الدهر ما لم تنكحي أتأيمُ فأطلق التأيم هنا على نفسه وهو رجل مما يدل على أنه يُطلق على الذكر والأنثى. وأيضاً: استعمل ابن القيم هذا المعنى للذكر، وإن كان كلام ابن القيم كما تعرفون ليس حجة في اللغة؛ لأن ابن القيم كان بعد عصر الاحتجاج، يقول في قصيدته الميمية المشهورة: وكن أيّماً مما سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم ونحن يهمنا بيان أن الأيّم يُطلق على الذكر والأنثى؛ لأن هذا يعني أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية الكريمة. إذاً نقرر معنى الأيّم والمقصود به، فموضوعنا يدور حول التحريض على النكاح والترغيب فيه، وبيان محاسنه وفضائله، ومنزلته من دين المسلمين، وهو خطاب يعني شرائح شتى فهو يعني الأيّم سواء كان رجلاً أو امرأة بدرجة أولى وأساس؛ لأنه هو صاحب القضية، وما لم يحمل قضيته ويُعنى بها فلن يهتم به غيره، وهو يعني الأولياء وهم كثيراً ما يقفون عقبة دون تحقيق هذا الأمر الإلهي الذي خاطب الله عز وجل به المسلمين جميعاً: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] وهو أيضاً يعني المجتمع كله، فإن الخطاب في هذه الآية كما أنه خطاب للأولياء فهو خطاب للمجتمع أن يأخذ على عاتقه إنكاح الأيامى، وأن يأخذ على عاتقه تذليل العقبات والعوائق التي تحول دون تحقيق وتطبيق هذه السنة الشرعية التي هي بمنزلة ومكانة عظيمة من دين الله عز وجل كما سيأتي بيانه. إذاً فالموضوع يعني هذه الطبقات جميعاً، أما ما يتعلق بالعوائق والعقبات التي تقف فعلاً أو تُفتعل ضد التعجيل بالزواج والنكاح فقد كانت النية التعريج عليها في هذا الدرس، ولكن طال الموضوع وشعرت أن الوقت لا يتسع للحديث عن هذه العوائق، فلعلي أفردها بمشيئة الله بحديث خاص، وقد لا يكون في هذا الدرس، قد يكون مما يُلقى خارج الرياض، ويمكن للإخوة أن يستمعوا إليها إن شاء الله فيما بعد.

من منافع الزواج

من منافع الزواج

أنه منة من الله تستوجب الشكر

أنه منة من الله تستوجب الشكر العنصر الثاني: من منافع الزواج والنكاح. ثمة أمور عدة تدل على قيمة الزواج والنكاح ومنفعته وآثاره سواء في الدنيا أو في الآخرة، منافع دينية أو منافع دنيوية، ومن ذلك أن الله عز وجل امتن على عباده بالنكاح والزواج، وهذا دليل على فضله، وأنه نعمة يمتن الله بها على عباده، وتستوجب الشكر، ومن ثم أيضاً فهي دعوة لمن لم يحصّل هذه النعمة أن يسعى إليها، فإن الله عز وجل قال في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:20 - 21] فبعد أن امتن الله عز وجل على عباده بنعمة إيجادهم وخلقهم من تراب، امتن عليهم بعد ذلك بنعمة أخرى وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً، ولعل في هذا التعقيب حكمة والعلم عند الله عز وجل، فإنه أخبر عن خلق الإنسان من تراب ابتداءً، ثم الآية الثانية عقّب فيها بالزواج الذي هو السبب بعد ذلك لاستمرار بقاء النوع الإنساني، فإنه لن يُخلق المرء بعد ذلك من تراب، إنما يُخلق بعد ذلك بقدرة الله عز وجل من ما ينتج عن هذا الزواج وهذا النكاح. وأخبر الله عز وجل أنه جعل بين الزوجين المودة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فأخبر الله عز وجل أنه جعل بينهم مودة، أخبر أن الزوجة سكن للزوج والزوج سكن لها، وأخبر أيضاً قال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وأخبر أن المرأة حرث، إلى غير ذلك من الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها النكاح، وامتن به على عباده في غير ما آية في كتابه الكريم.

الزواج من سنن المرسلين

الزواج من سنن المرسلين ثانياً: أن الزواج من سنن المرسلين، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فأخبر الله عز وجل أنه جعل للمرسلين أزواجاً وذرية. وفي سورة القصص يحكي الله عز وجل لنا أن نبيه موسى عليه السلام بقي ثمان سنين أو عشر سنين يعمل لأجل أن يحصل مهر النكاح {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27]. وأيضاً في السنة النبوية يحكي النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تنجب كل منها غلاماً يقاتل في سبيل الله عز وجل، ونبينا صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة. إذاً: فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الزواج من سنن المرسلين، ويدل على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم حين جاء أقوام فسألوا عن عبادته فتقالّوها فعزم أحدهم ألا يتزوج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمن سنته صلى الله عليه وسلم تزوج النساء ومن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه. ويروى: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والنكاح إلى آخر الحديث، لكن الحديث لا يصح، وفي الحديث السابق، بل وفي الآيات التي وردت في كتاب الله غنية عن ذلك كله. إذاً: فإذا كان المرسلون قد جعل الله عز وجل لهم أزواجاً، وكان الزواج من سنة المرسلين، وهم أعبد الناس، وأعلم الناس، وأكثر الناس شغلاً في خدمة الناس، ودعوتهم إلى دين الله عز وجل فلا مجال لأحد بعد ذلك أن يعتذر عن الزواج، إلا أن يكون قد خالف سنة المرسلين، أو أن يكون به مانع من موانع النكاح.

أمر الله الأولياء بإنكاح الأيامى

أمر الله الأولياء بإنكاح الأيامى ثالثاً: أن الله عز وجل قد أمر الأولياء بأن يُنكحوا الأيامى فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] ثم عقّب الله عز وجل على قضية قد تكون عائقاً وعقبة لهؤلاء عن الزواج، وهي قضية التكاليف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] وهو أمر لأولياء الشباب وأولياء الفتيات جميعاً أن يسعوا في إنكاحهم، وتيسير السبل أمام تحقيق هذه السنة.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالنكاح

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالنكاح رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشباب أمراً عاماً لأمته على مدى الأزمان كلها، فقال في الحديث المشهور وهو في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) إنه خطاب لكل شاب، وهو أيضاً خطاب للفتيات، فخطاب الرجال تدخل فيه النساء، خطاب للجميع على مدى الأزمنة والأمكنة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسعوا ويحرصوا على الزواج وألا يتأخر من استطاع منهم عن ذلك.

تحصيل النكاح لأفضل متاع الدنيا

تحصيل النكاح لأفضل متاع الدنيا خامساً: الزواج فيه تحصيل لأفضل وخير متاع الدنيا، إن الإنسان في دار الدنيا في دار متاع، ومتاع الدنيا زائل فان، وكم ينصب الناس لتحصيل المتاع من مال، أو جاه، أو ثراء، أو منصب، أو غير ذلك من متاع الدنيا، لكن خير متاع الدنيا كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة). وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أعطيهن فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله). إذاً: فالزواج إدراك لأفضل وخير متاع في دار الدنيا، ولئن كان الإنسان كما قلنا يضحي ويجهد وينصب في تحصيل أي متاع من الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو ثراء أو غير ذلك، فإن خير متاع الدنيا أولى بذلك كله وأولى ما اجتهد المرء في تحصيله.

الزواج فيه إكمال شطر الدين

الزواج فيه إكمال شطر الدين سادساً: الزواج فيه إكمال لشطر الدين، فقد روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) وفي رواية للبيهقي: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي). وهاهنا Q لماذا كان الزواج نصف الدين؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة) فحين يتزوج يكون قد أحصن نصف ما يُضمن له به الجنة وهو فرجه فليتق الله في النصف الباقي. سابعاً: من فضائل النكاح وما يرغّب فيه أنه صلى الله عليه وسلم كما أمر بالنكاح وحث عليه ودعا إليه فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والانقطاع، فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) والحديث في الصحيحين، فلم يأذن له صلى الله عليه وسلم في التبتل الذي هو الانقطاع عن النكاح. ويدل أيضاً على النهي عن التبتل نهيه صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالّوا عبادته عمّا عزم عليه أحدهم من الانقطاع وترك تزوج النساء.

الزواج فيه إعطاء الأهل حقهم

الزواج فيه إعطاء الأهل حقهم ثامناً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهاه عن المبالغة في التعبد: (إن لأهلك عليك حقاً) وفي رواية: (لزوجك عليك حقاً) فإذا كان المرء منهياً عن المبالغة في التعبد، وكما مر معنا في الدرس الماضي أن هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو حين كان يختم كل ليلة، ويصوم كل يوم، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن المبالغة في العبادة على حساب حق الزوجة وواجبها فهذا يدل على الدعوة إلى الزواج من باب أولى، وأن العبادة لا ينبغي أن تكون على حساب النكاح والزواج.

النكاح سبب لعون الله وتوفيقه

النكاح سبب لعون الله وتوفيقه تاسعاً: أن النكاح سبب لعون الله عز وجل وتوفيقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله) والحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة. فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هؤلاء ممن يستحقون العون والتوفيق من الله عز وجل، إذا نكح المرء يريد العفاف فإنه حق على الله سبحانه وتعالى أن يعينه، وقرنه صلى الله عليه وسلم بالمجاهد في سبيل الله وبالمكاتب الذي يريد حياة الحرية والتخلص من الرق والعبودية.

النكاح سبب لزيادة عدد الأمة

النكاح سبب لزيادة عدد الأمة عاشراً: أن الزواج سبب لزيادة عدد الأمة، وهو أمر مطلوب، وقد حث صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال فيما رواه أبو داود والنسائي: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم). ونحن نرى الآن الكثير من الأمم تسعى إلى تشجيع الزواج، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية، حيث واجهت نقصاً حاداً في الطاقة البشرية، فسعت الدولة إلى سن قوانين تشجع على الزواج منها فرض ضرائب على العزاب، وأيضاً إعانات للمتزوجين، وزيادة في مكافئات الموظف إذا كان متزوجاً، والمساعدة في تأمين السكن إلى غير ذلك من الإجراءات التي اتخذتها تلك الدولة؛ لأنها ترى أنها بحاجة إلى الطاقة البشرية. والأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون لزيادة النسل وخاصة في المجتمعات الصالحة الخيّرة؛ لأنها زيادة في الأخيار والصالحين في هذه الأمة، ولعلنا ندرك تماماً ما يفعله بعض أصحاب النحل الضالة في بلادنا حيث يسعون إلى تكثير الزواج بصور عجيبة، حتى إنك ترى الشاب يتزوج وهو لا يزال في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، والفتاة كذلك، بل ربما تراه يعدد وهو لما يصل العشرين من عمره، وخلال سنوات استطاع هؤلاء أن يتفوقوا عددياً في بعض المناطق على أهل السنة، وذلك كله نتيجة الحرص على زيادة النسل إذاً: فأصحاب دعوة الحق والمنهج الحق أولى الناس بالحرص على التناسل لا سيما وهم أحض الناس بوصيته صلى الله عليه وسلم، وهم أولى الناس أن يحققوا هذا المعنى الذي يكاثر فيه النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأمم يوم القيامة.

للزواج أثر صحي وأثر نفسي

للزواج أثر صحي وأثر نفسي الحادي عشر: أن الزواج له أثر صحي بدني، وأثر نفسي، وسنتحدث عن الأثر النفسي فيما بعد، لكن هناك دراسات معاصرة كثيرة أثبتت أن الزواج له آثار صحية منها: أن المتزوجين بصفة عامة أطول أعماراً من العزاب، وهذه أمور بيد الله عز وجل، لكن لا شك أن الله عز وجل قد جعل أسباباً ومسببات، ومنها أيضاً دراسة أجراها عالمان نفسيان في جامعة شيكاغو فيها إحصاءات دقيقة عن حالات من الجنون قاما بفحصها من بين من يعالجونهم فوجدا أن بين كل مائة مجنون ومجنونة ثلاثة وثمانين مريضاً من العزاب وسبعة عشر من المتزوجين والمتزوجات، كما أن معدل الإجرام عند العزاب أكثر منه عند المتزوجين، حيث بلغ في إحدى الإحصائيات ثمانية وثلاثين مجرماً أعزب مقابل كل سبعة عشر متزوج. على كل حال هناك قضايا صيحة كثيرة ترتبط بموضوع الزواج وخاصة الزواج المبكّر، وقضايا نفسية، ولعل جانب الإجرام يرتبط بالصحة النفسية أكثر من ارتباطه بالصحة العضوية أو البدنية، وسيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك.

الزواج تحصين للنفس من الفواحش

الزواج تحصين للنفس من الفواحش الفائدة الثانية عشرة: وهي أهم مقاصد النكاح وفوائده تحصين النفس وحمايتها من الوقوع في الفاحشة: وهو المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أشد فتنة تركها صلى الله عليه وسلم على أمته فتنة النساء، وهذا الكلام عام للأمة كلها، فما بالكم بهذا العصر الذي شُرّعت فيه أبواب الفتن والذي صار يُسعى فيه إلى فتنة الشباب والفتيات، وإيقاعهم في الفاحشة، وصارت الوسائل الحديثة والتقنيات المعاصرة توظف لإثارة الغرائز، إن هذا يزيد الأمر تأكيداً. وكم نسمع كثيراً من التساؤلات والشكاوى من الشباب والفتيات عن مشكلات الشهوة والفتن التي أصبحت تؤرقهم وتزعجهم، ويبدأ الحديث في إعطاء هؤلاء بعض الوصايا التي لا تزيد على أن تكون مهدئات، بينما العلاج الأهم والأنجع والأساس في ذلك كله هو الزواج، فهو العلاج وهو العاصم بإذن الله عز وجل وتوفيقه، ولو لم يأت في الزواج إلا تحقيق هذه المصلحة وهذه الفائدة لكان حرياً وجديراً بأن يُعنى كل شاب وفتاة بتحصيله والسعي إليه والبدار فيه ليحصنوا أنفسهم، ولا سيما وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ضامن بالجنة لمن ضمن له أن يحفظ فرجه وأن يحفظ له ما بين لحييه.

بالزواج تتيسر أنواع من القرب والعبادات

بالزواج تتيسر أنواع من القرب والعبادات الفائدة الثالثة عشرة: أن الزواج يتيسر فيه للرجل والمرأة أنواع من العبادة والقرب لا تتيسر لغيره من حسن العشرة، والصحبة بالمعروف، وقضاء حق العيال، والرحمة بهم، والانشغال بمصالحهم كل ذلك قربة إلى الله عز وجل، يحصل عليه الزوجان، ولا يحصل عليه الأيم، بل ومع أنه عبادة وقربة فإنه تحصل فيه راحة النفس ولذتها وقضاء رغبتها، بل إن اللقاء بينهما وتحصيل الشهوة أمر يثابان ويؤجران عليه، فكما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). وقارن أنت بين حالتين: حالة الشاب أو الفتاة الذي يعيش في حالة الزواج، الذي إن ضايقته الفتن وأقلقته قضى شهوته فيما أباح الله عز وجل، فيكسب أجراً على ذلك، ويحقق شهوته ولذته، وأيضاً يعصم نفسه من الفتنة، وحالة الأيّم الذي عندما تُفتح الفتن أمام ناظريه لا يجد منها مناصاً إلا الوقوع في الحرام، وهذا ضريبته أليمة جداً، أو المجاهدة والصبر ولكن هل ينجح في هذا الأمر أو لا ينجح؟ هل يستطيع أو لا يستطيع؟ هي قضية أجزم أنكم توافقوني أنها لا تحتمل المخاطرة، ولا تحتمل أن يعلّق المرء نفسه على مثل هذه الأمور أينجح فيها أم لا؟ هذه بعض الفوائد وبعض النتائج التي تُجنى من الزواج، وسيأتي أيضاً مزيد منها عند الحديث عن الزواج المبكّر.

السلف والزواج

السلف والزواج العنصر الثالث: السلف والزواج. ولنورد بعض النقول عن السلف في عنايتهم بالزواج سواء من أقوالهم أو أعمالهم، وكل خير في اتباع من سلف. روى البخاري عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه: هل تزوجت؟ قلت: لا. قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء. وفي رواية لـ أحمد بن منيع: وذلك قبل أن يخرج وجهي، يعني: قبل أن يلتحي أو أن يخرج شعر لحيته. وروى ابن أبي شيبة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وكان قد ذهب بصره قال: (زوجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني ألا ألقى الله عزباً). وروى ابن أبي شيبة عن معاذ أنه قال في مرضه الذي مات فيه: زوجوني، إني أكره أن ألقى الله عزباً. وروى أيضاً عن ميسرة أنه قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لـ أبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. وروى عن طاوس أنه قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. أي: لا تتم عبادته حتى يتزوج. وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لولم أعد أكن في الدنيا إلا عشراً لأحببت أن يكون عندي فيهن امرأة. وقال المروزي: قال الإمام أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة ومات عن تسع، ولو تزوج بشر بن حارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصبح وما عنده شيء ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق، ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إليّ النساء). فقلت له: فإن إبراهيم بن أدهم يُحكى عنه أنه قال: لروعة صاحب العيال، فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال: وقعت في بنيات الطريق، انظر ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال: بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد العزب. وقال الإمام أحمد أيضاً: لو كان بشر تزوج لتم أمره. ونقل ابن قدامة عنه أيضاً رحمه الله أنه قال: من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام. وتزوج الإمام أحمد رحمه الله في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله. وقد كان هذا مشهوراً عن السلف، بل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يبادر بالزواج إذا توفيت زوجته يقول: أكره أن ألقى الله عزباً. وكان يعقوب يدخل على المهدي ليلاً، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور، وتقوية الغزاة، وتزوج العزاب. وقال عبد المؤمن المغربي كلاماً طويلاً وفيه: ورجل بلا بعل كرجل بلا نعل، والعزوبة مفتاح الزنا، والنكاح ملواح الغنى، ومن نكح فقد صفد بعض شياطينه، ومن تزوج فقد حصّن دينه، ألا فاتقوا الله في النصف الثاني، فإن خراب الدين بشهوتين: شهوة البطن وهي الصغرى، وشهوة الفرج وهي الكبرى، فاعمر الركعتين واحكم الحكمين. نكتفي بهذه النقول وإلا فالنقول كثيرة عن السلف في ذلك لنذكر أيضاً بعض النقول عن الفقهاء الذين تحدثوا عن حكم الزواج، وما يتعلق به، وليس هذا وقت تقرير حكم الزواج أصلاً والتفصيل، لكن ما نورده استشهاد لقيمة النكاح عند فقهاء الأمة الأعلام.

الفقهاء والزواج

الفقهاء والزواج رابعاً: الفقهاء والزواج. فهم يتحدثون في مبدأ كتاب نكاح عن الزواج وأهميته، فقهاء الحنفية يعقبون العبادات بباب النكاح بعد كتاب الحج، بخلاف المعهود عند الحنابلة حيث يأتي بعد الحج باب الجهاد، ثم بعد ذلك المعاملات، ثم النكاح، أما الحنفية فيوردون النكاح بعد العبادات مباشرة، وعلل ذلك أحد علماء الحنفية وهو الكمال بن الهمام صاحب شرح فتح القدير، قال: وهو أقرب للعبادات، حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة على ما نبين إن شاء الله تعالى، فلذا أولاه العبادات. ثم ذكر حكمه واختلافهم فيه ورجّح تفضيله على التخلي للعبادة، ثم قال: وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لا فيما يخيل للنفس أنه أفضل نظراً إلى ظاهر عبادة وتوجه، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبياءه إلا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرره على ترك الأفضل مدة حياته. وهذا كله ذكره بعد أن علل لماذا أعقب صاحب الهدية العبادات بباب النكاح؟ قال: لأنه أفضل أصلاً من التخلي للعبادة، والحاجة إليه آكد، ثم بيّن لماذا قدّمه على الجهاد، قال: إن الجهاد فيه تحصيل الصفة، يعني إذا قاتلنا الكفار أسلموا فأوجدنا فيهم صفة الإسلام، أما النكاح ففيه تحصيل الصفة والموصوف؛ لأنه فيه يولد الرجل الذي يكون مسلماً، ثم قال: والذي يدخل الإسلام بالنكاح أكثر ممن يدخل الإسلام بالسيف والجهاد. وقال الكاساني في بدائع الصنائع: لا خلاف أن النكاح فرض في حالة التوقان، حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم. وقال ابن رشد: فأما النكاح فإنه في الجملة مرغّب فيه ومندوب إليه، وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر على الصبر دون النساء ولا نكاح ولا كان عنده ما يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب. وقال ابن قدامة في المغني: والناس في النكاح على ثلاثة أظرب: الأول: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامّة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح. الثاني: من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور، فهذا الاشتغال له به، أي بالنكاح أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول أصحاب الرأي، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم وفعلهم، ثم ساق بعض الآثار عن الصحابة التي أوردنا طرفاً منها. الثالث: قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإن احتاج الناس لإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدّم الحج، ونص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر. وهذا فيه أنه يريد الوجوب، بل تأكد الوجوب؛ لأنه لا يقدمه على الحج إلا إذا كان يرى وجوبه رحمه الله.

غيرنا والزواج

غيرنا والزواج رابعاً: غيرنا والزواج. وهذا الاصطلاح من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى في الوصية: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] ووصف الكفار بأنهم من غيرنا. ونورد بعض النقول عن سيرهم وعاداتهم وطبائعهم في حرصهم أو دعوتهم إلى الزواج، ولم يكن الزواج مرغّباً لأن أولئك دعوا إليه، وليست القضية للاستشهاد بهم، لكن إذا كان أولئك يدركون شأنه وقيمته وهم لا يجدون مانعاً ولا حاجزاً من ممارسة الحرام والرذيلة، فغيرهم من باب أولى وآكد. أولاً: الأمم القديمة كان العزوبة عيباً عندهم، بل في كثير من معتقدات الأمم القديمة وهي معتقدات وثنية وجاهلية، يرون أن من مات وهو لم يتزوج أنه غير داخل تحت رحمة الإله، وليس هذا هو الذي نستشهد به، لكن هذا كان نتيجة شعور أولئك بأن الزواج ضرورة، وكانوا يعيبون على الأعزب، ويصفونه بأوصاف يستحيا منها، حتى أنه كان يستحي أن يقابل الناس على اختلاف في عوائد الأقوام والطوائف والناس مما يضيق الوقت عن ذكره. وأيضاً كانت أوروبا في العصور الوسطى تُعنى بالزواج والحرص عليه والتشجيع عليه، فقد أصدر لويس الرابع عشر في عام (1661م) مرسوماً يقضي بإعفاء الذين تزوجوا وكان سنهم أقل من عشرين سنة حتى الخامسة والعشرين من الضرائب، وفي عام (1798م) أيضاً سن قانون لحماية قيمة الإيجارات وفرض الجباية، فضاعف الضرائب على العزاب الذين سنهم عشرون عاماً فما فوق، والإجراءات التي يتخذها أولئك كثيرة، وأشرنا أيضاً إلى ما اتخذته ألمانيا بعد الحرب العالمية وغيرها، ويتنادى بعض عقلائهم بالزواج المبكّر، وفي عبارة جميلة يقول أحد عقلائهم إن كان فيهم من يعقل: ولسنا نرى مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولاً عنه، ولا ريب أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهدأ. يقول: ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظن في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله، وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان وهذا هو الرأي لمعظم المفكّرين في الوقت الحاضر، غير أنه من المخزي أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة بأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر. ويقول ول ديورانت الذي أوردنا كلامه السابق: كان البشر في الماضي يتزوجون باكراً، وكان ذلك حلاً صحيحاً للمشكلة الجنسية، أما اليوم فقد أخذ سن الزوج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لا يتوانون عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة، فالحكومات التي ستنجح في نص القوانين التي تسهل الزواج الباكر ستكون جديرة بالتقدير؛ لأنها تكشف بذلك أعظم حل لمشكلة الجنس في عصرنا الحاضر. وكما قلت حينما نورد أقوال هؤلاء لا يعني أننا نحتج بهم، وأيضاً قد نتحفظ على كلمات كثيرة أو عبارات يوردونها، لكن المقصود أنه إذا كان أولئك وهم أصحاب الإباحية والفجور، وهم الذين لا يرون أي مانع وأي وازع من الممارسة القذرة المحرمة يدعون إلى الزواج المبكّر، فأصحاب الفطرة السليمة الذين يرون أن هذا سور لا يجوز أن يتجاوزوه، أولى وآكد أن يعنوا، وأن تصدر منهم مثل هذه الأقوال.

ماذا نجني من الزواج المبكر

ماذا نجني من الزواج المبكر

المصالح المترتبة على الزواج عموما

المصالح المترتبة على الزواج عموماً وأخيراً ماذا نجني من الزواج المبكّر؟ أولاً: الفوائد والمنافع السابقة التي سردناها كلها مصالح حين يبادر الشاب والفتاة في الزواج فإنهم يبادرون في تحصيل تلك المنافع والمصالح.

التخلص من معاناة العزوبة وجحيم الشهوة

التخلص من معاناة العزوبة وجحيم الشهوة ثانياً: ما أشرنا إليه من معاناة الشاب والفتاة خصوصاً من جحيم الشهوة وألمها ومشكلاتها، والتي أصبحت تلاحق الشاب والفتاة أينما حل وحيثما ارتحل، في كل مكان، في المنزل، والشارع، واللقاء مع الزملاء والأصحاب، أو مع الزميلات والصاحبات، في الهاتف، إذا سافر، وإذا أقام صارت هذه الشهوة جحيماً يعاني منه الجميع، وخاصة الشباب، ففي الزواج المبكر حل لهذه المشكلة وهذا الداء الذي يعانون منه.

الاستقرار النفسي والراحة

الاستقرار النفسي والراحة ثالثاً: الاستقرار النفسي والراحة: والاستقرار النفسي أمر يحتاج إليه الإنسان وخاصة الشاب، وإذا مرت هذه المرحلة دون أن يستقر فيها المرء استقراراً نفسياً ويعيش فيها حياة مستقرة فإنه يفوّت على نفسه فرصة ذهبية من فرص العمر لا تتكرر، ولا يمكن أبداً أن يعدلها ما يأتي بعدها، ولا يمكن أن يحقق الشاب ولا الفتاة الاستقرار النفسي التام دون الزواج. ونعود مرة أخرى إلى إفادات الغربيين فيقول أحدهم: إن العزوبة الدائمة تعرض صاحبها إلى اضطراب نفسي مختلف الأنواع والصفات، فيفسد النفس، ويجعلها تتحلى بعدم الرحمة والقسوة والخفة والطيش وعدم الاتزان. ويقول أحدهم وهو جورج انكتيل: منذ مطلع القرن العشرين والعزوبة تمثل على مسرح هذه الحياة شقاء ينتهي غالباً بالانتحار والجنون. وسبق أن أشرنا إلى كثير من الإحصائيات، ولو تابعتم الإحصائيات التي تُنشر في أي بلد حتى في بلاد العالم الإسلامي لوجدتم أن النسبة العليا ممن يقعون في الإجرام هم من العزاب، ومن أسباب ذلك هو أن الأعزب يعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي، وعدم الراحة والطمأنينة النفسية بخلاف المتزوج. وهذا المعنى هو ما أشار الله عز وجل إليه في آيات كثيرة في شأن الزواج قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] فهذا داخل تحت معنى السكن، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وامتن الله سبحانه وتعالى على عباده بالزواج في غير ما آية في كتاب الله عز وجل.

الشعور بالمسؤولية

الشعور بالمسؤولية رابعاً: الشعور بالمسئولية؛ لأن الشاب والفتاة في هذا العصر ومع الهيكل التربوي والتعليمي الذي تسير عليه الأمة أجمع في هذا العصر، صاغ الحياة بصياغة تجعل الشاب والفتاة يعتمد على الآخرين، ولا يتحمل المسئولية في وقت مبكر، فيستمر الشاب والفتاة في الدراسة ستة عشر عاماً مع السنوات الست الأولى التي قبل الدراسة، فلا يتوظف بعد ذلك ويتحمل المسئولية إلا حين يكون عمره أربعة وعشرين عاماً، ولا شك أن هذا يشكل خللاً تربوياً. والشاب والفتاة حتى تكمل شخصياتهم بحاجة إلى أن يتعودوا على تحمل المسئولية، والزواج من أهم الأمور التي تعين الشاب والفتاة على تحمل المسئولية، وعلى الشعور بها مما ينعكس أثره على سلوكه ابتداء واستقامته، ونرى كثيراً من الشباب والفتيات يستقرون وتستقيم أمورهم ويزدادون صلاحاً وطاعة بعد الزواج، ولا شك أن الزواج من الأسباب المعينة على ذلك، وأيضاً شعوره بالمسئولية يساهم في نمو شخصيته نمواً طبيعياً خاصة مع الهيكلية التربوية التي تعيشها مجتمعات المسلمين من تأخير سن تحمل المسئولية، فيتجاوز الشاب المرحلة الذهبية وهو لم يتحمل المسئولية بعد.

إتاحة التربية السليمة للأبناء والبنات

إتاحة التربية السليمة للأبناء والبنات خامساً: أن الزواج المبكر يتيح التربية السليمة للأبناء والبنات. وذلك لأن الشاب إذا تزوج مبكراً ستكون المسافة العمرية بينه وبين ابنه قريبة، فيأتيه الأطفال قبل أن يصل عمر الثلاثين، فيحسن التعامل مع ابنه عندما يبلغ سن التكليف لأنه يكون في الأربعين أو في الخامسة والثلاثين، فيحسن التعامل معه، ويحسن تربيته، لكن إذا أخر الزواج فإنه عندما يكون عمره خمسين سنة أو ستين سنة يبلغ ابنه سن التكليف، فيكون الأب قد صار يعيش عقلية غير عقلية الشاب، وصار هناك فجوة حضارية، فإن مدة خمسين سنة كافية أن تتغير فيها العادات والطبائع والظروف، ولهذا فإن من أهم المعاناة التي نعاني منها تربوياً الآن، الفجوة الحضارية بين الأب والابن، وذلك أن الأب عاش في عصر والابن عاش في عصر آخر، فإذا كان الإنسان تزوج متأخراً سيكون فارق العمر بينه وبين ابنه، أو بين الأم وابنتها فارقاً واسعاً مما يوسع الفجوة الحضارية، وهذا لا شك يترتب عليه خلل في التربية. أيضاً جانب آخر: من الأمور المهمة تربوياً أن يكون الأب يتعامل مع ابنه معاملة مودة وحسن عشرة ولطافة، والأم كذلك، حيث تسد الفراغ العاطفي الذي تعاني منه الفتاة، وكثير من المشكلات التي تعاني منها الفتيات الآن ترجع سببها إلى وجود فراغ عاطفي لم تسده الأم، وكذلك الشاب يجد أن الأب بعيد عنه. طيب عندما يتزوج الإنسان كبير السن لا يستطيع أن يتبسط مع ابنه الشاب بقدر يسد له هذا الفراغ. يمكن أن يعترض أحدكم فيقول: هذا بالنسبة للابن الأول والثاني والثالث، أو البنت الأولى والثانية والثالثة، لكن عندما يستمر الأبناء والبنات، إلى سن الأربعين والخمسين، والذين يأتون فيما بعد، فنقول: إنه إذا أحسن تربية الأبناء الأوائل فسيعينونه على تربية من يليهم مباشرة، وسيقومون بالدور الذي يقوم به الأب. إذاً فمن أهم الأمور التي تعين الأب على تربية أبنائه وتعين الأم على تربية بناتها وأبنائها الزواج المبكر؛ لأنه يقلل من المسافة العمرية بين الأب أو الأم، وبين الابن أو البنت.

التعاون على القيام بأعباء المنزل

التعاون على القيام بأعباء المنزل سادساً: أن يتيسر من يقوم بأعباء المنزل بالنسبة للأب وبالنسبة للأم. وهذا أمر مهم جداً؛ لأن الأب كلما تقدم به السن ازدادت مشاغله، فإذا كان قد بلغ الأربعين وجد عنده ابناً قد بلغ سن التكليف أو قريباً من ذلك، والأم أيضاً وجدت عندها بنتاً، فلا تحتاج إلى خادمة؛ لأنها قد وجدت من تقوم بأعباء المنزل، وإذا تزوجت ستليها بنت بعد ذلك؛ لأن الأصل هو كثرة النسل، والأب كذلك وجد الابن الذي يقوم عنه بأعباء المنزل، بخلاف الذي يتزوج متأخراً، فسيضطر بعد ذلك إلى حلول أخرى في قضية السائق أو الخادمة أو غير ذلك، أو يكون هناك مشكلات في أعباء المنزل مما يجعل الأب يتفرغ أكثر في المستقبل للتحصيل، يتفرغ للعبادة، يتفرغ لأمور خاصة إذا كان داعية وكان رجلاً مؤثراً، فيصبح المنزل لا يشكل عليه أي عبء وهو في عمر الأربعين في الريعان، وهي السن التي يمكن أن ينتج بها ويؤثر، فإن الأنبياء كانوا في هذه السن، وهذا بخلاف ما إذا كان قد تزوج متأخراً.

كثرة الولد الصالح

كثرة الولد الصالح سابعاً: الزواج المبكر مدعاة لكثرة الولد الصالح. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فإذا تزوج مبكراً كان هذا أدعى إلى كثرة تحقيق الولد الصالح خاصة أنه سيتيسر له أن يربيه ويرعاه مما يحقق له بعد ذلك امتداداً لعمله بعد وفاته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

نجابة الأولاد

نجابة الأولاد ثامناً: كما قلنا نجابة الولد، فإن الولد إذا كان من أبوين شابين فإنه يكون أنجب خلقاً وخُلقاً، كما قال الماوردي: إن أنجب الأولاد خلقاً وخُلقاً من كان سن أمه بين العشرين والثلاثين. وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأمهات دون العشرين وفوق الخامسة والثلاثين يزيد احتمال إنجابهن للأطفال المتأخرين عن الأمهات التي تقع أعمارهن فيما بين العشرين والخامسة والثلاثين. وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن نسبة الأطفال المشوهين والمعتوهين تزداد تبعاً لعمر الأب، وخاصة بعد الخامسة والأربعين. على كل حال هذه القضايا شأنها شأن أخبار بني إسرائيل مما يستأنس بها فإن صحت فأهلاً وسهلاً وإن لم تصح فليس الداعي الأول والأساس والأهم في الزواج المبكر هو نجابة الولد، بل الداعي لذلك تحقيق سنة الله عز وجل واتباع سنة المرسلين أياً كانت النتيجة، لكن لا شك أن من الظاهر والملحوظ أنه كلما كان الولد لزوجين في ريعان الشباب كان أكثر نجابة خلقاً وخُلقاً، والعكس كذلك، ولعل أيضاً التربية مما تؤثر في ذلك كما سبق أن قلنا. هذه بعض الأمور التي تؤيد الزواج المبكر وتحث عليه والمبادرة فيه.

رسالة يا إبني

رسالة يا إبني وقبل أن أختم المحاضرة أذكر كلمة رائعة طويلة للأديب علي الطنطاوي في رسالة له يا إبني، لعلي أقرأ مقتطفات منها فهي طويلة يقول: لماذا تكتب إليّ على تردد واستحياء؟ تحسب أنك وحدك الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضرم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي اختص بها دون الناس أجمعين. لا يا بني هوّن عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه داء الشباب، ولئن أرقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، فطالما أرّق كثيرين غيرك صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن درسه التلميذ وعن عمله العامل وعن تجارته التاجر، فماذا يصنع الفتى في هذه السنوات وهي أشد سنين العمر اضطراب شهوة واضطراب جسد وهياجاً وغلياناً! ماذا يصنع؟ هذه هي المشكلة، أما سنة الله وطبيعة النفس فتقول له تزوج، وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج، أولاً: إما أن ينطوي على نفسه، على أوهام غريزته، وأحلام شهوته تدأب على التفكير فيها وتغذيها بالروايات الداعرة والأفلام الفاجرة والصور العاهرة، حتى تملأ وحدها نفسك وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواجر، تراهن في الكتاب إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق، وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة، وفي رؤى المنام أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب. ثانياً: وإما أن تعمد إلى ما يسمونه الاستمناء (العادة السرية)، وقد تكلم في حكمه الفقهاء، وقال فيه الشعراء، وهو إن كان أقل الثلاثة شراً وأخفها ضرراً، لكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم، والجسم بالسقم، وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً، كئيباً مستوحشاً يفر من الناس ويجبن عن لقاءهم، ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة. ثالثاً: وأما أن تغرف من حمئة اللذة المحرمة وتسلك سبل الضلال وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة ومتعة عابرة، فإذاً أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها، والوظيفة التي تحرص عليها، والعلم الذي أمّلت فيه، ولن يبقى لك من قوتك وفتوتك ما تضرب به لجج العمل الحر، ولا تحسب بعد أنك تشبع! كلا، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً، كشارب الماء الملح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، ولو أنك عرفت آلاف منهن، ثم رأيت أخرى ممتنعة متمنعة عليك معرضة عنك لرغبت فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط، وهبك وجدت منهن كلما طلبت ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ وكأني أسمعك تقول: هذا الداء فما الدواء؟ الدواء أن تعود إلى سنة الله وطبائع الأشياء التي طبعها الله علينا، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئاً مكانه، حرم المراباة وأحل التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج، فإذا لم يتيسر لك الزواج فليس إلا التسامي، وأنا لا أريد أن أُعقّد هذا الفصل الذي كتبته ليكون مفهوماً واضحاً لمصطلحات علم النفس، لذلك أعمد إلى مثال أمثّله لك أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار، إنك إن سددته فأحكمت سده وأوقدت عليه فجّره البخار المحبوس، وإن خرقته سال ماءه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاً كذراع القاطرة أدار لك المصنع وسيّر القطار وعمل الأعاجيب، فالأولى حال من يحبس نفسه على شهوته يفكر فيها ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبيل الضلال ويؤم مواطن اللذة المحرمة، والثالثة حالة المتسامي المستعف إلى أن قال: هذا هو الدواء: الزواج وهو العلاج الكامل، فإن لم يمكن فالتسامي وهو مسكن مؤقت، ولكنه مسكن قوي ينفع ولا يؤذي. ثم تحدث عن الاختلاط ودعوتهم إلى ذلك يقول: وإذا نحن جوزنا للشباب ارتيادها لاستغنوا بذلك عن الزواج، فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن أيضاً محلات عمومية فيها بغايا من الذكور؟ كلام فارغ يا بني والله، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم، وما يريدون إصلاح الأخلاق، ولا تقدم المرأة، ولا نشر المدنية، ولا الروح الرياضية، ولا الحياة الجامعية، إنما هي ألفاظ يتلمظون بها ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهولون بها على الناس ويروجون بها لدعوتهم، وما يريدون إلا أن نُخرج لهم بناتنا وأخواتنا ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن. ثم قال بعد ذلك: وبعد، فيا بني عليك بالزواج ولو أنك طالب لا تزال، فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله والانغماس في العبادة إلى آخر كلامه. نكتفي بهذا القدر لنجيب على بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

الاستحياء من سؤال الزواج

الاستحياء من سؤال الزواج Q أنا شاب ملتزم ولله الحمد ورغبت في الزواج، ولكن الحياء يمنعني من مفاتحة والدتي ووالدي بالزواج، أرجو منك توجيهي وتوجيه والدتي ووالدي وجزاك الله خيراً؟ A على كل حال أظن أن ضرورة الزواج ومطلبه تحتم عليك أن تتجاوز وتتسلق سور الحياء، وأظن أنك إذا استحيت من مفاتحة والديك بالزواج فأنت حتماً ستستحي مما بعده.

البحث عن الزوجة الصالحة

البحث عن الزوجة الصالحة Q بعض الشباب تجده يرغب في الزواج ولكن تعوقه مشكلة قد تؤخره عن الزواج كثيراً، ألا وهي البحث عن الزوجة الصالحة النادرة في هذا الزمن، وربما يكون داعي الشهوة شديداً عليه ولكن يؤخر الزواج للبحث عن الصالحة، فماذا تنصحون رعاكم الله؟ A بعض الشباب عندما يرغب بالزواج يطرح بعض الشروط كأنه يطرح مناقصة تجارية، وهو أيضاً قد لا يحمل مؤهلات لأن يُرغب فيه، فحرص الشاب على رفيقة العمر وعلى مواصفاتها أمر مطلوب، لكن أيضاً يجب أن يعتدل، وأما ما يقوله بأن الزوجة الصالحة نادرة في هذا الزمان، فهذا قول غير صحيح ولا رصيد له من الواقع، فالحمد لله البيوت مليئة بالزوجات الصالحات الخيرات القانتات التي يصلحن لمثل هذا الشاب وأمثاله.

الفتور في الهمة بعد الزواج

الفتور في الهمة بعد الزواج Q نرى بعض الشباب قبل الزواج نشيطاً وحريصاً على الخير وما أن يتزوج حتى تقل الهمة، وربما يتخلف كثيراً عن صلاة الفجر مع الجماعة، فبماذا تنصحون هؤلاء الشباب؟ A هذه ظاهرة، لكننا نرى كثيراً أيضاً من الشباب ممن يكون مفرطاً مهملاً فإذا تزوج ازداد حرصاً وطاعة وعبادة لله عز وجل، فلماذا نأخذ هذه الصورة ونترك الصورة الأخرى، هذا جانب. والجانب الثاني: إذا كان يحصل هذا من البعض فالداء ليس في أصل الزواج، فالزواج أمر شرعه الله عز وجل؛ لكن الداء عند هذا الشاب فعليه أن يصلح نفسه.

الزواج سنة الأنبياء

الزواج سنة الأنبياء Q هل الأصل في المسلم الزواج؟ A نعم، هو الأصل وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رغب سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليس منه.

الزواج ومعوقات العمل الدعوي

الزواج ومعوقات العمل الدعوي Q يعتبر البعض أن الزواج عائق عن العمل الدعوي وخاصة الزواج المبكر، أرجو التوضيح؟ A ليس كذلك، بل هو مما يعين الإنسان فيخلصه من أثر التفكير بالشهوات وهمومها ومصائبها فيتفرغ همّه وتفكيره لما هو أنفع وأولى، وأحرص الناس على الدعوة هم أنبياء الله عز وجل صلوات الله وسلامه عليهم، ومع ذلك ستتهم الزواج.

عدم زواج شيخ الإسلام وغيره من العلماء

عدم زواج شيخ الإسلام وغيره من العلماء Q ماذا عن حياة شيخ الإسلام خاصة أنه لم يتمكن من الزواج لانشغاله بالدعوة؟ A أولاً نُقل عن بعض أهل العلم أنهم تركوا الزواج أو لم يتزوجوا، لكن أفعال الرجال وأقوالهم ليست حجة، والحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما عليه سائر سلف الأمة، فإذا وجد من آحاد السلف استحب ترك الزواج ودعا إليه فقوله يُعرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق الكتاب والسنة قُبل وما عارضها رد، ويجب أن تكون هذه القضايا المنهجية قضايا بدهية عندنا، فعجيب أن تأتي للإنسان وتسوق له الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ثم يفجأك بأن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا هو التقليد المحض للرجال، بل هو مخالفة كتاب الله عز وجل، بل أنا نقلت لكم كلام شيخ الإسلام أصلاً من أنه يرى أن من يخاف على نفسه فإنه يقدم الزواج على الحج إذا لم يستطع إلا تقديم أحدهما، ألا يكفي هذا؟ كونه هو ما تزوج أنت لا تعرف ظروف الناس وأمورهم، وقضية قولهم إنه ترك الزواج لأجل الدعوة وغيرها، هذه قضية احتمال والمعنى لا يدركه إلا صاحبه، وقد يكون من تأخر عن الزواج من السلف عنده مانع من الموانع، قد يكون عنده سبب لم يبده، قد يكون عنده اجتهاد، أياً كان فالسنة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مضى من سلف الأمة، وما خالفها فنعتذر لصاحبه، ونرى أن له عذراً، لكن ليس عمله حجة، وبإمكانكم أن تقرءوا كتاب الشيخ بكر أبو زيد العلماء الذين لم يتزوجوا والرد على من وحد السبب.

من يرغب عن النكاح

من يرغب عن النكاح Q ما رأيك فيمن أنهى المرحلة الجامعية، ولديه القدرة على الزواج من جميع النواحي، ولكنه إذا سأله واحد عن الزواج فإنه يقول: أنا أعلم أن الزواج سنة وأنه الأفضل، ولكن لا أجد في نفسي رغبة في الزواج؟ A ما له رغبة ماذا تصنع معه، هذا رجل يرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

إعراض بعض السلف عن الزواج تفرغا لحب الله

إعراض بعض السلف عن الزواج تفرغاً لحب الله Q كان أحد السلف معرضاً عن النكاح، ولما قيل له: لم لا تتزوج؟ قال: إن تزوجت انصرف الحب الذي أصرفه لله إلى تلك المرأة التي تزوجتها، فما تعليقكم على ذلك؟ A الإجابة ما سبق في كلام الإمام أحمد رحمه الله أن هذه بنيات في الطريق، فانظروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعليكم بها وما سوى ذلك فلا حجة فيه.

الجمع بين آية (إن يكونوا فقراء يغنهم) وآية (وليستعفف)

الجمع بين آية (إن يكونوا فقراء يغنهم) وآية (وليستعفف) Q ما هو الجمع بين الآيتين: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]؟ A الآية الأولى فيمن يمتنع عن النكاح خشية ألا يستطيع أن يقوم بأعباء النكاح فيما بعد، فيمكن أن نوسع الأمور وندبر له الزواج، لكن فيما بعد قد لا يجد المصدر، فالآية خطاب لهم: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي أن القضية المادية ليست عائقاً، أما الآية الثانية فهي في الذي لا يجد المهر، ولا يستطيع أن يجد تكاليف ابتداء الزواج. فالآية الأولى في استدامة النفقة بعد الزواج، وأما الآية الثانية ففي تكاليف الزواج ابتداء بحيث إنه لا يستطيع أن يجد المهر الذي يتزوج به، وسيأتي أيضاً مزيد تفصيل لها إن شاء الله.

إقبال الأب على فكرة تزويج ولده ثم إعراضه عن ذلك

إقبال الأب على فكرة تزويج ولده ثم إعراضه عن ذلك Q أنا شاب عرضت على أبي فكرة الزواج فسر بها واستبشر وحثني عليها، ثم بعد أن مضت فترة من الزمن أخطأت خطأ بسيطاً وهي زلة لسان مني، فإذا بأبي يفتر عن هذه الفكرة ويعرض عنها، بل وكأنه لم يعرفها بتاتاً، فما توجيهكم لي أولاً ولأبي ثانياً ولأمثالي ثالثاً؟ A توجيهنا لك أولاً أن تحاول أن تصحح الخطأ، ولعل ما يستقبل من الوقت يكون مدعاة لحل المشكلة، أما الأب فلا يجوز أن تكون مثل هذه القضايا التافهة عائقاً عن تحقيق هذا الأمر، والسنة التي يحتاج إليها الابن ويحتاج إليها المجتمع وتحتاج إليها الأمة جميعاً، وأما وصيتي لأمثاله ثالثاً فهي أن يحرصوا على الزواج.

منع الولد الزواج بحجة أنه لا يستطيع النفقة

منع الولد الزواج بحجة أنه لا يستطيع النفقة Q أنا طالب أريد الزواج وغيري من الأصدقاء كذلك، لكن العائق الوحيد الوالدان يقولون: من أين تعيشها وتلبسها وأنت طالب؟ A الإجابة على ذلك قول الله عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].

الامتناع عن الزواج مراعاة للأخت التي لم تتزوج

الامتناع عن الزواج مراعاة للأخت التي لم تتزوج Q أنا أريد الزواج ولكني أجد في نفسي شيئاً، حيث إن لي أختاً أكبر مني بثمان سنين ولم تتزوج وأخشى على نفسيتها من التحطيم، وأخشى أن ينظر الناس إليها بأنها لا تصلح للزواج بدليل أن ثلاثة من إخواني الذين هم أصغر منها قد تزوجوا، فما توجيهكم لنا حفظكم الله؟ A أولاً: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولا يعالج الخطأ بخطأ آخر، هذا ليس عائقاً، وليس صحيحاً أن الناس يتحطمون لأجل أن إخوانهم الصغار تزوجوا. ثم الأمر الآخر: أنت بإمكانك أنك تسعى لحل المشكلة، فإذا عرفت رجلاً يريد الزواج هو شخص صالح وخيّر فيمكن أن تدله عليها، وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يخطبون لبناتهم، وقد ورد ذلك عن أبي بكر وعمر وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يختارون لبناتهم الرجال الأكفاء، وليس ذلك عيباً، بل هو فخر.

التأخر عن الزواج حتى لا تشترط عليه عدم الخروج من البيت

التأخر عن الزواج حتى لا تشترط عليه عدم الخروج من البيت Q إذا دخلت في الزواج فإنها قد تشترط عليّ أن أُكثر من الخروج من البيت، وحتى النوم خارج المنزل، فكيف يمكن لي البقاء في المنزل فأنا لست بطفل ولا امرأة، وجزاكم الله خيراً؟ A هو يعني يمكن يحتاج الإنسان إذا تزوج في الأيام الأولى أنه فعلاً أنه قد لا ينام خارج البيت، لكن فيما بعد قد يحتاج إلى أن يسافر ويذهب، وإذا كانت المرأة تستوحش بإمكانه أن يضعها عند أهلها، على كل حال هذه العقبات أتصور أنها لا تصل إلى مستوى التفكير فيها فضلاً عن مناقشتها، وخاصة أن قضية الزواج ليست مجرد فضيلة من الفضائل أو سنة من السنن! بل هي قضية أساسية وقضية مهمة وضرورة، فلا يمكن أن ترقى مثل هذه العقبات إلى أن تناقش أصلاً في مقابلها فضلاً عن أن تكون عائقاً حقيقاً.

امتناع الفتيات من الزواج

امتناع الفتيات من الزواج Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) الحديث، انطلاقاً من هذا الحديث أردت أن أُكمل نصف ديني وأبحث عن زوجة صالحة لي، ولكني وجدت صعوبة في هذا الطريق، فتلك تريد أن تُكمل دراستها، وتلك ترفض، وتلك وتلك، فأرجو أن توجه نصيحة لمثل هذه النوعية من الفتيات، خاصة أن هذه المحاضرة مسجلة وقد تنتشر بين أوساطهن؟ A في الواقع كل هذه المحاضرة أعتبرها نصيحة لهؤلاء الفتيات والشباب، والمشكلة أن الفتاة فيها أشياء لكن مزعجة لا نحب أن نزعجكم ونزعج الناس بها، وإلا فهناك أرقام مزعجة، لو أجرى واحد منكم إحصائية لمدرسة من المدارس لوجد عدداً كبيراً من النساء العوانس اللاتي فاتهن القطار. وكم تجد من الفتيات من تتأخر بحجة أنها تحتاج مواصفات محددة في الزوج الذي تريده، أو تريد أن تُكمل الدراسة وتواصل الدراسة، ثم تكمل الدراسة وتتخرج وتتوظف، وماذا تصنع بعد ذلك في الوظيفة؟ تبحث عن زوج! لقد فاتها القطار، ولن تجد من يتزوجها إلا رجل عنده زوجة ثانية، وهي تشعر أنها مدرسة ومثقفة ومتعلمة وينبغي أن تكون زوجة وحيدة، أو تجد رجلاً كبير السن، أو تجد رجلاً لم يجد من يزوجه فاضطر إلى مثل هذه الفتاة الكبيرة؛ لأنه لم يجد إلا مثل هذه الفتاة التي قد تخرجت أصلاً من الدراسة وقد كبر سنها، أو بينه وبينها فارق كبير في السن، لكن حينما تتزوج وهي تدرس وهب أنها لم تكمل دراستها فالحياة الزوجية والأمومة والمنزل ورعايته خير لها بكثير من أن تتأخر ثم بعد ذلك تعض على أصابع الندم.

حكم الزواج بامرأة أكبر سنا من الرجل

حكم الزواج بامرأة أكبر سناً من الرجل Q هل يجوز نكاح زوجة أكبر سناً من المتزوج؟ A هذه قضية ليس فيها حرج، ولعلكم تعرفون الشواهد على ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وهي تكبره وأولى زوجاته، لكن عموماً أنصح الشاب أن يحرص على أن يتزوج من هي دونه في العمر، هذا هو الأصل، والقاعدة أن يكون بينه وبينها فارق زمني معقول أيضاً، لكن إذا زاد الفارق الزمني أيضاً فهذا وضع غير طبيعي، كإنسان عمره خمسين سنة أو خمسة وخمسين سنة يتزوج فتاة عمرها ثماني عشرة سنة! هذا أنا أعتبر أنه من الظلم للفتاة؛ لأن هذا لن يملأ الفراغ، ولن يحقق عندها الإشباع العاطفي، فهي فتاة تريد شاباً تعيش معه هموماً مشتركة، ومصالح مشتركة، وإلى غير ذلك، فمثل هذا الرجل كبير السن لا يمكن أن يحقق لها مثل هذا الفراغ، وقد ينتج عن ذلك نتائج سيئة، وبإمكانه أن يتزوج فتاة أكبر منها سناً ممن لم تتزوج.

مواصفات الزوجة الصالحة

مواصفات الزوجة الصالحة Q الزواج يعتمد كثيراً بعد الله عز وجل على نوعية الزوجة وعلى طبيعة تربية النفس على أحكام الزواج من حسن عشرة وغير ذلك، فتعلمون أن بعض الشباب قد يتزوج زوجة تعطله كثيراً عن الخير والدعوة والجهاد والعلم، فهلا ذكرت بعض النصائح والمواصفات في الزوجة الصالحة، وذكرت أيضاً بعض النصائح في سلبيات الزواج، وكيفية تجنبها؟ A النبي صلى الله عليه وسلم يقول باختصار: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ومن أهم المواصفات في الزوجة الصالحة أن تكون ذات دين، ومطيعة لله عز وجل، ثم أن تتخلق بخير ما يُمدح به النساء وهو الحياء، وأن تكون حسنة الخلق ليست شرسة ولا طويلة اللسان، وأن لا تكون كثيرة التشكي والجزع إلى غير ذلك، هذه من أهم المواصفات، قد يبقى أحياناً عند الإنسان مواصفات ومطالب خاصة تخصه هو، هذه قضية تعنيه هو. أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

أخطاؤنا في علاج الأخطاء

أخطاؤنا في علاج الأخطاء الإنسان عرضة للوقوع في الخطأ، ولكن إذا علمه من نفسه أو أعلمه به غيره فينبغي أن يعمل على تصحيح خطئه، ولكن من الملاحظ أننا عند علاج الخطأ قد نقع في أخطاء كثيرة ينبغي التنبه لها والعمل على تداركها.

أهمية الكلام على عن علاج الأخطاء

أهمية الكلام على عن علاج الأخطاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فلعله من طيب الفأل أن يتكرر لقاؤنا في مبدأ هذه الإجازة، وأظن أنا التقينا في مبدأ الإجازة الماضية في هذا المركز الصيفي ثانوية العز بن عبد السلام بالرياض في محاضرة كانت بعنوان: (كلانا على خير)، وكما ذكرنا في العام الماضي إن كنتم تتذكرون أن الدروس التربوية الشهرية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي تتوقف وتوزع في الإجازة على بعض المراكز أو المساجد، وهذا هو الدرس الأول في هذه الإجازة وكان آخر درس بعنوان: (وأنكحوا الأيامى منكم). معشر الإخوة الكرام ليس غريباً أن نتحدث عن الأخطاء ونتحدث عن علاجها، وليس غريباً أن يتحدث أي متحدث عن الأخطاء سواء أكان حديثه من خلال منهج منضبط أم غير ذلك، ومن يتحدث عن الأخطاء لابد أن يجد أمامه رصيداً ضخماً؛ لأن البشر أياً كانوا، أياً لابد أن يقعوا في الخطأ والذنب فضلاً عن الخطأ الآخر الذي ليس إثماً ولا ذنباً إنما هو من قبيل الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه. إذاً: فما دام الخطأ صفة ملازمة للبشر فإننا بحاجة إلى الحديث عن منهج علاج الأخطاء، وما دمنا نرى الأخطاء أمام ناظرينا فنحن بحاجة إلى أن نضبط المنهج حتى لا نقع في الخطأ ونحن نعالج الخطأ، وأمامي عدة أخطاء أشعر أننا جميعاً نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء سواء كانت أخطاء أنفسنا فالمرء يدرك الخطأ والتقصير من نفسه ويسعى إلى تصحيحه وعلاجه، أو كانت أخطاؤنا في الميادين التربوية من خلال الأسرة أو من خلال المدرسة أو من خلال أي مؤسسة تربوية، فهي لابد أن تكتشف أنها تقع في الخطأ ومن ثم كانت بحاجة إلى أن تترسم معالم منهج واضح منضبط في علاج الأخطاء والتعامل معها. ونحن أيضاً بحاجة إلى انضباط المنهج في التعامل مع الأخطاء في علاج أخطائنا العامة التي تقع في مجتمعاتنا والتي نسعى إلى علاجها، ونحن نقول هذا لأننا نرى جميعاً أننا نرتكب أخطاء باسم علاج الخطأ، وباسم التصحيح، وربما كان هذا الخطأ أكثر شناعة وأكثر خطأً من الخطأ الأول، وذلك راجع إلى افتقاد المنهج، إن من يسعى إلى تصحيح الخطأ قد يتصور أن حسن مقصده وسلامة نيته كاف في انضباط منهجه، فيرى أنه ما دام يريد الإصلاح والنصح فهذا وحده كاف في أن يرفع عنه اللوم، وهذا يؤهله أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يريد وأن يرتكب ما يحلو له باسم تصحيح الخطأ، ولئن كانت النية الحسنة وحدها ليست كافية في سلامة أي عمل وأي قول فهي كذلك أيضاً في تصحيح الخطأ. ومن ثم كنا بحاجة إلى الحديث عن منهج تصحيح الأخطاء، وإلى الوقوف عند بعض أخطائنا التي نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء، وربما كانت أكثر خطأً من الخطأ الذي حاولنا علاجه وإزالته. وسنطوف في هذه القضايا أمام ميدان واسع رحب، فسنتحدث تارةً عن أخطاء أنفسنا، وتارة عن علاج الأخطاء التي تقع في المؤسسة التربوية الأولى (الأسرة)، وتارة في الأخطاء التي تقع في المؤسسات التربوية الأخرى كالمدرسة وغيرها، وتارة نتحدث عن المجتمعات وعن الصحوة، ولا جامع لهذا الحديث إلا أنه حديث عن الأخطاء لمعالجة الأخطاء.

الأخطاء التي ترتكب عند التعامل مع الأخطاء

الأخطاء التي ترتكب عند التعامل مع الأخطاء

إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح

إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح أول خطأ نرتكبه في التعامل مع الأخطاء: إهمال علاج الخطأ أصلاً، والتهرب من التصحيح. وهو أسلوب قد يسلكه المرء مع نفسه، فيمارس حيلاً لا شعورية، يتهرب فيها من المسئولية، ويتهرب فيها من تحميل النفس الخطأ، ويرفض أن يواجه بخطئه، ويرفض أن يقال له: أخطأت، فهو يرفض النقد جملة وتفصيلاً، تصريحاً وتلميحاً إشارة أو عبارة، وأحياناً أيضاً نرفض الخطأ في مناهجنا التربوية. إننا لا بد أن نقع في الخطأ في ذوات أنفسنا أو في أعمالنا، في مؤسساتنا التربوية، أو على مستوى مجتمعاتنا ككل، أياً كانت أعمالنا وجهودنا لا بد أن نقع في الخطأ فيها، وحينئذٍ لا بد من المصارحة والوضوح والاعتراف بالخطأ، ورفض الحديث عن الأخطاء إنما هو استسلام للخطأ وإصرار عليه. إنه لا يليق بالمرء أن يرفض المصارحة مع نفسه ومناقشة أخطائه، وأن يتهم النقد الموجه له من الآخرين، وكذلك لا يسوغ لنا داخل مؤسساتنا التربوية أن نرفض المراجعة. إن من حقنا، بل من واجبنا أن نتحدث عن الأخطاء التي يقع فيها الأب تجاه تربيته لأبنائه حديثاً واضحاً صريحاً، ومن حقنا أن نتحدث عن الأخطاء التي تقع فيها الأمة في تربيتها لأبنائها وبناتها حديثاً صريحاً واضحاً. إن من حقنا بل من واجبنا أن نطلب المراجع لمناهجنا التربوية، سواءً كانت في المؤسسة التعليمية أم التربوية، ومن حق أي ناقد مخلص أن يطالب بالتصحيح، وأن يبدي وجهة نظره في مناهج التربية وبرامجها داخل مؤسسات التربية الرسمية أو غيرها. ومن حقنا داخل قطاع الصحوة أيضاً أن نرفع أصواتنا، وأن نطالب بإعادة النظر والتصفية ومراجعة البرامج التربوية تارة بعد أخرى، والتهرب من النقد والمراجعة واتهام من ينتقد إنما يعني الإصرار على الخطأ، واعتقاد العصمة للنفس، فلا بد أن نتربى وأن نربي غيرنا على أن تكون لغة النقد البناء لغة سائدة بين الجميع، وعلى أن يكون الحديث عن الأخطاء حديثاً لا تقف دونه الحواجز ولا العوائق، ما دام ذلك داخلاً في إطار النصيحة.

ردة الفعل وعلاج الخطأ بالخطأ

ردة الفعل وعلاج الخطأ بالخطأ الخطأ الثاني: ردة الفعل، وعلاج الخطأ بخطأ آخر. وهذا غالباً ما ينشأ عن زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ، ولنضرب على ذلك أمثلة: قد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه، وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر، فربما كلف نفسه ما لا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ. فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء مثلاً أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه، فسيسعى إلى تصحيح الخطأ، ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيقه ولا يصبر على بعضه فضلاً عن أن يحيط به كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع، ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع، أي: بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها، وبين ما كان يمكن أن يصل إليه من قدرٍ من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، فلو رسم لنفسه مثلاً مقداراً من الحفظ أو قدراً من الوقت يقرأ فيه، أو قدراً من الدروس العلمية يلتزم بحضورها، واكتشف بعد فترة أن هذا البرنامج كان مثالياً وأنه خطأ، فإنه لا يعود إلى التوازن حتى وهو يصحح هذا الخطأ. إذاً: فيجب أن نحذر الحذر الشديد عند تصحيح أخطاء أنفسنا من الوقوع في ردة الفعل التي قد توقعنا في الغلو والمبالغة، أو قد توقعنا في خطأ آخر في طرف مقابل. فهذا الذي اكتشف أنه قد وقع في خطأ وإهمال في طلب العلم الشرعي قد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات أخرى، وما أكثر ما نقع في ذلك! وقد يكون الخطأ تجاه أعمال الآخرين، فقد جاء مثلاً أعرابي إلى المسجد وبال فيه فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا هذا الخطأ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعالجوا الخطأ بخطأ آخر كما هو معلوم. بل القضية تتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسئولة عن رسم المناهج أصلاً. فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها، ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا المنهج، ولا طريق إلا هذا الطريق، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق لا يتصرف هذا التصرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو ضال منحرف زائغ، فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير، وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، ولا نريد أن نضرب الأمثلة فهي واضحة؛ لأن ضرب الأمثلة قد يثير بعض الحساسية، خاصة في الحديث عن مناهج التغيير والمناهج الدعوية. لكن أنت لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة، لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى، والغالب أن الموقف الذي تتحكم فيه ردة الفعل يقع في خطأ آخر مقابل الخطأ الأول، وربما كان أشد خطأً منه. إذاً ونحن نعالج الأخطاء، سواء كانت أخطاء أنفسنا أو أخطاء الآخرين، فلا يسوغ أن نعالج الخطأ بخطأ آخر، ولا يسوغ أن ننطلق من ردة فعل دون تأمل فيما نريد أن نسعى إليه، ودون تأمل في المنهج الذي نطرحه بديلاً لعلاج ذلك الخطأ.

رفض التصحيح العلني

رفض التصحيح العلني ثالثاً: من أخطائنا في معالجة الأخطاء: رفض التصحيح العلني للأخطاء جملة. نعم هناك أخطاء ينبغي أن تصحح من خلال قنوات خاصة، ومن خلال طرق شخصية وسرية، لكن ثمة أخطاء ومنكرات وقضايا لا بد أن يتحدث عنها، ولا بد أن تعالج تحت ضوء الشمس، ولا بد أن تعالج بوضوح، ومناط الأمر في ذلك كله يعود إلى المصلحة الشرعية، فحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ سراً وبطريقة شخصية، فإنه ينبغي أن يعالج كذلك، وحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ بصورة علنية واضحة، فالطريقة المثلى هي هذه الطريقة. وإذا كان الأمر يدور مع المصلحة الشرعية، فلا شك أننا قد نجد داخل هذه الدائرة مجالاً للاجتهاد في بعض الجوانب. لكن أن نرفض التصحيح العلني للأخطاء جملة فهذا منهج مرفوض، وهو ناشئ أصلاً من عقدة رفض النقد ابتداءً، حيث قد تربينا على رفض النقد، وتربينا على اعتبار أن النقد والحديث عن الأخطاء يعني بالضرورة الضلال والتأثيم والفشل والعداوة إلى غير ذلك من اللوازم التي نربطها بتصحيح الخطأ، وسيأتي مزيد حديث عن هذه القضية، لكن لو افترضنا ورأينا أنه يمكن أن يكون هناك حديث ونقد بناء عن الخطأ مع حسن النية وسلامة المقصد لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يمكن أن يستفيد منه الجميع، ونحن نرى مثلاً ونقرأ في الصحف كثيراً من المقترحات ونقد بعض الأوضاع في المجتمع والمطالبة بالتصحيح، فنرى مثلاً من يطالب بزيادة اليوم الدراسي، ونرى من يطالب بإضافة مادة من المواد، وبتقليص مادة من المواد، والجميع يتحدثون ولا أحد يرى أن في مثل هذا الحديث طعناً في المناهج التربوية، واتهاماً لها بالفشل والقصور، وعدم الوفاء بمتطلبات العصر، بل الجميع يرون أنه يمكن أن نتحدث ونقترح، وليس بالضرورة أن يكون كل حديث صواباً صحيحاً، ثم ليس بالضرورة أن يكون كل حديث عن الخطأ إنما هو حديث مقرون بسوء النية والمقصد، لكن حين يتحدث المصلحون مثلاً عن المطالبة بالتصحيح يواجهون بألوان من الإرهاب الفكري والمحاصرة للكلمة من الصادقين ابتداءً قبل غيرهم، كمن يقول: إن في هذا الكلام طعناً واتهاماً وإثارة للبلبلة إلى غير ذلك من الأوصاف التي يوصف بها الناصحون. إن مجتمعات المسلمين تعاني من أزمات كثيرة، ولنذكر مثلاً مشكلة المخدرات، فهي مشكلة تعاني منها مجتمعات المسلمين أجمع، والدليل على هذا أنك لا ترى دولة من دول المسلمين إلا وفيها جهاز أمني متكامل لمكافحة المخدرات، ويتحدث عنها في الصحف ووسائل الإعلام ويكتب عنها تحذيراً من الوقوع في هذه المشكلة، ومحاولة لعلاج من وقع فيها، إلى آخر المقاصد التي تدفع للحديث عن هذه المشكلة، ونرى أن مشكلات مجتمعات المسلمين الأخرى شأنها شأن هذه المشكلة ينبغي أن نتحدث عنها بوضوح، وعن انتشارها في المجتمعات، فلماذا تكون عندنا حساسية مفرطة، فعندما يتحدث عن انتشار بعض المشكلات في المجتمعات يقال إن في هذا تشكيكاً في المجتمع، وفي هذا إثارة للبلبلة وهذا الحديث طعن في المجتمع إلى غير ذلك، ولم يقل أحد من الناس مثلاً إن تخصيص أجهزة خاصة لمكافحة المخدرات يعني اتهام المجتمع بأنه غارق في ظاهرة المخدرات. وحين نعود إلى تاريخ الأمة نرى أنها بنت منهجاً واضحاً للنقد العلني الواضح، ولم تر ذلك يعني الطعن ولا التشكيك، فيقوم أحد الرعية لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبر، فيواجهه بالحديث عن الخطأ علانية، ويناقشه عمر رضي الله عنه حتى يقتنع الجميع، وتحصل الحادثة نفسها مع معاوية رضي الله عنها وهو خليفة. ونرى تلك الاختيارات الفقهية التي اختارها عمر، أو عثمان أو علي أو غيرهم حول جمع المصاحف، أو حول متعة الحج، أو حول الإتمام في الحج واجهت انتقاداً علنياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أنهم لا يزالون إخوة. ونرى مثلاً أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ينكر على مروان حين كان والياً على المدينة، وقد قدم خطبة العيد على الصلاة، فيقول له في محضر من الناس: خالفت السنة يا مروان. ونرى من ينكر على بشر حين حرك يديه في الخطبة ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يشير بالسبابة. وحين ندعو إلى إهمال التصحيح العلني والحديث عن الأخطاء، فإن هذه دعوة إلى إلغاء التراث الذي حفظ لنا عن انتقاد المبتدعة، والحديث عن أسمائهم، والحديث عن أخطائهم، وانتقاد مناهجهم، وهذا يدعو إلى أن نصادر كل حدث وكل رواية وكل موقف قام فيه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قام فيه سلف الأمة، أو قام من تلاهم بعد ذلك من الناصحين، وأن نغض الطرف عنها، وأن لا نخرجها للناس؛ لأن هذه تربي الناس على الحديث العلني عن الخطأ. بل لعل هذا المنهج يدعونا إلى التعسف في تأويل نصوص صحت عنه صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس، فقد بايع صلى الله عليه وسلم أصحابه على السمع والطاع

المثالية

المثالية رابعاً: من أخطائنا في معالجة الأخطاء: المثالية. أن نكون مثاليين، فنطلب من أنفسنا أو من أبنائنا أو بناتنا، أو مجتمعاتنا، أو جيل الصحوة صورة مثالية، ثم نحاسبهم عليها، فالأم -مثلاً- كثيراً ما تعاتب أطفالها، وربما تعاقبهم على أخطاء لا بد أن يقع فيها الطفل ما دام طفلاً، فحين يأتي الطفل ويعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار تعاتبه الأم وتعاقبه، وربما كانت العقوبة شديدة. وهي تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً، فلا يسيء إلى إخوانه الصغار، ولا يعبث بالتراب، ولا يعبث بالأثاث، ولا يرفع صوته، ولا يبكي، ولا إلى آخر هذه القائمة. ولو راجعنا تعاملنا مع أبنائنا الصغار؛ لرأينا أننا مثاليون كثيراً، فنطلب منهم صورة مثالية لا يمكن أن يصلوا إليها، وبناءً على هذه الصورة التي نرسمها نحاسبهم عليها، فنحن نرسم صورة نريد أن يصلوا إليها، وحين يتخلفوا عن هذه الصورة، نرى أنهم قد وقعوا في الخطأ، وقل مثل ذلك مثلاً في الدعاة إلى الله عز وجل، وطلبة العلم، والشباب الأخيار، فالمجتمع وغيره ممن ينظر إليهم يطلب منهم صورة مثالية، وأقول بكل ثقة: إننا كثيراً ما نطلب منهم أن يكونوا معصومين، فنطالب منهم التجرد عن ذواتهم، والارتفاع عن كل ما يقع فيه البشر، وحين نرسم صورة مثالية للداعية أو لطالب العلم فهي صورة نظرية بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، وبعيدة عن الواقع البشري، لكننا نحاسبهم عليها، ويترتب على هذا أن نعتبر من الأخطاء ما ليس كذلك. وقل مثل ذلك مثلاً في الطالب: فالأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام، فلا يسيء الأدب مع أستاذه في استئذانه وحديثه، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام، ولا بد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل، ولا أن يغيب، ولا أن يمرض، ولا أن تصيبه عوارض، فيرسم هذه الصورة ويحاسب تلميذه بناءً عليها، ويطلب من التلميذ أن يعيش في جو مثالي، والأستاذ نفسه حين كان تلميذاً لم يصل إلى جزء مما يطالب تلامذته أن يصلوا إليه، وحين يكون الأستاذ والمربي واقعياً في التعامل مع من يربيه، فهو حينئذ لا بد أن يأخذ في الذهن أنه يتعامل مع بشر تأخذه عوارض النقص والغفلة والنسيان والهوى إلى غير ذلك، فحينئذٍ يضع الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها المعقول.

الاعتذار المفرط

الاعتذار المفرط الخطأ الخامس: خطأ مقابل للخطأ السابق، وهو أن نعتذر بأننا بشر: صحيح أن البشر لا بد أن يقعوا في الخطأ، لكن ليس هذا عذراً نضرب به في وجه كل من يطالب بالتصحيح، وحين نقول هذا العذر فإننا يجب أن نقوله ونحن نحمل العزيمة والإرادة الجادة والاستعداد للتصحيح، وأن نحمل تبعة هذا الخطأ. أضرب لك مثالاً: أنظمة المرور تطالب الإنسان الذي يسير في الطريق أن يكون منتبهاً، وأن يضع مسافة بينه وبين السيارة التي أمامه، لكن الإنسان بشر قد ينشغل فتقف السيارة التي أمامه فجأة فيصطدم بها، وحين يطالبه هذا الشخص بأن يتحمل مسئولية الخطأ الذي وقع فيه، وأن يقوم بإصلاح سيارته فإنه لا يقبل منه بحال أن يعتذر عنه بأنه بشر والبشر قد ينسى وقد يسهو وقد يغفل، وقد وقد، نعم قد يفعل ذلك كله، لكن عليه أن يتحمل تبعة الخطأ الذي وقع فيه، فيقوم بإصلاح ما أفسد، ولهذا فالخطأ الذي يقع من الإنسان ويترتب عليه تلف في أموال الآخرين أو أبدانهم لا يعذر فيه بالخطأ عن التبعات، فقتل الخطأ مثلاً يطالب الإنسان فيه أن يدفع الدية، ولو أتلف مال غيره خطأً فهو مطالب بالضمان، مع أنه بشر، وقيمة الخطأ هنا أنه رفع عنه الإثم، لكن بقي أن يتحمل تبعة الخطأ. المقصود أننا يجب أن نتوازن، فلا نطلب من الناس المثالية، ولا ندافع عن أخطائهم، ونسوغ أخطاءهم بحجة أنهم بشر، فقد نرى الأب كثيراً ما يعتذر عن ابنه بأنه مراهق، وأن هذا شأن الشباب، وقد نرى أستاذاً يعتذر عن حال طلابه بأنهم مراهقون، وربما نعتذر عن الكبائر بحجة أن من يفعلها بشر، وبحجة أنهم مراهقون، وبحجة أنهم يعيشون في عصر مليء بالفتن والمغريات إلى غير ذلك.

أساليب الإسقاط والتبرير وغيرها من أساليب الدفاع عن الأخطاء

أساليب الإسقاط والتبرير وغيرها من أساليب الدفاع عن الأخطاء الخطأ السادس: أساليب الإسقاط والتبرير وغيرها من أساليب الدفاع عن الأخطاء: قد نعترف بالخطأ لكننا لا نحمل أنفسنا مسئولية الخطأ، فنحاول مثلاً أن نحمل غيرنا الخطأ، أو نحاول أن نبحث عن أسباب وعوامل وهمية نعلق عليها مسئولية الخطأ، وقد تحدثنا عن هذه القضية في درس سابق بعنوان: (دعوة للمصارحة) فلا نريد أن نطيل فيها.

الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ

الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ الخطأ السابع: الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ. عندما نقول إن هذا الأمر خطأ فعلى أي أساس اعتبرنا أن هذا الأمر خطأ، فأحياناً قد نعتبر الخروج عن المألوف خطأ، وقد نعتبر من يأتي بشيء جديد مخطئاً، لا لشيء إلا لأنه جاء بأمر جديد لم نألفه، وأظن أن هذا المنطق مرفوض من الجميع، وهذا منطق عقلية الذين يرفضون التجديد، والمنطق نفسه هو الذي قاد قوماً من الناس إلى أن قالوا: إنا وجدنا آبائنا على أمة. أيضاً: أن يكون المقياس مثلاً قول فلان من الناس، فنعتبر أن من خالف قول فلان من الناس فقد أخطأ، ونعتبر أن فلاناً هذا هو الحاكم على أقوال الناس وعلى أعمال الناس، وهذا منهج مرفوض تحدث عنه أئمة الإسلام، ممن تحدث عن ذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، ومما قاله في ذلك: وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة ونحوهم، إلى آخر كلامه. يعني أنك مثلاً عندما يقول فلان من الناس قولاً يخالف قول هذا الرجل الذي جعلته حكماً، فإنه وإن خالف قول هذا الرجل الذي هو أعلم منه ولا شك وأتقى منه، إلا أنه قد وافق غيره ممن هو أعلم من هذا العلم الذي نصبته حاكماً على أقوال الناس وعلى آرائهم. وقال أيضاً: قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك. فالحكم هو الكتاب والسنة، ولا يسوغ أن نجعل قول فلان من الناس هو المقياس فمن خالفه وشذ عنه فهو الواقع في الخطأ، وهذا منطق المقلد، ومنطق الإرهاب الفكري، فليس أحد كائناً من كان حجة على هذه الأمة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجادل ويحاج ويخطئ الناس ينبغي أن يجادل ويحاج بالمنطق والدليل والبرهان الشرعي.

الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد

الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد الخطأ الثامن: الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد: وذلك أن هناك مسائل هي مسائل اجتهاد الأمر فيها سائغ، وقد اختلفت الأمة فيها، ولا يزال الخلاف فيها إلى أن تقوم الساعة، وحين نعمد إلى تخطئة الناس في هذه المسائل، وربما التشنيع والتغليظ عليهم فإن هذا منهج مرفوض. وقد تحدث الأئمة عن ذلك في باب الإنكار، قال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بغير مذهبه، فإنه لا إنكار في المجتهدات. وقال الإمام النووي، ثم العلماء لا ينكرون إلا ما أجمعت عليه الأمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين. فما بالكم بما هو أعلى من الذم من الاتهام بالضلال والانحراف والخلل في المنهج، إلى غير ذلك، بحجة أنه خالف في مسألة من مسائل الاجتهاد! وقال أيضاً: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، والأقوال عن الأئمة في ذلك محفوظة مشهورة مدونة، أن مسائل الاجتهاد وهي التي ليس فيها دليل قاطع صريح من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ أن ننكر على الناس فيها، ونخطئهم ونؤثمهم خاصة إذا انطلقوا من الاجتهاد، بل إننا نرى أن هناك من يحول بعض مسائل الاجتهاد إلى أصول وإلى منهج فيقيم الناس من خلاله ويضللهم ويخطئهم ويؤثمهم عليه. ولنضرب على ذلك مثالاً حتى تكون الصورة واضحة: نحن مثلاً في هذا المركز الصيفي، يقوم بعض الإخوة العاملين في المراكز الصيفية ببعض الأنشطة المستحدثة المعاصرة والتي اختلف أهل العلم في مشروعيتها وعدم مشروعيتها، وعلى سبيل المثال مثلاً قضية التمثيل وغيره، ولا نريد أن نخوض في هذه المسائل، لكن أياً كان الرأي الذي نصل إليه، فهي مسائل اجتهاد ليس فيها نص صريح واضح يقطع بحرمتها وعدم مشروعيتها أو يقطع بالعكس، ولئن توصلت أنت إلى قناعة تامة أدت بك إلى أن لا تشك في أن قولك حق، فيجب أن تتصور أن هناك من أهل العلم الذين لا يقلون عنك علماً وورعاً قد قالوا بخلاف ذلك، وهذا لا يعني بالضرورة أن قولهم أصح من قولك، لكنه يعني أن القضية دائرة في مجال الاجتهاد، فلماذا تقام معارك حول هذه القضية، ونجعل هذه القضية من المنهج الثابت للدعوة، بل لمستوى أن تجد من يجعل أن من منهج الدعوة تحريم التمثيل، أو يعتبر بعض الناس عندهم خلل في منهج الدعوة وذلك أنهم يقعون في التمثيل، يعني إذا قررت أنها خطأ فضعها في حجمها الطبيعي، وافترض مثلاً أنه آثم، مع أننا لا نرى أنه آثم ما دام مستنداً على اجتهاد وفتوى لأحد من أهل العلم في مثل هذه المسألة، فغاية ما عنده أنه مجتهد مخطئ، لكن حتى لو قررت أنه آثم فهل يعني أنه صار منحرفاً ضالاً، وصار عنده خلل في المنهج، وينبغي منابذته وهجره، وأنه لا يمكن أن يصلح الأمة ولا يمكن أن يفعل خيراً إلى غير ذلك. بل هناك من يشن حرباً على بعض هذه الأنشطة ولو ناقشته وجدت أن السبب هو هذه القضية وقل مثل ذلك في قضايا أخرى، وكلها ناشئة عن ضيق العطن حول مسائل الاجتهاد وحول التعامل معها، فقد يبحث البعض مثلاً مسألة من مسائل الاجتهاد، ويستقصي أدلتها فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل على هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس. فقد يبحث البعض مثلاً مسألة من مسائل الاجتهاد ويستقصي أدلتها، فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل إلى هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس، لكن ليس من حقه أن يصادر اجتهادات الآخرين وأن يسفه قناعاتهم بحجة أن هذا هو مقتضى الكتاب والسنة، وهو ما تؤيده الأدلة الشرعية، فالمعرض عنه معرض عن الكتاب والسنة، والرافض له رافض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إما مقلد أو صاحب هوى، وكم تقذف لنا المطابع ودور النشر من كتاب يبحث مسألة من مسائل الاجتهاد، والتي اختلف السلف فيها، ولكل قول مرجح من الأئمة المعتبرين، فتقرأ في مقدمة الكتاب أو البحث أن هذا البحث جاء ليضع النقاط على الحروف في هذه المسألة المعضلة والتي كثر الجدل حولها وطال، ويبحث صاحبنا فيجير كل القواعد الحديثية والفقهية والأصولية لصالح ما توصل إليه. ونحن لا نعترض على بحث هذه المسائل والاستقصاء فيها ونقاشها، لكن أن يصور الباحث للناس أن هذا البحث جاء ليقطع في هذه المسألة، ويضع النقاط على الحروف، ويستخدم كل القواعد الأصولية والفقهية، وكل قواعد مصطلح الحديث لتؤيد قوله في هذه المسألة التي اختلفت فيها الأمة من قبل، فأظن أن هذا منهج مرفوض. نعم. من حقك أن تقضي ساعات طويلة في تقرير قولك، بل تؤلف وتناظر عليه، لكن ينبغي أن تحترم اجتهادات الآخرين، وينبغي أن ترى أنه مع ذلك لا تزال هذه المسألة مسألة اجتهاد. وقد نرى الصورة تتكرر في مجال آخر، فقد يأتي بعض الناس إلى تحقيق كتاب لأحد الأئمة، ويرجح الإمام ابن القيم أو غيره قولاً في مسأ

افتراض التلازم بين الخطأ والإثم

افتراض التلازم بين الخطأ والإثم من الأخطاء وهو الخطأ التاسع: افتراض التلازم بين الخطأ والإثم والضلال، وذلك أننا قد نتصور أن الخطأ يعني بالضرورة الإثم، وأننا حينما نقول: أخطأ فلان، معناه أنه آثم، وأنه منحرف، وأنه غير مؤهل، إلى غير ذلك، وهذه من أكبر العقد لمواجهة النقد، وأظن أننا لو حطمنا هذا الوثن، ولو قضينا على هذه الإشكالية لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد. وذلك مثلاً: أن نتصور أنه عندما يأتي شخص ويقول إن فلاناً من الناس أخطأ، فلا غضاضة، ولا يعني أنه فاشل، ولا آثم، إلى غير ذلك، حين نستوعب هذه القضية وتكون واضحة يهون الخطأ عندنا، ونتقبل النقد، لكن المشكلة أننا نتصور أن من يقول: إن فلاناً أخطأ فهذا يعني اتهامه بالجهل، والحط من شأنه وعلمه ومكانته، ولهذا عندما تتحدث عن قضية وتخالف اجتهاد غيرك يشغب عليك في الحديث عن مكانة العالم، أو مكانة فلان أو إلى غير ذلك، وكأن هذا اتهام لك بأنك لا تعتبر مكانة لأهل العلم. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة -يعني في القضايا التي يعلم أنها ذنب حقاً- وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا ما اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارةً يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون إنهم باغون بالخطأ، لأنهم لا يعرفون التوسط وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون، ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال. وقال أيضاً: وإذا ثبت في الكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عموماً محفوظاً، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطئه. افتراض التلازم بين الخطأ والإثم، أو الخطأ والانحراف، ينشأ عنه خطآن: الخطأ الأول: رفض التصحيح والنقد؛ لأنه بالضرورة يعني التأثيم والضلال. الخطأ الثاني: الطعن في الشخص أو اعتقاد زيغه إذا وقع في الخطأ. لكن لو فرضنا أنه لا تلازم وأن الخطأ لا يعني الإثم، وهذا من منهج أهل السنة كما قرره شيخ الإسلام فإننا نستطيع أن نتقبل القول أن فلاناً من الناس يقع في الخطأ، ونحفظ له مكانته وقيمته، وأنت عندما تكتشف عند نفسك خطأ رقم واحد واثنين وثلاثة، فترى أن الخطأ لا يعني أنك فاشل، يكون أمامك فرصة للتصحيح، لكن عندما ترى أن الخطأ يساوي بالضرورة الفشل، ويساوي بالضرورة عدم النجاح، فإن هذا سيكون عائقاً لك ومثبطاً عن التصحيح.

إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ

إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ عاشراً: إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ: أنت عندما تكتشف خطأً في نفسك، أو المربي عندما يكتشف خطأ في حق من يربيه، أو نحن عندما نكتشف خطأ في واقع الصحوة، أو واقع الدعاة أو غير ذلك، فإننا ينبغي أن نكون واقعيين، وأن نرى أن هذا الخطأ كان نتيجة تراكم عوامل عدة، وحين نسعى إلى تصحيحه فإن هذا يعني بالضرورة أن نعطيه المدى الزمني الكافي في تصحيحه حتى يمكن أن نصححه. لو اكتشف إنسان أنه حاد وسريع الغضب وأراد أن يصحح هذا الجانب في نفسه، فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يمكن أن يتحول من إنسان سريع الغضب سريع الانفعال إلى إنسان حليم بين يوم وليلة، لأنه لا بد أن يتدرج ويبقى وقتاً يربي نفسه. وعندما تكتشف عند طفلك أو عند ابنك أو عند من تربيه خطأ أياً كان، فمن الظلم أن تطالبه بتصحيح الخطأ في وقت يسير، وقل مثل ذلك في الصحوة، إن عمر الصحوة لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية نتاج تربية في المجتمع، ومن الظلم أن نحمل الصحوة الأخطاء التربوية التي في جيل الصحوة؛ لأن هذا الجيل نتاج تربية آباء وأمهات وتربية مؤسسات تربوية عامة، وهذا الجيل إفراز لمجتمع يعيشه، فالوضع التربوي الذي يعيشه هو إفراز لكل هذه القضايا، وليس المسئول عنه بالضرورة من يربيه ولا الصحوة ذاتها، وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل ونسعى إلى منهج من النضج فإننا ينبغي أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين.

إحراج الواقع في الخطأ

إحراج الواقع في الخطأ الخطأ الحادي عشر: إحراج الواقع في الخطأ: حين نريد أن نصحح الخطأ عند إنسان يقع في الخطأ، فلا يسوغ أن نحرجه، ومن ذلك مثلاً أن لا نعطيه فرصة للتفكير، فأنت عندما تريد أن تصحح خطأ عند إنسان، فينبغي أن تعطيه فرصة للتفكير حتى يفكر في خطئه، وأن تعطيه أيضاً فرصة للتراجع، فمن طبيعة النفس أنه يصعب عليها الاعتراف بالخطأ، فأنت تحصره في زاوية ضيقة وترى أنه لا بد أن يعترف لك، وأن يقول: إنني أخطأت مائة بالمائة، وهذا منطق غير معقول، لكن يمكن أن تعطيه فرصة للتراجع، فتبحث له مثلاً عن المسوغات والمبررات التي أوقعته في هذا الخطأ، فقد تقول له: إنني أعرف أنك قد وقعت في الخطأ لسبب كذا وكذا وكذا، وأن هناك عوامل أدت للوقوع في الخطأ، وليس المقصود اتهامك بالخطأ، ولا تحميلك المسئولية، لكن نريد أن تصحح هذا الخطأ. أظن أنك عندما تسلك معه هذا المنهج فإنك تعينه على الاعتراف بالخطأ. وكذلك ينبغي اختيار الوقت والمكان المناسب لعلاج الخطأ. يعني: عندما يأتي الأب أو الأم فيلوم الطفل أمام إخوانه وأخواته لا يتقبل هذا اللوم، وكذلك الأستاذ حينما يلوم الطالب أمام تلامذته، وقل مثل ذلك في أي موقف؛ فعندما تأتي إلى إنسان وذهنه مشغول، أو إنسان في طور الحماس لرأيه والحديث عنه فهو موقف غير مناسب أن تواجهه بالحديث عن الخطأ، لكن عندما تنتظر إلى أن يهدأ حماسه وتناقشه في الخطأ، فإنك حينئذٍ تعطيه فرصة وتعطيه وقتاً مناسباً ولا تحرجه. المقصود أنه من الخطأ أن نحرج الواقع في الخطأ، وحينئذ نطلب منه أن يعترف اعترافاً واضحاً بلا تفصيل ولا غموض أنه مخطئ مائة بالمائة، أظن أننا حين نسلك هذا المنهج، فإننا سنفشل كثيراً في تصحيح أخطاء كنا يمكن أن ننجح فيها لو سلكنا منهجاً أكثر اعتدالاً وتوازناً.

اتخاذ المخطئ خصما

اتخاذ المخطئ خصماً الخطأ الثاني عشر: أن نفترض المخطئ خصماً: وهذا كثيراً ما ينشأ في الردود، حيث نفترض أنه خصم ونعامله على أن هذا خطأ وانحراف وضلال إلى آخره، واقرءوا الردود التي يكتبها بعض الناس ثم يقول: وأنا له ناصح أمين أن يراجع نفسه ويعلن توبته ويرجع عن خطئه إلى آخره، والجميع يعرفون أن هذا واقع عن اجتهاد وحسن نية، لكنك افتعلت خصومة، وربما ولدت عنده الحماس للوقوع في هذا الخطأ بأسلوبك. مثلاً: لو قام واحد منكم بعد هذا الدرس ليتكلم عن خطأ وقعت فيه وبدأ يعلق وقال: إن هذا الخطأ من الأخ المحاضر، وهذا فيه كذا وكذا ويخالف الإجماع والقياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وأقوال الأئمة، وبدأ يسرد لك، وأنا أنصح الأخ أن يتراجع ويعترف بخطئه. وأنا أجزم لكم أني لا أستطيع أن أعترف بالخطأ، وحتى لو رأيت في قرارة نفسي أني واقع في الخطأ، ثم هذا يدعوني إلى أن أتعصب لرأيي، وأبحث له عما يسوغه، لكنه لو سلك أسلوباً آخر كان يمكن أن يعالج في الخطأ، إذاً حين تريد أن تكون جاداً في تصحيح الخطأ، فلا تجعل المخطئ خصماً لك، وأما إن عاملته بالخصومة فاعرف حينئذٍ أنك لم تزد على أن أثرت الحماس عنده وعند أتباعه بخطئه الذي وقع فيه.

المبالغة في تصوير الخطأ

المبالغة في تصوير الخطأ الثالث عشر: المبالغة في تصوير الخطأ: لأنه قد يقع إنسان في خطأ من مسائل الاجتهاد أو هوى، فنضخم الخطأ ونعطيه أكبر من حجمه، ومنطق الحق والاعتدال أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي، وحجمه المعقول، وقل مثل ذلك في أسلوب الإنسان مع نفسه، أنه عندما يقع في خطأ يضخم الخطأ، وكثيراً ما يسلك الإنسان مع نفسه أن يضخم الأخطاء التي وقع فيها، ويعطيها أكبر من حجمها، فيتولد عنده شعور أنه فاشل، وأنه غير مؤهل للنجاح، فيجب أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي وحجمه الطبيعي، ولا نضخم الأخطاء.

الحديث عن طرف واحد من المخطئين

الحديث عن طرف واحد من المخطئين الرابع عشر: الحديث عن طرف واحد من المخطئين: مثلاً الحوادث التي تحصل في العالم الإسلامي، قد يأتي أحد المسلمين الغيورين، ويسلك أسلوباً خاطئاً في إنكار منكر من المنكرات التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين، وحينئذٍ يعامل بعنجهية وقسوة وظلم، فيعتقل ويقتل، كما يحصل في العالم الإسلامي وإذا بنا كثيراً ما نتحدث عن خطأ هذا الشخص ونقول إنه جر على نفسه، وجر على الصحوة وفعل وفعل، وأما الشخص الآخر فلا، وكم يدركك الأسف حين ترى بعض الناصحين وهم يتحدثون عن صراع يدور بين بعض الدعاة وبين أعداء لهم باطنيين كفار، ويعمد هؤلاء الباطنيون إلى مجزرة رهيبة لأولئك فيبيدون خضراءهم ويقتلون منهم الآلاف دون رادع أو وازع، ومع ذلك نرى من الأخيار من يتحدث عن خطأ هؤلاء وأنهم تعجلوا وجروا وفعلوا وفعلوا، أما أولئك الذين استباحوا الدماء فلا يمكن أن يتحدث عنهم ببنت شفة، وربما وقعوا في جريمة من أكبر جرائم الحرب، أليسوا بدلوا شرع الله، أليسوا أباحوا الحرام، ألم يقفوا بالمرصاد لمحاربة شرع الله عز وجل، لماذا لا نكون واقعيين ومنطقيين، ونعطي كل خطأ حجمه الطبيعي. هذا عندما نفترض أن هذا الداعية أخطأ في منهجه، لكن الآخر الظالم المجرم لماذا لا نتحدث عن خطئه، وإذا ادعينا مثلاً أنه يمكننا الحديث عن خطأ هذا الظالم المتجبر فلنترك القضية كلها؛ لأننا حين نتحدث عن ضرر طرف واحد ضعيف نصور للناس أن هذا الشخص بريء، وأنه حين أراق الدماء وحين فعل ما فعل، فهو غير مسئول، والمسئول الأول والأخير هو ذاك الذي وقع في الخطأ، وكثيراً ما نقع في هذا الخطأ في التعامل، خاصة مع القضايا التي تحصل في العالم الإسلامي من الدعاة إلى الله عز وجل والعاملين للإسلام.

البحث عن الخطأ والفرح به

البحث عن الخطأ والفرح به الخطأ الخامس عشر: البحث عن خطأ والفرح به: بعض الناس يفتش عن خطأ، وإذا وقع على خطأ فرح به وكأنه حصل على كنز ثمين وصار يخبر الناس ويدلهم على هذا الخطأ، ويوصيهم به، إذا عرفت هذا في نفسك أو عرفته في غيرك فاعلم أن هذا غير جاد في النصيحة، وأن هذا غير جاد في تصحيح الخطأ، وأنه رجل يفتش عن الأخطاء.

التمحل في إثبات الخطأ

التمحل في إثبات الخطأ السادس عشر: التمحل في إثبات الخطأ: وهذا قد يتم من خلال القول باللازم، فيقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، وأنت تقصد كذا وتريد كذا، أو الحديث عن النوايا، حينما قلت كذا تريد فلاناً، حينما قلت كذا تريد كذا، إلى غير ذلك. وهذا كله ناشئ عن التمحل والسعي إلى إثبات الخطأ، ولو كنا نجري الناس على ظواهرهم ونعاملهم على الظاهر لسلمنا من كثير من مثل هذه المواقف، وغالباً ما يظهر هذا في الردود، تجد من يرد على شخص يحمله بعض الأخطاء التي لم يقع فيها. أضرب على ذلك مثالاً: أحد علماء أهل السنة المعاصرين المشهود لهم بالخير قال كلمة حول القرآن بغض النظر هي صحيحة أو لا؛ فماذا قال الذي يرد عليه؟ قال: هذا دليل على أنه يرى خلق القرآن، طبعاً أنا أجزم أنه يعرف أنه لا يقول بهذا القول، لكنه تمحل وتحريف. ومن ذلك أنهم قالوا عن بعض الدعاة إنه يرى وحدة الوجود، مع أنه صرح في مواطن من كتبه بالرد الصريح على دعاة وحدة الوجود، وهؤلاء يعرفون ذلك لمنه، فلماذا ينسبونه إلى هذه العقيدة الكفرية! قد نقول إن هذه العبارة غير منضبطة ينبغي إبدالها، لكن أن نتهمه بأنه يقول بوحدة الوجود هذا أمر ليس فيه عدل ولا إنصاف ولا نصيحة، وقل مثل ذلك في قضايا كثيراً ما نراها.

إهمال محاسن الرجل

إهمال محاسن الرجل السابع عشر: إهمال محاسن الرجل: نحن نريد أن نتحدث عن خطأ إنسان، فينبغي أن لا نهمل محاسنه وأن ننظر باعتدال. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن لا تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره. وقال شيخ الإسلام: ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرون بالظن، ونوع من الهوى الخفي، ويحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إن وقع يكون فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه، بل حتى تخرجه من الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم. وقال ابن القيم رحمه الله: فلو أن كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها. وهذا لا يعني عدم الحديث عن الأخطاء، لكن حين نتحدث عن الأخطاء فينبغي أن لا نهمل المحاسن، وينبغي أن نتحدث بتوازن وقد نقع في هذا الخطأ مع أطفالنا، فنعامل الطفل ونحدثه على أنه مشاغب وغير منضبط وغير مؤهل إلى غير ذلك، فنرسم له صورة تقضي عليه وتحطمه وتصور لنفسه أنه إنسان فاشل، وقل مثل ذلك مثلاً في الطالب وغيره ممن يتلقى التربية.

الحديث عن مظاهر الخطأ دون الأسباب والعلاج

الحديث عن مظاهر الخطأ دون الأسباب والعلاج الخطأ الثامن عشر: الحديث عن الخطأ ومظاهره دون الحديث عن الأسباب والعلاج: يعني: قد نتحدث عن خطأ من الأخطاء ومشكلة من المشكلات ونفصل فيها، ثم لا نتحدث عن الأسباب ولا العلاج، وكثيراً ما يقع هذا من خطباء الجمعة اللهم إلا إذا كان في حالة ظاهرة، أو قضية واضحة الأسباب والعلاج، والمقصود إنما هو التنبيه عليها فحينئذ قد نكتفي بمثل هذا العرض، لكن حينما نتحدث عن الأخطاء بصفة عامة ينبغي أن نتلمس أسباب ومكمن الداء، وأن نبحث عن بعض الخطوات التي نوصي بها لعلاج مثل هذا الخطأ.

حصر منهج التربية في تصحيح الأخطاء

حصر منهج التربية في تصحيح الأخطاء الخطأ التاسع عشر والأخير: اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية: وذلك أن البعض من الآباء أو المربين قد يعتبر أن التربية ورفع مستوى الشخص إنما يتم من خلال إيقافه على أخطائه، ومن خلال الحديث عن أخطائه وحدها، وهذا منهج غير صحيح، فحين لا نتحدث إلا عن أخطاء فغاية ما نحققه إذا نجحنا أن نحافظ على الإنسان على موطن معين، لكننا ينبغي أن نتبنى منهجاً للبناء والرفع من مستوى التربية، مع الحديث عن الخطأ وفق المنهج المنضبط، وحين نتحدث عن الصحوة وعن الشباب من خلال أخطائهم فإننا لن نراوح مكاننا وسنصور للناس من حولنا أنهم أهل فشل وتأخر وأن الخطأ أصبح صفة ملازمة لهم. أكتفي بهذا القدر من الحديث عن الأخطاء، وعلاج الأخطاء، وأرجو أن لا أكون قد وقعت في أخطاء وأنا أعالج مثل هذه الأخطاء، لكننا بشر، وكل يخطئ ويصيب ويؤخذ من قوله ويرد.

الأسئلة

الأسئلة

تكلف التبرير للخطأ

تكلف التبرير للخطأ Q من المشكلات أن تكلم أحداً في خطأ واضح لك وضوح الشمس، لكن تجده يتكلف التبرير عن خطئه؛ فما هو المناسب في التعامل مع مثل هذا الأخ؟ A أنت لا تفترض أن نظرة الأخ لعمله مثل نظرتك أنت، وكما قلت: نحن أحياناً نريد من الآخرين أن يعترفوا اعترافاً واضحاً صريحاً لا يحتمل التأويل بأنهم وقعوا في الخطأ، ولا نقبل منهم غير ذلك، وأظن أن هذا عائق عن تصحيح كثير من الأخطاء التي نريد تصحيحها، لكن لو سلكنا أساليب غير مباشرة، وحاولنا من الأخ أن يقف على خطئه بنفسه، لتجاوزنا كثيراً من هذه المشكلات التي نعاني منها في تصحيح أخطاء الآخرين.

السكوت عن نصح من لا يقبل النصح

السكوت عن نصح من لا يقبل النصح Q كثيراً ما ينبهنا أحد الإخوة في الله على أخطائنا جزاه الله خيراً، وحينما ننبهه على خطئه يأتي ويقول إنه لم يخطئ، ولا يقتنع إلا قليلاً، وأكثر الإخوة يعرفون أنه مخطئ، وهو خطأ واضح، فهل سكوتي عنه خطأ إذا كان لا يقبل إلا قليلاً؟ A السكوت عن الخطأ، وطريقة علاجه، قضية يجتهد فيها الأخ فيبحث عن الأسلوب المناسب الذي يراه في تصحيح الخطأ، إذا رأيت الإنسان لا يتقبل الخطأ مباشرة فلا تواجهه مباشرة بالخطأ، واسلك معه طريقة غير مباشرة.

تصحيح الخطأ بحسب الحال

تصحيح الخطأ بحسب الحال Q ما رأيك في بعض الشباب الأخيار، الذين يصححون الخطأ في وقت الخطأ في الحال، وهل هذه الطريقة صحيحة أم لا؟ A تختلف الظروف، فبعض الأخطاء قد نرى من المناسب أن تصحح في الحال، وبعض الأخطاء قد نرى من المناسب تأخيرها، والعبرة هو في اجتهاد الأخ، وأن تحسن نيتك في التصحيح، ثم تبحث عن أفضل أسلوب تراه مناسباً في إقناع هذا الشخص بخطئه، وإذا رأيت أن من المناسب أن يكون في الحال ففي الحال، وإذا رأيت أن الأنسب تأخيره، فتؤخره. يقول: لماذا نخاف من النقد، أنا أتصور أنه من أكبر الأسباب التي تدعونا إلى الخوف من النقد ما أشرت إليه قبل قليل، أننا نرى أن النقد يعني الانحراف، وأنك عندما تنقد فلاناً فمعناه أنه ملحد، معناه أنه جاهل، معناه أنه خطاء، معناه أنه فاشل، فإذا ربطنا بينهما حينئذٍ نخاف من النقد؛ لأننا نرى أن النقد اتهام بالخطأ والفشل، لكن لو استوعبنا أنه يمكن أن يقع الإنسان في الخطأ، وهو طالب علم أو داعية، وأن هذا لا يغض من شأنه، فحينئذٍ أظن أنه سيزول عنا هذا الخوف.

تصحيح الخطأ الخفي

تصحيح الخطأ الخفي Q عندما يكون الخطأ خفياً وقد علمت وقوعه من هذا الشخص، فهل من المناسب المبادرة بمصارحة الأخ ونصحه، أم التلميح دون التصريح؟ A تختلف الأحوال، فيجتهد الأخ فيما يرى أنه الأنسب والأصلح.

ضرب الابن على الخطأ

ضرب الابن على الخطأ Q يقول: ماذا تقول في ضرب الوالد لابنه عندما يرتكب خطأً كأن يضرب أخيه. A كون الضرب هو الوسيلة الأولى والأخيرة للتربية، هذا أسلوب مرفوض، وكثيراً ما يعمد الآباء والأمهات إلى ضرب أبنائهم على قضايا لا تستحق الضرب، مثلاً: طفل يضرب أخاه، والثاني يضرب الآخر، دعهم يحلونها بينهم، هذه مشكلة داخلية، فلا داعي لتدخل الأم نفسها في كل مشكلة، تجد أنه كسر قلماً بنصف ريال فتقيم الدنيا ولا تقعدها، هذه أوضاع تنم عن أننا نريد أن يكون الطفل مثالياً، صحيح أنه في حالات تحتاج إلى الضرب، لكن ينبغي أن يكون بأسلوب معين، وأن يكون آخر الدواء.

نقد أهل الحسبة

نقد أهل الحسبة Q ما رأيك في بعض الشباب ممن ينقل الأخطاء التي تقع من أهل الحسبة، وهو نقل خاطئ؟ A لا شك أن هذا خطأ، وتكريس للخطأ، وحتى لو وقع منهم خطأ فهناك أساليب للتعامل مع مثل هذا الخطأ وعلاجه ليس هذا وقت الحديث عنها، لكن مجرد النقد أو نقل الخطأ ليس أسلوباً للعلاج.

معنى المثالية

معنى المثالية Q وردت كلمة المثالية في حديثكم، فما هي؟ A عندما لا يكون الإنسان واقعياً، يريد أشياء لا يمكن أن تتحقق، فهو يريد من الطفل الذي عمره ست سنوات أن يكون هادئاً مؤدباً يحترم الآخرين، لا يصرخ ولا يبكي ولا يضرب إخوانه، أنا أعتبر الذي يسلك هذا الأسلوب يعاني من مشكلة، فهو شخص غير عادي، وعندما تريد من الإنسان أن يكون معصوماً لا يقع في ذنب ولا يقع في معصية ولا خطأ، فهذا معناه المثالية.

الفرق بين المخالفة في الرأي والالتزام بالواجب

الفرق بين المخالفة في الرأي والالتزام بالواجب Q متى يحق لي إذا لم أقتنع برأي أستاذي أو شيخي أو المشرف علي أن لا آخذ برأيه؟ ومتى لا يحق لي ذلك؟ A يجب أن نفرق بين قضيتين: قضية قناعة فكرية، وقضية إدارية، يعني مثلاً أنت في المركز، ولما يطلب منك مشرف الأسرة عملاً معيناً، وأنت ما اقتنعت ولك وجهة نظر، فليس من حقك أن تتمرد بحجة أنك ما اقتنعت، لكن عندما يكون له اجتهاد في قضية فكرية أو علمية فمن حقك أن تخالفه في اجتهاده، وأن ترى لك رأياً آخر، لكن أيضاً يجب أن تتأدب في التعبير عن رأيك، لكن حينما تكون قضية تنظيمية أو قضية حركية إن صح الإطلاق ينبغي أن تلتزم ولو لم تقتنع، مثلاً إذا طالب الأستاذ من الطلاب أن يقوموا بواجب منزلي فلابد من الالتزام ولو لم يقتنعوا، فلا يسوغ أن نجعل مخالفتنا للآخرين في الرأي مانعاً من الالتزام في الدائرة التي تفترض علينا الالتزام.

متى يلزم الطفل بالواجبات

متى يلزم الطفل بالواجبات Q طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، فهل يلزم بأداء الفرائض، وهل يحاسب عليها في هذا السن أم في سن البلوغ؟ A ينبغي أن يؤمر بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر، وينبغي أن يعلم ويؤدب، فيمنع من المحرمات ويؤمر بالفرائض ويؤاخذ عليها، حتى إذا بلغ يكون قد تربى عليها ونشأ عليها.

فضيلة المسامحة

فضيلة المسامحة Q إذا أساء إلي شخص فهل أسامحه في الحال أم أقاطعه لفترة محددة فيعرف خطأه؟ A إذا أساء إليك فهذه قضية شخصية، والأفضل والأولى أن تكون ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]، وأن نربي أنفسنا على أن نتسامح في الحال، وأن نعرف أن الآخرين يخطئون علينا كما نحن نخطئ على الآخرين.

كيفية تصحيح الخطأ

كيفية تصحيح الخطأ Q أنا شاب كثيراً ما أقع في الخطأ فيصعب علي تصحيحه، فأرجو منكم توضيح كيف أصحح الخطأ؟ A يمكن أن أقترح عليك بعض الخطوات المختصرة: أولاً: يجب أن تضع الخطأ في حجمه الطبيعي، فلا تبالغ مثلاً، لأن الإنسان قد يبالغ في تصور خطأ كما قلنا. ثانياً: أن تبحث عن الأسباب التي أوقعتك في الخطأ، وتفتش عنها. وإذا اكتشفت الأسباب اكتشفت نصف خطوات العلاج. ثالثاً: أن ترسم لك مرحلة زمنية معقولة يمكن أن تصحح فيها هذا الخطأ، فليس من المعقول أن تنتقل من حال إلى حال مباشرة، فلا بد أن يكون هناك نوع من التدرج. هذه الخطوات الثلاثة مهمة في علاج أي خطأ نقع فيه، وأظنك لو سلكتها لاختصرت على نفسك مراحل كثيرة. بعد ذلك نقول إن الأخطاء تختلف، فهناك خطأ يعالج بطريقة، وخطأ يعالج بطريقة أخرى.

حكم التمثيليات

حكم التمثيليات Qلقد تكلمت عن التمثيل وعن اختلاف العلماء في تحريمه، وأنا فهمت من كلامك التمثيل المدرسي، لكن بعض الناس يمكن أن يفهموا أنها التمثيليات التي توجد في التلفزيون أو الفيديو أو غير ذلك؛ أرجو توضيح هذه النقطة. A أنا قلت في هذه المراكز، وما أظن أن مثل هذه المراكز تحيي سهرات غنائية وماجنة. أما التمثيليات التي تعرض في أفلام الفيديو أو غيرها، فلا شك في تحريمها، وهي وسائل وأساليب لإثارة الغرائز، وقد علمت أبناءنا وبناتنا مصطلحات الحب والغرام والعشق إلى غيرها، فحديثنا ليس عنها، الحديث عما يمارس من أنشطة في المراكز الصيفية وغيرها من التمثيليات التي يقصد منها بعض المعاني الإصلاحية.

تصحيح الأخطاء

تصحيح الأخطاء Q من المسئول عن تصحيح الأخطاء؟ ومن الذي يجب عليه أن يصحح الخطأ؟ وما هي المؤهلات والشروط التي يجب توفرها في المصلحين الذين يصححون الأخطاء؟ A المسئول عن تصحيح الأخطاء الجميع، سواء من يقع في الخطأ وغيره، وأنا أرى أن المسئولية تقع على ثلاثة: الشخص نفسه، ثم الشخص الذي يمكن يأخذ على يده، كوالده أو أستاذه، ثم الذين هم دونه. فالتلاميذ مثلاً مسئولون عن تصحيح خطأ أستاذهم، لا باعتبار أنهم يفرضون عليه رأياً، لكن من خلال النصيحة والتوجيه وغيره. أما المؤهلات والشروط التي يلزم توفرها في المصلحين الذين يصححون الخطأ، فأنا أتصور أن المؤهل الأساسي هو أن يكون الإنسان قادراً على اكتشاف الخطأ، وعلى التقرير أن هذا خطأ، ويحمل مؤيدات وحجج شرعية مقنعة، بغض النظر عن حجمها. فلا يحق لك مثلاً عندما يتحدث شخص عن خطأ أن تشغب عليه وتقول: من أنت حتى تتحدث عن خطأ فلان، أنا أقول: نعم، أنا لست أعلم من فلان، ولا أذكى منه، لكني اكتشفت خطأ، كما سبق أن ذكرنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

كيفية تعامل محقق الكتاب مع مسائل الكتاب المختلف فيها

كيفية تعامل محقق الكتاب مع مسائل الكتاب المختلف فيها Q لقد ذكرتم رأياً مال إليه قلبي، ولكن بقي في ذهني إشكال أرجو النظر فيه، ألا وهو: الكلام على أن المحقق لا يحق له مخالفة صاحب الكتاب المحقق، ألا يمكن أ، يكون ذلك جيداً من باب إظهار الحق ومناقشة الأدلة في المادة العلمية عند القارئ، خاصة المتخصص؟ A أنا أتحدث عن قضية محددة، فليس الكلام عن مخالفة المحقق في أي رأي، لكن عندما تكون هناك مسألة اجتهادية مشهورة. أضرب لكم مثالاً: هل في الحلي زكاة؟ هذه مسألة من المسائل التي اختلف فيها العلماء من المعاصرين والقدماء. وفي الصلاة هل يقدم المصلي في سجوده يديه أو ركبتيه مثلاً، وقل مثل ذلك في مسائل كثيرة اختلف فيها أهل العلم. فعندما يأتي شخص يحقق هذا الكتاب، فيمكن أن يشير في الحاشية إلى أن هذه مسألة فيها خلاف، وهناك من رجح غيره، أو يحيل إلى بعض المراجع، لكني أقصد أنه عندما يضع صفحات طويلة في تفنيد كلام المؤلف فهذا الأسلوب لا ينبغي في التحقيق.

التعامل مع من يبدعون مخالفيهم في الاجتهاد

التعامل مع من يبدعون مخالفيهم في الاجتهاد Q ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع من يضخمون القضايا الاجتهادية ويبدعون ويفسقون مخالفيهم؟ A يطرح الموضوع بحوار وهدوء، وأظن أننا بحاجة إلى طرح الحديث عن المسائل الاجتهادية وكيف نتعامل معها حتى لا نشتط في الطرفين؛ لأن هناك أيضاً من يقع في الطرف الآخر، فأي مسألة يسمع أن فيها خلافاً يستبيح أن يعمل أي عمل، ويشغب على من ينكر عليه، ويرى أنه ما دام فيها رأي فإن هذا معناه أن الأمر فيها سائغ، وأن للإنسان أن يأخذ بما يريد، فينبغي أن نتوازن في مثل ذلك.

التضايق من النصح مع العمل به

التضايق من النصح مع العمل به Q أشعر بضيق في صدري عندما يقوم أحد الشباب أو أحد الناس بتصحيح بعض أخطائي، ولكن في نفس الوقت أشكر من يصحح لي خطئي وأحب فعله، فما الضابط النفسي لكي لا أصاب بضيق في صدري؟ A هذا أنا أتوقع أن هذا وضع طبيعي، لكن ستجد أنك بعد فترة ترتاح، فأنت قد تجد نوعاً من التضايق عندما يشار إلى خطئك، لكن بعد فترة ستشعر يعني بالارتياح وإذا رأيت أن فلاناً من الناس يستخدم معك أسلوباً غير مناسب في تصحيح الخطأ فلا حرج أن ترشده إلى أن يعدل من أسلوبه. يعني: يبدوا أنني أطلت كثيراً، وأعتذر للإخوة إن كنت قد أطلت عليهم. وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا جميعاً وإياكم بما سمعنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.

محاضرة في مخيم

محاضرة في مخيم انقسم شباب الأمة إلى شباب ملتزم وشباب غير ملتزم، وهذا التمايز أحدث فجوة عميقة بين الفئتين، حتى أثمر ذلك سلبيات كثيرة تضر بالإسلام والمسلمين على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وهي أمور مهمة يجب تداركها والعمل على سد الفجوة ولأم الشق الحادث وسط المجتمع المسلم.

المؤامرة على الأمة وشبابها

المؤامرة على الأمة وشبابها الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا اللقاء المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب القائمين على هذا المخيم، وأن يجعل ما يقدمون في موازين حسناتهم. ونحن في الواقع بحاجة إلى مثل هذا التوسع في أنشطتنا الإسلامية، وفي دعوتنا، وفي برامجنا، وهي فكرة رائدة سرتني كثيراً، وأتمنى أن نرى في المستقبل المزيد من مثل هذه الأفكار والجهود؛ لأن المسلم يرى أن دينه ودعوته تتطلب منه جهداً أكثر. لئن كان أصحاب التجارة وأصحاب الأموال يبتكرون الوسائل والأساليب في الدعاية والإعلان، وترويج منتجاتهم، ولئن كان أصحاب الفساد والفجور يبذلون المستحيل، لابتكار واكتشاف ألوان الفساد، والحصول على ما يريدون، والتحايل على الناس، فأهل الحق أولى ألا يكونوا أسرى تجارب ووسائل ورثوها، وألا يكونوا أسرى أفكار اعتادوا عليها، فصاروا لا ينطلقون إلا من خلالها. أسأل الله سبحانه وتعال أن يعظم الأجر والمثوبة لإخواننا، وأن يجعل ما قدموا في موازين حسناتهم، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. معشر الشباب! لقد أدرك أعداء الإسلام أنه لا مجال للانتصار على هذه الأمة والقضاء عليها إلا بسلخها عن دين الله سبحانه وتعالى، وأدرك أولئك جميعاً أن الشباب هم الأمة، يقال: الشباب عدة الأمة، وأمل المستقبل، والواقع أن الشباب هم الأمة، وليست الأمة إلا الشباب، فعلى أكتافهم وسواعدهم تقوم المجتمعات، وهم القادة في المستقبل، وهم الرجال الذين يوجهون المجتمعات والأمم. وعلى أساس ما نشئوا عليه في شبابهم وفتوتهم يكونون بعد ذلك، ولما أدرك الأعداء قيمة هؤلاء الشباب وخطر شأنهم في الأمة سعوا لإضلالهم وفتنتهم، وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى، فقامت تلك الجهود، ومن ورائها الطابور الخامس المنتشر في مجتمعات المسلمين في عرض الأمة وطولها، يمهدون للأعداء، ويقومون بتنفيذ خططهم نيابة عنهم، ولا يزيد على أن يأخذ وكالة فقط حتى تتغير الواجهة واللافتة، والمقصود من ذلك كله واحد هو سلخ شباب هذه الأمة، وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى. وتنوعت أساليب الإغراء والإثارة والصد، بدءاً بتشكيك أولئك بدين الله سبحانه وتعالى، وإخراج أجيال ممن يتشككوا في دين الله عز وجل، ويرتضي الإلحاد والردة عن دين الله سبحانه وتعالى، وصار يبحث له عن مناهج بديلة عن الإسلام. ومروراً بوسائل سعى فيها أولئك الأعداء إلى إثارة غرائز الشباب، وإلى إثارة اهتمامات الشباب، وصرف الهمة الجادة والعالية؛ فخرج لنا جيل همه فرجه وشهوته، وصار يسعى إلى تحصيل هذه الشهوة بكل الوسائل، وإذا لم تتح له في بلده وفي موطنه، فهو على استعداد أن يوفر جزءاً كبيراً من ماله؛ حتى يسافر إلى الخارج، ويسافر إلى بلاد الكفر؛ حتى يقضي شهوته في الحرام. وخرج لنا جيل يتعلق بالرياضة ويفتن بها، حتى صارت أساس تفكيره، وخرج لنا جيل يعتني بما يسمى بالفن، وصار أولئك مرايا عاكسة لآخر صرعات الفن في عالم الغرب. إنه -معشر الإخوة الكرام- نتاج جهد متواصل من أولئك الأعداء، قابله تخاذل من هذه الأمة، وانشغال من المصلحين الذين كان أولى بهم أن يقفوا على بوابات الحراسة في مجتمعات المسلمين؛ ليحموا هذه الأمة من هذا الغزو الماكر، وبقيت مجتمعات المسلمين وبالأخص الشباب دهراً في سبات عميق، وما كان لهذا النوم أن يطول، وما كان لهذه الأمة أن تطيل في الغيبوبة وهي الأمة الشاهدة، وهي الأمة القائمة بدين الله عز وجل للبشرية جميعاً إلى قيام الساعة. فآذن الله سبحانه وتعالى بانبلاج فجر الصحوة، وخرجت تلك الصحوة مع هذا الجيل الذي كان ينتظر الأعداء منه كل ألوان الفساد والانحراف، خرجت الصحوة مع هذا الجيل ليعود إلى دين الله عز وجل، وليضرب المثل الصادق في العودة إلى دين الله عز وجل، والعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأصبحنا مرة أخرى نرى الأفواج تتقاطر إلى طريق الاستقامة والصلاح والخير، وصارت الأفواج التي تتسابق إلى المساجد هي الأفواج إلى كانت تتسابق إلى الملاعب وإلى أماكن اللهو والرقص، بل صار أصحاب السفر والفساد والمجون والمخدرات والفن يعودون إلى هذا الطريق، وينضوون تحت لوائه، وصار العدد يتضاعف يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام. وهي مسيرة بإذن الله مستمرة، فحين أشعل الفتيل، وحين أعلنت المسيرة فهذا إيذان باستمرار المسيرة إلى أن يتحقق وعد الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون

انقسام شباب الأمة إلى فئتين

انقسام شباب الأمة إلى فئتين أقول: حين عاد هذا الجيل الناشئ بإذن الله عز وجل، والذي نعلق عليه -بعد توفيق الله عز وجل وعونه- آمالاً عريضة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا عند حسن ظننا، والله سبحانه وتعالى عند حسن ظن عبده به عز وجل. أقول: مع تقاطر هذا الجيل أصبح عندنا فئتان من الشباب: فئة من الشباب الذين عادوا إلى الله عز وجل، وعادوا إلى الأصل والفطرة فاستقاموا على دين الله سبحانه وتعالى، وفئة وهي لا تزال عريضة تحتاج إلى دعوة. وينبغي أيضاً ألا نفرط في التفاؤل، وألا ننسى أن هناك قطاعاً عريضاً، بل إن القطاع العريض من شباب الأمة لا يزال بحاجة إلى من يشده إلى هذه الميادين. صار لدينا فئة من الشباب اصطلح على أن يسمى الشاب الملتزم، وفئة أخرى من الشباب غير الملتزم، ولسنا هنا بصدد تحديد المصطلحات، ومدى سلامة هذا المصطلح أو ذاك، وأيهما أولى، ليس هذا موضوع حديثنا، ولكن هذه القسمة نشأ عنها مفاهيم مغلوطة، هي ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في هذه الدقائق. نشأ عن هذه القسمة مفاهيم ومشاعر أصبحت جزءاً من تفكيرنا، وهكذا شأن الأخطاء، الخطأ يبدأ خطأً، ثم ينتشر ويتوسع، حتى يصبح بعد ذلك جزءاً من التفكير أصلاً، فيصبح الإنسان يفكر من هذه الزاوية، ولا يستطيع أن يتخلص من هذه النظرة التي تسيطر عليه. وهذا الحديث لا يخص إحدى الفئتين، بل هو حديث للجميع، وقد يكون الحديث صريحاً، والصراحة لها ضريبة، وإذا كنا نريد الإصلاح فينبغي أن نكون واضحين وصرحاء. وسأتحدث بصراحة مع الجميع وفي محضر الجميع عن أخطاء يقع فيها الشاب الملتزم تجاه أخيه، وعن أخطاء يقع فيها الشاب غير الملتزم، ونحن ينبغي أن نكون جميعاً صرحاء، ولعل هذه النقطة سيكون لها حديث في نهاية هذا الأسبوع في محاضرة الأربعاء، فلست بحاجة للإفاضة فيها. ولكني أقدم بين يدي هذا الحديث أننا لابد أن نكون صرحاء، ولو أدى ذلك إلى أن تكشف الأوراق بمحضر الجميع، وأن نتحدث عن الأخطاء بمحضر الجميع، ما دام المقصود هو النصيحة. هناك الكثير يتحدثون عن الأخطاء، وهناك الكثير ينتقدون، ومن ثم فنحن حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك الذين يتخذون من النقد سلماً ووسيلة للفتنة والإعاقة، حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك فلن نقطعه إلا حين نبني منهجاً سليماً للنقد يتحدث عن الأخطاء تحت ضوء الشمس، وفي وضح النهار، وحينئذٍ نقطع الطريق على من يريد أن يتكئ على هذه الأخطاء، وأن يستثمر هذه الزلات؛ ليجعل منها معولاً يهدم به البناء.

عدم الالتزام لا يبرر المعاصي

عدم الالتزام لا يبرر المعاصي حين تتحدث مع أحد الشباب غير الملتزم عن المعصية أو عن الطاعة يفاجئك بهذه الكلمة: إنني لست ملتزماً. فيتصور أن عدم التزامه يعني أنه مخاطب بأحكام خاصة، وبتكاليف خاصة. فنقول ابتداءً: إن كون الإنسان غير ملتزم، أو كونه يخل بشعائر ظاهرة من شعائر الإسلام؛ حتى يبقى مظهره لا يدل على الاستقامة والصلاح، لا يعفيه مما يجب على آحاد المسلمين، فهو مسلم يجب عليه ما يجب على المسلمين، وهو مسلم مخاطب بكل التكاليف الشرعية، وبكل النصوص الشرعية. إنه يتخيل أحياناً أنه ما دام غير ملتزم، فينبغي ألا يوجه له هذا الخطاب، وينبغي أن يكون في مندوحة أن يقال له هذا الكلام، لأنه يظن أن هذا الكلام إنما يقال للناس الملتزمين، ويقال للأخيار، ويرى أنه لا يستحق أن يوجه له هذا الكلام، إنه ينبغي أن يخاطب بكلمة واحدة فقط لا غير، وهي: تب إلى الله عز وجل، وتخل عن طريق الإعراض والغفلة، وكن سائراً مع ركاب الصالحين والملتزمين. وهذا لا شك خطاب وكلمة لابد أن تقال، وهي أساس ومبدأ حديثنا، وحولها ندندن، ولكن مع ذلك يبقى لنا حديث آخر، فمثلاً: هذا الشاب عندما تطالبه بطاعة من الطاعات، وهب أنها من النوافل، فتقترح عليه أن يصوم يوم الإثنين، أو يصوم يوم الخميس، أو يقوم ليلة من الليالي، أو يصلي النافلة، فيفاجئك ويقول: لست ملتزماً. ويتخيل أنه ما دام كذلك فلا ينبغي له أن يخادع نفسه، ويرى أن صيامه، أو تلاوته لكتاب الله عز وجل، أو قيامه لليل، أو قيامه بأي عمل صالح إنما هو من المخادعة والنفاق، بل تراه مثلاً حينما يرى زميلاً له يقع في خطأ من الأخطاء، أو يعرف عنه ممارسة محرمة، أو عملاً سيئاً، ويراه يعمل طاعة من مثل هذه الطاعات، فإنه يتهمه بالنفاق والمراوغة والمخادعة، إلى غير ذلك. إنه منطق عجيب، فلماذا كانت هذه المعاصي التي وقعت فيها مانعة لك من تلك الطاعات، نعم إن هذه المعاصي تكبلك، وهذه المعاصي تثقلك وتجعلك تتكاسل عن الطاعة، وتجعل الطاعة ثقيلة عليك، لكن هذا شيء وكونك لا تعمل الطاعة شيئاً آخر، هذا شيء وكونك تعتقد أن عملك لتلك الطاعة يعتبر نفاقاً شيء آخر. وهذه من الحيل الشيطانية، فالشيطان يسيطر عليك بهذا المنطق، وبهذا التفكير؛ حتى يحقق إنجازاً لا يستطيع أن يحققه حتى يغلق جبهة كاملة يمكن أن تستثمرها أنت في صراعك مع هذا العدو، فيقطع عليك الطريق عن كل طاعة من الطاعات يمكن أن تقوم بها؛ بحجة أنك لست ملتزماً، وما دمت لست ملتزماً فينبغي ألا تعمل هذه الطاعات، وعملك لهذه الطاعة يعتبر مخادعة ويعتبر نفاقاً. في أي كتاب أم بأية سنة؟ ومن أين حصلنا على مثل هذا الاقتناع؟ لست أدري! إنها قناعة لا تقبل الشك عندك، ولا يمكن أن تناقش فيها، والدليل على ذلك -كما قلت قبل قليل- أنك حين ترى زميلك أو أخاك يعمل ذلك تتهمه بالنفاق والمخادعة؛ لأنك رأيته يسمع الغناء، والذي يسمع الغناء لا ينبغي -مثلاً- أن يصلي الراتبة، والذي يسمع الغناء لا ينبغي أن يصوم النفل، وهكذا، الذي يقع في مثل هذه المعاصي لا ينبغي له أن يعمل تلك الطاعات، وإذا عملها عد منافقاً. إنك لا زلت مسلماً شأنك شأن الآخرين، ويصدق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، ويصدق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟). عهدتك لا تنام إلا قبيل الفجر، فها أنت مستيقظ في الثلث الأخير من الليل، فما رأيك لو طرحت عليك هذا الاقتراح؟ اقتطع من وقت السهر والسهرة التي تقضيها -وربما كانت على معصية الله عز وجل- نصف ساعة، واقضها في أن تصلي ركعتين لله عز وجل، أو أربع ركعات، وتتضرع فيها إلى الله عز وجل في سجودك، وتدعو الله سبحانه وتعالى أن يهديك ويعينك ويوفقك؛ لأني أجزم تماماً أنك تتمنى أن يهديك الله سبحانه وتعالى، وتتمنى اليوم الذي تودع فيه الغفلة، وتودع فيه المعصية، وتقبل على الله عز وجل. فلعلك أن توافق باباً مفتوحاً من السماء فترفع لك فيه دعوة صادقة، ولماذا تحرم نفسك هذا الخير؟ فتستغفر وتتوب في هذه الساعة التي أنت أصلاً مستيقظ فيها. إنك -أخي الكريم- أحوج إلى الطاعة من غيرك؛ لأنك تملك ركاماً هائلاً من المعاصي والذنوب، وأنت تراه كالجبل يوشك أن يهوي عليك، فأنت أحوج الناس إلى التخفف، وأنت أحوج الناس إلى التوبة، وأنت أحوج الناس إلى ما يكفر الذنوب، فما أحوجك إلى طاعة الله سبحانه وتعالى!

كيف نتعامل مع المعصية

كيف نتعامل مع المعصية ثانياً: كيف تتعامل مع المعصية؟

عدم المجاهرة بالمعصية

عدم المجاهرة بالمعصية إن الكثير من الشباب يضع أمامه خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يتوب، ويترك المعصية، ويكون مع الناس الصالحين الأخيار، وهذا لا شك هو المطلوب. الخيار الثاني: حين يفشل في هذا فإنه يبقى على المعصية دون أي وازع، ودون أي مانع، ويرى أنه لم يبق أمامه خيار ثالث. إن هناك خياراً ثالثاً، ومع ذلك فهذا الخيار لا يعني أن نتنازل عن الخيار الأول الذي هو الأصل وهو ترك المعصية وتوديعها، والتوبة الصادقة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هب أنك فشلت ولم تستطع أن تتوب، ستكون في هذه الفئة، فكل مسلم قادر على أن يسلك هذا الطريق، وما كلف الله عز وجل الإنسان إلا ما يطيق، وهب أنك لم تستطع ذلك، فلماذا تجاهر بالمعصية، وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)؟ إنك تفعل المعصية بالليل بينك وبين نفسك لا يعلم عنها أحد، وربما لا يعلم عنها إلا شريكك في المعصية، فما بالك إذا أصبحت تلقى زميلك في المدرسة فتخبره بما عملت وما صنعت؟! أنك تدعي أنك لا تستطيع التخلص من تلك المعصية، ولو فرضنا جدلاً أنك كذلك، أفلا تستطيع أن تتخلص من المجاهرة بالمعصية؟ ألا تستطيع أن تبقى معصيتك سراً بينك وبين الله سبحانه وتعالى؟ فإن ذلك أدعى إلى توبتك وإقبالك على الله سبحانه وتعالى. ثم إن الذي يجاهر بالمعصية حين يهم بالتوبة بعد ذلك تثقل عليه، ويصعب عليه أن يسلك طريقها؛ لأنه أصبح مشهوراً بين الناس، ومشهوراً بين زملائه وأقرانه بالسوء والفساد، وهو الذي جنى على نفسه. ومما يتعلق أيضاً بالمعصية أنك حين تفعل المعصية فلماذا لا تقتصر على نفسك؟ لماذا تدعو غيرك إلى المعصية؟ ولماذا تسعى إلى تسهيل المهمة لغيرك؟ فأنت أحياناً تتحدث مع زميلك، بل كثيراً ما تتحدث مع زميلك، فتخبره ماذا فعلت بطريقة تمارس فيها دعاية بالمجان لهذه المعصية، بل ربما تدله على الوسيلة التي يمكن أن تعينه على فعل المعصية، وربما وظفت نفسك مستشاراً دون مقابل على أسباب ووسائل الاحتيال على تحصيل المعصية. أليست هذه دعوة للمعصية والفساد؟ ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، وأن ينطبق عليك قول الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]؟ ألا تخشى أن تأتي يوم القيامة وأنت تحمل وزرك على ظهرك ووزر من أضللته؟ قد تقول مرة أخرى: إن لك مبرراً وعذراً في فعل المعصية، ولكن ما العذر والمبرر أن تدعو غيرك للمعصية، وتسهلها عليه؟

عدم الاستخفاف بالمعصية

عدم الاستخفاف بالمعصية ومما يتعلق بالمعصية أيضاً: ما بالك تستخف بالمعصية وتستهين بها؟ لقد حدثنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لنا مثلاً بليغاً، أرجو أن ترعي سمعك حتى لا ينطبق عليك هذا المثل، بل لعلك أن تصنف نفسك مع الفئة الأخرى: المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا. ما بالك حين تواجه بالنصيحة والإنكار تستخف بشأن المعصية؟ إن فعل المعصية شيء، والاستخفاف بها واستهوانها معصية أخرى، بل إن الاستخفاف بالصغيرة يحولها إلى كبيرة، فما بالك بالاستخفاف بالكبيرة والاستهانة بها؟! مرة أخرى أقول لك: حين تفشل في ترك المعصية، وتعجز عن ترك المعصية، فهذا لا يعني أن تفتح لنفسك الباب على مصراعيه، فهناك خيار ثالث وخطوة ثالثة أرجو وآمل أن تكون مقدمة التوبة الصادقة النصوح.

عدم التخاذل عن نصرة الدين وخدمته

عدم التخاذل عن نصرة الدين وخدمته أخيراً: إن إعراضك وإدراجك لنفسك ضمن قائمة غير الملتزمين ليس مبرراً لك حتى تتخاذل، إنك تأتي إلى المسجد، فترى فيه محاضرة، هذه المحاضرة سلكت خطوات في إعدادها، وفي الإعلان عنها، وفي دعوة المحاضر، وفي ترتيب اللقاء، إلى غير ذلك. ترى مثل هذا المخيم الذي تستمع فيه لمثل هذه الكلمة، وترى الجهد الذي بذله الشباب الذين قاموا عليه، وترى من يوزع الشريط، وترى من يوزع الكتاب، تلقيت منه الشريط والكتاب، وترى زميلك في المدرسة ويده تمتد ليناولك كتاباً أو شريطاً، وتراه يحرك لسانه ليقول لك كلمة صادقة ناصحة، وترى الجهود تبذل لخدمة دين الله عز وجل هنا وهناك. فما بالك لا تبحث لك عن موقع في هذا الميدان؟! نعم، إنني أقدر موقعك، وإنني لا أنتظر منك وأنت على هذه الحال أن تتحول إلى واعظ، أو تتحول إلى خطيب أو محاضر، أو رجل يتحدث باسم الإسلام، فيؤلف ويصنف ويكتب وينافح عن دين الله عز وجل، لا أريد ذلك، بل لو أردت ذلك لقلت لك: رويدك وليس هذا مكانك. لكن تستطيع -أخي الكريم- أن تقدم خدمة جليلة لدين الله عز وجل، وتستطيع أن تساهم في خدمة دين الله سبحانه وتعالى. نقرأ في تاريخ الذين ساهموا في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، من الزهاد، والعابدين، والقانتين، والعلماء، والصالحين، وحفاظ كتاب الله عز وجل، وحملة العلم الشرعي. ولكننا مع ذلك نرى نماذج من أولئك الذين لم يكونوا على حال من الصلاح والاستقامة، كانت لهم مساهمات في دين الله عز وجل، والوقت يطول، فلعلي أذكر مثلاً واحداً. كان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يدعو لرجل يقال له أبو إسحاق، فكان يقول: اللهم اغفر لـ أبي إسحاق إذا قام وإذا جلس. فسأله أحد أبنائه: من يكون؟ فكان ينتظر أن يكون زاهداً رأى منه الإمام رحمه الله قدوة في الزهد، أو قدوة في العبادة، وكان ينتظر أن يكون شيخاً للإمام أحمد تعلم منه علماً. فأخبره الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الرجل كان لصاً، وكان قاطع طريق، حينما جيء بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في فتنة خلق القرآن، جذبه بردائه، فقال: أتعرفني؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا أبو إسحاق العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت كذا وكذا في السرقة، ومع ذلك ما صدني ذلك، وأنت تجلد على كلمة الحق، فأنت أولى مني أن تثبت. أرأيت هذا اللص الذي في السجن ولا يزال مصراً على جريمته، ومع ذلك يرى أنه يستطيع أن ينصر الإسلام، ويستطيع أن يقدم خدمة، وما هي هذه الخدمة؟ إنها ليست إقامة درس، ولا إلقاء خطبة، ولم يكن هذا الرجل مؤهلاً لذلك، إن هذه الخدمة كانت تتمثل بأن يقف مع الإمام أحمد رحمه الله، ويقول له تلك الكلمة التي زادته تثبيتاً، ولم يجد هذا اللص في تاريخه شيئاً يمكن أن يستثمره إلا تاريخه المليء بالإجرام والسرقة، فوظف ذلك التاريخ؛ ليكون شاهداً ومعيناً للإمام أحمد رحمه الله، بل تراه يستعين بتاريخه السابق السيئ فيقول للإمام أحمد: أنا وأنا صاحب المعصية والهوى أتحمل العذاب في سبيل السرقة، فأنت أولى مني أن تتحمل، وأنت تقول كلمة الحق! إننا نطلب منك أن تساهم، وأن تشعر أن الدين يعني الجميع، وأن الدين دين الناس جميعاً، وأنك ما دمت مسلماً فإنك ينبغي لك أن تسير مع القافلة، بل لعل هذا يكون بمشيئة الله عز وجل بداية خير وطريق توبة، فماذا عليك مثلاً لو أخرجت مبلغاً من المال -فهناك مبالغ كثيرة تقدم لزملائك بها بعض المشروبات والمأكولات، والذي تقدم أضعافاً منها لتكون وسيلة تشتري بها ما يعينك على المعصية- ماذا عليك لو أخرجت جزءاً من هذا المبلغ؛ فأعطيته أحد الصالحين والأخيار، أو أحد الدعاة إلى الله عز وجل، وقلت له: اصرف هذا المبلغ في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي سبيل الله سبحانه وتعالى؟ ماذا عليك حين تستمع إلى شريط أن تهديه إلى أحد زملائك، وأن تشتري كتاباً، وأن تشتري شريطاً؟ ولو أردت مجال الخير وخدمة دين الله عز وجل؛ لاستطعت أن تجد الآلاف من الوسائل والسبل، فقد عهدناك مفكراً، وعهدناك مجتهدً في البحث عن شهواتك ورغباتك، بل أنت تبتكر، ولا ترضى بحال أن تستعير فكرة غيرك، فأنت كل يوم تخرج لنا بفكرة جديدة، وطريقة جديدة، فوظف هذا التفكير وهذا العقل لتقدم شيئاً يسيراً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، عل هذا يكون خطوة لك تنقلك إلى طريق الاستقامة والخير بإذن الله عز وجل.

الآثار السيئة للهوة القائمة بين الملتزمين وغيرهم

الآثار السيئة للهوة القائمة بين الملتزمين وغيرهم بعد هذا الحديث ننتقل إلى نقطة أخرى تحتاج منا إلى مصارحة، وهي العلاقة بين الشاب الملتزم والشاب غير الملتزم، فنرى أن هناك أخطاء ترتكب من الجميع، ولا ننزه أنفسنا، وحين نقول: إن هناك أخطاء، فإننا نعرف ونجزم أن معظم هذه الأخطاء قد لا يكون بالضرورة صادراً عن عمد وسبق إصرار، بل ربما عن اجتهاد وحسن نية، فيرى أن هذا ما ينبغي أن يفعله. وهناك أخطاء ألفناها فصارت جزءاً من تفكيرنا.

الصراع والتنافس بين الملتزمين وغيرهم

الصراع والتنافس بين الملتزمين وغيرهم إن أول خطأ أرى أن الجميع مسئولون عنه هي هذه الهوة السحيقة والفجوة العميقة بين هذين الجيلين، بين الشباب الملتزم والشباب غير الملتزم، فأنت ترى كل طرف يعتقد أنه في ميدان، والطرف الآخر في ميدان آخر يقابله، بل نرى أنهما قد أصبحا في ميدان تنازع وتنافس، وربما في ميدان صراع. لا شك -معشر الإخوة الكرام- أن سلوك المرء واستقامته ودينه يؤثر على علاقته، وعلى نظرته للناس، ولا شك أن هذا يصير الناس فئات، فيتعاملون من خلال ما يعتقدون من معتقدات، وما يمارسون من سلوكيات، والمشابهة في الظاهر تورث المحبة واللقاء في الباطن، والتنافر في الظاهر يورث التنافر في الباطن، ولكن هذا شيء والواقع الذي نعاني منه شيئاً آخر. إنني أطرح هذا السؤال الذي أرجو أن نطرحه جميعاً -معشر الملتزمين وغير الملتزمين- على أنفسنا: من المستفيد من هذه الفجوة وهذه القطيعة؟ إن الأعداء هم المستفيدون؛ لأنهم يحولون دون وصول الخير، ودون وصول الكلمة الناصحة والصادقة إلى الطرف الآخر، ودون وصول النقد والتقويم إلى الآخرين. ثم السؤال نفسه بطريقة أخرى: من الخاسر؟ نحن جميعاً، ولست أقول: إنه غير الملتزم، بل حتى الملتزم، إن الشاب غير الملتزم يخسر خسارة كبرى حين يساهم في إيجاد هذه الهوة، وهذه الفجوة، إنه يخسر حين يقيم هذه الهوة وهذه الفجوة، فيقيم أمامه سحباً تمنعه من وضوح الرؤية، وتجعل حاجزاً بينه وبين طريق الخير وطريق الصلاح والاستقامة، فيفترض حواجز وعوائق تحول بينه وبين طريق الخير، فهو الخاسر الأكبر. وأنت أيها الشاب الملتزم خاسر أيضاً؛ لأنك تساهم في الحيلولة بينك وبين من تريد أن تخاطبه في هذه الدعوة، إن مثل هذا الشاب كما أنه يحتاج إلى دعوتك، فأنت أيضاً تحتاج إلى أن تفتح معه هذه العلاقة، وتفتح معه هذه الصفحة؛ لتقدم بين يديك عملاً صالحاً تدخره عند الله عز وجل، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). إن مثل هذه القطيعة المفتعلة، التي نمارسها ونسعى إليها، تحول بيننا وبين هذا الميدان الواسع الفسيح من الدعوة، بل تكون عائقاً لنا عن أداء هذا العمل الذي هو من أفضل الأعمال التي نتقرب بها إلى الله عز وجل. إذاً: معشر الإخوة الكرام! من الرابح ومن الخاسر؟ قلب الأمر حيث شئت؛ لترى أننا بحاجة إلى أن نلغي هذه القطيعة، وأن نقضي عليها. ثم مع ذلك نحن نخسر خسائر أخرى غير هذه الخسارة؛ نخسر الشاب غير الملتزم حال بينه وبين طريق الهداية، وطريق الكلمة الناصحة، والشاب الملتزم حال بين نفسه وبين هذا المجال من مجالات الدعوة، ومجالات الكلمة الناصحة الصادقة، هذا الميدان من ميادين العبادة والطاعة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.

السخرية من الشباب الملتزم

السخرية من الشباب الملتزم أيضاً نخسر خسارة أخرى، فالشاب غير الملتزم يقع في خطأ شنيع قد يكون محبطاً لعمله الصالح، وهو السخرية من الشاب الملتزم، والاستهزاء به، وهذا أمر خطير قد يقود الإنسان -عافانا الله وإياكم- إلى أن ينطبق عليه قوله الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]. وهذه الآية نزلت -كما تعلمون جميعاً- في قوم كانوا يقولون في قراء النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قراؤنا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. إنه يخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]. ويخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35].

استكبار الشاب الملتزم وإعجابه بنفسه

استكبار الشاب الملتزم وإعجابه بنفسه وفي المقابل الشاب الآخر الملتزم المستقيم هو الآخر عرضة لآفة تنشأ عن هذه القطيعة، وآفة تنشأ عن هذه الهوة المفتعلة، وهي الاستكبار والاستعلاء، والشعور بالعلو، واحتقار ذاك الذي يقع في المعصية، ويخشى أن يكون كأحد صاحبي بني إسرائيل الذي كان مطيعاً لله عز وجل، ومقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وكان صاحبه مفرطاً، ومهملاً لنفسه، فكان يدعوه إلى ترك المعصية، ويدعوه إلى الاستقامة، وإلى الصلاح. ونتيجة لأن هذه الدعوة الملحة قد طالت دون نتيجة، قال له صاحبه: (ما لك ولي، دعني وربي. فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي، قد غفرت له، وأحبطت عملك!). معشر الشباب الكرام! آفة عرضة لأن يقع فيها الشاب الملتزم، حين يرى نفسه قد سلك الاستقامة والخير، وانتصر على شهواته ورغباته، في حين يرى صاحبه غارقاً في أوحال المعصية والرذيلة، فحين يراه كذلك فإن هذا مدعاة لأن يفكر في أنه أعلى قدراً وشأناً، وأن يفكر أنه أعظم منزلة عند الله عز وجل، وأن يعجب بعمله، وهذا الأمر مدعاة لإحباط العمل وبطلانه كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم. بل أول معصية نشأت إنما نشأت من الكبر والعجب ممن قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].

حرص غير الملتزمين على إغواء الملتزمين

حرص غير الملتزمين على إغواء الملتزمين وهي أيضاً تنشئ عند الشاب سلوكاً آخر مرفوضاً، وهو حرصه على فتنة هذا الشاب وصده وإغوائه بأي وسيلة، أحياناً عن طريق السخرية، وأحياناً المناقشة، وأحياناً بترف الفتنة أمامه أياً كانت، وكم نرى من الشباب من يمارس الفتنة والصد، وهذه جريمة أخرى، وشنيعة أخرى. إنك حين تقع في المعصية، وحين تستحقرها، فأنت على خطأ، وأنت قد قصرت، وأنت على الهاوية، نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياك على التوبة النصوح لله سبحانه وتعالى، فأنت تساهم في دعوة غيرك إلى المعصية، بل حين تساهم في فتنة وصد ذاك الشاب العفيف، والشاب الخير، والشاب المستقيم، فأنت ترتكب جريمة أخرى، وأنت تقف مع الأعداء في خندق واحد وصف واحد، سواء شعرت بذلك أم لم تشعر.

دعوة إلى كسر الحواجز بين الملتزمين وغيرهم

دعوة إلى كسر الحواجز بين الملتزمين وغيرهم إذاً: فنحن بعد أن أدركنا هذا النتاج، وبعد أن أدركنا تلك المقدمات كلها بحاجة إلى أن نسعى إلى كسر الحواجز، ووالله حين نكسر هذه الحواجز ونحطمها، فإننا بإذن الله عز وجل سنرى نتاجاً أكبر، وسنرى إن شاء الله جهوداً خيرة قد أثمرت، وسنرى الاقتراب. لقد تضاعف عدد المسلمين الذين أسلموا بعد صلح الحديبية، فإن الذين أسلموا بعد صلح الحديبية إلى فتح مكة كانوا مثل الذين أسلموا منذ أن جاء الإسلام إلى صلح الحديبية، بل كانوا أكثر، والسبب في ذلك -كما يقول أهل السير- أن صلح الحديبية كان مجالاً للقاء والمناقشة والدعوة، وكانت هدنة أوقفت الحرب، فصار مجالاً لنشر الدعوة واللقاء، مما زاد من عدد المهتدين والداخلين في دين الله عز وجل. وحين ندعو إلى كسر الحواجز فإننا ندعو الطرفين جميعاً، ندعو الشاب الملتزم لأنه هو الذي يحمل الهمة العالية، ويرى أن هذه الدعوة وظيفته، وأن هذه الدعوة شغله الشاغل، وأن هذه الدعوة هي همه وهي حياته. وندعو الشاب غير الملتزم ونقول له: إن الشاب الملتزم قد فاقك في سلوك طريق الخير، والاستقامة، وقطع خطوة، وله حسنات، ولعلك تبادر وتقطع هذه الخطوة، فتكون أنت السابق ولو على الأقل في هذا الميدان. إننا ندعو الجميع أن يساهموا في إزالة هذه الحواجز، وأن يساهموا في ردم هذه الخنادق، وبناء الجسور على مثل تلك الهوة التي كانت حاجزاً ومانعاً عن كلمات صادقة كان يمكن أن ينفع الله بها الكثير. معشر الشباب! إنها دعوة صادقة وملحة إلى كسر هذه الحواجز وتحطيمها وإزالتها، فنفتح صفحة من الحوار والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

النقاش والحوار الهادئ

النقاش والحوار الهادئ النقاش والحوار الهادئ بين الطرفين، فسنرى أن الشاب غير الملتزم سيطرح عوائق وعقبات يراها أمامه في طريق الالتزام، فيساهم صاحبه وأخوه في تذليل هذه العقبات، والإجابة على هذه التساؤلات، وإعانته عليها، ونرى في المقابل الشاب غير الملتزم سيطرح بعض الانتقادات، وبعض العيوب التي يرى أن أخاه وزميله الملتزم يقع فيها، فتكون مدعاة لتوضيح الرؤية، ووضوح الصورة، ومدعاة لتصحيح الأخطاء أيضاً. إن هذا النقاش وهذا الجدل حين يكون بالتي هي أحسن، وحين نفتح حلقات للحوار والنقاش في المدرسة، وفي الشارع، وفي المنزل، وفي كافة اللقاءات، فسنستفيد جميعاً، ولو على الأقل أن تقترب وجهات النظر، ولو على الأقل أن يكون هذا النقاش وحده مساهماً في تحطيم هذا الحاجز، وحين يكون هناك نقاش فينبغي ألا يتحول إلى محاكمة وجدل، وحين نتناقش نحن، ونتخيل أننا في ساحة المحكمة، فستكون ثمرة النقاش مرة، وستكون النتيجة معاكسة. حين أقف أنا وأنت، فأقول: إنك تفعل كذا، فتتهمني بكذا، وأتهمك بكذا، ويصبح كل منا شأنه أن يبحث عن تهمة يلصقها بصاحبه، وشأنه أن يبرر تهمته، حين نسلك هذا المنهج فلن نفلح، ولن يؤتي النقاش ثمرته إلا حين يكون كما قال الله عز وجل: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. ومعنى (بالتي هي أحسن) أن نكون واضحين، وأن نكون صرحاء، وأتحدث لك عن خطئك بوضوح وصراحة، ومع ذلك فالصراحة ليست مبرراً لسوء الأدب، فمع الصراحة والوضوح أتحدث معك بأدب، ويتطلب مني أيضاً أن أعترف بأخطائي وعيوبي، وأن أكون واضحاً صريحاً مع نفسي ومعك. وحين يفتقد النقاش ويفتقد الحديث هذا الشرط فلن يجدي، ولن ينتج الثمرة، بل لعله يزيد في افتعال الهوة، بل لعله أن ينتج لنا الثمرة المرة.

البحث عن أسباب المشكلة والعمل على علاجها

البحث عن أسباب المشكلة والعمل على علاجها أخيراً: إننا حين نرى مثل هذه القطيعة وهذه الهوة فأنا أجزم أنكم تشاركونني أنها مرفوضة، وأنها غير مقبولة، وأن الرابح غيرنا، والخاسر ليس سوانا، أظنكم تشاركونني هذه النتيجة. أيضاً يجب أن نكون واقعيين، وأن نبحث عن أسبابها، فهناك أسباب وأمور أدت إلى ذلك، ولعل من أهمها تطبيق مبدأ الولاء والبراء، والبغض في الله والحب في الله. إن الشاب الملتزم يرى أن دينه وأن استقامته وصلاحه تفرض عليه أن يحب في الله ويبغض في الله، وما دام فلان غير مستقيم، وما دام فلان يجاهر بالمعصية، فإن علي أن أبغضه وأن أظهر له البغضاء، وهذا من دين الله عز وجل، ولا نطالب بإلغائه ولا زواله، ولكن حسن العشرة شيء آخر غير ذلك بكثير. إنه لا يمنعني -وحين يعهد مني صاحبي الصراحة- أن آخذه بحديث ودي، فأقول له: إنك مسلم، وإني أجزم أنك تحب الله ورسوله، وإنني أحب فيك الطاعة، وأحب أن أراك في المسجد، وأن أراك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكني واضح صريح معك، فلست أدعي أني أحبك كما أحب أخي، ولست أدعي أني أحبك من سويداء قلبي. إنني مع ذلك أرى عليك أثر المعصية، وأثر الانحراف، وأرى أن هذا يفرض علي أن أبغض فيك هذه المعصية، فإني أتمنى أن تكمل المحبة، وأن يتم اللقاء، ولن تكمل هذه المحبة، ولن يتم هذا اللقاء إلا حين تزيل سبب القطيعة والبغضاء، وهو هذه المعصية. أيضاً جانب آخر وأمر آخر قد يكون عائقاً للشاب الملتزم عن صاحبه، هو أنه يرى أنه حين يحسن العشرة معه، فإن هذا مدعاة إلى أن يصحبه فيتأثر به، فيدعوه ذاك من حيث لا يشعر إلى الارتكاس والانتكاس عافانا الله وإياكم. إنه يرى أن هذه الاستقامة، وأن هذا الالتزام، وأن هذا الخير الذي حصله مكسب لا يقاس بثمن، وثمرة لا تعادلها ثمرة، فهو يريد أن يحيطها بهذا السياج، ويحيطها بهذا السور المنيع حتى لا تخترق، فيرى أنه إن صاحب ذاك بالحسنى وعاشره، فإنه مدعاة إلى أن يكون وسيلة للصحبة السيئة التي تقوده من حيث لا يشعر إلى الانتكاس، وإلى الحور بعد الكور. فهو يضع هذا السياج، ويبني هذا السور، لا رغبة عن الخير، ولكن حماية لنفسه من التأثر، ومن الوقوع في الزلل والخطأ والانحراف والحور بعد الكور. ونحن نقره أن الثمرة التي حصلها غالية، ونقره أن الاستقامة لا يعدلها الشيء، وأن السلامة لا يعدلها شيء، وأنه ينبغي أن يحرص عليها. ولكن ما ندعوك إليه ليس أن تقضي لياليك ونهارك مع صاحبك، ليس أن تضاحكه وتمازحه وتعاشره، إنما ندعوك إلى ابتسامة صادقة، وإلى كلمة تقولها، وإلى دعوة، وإلى نقاش، ثم بعد ذلك يجب أن تحرص، وأن تحتاط، وأن تعرف أن طول العشرة والألفة واللقاء قد يكون مدعاة لأن تتأثر أنت، فتتحول من مرسل إلى مستقبل، وتتحول من داعٍ إلى مدعو، فيجرك معه إلى المستنقع حين أردت أنت إنقاذه. وحينئذٍ فمع دعوتنا إلى كسر الحواجز، ومع دعوتنا إلى اللقاء والنقاش والحوار، فإننا ندعو أيضاً أن يكون هناك ضوابط تكفل ألا تتحول بعد ذلك إلى خسائر أخرى، وإلى أن يكون أولئك أصحاب الشهوات هم الذين يدعون الآخرين، ويجرونهم إلى طريقهم. ونحن قادرون حين يكون الأمر مقتصراً على كلمة صادقة، وعلى هدية، وعلى ابتسامة، وعلى حسن عشرة، ثم بعد ذلك نقطع الطريق، ونقول لهم أيضاً بصراحة ووضوح: إننا نرى أن طول عشرتنا معكم، وإلفنا معكم، ولقاءنا معكم قد يكون مدعاة لأن نقع نحن معكم، فنعتذر لكم عن طول اللقاء، ونعتذر لكم عن طول المعاشرة؛ لأننا نخشى على أنفسنا، وحين تعودون وتسيرون في الجادة، فنحن سنصبح وإياكم إخوة. معشر الإخوة الكرام! إن ما أطرحه في هذا اللقاء لا يزيد على أن يكون محاولة من قلب يتفطر ألماً وحرقة على هذا الواقع المرير الذي نعانيه. الشاب يراهم هنا في هذه المخيمات، بل يراهم أمامه في الفصل وقد أنصتوا إليه، ويراهم أمامه في الحي فيتفطر قلبه ويبدأ يفكر، وقد يقوده هذا التفكير إلى مثل هذه الرؤى والنتائج، وهذه الرؤى والنتائج ليست بالضرورة معصومة، وليست بالضرورة نتائج مسلمة، بل ينبغي أن تحاط أفكارنا وإبداعاتنا دائماً بسياج الشرع الحكيم، وينبغي أن نكثر المراجعة، وأن نكثر المناقشة لها مرة بعد أخرى، وأن نقيس مدى انطباق ما نقوله على شرع الله عز وجل؛ لأن هذه الدعوة ينبغي أن تحاط بسياج الشريعة. ومهما كانت أهدافنا نبيلة، ومهما كانت مقاصدنا عالية وسامية، فإن ذلك ليس مبرراً لنا أن تنطلق أفكارنا واقتراحاتنا دون ضوابط من شرع الله عز وجل، ودون قواعد. أيها الإخوة الكرام! إنها محاولات وأفكار لا أدعي فيها العصمة، بل لا أدعي فيها أن تكون صواباً، فهي لا تعدو أن تكون اجتهاداً، فإن أصبت فمن الله عز وجل، وذلك فضل الله سبحانه وتعالى، وهو صاحب الفضل والمن أولاً وأخيراً، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأنا أدعوكم جميعاً إلى أن نفكر جميعاً فيما نسمع، وألا نتلقى فقط دون مناقشة ودون مساءلة. إنني أجزم أنكم جميعاً تشاركونني الألم والهم، وأجزم أنكم جميعاً ترون أن هناك أخطاء من الجميع، ولكن كيف يصحح الخطأ؟ قد نختلف في ا

الأسئلة

الأسئلة

كلمة توجيهية للنساء

كلمة توجيهية للنساء Q نطلب منك كلمة توجيهية لأخواتنا المسلمات؛ لأنه يوجد في المخيم عدد كبير من النساء، نشكرهن على إنصاتهن وحسن أدبهن. A لا أريد أن أطيل إنما أريد أن أقول كلمات يسيرة: أولاً: لماذا نفترض أن هناك كلمة خاصة للنساء، وإذا وجهنا كلمة خاصة للنساء فهذا يعني أن كل ما قلناه خاص بالرجال فقط، فما نقوله سابقاً يشمل الشباب، ويشمل أيضاً الفتيات، ولهذا أقول للفتيات: كل ما قلناه سابقاً ينطبق عليكن. وإن كان هناك من كلمة خاصة توجه للنساء فهو فيما يخصهن، أما بقية الأمور فالمرأة تشترك فيها مع الرجل، ولئن كانت لهجة التذكير سائدة على حديثي فذلك لأسباب: أولاً: أن أصل الخطاب في الشرع للرجال، وتدخل فيه النساء. ثانياً: لا أرى أمامي إلا الشباب، فيتأثر الإنسان بما يشاهد وبمن يستمع إليه.

كلمة توجيهية عن الدعوة إلى الاجتماع ونبذ الخلاف

كلمة توجيهية عن الدعوة إلى الاجتماع ونبذ الخلاف Q نرى شباب الصحوة وقد وقعوا في التفرق المذموم، وإهمال العلم والدعوة إلى الله، والاشتغال بأمور تعود عليهم بالإثم، بينما هناك أهل الباطل يستجلبون الشباب، ويعملون ليل نهار على ألا يعودوا إلى الله، فهل من كلمة توجيهية حول هذا الأمر؟ A لا شك أن الجميع يدرك أن هناك فرقة واختلافاً، ونسمع الكلام الكثير عن ضرورة الاتحاد والاجتماع وذم الفرقة، لكن نريد برامج عملية للقاء، وبرامج عملية لزوال الفرقة، فنريد من الذين يتحدثون ويذمون الفرقة أن يطرحوا لنا وأن يساهموا وأن يعملوا. الجميع يقولون: نجتمع على الكتاب والسنة، هذا الكلام نوافق عليه جميعاً، لكن كل الناس يرون أنهم على الكتاب والسنة، ولا يوجد من يدعو إلى خلاف ذلك. ولكن بدلاً من هذا كله، وبدلاً من النحيب والانتقاد، وربما تجد هذا السؤال نطرحه جميعاً في كل مناسبة وكل لقاء، نريد أن نطرح برامج عملية، وأن نساهم عملياً في مثل هذه الأمور، مع أن هذا ليس دعوة إلى إلغاء الحديث في مثل هذه الأمور، لكنكم تعلمون جميعاً أن هناك من يمارس الفرقة عن عمد وسبق إصرار باسم الدعوة إلى إلغاء الفرقة، ومن يمارس شق الصف عن عمد وسبق إصرار باسم الدعوة إلى جمع الصف ووحدة الكلمة. ونحن لا يهمنا النية، ولا يهمنا ما يريد، المهم الذي أقصده أننا يجب أن ننتقل نقلة أخرى، نحن الآن أصبحنا نسمع الدعوة إلى اللقاء، ونسمع ذم الفرقة، لكن نريد أن نكون عمليين، ونريد أن نكون أناس واقعيين، فمجرد الدعوة ومجرد الكلام لا يكفي. لا يوجد أحد يرضى الاختلاف، ولا يوجد أحد يرفض الاجتماع، وإذا وجد أحد فهذا مرفوض أصلاً، وهذا يريد الفتنة لا يريد الخير، لكن نريد خطوات عملية واقعية يمكن أن تقنع الناس، فبدلاً من الانشغال بكثرة الكلام، يجب أن نشغل أذهاننا بالتفكير؛ فنطرح أموراً عملية نساهم فيها نحن عملياً عل الله عز وجل أن يعين ويوفق إن شاء الله. وأنا أتصور أن من أهم الأمور التي تساعد على الاجتماع وزوال الفرقة، أن ننشغل جميعاً بالدعوة، فإذا انشغلنا بالدعوة والخير، وصار العمل هم الجميع، حينئذٍ ستزول كثير من المشكلات. هذه القضايا ومشاكل الفرقة والاختلاف لا تنشأ إلا عند الناس الفارغين، فلو كان كل إنسان يعمل في ميدانه وينتج؛ لكانت المحصلة والنهاية -إن شاء الله- إلى الاجتماع والالتقاء.

دعوة الآباء إلى الاهتمام بالأبناء

دعوة الآباء إلى الاهتمام بالأبناء Q آمل منكم توجيه نداء للآباء بالاهتمام بأبنائهم والعناية بهم، ولعل هذا النداء يعتبر من الجسور أو من إحدى الطرق لإقامة الجسور بين الطيبين وغير الطيبين؟ A نحن جميعاً ندرك المشكلة، وكل الآباء يدركون المشكلة التي يعانون منها، بل إن الأب حينما يرزق بمولود ذكر، فإنه كثيراً ما يضع يده على قلبه يخشى من المستقبل، ويخشى مما أمامه، وتراه دائماً يقول: أصلحك الله يا ولدي، وهداك الله يا ولدي، يقولها في العتاب والتأنيب والشكر والتشجيع، وفي كل مناسبة يكرر هذه الكلمة، والتي تنم عن شعور برغبته الجامحة وحرصه على هدايته وإصلاحه. فأقول: لماذا لا نفكر أيضاً في كسر هذه الحواجز وتحطيم هذه الحواجز، ومد هذه الجسور بين الآباء والأبناء أنفسهم. إن مما يحول دون التربية الأبوية السليمة والصحيحة والناضجة أن هناك فجوات عريضة وواسعة بين الأبناء والآباء، فلو سعى الطرفان جميعاً إلى تحطيم هذه الفجوات، وصار الأب يعيش في حوار صريح مع أبنائه، والأبناء كذلك؛ لساهم هذا كثيراً في وضوح الرؤية أولاً؛ لأن الأب لا يعرف فيم يفكر ابنه، ولا يعرف ماذا يريد ابنه، ولا يعرف مشاكل ابنه، والابن كذلك. فلو كان هناك وضوح، وحوار صريح؛ لساهم كل طرف في معرفة ما عند الطرف الآخر، ثم كان هذا مدعاة بإذن الله لمزيد من الإصلاح، وقطع الخطوات بمشيئة الله عز وجل.

كيفية العودة إلى طريق الاستقامة

كيفية العودة إلى طريق الاستقامة Q أنا شاب كنت ملتزماً، ولكني تغيرت وانحرفت في الأخير، وأريد أن أعود إلى الطريق، وإلى الرفقاء الصالحين، وأخشى ألا يرحب بي زملائي الطيبين، فماذا أعمل؟ A أولاً: يجب أن تشعر أن العودة إلى طريق الاستقامة والصلاح ضرورة، وليست فكرة تريد أن تطبقها. ثم المشكلة أن الشاب عندما يكون مستقيماً وصالحاً ثم ينحرف؛ يكون أسوأ في الانحراف، ويكون أكثر بعداً عن العودة إلى طريق الاستقامة والخير؛ لأن الإنسان الذي لم يجرب أقرب إلى الخير من الإنسان الذي جرب هذا الطريق وعرف ما فيه. فأقول: يجب أن تعرف أن القضية ليس فيها خيار، ولا مجال للتفكير في العقبات، وهو طريق لابد أن تسلكه، وإذا فكرت في العقبات ففكر كيف تذللها فقط، أما أن تفترض عقبات أمامك لتؤثر هذه العقبات في اتخاذ القرار فهذه مشكلة. ومما يؤسف أن كثيراً من قراراتنا تتأثر، فعندما يفكر الإنسان أول ما يتبادر إلى ذهنه هذه العقبات، وينسى أنه ليس أمامه خيار من سلوك هذا الطريق، فإذا فكر في العقبات فيجب أن يفكر في كيفية تذليلها. فأقول: إذا وجدت عندك هذه العزيمة والهمة ستستطيع أن تذلل هذه العقبات، وأنا أجزم أن زملاءك سيرحبون بك، بل سيحرصون عليك، وعندما تعرض أمامهم المشكلة بوضوح فسيحرصون عليك. وهب أنهم رفضوك، فالناس غيرهم كثير، فبإمكانك أن تذهب إلى غيرهم، وأن تجد بديلاً عنهم بإذن الله عز وجل.

حكم إشاعة خبر الانحراف

حكم إشاعة خبر الانحراف Q ما توجيهكم لبعض الشباب الملتزمين الذين ينشرون خبر شاب كان من إخوانهم الملتزمين، ثم ارتكب معصية أو انحرف؟ A أولاً: هذا الأمر هو من الغيبة التي لا تخفى شناعتها وشؤمها، وقد شبهها الله عز وجل بمن يأكل لحم أخيه ميتاً. ثانياً: هذا من إشاعة المعصية والفاحشة بين المؤمنين، وهي دعاية للمعصية؛ لأن الناس عندما يعرفون أن فلاناً وقع في المعصية، وفلان وفلان؛ يستسهلون المعصية، ويستهينون بها، وصاحب المعصية كلما تصور واعتقد أنه غريب ووحيد في هذه المعصية؛ فإن هذا مدعاة لأن يتوب إلى الله عز وجل، ويقبل إليه سبحانه وتعالى، أما حين يعرف أن له شركاء في المعصية؛ فهذا يجعل المعصية تهون عليه وتخف كالطاعة تماماً. ثالثاً: هذا أيضاً لا يخدم المصلحة في النهاية؛ لأننا نريد من هذا الشاب أن يعود إلى الله عز وجل، وهذا يكرس الانحراف عنده، بخلاف ما إذا كان الناس لا يعلمون عنه مثل هذا الشيء، فإنه يسهل عليه أن يعود بعد ذلك.

موقف الشاب الملتزم من بيئته

موقف الشاب الملتزم من بيئته Q أنا في بداية الالتزام على طريق الهداية، ولكني أعيش في بيئة غير ملتزمة، فماذا أعمل حيال ذلك؟ A لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون في حال أعظم مما نعيش فيه، فقد كانوا يعيشون في بيوت ليس فيها انحراف ومعاص فقط، بل كانت بيوتاً تغص بالشرك والكفر بالله عز وجل، وكان آباؤهم وأمهاتهم يسعون إلى فتنتهم وصدهم عن دين الله عز وجل، وما كان ذلك ليردهم عن دين الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تصبر وتحتسب، ثم تعلم أن الالتزام والاستقامة لها ضريبة لابد أن تدفعها، ولابد أن تتحمل، ولابد أن تجاهد نفسك، ولعل ذلك يكون سبباً في إصلاح هذا البيت، ودعوته، والتأثير فيه، فكم نرى من البيوت التي عم فيها الخير والصلاح والاستقامة؛ بسبب شاب من هذه الأسرة هداه الله عز وجل.

التكامل والتوازن في التربية

التكامل والتوازن في التربية التربية الإسلامية للشباب والناشئة من الأمور الضرورية التي يجب أن يعنى بها المسلمون على مستوى الفرد والمجتمع، ومن أهم الأمور في ذلك التكامل والتوازن بين وسائل التربية وطرقها وتطبيقاتها، حتى يتخرج لنا جيل مؤهل لحمل المسئولية وقيادة المجتمع.

ضرورة التكامل والتوازن في التربية

ضرورة التكامل والتوازن في التربية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم ويجزيهم خير الجزاء على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه ممن يذكرهم الله سبحانه وتعالى فيمن عنده. وهذا الموضوع -التكامل والتوازن في التربية- موضوع بائت، فقد كان ضمن سلسلة الدروس الشهرية في شهر ذي القعدة من العام المنصرم، ولكن حالت ظروفي الصحية دون إلقائه، وشاء الله عز وجل أن يكون من نصيبكم، ولئن كان الطعام لا يشتهى بائتاً وحين يبيت فإنه يأسن ويفسد، فأحسب أن الفكرة حين تبيت تصبح أكثر نضجاً ويصبح صاحبها أكثر اقتناعاً بطرحها. وقديماً كان ابن النوام حين يطلب منه أن يخطب وهو لم يعد لخطبته كان يقول: لا أشتهي الخبز إلا بائتاً. فأرجو ألا يكون من سوء حظكم وسوء وفائكم أن يكون نصيبكم هذا البائت، بل إن الفكرة البائتة أكثر نضجاً وأعمق أثراً. معشر الإخوة الكرام! إن الحديث عن إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة وإنقاذها، حديث أحسب أنا قد تجاوزناه، وأحسب أنه أصبح من البداهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ولدى كل مسلم يشعر بدوره في إنقاذ الأمة، لكن مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير. وأحسب أن الجميع أو أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافقنا أن التربية ضرورة ملحة لغرس المعاني والتوجيهات الشرعية في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة، أن التربية ضرورة ملحة لإعداد الأمة لأن تكون أهلاً أن تحمل هذا الدين وأن تحمل هذه الرسالة، لا لهذه الأمة وحدها، بل للعالم أجمع، فقد اختار الله عز وجل هذه الأمة وأتمنها على هذه الرسالة للبشرية كلها فخصها الله عز وجل بخاتمة الرسالات وخاتمة الشرائع، وكانت أمة وسطاً خير أمة أخرجت للناس، شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، وهي حين تسعى للقيام بهذا الدور وأداء هذا الواجب فلابد أن تكون مؤهلة لهذه المنزلة. ولا أظن أبداً -أيها الإخوة- أننا يمكن أن نبلغ هذا المستوى وهذه المنزلة، وأننا يمكن أن نرقع الخلل الذي تعاني منه الأمة من غير تربية، وأرى أنها تستحق منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها، والحديث عن المناهج التربوية والأخطاء التربوية، والحديث عن أساليب التربية، وأرى أن هذا الباب وهذا الجانب أمر ينبغي أن نعنى به جميعاً، لا على مستوى الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات. وهذا الموضوع موضوع شمولي يتحدث عن جوانب كثيرة، سواء أكانت جوانب فرديه أم كانت جوانب على مستوى الأمة، وسواء كانت جوانب تخص الفرد في حد ذاته أو كانت تتعلق بالأسرة ودور الأب ودور الأم، أو كانت تتعلق بالمؤسسات التربوية من المدرسة وغيرها من المحاضن التربوية، ونحن حين نتحدث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجردة، وإلا فالحديث عن هذه القضية لا نستطيع أن نأتي عليه في هذه الأمسية. ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية فنحن نطرح منهجاً ونظرية رأياً قد يكون قابلاً للصواب والخطأ، لكن هذا شيء وتطبيقه على آحاد الأفراد والأحوال شيء آخر، فنحن نتحدث عن أسلوب أو عن منهج أو عن برنامج، وهذا لا يعني بالضرورة أن زيداً من الناس أو عمرواًَ ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك، أقول هذا لأنه يحصل كثيراً أن الكثير من إخوتي الأساتذة والآباء والمربين يطبق ما تقول حرفاً بحرف على حالة يعيشها هو مع من يربيه، مع تلميذه أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة لها اعتبارات خاصة، فحينئذ يشعر بنوع من عدم التوافق، بين ما يطرح ويسمع وبين ما يراه على أرض الواقع. ثالثاً: التربية ليست مسئولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها وفي وقوعها، إنك مثلاً قد تجد البعض من الآباء يشكو لك مشكلة ابن من أبنائه أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه فلم يعد قابلاً للتربية، فيعرض عليك مشكلة ويطلب منك حلاً لهذه المشكلة، قد تجد حلاً وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة لم تكن التربية هي المسئولة عن حدوثها، فهي تعكس إخلالاً، تعكس إهمالاً للتربية ابتداءً. وهكذا حين يعرض عليك الأستاذ مشكلة يطلب منك حلاً لابد أن يتحقق على أرض الواقع، وحينئذ يراجع ويراهن على عدم صحة ما تقوله أو ما تطرحه، فنحن حين نتحدث عن التربية وحين نرى أن التربية كفيلة بإذن الله في تجاوز الكثير من المشكلات والعقبات، فهي ليست مسئولة عن حل مشكلات لم تكن هي السبب فيها ابتداءً. إننا نفترض أن يتربى الشاب من صغره، بل من طفولته على أن يرعى هذا ال

أسباب المطالبة بتربية متكاملة متوازنة

أسباب المطالبة بتربية متكاملة متوازنة

خلق الله الإنسان وفيه جوانب مختلفة

خلق الله الإنسان وفيه جوانب مختلفة إننا نطالب بأن تكون التربية متكاملة متوازنة في الوقت نفسه، سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل، وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا لهذا الأمر مسوغات عدة: أولها: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان يحوي جوانب مختلفة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه جسم، وفيه عواطف متقابلة بل ومتناقضة، وخلق الإنسان وفيه عقل، وخلق فيه مشاعر. إذاً: خلق الله عز وجل الإنسان وفيه جوانب كثيرة متنوعة، وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان يجب أن يكون متوافقاًَ مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير هذا المصدر الشرعي محكوم عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وغالباً ما ترى تشريعات البشر تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تراها تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء. إذاً: فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق مع خلق الإنسان وفطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس مثلاً على الخضوع والتسليم لكل الآراء التي تطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب منهم أن يعطلوا عقولهم وألا يفكروا فيما يقال لهم، فإننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي ما خلقه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، ولو استقامت أمور الناس على التقليد والتبعية لخلق الله عز وجل لنخبة من الناس عقولاً وترك سائر الناس دون عقول، أما وقد خلق الله عز وجل العقول للناس جميعاً فإن هذا يعني أن يربى الناس على أن يستخدموا عقولهم بالدرجة التي لا تخرجهم عن حدود الدائرة الشرعية، وأي تربية تسعى إلى الحجر حريات الناس وعقولهم وتفكيرهم فإنها تعارض الفطرة، وأي منهج يعارض الفطرة فإنه يحمل في طياته بذور الهلاك والبوار. وحين نأخذ منهجاً تربوياً يأخذ جانب العقل والمعرفة وحدها ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان نجد أنه متناقض؛ لأن المرء مفطور على العبودية والخضوع فإن لم يخضع لله عز وجل خضع لغيره من البشر، إن لم يرب على العبادة لله سبحانه وتعالى توجه بالعبادة لغيره من البشر؛ ولهذا نرى المناهج التربوية الغربية التي تصر على التخاطب مع العقل وحده، وتهمل الجوانب الإيمانية وجوانب الوجدان والعاطفة؛ نراها تخالف الفطرة وتناقضها، وحينئذ تعيش في تناقض يحكم عليها بالفشل والبوار.

سنة التكامل والتوازن في الحياة

سنة التكامل والتوازن في الحياة ثانياً: سنة الله عز وجل في الحياة التكامل والتوازن: فالجنون مثلاً يحصل نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والعصبية؛ ولهذا يقال عن المجنون: إنسان غير موزون، والصرع العضوي من أسبابه زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان، وفقر الدم أو ضعفه يحصل نتيجة عدم توازن الكريات البيضاء والحمراء في الدم، ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في الإغماء لدى الإنسان. هذه بعض النتائج التي يخلفها عدم التوازن لدى الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك. أما نتائج عدم التوازن في الكون والحياة فأكثر من أن تحصر، فإن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً وقد تجعله سماً قاتلاً، وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثير من الأمور أقلها اختلال انتظام الليل والنهار وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والحياة بكاملها، وحتى ما يصنعه الإنسان من آلات وما يشيده من بنايات فجميعه محكوم بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية. وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تخرج إنساناً غير متناسق، فجمال الوجه مثلاً في توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس، بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة أو هزيلة أو ناقصة، وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الغذائية، بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والأملاح والمعادن والفيتامينات إلى غير ذلك، والحديث في هذا يطول. المقصود: أن الحياة قائمة على التوازن، وأن الإخلال في التوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور. إن البناء -مثلاًً- حين تزيد فيه نسبة الأسمنت على نسبة الحجارة التي توضع معه فإن هذا يحصل منه خلل، وحين تقل نسبة الحديد أو تزيد فإن هذا الأمر أيضاً يكون غير متناسق، بل حين يسعى الإنسان إلى أن يجمل منزله مثلاً فيبالغ في هذا الجمال، أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً، ونقرأ الحديث عن توازن هذا الكون في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، ويقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4].

قيام الشرع على الوسطية

قيام الشرع على الوسطية ثالثاً: شرع الله عز وجل قائم على الوسطية في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك، فشرع الله عز وجل قائم على هذه القاعدة.

ظاهرة التكامل التشريعي

ظاهرة التكامل التشريعي رابعاً: الشرع تبدو فيه ظاهرة التكامل معلماًً بارزاً، فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حكم، فإنك ترى الشرع له حكم في معتقد الإنسان الذي قد لا يعدو أن يكون عقيدة مستقرة في القلب، وترى للشرع حكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وحكماً في عبادة الإنسان، وحكماً في سلوكه وأخلاقه، وفي الاقتصاد، والسياسة، وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم. إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلا وتجد للشرع فيه حكماً واضحاً ظاهراً، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل، وحين نربي الناس على هذا الشرع فينبغي أن نربي الناس تربية متكاملة متوازنة؛ ولهذا أنكر الله عز وجل على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]. ولهذا فمن إعجاز القرآن أن حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن صورة نراها في واقعنا، حين أمره أن يحكم بشرع الله، وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل إليه وأن يحذر من اتباع أهوائهم قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، وكأن هذه الآية تنطق بواقع هذه القرون المتأخرة، أن هناك من يساوم على شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله عز وجل ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله عز وجل في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب، وهذا هو اتباع الهوى والإعراض عن شرع الله عز وجل؛ ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء الذين يريدون أن يحكموا شرع الله في أمر من أمور الحياة ويهملوه في سائرها. إن هذا -معشر الإخوة الكرام- دليل على أن هذا الشرع جاء ليحكم الحياة كلها، وحينئذ فأي منهج تربوي يريد أن يربي الناس على خلاف ذلك فهو معارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم، وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.

التحدي التربوي الذي تواجهه الأمة

التحدي التربوي الذي تواجهه الأمة خامساً: الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربوياً من أبواب شتى: فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، والطفل المسلم تعد له أفلام وتكتب له قصص ومجلات يقصد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي، وكذلك الشاب والفتاة والعلاقات الاجتماعية والأسرة وحياة الناس في اقتصادهم وعقيدتهم وحياتهم السياسية، إن الأمة ستواجه تحدياً شاملاً متكاملاً لخلعها عن دينها وتربيتها على غير شرع الله عز وجل، وحينئذ فالتربية التي تستهدف إنقاذ الأمة والوقوف في وجه هذا التيار الوافد لن تكون مؤهلة للمواجهة ما لم تكن آخذة بالتكامل والتوازن.

التكامل والتوازن التربوي على مستوى الفرد

التكامل والتوازن التربوي على مستوى الفرد

التكامل والتوازن في التعامل مع النصوص

التكامل والتوازن في التعامل مع النصوص وبعد أن تحدثنا عن ضرورة التكامل والتوازن وعن مؤيدات التكامل والتوازن في التربية ننطلق بعد ذلك إلى الحديث عن أمثلة من التكامل والتوازن التربوي الذي نريده في تربيتنا، وقد لا نستطيع أن نأتي على جميع ما نريد، فلعلنا أن نقتصر على بعض النماذج على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع كله. أولاًً: على المستوى الفردي: إن من التكامل في التربية أن يربى الفرد على التوازن في التعامل مع نصوص الشرع وأحكامه، فالغلو صفة ممقوتة مرذولة بالعقل مرفوضة بالشرع، والتجاوب مع شهوات النفس ورغباتها لا يسوغ أن يكون البديل للتخلي عن الغلو ورفضه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. إننا حين نربي أبناءنا على الفوضى، والتسيب في التعامل مع الأحكام الشرعية والتفلت من الضوابط الشرعية فإننا نربيهم تربية غير متوازنة، تربية متطرفة تميل إلى جانب دون جانب، وحين نربيهم على الغلو والمبالغة فإنها أيضاً هي الأخرى تربية غير متوازنة. إذاً: فالتربية المتكاملة المتوازنة تقتضي أن يربى الفرد على الوسطية في التعامل مع الأحكام الشرعية، فلا يربى على التسيب والتفلت من الضوابط والأحكام الشرعية، ولا يربى على الغلو. إننا كثيراً ما نسمع الشكوى من أن الابن يواجه التعويق من أبيه وهو يدعوه إلى التجاوب مع شهواته، يدعوه إلى التجاوب مع التقصير والإهمال، بل نرى الأب -وللأسف- يحظ ابنه على التقصير في الصلاة والتهاون فيها، نرى الأب أحياناً يدعو ابنته إلى الزهد في الحجاب والعفاف والفضيلة، إنها تربية غير متوازنة، تربية متطرفة تخل بهذا المبدأ التربوي الذي جاء به شرع الله عز وجل.

التكامل في رعاية أبعاد الشخصية

التكامل في رعاية أبعاد الشخصية ثانياً: التكامل والتوازن في تربية الفرد يعني التكامل في رعاية أبعاد الشخصية ومستوى الشخصية، بأن يحرص الأب والأم على أن تكون تربية الابن متكاملة، فالتربية التي نطالب بها ليست هي أمره بالصلاة فقط وليست هي نهيه عن سيء الأخلاق، وإن كان هذا مبدأً مهماً من مبادئ التربية، لكننا أيضاً نطالب أن ترعى صحة الابن، إنه لا يسوغ أبداً أن تهمل الأم ابنها أو طفلها الصغير وطفلتها تجاوباً مع داعي النوم وطفلها يريد الطعام، وطفلها يريد الحنان، ولا يسوغ أبداً أن تكون المكالمات الهاتفية والحديث مع بني جنسها مدعاة لانشغالها عن صبيتها ورعايتهم، والأب كذلك هو الآخر، ولهذا يوصي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر في الصحيحين؛ يوصي أن نحرص على رعاية الأبناء وحمايتهم مما قد يصيبهم من أضرار، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ)، فهو يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على صحتهم وأن نحرص على إبعادهم عما قد يضر بصحتهم، ودخل صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي، فقال: (ما بال صبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين)، والحديث رواه الإمام أحمد. ولهذا يوصي ابن القيم رحمه الله برعاية هذا الجانب، فيقول: ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره، من حرد وغضب ولجاج وعجل وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع فيصعب عليه تلافي ذلك. إن هذه الجوانب مطلوب من الأب والأم أن يرعاها.

الحاجة إلى رعاية جوانب الشخصية المختلفة

الحاجة إلى رعاية جوانب الشخصية المختلفة التربية الفردية ثالثاً حتى تكون متكاملة، ينبغي أيضاً أن ترعى جوانب الشخصية المختلفة، إن المرء له جوانب عقلية، وجوانب معرفية وجوانب وجدانية، إن التربية ينبغي أن ترعى هذه الجوانب كلها، وعلى سبيل المثال لنلقي نظرة سريعة عاجلة على التربية والتعليم الذي نراه على مستوى الأمة الإسلامية، هل التربية المدرسية الآن ترعى هذه الجوانب كلها، أم أنها تتعامل مع جانب واحد فقط من هذه الجوانب، ماذا يتلقى الطالب وماذا تتلقى الطالبة في المدرسة؟ إن الذي يتلقاه في المدرسة لا يزيد على أن يكون معلومات معرفية مجردة جافة، وحتى هذه المعلومات يأخذها تلقيناً ويطلب منه أن يعتاد على أن يسمع ويطيع، وأن يعتاد على مبدأ التسول الفكري، وعلى أن يلغي عقله وتفكيره، فكل ما يقوله له والده صواب لا يقبل الخطأ وكل ما يقول له أستاذه صواب لا يقبل الخطأ، بل لا يقبل النقاش، وكل ما يسمع في المجتمع من هنا وهناك صواب لا يقبل الخطأ. إن هذه معشر الإخوة الكرام تربية غير متكاملة ولا متوازنة، إننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في مناهجنا التربوية لننظر هل تغطي هذه الجوانب فعلاًً؟ أسألكم بالله كم عدد الشباب والفتيات الذين يعيشون في سن المراهقة وجحيمها ويعانون من المشكلات التي تثور مع هذه المرحلة؟ فهل مناهج التعليم في العالم الإسلامي تتعامل مع هذه المرحلة بما يليق؟ وهل مناهجنا التربوية وأساليبنا التربوية كفيلة بحل مشكلات هؤلاء الشباب؟ كم نرى في العالم الإسلامي من رواد الجامعات والمدارس ممن يكونون ضحية للمخدرات، أو ضحية للانحراف الجنسي، أو ضحية للخلل هنا وهناك، فأين أثر التربية؟ أظن أن جزءاً كبيراً من المشكلة يكمن في أن التربية هنا تربية غير متكاملة، فهي لا ترعى إلا جانباً واحداً فقط هو الجانب المعرفي وحده.

الحاجة إلى التكامل في جوانب الفرد

الحاجة إلى التكامل في جوانب الفرد رابعاً: وحتى في جوانب الفرد نحتاج إلى التكامل، ولأضرب على ذلك مثلاً: فالتربية العلمية بحاجة لأن تكون تربية متكاملة متوازنة، وهذا يعني أن تتنوع التخصصات وأن يتربى طالب العلم على أن يحمل رصيداً متكاملاً، وخلفية علمية متكاملة مما يحتاج إليه في مرحلته وسنه. ويعني أيضاً أن يتعلم أدوات البحث ووسائل المراجعة، وألا يكون التعليم قاصراًً على مجرد شحن ذهنه بالمعلومات، وحين نمعن في مراجعة التربية المعرفية والعلمية وحدها نجد أن هناك شرخاً واضحاًً في هذا الجانب، فما بالكم بسائر الجوانب الأخرى. وأختم الحديث عن الجانب الفردي بعبارة للحسن رضي الله عنه وكأنه يخاطب بها جيل الصحوة يقول: العالم على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلباً لا تضروه بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروه بالعلم فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم -يقصد بذلك الخوارج- ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا. إذاً: فحري بجيل الصحوة أن يتربى تربية متكاملة تعنى بالعبادة الحقة والصلة بالله عز وجل، وتعنى بالجانب العلمي والمعرفي، والجانب العملي والدعوي والتطبيقي، وأي تركيز في جانب على حساب بقية الجوانب إنما هو خلل تربوي ينتج تربية نشازاً قد نرى نتائجها المرة فيما بعد.

التربية على مستوى المجتمع

التربية على مستوى المجتمع

ألا تكون التربية نخبوية

ألا تكون التربية نخبوية أكتفي بهذه الأمثلة على المستوى الفردي لأنتقل بعد ذلك إلى التربية على مستوى المجتمع، وهو العنصر الثالث من عناصر هذا الدرس، فالتكامل والتوازن مطلوب على مستوى المجتمع ككل وهذا يعني: أولاً: ألا تكون التربية نخبوية فتخص فئة من الناس دون غيرهم، لا شك أنه جميل ومطلوب منا أن نعنى بتربية النشء وتربية الشباب وتربية طلاب العلم وأن تصرف جهود كبيرة في ذلك، لكن أيضاً حين نغفل عن تربية قطاع مهم من قطاعات المجتمع كقطاع المرأة والفتاة، أو عن التعامل مع قطاعات أخرى من قطاعات المجتمع بالتربية التي تليق بهم وتتناسب معهم فإن هذا خلل تربوي. التربية المتكاملة تعني أن تتعامل مع طبقات المجتمع كلها، ولا شك أننا قد نعطي فئة وشريحة من شرائح المجتمع قدراً من العناية والتربية أكثر من غيرها من الشرائح، لكن هذا شيء وإهمال سائر الشرائح شيء آخر. إنك تسر وأنت ترى الجهود المبذولة في تربية الشباب وتربية الجيل، لكن يدركك الأسف ويرجع إليك البصر خاسراً وهو حسير حين تتأمل في الجهود المبذولة لتربية الفتاة وتربية المرأة، فما هي الجهود التي تبذل لتربية هذا القطاع المهم من قطاعات المجتمع؟ تربية الطفل، ما حجم الكتابات والأعمال والجهود والمدارس التربوية التي تقدم للطفل المسلم؟ الذي يرى الأفلام وهو في منزله تحكي له الشرك بالله عز وجل، وهي قضية نراها جميعاً. الطفل الذي يتربى على الشهوات من صغره، الذي يتربى على المبادئ المنحرفة، أي جهد تربوي يصرف لهذا القطاع من قطاعات المجتمع! وقل مثل ذلك في سائر الطبقات.

تكامل الجهود التربوية

تكامل الجهود التربوية والتربية المتكاملة في المجتمع تعني ثانياً: أن تتكامل الجهود وتتظافر في كافة المؤسسات التربوية بين المنزل والمدرسة والنادي ووسائل الإعلام والمسجد. أيليق أن تربي المدرسة الشاب تربية يسمع نقيضها بعد ذلك في الشارع ويراها في وسائل الإعلام؟ إننا نعيش ازدواجية تربوية فيسمع من خلال هذا المنبر في خطبة الجمعة حديثاً يرى نقيضه حين يخرج، يرى نقيضه في الشارع، يرى نقيضه في النادي، يرى نقيضه في وسائل الإعلام، يرى نقيضه في المنزل، يسمع حديثاً في المدرسة من أستاذه ثم يرى نقيضه بعد ذلك في سائر المؤسسات. إن مثل هذا السلوك -معشر الإخوة الكرام- لا يعدو أن يخرج لنا جيلاً يعيش في حلقات المكر وفي دوامة حين يربى على التناقض، فالمسجد والمدرسة تدعوه إلى شيء، ووسائل الإعلام والشارع والمنزل يدعوه إلى شيء آخر، إننا حين نكون جادين في تربية الجيل فلتتكامل المؤسسات التربوية كلها في المجتمع لتسير في خط يتفق مع عقيدتنا الإسلامية، يتفق مع منهجنا، يتفق مع هوية الأمة، وحينئذ نرى الثمار يانعة بإذن الله.

التكامل داخل المؤسسة التربوية الواحدة

التكامل داخل المؤسسة التربوية الواحدة والتربية المتكاملة تعني ثالثاً: أن تتكامل التربية داخل المؤسسة التربوية الواحدة: المنزل هو الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهو الدائرة التي يطل منها الطفل على الحياة، لكننا نرى أحياناً تناقضاً تربوياً بين قطبي الأسرة (الأب والأم)، فالأب مثلاً له كلمة تخالف كلمة الأم، والأم لها منهج يخالف منهج الأب، وماذا نتصور من شاب صغير أو فتاة صغيرة ترى التناقض وازدواجية التوجيه داخل البيت من الأم والأب؟ إنه قد يكون هناك خلاف بين الأب والأم حول بعض الوسائل التربوية، قد يكون بينهم خلاف حول بعض الأساليب، قد يكون بينهم خلاف حول الحلول لبعض المشكلات، وهذا أمر طبيعي، بل ينبغي أن تختلف وجهات النظر، لكن هذا شيء وبروز هذا الخلاف على السطح شيء آخر، حينئذ يعيش الطفل عيشة غير سوية.

التكامل بين الوسائل التربوية

التكامل بين الوسائل التربوية والتكامل والتوازن يعني رابعاً: التكامل بين الوسائل التربوية من خلال التوجيه المعرفي والعملي والتطبيق والقدوة والترغيب والترهيب والقصة، والتوجيه المباشر والتوجيه غير المباشر. إننا وللأسف في مجالات كثيرة لا نحسن إلا أسلوباً واحداً، أسلوب التوجيه المباشر، أسلوب الأمر والنهي، أسلوب الترهيب والوعيد والعقوبة. فمثلاً: من هو الأب الذي يكافئ ابنه ويثني عليه حين يحسن؟ والأستاذ الذي يكافئ تلميذه حين يبدو منه موقف يستحق المكافأة والثناء، وحين نستخدم العقوبة فإننا ينبغي أن نستخدم الثناء بالقدر نفسه، وحين نستخدم الترهيب فإننا ينبغي أن نستخدم الترغيب بالقدر نفسه، وحين نستخدم التوجيه المباشر فإننا ينبغي أيضاً أن نستخدم التوجيه غير المباشر بالقدر نفسه. إننا -أيها الإخوة- نفتقر كثيراً في مؤسساتنا التربوية، في المدرسة والمنزل، بل ربما أحياناً في الدرس التربوي والحلقة التربوية في المسجد، نفتقر إلى التكامل بين الوسائل والأساليب التربوية، فلا نكاد نجيد إلا أساليب محدودة ربما تصب في قالب واحد، ولا شك أن هذا ينتج لنا تربية نشازاً، وحين نقرأ القرآن الكريم نجد أن القرآن ينوع بين الترغيب والترهيب والقصة والموعظة، وبين الثناء والعتاب على الخطأ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نراها كذلك، فهو صلى الله عليه وسلم تارة يثني على أحد أصحابه وتارة يعاتبه وتارة يغضب عليه، وتارة يوجه صلى الله عليه وسلم توجيهاً مباشر وتارة يوجه توجيهاً غير مباشر، وهكذا نرى في هديه صلى الله عليه وسلم التكامل بين الأساليب والوسائل التربوية، وأي منهج يريد أن يقتفي سنته وهديه لابد أن يأخذ على عاتقه التكامل والتوازن في استخدام هذه الوسائل التربوية.

أمور تعين على تحقيق التوازن والتكامل

أمور تعين على تحقيق التوازن والتكامل

التخطيط والترتيب

التخطيط والترتيب وبعد ذلك ننتقل إلى العنصر الرابع وهو: أمور تعين على تحقيق التكامل والتوازن. والحديث فيما سبق كان عن شيء من مضمون التوازن والتكامل، وأرى أن ما ذكرته لا يعدو أن يكون أمثلة تدل على ما سواها ومعالم تقود إلى غيرها. بعد ذلك ننتقل إلى أمور وخطوات أظن أنها قد تكون معينة لنا على أن تتكامل تربيتنا وأن تكون متوازنة: أولها: التخطيط والترتيب للعملية التربوية: معشر الآباء ومعشر الأمهات: من منكم يجلس مع نفسه ويفكر تفكيراً هادئاً في واقعة مع ابنه أو مع ابنته كيف سيتعامل مع هذه المشكلة ومع تلك؟ وكيف سيحقق هذا الهدف أو ذاك؟ وأسأل الأستاذ والمربي: كم يأخذ منا التفكير والتخطيط والترتيب للعملية التربوية؟ وحينئذ ندرك سر الخلل؛ لأن التربية صادرة عن تصرفات مرتجلة لم تكن معدة من قبل.

وضوح الأهداف واتفاقها مع الشرع

وضوح الأهداف واتفاقها مع الشرع ثانياً: وضوح الأهداف واتفاقها مع الأهداف الشرعية ومع نصوص الشرع: إننا ينبغي أن نرسم أهدافاً نريد أن نصل إليها، ونريد بهذه التربية التي نقدمها أن يصل الشاب والفتاة لمنزلة معينة وفق أهداف مرسومة، وهذه الأهداف ينبغي أن تكون منضبطة مع النصوص الشرعية، فالتربية الغربية التي تدعو إلى تكوين المواطن الصالح تربية مرفوضة في المنطق الشرعي؛ لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة لا تعرف الحدود والحواجز، وحين نربي أبناءنا وبناتنا على الإقليمية والعنصرية فإن هذا هدف غير شرعي، وأخطر من ذلك حين تتطور القضية على المستوى الفكري الذي يطرح في الساحة، فنربي الناس على التعلق بالقومية والشعارات الوطنية، إن هذا يخرج لنا أمة متنافرة متناقضة. وحين نربي أبناءنا وبناتنا على أن يكون الهم الأول والأكبر لهم هو تحصيل المادة، وعلى أن يكون هم التعليم وهدفه تحصيل الشهادة، فإن هذه أهداف مرفوضة لا تتوافق مع أهداف التربية التي يريد الله عز وجل أن تخرج المسلم العابد المتجرد لله عز وجل.

المراجعة المستمرة

المراجعة المستمرة ثالثاً: المراجعة المستمرة: إننا ينبغي أن نراجع مناهجنا التربوية كثيراً، وأن نراجع الأساليب والوسائل التي نستخدمها في بيوتنا، وفي مدارسنا وفي غيرها من مؤسساتنا التربوية، بأن نراجع المناهج، والكتب، ويكون ذلك لتحقيق الأفضل والأشمل، وينبغي أن نعرف أن كل إنجاز وبرنامج تربوي نرسمه إنما هو جهد بشري، وحين يكون جهداً بشرياً فإن هذا يعني أنه لا يستغني عن المراجعة ولا يستغني عن التصحيح، وحين نرفض المراجعة والمناقشة فإن هذا يعني أن نبقى على ما نحن عليه من أخطاء ونبقى على ما نحن عليه من زلات ومن هفوات.

عدم الاستجابة لردود الفعل

عدم الاستجابة لردود الفعل رابعاً: عدم الاستجابة لردود الفعل: وغالب الخلل -معشر الإخوة الكرام- الذي ينشأ في رعاية هذا الجانب إنما هو ردة فعل، والاستجابة لردود الفعل تولد الانحراف. إن المرجئة الذين قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب إنما قالوا قولهم هذا ردة فعل لأولئك الخوارج الذين غلو فكفروا مرتكب الكبيرة، والنواصب الذي ناصبوا آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم العداء إنما جاء موقفهم ردة فعل لانحراف الرافضة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والذين شبهوا الله عز وجل بخلقة إنما انطلقوا من ردة فعل لأولئك الذين نفوا صفات الله عز وجل. وهكذا ترى مدرسة التمسك الحرفي بالظاهر إنما جاءت ردة فعل للتقليد المقيت، وقل مثل ذلك في المدارس الفقهية والتربوية، بل حتى الاجتهادات في مسائل كثيرة تراها غالباً ما تأتي ردة فعل. نعود إلى الجانب التربوي، حين يكتشف الإنسان في تربيته لنفسه أولاً أنه قد وقع في خطأ فركز على جانب على حساب جانب آخر مثلاً، فيكتشف هذا الخطأ ويريد معالجته فإنه غالباً ما يجنح إلى ردة الفعل فيغلو في الجانب الثاني على حساب الجانب الأول، ويبدأ يتقلب بين طرف وآخر، وقد تكون ردة فعله تجاه خطأ غيره، فهو مثلاً قد يرى غيره يعتني بالعبادة على حساب طلب العلم الشرعي وعلى حساب الدعوة فيرى أن هذا خطأ، فيعالج هذا الخطأ بخطأ آخر فيهمل جانب العبادة ويهمل التقرب إلى الله عز وجل، ويعيش قاسي القلب ليس له حظ من عبادة الله سبحانه وتعالى والتوجه له، وقل مثل ذلك في سائر الجوانب. فينبغي أن نحذر معشر الإخوة الكرام ونحن نعالج أخطاءنا من ردود الأفعال، وأن نحذر أيضاً ونحن نعالج أخطاء الآخرين من ردود الأفعال وأن تكون مواقفنا متزنة. إن ردة الفعل أدت ببعض الناس إلى الانحراف في المعتقد، أدت بهم إلى أن يضعوا مناهج فقهية وتربوية للتعامل مع النصوص، أدت بهم إلى أن يقفوا مواقف واجتهادات ليست إلا ردة فعل من موقف الآخرين الذين وقعوا في هذا الخطأ أو ذاك.

تنبيهات

تنبيهات

التوازن ليس معناه التساوي

التوازن ليس معناه التساوي والعنصر الأخير هو تنبيهات حول ما سبق الحديث فيه: أولاً: إننا حين ندعو إلى التوازن في التربية فندعو مثلاً الشاب إلى أن يكون له نصيب من العبادة والصلة بالله عز وجل والبعد عن الدنيا، ونصيب من العلم الشرعي، ونصيب من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإنكار المنكرات، ونصيب من أبواب الخير، فإن التوازن ليس مرادفاً للتساوي والتعادل، فإن الناس طاقات ومواهب وقدرات. ثم إن الأمة الإسلامية تحتاج أبواباً كثيرة قد تؤدي وتدعو إلى أن يربى بعض الناس على جانب، وأن يعنى بعض الناس بجانب ويعنى الآخرون بجانب آخر، فحين ندعو إلى التوازن فإننا لا ندعو بالضرورة إلى أن تكون النسب متساوية تماماً ومتعادلة، إنما التوازن يعني ألا تكون -مثلاً- عبادة الإنسان على حساب عنايته بالعلم الشرعي، وألا يكون طلبه للعلم على حساب صلاح قلبه، أو على حساب دعوته، وقل مثل ذلك في سائر الجوانب. ثانياً: أيضاًً هذا لا يعني إهمال التخصص، فالناس خلق لهم الله عز وجل عقولاً وقدرات، كما قال الإمام مالك: رب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصيام، ورب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الذكر، ورب رجل فتح له في العلم ولم يفتح له في الجهاد، وما أظن ما أنا عليه بخير مما أنت عليه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. قال هذا رحمه الله لذاك الذي أنكر عليه العناية بالعلم، ودعاه إلى التفرغ للعبادة، فلابد من التخصص، ولابد أن يعنى فلان بجانب من الجوانب، وقد يكون مثلاً على حساب غيره، لكن هذا التخصص ينبغي أن يكون بقدر لا يخرج المرء عن القدر المشترك الذي ينبغي أن يكون عند الناس جميعاً. إذاً: -أيها الإخوة الكرام- إن التكامل والتوازن لا يعني إهمال التخصص، ولا يعني إهمال القدرات الشخصية التي قد يفوق فيها فلان من الناس غيره، ولا يعني أيضاً أن تكون هذه الأمور كلها بنسب متعادلة، لكن لا يليق مثلاً بمن اشتغل بالعلم والتعلم وصرف نفيس وقته لذلك أن يهمل جانب العبادة وحظه منها إهمالاً واسعاً بحيث يؤدي به إلى قسوة القلب، وأن يكون بعيداً عما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم من سمت، وقل مثل ذلك في من يدعو إلى الله ومن يحتسب على إنكار المنكرات العامة، وأظن أن القضية واضحة لدى الإخوة. هذا ما أردت الحديث عنه حول هذه القضية التربوية، وهي قضية التكامل والتوازن. أسأل الله عز وجل أن يجعل الخير والبركة فيما قلنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. إنه سميع قريب مجيب، وأترك بقية الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة الكرام.

الأسئلة

الأسئلة

عتاب على عدم إلقاء محاضرة في المدينة النبوية

عتاب على عدم إلقاء محاضرة في المدينة النبوية Q لماذا أنتم وسائر الدعاة منقطع عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنها أحوج ما تكون لذلك، وخاصة في هذه السنوات الأخيرة؟ A أولاً: الأخ الذي يوجه التهمة والسؤال ينبغي أن يعرف الواقع، فأنا لم أتلق أي دعوة إلى الآن لزيارة المدينة النبوية، وأظن أن الدعوات التي ترد إلينا لا يستطيع الأخ أن يأتي بجزء منها، فكيف يذهب يتبرع ويعرض نفسه؟ وإن كان هذا أمراً ينبغي أن يفعله الدعاة إلى الله عز وجل، لكن وقت الإنسان لا يسمح بالإجابة لدعوات غيره، ثم أحب أن أقول كلمة للإخوة جميعاً: يجب ألا نعتمد على التسول، وألا نعتمد على الآخرين، وننتظر من الآخرين أن يقوموا بنا، إذا كنا نشكو من مشكلات في بلادنا ومدننا وقرانا أياً كانت، فينبغي أن نسعى في حلها من تلقاء أنفسنا، أنا أجزم أن أي مدينة وأي منطقة مثلاً يطلب فيها الشباب محاضرات، وإلقاء محاضرة أنا أجزم أني سأجد في كل مدرسة ثانوية، وكل مدرسة متوسطة للبنين والبنات سأجد فيها عدداً من المدرسين الأخيار، ولو قام هؤلاء بمسئوليتهم ودورهم لصنعوا أكثر مما يصنعه شخص يلقي محاضرة ثم ينصرف. وقل مثل ذلك في شأن الآباء وخطباء الجمعة وغيرهم، فلا يسوغ أن نحمل المسئولية الآخرين وأن ننسى الجهد والدور الذي ينبغي أن نقوم به نحن، وأظن أنه قد يكون أكثر من ما يمكن أن يقوم به الوافد.

توجيهات للمربين في المراكز الصيفية

توجيهات للمربين في المراكز الصيفية Q هل من كلمة للإخوة المربين في المراكز الصيفية حتى يستطيعوا تقسيم ثمرة الجهد؟ A نقول للإخوة المربين والذين يتولون مثل هذه الثغور: إنهم على ثغور مهمة فينبغي لهم أولاً: أن يدركوا قيمة العمل الذي يقومون به، ولا يستهينوا به، فقد يرون مثلاً هذا العمل يشغلهم عن قضايا شخصية يريدونها، قد يكون بعضهم يريد أن يجعل من الإجازة فرصة للقراءة مثلاً العلمية، أو لجولات دعوية معينه، أو لبرامج يريدها لنفسه، فيرى أن مثل هذا العمل يشغله عنها، أو قد يزهد أحياناً فيما هو عليه حين يرى ما عليه الآخرون، أقول: أول وصية ألا يزهدوا فيما هم عليه، وأن يروا أنهم على ثغور مهمة وأن دورهم لا يقل عن دور غيرهم، فعليهم أن يعتنوا بالبقاء على هذه الثغور وحمايتها، وألا يفكروا في التحول عنها. ثم أن يتقوا الله عز وجل في هؤلاء الشباب الذين جاءوا يطلبون الخير والصلاح والاستقامة، ووثق أهلهم فيهم فسلموهم أولادهم، والقضية ليست أمانة شخص، إنما الصحوة كلها مرهونة بهذا الجيل، والمربون الآن يتحملون أمانة ومسئولية إعداد هذا الجيل ليستلم القيادة، وأي خلل في تربيتنا وأي خلل في هذه الأمانة يحدث شرخاً في الأمة كلها؛ لأننا نحن نربي القادة، ونربي الجيل، فأرى أن المسئولية التربوية أبعد أن تكون مسئولية عن شخص وفرد بعينه، وإن كانت هذه بحد ذاتها مدعاة للمربي أن يدرك الأمانة والمسئولية، إنها مسئولية الأمة كلها أجمع من خلال إعداد هذا الجيل، فنصيحتي لإخواني في المراكز الصيفية وغيرهم من المربين أن يضعوا هذا الأمر نصب أعينهم.

توجيهات لكبار السن في مراعاة التغير الاجتماعي في التربية

توجيهات لكبار السن في مراعاة التغير الاجتماعي في التربية Q هناك كثير من كبار السن عندهم أخطاء في التربية، يظنون أن طرقهم التي يستغلونها ويعملونها طرق تربوية حقيقية، وهي ضد ذلك؛ بدليل النتائج المزرية لهذه الأعمال، فنريد توجيه كلمة من فضيلة الشيخ لهؤلاء؟ A المشكلة أن عند الآباء أن الأب تربى في عصر وجيل له طبيعة خاصة، وظروف خاصة فيريد أن يصب الابن في القالب الذي عاش فيه هو، وأظن أننا أشرنا إليها في شريط (يا أبت)، مثلاً الأب في هذا السن عاش في وضع كانت المرأة عندما تخرج تلتصق بالحائط وتبتعد عن الناس، والمجتمع محصور وليس متصلاً بمجتمعات أخرى، واليوم يعيش الشاب في البيت وهو يرى مشهداً عارياً تماماً، يرى مشهداً ساقطاً، يرى أموراً لا قبل له بها، والأب يعيش في عالم آخر وهو لا يدري ما يعيشه الابن. الابن يعيش ازدواجية في التوجيه من المدرسة، من الأسرة، من هنا وهناك، يعيش مشكلات لم يكن يعيشها الأب؛ ولهذا لا يسوغ أن يصب الأب الابن في القالب الذي عاش فيه، بل يرعى هذا الفرق. أنا أتصور أن أكبر الأسباب أن الأب عاش في عصر وجيل وتربى على نمط معين يريد أن يربي ابنه أو بنته على هذا النمط الذي عاش عليه، فيجب أن ندرك التغير الذي حصل في المجتمعات والفروق. أيضاً يجب أن يكون عندنا استعداد لأن نراجع أنفسنا، وها أنت ترى الأسلوب الذي تسلكه لم ينجح، فلماذا لا تعيد النظر؟ ولماذا نستعصي على أنفسنا أن نقول: إننا قد أخطأنا وكل إنسان يقع في الخطأ حتى العلماء والصالحون، فما بالك بمجرد أب أو أستاذ، فهو أكثر عرضة لأن يقع في الخطأ من أولئك الذين هم على صلاح واستقامة وعلم، فعندما يضع الأب والمربي هذين الاعتبارين في ذهنه أعني: جانب الفرق بين المجتمعات التي عاشها والتي يعيشها الآن، وجانب احتمال الخطأ والمراجعة، أظن أنه سيتجاوز كثيراً من هذه المشكلات.

معالجة الخلل في التربية

معالجة الخلل في التربية Q تحدثت عن التوازن والتكامل للتربية، لكن ماذا لو ربي الابن على غير ذلك؟ وما هي طرق التصحيح للخطأ الأولي عند الانتباه؟ A يعني: أنت قد تركز على جانب من الجوانب أكثر من غيره في التربية لحل مشكلة معينة ولحل خطأ، لكن هذا تصحيح فقط في مرحلة التصحيح بعد ذلك تعود إلى التوازن، أضرب لك مثلاً: الإنسان يجب أن يربى بتوازن بحيث يجد من والده ومن أمه نوعاً من العاطفة، ورعاية هذه الجوانب عنده، ثم نوعاً من الحزم، فيتربى بين هذه الخيوط المتقابلة، فحين نجد الابن متربياً تربية عاطفية بحتة، أو متربياً على القسوة فنريد أن نعيده للتوازن قد نضطر إلى أن نرتكب خللاً تربوياً متعمداً طبعاً ليس خللاً شرعياً إنما في أسلوب من الأساليب، حتى يعود بعد ذلك إلى الوضع الذي نريده ثم نعيش بعد ذلك مرحلة متوازنة، لكن هذا وضع مؤقت وجانب مؤقت. مثلاً: الفاسق المعرض قد نركز معه على جانب الترهيب حتى يعود إلى صوابه وحينئذ نتعامل معه بمنطق الترغيب والترهيب، والعكس فالإنسان الذي عنده غلو وعنده مشكلات في الغلو، يمكن أن تعطيه نصوص الرجاء وتركز عليها حتى نعيده إلى الوسط، ثم بعد ذلك تتعامل معه تعاملاً متوازناً.

كيف يعرف الداعية أنه على منهج متوازن متكامل

كيف يعرف الداعية أنه على منهج متوازن متكامل Q إذا كان الشاب سائراً في طريقه في الدعوة إلى الله عز وجل، فكيف يعرف أنه سائر على منهج متكامل متوازن كما تدعون إليه في هذه المحاضرة؟ A المراجعة الدائمة مهمة، أن نراجع كيف نربي أنفسنا، وكيف نربي غيرنا، ونراجع مناهجنا التربوية، والمراجعة بالمصطلح الشرعي هي محاسبة النفس وهي الكفيلة باكتشاف الأخطاء خاصة هذه الجوانب، فهناك مثلاً أخطاء في حياة الإنسان قد تكون ظاهرة أو واضحة، لكن هناك جوانب قد تكون خفية ولا يدركها الإنسان، فعندما يحاسب نفسه يستطيع أن يكتشف أخطاءه.

الموازنة بين الحكمة والمداهنة

الموازنة بين الحكمة والمداهنة Q كيف نوازن بين الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين المداهنة والخوف؟ A هذه من القضايا التي يكون فيها إشكال، بعض الناس لا يعرف إلا الحديث عن الرفق والحكمة وينسى أن هناك نصوصاً شرعية تأمر بالجهر بالحق والصدع به، وأن هناك نصوصاً تأمر بالأخذ على يد الظالم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم، وأن يقولوا بالحق حيث كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، بل إنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، فلا يسوغ مثلاً أن نركز على هذا الجانب، وأن نربي الناس عليه على حساب الجانب الآخر، والعكس أيضاً، فلا يسوغ أن نربي الناس على الاندفاع، ونهمل الجانب الآخر من الرفق والحكمة وأخذ الناس بحسن التعامل، مع ملاحظة أن الحكمة ليست مجرد فعل الرفق، فقد يكون من الحكمة الحزم والقسوة، وقد يكون من الحكمة الرفق، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه.

الأسلوب الأمثل للتربية

الأسلوب الأمثل للتربية Q كثير من المربين الذين يقومون بجمع الشباب يعانون من تفاوت القدرات بينهم، فمنهم الذكي ومنهم دون ذلك، ومنهم من يميل إلى الترفيه والضحك واللعب، والآخر يميل إلى الجدية والطريقة المثلى، فما هو الأسلوب الأمثل لإفادة الجميع بارك الله فيك؟ A المشكلة موجودة وأنا أتصور أنها على نطاق أوسع من هذا النطاق، مثلاً في الجانب المدرسي، تجد المدرس عنده أربعون طالباً في الفصل، يأخذون منهجاً واحداً، ويشرح لهم درساً واحداً في وقت واحد، هؤلاء الطلاب فيهم شخص نابغ ذكي، وفيهم شخص مغفل غبي، وفيهم شخص بين ذلك، فكيف يعامل هؤلاء؟ وكيف نتعامل معهم؟ وهم يدرسون منهجاً واحداً وكتاباً واحداً وخطة دراسية واحدة، ويجب أن يتخرج من الجامعة كل هؤلاء، وإذا لم يتخرج من الجامعة فمعناه أنه إنسان فاشل إلى غير ذلك، فأنا أتصور المشكلة أكبر من حجم التجمعات التربوية هذه، حتى على مستوى التعليم، التعليم في العالم الإسلامي مثلاً، هيكلية التعليم، هل هناك رعاية لهذا الجانب؟ يعني: المتفوق الموهوب والشخص الضعيف يدرسون في منهج واحد وكتاب واحد ونظام واحد إلى أن يتخرج من الجامعة، هل هذا بناء ممكن أن يخدم الأمة؟ نعم، نحن بحاجة إلى التربية الجماعية وهي ضرورة أصلاً، يعني: الفرد لا يتربى وحده، ضروري أن يكون في مجموعة من خلال التعليم ومن خلال لكن أيضاً مع التربية الجماعية، يجب أن يكون هناك مراعاة للفروق الفردية، والوسائل والمناهج مثلاً التي ألفناها ليست قضايا لا يسوغ النقاش فيها، الشيء الوحيد الذي لا يسوغ النقاش فيه هو شرع الله عز وجل، هو ما جاء بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الأوضاع التي اعتدناها، فيمكن أن نناقش فيها وأن نعيد النظر فيها، فمثلاً نحن اعتدنا أن تكون المحاضرات بعد المغرب، يمكن يأتينا وقت بأن نجعل المحاضرات بعد الظهر، وقد نرى أناساً يريدون هذا الوقت، يعني: هذه القضية ممكن أن تكون قابلة للنقاش في وقت من الأوقات وكذلك برامجنا التربوية، التعامل مع الشباب في الحلقات في المدارس، بل حتى المناهج التعليمية لا يوجد مانع من مراجعتها وإعادة النظر فيها، ونحن لا ندعو لإلغاء كل هذا الكيان، لكن يمكن أن نضع حلولاً بديلة تسمح بمراعاة هذه الجوانب، وأنا أتصور لو أن المربين وضعوا في ذهنهم مثل هذه القضايا وتناقشوا فيما بينهم وفكروا، يمكن أن نخرج بحلول على الأقل تخفف من هذه المشكلة؛ لأنك أمام مشكلتين، نريد للشاب أن يتربى في وسط مجموعة؛ لأنه لا يمكن أن يتربى الإنسان تربية سليمة إلا في وسط جماعة، فإن معاني الأخوة والإيثار والقدوة لا تتحقق إلا في وسط الجماعة، وهناك جوانب فردية من خلال قدراته الخاصة وجوانب ضعف خاصة تحتاج إلى مراعاة، فكيف نحقق التوازن بينها، فهذه تحتاج إلى أن نعيد النظر، ويمكن أن نبتكر وسائل وأساليب جديدة، مع المحافظة على الجو الذي نعيش فيه الآن بصورة تكفل لنا أيضاً تحقيق جانب التربية الجماعية.

المنهج التربوي الصحيح بين وسائل التوجيه المتناقضة

المنهج التربوي الصحيح بين وسائل التوجيه المتناقضة Q تحدثت فضيلة الشيخ عن التوازن بالنسبة للطالب في دروسه وما يتلقاه والشارع والبيت، والمدرسون يعانون من هذه القضية، بين الأفكار التي يعطونها لطلابهم وبين ما يتلقفه الطالب خارج المدرسة، من الشارع أو وسائل الإعلام أو غيرها، ما هو المنهج التربوي للأستاذ حيال هذه المشكلة؟ A المشكلة ليست مشكلة المدرس وحده، بل هي مشكلة كل المؤسسات التربوية. الأب مثلاً يربي ابنه على أنه لا يسمع كلمة سب ولا شتم ولا كلمة قبيحة ولا نابية، فيخرج إلى الشارع أو المدرسة فيسمع ذلك من أقرانه. أو يربي ابنه على المحافظة على الخير والعفة، فيرى خلاف ذلك، وقل مثل ذلك في الأستاذ وأي شخص، فهناك ازدواجية في التربية وتناقض؛ ولهذا أرى أن من أهم الأشياء أن نركز على تنمية ما يسمونه بالانتخاب الاجتماعي، أن نربي عند الناس المعايير التي يحكمون من خلالها، بمعنى أنني أعود ابني على أن يميز بين الحق والباطل، وأن يكون عنده استقلالية في التفكير، ومنهج يستطيع أن يقاوم، ويستطيع أن يفكر، ويستطيع أنه يرى أن هذا الشيء خطأ، وهذا الشيء مرفوض. لكن إذا ربينا الناس على قالب واحد يمكن أن يصطدم عندما يرى مثل هذه المواقف، ومع ذلك فهذه قضية صعبة معقدة تحتاج إلى مجاهدة وتحتاج إلى تخطيط وتوحيد للجهود، فلا شك أنه عندما تكون مؤسسات المجتمع متكاملة في الشارع والمدرسة والبيت والنادي ووسائل الإعلام والمسجد، وكلها تسير في منظومة واحدة، يكون هناك تكامل وتوازن، لكن عندما يكون هناك خلل نجتهد ونبذل بعض الوسائل وتبقى مع ذلك وسائل قاصرة. فالحل هو أن تراجع أوضاع هذه المؤسسات على مستوى الأمة، وأن تكون تربية الأمة متكاملة وتسير في خط واحد وفق العقيدة الإسلامية، والمنهج الشرعي.

البدائل المناسبة لقضاء أوقات الفراغ في العطلة

البدائل المناسبة لقضاء أوقات الفراغ في العطلة Q أقبلت الإجازة بفراغها، فما هي البدائل في رأيكم لشغل وقت الشباب بين العاشرة والخامسة عشرة وسط هذا الغزو الفكري الذي جاءنا عن طريق أجهزة اللهو المختلفة؟ A هناك بدائل موجودة الآن، لكنني أشعر أنها بدائل قاصرة، فمثلاً عندنا حلقات قرآن ومراكز صيفية وبرامج للشباب كثيرة، لكني أشعر أنها بدائل قاصرة لا تكفي مع أنها من خير ما يشغل به الشباب أوقاتهم، لكن أنا أطرح سؤالاً آخر: الشاب الذي اعتاد أنه يشاهد الأفلام ويمتع نفسه باللهو واللعب، عندما تنقله من الشارع إلى أن يجلس في المسجد كل يوم من العصر إلى صلاة المغرب هل يطيق ذلك؟! لو أطاقه فهذا خير ولا شك، ونتمنى أن يكون الشباب كذلك، لكن الشباب تربوا على اللهو واللعب، فأنا أشعر أننا عندما نطالب هؤلاء بمثل هذا الإطار أنه مطلب غير واقعي، قد ينجح وقد لا ينجح لو قمنا بعمل إحصائية لعدد الشباب الذين في الحلقة، ثم نسبنا هذا العدد إلى الطلاب الذين في المدارس في أعمارهم لوجدنا النسبة غير مشجعة. أنا أقول: المفترض أن يتداعى الآباء والأمهات والصغير والكبير على أن نبحث عن حلول للمشكلات التي نعاني منها، فمثلاً البنات يعانين من فراع ومشكلات، لأن الأسر أتت بالخادمات، وصارت البنت تعيش فارغة، ليس لها عمل إلا المكالمات الهاتفية، أو القراءة، وهل تقرأ في صحيح البخاري أو مسلم؟ لا، إنما تقرأ في المجلات، والشاب كذلك، فقد كان الشاب سابقاً يعمل مع أهله في الحقل، والبنت تعمل مع أمها في المطبخ وشئون البيت، ولا يجدون وقتاً إلا للراحة، أما الآن فقد تغيرت الأمور، فلماذا لا يتداعى أهل الرأي وأولو الألباب من مجتمعات المسلمين على أن يوجدوا حلولاً لهذه المشكلات التي يعاني منها الأطفال الشباب الفتيات؟ أنا أقول لكم: أنا كأب أشعر أنني لا أملك البديل لأطفالي الصغار، فإنهم عندما يذهبون إلى أقاربهم أو إلى الجيران يرون أنهم يعيشون مع شاشة التلفاز والفيديو، فماذا أقول لطفل صغير؟ اجلس واقرأ القرآن؟ وإذا قرأ فإنه يمل، هل هناك بدائل فعلاً تتناسب معهم؟ على كل حال هناك بدائل موجودة، كحلقات القرآن، والمراكز صيفية، وهناك بدائل أخرى كرحلات الصيد يمكن للآباء وخاصة الذين يعانون من نزوع أبنائهم وبناتهم إلى اللهو واللعب أن يعملوا بها، ولو أخذ الأب إجازة ولو كانت طويلة وذهب بأبنائه وبناته إلى بعض المصايف والرحلات، وتخلل هذا بعض البرامج التي توجهه وتعينهم، لا شك أنه حفاظ على أوقاتهم. يسهر الشباب ليالي طويلة إلى الفجر في الإجازة مع بعضهم ولا يدري الأب على ماذا يجتمعون، والفتاة مثل ذلك. فأقول: بعض هذه الوسائل يمكن أن تشكل حماية للأبناء والبنات من جحيم الفراغ الذي يعانونه، وبعض الإحصائيات والدراسات التي أجريت حول الفراغ تقول: إن عدداً من الشباب عنده معدل سبع ساعات فراغ يومياً، فأين يذهب في هذه الساعات السبع؟ فأقول: إنها قضية يجب أن نفكر فيها على مدى أوسع، انظروا إلى المراكز الصيفية، كم عدد المدارس التي فيها مراكز صيفية بالنسبة للمدارس الموجودة أصلاً؟ ثم كم عدد الملتحقين بالمراكز بالنسبة إلى عدد الطلاب الذين يدرسون عندنا؟ لا يقارن، وأنا لا أزهد من هذه الوسائل والبرامج، لكني أقول: إنها لا تزال دون حجم الاحتياج الذي نحتاج إليه. ثم ننتقل إلى عالم الفتيات: ماذا تقدم الفتيات في الإجازة وفي فراغهن؟ فهذه أسئلة محيرة لي ولكم، لكن لو كانت القضايا تشغلنا ونفكر فيها ونعمل فيها بدلاً من المشكلات والهموم والكلام الفارع الذي نطرحه يمكن أن نجد ولو بعض الحلول التي تحل لنا جزءاً من هذه المشكلة.

موقف الإسلام من الأحداث الدائرة على المسلمين

موقف الإسلام من الأحداث الدائرة على المسلمين Q جزاكم الله خيراً، هذا يسأل -فضيلة الشيخ- عن ما هو موقف المسلم أمام الأحداث الواقعة في هذه الأيام في البوسنة وبلاد الأفغان وفي اليمن؟ A الأحداث التي تحصل في العالم الإسلامي كثيرة، ولو أردنا أن نأخذ قضية واحدة من هذه القضايا التي أشار إليها السائل لطال بنا الوقت، بل قضية واحدة تحتاج إلى محاضرة بكاملها، لكن نقول: هناك ثوابت يتعامل فيها المسلم مع هذه القضايا: أولاً: أن يشعر المسلم أن هذه القضايا قضايا تخصه بصفة شخصية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، لأنها قضايا تخصه، ليس صحيحاً أبداًَ أنها قضايا لا تعنيه. ثانياً: يجب أن يتألم المسلم لمصائب إخوانه، وأن يسأل الله عز وجل أن ينقذ إخواننا من هذا الجحيم الذي يعيشونه. ثالثاً: في مصادر التلقي يجب أن يعرف المسلم ما هي المصادر التي يمكن أن يتلقى منها؟ أنا اليوم كنت في الطائرة أقرأ في إحدى الصحف السيئة للأسف، وخاصة الصفحتين الحديث عن أحداث اليمن كلها تصب في قالب واحد وتصب في تشكيل ذهن القارئ وفق عقلية معينة، فيجب أن نحذر، وأن نتلقى الأخبار والتحليلات من مصادر موثوقة. رابعاً: ولاء المسلم وبراؤه بالمعايير الشرعية: فهو يرى أن وحدة كلمة المسلمين مطلب مهم، ويرى أن ولاءه لله عز وجل، ويرى أن أي شخص علماني أو اشتراكي أو شيوعي أو بعثي أياً كان منهجه ومذهبه فهو رجل لا يجوز أن يمنح ولاءه له، ولا تأييده له، ويرى أن المسلم أياً كان مكانه ينبغي أن يمنح ولاءه له، هذه معايير يتعامل بها المسلم مع مثل هذه القضايا. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن اجتمعوا على ذكره، وأن يجعلنا ممن يذكرهم سبحانه وتعالى فيمن عنده، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع قريب مجيب. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

وقف لله

وقف لله إن أنواع الوقف لله كثيرة، فمن الناس من يقف ماله، ومنهم من يقف داره ومنزله، ومنهم من يقف نفسه للدعوة إلى الله تعالى، ومنهم من يقف نفسه ووقته لتعليم المسلمين أحكام دينهم، فعلى المسلم أن يهب نفسه لله تعالى، وأن يوقفها في أعمال الخير، كي يفلح وينجح في الدنيا والآخرة.

ميل النفوس إلى الإبداع والتجديد في كل شيء

ميل النفوس إلى الإبداع والتجديد في كل شيء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي وإياكم في هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وممن يجتمعون على تدارس كتابه والتواصي به. في بداية هذا اللقاء أشكر شكراً عامراً الإخوة في مركز الدعوة بالرس على دعوتهم وحسن ظنهم، وإن كان هذا الطلب لم يستجب له إلا متأخراً، فأشكرهم أولاً على حسن ظنهم ودعوتهم، وأشكرهم ثانياً على صبرهم علينا، ومراعاتهم لظروفنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في أعمالهم وفي جهودهم، إنه سميع مجيب. أيها الإخوة! تميل النفوس إلى التجديد والإبداع، وتمل التكرار والوتيرة الواحدة، وهي سنة لله سبحانه وتعالى في الكون كله، فالماء إذا بقي ساكناً لا يتحرك فإنه يأسن ويتغير، ولو عقدت مقارنة بين منزل بني منذ عشر سنوات ومنزل فرغ منه الساعة لوجدت بينهما بوناً شاسعاً، وذلك أن النفس دائماً تتطلع إلى التجديد والتغيير، وكذلك الكتاب يحرص القارئ والمقتني له على أن يقتني الطبعة الجديدة منه، والتي تتميز بإخراج حديث. وهانحن نرى أعداءنا الذين أصبحنا نستهلك سلعهم قد أصبحوا يستثمرون هذه الظاهرة في النفوس، فتراهم يطورون في موديلات المنتجات، وخذ مثلاً السيارات فإنهم يطورونها في المظهر دون المضمون، ولكن هذا التطوير والتجديد يحظى بقبول الكثير، فيأسر المستهلكين، ويشكل اختيار الموديل مطلباً أساساً، فقد يؤخر المرء قراره بشراء سيارة ما في انتظار موديل جديد؛ رغبة في التجديد والتنويع، والذي قد يكون في المظهر دون المضمون، وذلك أن النفوس دائماً تميل إلى التجديد. فالتجديد مطلب للجميع، ومسعىً للكافة، يتطلعون إليه، ويطالبون به، ويقدرون إبداع صاحبه، حتى ولو كان لا يعدو مجرد المظهر دون المضمون والجوهر.

التجديد عند الدعاة إلى الله في الوسائل دون الخوض في الثوابت

التجديد عند الدعاة إلى الله في الوسائل دون الخوض في الثوابت إذاً: فإذا كانت النفوس تتطلع إلى التجديد والابتكار، فلماذا لا يسلك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هذا المسلك؟ ولماذا لا يكون التجديد مطلباً لهم، فينوعون في أساليبهم وطرقهم ووسائلهم بما يكون محاطاً بسياج المنهج، محصوراً في دائرة الشرع، فلا يسوغ أن يسلط التجديد على الثوابت الشرعية فيقضى عليها باسم التجديد والابتكار؟ لكن حين يكون تنويعاً وتشويقاً فلا بأس فالنفس تمل وتألف، ونحن نرى في تاريخ الحركة العلمية والفكرية في أمتنا أن الكثير من أسلافنا قد سلكوا هذا المسلك، فجددوا في التأليف، وجددوا في طرق التدريس، ولعل من يرصد الحركة العلمية والفكرية على مدى تاريخ الأمة يدرك ذلك واضحاً ظاهراً. وهذه المحاضرة هي محاولة لعرض هذا الموضوع بقدر من التجديد في الأسلوب دون المضمون، وفي طريق المعالجة دون الأفكار والمنطلقات، وكل الطرق تؤدي إلى مكة. إننا نطالب الناس دائماً بمطالب ملحة تشكل عندنا قضايا أساسية، وعلى قدر حاجتنا لهذه المطالب، وعلى قدر شعورنا بأهميتها، سيعلو صوتنا فيها، وستتكرر مطالبتنا، وسيتكرر نداؤنا، ولن يقف هاجس التكرار عائقاً لنا دون الإلحاح في المطالبة. إننا أيها الإخوة! ونحن نطالب بهذه المطالب الشرعية لسنا بأولى من الدائن الذي يطالب بدينه ويلح، ويرفع صوته صباح مساء، ويبدئ ويعيد ويكرر، إن مطلبنا أعظم وأبعد أثراً من مطلب صاحب الدين، إن مطلبنا هو المطلب الشرعي للناس أن يفيئوا إلى الله جميعاً، وهي كلمة واحدة إليها ندعو، وحولها ندندن، ونرفع دائماً أصواتنا يمنة ويسرة، نطالب بالعودة إلى الله عز وجل، وبالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبالعمل لهذا الدين، والدعوة له، ونطالب المسلمين جميعاً أن يسيروا معنا في صف واحد، وأن يركبوا معنا القطار، ويخوضوا معنا المعركة في الفكر أولاً والعلم والحجة واللسان، والتي تهيئ بعد ذلك للملحمة الكبرى في مواجهة الكفر وأهله وقادته. إن من حقنا أيها الإخوة! ونحن نرى أن مطالبنا مشروعة، بل نرى أنها تتصدر قائمة المطالب المشروعة، من حقنا أن نكرر مطالبنا، وأن نرفع أصواتنا، وأن نبدئ ونعيد فيها، ومن ثم فقد نكرر كلاماً كثيراً، ولكن سنظل نكرر ونرفع الصوت حتى يستجيب الناس ويفيئوا إلى دين الله سبحانه وتعالى. فهذه محاولة لنوع من المطالبة، وقد لا يكون ثمة جديد في الموضوع والمضمون في حقيقتها، فهي حقيقة واحدة حولها ندندن، وإليها ندعو، لكن التجديد قد يكون في الأسلوب والمظهر.

أهمية الوقف والمال في نشر الدعوات والمبادئ

أهمية الوقف والمال في نشر الدعوات والمبادئ يدرك أصحاب المبادئ والدعوات أن مبادئهم تتطلب منهم بذلاً منقطع النظير، وتضحية بالنفس والنفيس، ويسعون بكل جهد لابتكار الوسائل والطرق، وحشد الجهود لخدمة مبادئهم ومعتقداتهم، فهم يجمعون المال والتبرعات لخدمة دعوتهم، ونشر معتقداتهم، وكم نقرأ في الحديث والقديم من أن الطائفة الفلانية جمعت كذا وكذا من المال، أو قررت توفير كذا وكذا لخدمة المبدأ والطائفة، وأحياناً تقام الحفلات والبرامج العامة ليصبح ريعها وقفاً على جمعية إنسانية، أو نحلة أرضية، أو مذهب ضال. وفي تاريخنا الإسلامي نقرأ في كتب الفقه الكثير عن الأوقاف، والتي ساهمت مساهمة فعالة في خدمة الحركة العلمية على مدى تاريخ الأمة، فهذا وقف على مدرسة حنفية، وهذا وقف على مدرسة شافعية، وهذا وقف على مدرسة أهل الحديث والمشتغلين به، وهذا وقف على المشتغلين بالسنة ومواجهة أهل البدعة. إن نظرة عجلى في تاريخ المدارس وفي كتب الفقه تعطينا الدلالة على عمق هذه الظاهرة وأثرها في دفع المسيرة العلمية، ولقد كانت الحركة العلمية والنهضة العلمية التي سادت في هذه الأمة على قرون متطاولة تعتمد اعتماداً أساساً واعتماداً كبيراً على هذه الأوقاف، وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل كان هناك من حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله سبحانه وتعالى، أو أوقف غلة أرض على المجاهدين في سبيل الله عز وجل، أو ريع منزل من المنازل على المرابطين. وهكذا. فاقرءوا كثيراً عن الأوقاف وأحكامها وما يتعلق بها، ويفيض الفقهاء في الحديث عنها؛ لأنها كانت ظاهرة سائدة منتشرة على مدى تاريخ الأمة، فالوقف يبقى شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، فيبقى أصله ويدر الثمرة، فهو من خير ما ينفق الإنسان، وأفضل ما يساهم به في سبيل الله عز وجل.

الاهتمام بوقف الطاقات البشرية فالمال ليس كل شيء

الاهتمام بوقف الطاقات البشرية فالمال ليس كل شيء قد ينفق الإنسان مبلغاً كثيراً من المال، ويساهم هذا المال ولا شك مساهمة فعالة في إطعام جائع أو مسكين، وفي نصرة مجاهد في سبيل الله عز وجل، وفي دعم برنامج دعوي، أو مشروع إغاثي، وفي جلب خير للأمة، ولكن هذا يبقى مجرد مساهمة تنقضي مع انقضاء هذا المال، وما أسرع ما يزول، وأما حين يوقف مالاً يبقى أصله ويدر غلته فإنه يبقى خيره عميماً بعد ذلك، (وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وليس هذا بالمال وحده، فلئن كان هذا شأن المال ودوره لدى كل صاحب دعوة ومبدأ، فهل صحيح أن بالمال وحده يستطيع الإنسان أن يحقق ما يريد؟ قد يسوغ أيها الإخوة! لأصحاب المبادئ الأرضية والدعوات الضالة أن يعتمدوا أساساً على المال، فيشتروا قناعات الناس وضمائرهم ومعتقداتهم مقابل المال، ولكن ما يشرى بالمال يمكن أن يأتي من يساوم عليه، والبيع لمن يزيد، والذي يبيع قناعاته ومعتقداته بالمال فهو على أتم الاستعداد أن يتخلى عنها حين ينقضي هذا المال. أقول: قد يسوغ لأصحاب هذه المبادئ أن يغروا الناس بالمال لاتباعهم، والسير وراءهم، وأما نحن فحين نقول: إن المال أساس وعصب مهم للدعوة إلى الله عز وجل، فإنا لا نقول ذلك لأنا نرى أن يعطى الناس، وأن تشترى معتقداتهم، وأن يحاسبوا بالدينار والدرهم على قناعتهم، إن هذا الدين حق، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]. إنه حق واضح لا مجال للمساومة عليه، نعم قد يكون تأليف الناس مطلوباً، والمؤلفة قلوبهم لهم سهم من الزكاة، لكن هذا شيء واشتراء ذمم الناس شيء آخر. إذاً أيها الإخوة! ليس بالمال وحده فقط تنتصر الدعوات، فمع أن المال مطلب ملح وأساس لكن ثمة طاقات أخرى ومطالب أخرى بحاجة إلى أن يعتنى بها، فهناك الطاقة الهائلة والجهد الذي لا يعوض وهو الطاقة البشرية بكل فروعها ومجالاتها، إننا بحاجة إلى أن نحشد الطاقات البشرية لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، فهل نفكر في جعل صنف من الناس وقفاً لله تعالى؟ نقرأ في القرآن الكريم أيها الإخوة! قوله تعالى عن امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، لقد أحست بالحمل، وكانت خدمة دين الله عز وجل تتصدر قائمة اهتماماتها وتطلعاتها، فنذرت حينئذٍ أن تقف هذا المولود على خدمة دين الله؛ بأن يكون خادماً للمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، والذي اختاره الله عز وجل حيناً من الدهر قبلة يتوجه إليه في الصلاة، إنها الأرض المقدسة التي أمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوها، والتي سار بهم إليها بعد ذلك نبي الله يوشع بن نون، والأرض التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام، والأرض التي أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليها، والأرض والموطن المشهود له بالفضل على مدى التاريخ، والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها موطن الطائفة المنصورة حتى تشهد آخر ملاحم الإسلام حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال. ومن ثم لا غرو أن يوقف هذا الغلام وهذا الوليد على خدمة هذا المسجد، واستجاب الله عز وجل لدعائها، ولكن الله عز وجل رزقها خيراً من ذلك كله، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لها، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:36 - 37]. فاستجاب الله دعاءها وأعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فكان الشيطان ينخس كل مولود فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها عيسى عليه السلام، استجابة لدعوة هذه الأم الصالحة، استجاب الله عز وجل دعاءها فكان هذا الحمل أنثى، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ولكنها كانت أماً لرسول من أولي العزم من الرسل، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله؛ يحيي موتى الأبدان، وقبل ذلك معجزته الأهم والأولى والتي أرسله الله من أجلها أنه كان يحيي موتى القلوب، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور. ونقرأ في القرآن أيضاً عن بيع وصفقة مع أولياء الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَ

أهمية وقف النية والقلب لله تعالى في كل الأعمال

أهمية وقف النية والقلب لله تعالى في كل الأعمال نحن نحتاج إلى من يكون وقفاً لله تعالى بقلبه وتوجهه، فلا يتوجه قلبه لغير الله عز وجل، فيخلع من قلبه قصد سواه، أو إرادة غيره، أو الميل إلى ما لا يرضيه سبحانه وتعالى، إنه يستقبل القبلة ببدنه خمس مرات كل يوم وليلة، ولكن قلبه يستقبل قبلة دائمة في منامه ويقظته، إنه ليس لقلبه إلا قبلة واحدة، فقلبه وقف لله تعالى. وحين يدعو ويسأل فأمام ناظريه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وقبل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. إنه لا يمكن أبداً أن يتوجه لغير الله عز وجل، أو يدعو غير الله سبحانه وتعالى، أو يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله سبحانه وتعالى، فهي أمور وقفت لله عز وجل، وصرفها لغير الله يعني انخلاع المرء من عبوديته لله سبحانه وتعالى إلى الذل والعار، إلى العبودية للمخلوق، والعبودية لما دون الله سبحانه وتعالى، فدعاؤه وعبادته وتوجهه وقف لمولاه سبحانه وتعالى. قد يكون للناس نوايا وتطلعات وشوائب من الرياء، والشهرة، وحب الظهور، والتعلق بحظوظ النفس، أما هو فيجاهد نفسه ويكابدها، وهو يدرك عمق المشكلة، وشدة خطورتها، لاسيما وهو يسمع عبارات السلف تهزه هزاً عنيفاً، يسمع عباراتهم في الدعوة إلى مجاهدة النفس في تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). ولا يزال قول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب علي. وقول يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. لا تزال هذه الأقوال تطرق مسمعه وتتراءى أمامه، فحينئذٍ تصبح نيته وقفاً لله تعالى. إن قضية تصحيح النية ووضوح المقصد قضية بدهية لدى الناس جميعاً، لدى الغافل والمقبل على الله عز وجل، لدى قوي الإيمان وضعيف النفس والهمة، إن الجميع يقرون بضرورة تصحيح النية، والتوجه إلى الله عز وجل. إن الناس أيها الإخوة! قد يتوجهون لمطلب العلم، ولتحصيل العلم، هذا المطلب الملح الذي يتفق الناس جميعاً أنه مطلب شريف نزيه، وليس أولى وأدل على فضل العلم من أنه ما نسب امرؤ إلى الجهل إلا عد هذا عيباً وذماً وقبحاً، وما نسب إلى العلم إلا وعد هذا ثناء وخيراً. إن مطلب تحصيل العلم مطلب مشترك لدى الجميع، فمنهم من يسعى إليه، ومنهم من تقصر همته دون ذلك، ولكن قد يسعى المرء للعلم فتعترض له النوايا لتقطع عليه الطريق، فتتحول نيته فيصبح مطلبه أن يقال فلان كذا وكذا، وأن يتصدر في المجالس، وأن يحصل على شهادة يسترزق بها، وأن يستطيع أن يتحدث مع المتحدثين، وأن يتفيهق مع المتفيهقين، وأن يتفاصح مع المتفاصحين. إن العلم مهما كان عبادة وقربة لله عز وجل، ومهما كان مطلباً شريفاً يسعى إليه ذوو الهمم العالية، إلا أنه بحاجة إلى أن يصحح المرء فيه نيته، ويتفقدها ويتفقد إخلاصه، فيصبح علمه وطلبه للعلم وقفاً لله تعالى، فلا يتعلم إلا ونيته خالصة لله عز وجل، وإلا كان -عافانا الله وإياكم- أحد الثلاثة. والدعوة إلى الله عز وجل هي الأخرى أيضاً طريق الأنبياء والرسل، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. ولكن هذا الطريق هو الآخر قد يعترض المرء فيه ما يعترض مما يكدر نيته، أو يقطع عليه طريقه، فتنحرف مسيرته حينئذٍ، إنه قد تأسره الشهرة، فينقاد وراءها، وقد يأسره حظ من حظوظ الدنيا، أو مطمع زائل، فتنحرف نيته وتزيغ، وقد يبدو له -وقد بدأ مخلصاً صادقاً سليماً- مطمع أو مطمح فيحرفه عن مسيرته. ومن ثم كان من أشد الناس حاجة إلى أن يصحح نيته، وأن يتفقد نيته، وأن تكون دعوته لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يراقب نفسه ويراجعها؛ حتى تصبح دعوته وقفاً لله عز وجل، فلا يتطلع ولا يرجو غير مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. والعابد الذي قد حنا ظهره، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، فأصبح يشار إليه بالزهد والورع والعبادة، هو أيضاً أحوج ما يكون إلى أن يراقب نيته، وأن يصحح مقصده. إن الشيطان أيضاً قد يجد سبيلاً ومسلكاً إلى هذا العابد، فيحرفه ويقطع عليه الطريق، ومن ثم كان هذا أيضاً بحاجة إلى أن تكون نيته وقفاً لله تعالى. إننا أيها الإخوة! جميعاً -في أي ميدان كنا وحيثما اتجهنا- بحاجة إلى أن نفرض رقابة صارمة على نوايانا حتى تصبح وقفاً لله عز وجل، فلا تلتفت يمنة و

اجعل تفكيرك وقفا لله تعالى

اجعل تفكيرك وقفاً لله تعالى لابد للمرء أن ينحصر تفكيره فيما هو نافع؛ من صلاح القلب، ومن تفكير في خلق الله عز وجل وآلائه، والتفكير فيما يقدمه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والدعوة في سبيل الله عز وجل، فلا يبقى بعد ذلك في تفكيره مجال لأفكار رديئة، وخواطر هزيلة، وأحلام اليقظة، فضلاً عن التفكير في أوحال الشهوات، وأدران الشبهات، فقد أصبح تفكيره وقفاً لله عز وجل، فصار لا يفكر إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وفي إصلاح نفسه وتعاهدها، وفي إصلاح عيوب نفسه، أياً كانت طرائق التفكير ومجالاته، وأياً كان مشربها ومسلكها، فكلها تصب في بحر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد وهو: أن يكون تفكيره وقفاً لله تعالى.

اجعل مشاعرك وعواطفك وقفا لله تعالى

اجعل مشاعرك وعواطفك وقفاً لله تعالى يجب على المرء أن يجعل مشاعره وعواطفه كلها لله، فإن أحب أحب لله، وإن أبغض أبغض لله؛ لأن لسانه يلهج دائماً بالدعوة الصادقة: (وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك)، فمشاعره هي الأخرى وعواطفه وقف لله تعالى. وحين يأخذ الحماس بلب أصحاب الأهداف الوضيعة، فيطير رياضي عشق الرياضة حماساً لانتصار فريقه، ويسيطر عليه هذا الحماس لتتولد عنه أعمال تدل على مبلغ صاحبها من العقل، وحين يطغى الحماس على شاب تائه ليستعرض بسيارته أمام الناس، فيمارس التفحيط، أو ما يسمى بالتطعيس، وينتج عن ذلك إزهاق للأرواح، وعطب للأبدان، وحين يسيطر الحماس نفسه على فنان عاشق للصوت الحرام؛ فيجعل الغناء شعاره ويشتري لهو الحديث، حين يطغى الحماس على هؤلاء جميعاً فصاحبنا ليس في نفسه إلا الحماس لدين الله عز وجل، فقد استهلكت خدمة الدين همه، واستنفدت طاقته، فلم يعد لها بعد ذلك مزاحم، وتتزاحم هذه المطالب التي يسعى إليها الناس إلى صاحبنا تبحث لها عن مكان، فلا تجد مكاناً؛ لأن حماسه قد أصبح وقفاً لله تعالى. ما أحوجنا إلى أن نحشد هذه الطاقات الهائلة، هذه الطاقات التي قد نهدرها: الحماس والعواطف وما ينشأ عنها من أعمال قد نراها بأعيننا، وقد تودي بصاحبها إلى أن يخاطر بنفسه، وأن يزهق روحه استجابة لحماسة ثائرة، ما أحوج الأمة أن توفر هذا الحماس وهذه الطاقة والمشاعر كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى. وتخيلوا أيها الإخوة! حين تحشد هذه الطاقات من العواطف والمشاعر التي يتمتع بها الشباب جميعاً، والشاب يتدفق حيوية وحماساً وعاطفة؛ حين تحشد هذه الطاقات كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فأي جهد سينتج عنها؟! وأي ثمرة نستطيع أن نجنيها بعد ذلك؟! حين يتزاحم الناس على قضاء أوقاتهم فيما تقودهم إليه نفوسهم عالية كانت أم دنيئة، فيقضي الأول وقته في الدنيا وتحصيل المال، فيصبح هذا الهم هو الذي يسيطر عليه، فحياته لجمع المال، فهو عبد للدينار والدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، فليس لديه فراغ للجلوس مع الناس، ولا للحديث معهم، بل إن أهله وأبناءه وزوجه لا يستطيعون أن يجدوا من وقته نصيباً؛ لأنه مشغول بهذه الدنيا وجمع المال، فقد سيطر هذا الهم وهذا الهدف على وقته. والثاني الذي يقضي وقته في التسكع في الطرقات والأسواق، أو عند مدارس البنات؛ بحثاً عن فريسة، أو مطاردة لتائهة. والثالث الذي يسيطر اللهو على حياته، فلا يسأل عنه حراماً كان أم حلالاً، فاللهو شعاره ومطلبه وهدفه الأساس، ومبلغه من العلم. والرابع والخامس والسادس والجميع الذين تسيطر هذه الأهداف على أوقاتهم، حين يتنافس هؤلاء في قتل الوقت، ووأد العمر وأد أثمن ما يملكون، فصاحبنا له منطق آخر مع وقته، ومقياس يختلف عن مقاييس هؤلاء جميعاً، فالوقت الضائع لديه هو كل وقت لم يكتسب فيه خيراً، أو يقدم فيه فضلاً، ولسان حاله: إذا مر بي يوم ولم استفد هدى ولم استزد علماً فما ذاك من عمري وهكذا فهو يدرك أن وقته هو الحياة، وأن الوقت هو أثمن ما يملك، والله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وهل هناك أنفس لديه من عمره وحياته ووقته؟ ومن ثم فقد جعل وقته وقفاً لله تعالى. مرة أخرى أقول أيها الإخوة! إن البشر هم الذين بتوفيق الله سبحانه وتعالى يصنعون التاريخ والحياة، وهم الذين جعلهم الله عز وجل وسيلة للتغيير في هذه الحياة وهذا الكون، وهم الذين استخلفهم الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهم الطاقة التي لا يسوغ أن تهدر، ولا يسوغ أن تهمل وتذهب سدىً. ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى أن نستثمر هذه الطاقة، وأن نستغل هذه الطاقة، وأن نوظف هذه الطاقة في خدمة ما خلقنا من أجله، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس ليعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفة في الأرض؛ ليقوم بهذا المنهج وهذا الدين في الأرض، وسخر الله سبحانه وتعالى له كل ما في السماوات والأرض، فسخر الله سبحانه وتعالى له النعماء، وصرف سبحانه وتعالى عنه الضر والبأس، ويسر له كل هذا الكون بكل ما فيه، كل هذا تسخيراً لهذا الإنسان الذي ما خلق أصلاً ولا أوجد إلا ليكون عبداً لله سبحانه وتعالى، وإلا ليقوم بعبودية الله عز وجل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ قريبة أو بعيدة قد تعظم وقد تصغر عند الناس، ولكنها عند الله سبحانه وتعالى عظيمة غالية؛ لأنها عبادة يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى. إن هذا الإنسان الذي لم يخلق إلا لعبادة الله عز وجل لا يسوغ أبداً بحال أن تصرف طاقته وجهده في غير مرضاة الله عز وجل، وفي غير ما خلق من أجله، ونحن في هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا، وفي هذا الواقع الأليم الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية أحوج ما نكون إلى حشد الطاقات، وأحوج ما نكون إلى أن نجمع الجهود، فنستنفر وندعو الناس جميعاً لأن يتبرعوا فيخرجوا لنا أناساً وقفاً ل

الوقف لأعمال الخير لا تتعطل منافعه

الوقف لأعمال الخير لا تتعطل منافعه أيها الإخوة! يتحدث الفقهاء عن حكم نقل الوقف، فيقررون أنه لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، فهل هذا الوقف الذي ندعو إليه كذلك؟ و A لا، إنه وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن الوقف لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، وهذا الوقف لا يمكن أبداً أن تتعطل منافعه، فصاحبه إن أعياه التعب وأرهقه الجهد فقعد به عن عمل تتطلع نفسه إليه فلن يعجز لسانه عن دعوة صالحة للإسلام والمسلمين، وإن خرس لسانه فجوارحه لن تعجز أن تقدم خيراً، وإن شلت جوارحه فقلبه يلهج بحب الله ورجائه والتوجه إليه، فحتى وهو مقعد كسيح لا يستطيع حراكاً تنصر الأمة به، (أبغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)، وإن قعد به مرض أو سفر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. إنه لن تضيق أمامه الأبواب وهو يسمع التوجيه النبوي الكريم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك). وحتى حين يموت ويودع الحياة فالمسلم مبارك حياً وميتاً، وكم نرى ونشاهد أن رجلاً من الصالحين مات فاجتمع الناس لجنازته، فوافق ذلك أن حضرت جنازة أخرى، فصلى عليها هذا الجمع العظيم وساروا فيها، فصار هذا الرجل بركة في حياته وموته، وكم نسمع أن فلاناً من الناس قد تاب وأناب إلى الله عز وجل حين مات فلان الرجل الصالح، وكم نرى ونسمع أن بيتاً بأسره قد تغيرت أحواله، وتبدلت أموره إلى الصلاح؛ لأن أهله افتقدوا شاباً صالحاً قانتاً مطيعاً لله تخطفه الموت من بينهم، فهاهو المسلم تبقى بركته حياً وميتاً، فلا تتعطل منافعه، فهو حينئذٍ وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن منافعه لا تتعطل.

الوقف عقد لازم لا خيار فيه ولا رجوع

الوقف عقد لازم لا خيار فيه ولا رجوع الوقف عند الفقهاء أيها الإخوة! عقد لازم لا خيار فيه، فحين يتبرع امرؤ بمال فيوقفه فلا يملك بعد ذلك أن يرجع، وهانحن بعد ذلك قد عقدنا الصفقة وتم البيع، فلا مجال للخيار؛ لأنه لا غبن ولا تدليس ولا خلابة، فقد تم البيع، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى أن قال الله عز وجل: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]. فلا مجال إلا الوفاء بالصفقة، والوفاء بالبيع، فاستحقاق الثمن حينئذٍ أو النكوص والنقض, وحينئذٍ يستحق صاحبه النكال عافانا الله وإياكم، فهو عقد لازم لا خيار فيه ولا مجال فيه للرجوع والتردد. جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرضه التي أوقفها في خيبر، وهو حديث عظيم وأصل من الأصول في باب الوقف، قال رسول الله: (لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف)، فلناظر الوقف ووكيله أن يأكل منه بالمعروف، وينتفع من غلته بما لا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال.

حكم ناظر الوقف هنا

حكم ناظر الوقف هنا ومن هنا يتحدث الفقهاء عن ناظر الوقف، فيسوغ له أن يأكل ما يقيمه بالمعروف، ويسوغ له أن ينتفع منه بالمعروف، لكن هذا الانتفاع لا يسوغ أبداً أن يتحول إلى مصدر للتمول والتأكل، فحينئذٍ تتعطل منافع الوقف التي من أجلها وقف. وأما هاهنا فالواقف والموقوف وناظر الوقف شيء واحد، وله أن يمتع نفسه، أو يشغلها بالمعروف؛ لأن من ولي الوقف له أن يأكل منه بالمعروف، فالنفس تكل وتمل، وتحتاج إلى شيء من التسلية والانبساطة؛ حتى تعود بعد ذلك أكثر حماسة وعزيمة. ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوة وخير القدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويمازحهم، وكان كما يقول عنه جرير رضي الله عنه: (ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم). ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم من جاء يشتكي إليه من قسوة قلبه فيقول: (ساعة وساعة). إن من تمام حيوية المرء ونشاطه وهمته ومما يعينه: أن يأخذ لنفسه قسطاً من الراحة، والمزاح المشروع، واللهو المباح، ولكن هذا يجب أن يكون مقيداً بالمعروف، فلا يسوغ له أن يتجاوز، فإذا تجاوز حينئذٍ فأصبح اللهو والراحة واللذة مطلباً أساساً فحينئذٍ اعتدى على هذا الوقف، وهذا لا يسوغ له، فهو ناظر ووصي وولي لا يجوز له أن يأكل إلا بالمعروف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهو باطل إلا ثلاث)، فاللهو وإمتاع النفس بما يهيئها لأن تخدم دين الله، (ملاعبة الرجل أهله، أو تأديبه فرسه، أو رميه بقوسه).

تعدد مجالات الوقف وتنوع مصارفه

تعدد مجالات الوقف وتنوع مصارفه الوقف عند الفقهاء له مجالات شتى، ومصارف منوعة، فقد يكون وقفاً على الذرية، أو على ابن السبيل، أو طالب العلم، أو ربما طالب علم معين كفقه حنفي أو حنبلي، أو وقف على المجاهدين والمرابطين، ولن يضير المرء أبداً أن يقف شيئاً من ماله على مجال دون غيره مادام يرى أن هذا المجال بحاجة، وأنه أولى من غيره من الأبواب. وهكذا فنحن نرى من يقف وقته على العبادة والذكر، ودعوة الناس بسمته وزهده، فتراه يقضي سحابة نهاره تالياً لكتاب الله عز وجل، وصائماً، وقانتاً، ومصلياً ومقبلاً على الله سبحانه وتعالى، فإذا رآه الناس ذكروا الله عز وجل، وتذكروا هدي الصالحين والسابقين، وحين يدعو ينفع الله سبحانه وتعالى المسلمين بدعوته. ونرى من يقف نفسه على إغاثة المحتاج وإعانة المنقطع، ونرى من يقف نفسه على دعوة غير المسلمين إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلى الدخول في السلم كافة، أو من يقف نفسه على إصلاح من قسا قلبه من المسلمين، وتنكب الطريق منهم، فصار جهده وهمه ووقته وتفكيره وحياته كلها مصروفة على دعوة هؤلاء، وعلى وعظهم، وعلى نصحهم، وعلى الأخذ بأيديهم ليسلكوا الطريق المستقيم، ويسيروا في ركاب الصالحين. ونرى من وقف نفسه على تعاهد النبتة الصالحة، وعلى تعاهد عدة الأمة وذخيرتها، على تعهد الشباب بالتربية والتعليم والتوجيه والدعوة لكتاب الله عز وجل، فثنى ركبتيه في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى يقرئهم كتاب الله عز وجل، ويعظهم بزواجره، ويرغبهم بفضائله، فوقف حياته ووقته على هؤلاء الشبيبة وأولئك الصبية، كل هذا إعداداً لمن ينفع الله سبحانه وتعالى بهم الأمة. ونرى من وقف نفسه على تعليم العلم الشرعي، فصار همه وحياته حتى أشغله عن سائر ما يتمتع به الناس من مصالح، فلم يعد وقته ملكاً له، وإنما هو ملك للناس، بل لم يعد هو حتى ملكاً لنفسه، فقد أصبح وقفاً لله تعالى. والآخر الذي وقف حياته على إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا نرى مجالات شتى، وجوانب متعددة كلها تصب في مصب واحد وطريق واحد. وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة). فلماذا نقسم العدد على أربعين قسمة ضيزى فنختصرها ونجعلها طريقاً واحداً وخصلة واحدة؟! ولماذا نوصد تلك الأبواب التي فتحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشرعة؟! وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعدل حجراً أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذٍ وقد زحزح نفسه عن النار). وهكذا فهي مصارف شتى للوقف، ومنافع متنوعة تسير في منظومة واحدة دون تنافر أو تناقض، فكلٌّ وقف نفسه على باب من أبواب الخير، ولسان حاله يقول كما قال إمام دار الهجرة: كلانا على خير وبر.

أمثلة من السنة النبوية للذين وقفوا أنفسهم لله تعالى

أمثلة من السنة النبوية للذين وقفوا أنفسهم لله تعالى ولنفتح بعض الصفحات من السنة النبوية؛ لنرى نماذج من هذه الأوقاف: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة أو شعبة من هذه الشعب أو بطن وادٍ من هذه الأودية يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير)، رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا نموذجاً من أولئك الناس: فهذا الذي وقف حياته في سبيل الله عز وجل، خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فهو على فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، فلم يبق له مطلب يسعى إليه، ولا هدف يسير إليه إلا هذا الهدف وهذا المطلب، فقد وقف حياته لله عز وجل. والآخر الذي لم يطق الصبر على الفتن والمصائب، وصار في عصر يقتضي منه العزلة بضوابطها الشرعية، فرأى أن يعتزل الناس ليعبد الله عز وجل في شعب من الشعاب. إن أولئك كلهم قد وقفوا حياتهم لله عز وجل، ويتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً لم يمنعه منه إلا شفقته صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وهو أرحم الناس صلى الله عليه وسلم، وأرقهم قلباً، كم نقرأ في سنته صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي)، (لولا أن أشق على الناس)، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. يتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً يعتذر عنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شفقة على المسلمين، فيقول: (ولولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني). وفي هذا الحديث دعوة للمسلم أن يكون هذا مسعاه، فلا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل، ولا يسمع هيعة وفزعة إلا طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، إنه لا يتقاعس عن عمل يخدم فيه دين الله عز وجل، فما أن يسمع صوتاً يدعوه بحق وصدق أن يسلك هذا الميدان، وأن يجاهد هاهنا بيديه وسلاحه وسنانه، أو يجاهد هناك بقلمه، أو يجاهد هنا بلسانه، إلا طار ولبى؛ يبتغي نصرة دين الله سبحانه وتعالى وخدمته، فقد وقف حياته لله عز وجل. وحين قيل له صلى الله عليه وسلم إن خالداً منع الزكاة قال: (إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل)، فخيل خالد وسلاحه وأعتده لم يعد لها غرض إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإعلاء كلمته، وحتى جسده رضي الله عنه قد جعله وقفاً لهذا الميدان وهذه الحياة، فمات رضي الله عنه وأرضاه وما في جسده موضع شبر إلا وفيه جرح يشهد بصدق بلائه، وصدق دعوته وإخلاصه لله عز وجل، وقد شهد زهاء مائة زحف، وهو القائل رضي الله عنه: ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب لي من ليلة شاتية في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وأخرجاه أيضاً من حديث ابن مسعود، وأخرج البخاري نحوه من حديث أبي هريرة. إنها صورة أخرى من صور الوقف؛ من وقف ليله ونهاره لتلاوة كتاب الله تعالى، ومن وقف ماله فأهلكه في الحق والإنفاق في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار، كلها صور وإن تنوعت مجالاتها وطرقها، فكلها تصب في نهر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد.

الأسئلة

الأسئلة

تعدد المجالات في خدمة دين الله تعالى

تعدد المجالات في خدمة دين الله تعالى Q هل العمل للدين مقصور على طلب العلم أو إلقاء المحاضرات؟ وهل يمكن لمن لا يتمكن من ذلك العمل للدين، أفدنا أفادك الله؟ A أظن أنه سبق الإجابة على هذا السؤال، وقلنا: إن الوقف له مجالات كثيرة شتى، فالمرء يبحث عن المجال الذي يمكن أن يخدم فيه دين الله سبحانه وتعالى، ولن تضيق الأبواب والطرق أمام امرئ جاد لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، حتى ولو كان مقعداً كسيحاً.

الاهتمام بدعوة الشباب المتواجدين خارج حلقات العلم

الاهتمام بدعوة الشباب المتواجدين خارج حلقات العلم Q إن هناك شباباً وفقهم الله تعالى للخير قد أوقفوا أنفسهم لله تعالى عملاً لا قولاً، هؤلاء الشباب هم الذين يدرسون في حلقات القرآن الكريم، لكني كأحد الشباب ألاحظ عليهم عدم الاهتمام بمن هم خارج هذه الحلقات من الشباب، فما تعليقكم على هذا بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً؟ A لا شك أن نصيحتنا لهؤلاء جميعاً ولغيرهم أن يدعو غيرهم إلى هذا الميدان وإلى هذا المجال، وألا يبخلوا على غيرهم بهذا الطريق الذي هداهم الله سبحانه وتعالى له، ومنّ عليهم بسلوكه، وإن من تمام شكر نعمة الله عز وجل عليك حين وفقك لحفظ كتابه، وحين وفقك لسلوك هذا الطريق أن تنقلها إلى غيرك، وأن تدعو إليها من حرم منها، ولعل هذا يكون أدعى إلى ثباتك على هذا الطريق بإذن الله سبحانه وتعالى.

إمكانية أن يقف الإنسان نفسه لله تعالى في جهتين فأكثر

إمكانية أن يقف الإنسان نفسه لله تعالى في جهتين فأكثر Q هل يمكن للإنسان أن يقف نفسه لله في جهتين: كالعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ A الناس طاقات شتى ومواهب متنوعة، فالبعض من الناس قد لا يجيد إلا ميداناً واحداً ومجالاً واحداً، فينبغي له أن يستغل جهده وطاقته في خدمة دين الله سبحانه وتعالى واستثمار ما منحه الله عز وجل من قدرة خدمة لما يريد الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من رزقه الله عز وجل الموهبة. والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى فهو كالغيث أينما نزل نفع، فتارة ينبت العشب لينتفع به الناس، وتارة يبقى ماء يحتبس يشرب منه المارة، وتارة ينزل في الأرض فينتفع به من يحفر بئراً، فمن الناس من رزقه الله عز وجل مجالات وجوانب شتى، فهذا حري به أن يساهم فيما يستطيع، وعلى كل حال فالناس أصناف شتى، فمنهم من لا يصلح إلا في ميدان واحد، ومنهم من يصلح في أكثر من ميدان، ومنهم من يكون أمة وحده.

الاهتمام بحفظ كتاب الله تعالى والعمل به

الاهتمام بحفظ كتاب الله تعالى والعمل به Q هناك جانب قد غفل عنه الكثير من الشباب ألا وهو حفظ كتاب الله، وتدبره، والعمل به، ونشره بين الناس، فما ترى يا فضيلة الشيخ! لو كان للمرء وقت لحفظ كتاب الله والعمل به؟ A سبق أن ذكرنا نموذجاً من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين قال: ورجل آتاه الله الكتاب فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار)، فهذا مما يغبطه الناس عليه ويحسده الناس عليه، والذي يحفظ كتاب الله عز وجل يكون قد حفظ وقته أولاً في استثماره فيما يعود عليه بالنفع دنيا وآخرة، وقد كرر تلاوة كتاب الله عز وجل، وله في كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لمن شاء أضعافاً كثيرة. ويقال له يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)، وهذا الكتاب يأتي شفيعاً يوم القيامة لأصحابه، فيحاج عن صاحبه الذي كان يقرؤه به، وأولى الناس بالإمامة والصلاة، وأولاهم بأن يتولى أمورهم، وبعد ذلك أيضاً كله هو الذي يستطيع أن يقرأ القرآن في كل أحواله: أن يقرأ وهو قائم، وهو جالس، وهو مضطجع، وهو يمشي، أن يقرأ في الظلام والضياء، وأما غيره فلا يستطيع أن يقرأ القرآن إلا في حال يتهيأ له فيها أن يتطهر، وأن يكون المصحف أمامه يقرأ منه، فتتهيأ له أبواب وتنفتح له طرق من العبادة لا تنفتح لغيره، فيكفي هذا فضلاً لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى.

الوسائل التي تعين الإنسان على أن يجعل أعماله وقفا لله تعالى

الوسائل التي تعين الإنسان على أن يجعل أعماله وقفاً لله تعالى Q ما هي الوسائل التي تعين الإنسان على أن يجعل أعماله وقفاً لله تعالى؟ A النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا وقف المرء قلبه لله عز وجل توجهت بعد ذلك سائر جوارحه، فأصبحت كلها وقفاً لله تعالى، وإذا وقف قلبه على شهوة أو شيطان توجهت جوارحه بعد ذلك لذلك.

الاهتمام بالدعوة إلى الله تعالى مع مجاهدة النفس في تجنب الرياء

الاهتمام بالدعوة إلى الله تعالى مع مجاهدة النفس في تجنب الرياء Q عندي من العلم -ولله الحمد- شيء لا بأس به، ولكن حينما أريد الظهور إلى الناس لإلقاء الدروس والمحاضرات تأتيني الأوهام والوساوس من جهة الخوف من الرياء، فكيف أرد هذا الأمر عن نفسي، أرجو التوجيه بما ترى، ولك جزيل الشكر؟ A نحن نحفظ جميعاً أيها الإخوة! النصوص عن السلف في التورع عن الرياء، والبعد عن مضان الشهرة، وتشديدهم في ذلك، ودعوتهم للإخلاص، ومجاهدة النفس، ومع ذلك تصدروا لما تصدروا له، والتقاعس عن أداء الواجب الشرعي خوفاً من الرياء يجعل المرء عرضة لأن يترك واجباً يحاسب عليه أمام الله عز وجل، فالله عز وجل يسأل عبده يوم القيامة فيقول: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تنكره؟ ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: وكيف يحقر نفسه؟ قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، فيسأله الله عز وجل فيقول: يا رب! خشيت الناس). فقد يمنعه خشية الناس، وقد يمنعه ورع كاذب، وقد يمنعه هذا الأمر أو ذاك، فالمهم أياً كان هذا الأمر الذي يمنعه سيبقى عائقاً له عن أداء الواجب الشرعي، فما دام المرء قد وجد عنده علماً وخيراً فينبغي له أن يبادر وأن يدعو الناس وأن يعلمهم، ولو لم يتصدر ويدعو ويعلم الناس إلا من أحس أنه قد بلغ الغاية من العلم لم يتصدر أحد، ولم يدع أحد، ولم يؤلف أحد إلا المرائين الذين لا يراد منهم خير.

كيفية إعادة النية الفاسدة إلى مكانها الصحيح

كيفية إعادة النية الفاسدة إلى مكانها الصحيح Q تكلمت عن تصحيح النية، فكيف نصحح النية حيث إنه كثيراً ما يبدأ الشاب مشواره بإخلاص ونية صحيحة، ثم نجد أن نيته تتغير إما شهرة أو طمعاً في الدنيا أو غير ذلك، فكيف نعيد النية إلى مسارها الصحيح؟ A أن يفرض الإنسان على نفسه رقابة صارمة، وأن يواجه نفسه دائماً، ويتعاهد نفسه، ثم يكثر من عبادة الله عز وجل، وخاصة عبادة السر التي تدعوه إلى أن يجاهد نفسه، وأن يشعر بحاجته وفقره إلى الله سبحانه وتعالى، ويستعين بالله عز وجل على ذلك.

كيفية معرفة أن النفس مخلصة أو غير مخلصة

كيفية معرفة أن النفس مخلصة أو غير مخلصة Q كررت كثيراً خلال هذه المحاضرة: أن الأعمال لابد لها من إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، فما الذي يدل المرء على أنه مخلص لله في عمله؟ A إذا وجدت نفسك تتوجه يمنة ويسرة إلى مطامع أياً كانت وتغلفها بغلاف الخير والصلاح، فراجع نيتك.

كيفية جعل التفكير وقفا لله تعالى مع وجود المنكرات المنتشرة

كيفية جعل التفكير وقفاً لله تعالى مع وجود المنكرات المنتشرة Q كيف أجعل تفكيري وقفاً لله تعالى وأنا أرى المحرمات والمعاصي أمامي دائماً: إما في مجلة خبيثة، أو في تلفاز ودش ملعونين، أو في أسواق مليئة بالملاحظات، فلماذا لا يزال السبب المانع لوقف العقل على الله تعالى؟ A لا شك أن إزالة المنكرات ومظاهر الفتنة أمر مطلوب، ولكن هذا لا يعفيك، فقد وجد من عاش في بيئة تغص بالشرك والوثنية ودعاء غير الله، وهي بيئة أشد فتنة من هذه الفتنة، ومع ذلك كان من مات من هؤلاء مات على الشرك؛ لأنه لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. فوجود الفتنة والشهوات أمامك ليس عذراً لك بحال في أن تسلك طريق الغواية والضلال، بل المطلوب منك أن تقبل على الله عز وجل وتئوب إليه، وأن تساهم أنت في وقف هذا السيل الجارف من هذه الفتن والشهوات، نسأل الله عز وجل أن يعصمنا وإياكم منها.

نصيحة للشباب الذين كانوا يحفظون كتاب الله تعالى ثم فرطوا في ذلك وفرطوا في الاستقامة

نصيحة للشباب الذين كانوا يحفظون كتاب الله تعالى ثم فرطوا في ذلك وفرطوا في الاستقامة Q ما نصيحتكم للشباب الذين كانوا حفظة لكتاب الله، ثم أخذ شيئاً فشيئاً يتدرج إلى النزول، فاستبدل الأشرطة الدينية بأشرطة الغناء والعياذ بالله؟ وهذا أيضاً سؤال مشابه، يقول: لي صديق ملتزم ويدرس في حلقة ويشارك في النشاط المدرسي، وقد بدأت الآن تطغى عليه بعض المظاهر غير اللائقة بالشباب المستقيم، وقد ترك الحلقة والنشاط المدرسي ورفض الحضور، فماذا أفعل وأتصرف مع هذا وأمثاله، أرجو توجيهي لأتدارك صديقي من الانتكاس أعاذنا الله من ذلك؟ A هذه ظاهرة نشاهدها كثيراً، وهي تتكرر على مدى التاريخ، لكن أيضاً مع أن هذه الظاهرة مزعجة ومقلقة، إلا أنها تبقى ظاهرة قليلة في مقابل الذين يسيرون على طريق الاستقامة والخير؛ لأن الذي ينحرف ويزيغ هو الذي يلفت انتباهك، وأما الذي يسير أصلاً على الطريق السوي والصحيح فلا يلفت انتباهك، وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة بعنوان: الحور بعد الكور، فأحيل الأخ إليها.

وقف الإنسان نفسه لتعليم الناس أمور دينهم

وقف الإنسان نفسه لتعليم الناس أمور دينهم Q كثير من المسلمين ممن يعيشون بين أظهرنا لا يعرفون واجبات دينهم، فهل هناك من يقف نفسه لتعليم هؤلاء في القرى والهجر والمدن أيضاً؟ A لا شك أن من يقف نفسه على تعليم هؤلاء ودعوتهم هو ممن وقف نفسه على خدمة دين الله سبحانه وتعالى.

ينبغي للمسلم أن يكون صاحب همة عالية في أعمال الخير

ينبغي للمسلم أن يكون صاحب همة عالية في أعمال الخير Q أنا شخص من المسلمين وأحب أهل الخير والدعاة إلى الدين، وأريد خدمة هذا الدين، وكأني أفهم من كلامكم أنه لابد لي أن أكون صاحب طاقة عالية، وأنا أشعر أنني لست كذلك، فهل هناك خدمة خاصة لأصحاب الطاقات، مع المعذرة إن كنت أسأت الفهم، ودلني حفظك الله على أعمال بسيطة أستطيعها؛ لعلي أكون ممن يحشر مع الصالحين وإن لم أكن منهم؟ A هذه همة غير عالية، ولا يسوغ أن يكون مطلب الإنسان: دلني على أعمال بسيطة وسهلة أعملها، فينبغي أن يكون هم الإنسان وتطلعه إلى أن يكون مع المصلحين، وإلى الهمة العالية، هذا أولاً. وإن قعدت به نفسه فالله عز وجل لا يظلم أحداً، وخدمة دين الله سبحانه وتعالى مجالاتها واسعة؛ بمال ينفقه في سبيل الله على محتاج، أو على مشروع دعوي لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، أو بكلمة طيبة، أو بنصيحة صادقة، أو بأي جهد يبذله خدمة لدين الله سبحانه وتعالى. وأظن أن الأبواب والطرق والمجالات لا يمكن أبداً أن تضيق عن رجل مهما كانت طاقته، ومهما كانت قدرته، ومهما كان علمه؛ لن تضيق المجالات لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، لكن ينبغي أن نتطلع نحن إلى الصورة الأعلى، ولا يسوغ للإنسان أن يبحث عن أعمال سهلة وهينة يعملها، فتكون همته دنية، بل ينبغي له أن يكون صاحب همة عالية.

نصيحة في أن يهتم الإنسان بما ينفعه في الدنيا والآخرة

نصيحة في أن يهتم الإنسان بما ينفعه في الدنيا والآخرة Q السواد الأعظم في بلدنا وكذلك في كثير من البلاد قد أوقف ماله ووقته وجهده على ملذات نفسه، فترى الشخص مظهره طيباً، ولا يسمع إلا طيباً، ويملك من الطاقات المالية والعقلية الشيء الكثير، وإذا نظرت في حاله فلا ترى له في الدعوة ولا في نفع نفسه نصيباً، فما توجيهكم لمثل هؤلاء؟ A توجيهنا لمثل هؤلاء هو أن يحشدوا طاقاتهم وجهودهم لما ينفعهم أولاً، ولما يدخرونه عند الله سبحانه وتعالى، وأن ينفقوا أنفس ما يملكون لخدمة دين الله عز وجل، هذا أكثر ما نستطيع أن نقول لهؤلاء.

دعوة إلى أن توقف جماعات نفسها لله تعالى

دعوة إلى أن توقف جماعات نفسها لله تعالى Q لعل هذه الصورة التي رسمتها لذلك الشخص الذي وقف كل جانب من جوانب حياته وشخصيته لله صورة مثالية، فهل ترى إمكانية وجودها، أم نفهم أن المطلوب هو التسديد والمقاربة كل بحسب جهده وطاقته وقدرته، أرجو التوضيح؟ A أولاً: قلت: إنه لا جناح على من ولي الوقف أن يأكل بالمعروف، فلا جناح على الإنسان أن يمتع نفسه بما يمتع به سائر الناس، لكن هذا ينبغي ألا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال، وهذا لا شك مطلب عالٍ، لكنه ليس مثالياً، مطلب أن يتصدر للأمة جمع يوقفون أنفسهم ومشاعرهم وهمهم وحياتهم لله عز وجل، لكن أن تكون الأمة كذلك لا شك أن هذا مطلب مثالي لا يمكن تحقيقه، فنحن نطلب أن يتصدى جمع وفئام من الناس لهذا المطلب، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فنحن ندعو إلى أن ينفر من الشباب طائفة، ومن النساء طائفة، ومن الرجال ومن الجميع أن ينفر طائفة يجعلون أنفسهم وقفاً لله عز وجل، فيصبحوا منارات يسير بها الناس، ثم يبقى بعد ذلك سائر الناس كل يشارك بما يستطيع وما يتيسر له، لكن أنت ينبغي أن تتطلع إلى أن تكون من هؤلاء، وأن تسابق في الخيرات وتنافس فيها.

نصيحة للآباء في أن يوقفوا من أبنائهم لخدمة دين الله تعالى

نصيحة للآباء في أن يوقفوا من أبنائهم لخدمة دين الله تعالى Q ما تقول للآباء وما نصيحتك لهم في جعل أولادهم وقفاً لله تعالى لخدمة هذا الدين، فإن الخير سيعود إليهم؟ A على الأب أن يساهم في تربية ابنه، وأحياناً للأسف تجد الأب يغرس في ابنه الهمم الدنيئة والنازلة، فهو يربي ابنه من الصغر، ويكرر له هذه المقولة: يا بني! تكبر إن شاء الله وتتعلم وتأخذ شهادة وتتوظف وتكد على نفسك وعلى عيالك، فيظل الابن يسمع هذا الكلام دائماً من أبيه، وكأن الله عز وجل خلق هذا الابن كما خلق بعض الكائنات التي تأكل وتشرب وتتمتع بالشهوات. فالأب صالح وخير، ويغضب عندما يرى ابنه على معصية، وعندما يراه مقصراً في طاعة، لكن هذه المعاني التربوية يغفل عنها، فمن من الآباء دائماً يكرر على ابنه: نريدك أن تكون حافظاً لكتاب الله، وأن تخدم دين الله عز وجل، وأن تكون مجاهداً في سبيل الله، وأن تكون داعية إلى دين الله عز وجل، فيغرس عنده هذا المفهوم، ويغرس عنده هذه الهمة، ويربيه على هذا الأمر حتى يصبح وقفاً لله عز وجل، فبعد ذلك يكون امتداداً لعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وقد يقول بعض الآباء: فاتنا القطار، ولا أستطيع أن أساهم الآن، فنقول: أمامك أن تهيئ أبناءً صالحين يكونون خلفاً لك، ويكونون من كسبك، (إن أطيب ما أنفقتم من كسبكم، وإن أولادكم من أطيب كسبكم)، (أنت ومالك لأبيك). فحين يقوم الأب بتربية ابن صالح، وتقوم الأم بتربية ابن أو بنت صالحة، فحينئذٍ هؤلاء يقدمون خيراً لأنفسهم أولاً، فيبقى ذلك امتداداً لعمله الصالح، (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: أو ولد صالح يدعو له)، والولد في لغة العرب يشمل الابن والبنت، ويقدمون خيراً للأمة بعد ذلك حينما يقدمون هذا النموذج الفعال المنتج.

أهمية المال في تسيير الدعوات ونهوض المجتمعات

أهمية المال في تسيير الدعوات ونهوض المجتمعات Q تكلمت -حفظك الله- عن أهمية الطاقة البشرية وضرورة استغلالها، وقللت من أهمية الطاقة المالية، وقلت: إن الاهتمام بهذا الجانب عند أصحاب المبادئ الأرضية فقط، ألا ترى أن الجانب المالي مهم لمسيرة الدعوة؟ A هذا كلام غير صحيح، بل أنا قلت في البداية: إن من يرصد الحركة العلمية على مدى تاريخ الأمة يجد أنها قامت واعتمدت على الأوقاف، فهناك من وقف ماله على مدرسة من المدارس، وهناك من وقف ماله على طلبة العلم الفقهي أو الحديث أو العقيدة أو غير ذلك. وهناك من وقف ماله على المرابطين والمجاهدين في سبيل الله عز وجل، وقلت: إن المال مطلب وضروري ومهم، ولكن الطاقة البشرية أهم، وعندما نقول: إن الطاقة البشرية أهم من الطاقة المالية لا يعني أبداً أن نقلل من شأن المال وقيمته، هذا أولاً. والأمر الثاني: أن الطاقة المالية ثمرة من ثمار استغلال الطاقة البشرية، فتوظيف الطاقة البشرية يساعد أصلاً على وجود الطاقة المالية، وإذا وجد المال دون أشخاص فلا يمكن أن يصنع شيئاً.

الاهتمام بالأهل والأقارب قدر المستطاع

الاهتمام بالأهل والأقارب قدر المستطاع Q إذا نظرت إلى واقعي شيئاً قليلاً أجد أنني قد صرفت الكثير منه وقفاً لله تعالى، وأسأل الله أن يكون كذلك، فقد صرفته ما بين إصلاح النفس، والنشاط، والدعوة مع الآخرين، وما بين حلقة، ونشاط مدرسي، وجماعة مسجد وغير ذلك، إلا أنني أجد نفسي مقصر جداً تجاه الأقارب وأهل البيت خاصة؛ وما ذلك إلا لأني أجد استجابة من غيرهم أكثر، فما رأي فضيلتكم؟ A الإنسان عليه أن يسعى ويسدد ويقارب، وبعد ذلك لا يكلف الله عز وجل نفساً إلا وسعها، فعليه أن ينذر عشيرته، ويسعى إلى إصلاحهم قدر الإمكان، لكن حينما يكون غيرهم أكثر استجابة وأكثر إقبالاً، فيستجيب ويهديه الله عز وجل في حين يرفض أولئك أن يستجيبوا لك، فلا ضير عليك؛ لأن المرء ليس عليه إلا الدعوة والتبليغ، والقلوب بيد الله سبحانه وتعالى.

نصيحة في عدم جعل المجالس للكلام في أعراض العلماء وطلبة العلم وتقييمهم

نصيحة في عدم جعل المجالس للكلام في أعراض العلماء وطلبة العلم وتقييمهم Q ما رأيك فيمن لهم مجالس عملهم فيها هو الحديث في تقييم العلماء وطلبة العلم، ويزعمون كما يدل لسان حالهم على أن هذه المجالس وقف لله تعالى؟ A هذه المجالس وقف للشيطان، ووقف للهو والباطل، وهؤلاء من أقل الناس عملاً ونصيباً، ولا يستحقون أن نقول فيهم أكثر من هذا.

نصيحة لمن يقضون مجالسهم في المباحات أو الكلام في أعراض العلماء

نصيحة لمن يقضون مجالسهم في المباحات أو الكلام في أعراض العلماء Q ما رأيك في مجالس الملتزمين -وجلهم من طلبة العلم الشرعي- الذين يقضون وقت مجالسهم في المباحات، وأحياناً في الكلام في أعراض العلماء والجماعات؟ A أولاً: أن تطالب الناس دائماً ألا يتكلموا إلا في قضايا جادة أو قضايا علمية أو وعظ، هذا مطلب مستحيل، لكن أن نطالب الناس أن يحفظوا أوقاتهم، وأن يحرصوا على استغلال الوقت فيما ينفع، وأن يمنعوا مجالسهم من الحرام، فهذا مطلب مهم. وأما الانشغال بالكلام في أعراض العلماء والناس فهذا شأن الناس البطالين وغير العاملين، وكما قلت لا يستحق هؤلاء أن نجعل منهم قضية نتحدث عنها.

إصلاح الإنسان لنيته وقصده

إصلاح الإنسان لنيته وقصده Q إن بعض الشباب هداهم الله قد أصيبوا بمرض خطير ألا وهو الشهوة الخفية، وهي حب الصدارة قبل أن ينضج فكرياً وعلمياً، فهل من كلمة لهؤلاء قبل أن يضيعوا في الدنيا والآخرة؟ A نعم هذه بوابة خطيرة يا إخوة! ومدخل خطير، ونحن يجب دائماً أن نراجع أنفسنا في نوايانا، فيراجع الإنسان نفسه في عبادته لله عز وجل، وأن يراجع نفسه في طلبه للعلم، وفي دعوته، وفي كل عمل يقدمه، ويحاسب نفسه حساباً عسيراً قبل أن يتعرض للحساب الذي لا عمل بعده، وما أشق على الإنسان وأشد عليه من نيته ونفسه التي بين جنبيه، واقرءوا ما يقوله السلف عن الإخلاص، ومجاهدة النية التي يقولون: إنها من أشد الأمور على العابد لله عز وجل.

نصيحة في الاهتمام بالشباب، ومخاطبتهم بما يناسبهم

نصيحة في الاهتمام بالشباب، ومخاطبتهم بما يناسبهم Q إننا نلاحظ على كثير من الشباب في المدارس وفي الشوارع وفي النشاطات خيراً كثيراً وحباً للخير، لكن المشكلة تكمن في البيوت وفي أولياء الأمور عموماً، فهلا قدمت كلمة توجيهية لنا في دورنا في هذه الحالة، وكلمة أخرى لأولياء الأمور، وجزاك الله خيراً؟ A نحن يجب أن نتخلص من عقدة السبب الواحد والمشكلة الواحدة، المشكلة ليست في البيت وحده، البيت جزء من المشكلة، لكن المشكلة موجودة في الشارع وفي البيت وفي المدرسة وعند الجميع، فالتقصير من الجميع بدأً بإمام المسجد، وخطيب الجمعة، والمدرس، والأب، نحن جميعاً مقصرون في حق هؤلاء. إن هذا الشاب يحضر الجمعة، لكنه لم يسمع من خطيب الجمعة يوماً من الأيام حديثاً عقلياً مقنعاً هادئاً يخاطب عاطفته وقلبه، ولا يسمع إلا حديثاً يرى أنه لا يخصه، ولم يسمع من أستاذه كلمة ناصحة مشحونة بالود والعاطفة والمحبة، وكذلك والده والجميع. أقول: إن التقصير من الجميع، ولا يسوغ أن نرمي التقصير على فئة دون أخرى، فيجب أن نتكاتف ونتعاون جميعاً؛ لنتجاوز هذا التقصير، ونسعى لاستنقاذ أنفسنا أولاً، واستنقاذ إخواننا.

التزام الألفاظ الشرعية في الكلام

التزام الألفاظ الشرعية في الكلام Q قلتم: إن الكلام تكون نيته لله ورسوله، وكررتم: خدمة دين الله، فهل هذا التعبير صحيح؟ أوليس الأولى نصرة دين الله كما جاء في كتاب الله؟ A نشكر الأخ على هذا التنبيه، وأحياناً الإنسان عندما يتحدث قد لا يستطيع أن يضبط ألفاظه وعباراته، فعلى كل حال إن قلنا: نصرة دين الله عز وجل، فلا شك أن هذا مصطلح شرعي، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، ولنستبدل هذه الكلمة بغيرها. والمهم أن المقصود والمطلب واحد، وأيضاً التأدب في الألفاظ الشرعية مطلوب ولا شك، فنشكر الأخ على ملاحظته.

الخطاب في غالب أحكام الشريعة عام للرجال والنساء

الخطاب في غالب أحكام الشريعة عام للرجال والنساء Q نسينا النساء في هذا اللقاء مع العلم أنهن معنيات أيضاً في وقف أنفسهم لله، فهلا أشرتم إلى هذا؟ A الخطاب للرجال تدخل فيه النساء تبعاً في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، والنساء لهن حق علينا، ولهذا -إن شاء الله- ستكون هناك محاضرة في الأسبوع القادم يوم الأربعاء في مدينة الرياض بعنوان: يا فتاة! وهي خاصة بالنساء، ولعل من لا يتيسر له حضورها أن يسمعها من خلال أجهزة التسجيل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع، وأن يرزقنا إخلاص القلوب، وتوجه الأعمال له سبحانه وتعالى، وألا يفرق هذا الجمع المبارك إلا بذنب مغفور، وعمل صالح مقبول، ويجعلنا وإياكم ممن اجتمعوا في بيت من بيوته على ذكره سبحانه وتعالى، وأن يرفع درجاتنا وإياكم في المهديين. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حديث مع الشباب

حديث مع الشباب إن الشباب ألم وأمل، ألم عندما ينحرفون ويضيعون فيسببون شرخاً عظيماً في المجتمع، ويتركون هوة سحيقة فيه. وأمل للأمة إذا ما صلحوا وسعوا في نهضتها، وعرفوا ما لهم وما عليهم تجاه خالقهم، وتجاه دينهم وأمتهم. والحديث عن الشباب ومشاكلهم والحمولة الملقاة على عاتقهم، وكيفية إصلاح شئونهم وتوجيههم التوجيه السليم، حديث ذو أهمية بالنسبة للفرد والمجتمع.

حال شباب الأمة واختلاف نظرة طوائف الناس إليهم

حال شباب الأمة واختلاف نظرة طوائف الناس إليهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فإن من يتأمل في واقع الشباب الآن يدرك أن هناك شرخاً عظيماً وانصداعاً في هذا الكيان، وهو كيان مهم من كيانات الأمة، وركن ركين من أركان المجتمع ودعاماته، والأمم والمجتمعات إنما تقوم بشبابها، وعندما تتحدث أنت عن الانحراف في واقع الشباب والفساد في كثير منهم لست بحاجة إلى إيراد أدلة على هذه الدعوى، فالجميع يسلم لك بذلك، ولا أظن أحداً أبداً يخالف في هذه البدهية، وأظن أنه من الترف الفكري وإضاعة الوقت أن نسعى إلى إثبات البدهيات، ولكن القضية التي قد يقع حولها الخلاف هي التعامل مع هذا الواقع، فالجميع يتفقون على أن هذا الواقع واقع غير شرعي، وأن هذا الواقع يحتاج إلى تصحيح، وأن هذا الواقع فيه انحراف، وهذه قضية بدهية ويتفق عليها الجميع. وكما قلت: عندما تتحدث أنت عن أوساط الشباب والفساد والخلل الموجود في هذا الكيان لست بحاجة إلى أدلة ولا إيراد شواهد، بل هذا من إثبات البدهيات، وكما قال الشاعر: وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولكن الخلاف يحصل في منهج التعامل مع هذا الواقع، فهذا واقع يفرض نفسه الآن، أو واقع موجود على الساحة، فكيف نتعامل مع هذا الواقع؟ وكيف نتعامل مع هؤلاء الشباب؟ أظن أن هذه القضية بحاجة إلى أكثر من تفكير، وبحاجة إلى أكثر من جهد، وبحاجة إلى تنوع المجالات والجهود، فهي قضية مهمة من قضايا مجتمعنا، وقضية مهمة من قضايا الدعوة، وأنت عندما تتأمل في أساليب الناس في التعامل مع هذا الواقع تجد أن الناس أصناف شتى: فهناك فئة لا تتجاوز إثارة الأحزان والأشجان والندب لهذا الواقع الأليم، فهو يحدثك عن مرارة الواقع، وعن الفساد والانحراف، ويذكر لك ألواناً من الصور بل وألواناً من الصور الصارخة لهذا الفساد والانحراف، لكنه يقف عند هذا القدر، وهذا القدر يشترك فيه الكثير من الناس، ندب الواقع، والحديث عنه، والانتقاد له يشترك فيه الكثير، ولكن المشكلة ليست هنا فنحن الآن تجاوزنا مرحلة إقناع الناس بفساد هذا الواقع، وهي مرحلة أظن أننا لسنا بحاجة للحديث عنها، وعندما نتحدث عنها وعن مرارتها، ونندب هذا الواقع يجب أن نتحدث بلغة من يريد التغيير لا من يقف عند هذا الحد، فهناك فئة كثيرة -كما ذكرنا بل قد يكون منهم من أهل الصلاح والخير والاستقامة- تقف عند هذا الحد، تقف عند حد انتقاد الواقع، وإثارة الأحزان، والندب على هذا الواقع، والاسترجاع، وهذا منطق العاجزين، ومنطق الكسالى، ومنطق غير العاملين، ومنطق الذين يستسلمون للواقع، وما ترى أحداً يستسلم للواقع إلا صاحب عجز، وأنت ترى الإنسان قد يكون في حالة فقر، وعليه ديون، فتراه يسلك ألف وسيلة ويبحث عن ألف أسلوب ليحتال على هذه المشكلة، ويخرج من هذا المأزق، وترى امرأً يريد هدفاً في الحياة الدنيا أياً كان هذا الهدف، وتكون أمامه العقبات والمشاكل الكثيرة، فتراه يسعى ويفكر ويبحث عن ألف طريق وألف وسيلة؛ ليتجاوز هذه المشكلة. وهناك أمور مثل هذا تتكرر عندنا كثيراً، فعندما يكون عند الإنسان حاجة في أي دائرة حكومية وقد يكون فيها مشكلة تتطلب تأخير هذه المعاملة، أو تتطلب عدم البت فيها، فماذا يصنع هذا الإنسان؟ تراه يسأل عن المسئول من أي بلد، ويسأل عن أقربائه، ويحاول بطريقة أو بأخرى أن يتصل بأقرباء هذا المسئول؛ حتى يتصلوا به ليقنعوه بحل هذه المشكلة. وهكذا عندما يتقدم أحد ليخطب ابنته تراه يسأل عنه، وعن أخواله، فما يلبث أن يجد امرأ يحل له هذه المشكلة، فالشاهد: أن الإنسان هنا لم يقف عندما كان صاحب حاجة وإرادة وتصميم، واستطاع أن يحتال على حاجته، واستطاع أن يجد ألف أسلوب، وأما في قضايا دينه فالقضية تقف عند هذا الحد: عند التألم والأحزان والأشجان لا غير. وهناك فئة أخرى تغرق في الحديث عن وصف المرض، وعن ذكر مظاهره وأعراضه بلغة تبعث على الأسى وتبعث على اليأس والقنوط، وعندما تذكر له بعض النماذج وتحاول أن توجد عنده بصيصاً من الأمل، فتحدثه عن بعض البشائر فإنه يفاجئك ببعض المظاهر الصارخة من الفساد والانحراف؛ ليسعى في تبديد كل أمل لديك في تغيير هذا الواقع، وقد لا تختلف هذه الفئة عن سابقتها، لكن الفئة السابقة فئة تقتصر فقط على مجرد التألم، وأما هذا فهو يزيد وقد يتحدث من خلال منابر ومن خلال وسائل الحديث مع الناس عن الانحراف وعن الفساد وعن الخطأ وعن الضلال وعن انحراف الشباب، ثم يقف عند هذا الحد. إن هذا وصف للمرض وقد يكون مطلوباً -أحياناً- لإقناع من لا يدرك خطورة المرض، ولكن أن يكون هو العلاج فلا، فعلينا أن نفكر ملياً في هذا الأسلوب، إن هذا الأسلوب غاية ما ينتجه فقط إثارة الاهتمام بالمرض، وإثارة الشعور بالمرض، وأما القضية التي نحتاج إليها فهي العلاج، إننا الآن لا نملك أدنى شك ولا أظن أن أحد

الاستقامة على دين الله وترك طريق الغفلة

الاستقامة على دين الله وترك طريق الغفلة فالصفحة الحادية والعشرون بعنوان: لا زلنا عند مطلبك. كنا قد طلبنا في تلك المحاضرة من الشاب أن يودع طريق الغفلة، وأن يسلك طريق الاستقامة، وحاولنا قدر الإمكان أن نسلك ألواناً من الحجج والأدلة العقلية والمنطقية والأدلة المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولنا أن نتحدث مع الشاب ونحشد له الكثير من المؤيدات والحجج والبراهين التي تؤيد مطالبنا المشروعة، وهانحن الآن نخاطبه بلغة أخرى ومنطق آخر، ولكن هذا لا يعني: أننا تخلينا عن مطلبنا الأول، فلا زلنا نطالب وبصوت عالٍ وبصوت ملح نطالب جميع هؤلاء الشباب أن يعودوا إلى طريق الاستقامة والصلاح، أطل منهم أن يعودوا وليس أن يسلكوا؛ لأن هذا هو الأصل، وهذا هو طريق الفطرة، فلا نزال على هذا المطلب وسنستمر عليه، ومهما خاطبناك بلغة أخرى فهو خطاب آخر أو حديث ثانوي، ويبقى حديثنا الأصلي أننا لا زلنا نطالبك بالتوبة، ولا زلنا نطالبك بالعودة إلى الطريق الصحيح وإلى المسار السليم ألا وهو: الاستقامة على شرع الله عز وجل. وسنزيد إلحاحاً وسنزيد مطالبة، ونشعر أن من محبتنا لك ومن مودتنا لك ومن حقك علينا أن نزيد في المطالبة والإلحاح، إنك ترى رجلاً يطلب من إنسان دينه أو حقه فتراه يلح في مطالبته، وتراه يحاول أن يستعين بالشفعاء والوسطاء، ويسلك آلاف الأساليب والحيل كي يطالب بحقه، وأنت ترى أنه يطالب بحق مشروع، فبالله عليك أينا أكثر حقاً؟ أتصور أن مطالبنا أكثر مشروعية من الرجل الذي يلح في المطالبة بدينه، فذاك رجل يطلب حقاً شخصياً له، وأما نحن فنطلب منك إسعادك، ونطلب منك أن تسلك الطريق، وأنت وحدك المستفيد، وأنت وحدك الخاسر حين ترفض هذا القرار، فأينا أكثر مصداقية في مطالبه؟ وأي المطلبين أكثر مشروعية؟ إنك لا تلوم ذاك الإنسان الذي يطالب حقاً ويطالب ديناً، فما بالك تلومنا نحن وتعتب علينا على إلحاحنا ولا نزال نلح وسيستمر هذا المطلب مطلباً ملحاً إلى أن تفرق بيننا وبينك المنية أو أن تلبي هذا المطلب.

لا زلت مسلما أيها الشاب

لا زلت مسلماً أيها الشاب الصفحة الثانية والعشرون: لا زلت مسلماً. هناك وهم كاذب يسيطر على البعض من الشباب، وهو ما أشرت إليه في مقدمة حديثي: فيتصور الشاب أن أمامه خيارين: الخيار الأول: أن يتوب ويسلك طريق الالتزام والاستقامة، ويعني هذا: أن تنقلب حياته رأساً على عقب، فيبدأ يحافظ على الأوامر، ويبدأ يفعل النوافل ويحرص عليها، ويبدأ يجتنب المحرمات والمعاصي، ويبدأ يتغير تفكيره ويتغير منطق حياته ومنهج حياته، فيصيبه انقلاب كامل في حياته. الخيار الثاني: أن يفشل في تحقيق هذا الخيار لسبب أو لآخر وهو لا يزال عنده قناعة أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، إنه سلك هذا الطريق يوماً من الأيام لكنه فشل: إما لضعف شخصيته، أو لحواجز وهمية، فالقضية إذاً أمامه الخيار الآخر وهو: أن يبقى على ما هو عليه، فحينئذ يتصور أنه ما دام ملتزماً فله معاملة أخرى، وأنه ما دام ملتزماً فمن حقه أن يضيع وقته، وما دام ملتزماً فمن حقه ألا يحافظ على الصلاة، وما دام ملتزماً فليس مطالباً أن يفعل النوافل، وليس مطالباً أن يقرأ القرآن، وليس مطالباً بهذه المطالب. أنت ترى مثلاً نقلة بعيدة جداً وشاسعة جداً بين هذا الشاب وهو في طريق الغفلة والإعراض، وعندما يسلك طريق الالتزام، ترى نقلة بعيدة جداً، أليس هناك حل ثالث وخيار ثالث لنختصر هذه النقلة؟ إنك أنت قد تفعل بعض المعاصي، وقد تكون تسير في طريق الغفلة، لكن لماذا تضع هذا الحاجز أمامك: أنك إنسان غير ملتزم وغير مستقيم؟ فتراه عائقاً يعوقك عن المساهمة في كثير من أمور الخير، ويعوقك عن كثير من الطاعات، وتراه مبرراً لك لأن تقع في كثير من المعاصي. فأنت مثلاً: قد تطالب الشاب أنه يتخلى عن سماع الغناء، وعن مشاهدة الأفلام، وتطالبه بالمحافظة على صلاة الفجر، وتطالبه بأن يفعل السنن الرواتب، وأن يقرأ القرآن، فكأنه يستغرب هذا المطلب ويقول لك: يا أخي! أنا لست ملتزماً وأنا لست مستقيماً، وقد لا يقول هذا الكلام بلسان المقال لكنه يقوله بلسان الحال، فمن أين هذا الوهم؟ ولماذا لا تفترض طريقاً ثالثاً ومرحلة ثالثة؟ إنك قد تقول لي: عندك عوائق وعندك أعذار وعندك أسباب تمنعك من طريق الاستقامة، فنقول: إذا لم تسلك هذا الطريق فثمة طريق ثالث، فلا يعني هذا أنه مسوغ أن يتخلى عن المطلب السابق، لكن لم لا تجعله مرحلة وسيطة؟ لماذا لا تقول: أنا غير ملتزم لكني مسلم؟ فما الذي يمنع مثلاً: من أن أعفي لحيتي وإن كنت غير ملتزم؟ لأن المسلم مطالب بذلك، وما الذي يمنع من أن أحافظ على صلاة الفجر؟ وما الذي يمنع من أن أفعل النوافل؟ وما الذي يمنع من أن أقرأ القرآن، ومن أن أشارك في أمور الخير ولو كنت لست من أهل الاستقامة، ولست من أهل الالتزام والطاعة؟ بل أتصور أنا أن هذه خطوة مهمة قد تقودك إلى الانتقال للمرحلة الأخرى، وقد تجعلك تكون أكثر قدرة على سلوك الطريق الفعلي فعلاً الذي نطالبك به. مرة أخرى عندما نطالبك نحن بهذا المطلب فلا يعني: أن نتخلى عن طلبنا الأول، فهو مطلب ملح وهو الأصل، ولكن إذا لم تلب هذا المطلب أو عجزت أو فشلت فلا يعني هذا أبداً بحال أنك أصبحت شخصاً آخر، أو كأني أحياناً بك تتصور أنك غير مكلف، أو كما يقول أهل الأصول: غير مخاطب بفروع الشريعة، فأنت إذا كنت غير ملتزم ومظهرك غير مستقيم، فهذا لا يعفيك إطلاقاً من التكاليف الشرعية، فكل نص شرعي سواء أمر أو نهي: سنة واجب محرم مكروه أنت مطالب به، وليس هناك أبداً نصوص خاصة وأحكام خاصة وأشياء خاصة بالملتزمين، وأمور خاصة بغير أولئك.

كن من أهل العافية

كن من أهل العافية الصفحة الثالثة والعشرون: كن من أهل العافية. هناك مشاهد تكررت من الشباب، فيلتقي الشاب مع زملائه فيحدثهم عما فعل، فقد فعلت البارحة كذا وكذا، وشاهدت مثلاً: فيلماً، أو فعلت كذا وكذا، أو فعلت تلك الفعلة، بل وكأنه ينتظر اللقاء على أحر من الجمر؛ حتى يحدث زملاءه عما فعل. وأحياناً يعمد إلى أن يفعل بعض الممارسات أمام زملائه وأمام الناس إما من خلال عدم المبالاة، أو من خلال الافتخار بهذا العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ثم يستره الله عز وجل، فيصبح فيقول: يا فلان! فعلت البارحة كذا وكذا، فيصبح وقد ستره الله عز وجل فيكشف ستر الله عليه) يعني: أنت مثلاً عندما تفعل معصية أو تقع في المعصية أياً كانت هذه المعصية صغيرة أو كبيرة ما الداعي إلى أن تتحدث بها مع الناس؟ إن فعلك للمعصية ذنب، والحديث مع الناس ذنب آخر ومعصية أخرى، إن هذا قطع الطريق على التوبة، لأنه تسهيل للمعصية، ودعوة غير مباشرة للمعصية، ثم لو لم يكن كذلك إن هذا وسيلة لأن تقطع الطريق على نفسك أن تتوب، فإن الناس قد عرفوا ما عندك. فإن ابتلاك الله عز وجل ووقعت في المعصية فلماذا لا تستتر بستر الله عز وجل، وتكون من أهل العافية؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فالمجاهرة دليل -مع الاعتذار الشديد- على أنك إنسان مستخف بالمعصية، وعلى أنك إنسان لا تبالي بمعصية الله سبحانه وتعالى، وأما ذاك الإنسان الذي يقع في المعصية، ويتصور أن هذا ذنب، وأن هذا نتيجة أن نفسه غلبته حتى أوقعته في تلك المعصية، وينتظر الوقت الذي يتوب فيه إلى الله عز وجل، فهذا إنسان أقرب حال من ذاك الإنسان الذي يفتخر بهذه المعصية، ويتحدث بها مع أقرانه، أو يفعل معصية أمام الناس. فهناك ثلاث مراتب فلماذا تختار أنت أسوأ هذه المراتب؟ كما قلنا في الصفحة السابقة: المرتبة الأولى: التوبة والإقلاع عن المعصية والذنب، هذه المرتبة هي الخيار الطبعي والأمر المطلوب. المرتبة الثانية: مرتبة الإعلان والمجاهرة والافتخار، هذه مرتبتان، وأنت عندما تفشل في المرتبة الأولى لماذا تختار المرتبة الثانية؟ هناك حل وسط، لا يعني: كونه وسطاً أنه خير، لا، فالوسط الخيري: هو التوبة والإقلاع. المرتبة الثالثة: أن تستتر بستر الله عز وجل، وأن تجتهد ألا تفعل معصية أمام الناس على الأقل إذا كنت مبتلى بهذه المعصية، فهذا طريق وخطوة بأن تقلع عن المعصية. ونحن عندما نقول لك هذا الكلام لا نعطيك إطلاقاً مشروعية أن تفعل المعصية، لكن على الأقل هذا أهون الشرين، وهذه وسيلة إلى أن تستتر بستر الله عز وجل، وإذا كنت تقول: أنا ابتلاني الله عز وجل بالوقوع في المعصية وأحاول التخلص منها ولم استطع، وسأسعى إلى ذلك، فأتصور أن أول خطوة تعينك على ذلك هي أن تستتر بستر الله عز وجل، وأن تكون من أهل العافية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، واختيارك لهذا الأسلوب وهذا الطريق يعني: أنه وسيلة لينقلك نقلة أخرى بعد ذلك، ووسيلة إلى أن تتوب إلى الله عز وجل، وبعد ما يكون عندك عزيمة وإرادة فليس هناك مشكلة، فالناس ما يعرفون عنك الماضي السيئ والتاريخ السيئ الذي أحياناً يكون عقبة وحاجزاً بين الإنسان وبين التوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النجوى قال: (وأما العبد المؤمن فيدنيه ربه فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا وكذا؟ قال: حتى إذا ظن أنه قد هلك قال: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم أو أغفرها لك في الآخرة)، فقد تفعل ذنباً ويستر الله عز وجل عليك، فلا داعي لإعلان ذلك الذنب فقد يمكن أن تكون من أهل هذا الحديث أن تكون ممن ستر الله عز وجل عليهم في الدنيا، وغفر الله لهم في الآخرة، فإن استتارك بستر الله سبحانه وتعالى، وعدم إعلانك لهذا الذنب لعل هذا أن يكون وسيلة لأن يقول الله تعالى لك يوم القيامة: (أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك في الآخرة). وأما ذاك الذي يجاهر بالمعصية، ويتحدث بها ويفاخر بها، ويدعو إليها فأحرى به أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الفاجر فينادى بذنوبه على رءوس الخلائق).

لا تحتقر المعصية

لا تحتقر المعصية الصفحة الرابعة والعشرون: لا تحتقر المعصية. حين تبتلى بمعصية فلا تحتقر هذه المعصية، إنك عندما تتحدث مثلاً مع بعض الناس عن معصية وسيئة يقع فيها يقول لك: هذه قضية سهلة، أو على الأقل هناك من خالف في هذه المسألة، أو هناك من يفعل أسوأ من هذا، أو أنا أفعل أسوأ من هذا، وهذا من نتائج المعصية وأثر المعصية، إنك عندما تفعل المعصية، وتقع فيها وتبتلى بها فأنت ينبغي أن تتصور وألا يزول أبداً من خاطرك ومن ذهنك أنك تجرأت على معصية الله سبحانه وتعالى، وعصيان الله عز وجل أمر عظيم، كما يقول بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، وانظر إلى عظم من عصيت. ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمحقرات الذنوب فيقول: (إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أشعلوا نارهم، وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه). ويروي البخاري عن ابن مسعود أثراً يضرب فيه مثلاً، فلا بد من إحدى الصورتين، فاختر أنت الصورة المناسبة، يقول رضي الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به: هكذا. فكيف واقعك مع ذنوبك ومعاصيك؟ فأنت عندما تبتلى بمعصية وتفعل المعصية هذا لا يعني أن تجاهر بها، ولا أن تبحث عن مسوغ، ولا يعني مرة أخرى: أن تستهين بهذه المعصية وتحتقر هذه المعصية. فليكن عندك هذا الهاجس، وليكن عندك هذا الشعور: أنك عاصٍ لله، وأنك تفعل المعصية، وحتى ولو كنت تفعل معصية أعظم منها فينبغي ألا يهون عليك تلك المعصية الصغيرة التي تقع فيها، وهذه خطوة للتوبة والإقلاع عن الذنب، بل إن استحقار المعصية قد يحولها إلى كبيرة ولو لم تكن كذلك، ومعاصيك مهما عظمت ومهما كثرت ومهما تكررت فهي لا تسوغ لك بحال أبداً أن تستهين بالمعصية، أو أن تأتي عندما ترتب هذه المعاصي على عظمها وصغرها أن تنظر إلى تلك الصغيرة أو تلك التي تأخذ مرتبة متأخرة في الترتيب، أن تنظر إليها نظرة ازدراء واحتقار أبداً، فرب معصية تحتقرها قد توبقك وتكون سبباً في هلاكك.

إياك وإضلال الناس

إياك وإضلال الناس الصفحة الخامسة والعشرون: إياك وإضلال الناس. هذه صورة تتكرر كثيراً، فتجد شاباً مستقيماً محافظاً على أوامر الله عز وجل خير تربى تربية محافظة، وولد من أبوين مسلمين محافظين عليه، وبعد فترة يتغير، وكثيراً ما يقال: من صاحب من الناس؟ إذاً نستطيع أن نقول: إن فلاناً من الناس هو الذي أضله؛ نتيجة أنه صاحبه، فلماذا أنت تسلك هذا الأسلوب؟ فأنا أتصور أنك مقتنع قناعة تامة بأنك تسير على طريق خاطئ، ومقتنع أن طريقك طريق غير شرعي، فلماذا تتسبب في إضلال الناس وإضلال الآخرين؟ فأنت عندما تأتي وتأخذ فلاناً من الناس الذي كان ما يقع في المعصية، وصاحبته أنت وعاشرته ولازمته فأوقعته في الفساد والمعصية فأنت تسببت في إضلاله وإيقاعه في المعصية. فقد تضله بالمصاحبة وقد تضله بطريقة أخرى، فأنت تدله على الطريق المثلى في المعصية، فتهدي إليه صورة، أو تهدي إليه فيلماً، أو تهدي إليه مجلة، وتدله بطريقة أو بأخرى على طريق المعصية، وتهون عليه أمر المعصية بأي وسيلة، فتكون أنت قد ساهمت في إيقاعه في المعصية بصورة أو بأخرى، وقد تكون قصدت ذلك وقد تكون لم تقصد، لكن لأجل أنك تعرف النتيجة وتعرف النهاية فأنت السبب، فعندما تأخذ فلاناً من الناس أو ابن فلان معك وتصاحبه وتعرف أنت إلى ماذا سيصير، وتعرف أنت النهاية عندما تهدي لفلان هذا الفيلم، أو تقص عليه هذه القصة، أو تعمل معه هذا العمل أو ذاك تعرف النهاية، فلماذا تكون سبباً في ضلال الناس؟ أنت يا أخي! مقتنع أن طريقك خاطئ، ويمكن أنك تبحث عن طريق الصلاح والاستقامة، فكيف ترتكب أنت الخطأ وهذا الأسلوب مع الناس وتنقلهم إلى أن ما ترى أنه أمر فاسد، فأنت ترى أن هذا الطريق الذي هم عليه هو طريق الخير، وهو طريق الصلاح، وهو الطريق الطبيعي الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان، ألا تخشى أن ينطبق عليك قول الله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]؟! وأنت مثلاً عندما تأتي وتصاحب فلاناً من الناس وبسبب مصاحبتك له انحرف وضل، أتدري أنك تأتي يوم القيامة تحمل وزرك مع وزره هو؟ هذا كلام الله عز وجل، ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). وهنا أضرب لك مثالاً محدداً بسيطاً: فأنت أتيت وأهديت إلى فلان فيلماً وأنت قد شاهدت هذا الفيلم، فقد تقول لي: ما أستطيع أتخلص منه، أنا تعودت، أنا أصبحت صاحب إدمان، سنتنازل معك فنقول: قد تكون كما قلت، لكن ما المبرر أنك تهديه إلى فلان من الناس؟ وماذا يترتب على ذلك؟ فإذا أنت أهديته إلى فلان فسينظر إليه، والنظر هذا معصية، وهذا العمل سيصرفه عن كثير من أنواع الطاعات، بل قد يتسبب في وقوعه في المعصية، بل قد يكون سبب في انحرافه كما سنتحدث إن شاء الله في الدرس القادم، وسنذكر لكم نماذج من ذلك. فقد يكون ذلك سبباً في انحراف أناس آخرين، فهذا الشاب قد يعطي هذا الفيلم لآخرين، فقد تراه أخته وقد يراه أخوه، فتخيل معي الآن ما هي النتائج التي ترتبت على هذه الهدية التي قمت بإهدائها إلى فلان من الناس، فالنتيجة أنك أنت تتحمل المسئولية كاملة، وتتحمل كل الأوزار الذين وقعوا فيها هؤلاء؛ لأنك أنت سهلت لهم طريق المعصية، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، وأنت ترى مشهداً آخر معاكساً فأنت تهدي إلى هذا مثلاً فيلماً ساقطاً، لكنك ترى من يهدي إلى فلان شريطاً إسلامياً، وترى من يهدي إليك أنت شريطاً إسلامياً وكتاباً إسلامياً، أنت مثلاً: قد تصاحب فلاناً لغرض إفساده، أو لقضية معينة، وتعرف النتيجة، لكنك ترى أنت من يدعوك ويحاول أن يأخذ بيدك ليصحبك؛ كي ينقلك إلى طريق الاستقامة. فيا أخي! هل هذا المشهد لا يدعوك إلى أن تراجع نفسك؟ فانظر كيف أنت عائش في النقيض، فهناك من يسلك نفس الأساليب التي تسلكها: أسلوب المصاحبة، والكلام، والإهداء، وتجده يحترق حتى ينقل فلاناً أو فلاناً إلى طريق الهداية، وأنت تمارس نفس الأسلوب بطريقة أخرى، فعلى الأقل يا أخي! إذا ما اقتديت به المفروض أن هذا الخطوة تجعلك تتوقف عن أن تسلك هذا الطريق: طريق إضلال الناس، وهي قضية خطيرة ما يسوغ أن تستهين بها، وفرق بين أن تفعل معصية وتقع فيها، وبين أن تسهلها على الناس، وتدعو الناس إليها، وتحاول أن تنقل الناس إلى المعصية، فتتسبب في إضلال الناس.

إزالة الحواجز الموضوعة بين الصالحين وغيرهم

إزالة الحواجز الموضوعة بين الصالحين وغيرهم الصفحة السادسة والعشرون: لماذا هذه الحواجز؟ لماذا هذا العداء المفتعل وهذه الحواجز المصطنعة بينك وبين الأخيار؟ نرى الآن حواجز وحدوداً بين هذا الشاب وبين الناس الأخيار، فإذا نظر بعضهم إلى بعض فإنه ينظر شزراً، فلا يسلم عليهم، وإذا حصل السلام فيكون سلاماً -كما يقول الناس-: روتينياً، وأما مشاعر المودة وتبادل الحديث إلى غير ذلك فكل هذا قد لا يوجد. قد تقول أنت: إن السبب هم الأخيار، وكثيراً ما يقال هذا الكلام، فيقول هذا الشاب: الأخيار لا يسلمون علي، والأخيار يفرضون حواجز وعندهم استكبار إلى غير ذلك، فأقول له: إنه من السهل جداً أن تحمل الآخرين المسئولية، فأنت الآن طرف في المشكلة فمن السهل أن تحمل الآخرين المسئولية كاملة، لكن بقي طرف آخر في القضية ومن العدل والمنطق دائماً أنك ما تحكم بين شخصين إلا عندما تسمع منهما جميعاً، ولهذا يقولون: إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى تسمع من الخصم الآخر؛ فقد تكون فقئت كلتا عينيه. يعني: يأتيك رجل ويقول: هذه عيني مفقوءة، فلعل الآخر فقئت كلتا عينيه، فانتظر حتى تسمع منه. فكونك تحمل الآخرين المسئولية هذا منطق سهل، مثلاً: عندما يرسب الطالب من السهل أنه يحمل الأستاذ المسئولية، وعندما يفصل الموظف نتيجة الإهمال، أو يخصم عليه: من السهل أنه يحمل رئيسه المسئولية، وهكذا من السهل على كل إنسان أنه يحمل الآخرين المسئولية، بل أنت مثلاً: لو تلتقي بالمسجونين فإنك تجدهم يتحدثون عن تجاوز القضاة وتجاوز الشرطة والهيئات، فيحمل الآخرين المسئولية. الأمر الثاني: أن العلاقة ما هي من طرف واحد وإنما هي علاقة تبادلية مشتركة، فأنت عندما تقول لي: هو ما يسلم، فإنه أيضاً يقول لك: وأنت ما تسلم، فالقضية ما هي من طرف واحد، فلماذا أنت تطالب فقط من طرف واحد؟ فالقضية الآن قضية مشتركة تحتاج إلى تنازل منك أنت وتنازل منه هو، وإلى مبادرة منك أنت ومبادرة منه هو، فليست من طرف واحد حتى نحمل هذا الطرف المسئولية وحده. الأمر الثالث: من الخاسر؟ فمثلاً هو عندما يعرض عنك سيكون بينك وبينه حاجز، وصار هنا Q من سيخسر؟ أفترض أن الخسارة لك أنت؛ لأنك أنت عندما تصاحبه وتجلس معه ستستفيد منه، وستجد منه أموراً كثيرة من أمور الخير ولو على الأقل أن تجد منه ريحاً طيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هو فقد لا يخسر كثيراً، فالخاسر أنت، أو بعبارة أخرى أنت صاحب الحاجة، فأنت الآن الذي تحتاج إلى أن تحسن هذه العلاقة، فالأولى أن تكون المبادرة منك أنت؛ لأنك أنت صاحب الحاجة، ثم أنت الذي ستخسر عندما تبقى هذه العلاقة علاقة سلبية. الأمر الرابع: أن هذا المستقيم قد سبقك في ميادين كثيرة، فهو مثلاً: استقام، وترك المعصية، وفعل الطاعة، وفاقك في أمور كثيرة، فيا أخي! نريد منك نحن أن تفوق في هذه القضية وحدها، لماذا دائماً ترضى أن تكون في آخر القائمة؟! لماذا لا تقول: فلان سبقني في جوانب كثيرة من جوانب الخير فلابد أن أسبقه في هذا الخير، فنريد منك أن تساهم في تحطيم هذا الحاجز. أمر خامس: قد يكون من حقه ذلك عندما هو يفرض هذا الحاجز، وعندما يرفض أن يلتقي بك، أو يجلس معك، أو يتحدث معك، والقضية ليست كبراً وليست غروراً وإن كانت قد توجد حالات نادرة، لكن لماذا لا تحمل دائماً أنت إلا أسوأ التفاسير؟ فهناك باب العذر والتبرير، فمثلاً: أنت عندما تلتقي به وتسخر منه بالله عليك أليس من حقه أن يرفضك؟ فلماذا أنت تواجهه بالسخرية دائماً؟ وأحياناً بالكلام وبالغمز أحياناً وبالإشارة بصورة أو بأخرى، أنت تفعل معه أنواعاً من السخرية، فكيف مع ذلك تطلب منه أنت أن يحطم هذه الحواجز، وأن يعاملك بنقيض ما تعامله؟! أيضاً: هو قد يكون عنده عذر آخر، فقد يكون يريد أن يحافظ على نفسه، فيرى مثلاً: أنه عندما يجلس معك تحدثه أنت عن المعاصي، وتحدثه عما تفعل وتسوغ له المعصية، فيرى أن جلوسه معك من باب مصاحبة جليس السوء، وقد تكون سبباً في وقوعه في المعصية، فمن هنا فهو يرفضك لا كبراً ولا استكباراً وإنما يرفضك من باب أن يحافظ على نفسه. فلماذا لا تكون أنت صاحب القرار؟ ولماذا لا تحطم هذه الحواجز وتحترم مشاعر الآخرين؟ فتبدأه بالسلام وتبتسم له وتبدي له إعجابك وارتياحك بما هو عليه، وتقول: والله يا أخي! أنا أغبطك على الذي أنت عليه، يا أخي الكريم! هذا شيء أنا أجزم أنه موجود عندك في الداخل لماذا لا تقوله؟ أنا أجزم أنك أنت عندما يسألك أحد تقول: والله يا أخي! إني أغبط الناس المستقيمين والأخيار، وأتمنى أن أكون مثلهم، فأنت عندما تسلم عليه وتبتسم له وتقول: يا أخي! أنا أغبطك على الواقع الذي أنت عليه، وأتمنى أن أكون مثلك، وأتمنى أن أصير إلى الحال التي أنت عليه، وأرى أني على خطأ وعلى انحراف، وأخشى على نفسي لكن الشكوى إلى الله، وتساهم أنت في تحطيم الحواجز هذه، فتستفيد الكثير، وتختصر عليك خطوات كثيرة، لماذا لا تتمثل قول الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعا

مساهمة الشاب ولو كان عاصيا في مسيرة الخير

مساهمة الشاب ولو كان عاصياً في مسيرة الخير الصفحة السابعة والعشرون: تساهم معنا في المسيرة. فأنت الآن ترى مسيرة الصحوة سواء من خلال ما تشاهد في واقعك القريب والبعيد، أو ما تسمع عن أخبار المسلمين، ولو سألتك: هل هذا الأمر يهمك؟ لقلت لي: يهمني، وطبيعي أنه يهمك؛ لأنك إنسان مسلم، ومهما كان عندك من التقصير والإهمال فإن هذا الأمر يهمك. سؤال آخر: ألم يهدك أحد يوماً من الأيام كتاباً؟ ألم يهدك شريطاً؟ ألم يدعك بأن تحضر محاضرة؟ وقد تكون حضرت هذه المحاضرة من خلال دعوة فلان من الناس، أو سمعتها في الشريط الذي أهداه إليك فلان من الناس، ففكر واسأل نفسك هذا Q ماذا يريد مني؟ ولماذا أهدى لي هذا الكتاب؟ وهذا الشريط لماذا دعاني لحضور هذه المحاضرة؟ ولماذا وجه لي هذه النصيحة؟ وستعرف أنت الإجابة. ثم أقول لك: هل فكرت أنك أنت تصنع مثل ذلك؟ فأنت عندما نطالبك مثلاً: أن تساهم في الدعوة إلى الله عز وجل تقول لي: أنا ما استطيع، وهذا الأمر يحتاج إلى إنسان صاحب علم، وإنسان مستقيم، وإنسان خير، فأقول لك: أنت مثلاً: ما تستطيع أنك بعد ما تسمع هذا الشريط أن تهديه إلى زميلك، فتكون قدمت خطوة طيبة ولا تحتقرها أطلاقاً؟ لماذا لا تفكر يوماً من الأيام أنك تحضر محاضرة؟ لماذا لا تدعو زميلك معك. وهناك أسلوب آخر: وهو أن زميلك هذا الطيب المستقيم الذي معك في الفصل إذا أنت قلت له كلمة طيبة وقلت له: والله يا أخي! أنا أغبطك على طريق الخير والاستقامة والصلاح، فاستمر على ما أنت عليه. فهذا الكلام الذي تقوله والله يثبت الكثير. يذكر لي أحد الإخوة الطيبين يقول: كان لنا زميل أعرفه أنا كان من الصالحين والأخيار ثم انحرف -عافنا الله وإياكم- حتى وقع في المخدرات، وأصبح إنساناً آخر، يقول: قابلته مرة من المرات وأنا أشك فيه هل هو صاحٍ، أو غير صاحٍ، فسلمت عليه فقال لي: خليك مع فلان لا تفارقه أبداً، يقصد زميله السابق الخير، فأنتم على طريق الخير والصلاح والاستقامة. فأنا أريد أن يكون عندك هذا الشعور. وأنا سأضرب لك مثلاً وهي قصة أظن أنك قد سمعت عنها: الإمام أحمد رحمه الله له قصة مشهورة، يقول ابنه عبد الله: كنت أسمع أبي كثيراً ما يقول: اللهم اغفر لـ أبي الهيثم! اللهم ارحم أبا الهيثم! اللهم تجاوز عن أبي الهيثم! فقلت له: من يكون؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت: لا، قال: لما دعيت للجلد جذبني بردائي فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت ثمانية عشر ألف جلدة في طريق الشيطان وسبيل الدنيا، وأنت تجلد في طاعة الرحمن وسبيل الآخرة فأولى مني أن تثبت. فانظر إلى أبي الهيثم هذا قاطع الطريق، الذي ما تاب ولا عنده نية أنه يتوب، وهو في السجن ويقول: أنا جلدت ثمانية عشر ألف جلدة في سبيل الدنيا وطاعة الشيطان، فيأتي للإمام أحمد وهو يشعر أن الإمام أحمد يعيش في محنة، وأن هذه المحنة تعيشها الأمة، فمن الواجب عليه أن يؤيد الإمام أحمد، فهو لا يملك شيئاً من الآثار كي يذكر بها الإمام أحمد، ولا يحفظ الأحاديث، وما يملك إلا تاريخه السابق في الإجرام، فاستطاع أن يوظف هذا التاريخ السابق في الإجرام ليقول للإمام أحمد: إنني ضحيت وبذلت وأنا صاحب معصية، فأنت أولى مني أن تضحي وأنت صاحب طاعة. يقول الإمام أحمد رحمه الله: فزادني هذا الكلام تثبيتاً، وكان الإمام أحمد يستغفر له كثيراً حتى إن ابنه عبد الله يسأل ويستغرب: من يكون هذا الرجل؟ ولعله قد غفر الله له بدعوة هذا الرجل الصالح. فأنت مثلاً: قد يكون لك أستاذ ناصح تسمع منه دائماً النصيحة والتوجيه سواء عامة أو خاصة، فعندما تأخذ بيد أستاذك وتقول له: والله أنا معجب بطريقتك، وأشعر أني أستفيد منك، وأشعر أن الشباب يستفيدون منك. فهذه الكلمة التي تقولها كلمة ما تعجز عنها، وكلمة موجودة في مشاعرك ولن تخسر هذه الكلمة، لكن هذه الكلمة ستدفع هذا الأستاذ دفعة قوية؛ لأنه يشعر أن كلامه وقع في قلوب الآخرين. وعندما ترى مثلاً: داعية أو خطيب جمعة أو رجلاً أياً كان أثر فيك، فتبدي له الإعجاب، وتبدي له تفاعلك مع ما حدث، فهذه قضية قد تحتقرها ولكنها خطوة مهمة تدفع هذا الرجل وتزيده حماسة وشعوراً بنتيجة عمله، فأثر عليه ولا تحتقر شيئاً أبداً يا أخي! فوالله إن كلمة واحدة قد تقولها تدفع هذا الرجل دفعات كثيرة، وإذا كنت عاجز فاكتب له ورقة وأرسل من يبلغ له هذه الرسالة، وقل لفلان من الناس: قل لفلان هذا الكلام. فهذه جهود يسيرة يمكن أن تقوم بها فلا تحتقرها، فهي على الأقل تعطيك شعوراً بأنك عملت شيئاً، وأنك ساهمت بدفع الصحوة ولو بشيء يسير. أنا أقول: يمكنك أن توظف خبرتك في الفساد في دعوة الناس إلى الخير، فعندما تقول لفلان: أنا أضحي وأسهر وأتحمل وأتعرض للمخاطر: مخاطر الفضي

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصفحة الثامنة والعشرون: حين تكون مع أصحابك. قد تجلس مع أصحابك فما المانع مثلاً -وهذا الكلام امتداد للصفحة السابقة- أنك تأتي بشريط وتعطيه زملاءك وتقول: اسمعوه، وما المانع أنك تقترح عليهم اقتراحاً، وما المانع أنك عندما تكون مع أصحابك تقول: والله نريد أن نصلي، وعندما يفعلون منكراً تحاول أن تنكر عليهم حتى ولو كانوا أصحاب سوء، ولو كنت سيئاً مثلهم، فقد يسخرون منك، لكن أنت تقول: أنا منطقي مع نفسي، فلو كنت مع أصحابك وزملائك ولو كانوا أصحاب سوء ولو كنت أسوأ منهم؛ ما المانع أن تكون في تناصح معهم، وتكون في تذكير، وتبذل خطوات في أنك تنكر عليهم، وأن تعوقهم عن مشروع يريدون أن يقعوا فيه، فكثيراً ما يكون أحد هؤلاء سبباً في منع أصحابه أن يقعوا في منكر أو أن يقعوا في سيئة، ولعل مثل هذه الخطوات تكون وسيلة لأن يعينك الله عز وجل ويتوب عليك.

خطر السخرية من الأمور الشرعية

خطر السخرية من الأمور الشرعية الصفحة التاسعة والعشرون: إياك والسخرية. إن السخرية تكثر في مجالس الكثير من الشباب في الأمور الشرعية، سواء في العبادات، أو الآيات، أو السخرية من الناس الصالحين الأخيار؛ لأجل الطرفة وإذهاب الملل والسآمة، وأحياناً لأجل الافتخار بذلك، وهذا أمر كما تعلم من نواقض الدين ومن نواقض الإسلام، وقد ينقل صاحبه إلى الردة والكفر عافانا الله وإياك، وأظن أنك قد قرأت ودرست في كتاب التوحيد: باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول، وساق فيه شيخ الإسلام قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]، فالسخرية أمرها خطير. فاحرص قدر الإمكان أن تتخلى عنها، وحين تسمع من يدخل في ذلك من زملائك وأقرانك فينبغي أن تنتصر للدين ولو كنت منحرفاً، ولو كنت أسوء منه، فينبغي أن تنتصر للدين، إنك لو سمعت من يسب أباك أو أمك لغضبت وانتفخت أوداجك واحمرت عيناك، وقمت ولم تقعد؛ انتصاراً لأبيك وأمك، ولو قلت لك: إن والديك أعز وأغلى عليك من دينك، أو إن نفسك أعز عليك وأغلى من دينك؛ لاعتبرت هذا اتهاماً، ولاعتبرت هذا إهانة وسوء ظن، ولكن ما بالك تنتصر عندما تهان وعندما يوجه لك اللوم والسخرية والانتقاد، ولا ترضى أبداً أن تمس بسوء، وأما دين الله عز وجل فلا تنتصر له. مرة أخرى أقول لك: مهما كنت تقع في المعاصي، ومهما بلغ بك الفسق والفجور فإن هذا ليس مسوغاً لك وليس عذراً لك ألا تنتصر لدين الله سبحانه وتعالى. فإذا سمعت من يسخر أو يسب الناس الصالحين والأخيار، أو يسخر بدين الله عز وجل فانهه ولو بكلمة واحدة.

امنح ولاءك لدين الله

امنح ولاءك لدين الله الصفحة الثلاثون: لمن تمنح ولاءك: يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. إن هذه الآية خطاب للمسلمين جميعاً: للصالح وغيره، للتقي والفاجر، للمؤمن المحافظ والفاسق المفرط، إن شأنها شأن سائر النصوص الشرعية خطاب للجميع، فهي دعوة للجميع أن يكون وليهم المؤمنين، وأن ينخرطوا في حزب الله سبحانه وتعالى ويتولوا المؤمنين، إننا ندعوك من خلال تجارب قد تكون قد مرت عليك، فقد تكون مثلاً: تشجع نادياً رياضياً وتمنح له ولاء، هذا الولاء يفرض عليك أنماطاً كثيرة من السلوك والتعامل، فأنت مثلاً: تحب هذا اللون؛ لأنه يذكرك بهذا النادي، وتكره ذاك اللون؛ لأنه يذكرك بالنادي الآخر، وأنت قد تحب فلاناً؛ لأنه يلعب في هذا النادي، وتكره فلاناً، وتستولي عليك مشاعر عالية من الفرح لتحقيق الانتصارات، ومشاعر أخرى من الحزن والقلق للخسائر والتراجعات، اسأل نفسك هذا Q ألا تمنح هذا الولاء وتسخر هذا الولاء لمن يستحقه؟ ألا ترى أن هذا من قصر الاهتمامات ودنو الهمة؟ من حقك أن تمارس الرياضة بضوابط مشروعة، ومن حقك أن تفعل ما تراه جائزاً شرعاً، ولكن أن يكون ولاؤك مربوطاً بهذه الأمور فهذه قضية أخرى. فاحرص يا أخي! أن يكون ولاؤك للإسلام، وأن تتفاعل مع قضايا الإسلام ومع مشكلات المسلمين المستضعفين، وأن تتفاعل مع الدعوة ومع قضايا الدعاة، ولو على الأقل أن تسمع الأخبار وتتطلع الأخبار، وقد تقول لي: لا أجد مصادر لذلك، فأقول لك: إن هذا كلام غير صحيح، فأنت مثلاً: قد تشجع النادي الفلاني فتعرف ذاك اللاعب وتاريخه وأين ولد وأين نشأ، وتعرف كل ما يتعلق بذلك؛ لأن القضية باختصار تهمك وتعنيك، ولو طرحت على بعض الشباب سؤالاً فقلت له: ما أكثر ما تحفظه: أسماء اللاعبين، أو أهل الفن، أو غيرهم ممن تمنح لهم ولاءك، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأجابك بالجواب الأول. إذاً فكيف استطعت أن تحصل على هذه المعلومات؟ وكيف استطعت أن تعتني بها؟ إنك ترى مثلاً: بعض الشباب كثيراً ما يكتب على دفاتره وكتبه الدراسية ومفكرته بعض الأسماء التي يتعلق بها، وقد تكون أسماء بعض المطربين الساقطين، أو أسماء أخرى لغرض أو لآخر، إنها تعبر عن رمز للولاء، فنحن نريد أن يتحول ولاؤك إلى ولاء آخر، أن يتحول ولاؤك للدين والإسلام حتى ولو كنت صاحب معصية وصاحب فسق وصاحب فجور، إن هذا ليس مسقطاً لهذا الواجب الشرعي عنك.

الاستفادة من مواهب وقدرات الشباب ولو كانوا عصاة

الاستفادة من مواهب وقدرات الشباب ولو كانوا عصاة الصفحة الحادية والثلاثون: مواهبك وقدراتك. إنك تملك مواهب أياً كانت هذه المواهب، فقد تكون رجلاً جريئاً مثلاً، فبدلاً من أن تكون جرأتك مثلاً: مع رجال الشرطة، أو رجال الهيئة، أو تكون جرأتك مع أساتذتك، أو مع فلان أو مع والدك فتقول ما تريد، وتقف عند كلمتك، فأنت تملك قدرة وجرأة فهذه الجرأة يا أخي! نريد أن توظف جزءاً منها للخير، فعندما تأتي الآن وتقف في وجه والدك وتناقشه وتجادله، وقد ترفع الصوت عليه؛ فأنت تملك قدراً من الجرأة: إنها جرأة غير شرعية، ولكنك أنت على الأقل رجل جريء، وقد تعارض أستاذك مثلاً وتقف في وجهه وتعاند وترفض الاستجابة، فأنت حينها رجل جريء وإن كانت جرأة غير مقبولة، ولكن ما دمت رجلاً جريئاً فنريد يا أخي! قدراً من هذه الجرأة لتوظفها لأمور الخير، فعندما تجلس مثلاً مع زملائك فيسخر أحدهم من الدين فنريد أن توظف هذه الجرأة للدفاع عن دين الله عز وجل، ونريد منك أن توظف هذه الجرأة كي تكون دافعاً لك على أن تتخذ قرارات مهمة تحتاج إليها، فتقول كلمة الحق التي قد يعجز عنها غيرك. وهكذا قد تكون ذكياً ونابغة، وقد تكون حافظاً، وقد تملك موهبة أياً كانت هذه الموهبة، فنحن نريد منك أن تسخر هذه الموهبة التي أعطاك الله تعالى أو جزءاً منها. وقلما تجد امرأً من الناس إلا وأعطاه الله موهبة: إما في الحفظ، أو في الفهم، أو في الجدل، أو في الجرأة، أو في أي أمر من الأمور، فنريد منك حتى -ولو كنت على حال غفلة وإعراض- أن توظف هذه الموهبة وهذا الجهد لخدمة دين الله عز وجل وللخير. فعندما تكون صاحب جدل ومنطق وتفحم الآخرين؛ نريد منك أن توظف جدلك في الدفاع عن الحق، وفي أمور الخير، وهكذا عندما تكون جريئاً، وعندما تكون قوي الشخصية، وعندما تكون حافظاً، وعندما تكون ذكياً، وعندما تكون متفوقاً، فالمهم فكر في نفسك وستجد أنك على الأقل متفوق في جانب وتملك موهبة من المواهب، فنريد أن تسخر هذه الموهبة لخدمة دين الله عز وجل.

المسلمون على اختلاف مراتبهم هم ضحية لمخططات الأعداء

المسلمون على اختلاف مراتبهم هم ضحية لمخططات الأعداء الصفحة الثانية والثلاثون: من الضحية؟ إنك ترى تخطيط الأعداء في إفساد مجتمعات المسلمين، وترى الضحايا أمامك، ترى هؤلاء يسعون إلى القضاء على المسلمين؛ من الضحية؟ إن الضحية هم أبناؤك وإخوانك، ألا تتصور أنك أنت ضحية؟ وأحياناً يكون ذلك بنفس الأساليب التي قد تسعى إليها أنت، فتكون أنت وسيلة لتنفيذ مخططات أعدائك، ثم أنت الآخر مستهدف، إن وقوعك في المعصية، وسعيك إليها، وإعراضك وغفلتك لا يمنحك العذر عند أعداء الله عز وجل، فإنهم يحقدون عليك ما دمت مسلماً، ألم تسمع أنت عن أخبار المسلمين؟ فإنهم يقتلون، فتجد أحدهم مقتولاً ولو كان لا يؤدي الصلاة، ولو كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، إنك أنت مستهدف، ويجب أن تعلم أنك مستهدف: في دينك، وعقيدتك، وأخلاقك، وأمنك، وحياتك ما دمت مسلماً وما دمت تنتمي إلى الإسلام، حتى ولو أعلنت أنك علماني، حتى ولو أعلنت خروجك عن الإسلام فما دام أن أصلك إسلامي فأنت مستهدف، وأنت ترى العالم الآن كله يجتمع على حرب الإسلام والمسلمين، وما أريد أن أسرد لك أمثلة وشواهد فأنت ترى وتحفظ الكثير من ذلك.

اجعل الالتزام بأوامر الله تعالى همك وهاجسك

اجعل الالتزام بأوامر الله تعالى همك وهاجسك الصفحة الثالثة والثلاثون: اجعله هماً. فأنت مقتنع أنك تريد الالتزام وتريد الاستقامة، فلا ترجع في اتخاذ هذا القرار، وقد تحاول ذلك وتفشل، لكن هذا لا يعني: أن تلغي هذا القرار، فاجعل هذا على الأقل هماً يسيطر عليك وعلى تفكيرك، فقد يتحول هذا الهم إلى عمل يوماً من الأيام، وسأضرب لك مثلاً من سيرة واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنه جبير بن مطعم رضي الله عنه، فقد قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر، قال: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فكاد قلبي يطير، قال: فوقر الإيمان في قلبي منذ ذاك الحين، ثم أسلم بعد الحديبية، وغزوة بدر كانت في السنة الثانية، والحديبية كانت في السنة السادسة، يعني: أسلم بعد أربع سنوات أو خمس سنوات, فلاحظ أن ذلك الذي سمعه بقي هماً في ذهنه خمس سنوات، وأخيراً نجح فعلاً واتخذ هذا القرار الذي كان يؤرقه لسنوات. فإذا فشلت أنت وما استطعت أنك تتوب فاجعل هذا هماً وهاجساً، وانتظر اللحظة والفرصة المناسبة، فقد يوفقك الله عز وجل بعد ذلك.

الاتعاظ بالماضي وتدارك ما فات

الاتعاظ بالماضي وتدارك ما فات الصفحة الرابعة والثلاثون وهي الأخيرة: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46]. يقول الله عز وجل لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46]، ففكر في ماضيك: قد قطعت شوطاً من العمر، وطويت صفحات كثيرة من سنين عمرك محصلاً للشهوات واللذات، فماذا بعد ذلك؟ وماذا حصلت؟ وماذا جنيت؟ قد تكون جنيت تأخر مستواك الدراسي، وقد تكون جنيت الهم والغم، وقد تكون جنيت التعاسة في الدنيا ونظرة الناس السيئة، وبعد ذلك حتى لو سلكت طريق الاستقامة والخير فأنت ترى أولئك قد سبقوك، فحصلوا علماً شرعياً لم تحصله، وعملوا عبادات كثيرة لم تعملها، فاحرص من الآن واتخذ القرار عاجلاً.

الأسئلة

الأسئلة

لا يكون فعل معصية ما مبررا للإنسان في فعل معاص أخرى

لا يكون فعل معصية ما مبرراً للإنسان في فعل معاصٍ أخرى Q هل يفهم من ذكرك للمرحلة الوسطية بين الانحراف والاستقامة: إصلاح الظاهر فقط دون الباطن مثل إعفاء اللحية وتقصير الثوب دون الأعمال الأخرى أو البقاء على هذه الحالة؟ A لا، لا يفهم هذا، لكن أقول مثلاً: إن حلق اللحية معصية، وكونك تفعل معصية أخرى كبيرة ليس هذا عذراً في أنك تقع في هذه المعصية، فأنا أقول: أعف لحيتك استجابة لأمر الله، إسبال الثوب معصية لله، فما الذي يمنع أن تقصر ثوبك ولو كنت تقع في معصية أخرى وهكذا، فعليك أن تتخلى عن المعاصي، وعدم الاستقامة وكونك إنساناً مقصراً ليس هذا مبرراً لك أن تقع في المعصية، لكن هذا لا يعني أبداً أنه دعوة إلى إهمال الباطن.

نصيحة لمن حاول الالتزام فوجده صعبا عليه

نصيحة لمن حاول الالتزام فوجده صعباً عليه Q أنا شاب أحاول الالتزام منذ زمن بعيد محاولات شبه جادة، ولكني أجد أن الأمر ليس سهلاً؛ فأني لو التزمت الالتزام المطلوب فهناك بعض الذنوب أرى من الصعب علي تركها بسهولة حتى بعد الالتزام، فماذا أفعل؟ A أولاً: نقترح أن تكون توبتك جادة حتى تنجح. ثانياًً: أقول لك: إن هذا وهم وهذا من كيد الشيطان، فأنت كنت في يوم من الأيام لا تفعل هذه الذنوب ولا شك، ثم أصبحت تفعلها من خلال العادة، فكل ما اكتسبته من خلال العادة تستطيع أن تتركه من خلال العادة، فترى أن الصبي الصغير لا يستطيع المشي، فيحاول ويحبي ثم ينهض تارة ويكبو أخرى حتى يستطيع بعد ذلك فيصبح يجري، وترى من لا يحسن السباحة فيحاول ويغرق أحياناً وينجح أحياناً ويفشل أحياناً حتى بعد ذلك يستطيع أن يجيدها، فأنا أقول أولاً: هذا وهم وحيلة شيطانية. الأمر الثاني: افترض أنه بقي ذنب أو ذنبان لم تتركها فبالله عليك أيهما خير لك: أن تبقى في الطرف الآخر على الصفر أو على الأقل تتقدم خطوة إلى الأمام؟ لا شك أن الأفضل هو الثاني، وتقدمك خطوة إلى الأمام سيعطيك دفعة وقدرة على التخلي عن الذنب. فنقول لك: التزم واسلك مع الصالحين حتى ولو بقيت بعض الذنوب التي تفعلها، فهذا خير لك ألف مرة من أن تبقى على حالك السابقة.

الصبر على نصيحة الإخوان

الصبر على نصيحة الإخوان Q أخي وما أدراك ما أخي! لقد تعبت في نصحه، وفي بعض الأحيان عندما أذكره تدمع عيني، وفي صلاة الفجر من المستحيل أن يستيقظ، وكثيراً ما أذهب لأصلي وأتركه، فماذا أفعل؟ A لا تيأس منه، وحاول تنويع الأساليب والطرق، وما دام أنه عنده جانب خير ما دام أنه يسمع الموعظة ويتأثر فهذه -إن شاء الله- خطوة نحو الخير، فحاول ولا تيأس أبداً، ولا تنس أن تدعو له.

الضابط في معرفة الاعتدال من الغلو

الضابط في معرفة الاعتدال من الغلو Q أنا شاب لا أدري أين أصنف نفسي: هل أضعها مع الشباب الملتزم؛ لأني أصاحبهم، وأحافظ على الصلاة، وألتزم بأعمال الخير، أم أضع نفسي مع من يسمون أنفسهم المعتدلين؛ لأن لدي أفكار لا تناسب أفكار الملتزمين، وقناعة أني لن أصبح منهم، ولن تتناسب صفاتي وصفاتهم وتصورهم للأمور، فما رأيك جزاك الله خيراً؟ A أولاً: ما هو صحيح الاعتدال؟ هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الخطأ أن تفترض معنى الاعتدال من ذات نفسك، فتظن أنك أنت معتدل وأن الآخرين متطرفون، وأن الآخرين غلاة في الدين، هذا أمر غير صحيح. وأنا لا أستطيع أن أصنفك؛ لأني لا أعرف حالك، وأنت أعلم بحالك، والتصنيف يا أخي لا يكون بناء على قناعاتك أنت، وإنما خذ قناعاتك هذه واعرضها على النصوص الشرعية، وعلى ضوئها تستطيع أن تصنف نفسك، لكن أنا أتصور أنك إذا كنت ترى نفسك دون زملائك الذين تصاحبهم فأنت من المفرطين، فأسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنك.

الاهتمام بدعوة غير الملتزمين وتنوع الأساليب في ذلك

الاهتمام بدعوة غير الملتزمين وتنوع الأساليب في ذلك Q جاءني شاب هذا اليوم وقال لي: إني أريد أن التزم، وأنا أفكر في ذلك منذ أيام، وطلب مني أن أقابله لأحدثه وأشجعه على ذلك، فكيف أبدأ معه؟ A كان المفروض أنك تبدأ معه قبل أن يأتيك، وأنك تأتيه أنت قبل أن يأتيك، لكن ما دام أنه قد جاء فأقول: إن الناس يختلفون سواء بالنسبة لك أنت أو بالنسبة له هو، فبعض الناس مثلاً: قد تؤثر عليه الموعظة والتذكير باليوم الآخر أكثر، وبعض الناس قد يؤثر عليه الترهيب، وبعض الناس الترغيب، وبعض الناس الإقناع العقلي، وبعض الناس في الحديث عن نتائج المعصية في الدنيا، ولما تنظر هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الناس للإسلام تجده يستعمل مع هذا أسلوباً، ومع الآخر أسلوباً، ومع الثالث أسلوباً، فأنا أقول: اجتهد أنت بأنك تشخص هذا الإنسان وتعرف ما هي النقاط التي يمكن أن تؤثر عليه من خلالها، وحاول أن تقوي علاقتك معه وتنقله إلى مواقع الخير، وتذهب به إلى زملائك الطيبين والأخيار، وتعطيه بعض الأشرطة وبعض الكتب، وتواصل معه ولا تيأس منه، ولا تنس أيضاً الدعاء له.

الاهتمام بتزويج الشباب العزاب

الاهتمام بتزويج الشباب العزاب Q أريد الزواج وأستطيع جمع المال من العمل، ولكن أهلي يستهزئون بي، ويقولون: اصبر حتى تنتهي من دراستك، فهل أسمع لكلامهم أم لا؟ A حاول أن تقنع أهلك، والشاب زواجه قد يكون ضرورة، ولعلنا قرأنا في الصحف قبل فترة عن تزويج بعض الرافضة لمائة شاب زواجاً جماعياً، وهؤلاء كانت أعمارهم سبعة عشر وثمانية عشر وستة عشر عاماً، فلماذا هؤلاء يحرصون على تكثير النسل وعلى حل مشاكلهم ونحن لا نسعى إلى ذلك؟! فأقول: إنها قضية بحاجة إلى أن نعتني بها جميعاً، فيحاول الأخ أن يقنع أهله قدر الإمكان، ونسأل الله عز وجل أن يوفقه.

نصيحة لمن يريد الاستقامة، وإزالة بعض الشبه في ذلك

نصيحة لمن يريد الاستقامة، وإزالة بعض الشبه في ذلك Q أنا شاب أبلغ من العمر ثلاث عشرة سنة وأريد أن ألتزم، لكن لا أجد الظروف المناسبة للالتزام، وأريد أن أتابع أصحاب الخير ولكن أهلي لا يثقون بي، فماذا أفعل؟ A أولاً: لا تنتظر الظروف، بل نريدك أنت أن تصنع الظروف، فلا تنتظر حتى تأتيك ظروف مناسبة. وأما قضية ثقة أهلك وعدم رضا أهلك فهذه قضية يجب ألا تؤثر عليك، فأنت الذي ستحاسب وحدك، وستأتي الله سبحانه وتعالى وحدك، وأنا أجزم أن أهلك عندما تستقيم وتسلك طريق الخير سيثقون بك أكثر.

نصيحة لمن حاول الاستقامة وضعف عن ذلك

نصيحة لمن حاول الاستقامة وضعف عن ذلك Q أنا شاب قد فعلت كبائر الذنوب، وإن لم تدركني رحمة الله فإنني هالك لا محالة، وقد حاولت الالتزام كثيراً ولكن فتن العصر وأشياء نفسية تؤثر فيّ، فعلى سبيل المثال: لا أريد أن أحلق اللحية، ولا أن أقوم بمعاكسة الفتيات، ولكن دون شعور مني أفعل ذلك، مع أني -والحمد لله- لا أسير مع رفقاء السوء، ولا أدخن، ولا أحب المعصية ولكن للأسف أفعلها، فأرجو منك أن تخبرني بالحل الصحيح، وأن تدعو لي بالصلاح. A جاهد نفسك، وهذا الشعور شعور طيب، وعندما يوجد عند إنسان هذا الشعور فهذه خطوة نحو التوبة، وأفضل حل للإنسان أنه يسير مع الصالحين، وكونك تترك الناس السيئين هذه خطوة، لكن انتقل إلى الخطوة الأخرى: أن تسير مع الصالحين؛ لأنك تشعر أنك تنتقل تلقائياً إلى مثل هذا الوضع، بل ستشعر عندما تسير مع الصالحين أن وضعك وضع شاذ فتحاول أن تصحح هذا الوضع، ثم استعن بدعاء الله عز وجل، واحرص على العبادة. وأنا أظن أن هذه حيلة نفسية عندما تقول: لا استطيع، لماذا لا تستطيع؟ وعندما تقول: أفعل ذلك بدون شعور، اسمح لي أن أقول لك: أنت عاقل ومكلف وبالغ، وعندك إرادة فلماذا لا تستطيع؟ فأنت مثلاً: تستطيع أن تعمل كثيراً من الأعمال في حياتك: فتستطيع أن تتزوج، وتستطيع أن تأكل، وتستطيع أن تذهب وتأتي، وما يمكن أن تناقش في هذه القضية، ولما تكون طالباً مثلاً تستطيع أن تذاكر وتنجح، ولما تكون موظفاً تستطيع أن تنتج في عملك؛ حتى تحصل على تقدير مناسب، وهكذا عندما تكون في أي ميدان تستطيع أن تنجح فيه إلا في هذا الميدان لماذا؟ هذه وسيلة تخادع بها نفسك، فأقول: إنك تستطيع، والله ما كلفك إلا بما تستطيع.

نصيحة في الالتزام ورد بعض الشبه في ذلك

نصيحة في الالتزام ورد بعض الشبه في ذلك Q إنني أجتهد وأرغب في الالتزام ولكن مما يفسد علي ذلك علاقتي بأصدقائي الذين أظن أني لا استطيع تركهم، وكذلك بعض العلاقات الخاصة كالعلاقات الهاتفية وغيرها، وكذلك تصوراتي بنظرة المجتمع نحوي، فكيف الخلاص؟ A لماذا أنت تفترض أنك لا تستطيع أن تتخلص من أصدقائك؟ أنت تستطيع أن تتخلص منهم، وما هو المانع من ذلك؟ تستطيع أن تقول لأصدقائك: والله يا شباب أنا اكتشفت أن لي طريقاً آخر غير طريقكم مع احترامي لكم وتقديري للعلاقة السابقة، فأود أن تنقطع العلاقة التي بيننا، ما الإشكال في هذا، أو تتركهم دون أن تقول هذا الكلام، وقد تجد صعوبة في البداية لكن هو قرار لا بد منه؛ لأنك لا بد أن تتحمل ضريبة القرار السابق الذي اتخذته لما سرت معهم، ثم أنت لا بد أن تتبرأ منهم حتماً إما في الدنيا أو في الآخرة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166]. فأنت لا بد أن تتبرأ منهم إما في الدنيا وإما في الآخرة، فاختر أحد الأمرين فإذا كانت هذه صعبة عليك فأظن أنها أصعب عليك جداً أنك تنتظر إلى يوم القيامة وتحشر معهم ثم تتبرأ منهم، فهناك لا ينفع اللوم ولا الندم. وكذلك العلاقات الهاتفية هي الأخرى تستطيع أن تتخلص منها، وذلك أن تحرص قدر إمكانك أنك ما تكون في البيت مثلاً، أو أنك لا تجيب عليها، وتجاهد نفسك، وحتى يا أخي! لو بقيت عندك بعض الشوائب، وسعيت في إصلاحها فهذا خير وأفضل بكثير من أن ترفض الالتزام جملة وتفصيلاً؛ لوجود هذه الشوائب التي تتعلق بها. وأما نظرة المجتمع نحوك فأنا أجزم أن المجتمع ستتغير نظرته نحوك، فأنت الآن المجتمع ينظر نحوك بنظرة شاذة، وقلت: إنك إذا تبت لن يعدل المجتمع نظرته نحوك، فنقول: إذا لم تتعب فالنتيجة أن المجتمع لا يزال ينظر إليك النظرة السابقة ولا تتغير تلك النظرة، فأنت الآن أمام ثلاثة خيارات: الخيار الأول: أنك تبقى على الفساد، وستبقى نظرة المجتمع لك كما هي. الخيار الثاني: أنك تتوب وتبقى نظرة المجتمع لك. الخيار الثالث: أنك تتوب وتتحسن نظرة المجتمع إليك، ولو افترضنا أن الفرض الثالث غير موجود مع أنه هو الأصل فما بقي قدامك إلا خياران: أن تستمر على الفساد ويبقى الناس ينظرون إليك نظرة سيئة، أو تستقيم وينظر الناس إليك نظرة سيئة، فبالله عليك أيهما أفضل؟ أتصور أن الرأي الثاني أفضل، وهو الذي ينفعك، وأما إذا بقيت على الفساد فلا ينفعك ذلك؟ وتبقى النظرة هي، فعلى الأقل أنت يا أخي! لما تتوب بعض الناس تتعدل نظرته إليك، وافترض أن كل الآخرين ما نظروا إليك نظرة خير فأهم شيء لك هو نجاتك يوم القيامة، مع أني أجزم أن المجتمع سيغير نظرته، وأن الناس كلهم سيغبطونك على ما أنت فيه. لعل هذا يكون آخر سؤال، أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن نلتقي وإياكم إن شاء الله على خير، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

من يحمل الأمانة

من يحمل الأمانة لقد جعل الله تعالى لقيام دينه سنة لا تتخلف ولا تتبدل، وهي حمل أتباعه كلهم له وشعورهم جميعاً بالمسئولية تجاهه، فدين الله لا يناط قيامه بفئة من الناس دون غيرها، ولا بشخص دون سواه، ولقد ضرب الله تعالى لنا في القرآن صوراً مشرقة في الشعور بواجب القيام بالبلاغ، وأخرى سيئة في التنصل من تبعة الاتباع، فإبلاغ الدين أمانة، ولهذه الأمانة صور عديدة يجب القيام بها في ميدان الدعوة الرحب الفسيح.

تكريم الله للإنسان بالعبودية له تعالى والدعوة إليه

تكريم الله للإنسان بالعبودية له تعالى والدعوة إليه الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فإن عنوان درسنا لهذه الليلة ليلة الخميس الموافق للعشرين من شهر رجب عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هو (من يحمل الأمانة؟). وأشكر في بداية هذا اللقاء الإخوة في مركز الدعوة والإرشاد بالدمام على حسن ظنهم بي، وتشريفي بهذا اللقاء والحديث لإخوتي الكرام. معشر الإخوة الكرام! لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، كرم الله عز وجل بني آدم، فخلق الله سبحانه وتعالى آدم بيده عز وجل، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وخص سبحانه وتعالى بني آدم دون سائر المخلوقات بتكريم ومنزلة ومزايا خاصة لهم دون غيرهم. لكن أعظم تكريم هو أن الله سبحانه وتعالى حملهم هذا الدين، وجعلهم سبحانه وتعالى عباداً له، فشرفهم عز وجل بالانتساب إليه سبحانه وتعالى، والتعبد له عز وجل، فصار شرف الإنسان وعزه هو حينما يذل بين يدي مولاه، فشرفه في عبوديته لله سبحانه وتعالى، وكماله هو في فقره إلى الله عز وجل، واستغنائه عمن سواه، بل هذا هو الذي خلق بنو آدم من أجله، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فأعظم تشريف وتكريم لهذا المخلوق أن جعله سبحانه وتعالى عبداً له، وجعله سبحانه وتعالى خاضعاً له. ومن تمام هذه العبودية وكمالها تشريف آخر، وتعظيم لمنزلة هذا الإنسان دون سائر خلق الله سبحانه وتعالى، وذلك أن الله عز وجل جعله حاملاً لمشعل الهداية ولدعوة الخير إلى الناس جميعاً، فهو الذي يحمل كلام الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يبلغ كلام الله عز وجل ودينه سبحانه وتعالى للناس كافة. إن الإنسان العابد لله عز وجل، والمتجه له وحده سبحانه وتعالى ذكراً كان أو أثنى، صغيراً كان أو كبيراً، قد شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل هذا الدين إلى الناس كافة، وتبليغه لهم، وحين يعرض هذا الإنسان، ويتنكب الطريق يكون بديله إنساناً آخر، فالقضية إنما تدور حول الإنسان ومعشر البشر. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. إذاً: فهذا الدين إنما يقوم به، وينصره، ويذب عن حياضه أولئك الذين تشرفوا بعبودية الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، فصار سبحانه وتعالى هو أعظم محبوب إليهم، وهو سبحانه وتعالى المعبود الحق، والمعبود الواحد لهؤلاء جميعاً، وصار البشر -مهما علت منزلتهم وشأنهم- لا يساوون شيئاً عند هذا العابد لله سبحانه وتعالى، وأنى له أن يرجوهم ويتطلع إلى ما عندهم، وترمق عينه ذات اليمين وذات الشمال، وقد اختار العبودية لله سبحانه وتعالى؟! بالله عليكم -أيها الإخوة، وأيتها الأخوات- أي تشريف ورفع لمنزلة الإنسان أسمى من أن يكون داعياً للناس إلى عبودية الله عز وجل، وتوحيد الله عز وجل، وأن يخلعوا عنهم كل توجه لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يدعو الناس بلسان حاله، وأن يدعو الناس بلسان مقاله، وأن يوظف وقته وجهده لتحقيق هذه الغاية، وأداء هذه الرسالة، وحين لا يستجيب الناس يشهر سلاحه مجاهداً في سبيل الله سبحانه وتعالى، قد هانت عليه نفسه في سبيل الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. فهل يعدل هذه المنزلة منزلة أخرى؟! وهل يعدل هذا الشرف شرف آخر؟!

دلالة الاصطفاء على علو مكانة الدعوة إلى الله

دلالة الاصطفاء على علو مكانة الدعوة إلى الله ومما يزيد الأمر وضوحاً -وهو أوضح من الشمس في رابعة النهار- ويزيد القضية برهاناً وبياناً أن الله سبحانه وتعالى اختار لهذه المهمة، ولهذه الوظيفة خيرة خلقه: أنبياءه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، فقولوا لي -بالله عليكم-: ما هي وظيفة الأنبياء؟ وما هي وظيفة الرسل؟ لماذا أرسل الله الرسل؟ لماذا أرسل الله الأنبياء؟ أليس الله سبحانه وتعالى قد أرسلهم لتحقيق هذه الغاية، فكل يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]؟ إذاً: فالذي يختار هذا الطريق، ويسير في هذا الطريق إنما يختار أن يسير على هدي الأنبياء، وأن يقتفي آثارهم، وأن يختار لنفسه المهمة التي اختارها الله عز وجل لصفوة خلقه عليهم صلوات الله وسلامه.

عموم نصوص التكليف الدعوي

عموم نصوص التكليف الدعوي معشر الإخوة الكرام! إن النصوص في كتاب الله سبحانه وتعالى تأمر الناس أن ينصروا الله عز وجل، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يدعوا إلى الخير، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. فمن المخاطب بهذه النصوص المتظافرة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ويقول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فقوله: (منكم) يعني: أياً كنتم رجالاً ونساء، وشيباً وشباناً، وعلماء ومتعلمين وعامة، يقول: (من رأى منكم) فكل من يعتقد أنه مخاطب بكلام الله عز وجل، وكل من يعتقد أنه مخاطب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو داخل تحت هذه النصوص، فهو إما أن يختار ألا يكون منا، وهو خيار صعب لا يرضاه المسلم، وإما أن يختار الخيار الآخر: أنه مخاطب بهذه النصوص وهذا التكاليف الشرعية، ومحمل بهذه الأمانة العظيمة. بل إن الله سبحانه وتعالى يصف هذه الأمة وصفاً عاماً جامعاً لهذه الأمة فيقول تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. ألستم من أمة الإسلام؟! مَنْ مِنَ المسلمين لا يرضى أن ينتسب لهذه الأمة؟! بل مَنْ مِنَ المسلمين يرضى أن يناقش انتماؤه لهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟! فما هي وظيفة هذه الأمة؟! وما هي مهمة هذه الأمة؟! إنها في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. إذاً: من الذي يحمل هذا الدين؟! ومن الذي يحمل هذه الأمانة؟! أهي طائفة خاصة من هذه الأمة؟! أهو خطاب للنخبة؟! أم هو خطاب للأمة ولكل من يعقل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، رجلاً كان أو امرأة، شاباً كان أم شيخاً، أياً كان موقعه في سلم الأمانة والمسئولية الدنيوية في هذه الدنيا، وأياً كان موقعه الاجتماعي بين الناس، وأياً كان علمه وتحصيله؟ فهو ما دام يرى أنه من هذه الأمة فهو مخاطب بهذه الصفة، فالأمة كلها إنما اكتسبت هذه الخيرية؛ لأنها تقوم بدين الله سبحانه وتعالى، ولأنها تأمر بالمعروف، والمعروف اسم جامع يشمل كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به عز وجل من اعتقاد أو عمل أو سلوك أو خلق، ولئن كان هذا المعروف يغضب فئة من الناس فهذا لا يخرجه عن كونه معروفاً، فالأمة كلها إنما اكتسبت هذه الخيرية؛ لأنها تأمر بهذا المعروف. والمنكر كلمة جامعة عامة لكل ما يخالف شرع الله عز وجل في الاعتقاد والتعبد والعمل والسلوك، فالأمة كلها مخاطبة بأن تسعى لإزالة هذا المنكر، وأن تسعى لتغيير هذا المنكر أياً كان، سخط من سخط، ورضي من رضي، ما دام أنه منكر في عرف الشرع، وخطاب الشرع، فالمناط في تحديد المعروف والمنكر إنما يؤخذ من وحي من أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الله سبحانه وتعالى.

وسطية الأمة وشهادتها على الناس لباس لا يقتصر على النخبة

وسطية الأمة وشهادتها على الناس لباس لا يقتصر على النخبة لقد أخبر الله عز وجل أن هذه الأمة أمة وسط فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، أليس هذا للأمة أجمع؟! أليست الأمة كلها موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟! إذاً: فلماذا نتأخر؟ ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل كل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة لنقول بعد ذلك: إنها تعني النخبة، وإنها تعني فئة خاصة من الناس، أما نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، دورنا أن نسير وراء القطيع، أما هذه النصوص، وأما هذه المهمة، وإبلاغ هذا الدين، وحماية مجتمعات المسلمين، والقيام بأمر الله عز وجل؛ فهي مهمة النخبة؟! لست أدري كيف وصل الحال بهذه الأمة إلى هذا الفهم؟! وكيف تلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز، وهذا التكريم والتشريف، حيث كرمها الله سبحانه وتعالى بأن تحمل الرسالة، وبأن تحمل الدين؟! وأي قيمة أشرف وأعلى من دين الله سبحانه وتعالى؟! إذاً: فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة، وأن الجميع ما داموا ضمن إطار هذه الأمة، وما داموا منا، فواجب عليهم جميعاً أن يكونوا شركاء في الأمانة.

مواقف عظيمة من الشعور بالمسئولية

مواقف عظيمة من الشعور بالمسئولية

موقف الربيين أتباع الأنبياء

موقف الربيين أتباع الأنبياء إننا حين نقف مع قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جليا، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147]. لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لابد أن يقوموا معه، ولابد أن يقاتلوا معه ويتحملوا، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].

موقف مؤمن آل فرعون وصاحب أصحاب القرية

موقف مؤمن آل فرعون وصاحب أصحاب القرية ويسمع رجل من آحاد الناس مؤامرة تحاك في الظلام لأحد أنبياء الله عز وجل، وهو موسى عليه السلام، فيسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فيشعر أن من واجبه أن يؤدي دوره، ومن واجبه أن يساهم في كشف هذه المؤامرة لموسى عليه السلام، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]. ورجل آخر يسمع بأنبياء الله عز وجل وقد واجهوا ما واجهوا، فيتحمل النصب والتعب واللأواء، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:13 - 14]. ثم جاء هذا الرجل كما يقول الله عز وجل عنه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:20 - 25]. لقد شعر هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يكذبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم لا يرى أن عليه أن يسترجع، وأن يحوقل، وأن يندب ويبكي على هذا الدين وهذه العقيدة كيف تضيع ويأفل نجمها فحسب، بل يشعر أن عليه أن يقوم بدوره، فيأتي من أقصى المدينة، ويأتي يسعى ويمشي. قال ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل، فرأيته قد جاء من أقصى المدينة، ورأيته قد جاء يسعى على قدميه، ليأتي وهو لا يقول إلا كلمة واحدة، يقول: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوا المرسلين، فالقضية هم يسيطر عليه، فكانت عاقبته أن يعتدي عليه أولئك لأنه خاطبهم بهذا الخطاب، أو لأنه -بمنطق أولئك المتجبرين المتكبرين- تدخل فيما لا يعنيه، فيقتل ويدخل الجنة، وحين قتل ودخل الجنة كان هم قومه يختلج في صدره، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]. إنه يتمنى أن يعلم قومه منزلته؛ حتى يؤمنوا ويلحقوا به بعد ذلك كله، وأنى لمثل هذه الحقائق المستقرة في قلب هذا الرجل أن يقتلعها الطغيان، وأن يقتلعها الإيذاء، وأن يقتلعها حتى القتل؟! فبعد أن أراقوا دمه لم يزل يختلج في صدره هذا الهم، ولم يزل يبكي على حال قومه، ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه؛ علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم. ونعود مرة أخرى إلى موسى، فحين جاء موسى، وواجه قومه بدعوتهم، قام رجل مؤمن، {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]. ويعيش في جدل مع قومه وهو يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أن الأمر لم يعد فيه مجال للمداراة مع هؤلاء؛ أظهر ما هو عليه فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:38 - 39].

موقف الصديق الأكبر رضي الله عنه

موقف الصديق الأكبر رضي الله عنه ولقد تمثل بنصيحة هذا المؤمن أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين كان يدفع أذى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا بلغ علي بن أبي طالب أن بعض الجهلة يفضلونه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! ثم يذكر قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع نبي الله صلى الله عليه وسلم حين جاء عقبة بن أبي معيط وخنقه بردائه، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! فكان علي رضي الله عنه ييقول: بالله ربكم: أهو خير أم مؤمن آل فرعون؟! فيسكتون، فيقول: والله! هو خير من مؤمن آل فرعون، هو يعلن إيمانه، وذاك رجل يكتم إيمانه.

أنموذج التخلي عن تحمل المسئولية

أنموذج التخلي عن تحمل المسئولية ومع موسى مرة أخرى، فقد وعد الله عز وجل قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، فيذكرهم موسى بوعد الله، ويعدهم بأن يتحقق لهم النصر بشرط أن يدخلوا الباب، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فيمتنع القوم، ويستكبرون عن الدخول، وحين لم تجد هذه المحاولات مع أولئك الجبناء، ومع أولئك الذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]. نعم، حين يتخلى الناس عن الأمانة، وحين يتخلى الناس عن القيام بهذا الدور، ماذا يصنع موسى؟ لقد شكا إلى ربه فقال: ((إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)). أما هؤلاء فقد شعروا أن القضية لا تعنيهم، وإنما تعني موسى وربه، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22].

للانتماء ضريبة يجب أداؤها

للانتماء ضريبة يجب أداؤها المسلمون جميعاً يشعرون أنهم ينتمون لهذا الدين، ويتشرفون بالانتساب إلى هذا الدين، ولو سألت أحدهم في مقام الإنكار عليه والجدل والخصومة، فقلت له: ألست بمسلم؟ لاستنكر منك هذا السؤال قائلاً: ومن يناقش في انتمائي لهذا الدين؟! لكن مَنْ مِنَ المسلمين يسأل نفسه السؤال بجد وصدق: وماذا يعني انتمائي لهذا الدين؟! وماذا يعني انتمائي لهذه الأمة؟! أليس يفرض علي الولاء لهذا الدين القيام بنصرة هذا الدين والذب عن حياضه والدعوة إليه، وإلا فما معنى أن أنتمي لهذا الدين؟! إن الناس يشعرون بأن للانتماء ضريبة، أرأيتم أصحاب الطوائف الضالة المنحرفة، أليسوا يشعرون أن عليهم بانتمائهم لهذه الطائفة أو تلك ثمناً لابد أن يدفعوه، ومن ثم يتعصبون لطائفتهم، ويدعون إلى معتقدهم، ويسعون إلى نشره بكل غال ورخيص، ويذبون عنه، ويدافعون عنه؟! أرأيتم أولئك الذين سيطرت عليهم اللغة الوطنية، فصار الواحد منهم لا يشعر بالانتماء إلا للتراب والوطن، أليس يشعر أن عليه أن يعمق ولاءه وانتماءه لوطنه، وأن يذب عنه بالحق والباطل، وأن يتعصب له؟! إذاً: ما بالنا -معشر الإخوة والأخوات- وقد شرفنا الله بأعظم انتماء -أن ننتمي لهذا الدين- ما بالنا لا ندرك ما يفرضه علينا انتماؤنا لهذا الدين؟ وماذا يعني كوننا مسلمين مؤمنين؟

عموم العقوبة بالمخالفة يوجب عموم حمل الأمانة

عموم العقوبة بالمخالفة يوجب عموم حمل الأمانة لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الناس حين يعرضون عن شرع الله عز وجل، وحين يرتكبون ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، يعمهم الله عز وجل بالعقوبة، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، وقال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف:100]. فمن سنة الله عز وجل أن يعاقب الناس، وأن يهلكهم، وأن تعمهم العقوبة حين يتنكبون شرع الله عز وجل، فهذه العقوبة من يعاقب بها؟ أهي عقوبة للنخبة؟! أهي عقوبة لفئة خاصة من الناس؟! أم هي عقوبة للمجتمع كله قد تأتي عليه وتبيد الأخضر واليابس، وتهلك الصغير والكبير؟ نعم، إنها عقوبة للجميع. إذاً: فلنعي -أيها الإخوة- جميعاً أن مجتمعات المسلمين حين تعرض عن شرع الله عز وجل، وحين يظهر فيها الخلل، ويعلوا فيها الفساد، تكون مهددة بعقاب من الله سبحانه وتعالى، ووعيد من الله عز وجل، هذا العقاب يعم الجميع، يعم الصغير والكبير، ويعم العالم ومن دونه. إذاً: إذا كانت العقوبة تعم الجميع، وإذا كانت العقوبة مهدداً بها الجميع، فالدور -إذاً- منوط بالجميع، والمسئولية والأمانة يجب أن يحملها الجميع سعياً في دفع عقوبة الله سبحانه وتعالى وغضب الله حين يعمل في الناس بالمعاصي وهم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا.

حمل الأمانة نجاة من غرق عام

حمل الأمانة نجاة من غرق عام يضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً للناس في مجتمعاتهم فيقول: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). فنحن جميعاً راكبون في هذه السفينة، ونحن جميعاً مطلوب منا أن نأخذ على أيدي أولئك الذين يريدون الفساد، ويريدون الفتنة، ويريدون الغرق، وإن الفتنة كل الفتنة هي الصد عن سبيل الله عز وجل، وإن الفتنة كل الفتنة تجهيل الناس بدينهم، وتجهيل الناس بأمر الله عز وجل. إذاً: أيسوغ لواحد منا وهو يشعر أنه يركب هذه السفينة، وهو يشعر أن الخطر يعم الجميع، أيسوغ له أن يتخلى عن حمل الأمانة؟! فالجميع ما داموا راكبين في هذه السفينة يجب عليهم أن يحملوا الأمانة.

صور ونتائج للتنصل من القيام بواجب الأمانة

صور ونتائج للتنصل من القيام بواجب الأمانة يعرض الله عز وجل علينا في كتابه الكريم صوراً من أولئك الذين تخلوا عن حمل الأمانة، ورأوا أنها موكولة إلى فئة خاصة، فعاقبهم الله سبحانه وتعالى، وهم بنو إسرائيل، وقد ذكرنا موقفهم مع موسى حين ظنوا أن القضية إنما تعني موسى وهارون، فحين سلكوا هذا السبيل عاقبهم الله سبحانه وتعالى، فتاهوا في الأرض أربعين سنة، فحين تخلوا عن الأمانة، وعن تحرير الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم -وهي أمانة لا تخص موسى وهارون عليهما السلام، إنما هي أمانة في أعناقهم جميعاً- حين تخلوا عنها عاقبهم الله سبحانه وتعالى بأن تاهوا في الأرض أربعين سنة. وكذلك أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:163 - 164] وكانت النهاية ما أخبر تعالى به في قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]. ويخبر الله سبحانه وتعالى أن بني إسرائيل قد حقت عليهم لعنة الله، فيقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79]. معشر الإخوة الكرام! تلك نماذج تساق في مساق الذم، وفي مساق القدوة السيئة التي يراد لهذه الأمة أن تتجنبها، وألا تسير على طريقها، تساق تحذيراً لهذه الأمة، فما بالنا نقول بلسان حالنا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]؟! ولماذا نفترض أن القضية تعني فلاناً وغيره، وإن لم يكونا على اسم موسى وهارون، فالمنطق هو المنطق، والسبيل هو السبيل، إنه سبيل أولئك الجبناء الذين كتب الله لهم الأرض المقدسة فاختاروا التيه والضلال، فتاهوا أربعين سنة عقوبة لهم على تخليهم عن حمل هذه الأمانة.

تفريط السابقين عظة لجيلنا

تفريط السابقين عظة لجيلنا ماذا نقول عن الأجيال السابقة؟ إننا جميعاً نتفق على ذم ذاك الجيل الذي كان على يديه إضاعة بلاد الأندلس بوابة المسلمين إلى أوروبا، ولا يزال الصغار والكبار يقرءون في التاريخ ذم أولئك الذين خانوا المسلمين وخانوا الأمة كلها، فتحولت تلك البلاد. حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان فماذا نقول نحن عن أولئك الذين ضاعت على أيديهم تلك البلاد التي وطئتها أقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقول ابن عمر رضي الله عنهما: أرتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان. لقد جاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلك البقاع التي نسمع عن مؤامرة بها تحاك ضد إخواننا المسلمين هناك. فماذا نقول عن الذين أضاعوا ذلك المجد؟! وماذا نقول عن أولئك الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في حياكة ونسج أكفان الخلافة الإسلامية حتى تفرقت الأمة الإسلامية شذر مذر، وتفرقت إلى شيع وأحزاب يلعن بعضها بعضا، ويقتل بعضها بعضا؟! ماذا نقول عن أولئك؟! وماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا أولى القبلتين وثالث الثلاثة المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها؟! إذاً: ما دمنا ننعى على من كانوا وراءنا، وما دمنا نرى أنهم يتحملون تلك المسئولية، فيا ترى! ماذا سيقول الجيل الذي يلينا عنا؟! ألا يحق له أن يتحدث عنا باللغة نفسها؟! ألا يحق له أن يصفنا بما نصف به نحن أولئك؟! وما الذي يميزنا عن غيرنا؟!

رحابة ميدان نفع الأمة

رحابة ميدان نفع الأمة إننا نرى أن ثمة مجالات عدة في حياة المسلمين يمكن أن تسهم في خدمة الأمة، ويمكن أن تسهم في نصر هذا الدين والذب عنه، فالأمة تحتاج لكل الوظائف والتخصصات والأدوار، وما من أحد يجيد فناً من فنون الدنيا، أو علماً من علومها، أو ينبغ في ميدان من ميادينها إلا ويرى أن ساحة الأمة الواسعة الفسيحة سيجد فيها مكاناً رحباً يمكن أن يؤدي من خلاله دورا، ويمكن أن يسهم من خلاله في أداء الأمانة وحملها. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا -إذاً- يخص الأمر نخبة خاصة من الناس؟! فالأمة تحتاج لكل الطاقات، وكل التخصصات، وكل المواهب، والأمراض التي حلت بهذه الأمة هي أوسع وأشمل من أن يحيط بها فئة محدودة من الناس، أو نوع معين من الناس من أصحاب القدرات الخاصة، فإذا كان ذلك كذلك فالأمانة -إذاً- يحملها الجميع. معشر الإخوة الكرام! أشعر أن عقارب الساعة يدفع بعضها بعضا، وأرى أنني مضطر إلى الوقوف عند هذه النقطة، والاكتفاء بهذه المقدمات الثمان التي توصلنا إلى النتيجة التي نريد أن نصل إليها، وهي التي توصلنا إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي طرحناه أول الحديث: (من يحمل الأمانة)؟

صور من الأمانة يجب على المسلمين حملها

صور من الأمانة يجب على المسلمين حملها

حفظ المجتمع وحمايته من الفساد

حفظ المجتمع وحمايته من الفساد ننتقل بعد ذلك للإشارة إلى صور من الأمانة التي يجدر بالأمة أن تحملها، وأن تتواصى الأمة كلها بأن تحملها، وأن تقوم بها وبأدائها، وهي صور على سبيل المثال لا الحصر، فالمقام لا يتسع لأكثر مما نورد، والمقام يدعونا إلى الإشارة، والحر تكفيه الإشارة. من الأمانات المهمة التي ينبغي أن يتحملها المجتمع كله وأن تتحملها الأمة كلها: المحافظة على المجتمع وحمايته من الفساد. أسألكم جميعاً معشر الإخوة الكرام، وأوجه سؤالي للأخوات والإخوة جميعاً: أفيكم أحد مرت به ساعة شك فيها، أو أحتاج إلى من يثبت له أن مجتمعات المسلمين مستهدفة؟! أيشك أحدنا أن هذه المجتمعات يراد لها أن تغوص في أوحال الرذيلة والفساد، وأن تتخلى عن دينها؟! كيف نشك في ذلك ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى الذي لا يبدل القول لديه -وكتاب الله عز وجل ما فيه إلا صدق وحق، ولا مجال فيه للمناقشة والمراجعة-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]. فإذا كان هناك يهود ونصارى فلن يرضوا عن هذه الأمة حتى تتبع ملتهم، فارتماء الأمة في أوحال الفساد والرذيلة، وتخليها عن دينها، واختيارها للشعارات الأرضية الباطلة، كل هذا لا يكفي ولا يرضيهم، فلا بد أن يسوقوا الأمة إلى أن تتنصر أو تتهود. وها نحن نرى صور الفساد وتيارات الهدم والفتن تتوارد على مجتمعات المسلمين، ولستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم بذكر الأمثلة والصور والتناقضات، ويكفي أحدنا دلالة على ذلك أن يخرج إلى شارع من شوارع المسلمين، وإلى سوق من أسواقهم، وإلى مجتمع من مجتمعاتهم؛ ليرى نتاج هذا الغزو، ونتاج هذا التدمير الذي يراد بهذه الأمة. فهذه المجتمعات المسلمة مستهدفة، ومجتمعاتنا يراد لها أن تتنكب الطريق، إذاً: فمن المسئول عن الحفاظ على المجتمع؟! ومن المسئول عن الدفاع عن المجتمع؟! ومن الذي ينبغي عليه أن يقف في خندق الدفاع عن هذا المجتمع، وعن عقيدته ودينه وخلقه وسلوكه؟! ومن المخاطب بذلك؟! أليس أبناء المجتمع كلهم؟! أليس المسلمون كلهم ينبغي عليهم أن يقفوا صفاً واحداً في الميدان؟! إذاً: فالأمانة الأولى -معشر الإخوة الكرام- أمانة نتحملها جميعاً، وهي أن نقف جميعاً في خندق الحماية والذب والدفاع عن حرمات هذا المجتمع، وعن دينه، وعن عقائده، وعن خلقه، وأن نقف في وجه هذه الحملة الغاشمة الظالمة التي تسعى لاقتلاع مجتمعات المسلمين، ولو أن المسلمين جميعاً أدركوا الأمانة والدور والمسئولية لما استطاع أولئك أن يصنعوا شيئاً، ولارتدت سهام أولئك في وجوههم، ولارتدت إلى نحورهم.

نشر العلم والدين

نشر العلم والدين ثانياً: نشر العلم والدين وتعليمه مسئولية الجميع: فمسئوليتنا جميعاً أن نساهم في نشر هذا العلم، ولئن كان هذا الأمر يخص أهل العلم بصفة أخص، فنحن جميعاً لا نعفى من المسئولية، فبعضنا لا يملك علماً ولكنه يملك المال الذي يستطيع من خلاله أن يطبع، ويستطيع من خلاله أن يوظف من يعمل على نشر هذا العلم. فنحن نملك الخدمات التي يمكن أن نقدمها لتسهيل مهمة أولئك الذين ينشرون العلم، ويقدمونه للناس جميعاً، ونحن بحاجة إلى أن نعلم الناس أحكام دينهم، وأن نعلم الناس معتقداتهم، وأن نعلم الناس أن يعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له عز وجل ولا رب سواه، وأن يعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن يعتقدوا أن أنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم هم أفضل الناس وخير الناس وأبر الناس، وأن يعتقدوا أن أبر الناس وأطهر الناس بعد رسل الله هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأن نعلم الناس أحكام العبادة، وأحكام الطهارة والصلاة، وأن نعلم الناس ما يحل وما يحرم عليهم في معاملاتهم، وفي بيعهم وشرائهم، وفي حديثهم ومنطقهم، وفي أخلاقهم وسلوكهم، وأن نعلم الناس دين الله عز وجل، وهو دور يمكن أن يقوم به الجميع، وأن يساهم به الجميع، من خلال نشر العلم، ومن خلال عقد حلق العلم ودروسه ومجالسه وإحلالها، ومن خلال المساهمة بالمال، والمساهمة بالرأي، والمساهمة بالتشجيع والتأييد. إنني أجزم -مشعر الإخوة الكرام- بأننا كلنا جميعاً نستطيع أن نساهم بأداء هذا الدور، نعم نستطيع أن نساهم في نشر هذا العلم، وتعليم الناس دين الله سبحانه وتعالى، في وقت يراد للأمة فيه أن تجهل دينها، ويراد للأمة فيه أن يتحول الدين إلى قضايا هامشية، وإلى قشور كما يدعي أولئك أخزاهم الله عز وجل.

بيان الحق والدين

بيان الحق والدين الأمانة الثالثة: بيان الحق والدين: إن من حق الأمة أن تسمع كلمة الحق واضحة، وإن من حق الأمة أن تعلم دينها؛ فلقد أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا العلم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وعاب الله عز وجل على أولئك الذين لم يفوا بهذا الميثاق، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. لقد عاب الله عز وجل على أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160]، فلا تقبل توبتهم إلا إذا بينوا، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران:77]. إذاً: مع هذا الوعيد الشديد -معشر الإخوة الكرام- على كتمان ما أنزل الله عز وجل، ومع هذا الذم لأولئك الذين أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا للناس دين الله ولا يكتمونه، مع ذلك كله لا يبقى لأحد من هذه الأمة عذر في أن يعلم أمراً مما أنزله الله عز وجل فيكتمه. فلماذا أنزل الله عز وجل هذا الدين؟! ولماذا أنزل الله سبحانه وتعالى هذه النصوص التي تأمر الناس بالخضوع لله عز وجل وحده دون سواه؟! أليس من حق الناس أن يعلموا ما أنزل الله إليهم؟! لماذا أنزل الله عز وجل هذه النصوص التي تأمر بالاحتكام إلى شرع الله سبحانه وتعالى، ونبذ التحاكم إلى ما سواه؟! أليس من حق الناس أن يعلموا هذا؟! أليس مما أنزل الله عز وجل على المسلمين جميعاً أن يتبرءوا من كل كافر؟! فلماذا لا يعلم الناس ما أنزل الله عز وجل إليهم؟! أليس مما أنزل الله سبحانه وتعالى على الناس ألا يأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة؟! أليس من واجب من آتاه الله علماً أن يبين للناس ما نزل إليهم؟! أليس مما أنزل الله عز وجل على الناس أن تحتشم المرأة، وأن تتحجب، وأن تبتعد عن أعين الرجال؟! أليس من واجب من آتاه الله علماً أن يبين للناس ما نزل إليهم؟! وقل مثل ذلك في كل ما أنزله الله عز وجل. إذاً: فكل ما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه، وجاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو حق يجب أن يعلمه الناس كل الناس، ولولا ذلك لما أنزله الله في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وحين نكتم عن الناس هذا الأمر نستحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. أيحق بعد ذلك لأحد من هذه الأمة صغيراً كان أو كبيراً أن يكتم أمراً مما أنزله الله؟! وأن يكتم أمراً من دين الله عز وجل؟! فتبليغ دين الله سبحانه وتعالى فرض على الأمة كلها، وإن من حق الأمة كلها أن تسمع لما أنزل الله عز وجل.

نقل الدين إلى المجتمعات الضالة

نقل الدين إلى المجتمعات الضالة ومن صور الأمانة التي تتحملها الأمة كلها: نقل هذا الدين إلى سائر المجتمعات: فكم يموت من الناس -معشر الإخوة الكرام- في العالم بأسره كل يوم على الشرك والكفر! وكم يموت كل يوم ممن لا يعلمون شيئاً عن دين الله عز وجل! وكم يموت كل يوم من أولئك الذين يعتقدون أن نبيهم هو المرزا غلام أحمد، أو الذين يعتقدون أن معبودهم هو بهاء الله، أو الذين يمرغون جباههم عند قبر الحسين وعند مراقد الأئمة! وكم يموت كل يوم من أولئك الذين يطوفون على قبور من يزعمون أنهم أولياء! وكم من الناس من يموت على النصرانية، أو على البوذية، أو على الإلحاد في العالم بأسره ممن لم يسمع كلمة الحق واضحة، وممن لم يدع إلى دين الله عز وجل! فتبليغ هؤلاء مسئولية من؟! ودعوة هؤلاء واجب من؟! أهي واجب فئة خاصة وطائفة خاصة، أم هي واجب هذه الأمة أجمع؟! وفي هذا العصر عصر الانفجار الهائل لوسائل الاتصال، ونقل المعلومات، والذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كما يقال، تخلينا -معشر المسلمين- لتبقى قنوات الفضاء، ووسائل الاتصال، والأجهزة الحديثة حكراً على دعاة الفاحشة والرذيلة، أو على دعاة التنصير أو التضليل والدعاية، أما أهل المنهج الحق الذين حملهم الله عز وجل تبليغ هذا الدين للأمة كلها فقد غفلوا عن قول قائلهم وقد وقف بفرسه على المحيط: والله! لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً لخضته إليهم؛ لأدعوهم إلى دين الله عز وجل. فمسئولية من -معشر الإخوة الكرام- وأمانة من دعوة هذا العالم بأسره إلى دين الله سبحانه وتعالى؟! أليست مسئولية المسلمين أجمعين؟! أليست أمانة في أعناق المسلمين أجمعين صغيرهم وكبيرهم؟!

عوائق في طريق القيام بأمر الله تعالى

عوائق في طريق القيام بأمر الله تعالى

اعتقاد اختصاص العلماء بالدعوة والبلاغ

اعتقاد اختصاص العلماء بالدعوة والبلاغ بعد أن تحدثنا عن الإجابة على السؤال الأول (من يحمل الأمانة؟) ثم ذكرنا صوراً من الأمانة التي يجب على المسلمين أن يساهموا في حملها، نطوف سريعاً حول بعض المفاهيم الخاطئة، والعوائق التي تعيق الناس عن القيام بأمر الله سبحانه وتعالى: فمن ذلك اتكاؤهم على أهل العلم وحدهم، فما إن تثار قضية من القضايا حتى يقول الناس: إن هذه مسئولية العلماء، فأين العلماء، وأين الدعاة؟ وإني أسألكم الآن وقد ملأتم هذا المسجد: هذا الحضور كم فيه من متخرج من كليات شرعية ودراسات شرعية؟! وكم فيه ممن يدرك مسئولية الدعوة؟! وكم فيه من أستاذ ومن موظف ومن مسئول؟! لو قام هؤلاء الذين حضروا معنا في هذا المسجد، والذين يضيق بهم هذا المكان بدورهم؛ لرأينا أن هذه الرسالة تبلغ إلى كل مدرسة، وتبلغ الأستاذ والطالب، ولرأينا هذه الرسالة تبلغ كل مؤسسة، وكل حي، وكل مكان. أقول -معشر الإخوة الكرام-: إن إحالة الدور على أهل العلم والدعاة وحدهم ليس إلا صورة من صور التخلي عن الأمانة والمسئولية، أفلا يستطيع أحدنا أن يقول كلمة صادقة يريد بها وجه الله عز وجل؟! أو ينفق مالاً يريد به نصرة دين الله سبحانه وتعالى؟! أو يقف عاضداً ومعيناً لمن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى؟! أليس فينا مثل ذاك الذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]؟! أليس فينا مثل ذاك الذي جاء من أقصى المدينة يقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]؟

الاكتفاء بنصرة الله لدينه دون العمل

الاكتفاء بنصرة الله لدينه دون العمل وهناك مقولة ثانية لا أجد لها شبهاً إلا مقولة عبد المطلب حين جاء أبرهة ليهدم البيت، حيث جاء عبد المطلب إلى أبرهة وقد أخذ أبرهة إبله، فظن أبرهة أن هذا الرجل سيناقشه في قضية البيت، وإذا به يثير قضية الإبل، يثير القضية الخاصة والهم الخاص، فاستغرب أبرهة هذا الموقف، فقال له: كنت أظن أن تحدثني عن البيت! فقال: أنا رب هذه الإبل، وللبيت رب يحميه. إن هذا المنطق هو المنطق السائد عند كثير من المسلمين الذين لا يهم أحدهم إلا مصالحه الخاصة، وقضاياه الخاصة، أما الدين فهو دين الله عز وجل ينصره الله سبحانه وتعالى، وليس عليه إلا الدعاء إن كان ثمة دعاء، أما العمل والجهد والبذل فليس إلا في مصالحه وحوائجه الخاصة.

السلامة في آلام الدعوة إلى الله

السلامة في آلام الدعوة إلى الله قد يشعر المرء بتبعة عظيمة حين يساهم في حمل الأمانة، فمن يعمل لابد أن يقع في الخطأ، ولابد أن يتعرض للخطأ؛ لأنه بشر، ولابد أن يصيبه ما يصيب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من الأذى ونحو ذلك، فالمقصود أن هذا طريق له تبعات، وحينها يقول: السلامة لا يعدلها شيء. فيؤثر السلامة من ذلك كله، ويرى أن عدم دخوله هذا الميدان يريحه من هذه الأعباء، ووالله! ما سلم، بل السلامة في الدخول في هذا الميدان، أويظن أن تنكبه هذا الطريق يعني السلامة؟! ومتى كان التخلي والنكوص عن القيام بالأمانة سلامة؟! نعم قد يسلم الإنسان من التبعة في الدنيا، وقد يسلم من أن يصمه الناس بالخطأ، وقد يسلم من أن يتحمل مضاضة ونتيجة عمل عمله يريد به وجه الله عز وجل، لكنه لن يسلم حين يسأل يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟! فيقول: يا رب! خشية الناس.

دين الله لا يناط بأشخاص

دين الله لا يناط بأشخاص إذاً: معشر الإخوة الكرام! هذا الدين دين الله سبحانه وتعالى، ونحن جميعاً ننتمي لهذه الأمة، وننتمي لهذا الدين، فالأمانة أمانتنا جميعاً، والمسئولية مسئوليتنا جميعاً، فينبغي أن نساهم فيها، وألا نعلق القضية على شخص بعينه، أو فرد محدد، فالأمة لا تتعلق بالأشخاص حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فحين ظن الناس يوم أحد أنه مات كان مصعب بن عمير يقرأ قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]. وقال أنس بن النضر رضي الله عنه: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا وموتوا على ما مات عليه. وتلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية يوم موت رسول الله وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. فلئن كانت القضية غير متعلقة بشخص محمد صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة، الذي يجب على المسلم أن يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين؛ فما بالكم بغيره؟! إذاً: فلا يسوغ أن تعلق الأمة قضيتها بفرد أو فردين، ولا يسوغ أن تعلق الأمة قضيتها بنخبة من النخب، بل هي قضية الأمة كلها، وأمانة الأمة كلها، وهل تجد الأمة أزكى من موسى وهارون؟! ومع ذلك حين تخلى قومهما عن الأمانة والمسئولية لم يستطع موسى عليه السلام إلا أن يقول: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأترك بقية الوقت للإجابة على بعض ما ورد من أسئلة الإخوة.

الأسئلة

الأسئلة

تعدد ميادين الدعوة وفق قدرات الدعاة

تعدد ميادين الدعوة وفق قدرات الدعاة Q نرجو من فضيلتكم توجيه كلمة إلى من قد أصيب بفتور وإحباط تجاه حمل هذه الأمانة بمجرد أن حدث له أمر أصاب شخصيته بين فئة من الناس، واعتقد في نفسه أنه لا يصلح لحمل هذه الأمانة؟ A الأمانة ليست قضية محددة واحدة إما أن يطيقها الإنسان أو لا يطيقها، بل هي مراتب ودرجات. إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فحين يعجز الإنسان عن القيام بدور وعمل ومهمة؛ فإن هذا لا يعني أنه أصبح امرأً فاشلاً لا يطيق غير ذلك، فأمامه ميادين أخرى وفرص أخرى يمكن أن يؤدي الأمانة والعمل من خلالها، وليس أداء الأمانة والعمل لنصرة هذا الدين حكراً على أسلوب معين، أو طريقة بعينها.

توجيه لطالب العلم في الدعوة إلى الله

توجيه لطالب العلم في الدعوة إلى الله Q هل من كلمة -حفظكم الله- لطلبة العلم الذين لا يخرجون زكاة علمهم، معللين ذلك بانشغالهم في التحصيل والطلب، وجزيتم خيرا؟ A لا يمكن أن يصل الإنسان أبداً إلى مرحلة يشعر من خلالها أنه قد أتم التحصيل والطلب، فالإنسان لا يزال يرى أنه بحاجة للمزيد، وكلما ازداد علماً رأى أنه بحاجة إلى أن يزداد أكثر، إذاً: فلن يصل الإنسان إلى تلك المرحلة التي يرضى فيها عن نفسه، والأمة تنحط، ومجتمعات المسلمين تعاني، وحين ندعو جيل الصحوة إلى أن يتفرغ كلياً، وينقطع عن القيام بهذه الأدوار المحمودة، حينها من سيتصدى للناس، فيدعوهم ويأمرهم، ويقضي حوائجهم، وينكر المنكرات، ويعين على نشر الدين والحق؟! لا شك أنك لن تجد أحداً أبداً في هذه الأمة يزعم أو يدعي أو يرى أنه قد اكتفى من العلم، مهما بلغ علمه وعلا شأنه. والمقصود أن الإنسان يمكن أن يعمل ويجمع بين هذين الأمرين، فيجمع بين التحصيل وتعلم العلم والقيام بهذا الدور، بل إن الإنسان عندما ينعزل كلياً، ويوقف وقته وجهده على مجرد التحصيل، لا يلبث أن يتبلد إحساسه بعد ذلك، ولا يلبث أن يصيبه الخمول والفتور، فتراه يحمل علماً غزيراً، لكنه لا يمكن أن يجد في نفسه الحماس للقيام به، ونشره، ودعوة الناس إليه.

بيان ما يمكن للمسلم فعله من دعوة غيره في حال كثرة شواغله

بيان ما يمكن للمسلم فعله من دعوة غيره في حال كثرة شواغله Q قد يشتغل الإنسان بعمله أو دراسته عن أن يكون نشيطاً في مجال الدعوة، وهو يشعر أنه مقصر، ولكنه لا يستطيع الجمع بين عمله أو دراسته، وبين أن يكون نشيطاً في الدعوة، فنرجو من فضيلتكم أن ترشدونا إلى حد أدنى يستطيع الإنسان أن يقوم به مع اختلاف عمله وشواغله؟ A أولاً: الإنسان يمكنه أن يدعو ويخدم هذا الدين في بيته أولاً، في تربيته لأهله، وإعدادهم، وفي مجال عمله إن كان موظفاً، أو طالباً، أو مدرساً، أياً كان فهو يمكن أن يعمل في مجال عمله وميدان عمله، ولماذا نرى الدعوة ميداناً آخر غير الميدان الذي نحن فيه؟! وبعد ذلك لابد أن تبقى له فضول أوقات، فعليه أن يستثمر جزءاً من فضل وقته مما يفضل عن عمله يقوم فيه بجهد لخدمة دين الله سبحانه وتعالى. ولو أن كل إنسان قام بالدعوة في ميدان عمله لغطينا المجتمع كله؛ لأن الناس في المجتمع إما أن يكونوا طلاباً، أو موظفين، أو عاملين في قطاعات معينة، فلو أن التاجر -مثلاً- في سوقه قام بالدعوة في ميدانه، وكذلك المدرس، والطالب، والموظف، والمرأة في مدرستها، وفي حيها، وفي أسرتها؛ لبلغت الدعوة الجميع.

الموقف المطلوب عند هلاك قادة الأمة

الموقف المطلوب عند هلاك قادة الأمة Q هناك أناس قد نافحوا عن الإسلام وتصدروا لهذه الصحوة، ثم أتت عليهم رياح فاقتلعتهم، ثم أصيب بعض المسلمين بإحباط بسبب هذا، فهل فعلهم صحيح؟ A لا شك أن هذا دليل على مرض في الأمة أشار إليه مالك بن نبي رحمه الله بقوله: إن الأمة تتعلق بالأشخاص. فالمسلمون دائماً يندبون فيقولون: قم يا صلاح الدين. ويتمنون أن يرزق الله هذه الأمة قائداً مثل صلاح الدين؛ حتى يعيد لها مجدها، ولكن لم تفكر الأمة يوماً من الأيام أنه يمكن أن يكون بين يديها صلاح الدين، فإذا كان هناك ناس اقتلعتهم الرياح، فماتوا، أو مضوا، أو أصابهم ما أصابهم، فهل الأمة عاجزة عن أن تخرج من يقوم بهذا الدور؟! ما عقمت نساء المسلمين، وما توقف الأمر، ولكن مشكلة الأمة أن تعلق قضيتها بشخص أو بشخصين أو بأشخاص، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). لكن حين نقوم، وننشر العلم، ونتعلمه، وندعو إليه، ونسعى إلى تحصيله؛ فإننا لا نلبث حتى نسد هذا الفراغ الذي تركه أولئك. ألم يكن في الأمة مثل الإمام أحمد ويزيد بن هارون وغيرهم ممن كان لهم دور فماتوا، فأوجدت الأمة بعدهم من قام بالأمانة؟! ألم يكن فيها مثل شيخ الإسلام والعز بن عبد السلام ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم؟! وما تلبث الأمة حتى تخرج لنا في كل عصر ووقت ومصر أفذاذاً من هؤلاء، فلئن مضى أولئك، وتوسدوا الثرى، وطوتهم الأحداث والسنون، فإن الأيام كفيلة بأن يأتي غيرهم، وحين نعلق القضية بأشخاص فأننا لا يمكن أن نصنع شيئاً.

توجيه للمرأة في القيام بدورها

توجيه للمرأة في القيام بدورها Q نريد كلمة للنساء تحثهن فيها على الاهتمام بالأمانة، ولزوم الطاعة؟ A لا شك أن المرأة تقوم بدور مهم، والمرأة تقف على بوابة خطيرة من بوابات الأمة، وعلى ثغر من ثغور الأمة، فهي أم الأسرة، وهي مربية الأجيال، إن كل فتاة تخرج إلى هذا المجتمع لها أم، وإن كل شاب يخرج إلى هذا المجتمع له أم، فحين تقوم هذه الأم بدورها، وتشعر بمسئوليتها أولاً في بيتها في إعداد هذا الجيل وهذا النشء، وفي إصلاح أبنائها وبناتها وتربيتهم، وفي إصلاح زوجها ودعوته، وإعانته على طريق الخير والحق، ثم في دعوة بني جنسها، ونشر الدين والخير بينهن، فإنها تقوم بدور مهم لا يمكن أن تستغني عنه الأمة.

دور الكتاب الموجه لحمل الأمانة

دور الكتاب الموجه لحمل الأمانة Q هناك بعض الكتب الخاصة بإلقاء بعض الدروس في مناسبات خاصة، مثل دروس شهر رمضان، وكتب أخرى في الخطب، فهلا وضعت وصنفت لنا كتاباً ليقرأ في اجتماعات الأحياء المنتشرة، ولله وحده الحمد والثناء، ففي هذه المنطقة وغيرها يهتم الناس بالأمور التربوية، بارك الله فيكم وفي علمكم وجهودكم؟ A هناك كتب كثيرة موجودة من كتب السلف، والكتب المعاصرة، كتب كثيرة تخدم، ويمكن أن تفيد الناس، وما أظن -والله- أن القضية توقفت عند وجود كتاب مناسب يقرأ فيه، لكن لو تصدى أحد لهذا الأمر؛ فذلك أمر حسن، والحمد لله فالناس فيهم خير كثير، ويمكن أن نجد من يقوم بهذا العمل، ولماذا تكون هذه القضية وقفاً على فلان أو غيره من الناس؟! فهذا الأمر حسن، ولكن ينبغي ألا ننتظر مثل هذه الأمور، فالكتب كثيرة -سواء من كتب السلف والكتب المعاصرة- مما لو قرئ على الناس؛ لأفادهم كثيراً في أي باب من الأبواب التي تريد أن تخاطب الناس بها.

نجاة المصلحين

نجاة المصلحين Q هل العقوبة تكون عامة حتى للمصلحين، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، وقال تعالى: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [هود:58]؟ A لا، المصلحون ينجيهم الله سبحانه وتعالى، كما في الآية التي استشهد بها السائل، لكن الذين كانوا صالحين في أنفسهم، ولم ينكروا، ولم يقوموا بدورهم معرضون للهلاك مع أولئك.

بيان ما ينبغي للطالب الجامعي فعله للقيام بدوره

بيان ما ينبغي للطالب الجامعي فعله للقيام بدوره Q أنا طالب جامعي، فما هو الدور الملقى علي في حمل هذه الأمانة، وما هي حدود هذا الدور؟ A أولاً: أن تحرص وتجتهد في دراستك، وتحتسب النية لله عز وجل، فإن كنت في تخصص شرعي ودراسة شرعية فأنت تتعلم علماً شرعياً تحتاج الأمة إليه، وإن كنت على غير ذلك؛ فالأمة -أيضاً- لا تستغني عن طاقتك، فالمطلوب أن يحرص الأخ على أن يتقن تخصصه، ويبدع فيه؛ حتى ينفع الأمة من خلاله، ثم بعدما يتخرج من هذه المرحلة وهذه الدراسة يمكن أن يقدم خيراً، وينفع هذه الأمة أياً كان دوره، وأياً كان تخصصه. ثم يأتي دوره مع زملائه داخل الجامعة، ودوره مع الناس جميعاً، فيمكن أن يقول كلمة طيبة، أو يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، أو يسعى إلى نشر علم أو بيان حق في حيه، وفي منزله، وفي أسوار الجامعة بين زملائه، ولكن أؤكد على القضية الأولى: أن يحرص على إعداد نفسه، واغتنام هذه الفرصة وهذه الدراسة، بأن يبدع في تخصصه ودراسته أياً كانت؛ حتى ينفع الله عز وجل به الأمة.

دواء مرض الخوف من آثار حمل الأمانة

دواء مرض الخوف من آثار حمل الأمانة Q إن هاجس الخوف الذي يدب في كثير من النفوس يقف حاجزاً أمام تطبيق هذه التوجيهات القرآنية والنبوية، فكيف الخلاص من هذا الهاجس؟ A الخلاص من هذا الهاجس يكون باستحضار قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44].

حاجة الأمة إلى تصحيح المسار في كل شئونها

حاجة الأمة إلى تصحيح المسار في كل شئونها Q أترون أن هذه الصحوة تحتاج إلى أن تتربى عقدياً قبل أن تنطلق في سبيل الدعوة، وما هو تعليقكم حول هذا؟ A أمراض الأمة كثيرة في كل الجوانب، ولا نهمش الأمة في قضية واحدة، فالأمة بحاجة إلى عناية بالعقيدة، وبحاجة إلى العناية بالخلق والسلوك، وبحاجة إلى تصحيح العبادة، وبحاجة إلى تصحيح كل هذه الأمور. أسأل الله سبحانه وتعالى في هذا المقام الكريم المبارك أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعل مجلسنا هذا الكريم المبارك من المجالس التي يباهي بها ملائكته سبحانه وتعالى، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأسأله سبحانه وتعالى في هذا المقام الكريم المبارك وهذا الجمع المبارك أن يكتب النصر والعز والتمكين لأمة المسلمين. اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك وقد اجتمعنا في انتظار فريضة من فرائضك، وقد اجتمعنا على مجلس نتذاكر فيه وعدك ووعيدك وأمرك ونهيك، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكشف هذه الغمة عن المسلمين. اللهم لا تدع من المسلمين جائعاً إلا أطعمته، ولا خائفاً إلا أمنته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا أسيراً إلا أطلقته وفككت وثاقه يا أرحم الراحمين، ولا عدواً ومنافقاً إلا أهلكته وفضحته وهتكت ستره يا رب العالمين. اللهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وعزك الذي لا يرام، اللهم ارحم الأمهات الباكيات، اللهم ارحم الأسر الثكالى، أولئك الذين أصيبوا بأبنائهم وفلذات أكبادهم، ما بين قتيل وأسير ومصاب، اللهم اكتب النصر والعز والتمكين لهذه الأمة، وارفع عنها الظلمة والغشاوة، اللهم عليك بأعدائك الذين يصدون عن سبيلك، ويعادون أولياءك، اللهم عليك بهم، اللهم افضح سترهم واخزهم أمام الناس يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

آفات الأخوة

آفات الأخوة الأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء والحب والبغض، وهذا المبدأ قد حيي بإذن الله مع وجود جيل الصحوة بعد أن كادت تطغى الروابط القبلية والحزبية وغيرها من روابط الجاهلية، لكن هذه الأخوة لها آفات كثيرة تجعلها قاصرة لا تؤتي ثمارها، بل قد تعود عليها بالإبطال، ولذا يجب التنبه لها والحذر منها.

طلب الكمال والمثالية

طلب الكمال والمثالية الآفة الثانية: طلب الكمال والمثالية: إن البعض حين يسمع عن حقوق الأخوة في الله، وعن ثمراتها في الدنيا، ويسمع عن أخلاق المتحابين في الله، يوهم نفسه أنه سيعيش في جنة من الحب والود والرخاء، سيعيش مع رفقة لا يمكن بحال أن يسمع من أحدهم كلمة جارحة، أو يرى من أحدهم زلة أو يدرك منه هفوة، فهو يطمح إلى أن يكونوا إخواناً على سرر متقابلين، ويفاجأ فيما بعد بخلاف ما كان يحلم به، فيحتمل الأولى، ويصبر على الثانية، ويقبل الثالثة على مضض، وتأتي الرابعة بعد ذلك، فتقول له: إن أولئك ليسوا جادين، إن أولئك لا يعرفون حق الأخوة، ولا معاني الأخوة، إن هذه الأخوة طلاء خارجي، إنها تزويق ومخادعة أكثر من أن تكون محبة صادقة، ولو كان واقعياً مع نفسه لرأى أن السبب في ذلك أنه كان يتطلع إلا ما لا يمكن أن يحصل في دار الدنيا، ولو كان واقعياً لقال لنفسه: إن البشر يبقون بشراً مهما بلغوا من التقوى والصلاح والإيمان، ومحبة الخير للناس، فلا يمكن أن يبلغ أحد منهم درجة العصمة والسلامة من الخطأ. فهذه الأخوة وإن كانت أخوة في الله، ومحبة من أجله، فهي بنيان بشري، وهي عمل بشري، وهي جهد بشري لا بد أن يصيبها جهد البشر، ولا بد أن يرى من إخوانه الأسخياء الورعين الصالحين الهفوة والزلة والخطأ في أنهم بشر. ثانياً: يقول الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، لو فكرنا -معشر الإخوة الكرام- في هذه الآية لرأينا أنها تدعونا إلى أن نكون واقعيين في تلك البحبوحة التي نتصورها من هذه الأخوة، فإن الله عز وجل حكى أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من غل، وهذا يعني أنه كان في النفوس ما فيها، وكان بينهم ما كان، والجنة دار طيبة لا يدخلها إلا ما كان طيباً محضاً، فيحبسون حينئذٍ فينزع الغل منهم، حتى يتأهلوا لأن يدخلوا هذه الدار الطيبة المحضة، ثم هذا نعيم يمتن الله به على أهل الجنة، أفترون أن أحداً في دار الدنيا يمكن أن يدرك نعيم الجنة قبل أن يموت؟! إذاً: فنحن نكون مثاليين حين نطلب من إخواننا أن لا يصدر منهم زلة ولا هفوة، حين نتطلع إلى هذه الصورة المشرقة المبالغة في الخيال فنطلب نعيم الجنة، ولن يدخل أحد الجنة في دار الدنيا. ثالثاً: نقرأ في سيرة خير القرون الرعيل الأول، فرط هذه الأمة، أولئك الذين امتن الله عليهم فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، أولئك الذين امتن الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بأن ألف بين قلوبهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لو أنفق ما في الأرض جميعاً ما ألف بينهم، فمع تلك الصورة المشرقة التي رسمها هذا الرعيل في وسط تلك الجاهلية الظلماء إلا أننا نقرأ فيها بعض ما قد كان يعكر هذه الصورة ويخدش في هذه الأخوة. رأى أحدهم أبا ذر رضي الله عنه ومعه غلام وعليه حلة، وعلى غلامه حلة مثلها، فسأله كيف يلبس رقيقه كما يلبس، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: (عيرته بأمه؛ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس). إن أبا ذر رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن السابقين إلى الإسلام، ومع ذلك تأتيه حالة من حالات الضعف البشري فيعير رجلاً بأمه، يعيره بمقاييس الجاهلية، لكنه رضي الله عنه ما يلبث أن يستفيق ويستيقظ مع هذا التوجيه النبوي فيتجاوز تلك الهفوة ليعطينا صورة مشرقة يعجز عنها الكثير من المسلمين الآن يلبس خادمه كما يلبس، ويطعمه كما يطعم، ويعتبره أخاً له! وفوق هذه الصورة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب كثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم: أمر فلاناً؛ فيقول صاحبه: أمر فلاناً، فيرد عليه: ما أردت إلا خلافي، فيقول: ما أردت خلافك، فترتفع أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]، ومع ذلك تبقى حدثاً عارضاً ثم تزول، لكن أولئك كانوا يدركون تماماً أن هذه الأخوة مع عمق بنيانها وقوة أركانها تبقى أخوة بشرية قد يأتيها ما يعكرها، قد يأتيها ما يهزها لكنها كالعاصفة التي تهب ثم تزول، ولا تزيدهم إلا ثباتاً ورسوخاً، فالذي يحصل أن المرء يتطلع إلى صورة مثالية، فيعتبر هذه العواصف والخوادش شهادة إدانة على عدم صدق الأخوة والمحبة، ولئن كانت شهادة إدانة أفيحق أن تدين بها الرعيل الأول، فإن كان يحدث ما يحدث بين ذلك الجيل فلأن يحدث مع غيرهم

الأثرة وحب النفس

الأثرة وحب النفس الآفة الثالثة من آفات الأخوة: الأثرة وحب النفس. إن من نتاج الأخوة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، بل لا يتم إيمانه إلا حين يرقى إلى هذه المنزلة، ويصل إلى هذه الدرجة، حين يحب لأخيه ما يحب لنفسه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس)، أما حين يرقى درجة أعلى من ذلك فهو يكون ممن أثنى الله عليهم في كتابه في آيات تتلى إلى يوم القيامة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فحين نطمع في الوصول إلى منزلة الأخوة، وإلى أن نجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فلنعلم أن غلاء الثمرة وصفاءها يفرض علينا أن ندفع ثمناً باهضاً، أوله أن نتخلى عن محبة ذواتنا وعن رغبات أنفسنا، أما حين يكون المرء لا يحب الخير إلا لنفسه، أما حين يفوز منطق الأثرة والأنانية، وتعلو وترتفع لغة (أنا) فهو أول وخز في بنيان هذه الأخوة، وأول دليل على أننا لسنا مؤهلين لأن نجني هذه الثمرة اليانعة، وأن نصل إلى هذه المنزلة العالية.

رابطة الجاهلية

رابطة الجاهلية الآفة الرابعة: رابطة الجاهلية. إن الأخوة في الله تعني أن تكون أخوة في الله، من أجل الله حقاً، تعني أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله). قد يحب المرء أخاه لله، لكن مع ذلك قد يكون من وطنه، أو قد تكون ثمة رابطة حزبية أو قبلية أو عنصرية أو جاهلية، قد تأتى هذه الرابطة فتزيد الأخوة أخوة والمحبة محبة، فتبقى حينئذ رابطة الجاهلية، وحين تزداد محبتك لفلان وتنقص لفلان، والدافع لذلك انتماء وطني أو فكري أو حزبي أو قبلي فاعلم أن محبتك مدخولة، وأن أخوتك مخدوشة. فالأخوة في الله -معشر الإخوة الكرام- تعني أن نتجاوز كل هذه الحواجز تعني أن نتجاوز كل هذه النظرات، فالذي يحب في الله ويؤاخي في الله، لا فرق عنده بين من كان من هذه البلاد ومن كان من تلك البلاد، لا فرق ولا ميزان ولا معيار على أساس الانتماء، ولا أساس الأصل ولا غيرها من تلك الموازين الهشة، قد يستطيع المرء أن يجمع خليطاً متناثراً من هذه الموازين، فتقوم صلته على أساس إقليمي وحزبي وفكري وقبلي، أما الأخوة في الله، فهي بنيان متفرد لا يقبل غيره، وحين يدخل عامل آخر فالنقيضان لا يجتمعان، فهي لا تعيش إلا وحدها، ولا تنمو إلا بعيدة عن سواها من الروابط، فحين نريد الأخوة حقاً في الله فلنخلصها من كل رابطة من روابط الجاهلية! وعجباً لهذه الأمة التي أكرمها الله بعد أن كان يقتل بعضها بعضاً، ويسبي بعضها بعضاً، وبعد أن كان منطق الجاهلية هو المنطق السائد، وقانونها هو المحكم، وأعرافها هي تلك الأسوار التي لا يقبل أحد أن يتسورها، عجباً لهذه الأمة بعد أن انتشلت من هذا الحضيض أن يخرج فيها من يريد أن يعيدها جذعة مرة أخرى، فبعد أن ارتقت هذا المرتقى، وصعدت إلى هذه المنزلة تعود مرة أخرى لتشد إلى خيوط الجاهلية وجواذبها. ولهذا حين كسع غلام لرجل من المهاجرين غلاماً آخر من الأنصار فتنادوا: يا للمهاجرين! ويا للأنصار! غضب صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)! متى عرف أولئك مصطلح المهاجرين ومتى عرفوا مصطلح الأنصار؟ إنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا بعد أن جاء الإسلام، لم يعرف أولئك إلا قريشاً وبني مخزوم والأوس والخزرج وغطفان، هي تلك المصطلحات التي كانت سائدة عند أولئك، أما مصطلح المهاجرين فلم يعرف إلا حين فر أولئك بدينهم، والأنصار لم يعرف إلا حين تبوأ أولئك الدار والإيمان فآثروا إخوانهم، فإنه إذاً مع أنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا تحت دائرة الإسلام، يرفض صلى الله عليه وسلم أن يتعصب أولئك لهذا الاسم، وأن يتحزبوا هذا التحزب. مع أن هذا الاسم اسم شرعي بحت لم يعرفوه إلا بعد أن دخلوا هذا الدين، فكيف بعد ذلك بالأسماء التي خير حالها أن تكون عليه مصطلحات تواضع الناس عليها، أفيسوغ بعد ذلك أن تكون مقاييس يتنادى عليها، ويوالى ويعادى من أجلها، إنها بحق دعوى الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية وتعزى بعزاء الجاهلية فهو جدير بأن يعير بتعيير الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا).

دخول الأغراض الدنيوية

دخول الأغراض الدنيوية الآفة الخامسة: أن تدخل أغراض دنيوية غير شرعية: كما أن الروابط الجاهلية قد تخدش بنيان هذه الأخوة، فقد تأتي أيضاً الروابط الدنيوية، قد يأتي جانب المال والمنفعة، وقد يأتي أيضاً جانب آخر، الذي هو إفراز لهذا الانحراف والشذوذ الذي أصبحت تعاني منه وللأسف تجمعات شباب هذه الأمة، فقد يحب الشاب أخاه لله، لكن تدخل مع ذلك شهوة محرمة، فقد يكون هذا الشاب مع طاعته وصلاحه وضيئاً، فيتسلل الشيطان إلى قلب صاحبه، فتدخل الشهوة المحرمة. ولئن كانت رابطة الأخوة في الله والمحبة من أجله رابطة لا تعيش إلا وحدها، ولا تقوم إلا متفردة فهي ترفض أي شريك، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، فهي إن كانت ترفض الروابط الجاهلية وترفض رابط المال والمصلحة فهي أشد رفضاً ومقتاً لهذا الرابط، وحين يدخل مع داعي المحبة والأخوة داعي الشهوة المحرمة، فهي بداية للانحراف والخلل.

الإفراط في المتابعة

الإفراط في المتابعة سادساً: من آفات الأخوة الإفراط في المعاتبة، قد يعتاد الناس أموراً يرون أنها من مكملات الأخوة ومن حقوقها، فمثلاً: قد يشعر البعض منكم أنه حين يأتي عليه ضيف في هذه البلاد فإن من حقه عليه أن لا ينصرف قبل أن يتناول طعام العشاء، رغبة في إكرامه وأداء الحق له، وقد يكون في هذا إثقالاً على صاحبه وإحراجاً له، والأخ لا يريد أن يبالغ في الاعتذار، فيستجيب محرجاً ويشعر أن أخاه قد أحرجه وضايقه. وأحياناً يسود منطق العتاب على التقصير والمقاطعة، فحين يلقى صاحبه يعاتبه فهو منذ شهر لم يره، فلماذا القطيعة، أين الاتصال؟ لم نرك من سنة أو سنوات، وكما تعرفون مع تغير الحياة وتعقدها قد يكون الإخوان في مدينة واحدة فيمر على الأخ سنوات لا يرى أخاه فيها، وحين يلتقون يبادر بالمعاتبة، فيبادر الآخر بالاعتذار ولو كان سريع البديهة حصيفاً لكال له الصاع صاعين، وكما يقول أهل الصحافة: لقذف الكرة في مرماه، فقال: لئن كنت لا أزورك فلم لا تزورني أنت، لئن كنت قاطعاً فلم تكون قاطعاً أنت، ولو عاد الجميع إلى واقعيتهم ورشدهم لرأوا أن عدم زيارة هذا الأخ لأخيه وعدم لقائه به، ليس دليلاً بالضرورة على عدم محبته، وعلى عدم أخوته. وهذا المعنى الذي يشير إليه الإمام أحمد رحمه الله حين قال له أحد أصحابه: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لكنت آتيك كل يوم، فقال الإمام أحمد رحمه الله: لا تقل ذلك، إن لي إخوة لا أراهم في العام إلا مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن ألقاهم كل يوم. فعدم كثرة اللقاء لا تعني بالضرورة ولا تستلزم عدم المحبة والمودة! أقول: أحياناً نفرط في العتاب واللوم على إخواننا ونتصور أن هذا مما يزيد بنيان الأخوة، فلا شك أنه حين يبالغ فيه الأخ قد يهدمها وقد يشعر الأخ أنه محرج، فقد يضطر أحياناً للكذب، قد يضطر لعدم مقابلة أخيه، قد يضطر لأمور لأنه يشعر أنه سيفرط في عتابه ولومه.

تصيد الأخطاء

تصيد الأخطاء سابعاً: من آفات الأخوة تصيد الأخطاء، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)، والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه أحمد وأبو داود عن أبي برزة، ورواه أهل السنن عن البراء رضي الله عنه، فهو حديث مشهور في كتب السنة. إن من يبحث عن العورات والأخطاء ويتصيدها يجازيه الله، والجزاء من جنس العمل. وشتان بين من يتتبع عورته ويتصيد كلماته وعباراته بشر من البشر، وبين من يتتبع الله عز وجل عورته، فإن الله عليم بالنوايا وما تخفي الصدور، والبشر قد يتزين لهم في لحن القول، وقد يقال لهم قول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب كما يقال، أما الله عز وجل فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالبحث عن الزلات والأخطاء من صفات أهل النفاق عافانا الله وإياكم. يقول ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات. فالمؤمن حين يرى هفوة على أخيه أو خطأً يبحث له عن العذر، أما المنافق فهو يبحث عن الزلة ويبحث عن الهفوة.

سوء الظن

سوء الظن الآفة الثامنة: سوء الظن: في سورة الحجرات يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، ثم يعقبها الله عز وجل بوصايا تعين على إتمام بنيان الأخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]. وسوء الظن هو تلك الأرض التي تنبت التصيد والبحث عن الأخطاء، سوء الظن هي تلك الشرارة التي توقد هذه العداوات والإحن، والتي تبدأ من شعور في الداخل، ومن ظن سيء، فحينئذٍ يظل الأخ يبحث عن برهان يؤيد ما يختلج في صدره من ظن سيء، فيحول الشك إلى يقين والوهم إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ويبني من هذه الأوهام بنياناً شامخاً على رأس دبوس كما يقال. ولو كان المرء واقعياً لرأى أن الناس تمر بهم ظروف ومواقف وأحوال يراها الإنسان من نفسه، فمثلاً قد يقابل الأخ أحد أخوانه فلا يبش له، ولا يرحب به ذاك الترحيب الذي اعتاده، فيبدأ يفسر ويتساءل عن السبب، ويحمل في نفسه علي شيء، كره مقابلتي إلى آخره، ويبدأ يقرأ في وجهه أوهاماً لو عاد إلى الحقيقة لعرف أن هذا الشخص كان مريضاً، هذا الشخص كان يعاني من مشكلة، هذا الشخص على الأقل كان يفكر، كان شارد التفكير. أحياناً يتصل على أخيه في الهاتف، ويشعر بعدم الترحيب، ويشعر أن صاحبه يرغب أن ينهي المكالمة في أسرع وقت، وهو لا يعرف ظروفه، أنت اتكأت على أريكتك وأردت أن تنتظر الترحيب ولا تدري أن صاحبك قد يكون على طعام الغداء، قد يكون ينتظره صاحبه عند الباب، قد يكون يقرأ، قد يكون منشغلاً، فهو يريد أن ينهي المكالمة على أحر من الجمر، وقد يكون استيقظ من نومه وينتظر أن تنهي المكالمة حتى يدعو بدعاء الاستيقاظ، فمشاعر الناس لا تعرف ما وراءها. وبعض الناس طبيعته أنه لا يرحب، وبعض الناس قليل الابتسامة، هكذا طبعه، وهو يكن المحبة والتقدير، وتراه يعني أغلى فرصة هي تلك الفرصة التي تقابله فيها. فلو كان الإنسان واقعياً لاستطاع أن يجد ألف تفسير وتفسير لمثل هذه الظواهر، لكن حينما يكون حساساً يبدأ يقرأ ما وراء السطور، ويقرأ أوهاماً ليس لها حقيقة، ويقصد كذا ويريد كذا، ثم يعاقبه الله فيبدأ يعيش في جحيم، فعندما يخرج للشارع ويقابل فلاناً ويسلم عليه، يرى ردود الفعل والقضية كلها أوهام. وافترض يا أخي الكريم أنك أحسنت الظن بعشرة من الناس، واكتشفت منهم تسعة ليسوا أهلاً لحسن الظن، فقال واحد كلمة في مجلس يقصد الإساءة إليك، وأنت حملتها على المحمل الخير، فالنتيجة أنك استرحت منه واستراح خاطرك، وبدأ هذا الشخص يغتاظ، وأنت خرجت سليماً معافى، وماذا عليك مثلاً لو قال رجل كلمة يقصدك بها، أو أخفى ابتسامة وبخل بها عنك ماذا تخسر، لكن حين تحسن الظن ولو أخطأت أحياناً فمنحت حسن الظن لغير من لا يستحق، ستجني راحة البال والطمأنينة. ويضرب لنا الإمام الشافعي مثلاً في ذلك، جاءه الربيع بن سليمان وهو مريض، فقال له يدعو له: قوى الله ضعفك، قال الإمام الشافعي: لو قوى الله ضعفي لقتلني، يعني لو قوى الله المرض لقتلني، قال: فاعتذر الربيع بن سليمان، وقال: والله ما أردت إلا الخير، فقال الشافعي: إني والله أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير، لكن الإمام الشافعي أراد أن يداعبه، وأن يصحح له هذا الخطأ، فيقول له: لو شتمتني أعلم أنك لا تريد إلا الخير. ومتى يسود بيننا هذا المنطق، للأسف أننا نحسن الظن بالأعداء، نحسن الظن بأهل النفاق، الذين يتربصون بالدعوة الدوائر، يجتهد الإنسان فيفتش لهم عن ألف عذر، ربما إذا أعوزته المعاذير قال: لعل لهم عذراً وأنت لا تعلم، أما أخوه الذي معه على الطريق، فإنه يتهمه ويقول: هذا يخادع، أنت لا تعرف عواقب الأمور، ولا تعرف ما يريد! يا أخي! هذا على الأقل معك على خط واحد. ذاك صاحب فجور وفسق لا يحضر الصلاة في جماعة المسلمين وهو يجاهر بالمعصية، فيقول: لا يا أخي الكريم، إنه يريد الخير، يريد المصلحة، أحسن الظن بالناس، اتق الله، هل فتشت عن قلبه، لكن تجاه الأخ الناصح يقول: هذا فيه مشكلة، وإذا لم يكتشف الخطأ يقول: هناك خطأ لكن نتيجة دهائه وخبثه ومكره استطاع أن ينطلي عليك. فهذا أحياناً منطق نسمعه بين الإخوان وبين الدعاة، نعم قد يكون أخطأ، لكن متى يأتي الحال الذي يعامل الإخوة بعضهم بعضاً بذاك المنطق الذي يعاملون به أعداءهم، وتلك المجاملات التي يعاملون بها أ

كثرة المخالطة

كثرة المخالطة الآفة التاسعة: كثرة المخالطة: لا شك أن من الأخوة في الله أن يجلس الأخ مع إخوانه وقتاً ربما كان أكثره معموراً بذكر الله، وطاعة الله والمحبة فيه، لكن إذا طال الأمر فإنه يتحول إلى داء، ويلفت الإمام ابن القيم رحمه الله إلى ذلك فيقول: الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت. يعني: أناس يرتاح بعضهم لبعض، يريدون أن يقضوا الوقت فقط، كحال أكثر مجالس الناس. قال: فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه، أنه يفسد القلب ويضيع الوقت. الثاني: الاجتماع بهم على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات، يعني ينبغي أن نحذر من هذه الآفات الثلاث: إحداها: تزين بعضهم لبعض. يعني: وجود نوع من المجاملة والمراءاة أحياناً. الثاني: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود. هو في البداية أخ له في الله ويحبه في الله، ويتعاون معه على الخير، ثم إنهم لا يفترقون، يسهرون مع بعض ويذهبون مع بعض، ويأتون، والقضية تحولت إلى مؤانسة على الطبع، ولو فتشنا كم هي المجالس التي يقضيها الإخوة الصالحون، والناس الأخيار المتحابون في الله، وهي من هذا الصنف وهذا النوع التي تتحول إلى مؤانسة الطبع واللقاء فيه، فهذا من آفات الأخوة، يبدأ يجامل صاحبه، وتبدأ هذه الأخوة تفتقد ثمراتها الحقة.

الإفراط في المحبة والتجاوز فيها

الإفراط في المحبة والتجاوز فيها عاشراً: الإفراط في المحبة والتجاوز فيها: قد يفرط المرء في محبة بعض إخوانه، قد يكون للأخ ثلة من إخوانه يلتقي بهم، ويراهم ويحبهم في الله، لكنه يحب فلاناً من الناس محبة زائدة، هو طبيعي أن يشعر أخ بارتياح لفلان أكثر من غيره، لكن داخل إطار معين، إذا تجاوزه يتحول إلى غلو، فينشأ عن ذلك نتائج سلبية، منها أنه ينقص في نظر الآخرين. هؤلاء عشرة كلهم إخوة في الله ويحبهم في الله، وربما فيهم من هو أتقى من صاحبه، لكن هذا صاحبه الذي لا يبيع ولا يشتري من أجله كما يقول العامة، هو الذي إذا فقده فقد الناس، فيبخس حقوق الآخرين من أجل حق فلان من الناس، وعنده استعداد ألا يأتي إذا فقد فلاناً، ويأتي إذا أتى فلان، فترتب على هذه المبالغة في هذه المحبة بخس حقوق الآخرين. يترتب عليها أيضاً أن يقلع عن خطئه، ويترك النصيحة التي هي من أهم ثمرات الأخوة، كما أشرنا في مبدأ الحديث أنه مع الإفراط في المحبة وكثرة الصلة وطولها حتى تجد اثنين من الشباب يصبحون كما يقال: روحان حللنا بدنا، فإذا رأيت محمداً ترى علياً، خرج علي يخرج محمد، دخل علي معناه سيدخل محمد بعده، يعني فصار لا يفقد أحدهما بعد الآخر، وهو طبيعي أن يكون بين شخصين ارتياح أكثر، لكن بقدر معين إذا تجاوزت فيه حتى صرت أجامله وأترك نصيحته وربما أبرر له أخطاءه، فهذه ثمرة ثالثة قد تكون وسيلة لموافقته على باطله، أو مشاركته فيه، وهذه حالات كثيرة، والذي ابتلي بها يشتكي منها، ويشعر أنه بدأ يضعف وبدأ يجامل صاحبه، لزيادة الغلو في هذه المحبة التي ما استطاع يتخلى عنها، وصار يشعر أنه لا بد أن يصاحب أخاه ويوافقه، فصار يوافقه على الباطل. وآفة رابعة: أن تتحول إلى محبة عاطفية، وقد تنتقل إلى صورة لا تليق إلا بأهل الشذوذ، يعني كل واحد يعطيه الشريط كما يقال، فيحكي له سيرته، قد يكون الإنسان مع الصالحين وهو صالح، ففي حال خلوته قد تدعوه نفسه الأمارة بالسوء فيقع في معصية من المعاصي ويستره الله عز وجل، فحين يلقى صاحبه يكشف له ما ستر الله عليه، فيصبح ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله، فيصبح فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويكشف ستر الله عليه). يا أخي! ما هو المبرر أنك عندما تلقى فلاناً تقول له: أنا والله وقعت في كذا؟ هو يقولها من باب الشكوى والشعور بالتقصير، لكن ما الحاجة إليها؟ يا أخي سترك الله فتب إلى الله واستتر بستر الله، وهذه مجاهرة: (كل أمتي معافى إلى المجاهرين)، فأنت الآن تدعو إلى التخلص من العافية، ألا تطمع أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما المؤمن فيدعوه ربه فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: وأنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها لك اليوم)؟ قد ستر الله عليك المعصية فكيف تكشف هذا الستر وهذا الحجاب، وكيف تصل محبتك وصلتك بفلان من الناس إلى أن تكشف له عن أسرارك، إنك ترتكب معصية أخرى. ثانياً: هذه وسيلة للإعانة على المعصية فإنك تكون قدوة سيئة له، فهو عندما يرى صاحبه الذي يتواصى معه على الخير، ويحبه في الله، عندما يراه يقع في المعصية صار قدوة سيئة أمامه، قد يكون هو وقع في نفس المعصية، فعندما يراك وقعت في نفس المعصية، صرت قدوة سيئة، وسننت سنة سيئة، ودعوته بسلوكك من حيث لا تشعر إلى ضلالة. وقد تنتقل إلى صورة أخرى ونتيجة ثالثة وخاصة مع استمرائها؛ وهو أنه حين يعرف كل منهما ما في داخل صاحبه تتحول القضية إلى أن ينتقلا إلى حال يعين بعضهم بعضاً على المعصية، ويشعر أنه يعرف أنه يقع في ارتكابها، ويعرفه أنه كان فعل كذا، فتبقى الأمور مشوبة، وتكون مدعاة إلى تعاونهم على المعصية، وقد تكون سبب في انحرافهما جميعاً، والسبب يكمن في البداية في الإخلال بالأدبين الشرعيين، أولاً: في قضية الإفراط في الصلة والأخوة التي تكون على حساب الآخرين، والأمر الثاني: تجاوز الأدب الشرعي في الاستتار بستر الله. معشر الإخوة الكرام! هذه بعض الآفات التي أشرت إليها آنفاً، والتي فيها من التصريح، وفيها من التلميح ما قد يمنع المقام عن الاستمراء فيه، والحر تكفيه الإشارة، هي عبارات وإشارات، وهي لا تعني بحال الطعن في هذه الأخوة، والطعن في هذا الجيل المبارك، بل إن الذي يدفعنا إلى الحديث عن هذه الآفات هو شعورنا بثمرات هذه الأخوة، وحرصنا عليها يدفعنا إلى التحذير من هذه الآفات، ومحاولة الحديث عنها حتى نتجنبها، وإلا فنحن والله نشعر بهذه الصلة، ونرى -والمسلمون شهداء الله في أرضه- أن هذا الجيل وهذه الصحوة سنت هذه السنة الحسنة، لقد نسيت هذه الأمة هذا المفهوم، نسيت إني أحبك في الله، نسيت الأخوة في الله، وأصبحت مجرد أمور مدونة في الكتب، ليس لها رصيد على أرض الواقع، فجاء هذا الجيل وجاءت هذه الصحوة لتتجاوز كل تلك الروابط، ولتقضي على كل تلك الصفات الجاهلية. وطبيعي أن يكون هذا الجيل الذي هو إفراز لهذا المجتمع

الأسئلة

الأسئلة

زيادة المحبة في الله بسبب اتحاد النسبة والانتماء

زيادة المحبة في الله بسبب اتحاد النسبة والانتماء Q أحب فلاناً من الناس في الله، ولكن حين أعلم أنه من قبيلتي يزداد حبي تلقائياً، ولكن دون أن ينقص حبي للآخر الذي ليس منها، فهل في ذلك شيء؟ A هذه القضية تحصل في قضايا غير قضية القبيلة كقضية البلد، العنصر، الانتماءات الفكرية أياً كانت، وهذه من المداخل الصعبة، ومحك يختبر المسلم نفسه عليه، قد يحصل أن يصل الإنسان إلى درجة الكمال هذا صعب، لا بد أن يحصل ما يحصل؛ لكن الواحد يحاول أن يجاهد نفسه، والمقياس هو أنه عندما يكون فلان أتقى لله من فلان أحبه، وفلان عندما يعصي الله أكثر أبغضه، وقد تدخل مثل هذه الاعتبارات؛ لكن يحاول الإنسان أن يتخلص منها، يحاول أنه يراجع نفسه، لأن كلمة أحبك في الله، والأخوة في الله، هذه كلمة فيها إجمال؛ لكن المحك عندما تأتي إلى قضية القبيلة أو الانتماء فهنا يكمن المحك في مدى صدق الأخوة والمحبة.

قوة الأخوة بعامل الجوار والقرابة ونحوها

قوة الأخوة بعامل الجوار والقرابة ونحوها Q الأخوة وحدة قائمة بذاتها لا تجتمع مع غيرها من الروابط هكذا قلت في المحاضرة، ألا ترى أن بعض الروابط تزيد من الأخوة في الله مثل الجوار والقرابة ورفقة السفر؟ A أنا قلت هذا الكلام، لكن هل تشاركون أنتم السائل في هذا الفهم؟ أنا قلت إن الأخوة قضية لا تعيش إلا متفردة وحدها في مقابل الروابط الجاهلية، مثل الإخاء في القبيلة، والإخاء لأجل الوطن، أما أن يكون هذا قريباً لي فهذا له حق شرعي، وكذلك الجار، فهذه قضية غير القضية التي نتحدث عنها، وهي قضية الروابط الجاهلية.

نصيحة لمن يتعود التأخر عن الجماعة حتى تفوت بعض الركعات

نصيحة لمن يتعود التأخر عن الجماعة حتى تفوت بعض الركعات Q لنا أخ في الله ملتزم ظاهراً ونحسبه على خير والله حسيبه، ولكن يتعمد هذا الأخ عدم حضور صلاة الجماعة إلا بعد انقضاء ركعة أو ركعتين، وأصبحت هذه عادة لديه، وربما أثر على إخوته، مع العلم أنه جار للمسجد، وخريج إحدى الجامعات الإسلامية، ونوقش في الموضوع ونصح مراراً، ولكنه لا يرد علينا عن الأسباب التي تدعوه لذلك، هلا وجهت له نصيحة ولأمثاله لعل الله أن يأخذ بيده. A لا شك أن النصيحة له ولإخوانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه المرء من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيتم بها ما انتقص من صلاته)، وكلنا أولئك والله المستعان، لكن أول عمل نحاسب عليه الصلاة فإذا لم نعتن بالصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

الفرق بين الحب في الله والحب لله

الفرق بين الحب في الله والحب لله Q قال عليه الصلاة والسلام: (من أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، ومنها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)؛ فما هو الفرق بين الحب في الله وبين الحب لله؟ أثابكم الله. A الحب في الله والأخوة في الله درجات، هناك أمر الإخلال به كفر، فعندما يأتي واحد ويعين الكافر على أخيه المسلم فذلك من نواقض الإسلام مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين، فعندما تأتي إلى شيوعي أحمر أو اشتراكي أو نصراني أو بوذي وتعينه على أخيك المسلم فهذا الإخلال قد يبلغ إلى درجة الكفر، أو مظاهرة المشرك ومؤاخاته هذه المؤاخاة كفر، ومحبته لأجل دينه كفر، ثم تنتقل إلى محبة واجبة دونها. يعني يجب عليك للمسلم: رد السلام، وقضاء الحوائج، وكف الأذى، والإخلال بها معصية، لكن الإخلال بها لا يصل إلى حد الكفر، وهكذا حتى تصل إلى درجات النوافل، وهي درجات للمقربين آخرها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فمنها قدر لا يتم الإسلام إلا به جملة، وهو حب المسلمين جملة وبغض الكفار، ثم تصل إلى حد فيه معصية، تصل إلى حد من الطاعات هو من باب التسابق في الخير، شأنها شأن سائر الأعمال الصالحة، وهكذا الدين من عند حكيم عليم يجعل حداً هو خط أحمر لا يتجاوزه أحد، ثم بعد ذلك يفتح مجالات لأولئك الذين سما إيمانهم وعلت تقواهم ودرجتهم حتى يصعدوا في مثل هذا الميدان، ومن خلاله ندرك الفرق بين أن يحبه في الله، وأن يحبه لله، وأن يحبه لا يحبه إلا لله.

حب الرجل الوضيء الوجه في الله

حب الرجل الوضيء الوجه في الله Q نود -حفظكم الله- أن تلقوا مزيداً من الضوء حول دخول أمور أخرى على المحبة في الله، خصوصاً إذا كان أحدهما حسن الوجه، والله يعينكم؟ A أشرت إلى هذا إشارة، والحر تكفيه الإشارة، أحياناً شاب يحب شاباً في الله وكلاهما مطيع لله وصالح وخير، لكن قد يكون وضيء الوجه فتدخل شهوة من الشهوات المحرمة التي سيطرت على الكثير من أبناء المسلمين، فتبدأ تدخل أغراض غير شرعية، وتبدأ تزداد الصلة به واللقاء به إلى أن تتجاوز أحياناً إلى أنه قد يقع في بعض الهفوات وبعض الأمور التي هي نتيجة مثل هذه القضية، وهذا داء ينبغي أن يحسم ابتداء، من أول ما يشعر الإنسان بهذا الأمر يحسم الداء ويخلص نفسه من هذه الأمراض وهذه القضايا ويشعر أنه هذه أمارة انحراف وشذوذ. لقد فطر الله الرجل على الميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل، فحين تنعكس القضية فهذه أمارة شذوذ الله يعافينا وإياكم، وحين يدرك المرء هذا من نفسه عليه أن يبادر بعلاج نفسه. لو كان عند الإنسان فرس تريد أن تدخل مكاناً ضيقاً، فأول ما تدخل يستطيع أن يعيدها، لكن كلما دخلت صار صعباً عليه أن يسحبها من ذيلها، حتى إذا استحكمت صار أمراً لا يستطيعه، فحين يستحكم الأمر في قلبه يدرك أنه خطأ، ويدرك المشكلة لكن لا يستطيع علاجه.

الأرواح جنود مجندة

الأرواح جنود مجندة Q هل المحبة في الله بصفة عامة تدخل في الحديث الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)؟ A نعم، هي جزء من ذلك، أنت أحياناً مسافر تركب طائرة، وتجد شخصاً ملتحياً، فتشعر تلقائياً أنك تتمنى أن يركب إلى جنبك وتدعوه للجلوس بجوارك، تسلم عليه سلاماً خاصاً فيه شعور بمودة، فكما أن الناس يألف بعضهم بعضاً لاتفاق الطبع، فكذلك اتفاق الدين ولهذا نهى الشرع عن التشبه بالكفار، ومن الحكم أن الشبه يورث المحبة؛ والأرواح جنود مجندة، فحين يتجانسان في الظاهر يتآلفان في الباطن.

فضل إفشاء السلام

فضل إفشاء السلام Q لقد شاع بين أوساط الشباب اليوم قلة إفشاء السلام، فأصبح السلام على من تعرف فقط، نرجو منك الحث على إفشاء السلام بين الشباب وعامة الناس! A هذا الأمر لا يخص الشباب، السلام على من تعرف صار سنة مهجورة، أضرب لكم مثالاً نراه في الحياة اليومية، حتى نعرف أن عدم السلام ينبغي أن نراجع أنفسنا فيه، أحياناً مثلاً عندك ضيف المجلس رحبت به ولقيته، طبيعي أن تدخل البيت أكثر من مرة وتأتي، حينما تعود إلى المجلس لا تعيد السلام مرة ثانية، والسنة إذا فصل بينك وبينه حجر أو شجر أن تعيد السلام، لا المصافحة والعناق، لكن قل: السلام عليكم، ولو تعودنا عليه لصار لهجة دارجة على ألسنتنا؛ لأن الإنسان يلقى أخاه في الشارع، المدرس يلاقي الطالب، الضابط يلاقي الجندي، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، لكن المدرس يلاقي الطالب فيقول لنفسه: عيب أن تسلم عليه لأن ذلك يهز من شخصيتك وقيمتك، والطالب يستحي ولا يجرؤ أن يسلم على الأستاذ. وهكذا الضابط الجندي، وقد قالوا: من الحكمة أن الراكب يسلم على الماشي، لأن الراكب عنده نوع من الرفعة دون الماشي فيسلم عليه حتى يشعره بالتواضع، لهذا فالأولى أن تسلم على من دونك، حتى نشعر بالتآخي. والسلام يشعر بالمودة، وفاعله مأجور، فإذا قال: السلام عليكم يؤجر عشر حسنات، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعطي ثلاثين حسنة.

معنى المجاهرة بالذنب

معنى المجاهرة بالذنب Q ذكرتم أن من يذكر ذنبه لصاحبه يدخل في حديث من جاهر بالذنب، والذي يظهر أن المقصود بالحديث من يذكره على سبيل التفاخر، بخلاف من يذكره على سبيل الندم، وإن كان خطأً، لكن لا يعد من المجاهرين؟ A هذا الذي يظهر للآخر، لكن قد يظهر لغيرك خلاف ذلك، وهي ثلاث صور يجب أن نفرق بينها: الصورة الأولى: أن يذكره على سبيل الفخر. الصورة الثانية: أن يذكره ليستفتي ولم يجد حلاً إلا أن يصرح لفلان فيشكو له المشكلة. الصورة الثالثة: أن يذكره على سبيل الندم. فيسوغ له إذا كان سيستفتي وعنده مشكلة وما وجد حلاً لها إلا أن يصرح لصاحبه، مع أنه يمكن أن يبحث عن وسائل أخرى. لكن ذكره على سبيل الندم ما الداعي إليه، إذا ندمت يا أخي فدعها بينك وبين الله، واستتر بستر الله، والنبي صلى الله عليه وسلم حين بايع أصحابه قال: (فمن أصاب منكم شيئاً فعوقب به فهو كفارة له في الدنيا، ومن ستر الله عليه فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عفا عنه)، وفي حديث النجوى إيماء إلى ذلك، بل البخاري رحمه الله بوب على حديث النجوى في كتاب الأدب: باب ستر المسلم على نفسه، وبوب على حديث: (كل أمتي معافى). وحين جاء رجل يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله أصبت من امرأة قبلة، قال عمر: ألا سترت على نفسك)؛ ومعناه أن المتقرر عند الصحابة أنه كان الأولى أن يستر على نفسه، مع أنه جاء مستفتياً يسأل هل عليه كفارة أم لا؟ وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ورحمته إنه سميع مجيب، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

دعوة للمصارحة

دعوة للمصارحة لقد خلق الله الإنسان مجبولاً على الخطأ والنقص، وكل عمل بشري معرض للخطأ سواء كان عملاً فردياً أو جماعياً؛ لكن الجنس البشري كثيراً ما يتهرب من تحمل مسئولية الخطأ ومصارحة النفس بعثراتها بطريقة أو بأخرى، وهذا يؤدي مع المدى إلى أضرار جسيمة كان يمكن تداركها لو كان المرء شجاعاً يصارح نفسه ويدعوها لمعالجة الأخطاء.

معنى المصارحة

معنى المصارحة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا البلد الحرام الذي جعله الله عز وجل مثابة للناس وأمناً، والذي جعل الله سبحانه وتعالى الناس يؤمونه ويقصدونه ويسعون إليه من كل فج عميق. موضوعنا أيها الإخوة الكرام لهذه الليلة بعنوان: دعوة للمصارحة، ولعلنا نقف قليلاً حول المعنى اللغوي لهذه الكلمة قبل أن نبدأ في الموضوع: يقول الأزهري: صرح الشيء وصرحه وأصرحه إذا بينه وأظهره، ويقال: صرح فلان ما في نفسه تصريحاً إذا أبداه، والتصريح: خلاف التعريض، ومن أمثال العرب: صرحت بجدان وجلدان إذا أبدى أقصى ما يريده. وفي اللسان: انصرح الحق أي: بان، وكذب صرحان أي: خالص، ولقيته مصارحةً ومقارحةً وصراحاً وكفاحاً بمعنىً واحد إذا لقيته مواجهةً، وصرح فلان بما في نفسه، وصارح: أبداه وأظهره. أي أن هذا المعنى الذي نستعمله معنىً صحيح لغة، وذلك أن بعض الكلمات قد تستعمل في غير موضعها، فمن ثم كان لا بد من تحقيق مثل هذا المعنى وصحة استعماله لغةً.

المصارحة نوع من الصدق وعدمها ضرب من الكذب المذموم

المصارحة نوع من الصدق وعدمها ضرب من الكذب المذموم معشر الإخوة الكرام! الصدق: خلق محمود، ومطلوب شرعاً، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] ويعد الله سبحانه وتعالى الصدق ضمن صفات عباد الله عز وجل الصالحين: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية وفيها قول الله عز وجل: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35] ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الصدق مع البر وهما في الجنة، والكذب مع الفجور وهما في النار). وفي المقابل: فالكذب خصلة شنيعة، وصفة مرذولة يحق على صاحبها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا لعنة الله على الكاذبين، وهو سلم وطريق للفجور الذي يؤدي هو الآخر إلى النار: (وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الكذب مع الفجور وهما في النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). وحين يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً فإنه لا يمكن أن يكون كذاباً أبداً، وكما أن الصدق صفة مطلوبة شرعاً، وصفة يستحق صاحبها الثناء، وكما أن الكذب مذموم بالشرع مغموص صاحبه بصفة من صفات المنافقين حتى يدعها؛ فهما كذلك في الخلق المستقيم والفطرة السليمة، فما زال الناس برهم وفاجرهم يدركون أن هناك تناسباً بين الكذب وبين السب والانتقاص؛ لذا لا يطيق أحدهم أن يوصف بأنه كذاب. إن غاية السب والشتم لأي امرئ من الناس كائناً من كان أن تتهمه بأنه كذاب، وحتى أكذب الناس الذي يتخذ الكذب حرفة ويأخذ على ذلك أجراً ويجعله صنعته، هو الآخر لا يرضى أن يوصف بالكذب؛ لأن الكذب صفة مرذولة مذمومة في فطر الناس السوية قبل أن تأتي الأديان باستحسان رفضها وتركها ودعوة الناس إلى الصدق، فما بالكم حين يكون الصدق بعد ذلك بنص الشرع طريقاً إلى البر والبر طريقاً إلى الجنة، وحين يكون الصدق قريناً للبر وهما في الجنة، وحين يكون الصدق صفةً يوصف بها المسلمون والمسلمات وتكون سلماً ووسيلة لأن يعدهم الله عز وجل بعد ذلك بالأجر العظيم. لئن كانت هذه شناعة الكذب على الناس وممارسته على الناس لئن كان بهذا القدر من الشناعة والرفض، فما بالكم بمن يمارس الكذب على نفسه، إن القضية أكبر شناعة وأكبر خطأً واستخفافاً بالنفس أن يمارس المرء الكذب على نفسه. نعم معشر الإخوة الكرام! إننا أحياناً نمارس الكذب على أنفسنا أحياناً أفراداً وأحياناً جماعات وبصورة تفرض سحباً من الأوهام المفتعلة وتضع سياجاً يحول دون الرؤية الصادقة الواضحة، فكم نفتعل العمش والعشى بل والعمى والتعامي نفتعل ذلك ونحن نستطيع أن نبصر الحقيقة بأم أعيننا! ومن حقنا أن نتساءل: من المستفيد والخاسر من حجب الحقائق وافتعال الضبابية حول الواقع؟ لئن كان الكذب على الناس مرفوضاً. بالفطرة السليمة والشرع القويم، وكان من خلق الرجل الجاد فضلاً عن الرجل الملتزم بالشرع أن يكون صادقاً أن يكون صريحاً أن يكون واضحاً في حديثه مع الناس فأحرى به أن يكون صادقاً وواضحاً وصريحاً مع نفسه!

أهمية المصارحة الفردية للنفس

أهمية المصارحة الفردية للنفس إن مرحلة العواطف والحماسة مرحلة يجب أن نتجاوزها، ومرحلة ستر العيوب وإخفاء الأخطاء سلوك يجب أن نتخلى عنه، ومن ثم كان لا بد من دعوة للمصارحة، فهي دعوة للمصارحة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي: أما على المستوى الفردي: فمن سجية النفس وطبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها أنها ترهب الخطأ وتهاب الانحراف وترفض تأنيب الضمير واللوم الداخلي، وتلك صفة يكفي في استحقاقها كون المرء إنساناً، فالناس كل الناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم أياً كانوا تلومهم أنفسهم حين يقعون في الخطأ، ويواجهون سياطاً من اللوم والعتاب من تلقاء أنفسهم حين يرون أنهم وقعوا في الخطأ أياً كان هذا الخطأ ومهما كان مصدره ومهما كانت مقاييسه وموازينه. وقد يكون الخطأ عند زيد من الناس هو الصواب بعينه عند عمرو، وقد يكون الحق عن طائفة هو الباطل عند طائفة، لكن الناس يشتركون في أنهم يرفضون الخطأ ويهابونه وتلومهم أنفسهم لوماً عنيفاً عندما يقعون في الخطأ، فهم يشتركون في هذا الأصل وإن اختلفوا في مقياس الخطأ والصواب، وهذا أمر لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو أن تأنيب النفس ولومها أمر مشترك عند الناس جميعاً. أما المسلم الذي يدرك قيمة الحياة وغايتها ويعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الدنيا وسيلة للدار الآخرة فهو أشد لوماً لنفسه وأشد عتاباً ومحاسبة لنفسه، ومن ثم فإنه تواجهه نفسه بسياط مؤلمة من اللوم والتأنيب والمحاسبة على الخطأ الذي يقع فيه، وحين تثقل على النفس تبعة الخطأ وتنوء بحمل نتائج التقصير فإن الإنسان حينئذ يمارس حيلاً لا شعورية مع نفسه لينفي عنها الخطأ أو يهون من حدوده، أو يخفف تبعاته، كل ذلك يعمله مع نفسه حتى يسلم من اللوم والعتاب الداخلي، وتارةً يحاسب نفسه ويراجعها؛ لكن هذه الحيل تساهم في إخفاء الحقيقة وفي تكوين ركام من الأوهام تحجب عنه الرؤية الصادقة تحجب عنه الحقيقة فحينئذ يخادع نفسه ويكذب على نفسه ومن ثم كان لا بد له من دعوة للمصارحة حتى يكون صريحاً مع نفسه.

وسائل التخلص من مسئولية الخطأ

وسائل التخلص من مسئولية الخطأ

تحميل الآخرين مسئولية الخطأ

تحميل الآخرين مسئولية الخطأ معشر الإخوة الكرام! إننا نمارس الكذب كثيراً على أنفسنا نمارس الكذب أفراداً، ونمارس الكذب جماعات، أما على المستوى الفردي فإن المرء حين يقع في الخطأ -كما قلنا- تلومه نفسه، وتؤنبه، فهو يحاول أن يتخلص من هذا اللوم، ويحاول أن يتخلص من هذا التأنيب فيفتعل حيلاً نفسية لا شعورية يحاول أن يدفع بها عن نفسه تبعة الخطأ ومرارة تحمل المسئولية، فيمارس الكذب على نفسه، ويحق على هذا السلوك كل شناعة تحق على الكذب. فلئن كان الكذب فجوراً وشناعةً حين يمارسه المرء على الآخرين، فهو كذلك حين يمارسه على نفسه، بل هو يزيد على ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك مسلك النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن العدو لا يراها كما يقال في المثل. إن الفرد يمارس أحياناً أسلوب الإسقاط وتحميل المسئولية على الآخرين، فالطالب الذي يفشل في الامتحان مثلاً لم يكن ذنبه أنه كان مهملاً، بل هو كان جاداً وقد بذل كل الجهد لكن الأستاذ كان فاشلاً، فالأستاذ كان لا يجيد شرح المادة، أو أن أعمال السنة كانت هي السبب ولو كانت نسبتها ضئيلة؟ نعم هي السبب في رسوبه. وربما لم يكن هذا وذاك ولكن أسئلة الامتحان كان مفاجئة وكانت غامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان غير مستقرة فلم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير ليقنع نفسه ويخدع نفسه أنه لا يتحمل المسئولية. أما لو كان جاداً وبعبارة أخرى: لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بأنه يتحمل المسئولية أياً كان، فالطالب مثلاً يعرف أستاذه طوال العام، فلئن كان الأستاذ جدلاً لا يجيد شرح المادة فكان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتي من أستاذه. والطالب ليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال، المهم: أنه لو كان جاداً وصادقاً وصريحاً مع نفسه لاعترف أنه سبب الفشل ولاعترف أنه يتحمل المسئولية. فهكذا يحمل الآخرين المسئولية، وهذا الكلام يقوله لنفسه ولا يقوله للآخرين. وهكذا نجد الحجة أيضاً نفسها تتبدى عندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم، فيواجه بالمناصحة فيحتج بأن والده لم يحسن تربيته أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، بل حين ترى أنت مثلاً شاباً مستقيماً صالحاً خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه، كأن يكون هذا الشاب ليس جاداً ليس حريصاً على طلب العلم الشرعي فيه جانب من جوانب القصور أياً كان هذا الجانب، فتناقشه وتصارحه فماذا سيقول لك؟ سيقول لك: إني تربيت مع مجموعة غير جادة إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم حتى مضى زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان فهو الذي يتحمل المسئولية السبب هو أستاذي إنه يجيد أن يحمل المسئولية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد، أما أن يكون شجاعاً صادقاً فيحمل نفسه المسئولية فيقول: أنا وإن تربيت في بيت يعج بالفساد والفتنة فإني مكلف شرعاً أن أسمع كلام الله عز وجل وأحضر إلى صلاة الجمعة مع الناس فأسمع ما يقوله خطيب الجمعة أدرس في المدرسة وأقرأ وأسمع من الأستاذ وأسمع من هنا وهناك؛ فقد كان هذا كله جديراً بأن يوقظني إن كان في قلبي حياة لكنه لا يملك الشجاعة التي تؤهله أن يقول هذا الكلام.

الاعتذار بسوء التربية والوسط الذي يعيش فيه

الاعتذار بسوء التربية والوسط الذي يعيش فيه والآخر الذي يحتج مثلاً بالتربية والوسط الذي عاشه يحتج بهذه التربية على كونه عاش هزيلاً على كونه عاش مفرطاً في جانب العلم أو الدعوة، هو الآخر غير جاد مع نفسه، وإلا فهو يسمع كما يسمع الآخرون ويقرأ كما يقرأ الآخرون. معشر الإخوة الكرام! في غزوة بني قريظة حين حكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم: بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم كان كل من بلغ الحلم قتل، ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشرة أو الثالثة عشرة أو أكثر أو دون ذلك، وقد عاش في بيت يهودي، فأبوه يهودي وأمه يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود، وهو من الصغر يرضع الحقد على هذا الدين ويسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ومن أمه ومن الوسط الذي هو فيه؛ يسمع ذم هذا الرجل وأنه كذاب غير صادق، ومع ذلك قتل، فهل قتل ظلماً؟ A لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سماوات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه. فلئن كان أحد -معشر الإخوة الكرام- يعذر بسوء التربية فهؤلاء أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين، ونسقط تبعاتنا على غيرنا، تارة على الأب تارة على الأستاذ تارة على فلان أو فلان من الناس تارة على الوسط الذي نعيش فيه، ونتفنن في ارتفاع الرقم الذي يصل إليه الذين يتحملون المسئولية وننسى أشخاصنا وننسى أنفسنا؟

أسلوب التبرير

أسلوب التبرير وهناك أسلوب ثالث: أسلوب التبرير، أن نلتمس الأعذار فنرى أنه ليس هناك شخص بعينه يمكن أن نحمله المسئولية لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك، ففلان الذي وقع في المعصية والانحراف! يرى أنه مسئول عن نفسه، ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسئولية، ولكن من جهة أخرى: يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه الفتن لا يستطيع دفعها يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر على تلك الفتن التي واجهته فهو معذور! أو فلان الذي لا يستيقظ للصلاة مثلاً: يرى أنه ثقيل النوم يرى أن هناك سبباً من الأسباب يمنعه من الاستيقاظ للصلاة! والآخر الذي يمتنع عن مجال من مجالات الدعوة هو الآخر يفترض ويفتعل أمامه مفاتن يخشى أن تترتب على عمله، ويرى أنه لا ينبغي أن ينزل إلى الواقع لا ينبغي أن ينزل إلى الميدان وهكذا يفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنها عذراً له عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل، وليس غير الكسل. وحين يفشل الفرد في الإسقاط فلا يجد من يحمله المسئولية ويفشل في التبرير لعمله يسلك أسلوباً ثالثاً: أن يتهرب من التفكير في المشكلة أصلاً: فهو حين يبدأ جلسة صريحة يحاسب فيها نفسه، فحينئذ يكتشف أنه يتحمل المسئولية بنسبة (100%) كما يقال، ولم يجد من يحمله المسئولية، ولم يجد عذراً لنفسه يكتشف بعد فترة أنه صار يفكر في موضوع آخر وانساق به التفكير إلى موضوع آخر ونسي القضية الأساس، فما السبب؟ هو دون شعور يتهرب من التفكير في مشكلته وإذا أردت أن تتأكد فأمسك بأي إنسان تراه في الشارع من الناس المعرضين، بل دون ذلك أمسك بإنسان من الصالحين الأخيار الذي تراهم يقعون في أي خطأ من الأخطاء وقل له: أسألك بالله أن تجلس نصف ساعة فتفكر في نفسك، تجده لا يطيق ذلك فلا يطيق أن يفكر في نفسه، بل يتهرب من التفكير. وحتى حين يجلس عازماً على التفكير في نفسه يتهرب فتصده نفسه، لأنه لو فكر في نفسه تفكيراً صادقاً صريحاً لتوصل إلى نتيجة لا مجال للمجادلة فيها أنه هو يتحمل المسئولية فحينئذ تؤنبه نفسه، ويلومه ضميره، وهو لا يستطيع أن يتحمل هذا التأنيب وهذا اللوم، فيختصر الطريق من أوله وينصرف عن التفكير في نفسه وفي مشكلاتها أصلاً.

عقدة البحث عن الحل والعلاج

عقدة البحث عن الحل والعلاج رابعاً: حين يفشل في ذلك كله تبدو له عقدة البحث عن الحل والعلاج: فحين يفشل المرء في الحيل السابقة ويتكرر إخفاقه مع نفسه يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل، بل إنه يمارس العلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في مجاهدة نفسه واستنقاذها، فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج، والعبارة: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسئلة المحاضرات أو نقرؤها في زاوية الفتاوى والمشكلات التي تعرض في الصحف، أو نقرؤها في رسالة يحملها البريد. إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات؛ لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح السؤال في كل مناسبة ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه؛ ولهذا ترى السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه وبنفس اللغة: أنا شاب أشكو من هذه المشكلة فما الحل وما العلاج وما الوسيلة؟! ومكمن الداء هنا: انصراف الشاب عن الحل الحقيقي والعمل على البحث عما وراء ذلك، فالمعصية طريقها واضح لا خفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق، والطاعة طريقها أبلج لا يختلف إلا على من اعوج عن الطريق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن بال الشاب أن الحل بيده وأن العلاج ببساطة هو أن يترك ما كان يفعل أو يفعل ما كان يترك وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل في هذا فلا يعني أن هناك عشرين خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة وهي السبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكلة هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.

نماذج من المشكلات المتكررة مع وضوح العلاج

نماذج من المشكلات المتكررة مع وضوح العلاج ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال سؤال وصلني في أحد الدروس: شاب يقول: إنني أعق والدي فما الحل؟ أجيبوني بالله عليكم كيف تجدون الحل لمثل هذه السؤال؟! إني لا أجد أن أقول لهذا الشاب إلا ما قلته له: الحل أن لا تعق والديك، فهل هناك حل آخر غير هذا الحل؟! سؤال آخر يتكرر أيضاً: إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص من الغناء فما الحل؟ إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم، فكيف أتخلى عنهم؟ الحل: أن تترك سماع الغناء الحل: أن تترك الصحبة الفاسدة فالحل في يدك، حين تفشل فالمشكلة ليست في أن هناك عشرين خطوة أو ثلاثين خطوة لم نذكرها لك، أو أننا ذكرنا لك هذه الخطوات كلها ونسيت أنت الخطوة الأخيرة وصارت هي العقدة في الحل. لا أستيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لذلك؟ مشكلتي أنني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع، فما الحل؟ وهي قائمة طويلة معشر الإخوة الكرام من الأسئلة تتكرر كثيراً، فيجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى وبنفس اللغة وعلى الشخص نفسه مرة أخرى، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة. معشر الشباب! إننا لا نرفض أبداً أن يطرح الشاب مشكلاته لا نرفض أن يسأل أن يبحث عن الحل، وأيضاً لا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور؛ لأنه لم يصل إلى الحل. شاب اتصل علي بالهاتف فجلس معي قرابة الساعة يشكو مشكلته وأعرض له الحل، ثم قال: إني ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان، قلت له: هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال: لا، قلت: أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية، لست أدري؟! المشكلة هي منك أنت وحدك المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية ضعيف الإيمان ضعيف العزيمة والإرادة، فلا داعي أن تضيع أوقات الناس وتشغل الناس بهذا Q هذه مشكلتي! إذا لم تستطع فكن صريحاً واقعياً مع نفسك وقل: إنني ضعيف! وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت؛ لأنك حين تبحث عن الحلول فإن هذا يهون عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه ويخفف عليك من لوم النفس وتأنيبها؛ لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولما تراه إلى الآن في اليقظة، فأنت تسأل بكل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام، ولعلك ترى ملك الموت قبل أن ترى هذا الذي رأيته في المنام والذي يملك الحل السحري الذي تتوهمه أنت. معشر الإخوة الكرام! إنها مخادعة وحيلة نفسية نتخلص بها من عيوبنا، وخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا أن نكون واضحين فنحدد أسباب المشكلة ونعرف أن مكمن الداء هو تقصيرنا هو ضعف إيماننا هو ضعف همتنا، وحينئذ نستطيع أن نحل المشكلة أو على الأقل أن نعترف بالمشكلة، وأن نعترف بمسئوليتنا خير لنا من المخادعة والمراوغة. شاب أرسل لي رسالة يشتكي فيها مشكلته، ويذكر لي أنه أرسل إلى عدد ممن لم يتجاوبوا معه، فأرسلت له رسالة مطولة من ثلاث صفحات وتفاعلت مع مشكلته، وظننت أن هذه الرسالة ستكون الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فرد علي بالشكر والترحيب بالاهتمام برسالته وأخبرني أنه استفاد مما أعطيته، ثم بعد ثلاثة أشهر أتسلم رسالةً وأقرأ الرسالة فأرى أن الخط ليس غريباً علي، والقلم ليس غريباً علي، وإذا بالاسم نفسه لكن العنوان يختلف، ثم أنظر إلى ظرف الرسالة فأرى أنها أرسلت من مكتب البريد الذي أرسلت منه الرسالة السابقة، فأعود إلى المنزل وأقارنها بالرسالة السابقة وإذا هي هي، فإذا هو الشاب نفسه يرسل لي الرسالة بنفس اللغة وبنفس المشكلة: أنني شاب أشتكي من هذه المشكلة ثم حكى لي قصته، فما الحل؟ فرددت عليه قلت له: الآن اقتنعت أن الحل السابق هو ما قلت لك إنك باختصار ضعيف الإرادة ضعيف العزيمة فأرجو أن لا تشغل نفسك بالبحث عن الحل أو البحث عن تلك الخطوات السحرية التي تنتظرها من فلان وفلان، الحل تملكه أنت وحدك، وخير لك أن تكون صريحاً مع نفسك من أن تشغلها بالبحث عن حل ليس هو الحل الناجح والنافع. مرة أخرى معشر الإخوة الكرام! لسنا نعترض على السؤال وعلى طرح المشكلات وعلى الحديث عنها؛ لكن حين نطرحها يجب أن نطرحها باقتصاد، ويجب أيضاً أن نتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحين نجيب أيضاً عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده. وأن الحل ليس هذه الخطوات المرقمة التي أعطيناها إياه.

الورع البارد

الورع البارد وخطوة وأسلوب خامس: هو أسلوب الورع البارد في مقابل تلك الحجج السابقة هناك من يدرك تبعات العمل الجاد وتكاليفه على النفس، فلا يطيق الصبر ولا يستطيع المداومة فيصعب عليه أن يصارح نفسه بالكتم ويفاتحها بالخمول، فيتعلل حينئذ بأنه يتورع عن تحمل المسئولية ويخاف من الأمانة. وكم نرى نماذج ممن يملك القدرة والعلم والوقت فيضيع عمره سدى وأوقاته هدراً، وحين يدعى إلى العمل والمشاركة يعتذر بأنه ليس أهلاً، وأن الأمانة أكبر والمسئولية أشق مع أنه يعلم أن الكثير ممن هم في الميدان دونه بمراحل، ولولا ثقتنا بحسن نوايا هؤلاء وطيب قلوبهم وصدق إيمانهم لقسنا حالهم بحال من قال: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49].

التهرب من المسئولية بنقد الآخرين

التهرب من المسئولية بنقد الآخرين وأحياناً يسلك صاحبنا مسلكاً آخر: فينتقد العاملين ويتحدث عن زلاتهم وأخطائهم ويرى أن هذا الميدان من العمل فيه من الأخطاء هذا الخطأ والثاني والثالث والرابع والميدان الآخر: فيه من الخطأ كذا وكذا، ومن يحاضرون يخطئون في كذا وكذا، ومن يتصدرون لحلق القرآن يخطئون في كذا وكذا، ومن يربون الشباب يخطئون في كذا وكذا فيعطيك قائمة من الأخطاء للناس جميعاً، هذه الأخطاء والزلات لم تصدر فعلاً عن قناعة تامة، إنما صدرت من حيلة نفسية من رجل كسول لا يستطيع العلم ولا يطيق الصبر على تحمل لأواء الطريق ومشقته، فحينئذ لا مناص له من خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يقول: إن أولئك عاملون جادون ناصحون صادقون وأنا رجل كسول فاشل لا أستطيع العمل، وهذا خيار صعب على النفس أن تقوله، فحينئذ يلجأ إلى الخيار الثاني: إنه لا يطيق أن يتحمل لا يطيق أن يضحي لا يطيق أن يهدر تلك الأوقات التي يقضيها مع أقرانه في انبساطة وأحاديث جانبية ويسافر هنا وهناك حيثما أراد فحينئذ يعمد إلى حيلة نفسية فينتقد العاملين ويتحدث عن أخطائهم، وقد يتحدث عن أخطاء واقعة فعلاً لكنه هو لا يعمل مثقال ذرة مما يعمله أولئك، والباعث إلى الحديث عن هذه الأخطاء كلها هو أوهام يفترضها أمام نفسه حتى لا يرى أنه مقصر ومهمل ويصارح نفسه بالحقيقة المرة.

معوقات المصارحة على المستوى الجماعي

معوقات المصارحة على المستوى الجماعي

خوف البلبلة وتفريق الصف

خوف البلبلة وتفريق الصف كل ما سبق على المستوى الفردي. أما على المستوى الجماعي فنمارس ذلك كثيراً، فمع هذه الصحوة المباركة واليقظة الخيرة لا بد من أخطاء وتجاوزات، والآن وقد اتسع نطاق الصحوة وامتد رواقها فكان لا بد من أن تكون الأخطاء مكشوفة والعيوب ظاهرة، وفي المقابل فالتصحيح لا مناص ولا سبيل له إلا أن يكون تحت ضوء الشمس وبمستوى وضوح الأخطاء. ولست أدري متى نتجاوز تلك المرحلة التي نمارس فيها دفن الأخطاء ومواراة العيوب والتستر على الحقائق باسم المصلحة، ومتى ننتهي من إشهار سلاح إثارة الفتنة والبلبلة في وجه الناصح والمنتقد، ويصبح هذا السلاح عصاً يلوح بها بين حين وآخر، فنمارس ألوان الإرهاب الفكري في وجه من يدعو إلى التقويم ومن يدعو إلى التصحيح ويسعى للإصلاح. إن هذا هو المعوق الأول للمصارحة، أعني: خوف الفتنة والبلبلة وتفريق الصف، فنمارس دفن الأخطاء والعيوب والتستر عليها حتى لا يكون هناك فتنة وحتى لا يكون هناك بلبلة في وسط الصحوة، حتى تأتي الطامة الكبرى والبلبلة الكبرى بعد ذلك.

عقدة القنوات الخاصة

عقدة القنوات الخاصة والمعوق الثاني: عقدة القنوات الخاصة، هنا من ينادي وبصدق أن نقد المربين يسمعه المتربون ونقد الأساتذة يقرؤه الطلاب، ونقد الآباء صار بمحضر الأبناء، ومن ثم يدعو أولئك إلى أن يكون النقد من خلال قنوات وزوايا خاصة، هذه القنوات ليس لها وجود إلا في أذهان أصحابها، نعم يستطيع الأب أن يوجه اللوم للأم بلقاء خاص ويستطيع مدير المدرسة أن ينتقد الأساتذة وحدهم، لكن قطاعات الصحوة أكبر من ذلك كله، والحديث عن أخطائها لا يمكن إلا من خلال كلمة تسجل وتسمع في الآفاق من الجميع، أو مقالة تطبع وتقرأ من الكافة، وحين يسمع الجميع عن الخطأ كان ماذا؟ أليس هذا مدعاة أن يعلموا أن قضيتهم في أيد أمينة أليس هذا مدعاة أن يعلموا أن هناك من يتحدث بالنيابة عنهم. معشر الإخوة الكرام! إن أخطاءنا لم تعد سراً ولم تعد خافية، فنحن مثلاً حين نتحدث أن أخطاء المربين فسيسمع بها المتربون حتماً ويقرئونها؛ لأنه لا مجال للحديث إلا تحت ضوء الشمس، فأي الطريقين خير لنا: أن يعيش أولئك المتربون وهم يرون الأخطاء بأم أعينهم أو يسمعونها حينئذ من الناصحين فيدركون أن هناك من يتحدث بالنيابة عنهم، وهنا من يحامي عن أخطائهم، وهناك من يطالب بحقوقهم ويصححها؟ إن مشكلتنا -معشر الإخوة الكرام- من عقدة التلازم بين الخطأ والانحراف، فنتصور أن من وقع في الخطأ فهو منحرف أن من أخطأ مرة فهو فاشل، وتهربنا من هذه العقدة التي نفترضها يريحنا كثيراً من هاجس التخوف من المصارحة، فنريد أن نتحدث وبوضوح ونقول: هذه أخطاؤنا ونحن مع ذلك ناجحون هذه أخطاؤنا ومع ذلك لم نفشل، فهل نصل معاشر الإخوة الكرام إلى هذا المستوى من النضج والتفكير؟ فنتحدث عن الأخطاء والزلات ونحن نشعر أن تجاربنا ليست فاشلة، وهذا هو النتاج الذي نراه الآن بأم أعيننا، إنه نتاج النجاح الذي لا يستطيع أحد أن يتصور أنه نتيجته وحده وأنه ثمرة جهده وحده، فهو نتاج جهد الجميع. إن هذا النتاج الذي نراه ليس إلا دليلاً واضحاً على النجاح ولكن فشلنا في تجربة لا يعني أننا فاشلون، وخطؤنا مرة لا يعني أننا قد فقدنا الصواب حتى النهاية.

خوف استثمار الأعداء

خوف استثمار الأعداء والمعوق الثالث: استثمار الأعداء مما يعيق المصارحة عند البعض: التخوف من استثمار أعداء الصحوة لهذه الأخطاء والاتكاء عليه، مع أن هذه الأخطاء لم تعد سراً وأمراً لا يدركه إلا الخاصة، وسيأتي مزيد حديث عن هذا الجانب عند الحديث عن المنهج القرآني.

التبرير بأن الخطأ حتم لا ينفك عنه البشر

التبرير بأن الخطأ حتم لا ينفك عنه البشر المعوق الرابع: لا ينجو أحد من الخطأ: إن البشر من طبيعتهم الخطأ والقصور فهو ملازم لأعمالهم وجهودهم، لكن أيسوغ أن يكون ذلك عذراً لارتكاب الخطأ والتهاون والإهمال، فحين تنتقد وتطلب الإجابة عن خطأ يرتكب يقال لك: إن الخطأ من صفات البشر والقصور ملازم لأعمالنا، فكيف يسوغ لنا أن نحتج دائماً على أخطائنا وتقصيرنا وإهمالنا بأن الخطأ ملازم للبشر، ولا يسوغ لمن يقع في الكبائر أن يحتج هو الآخر بأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. إن العصمة لغير الأنبياء مطلب مستحيل ولا شك، بل واعتقاد ذلك خلل في المنهج وانحراف في المعتقد، فلا بد من الخطأ والتقصير، لكن هذا شيء وكون هذا يعتبر سلاحاً يشهر في وجه الناصح، ووسيلة للدفاع عن الأخطاء شيء آخر. إنه لا يسوغ لنا أن نستر عيوبنا وأخطائنا وندافع عنها بحجة أن البشر يقعون في الخطأ ويقعون في القصور ولا بد.

وقفات مع المنهج القرآني في المصارحة

وقفات مع المنهج القرآني في المصارحة أخيراً: بعد هذه المعوقات للمصارحة سواء كانت على مستوىً فردي، أو على مستوىً جماعي، وبعد تلك الأعذار والأساليب والحجج التي نفتعلها لتكون عائقاً لنا وحاجزاً عن الوصول إلى الحقيقة، بل نسلكها لتكون وسيلة لممارسة الكذب على أنفسنا؛ نقف وقفات مع المنهج القرآني:

القرآن الكريم يعاتب رسول الله وهو بين المشركين في مكة

القرآن الكريم يعاتب رسول الله وهو بين المشركين في مكة إننا نقرأ القرآن معشر الإخوة الكرام، فنقرأ فيه عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل وفي سورة مكية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:1 - 11]. فيعاتب الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى ويقرؤها المسلمون جمعياً، بل ويسمعها كفار مكة، ويجهر بها صلى الله عليه وسلم ويقرأ بها في الصلاة أمام الناس، ومع ذلك لم يكن هذا العتاب منقصاً لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم. كان بالإمكان أن يكون هذا العتاب رؤيا يراها صلى الله عليه وسلم ورؤيا الأنبياء وحي، أو كلمة يقولها له جبريل، أو أي نوع من أنواع الوحي يوحيه الله عز وجل، لكن لحكمة بالغة يأتي هذا العتاب قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيامة عتاباً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة المثلى ليكون ذلك قدوة ومنهجاً يسلكه الناس.

مصارحة الصحابة وعتابهم في مكة

مصارحة الصحابة وعتابهم في مكة ونقرأ كثيراً عتاباً صريحاً، بل أحياناً قاسياً ووعيداً للجماعة المسلمة ولأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على شتى مراحل الدعوة، فنقرأ في القرآن المكي قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

مصارحة المسلمين بعد غزوة بدر

مصارحة المسلمين بعد غزوة بدر ويهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ويستقر هناك، ويعيش المسلمون ويخوضون أول معركة كانت فرقاناً بين الحق والباطل -وهي معركة بدر- وصارت تلك المعركة شهادة لكل من خاضها وعاش فيها: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومع ذلك يواجه أولئك بعتاب يقول الله عز وجل فيه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67 - 68] إنه عتاب يأتي لأهل بدر.

مصارحة المسلمين بعد غزوة أحد

مصارحة المسلمين بعد غزوة أحد ثم تدور الأيام وتأتي بعدها غزوة أحد، ويعاتب أولئك أيضاً في عتاب صريح وإيقاف لهم على مكمن الداء وأساس المشكلة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران:152 - 153]. {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران:154]. {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]. ولهذا قال أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعلم أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.

مصارحة المسلمين بعد حادثة الإفك

مصارحة المسلمين بعد حادثة الإفك ولا يتوقف العتاب، فيتكرر في حادثة الإفك حين أشاع أحد المنافقين فرية ماجت في صف المجتمع المسلم، فجاء ذاك العتاب والوعيد الشديد، يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:14 - 17].

مصارحة المسلمين بعد غزوة حنين

مصارحة المسلمين بعد غزوة حنين وفي غزوة حنين وهي من آخر المشاهد، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].

المصارحة بالخطأ لا تمنع من الفضيلة وعلو المنزلة

المصارحة بالخطأ لا تمنع من الفضيلة وعلو المنزلة وهكذا نقرأ في القرآن الكريم آيات عظيمة كثيرة يواجه فيها المسلمون ويواجه فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعتاب يسمعه المنافقون أعداء الله ورسوله ويسمعه اليهود أهل الكتاب ويسمعه كفار قريش والمشركون الذين يتربصون الدوائر، ويبقى هذا القرآن يتلى إلى قيام الساعة، ومع ذلك كله لم يكن مانعاً من أن يكون أولئك خير القرون، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). ولم يكن ذلك كله مانعاً من أن يكون أولئك أمنة لهذه الأمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). ولم يكن ذلك مانعاً من أن يكون أولئك كلهم ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]. ولم يكن ذلك مانعاً من أن يكون أساس النجاة ومعيار النجاة إلى يوم القيامة هو اقتفاء أثر ذلك الجيل. أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله! قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). معشر الإخوة الكرام! كان ذلك النقد تواجه به الأمة ويواجه به المجتمع صريحاً واضحاً تحت ضوء الشمس، وفي وضح النهار، وفي آيات تتلى ويقرؤها الجميع، ويسمعها الأعداء والمنافقون وأهل الكتاب والمشركون، كان ذلك النقد ضرورة للتربية ضرورة للبناء ومع ذلك لم يكن هذا النقد كله معوقاً لذلك الجيل ولتلك النخبة أن تصل إلى تلك المنزلة، فما بالنا نريد أبراجاً عاجية! وما بالنا نفرض حول أنفسنا أسواراً من الأسلاك الشائكة! لخوف النقد الذي نتصور أنه يعني الفشل نتصور أنه يعني إثارة الفتنة أنه يعني إثارة القلاقل أنه يعني استثمار الأعداء لهذه الفرص إلى غير ذلك من الأوهام التي نفتعلها لنخادع أنفسنا، ولنمارس نحن حجب الحقائق عن أنفسنا ولنمارس صنع الركام وصنع العشا على أعيننا حتى لا نرى الحقيقة، وخير لنا أن نرى الحقيقة!

النتائج المرة لعدم المصارحة

النتائج المرة لعدم المصارحة أيها الإخوة! هل بقي بعد ذلك من حاجة إلى أن نقتنع بأننا بحاجة بل بضرورة إلى المصارحة، وحين تتخلف هذه المصارحة فما النتائج المرة لتخلفها؟

تراكم الأخطاء حتى الوقوع في الهاوية

تراكم الأخطاء حتى الوقوع في الهاوية أقول أولاً: إن المصارحة ولو دون تصحيح الخطأ خير لنا على كل حال، إننا حين نكون صرحاء سواءً كنا أفراداً أو جماعات نكون واضحين، فنقرر أننا نحن مخطئون وأننا نتحمل المسئولية كاملة وهذا خير لنا ولو فشلنا في علاج الخطأ، أو لم نكن نملك الحل، فأن نعرف الواقع خير من أن نخادع أنفسنا ونتصور أننا على طريق سليم، وأننا على الجادة، ولا نكتشف ذلك إلا حين تقع القاضية.

استفحال الأخطاء واستمراؤها

استفحال الأخطاء واستمراؤها ثانياً: إن ممارسة حجب الحقائق على أنفسنا سواءً كنا أفراداً أو جماعات مدعاة إلى استفحال الأخطاء واستمرارها واستمرائها حتى تحول الأخطاء إلى جزء من تفكيرنا أصلاً، فنصبح نحن نتفكر بمنظار هذه الأخطاء، وبعد ذلك نستنكر على كل ناصح ومنتقد.

فتح باب النقد للمرتزقة والوصوليين

فتح باب النقد للمرتزقة والوصوليين ثالثاً: إن عدم المصارحة مجال لفتح الباب على مصراعيه أمام من ينتقد وهو لا يريد الإصلاح، هناك من يرتزق ويكتسب من نقد الصحوة والطعن في رموزها وبرامجها ووسائلها، وهي قضية لم تعد خافية على أحد. أتدرون معشر الإخوة الكرام! أننا حين نمارس حجب الحقائق وحين نسكت الأصوات الناصحة الصادقة فإننا نفتح المجال لأولئك المرتزقة، لأن أولئك الذين يتاجرون لا بد أن ينطلقوا من أخطاء تقع فعلاً فيضخمونها ويستعملون كل أنواع المضاعفات العددية فيضرب العدد في أضعافه ثم يربعه بعد ذلك حتى يجعل من الجزء اليسير خطأ شنيعاً ظاهراً أمام الناس، فيتحدث مع أولئك الذين لم يعتادوا أن يسمعوا إلا الثناء ولم يعتادوا أن يسمعوا النقد فيرون فعلاً أن هناك خطأ وأن أولئك يتحدثون عن واقع فيجتمعون ويستجيبون لأولئك المنتقدين. لكن لو بنينا منهجاً من النقد الذاتي الصريح وكنا صرحاء واضحين، وسمحنا للصوت الناصح الذي يتحدث بحكمة فينتقد الأخطاء ويضعها في موضعها الشرعي لما وجد أولئك مجالاً، ولكان أقلنا تفكيراً وأضعفنا إدراكاً يستطيع أن يقول وبأعلى صوته لأولئك: نعم، إن ما تقوله فيه جزء من الحقيقة ولكن هذا لا يعني الفشل ولا يعني أن كل ما تقوله هو الحق ولا يعني سلامة نيتك ومقصدك وإرادتك. إنه لا سبيل لتجاوز هذه العقبة، ولا سبيل لإسكات تلك الأصوات إلا ببناء منهج للنقد واضح صريح نتحدث به عن أخطائنا تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار، وإلا فلنعلم أن هذا سينشئ أولئك الذين لا يجيدون النقد سواءً كانوا عن حسن نية أو كانوا عن سوء نية، ولا يهمنا نيتهم، المهم: أن إسكات الأصوات الصادقة التي تجيد النقد والنصح مدعاة لإظهار وبروز تلك الأصوات النشاز الأصوات الشاذة التي لا تعرف المنهج السليم، فتدعو إلى إسقاط كل هذا العمل وذاك الجهد بحجة هذا الخطأ أو ذاك.

السقوط في النهاية

السقوط في النهاية رابعاً: من نتائج حجب الحقائق: السقوط في النهاية؛ لأن الحواجز التي نفترضها تبقى حواجز مؤقتة فلا بد أن يكتشف الناس الخطأ بعد ذلك، ولأضرب لكم مثلاً واقعياً: الجهاد الأفغاني: بدأ الجهاد في وقت نسيت فيه الأمة الجهاد حتى صار من يدرس في الفقه يترك باب الجهاد؛ لأنه يشعر أنه يتحدث عن غير الواقع، فقام هذا الجهاد وأحيا هذه الفريضة في الأمة، وكان طبيعياً أن يكون هذا الجهاد فيه خطأ وفيه قصور وفيه تجاوزات والجهاد الأفغاني والأمة الأفغانية جزء من الأمة لا يمكن أن نفصل أمراض الأمة عن أمراضها، فكان طبيعياً أن تمتد العدوى بأمراض الأمة إلى الجهاد الأفغاني ومن باب أولى أن تمتد أمراض العمل الإسلامي والصحوة إلى الجهاد الأفغاني، فكان في الصف منافقون كان في الصف وصوليون كان في الصف من يريد السلطة كان في الصف فرقة وفتنة كان في الصف أخطاء، ومع ذلك كله لم تكن تلك الأخطاء مخرجة للجهاد عن كونه جهاداً شرعياً قام بواجب شرعي يجب على الأمة أن تدعمه وأن تقف معه، ولكن ما الذي كان يدور؟ كنا نتحدث في ذاك الوقت وبعاطفة جياشة عن أولئك المجاهدين وكأنهم صحابة أو تابعون، ونبالغ في سوق الكرامات والقصص والتي كثير منها لا أصل له، وكثير منها ربما كان مصدره ممن تعرفونهم من أصحاب الطرق وغيرهم ممن يتاجرون بمثل ذلك، ونساهم في إخفاء الحقائق أمام الناس، وحين يقع خطأ ظاهر نسارع في البحث عن تزويقه وتزيين الصورة، فهذا الخطأ يفتعله الأعداء الأعداء هم الذين يسعون إلى تفريق المجاهدين الأعداء هم الذين يفعلون الأعداء هم الذين يحيكون المؤامرات. وحين يدخل رجل منافق في الصف فيقال: ليس صحيحاً هذا الأمر لقد تاب لقد رجع إلى الله عز وجل إلى غير ذلك، وحين بدت أصوات ناصحة تحذر المجاهدين فتقول لهم: إن في الصف منافقين لا بد من تنقية الصف لا بد من المراجعة لا بد من المحاسبة، ووجهت تلك الأصوات الناصحة في أن مرادها الطعن في الجهاد وأن هذا يعني الوقوع مع الأعداء في خندق واحد ويعني الوقوف ضد الجهاد إلى غير ذلك، وصارت تمارس ألوان الإرهاب الفكري ضد هؤلاء بأنهم ضد الجهاد بأنهم يثبطون بأنهم بأنهم إلى غير ذلك. وحين تواجه هذا المتحدث في لقاء خاص وحديث صريح يقول لك: أعترف بأن هناك أخطاء ولكن حين نقول هذه الأخطاء أمام العامة ماذا يصنع العامة؟ لن يدعموا الجهاد فمن المصلحة أن نستر هذه الأخطاء والعيوب، وحين تقوم الدولة الإسلامية بإذن الله ستتجاوز هذه الأخطاء والعيوب. وكان ما كان وحان قطف الثمرة، وصارت النتيجة التي سمعتم عنها، فتخلى الكثير من الناس عن الجهاد حتى سمعنا ممن ذهب ابنه شهيداً بإذن الله في تلك البقاع من يتندم ويبكي يقول: كيف ذهب ابني شهيداً في هذه الصفوف، وسمعنا العامة يقولون: إن أولئك دجالون كذابون أخذوا أموالنا إلى غير ذلك، وصاروا يتهمون الدعاة بأنهم خدعوهم، أو أنهم مغفلون خدعوا إلى غير ذلك. أرأيتم ما النتيجة التي جنيناها؟ فما رأيكم لو كنا صرحاء من البداية؟ وقلنا للناس: معشر المسلمين! إن هذا جهاد فيه أخطاء فيه كذا وكذا، ولكن هذه الأخطاء لا تمنع من التصحيح. ولو كنا نقول وبوضوح للمجاهدين: إن لديكم أخطاء فصححوا كذا افعلوا كذا اصنعوا كذا، لكان هذا مدعاة أن يعي الناس وأن يستعدوا حتى ولو لم يصحح الخطأ لقبول النتيجة المؤلمة التي صار إليها الواقع والتي صار الجميع يتندمون فيها على تلك الأموال التي يظنون أنهم أضاعوها هدراً وذهبت هدراً. إننا نحن المسئولون عن هذه النتيجة؛ لأننا مارسنا حجب الحقيقة. ولنتجاوز هذا الحدث ولا داعي لإثارة الماضي، والرجل الجاد ينظر إلى ما أمامه، فلنعتبر بتلك الأحداث ولنكن في المستقبل صرحاء مع أنفسنا صرحاء مع الناس ولنعرف أننا مهما مارسنا حجب الحقائق، ومهما مارسنا افتعال الأسوار الشائكة، فإن الناس لا بد أن يعرفوا الحقائق. فخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا أفراداً وجماعات مع الناس ومع أنفسنا حتى لا نحصد تلك الثمرة والمرارة المؤلمة.

آداب المناصحة والمصارحة

آداب المناصحة والمصارحة وأخيراً: فمع الدعوة للمصارحة لا بد من الاعتدال والتوازن، فلا يفرط الفرد ويبالغ في النظر إلى أخطائه فيحمل نفسه أخطاء لا يتحملها بحجة المصارحة، أو يبالغ فلا ينظر إلى نفسه إلا من زاوية واحدة وهي زاوية الخطأ، فحينئذ يصل إلى نهاية مفادها أنه لا يحمل إلا الأخطاء. وعلى مستوى الجماعة أيضاً فليس كل ما يعلم يقال، ولكل مقام مقال، ونحن حين نطالب بالنقد الواضح والصريح فإن هذا لا يعني أن نتحدث عن كل خطأ نعلمه في كل مناسبة وكل لقاء. وحين ندعو إلى المصارحة فإن هذا لا يعني أن يغيب عن بالنا أيضاً المنهج الشرعي في النقد والنصح وهذا أمر معروف للجميع، وليس هذا وقت التفصيل في الحديث عنه، ولكن أقصد أننا حين نتحدث عن الدعوة للمصارحة سواءً على مستوى الفرد أو الجماعة فإننا مع ذلك يجب أن نعلم أن هذا ينبغي أن يبقى في دائرة التوسط والاعتدال، فلا نفرط نحن معشر الأفراد في النظر إلى أخطائنا وعيوبنا فنحمل أنفسنا أخطاء لا نتحملها، ولا أيضاً نفرط في الحديث عن أخطاء الصحوة بمناسبة أو غير مناسبة مما يكون مدعاة إلى الخلل بالمنهج الشرعي ونشوء مفاسد تترتب على ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

تنبيه على لفظ حديث الإخبار عن خيرية القرون الثلاثة

تنبيه على لفظ حديث الإخبار عن خيرية القرون الثلاثة Q ذكرت حديث (خير القرون) ولكن لفظه في الصحيحة: (خير الناس قرني) هذا ما قاله الإمام ناصر الدين الألباني. A نشكر الأخ على تنبيهه، فالإنسان مع الحديث والاستمرار فيه قد لا يستحضر النص كاملاً، وقد يخطئ في الآية وهو يحفظها، فهذا أمر طبيعي، ونشكر الأخ على تنبيهه، وطيب أن يكون بيننا مثل هذا التواصل والتنبيه، فقد يكون الخطأ ناشئاً عن سهو أو سبق لسان، وقد يكون الخطأ ناشئاً عن كون المرء حفظ الحديث خطأً أو أنه وقع في مثل هذا الخطأ، فنشكر الأخ على تنبيهه ونأمل أن يستمر مثل هذا السلوك عند الإخوان جميعاً.

التفريق بين النصيحة والفضيحة

التفريق بين النصيحة والفضيحة Q إن مما يفهم من خلال حديثك أنك ما فرقت بين المناصحة على انفراد والفضيحة بين البشر، مع العلم أن منهج تصويب الخطأ هو منهج قرآني، ومع أنه تصويب لكنه تصويب يظهر في أحسن كلام وأجمل عبارة إلى آخر السؤال A يعني: أظن أننا أشرنا إلى هذا في آخر التنبيه، والأخ معذور؛ لأنه كتب السؤال مبكراً.

تدارك الخطأ في المستقبل

تدارك الخطأ في المستقبل Q قد يستطيع الشخص أن ينتقد ويعرف أن هذا تصرف خطأ لكنه إذا صار في مكان ذلك الشخص المخطئ يقع فيه وهو لا يدرك ذلك؛ هذا لأنه إذا صار في مكان المواجهة يرتبك بينما إذا زال عنه يفكر بهدوء ويعرف ذلك فما رأيك؟ A نعم، هذا وضع طبيعي، أنت الآن مثلاً عندما تقيم كلاماً تستطيع أن تستخرج عليه أخطاء كلحن في الكلام أو خطأ استشهاد أنا لو أخذت الشريط واستمعت إليه بهدوء بعد ذلك أستطيع أن أكتشف الأخطاء، لكن وأنا أقوم في العمل لا أستطيع ذلك، وهذا لا يمنع من أن نتواصل بالمناصحة واكتشاف الأخطاء، وأن الإنسان إذا اكتشف أخطاءه يكون هذا مدعاة إلى أن يتداركها فيما بعد.

استمرار ظهور الأخطاء

استمرار ظهور الأخطاء Q بعد أن صارحت نفسي وجدت الأخطاء فاستطعت أن أعالج كثيراً من الأخطاء، ولكن Q ظهرت أخطاء كثيرة غير الأولى فأحسست أني أغرق في الأخطاء، فأنا أعالج من هنا وتظهر أخطاء من هنا، فما الحل وإلى متى؟ A الحل أن تستمر، أولاً: أنت تتصور أن يأتيك وقت لا تستطيع أن تكتشف الأخطاء؟ وهذا لن يأتيك إلا إذا انغلق التفكير، وإلا فالإنسان لا بد أن يقع في الخطأ، فاكتشافك الخطأ لا يعني أن يكون مدعاة للشعور بالفشل. ثم أنت عادة تنظر إلى الخطأ وتنسى جوانب الصواب وجواب الإبداع التي في نفسك؛ لأنك دائماً لا تنظر إلا إلى الخلف، الآن المسجد الذي عندنا لو نظرنا إليه مثلاً مع ما فيه من الزينة -وإن كان الأولى اجتناب ذلك- فإذا كانت سلمية ليس فيها مشكلة فإنها لا تلفت انتباهنا، لكن لو كان فيها خلل فإن كل واحد يدركها واضحة الإضاءة التي في المسجد لو كان فيها مصباح واحد لا يضيء فإن كل واحد منا يراه. فالخطأ يرى بوضوح، أما الصواب فلا يرى؛ ولهذا فأنت عندما تركز على الأخطاء وحدها تتضخم عندك فتتصور أنك أصبحت -كما تقول- غارقاً في الأخطاء، ومهما كان فاكتشافك للأخطاء دليل على نجاحك، ودليل على أنك بدأت تسير في الطريق الصحيح، فاستمر في علاج الأخطاء.

اعتذار المربي عن التقصير والخطأ

اعتذار المربي عن التقصير والخطأ Q ما رأي فضيلتكم في المربي الذي يعتذر عن بعض التقصير فيه بسبب وجود هذا التقصير في المربين؟ A قد يكون هذا سبباً لكنه ليس عذراً، وفرق بين الأمرين، أضرب مثالاً: إنسان خرج للسوق يريد أن يشتري كتاباً فرأى امرأة متبرجة ففتنته ثم استمر معه الأمر حتى وقع في المعصية، فتبرج هذه المرأة هو السبب في وقوعه في المعصية لكن هل هذا عذر له أمام الله؟ ليس عذراً. وإذا فرقنا بين الأمرين عرفنا، فأنت إنسان مكلف تتحمل المسئولية ويجب أن تعرف أن المربي لك أياً كان مستواه وإدراكه لا بد أن يكون عنده قصور لا بد أن يكون عنده خطأ، فيجب أن تكون على مستوى أنك ترتفع إلى مستوى إدراك أخطاء المربي وتجاوزها، وكل مرب فيه سلبيات وأخطاء لا يعني أن ترفضه، بل لا بد أن يكون فيمن يربيك والدك وأستاذك أو شيخك أياً كان لا بد أن يكون فيه أخطاء وسلبيات، وقد تدركها أنت واضحة بأم عينك لكن هذا لا يعني فشله بحال، فأنت يجب أن تتجاوز السلبيات والأخطاء وتستفيد مما عنده. وإذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

النقد الشرعي المنضبط

النقد الشرعي المنضبط Q عندما ينتقد بعض المربين أو المشايخ تقوم بعض الأنشطة بنشر هذا النقد على شكل خلاف بين الطرفين، ما يثير الشك في ضعاف الإيمان ويقيم ثغرة الأعداء ومرضى القلوب، هذا كله يمنع من النقد فما الحل؟ A مرة أخرى أقول: نحن حينما ندعو إلى النقد المنضبط ندعو إلى النقد الشرعي، كوني أنا مثلاً أنتقد واحد من الناس المشهورين بالخير والصلاح والدعوة في محضر من الناس هذا أمر غير لائق وأمر غير شرعي، وبإمكاني أن أصحح الخطأ بصورة وأخرى، فدعوتي للنقد لا تحملني مسئولية أي نقد آخر غير منضبط، فأنا لا أدعو إلى النقد المفتوح على مصراعيه وإنما إلى النقد والمصارحة المنضبطة بالضابط الشرعي.

التبرير للتقصير بعدم صلاح المجتمع

التبرير للتقصير بعدم صلاح المجتمع Q يوجد معي شاب في العمل يريد الهداية ويقول: إن المانع أنه لا يوجد شباب صالحون في الحي الذي يسكنه، فما الحل؟ وجزاك الله خيراً، أرجوا الدعاء ولإخواني الموجودين من المسلمين الثبات على دين الله عز وجل. A هذا من أساليب التبرير افرض أنك أنت موجود في مجتمع كلهم كفار فهل هذا عذر لك؟! وإذا كان جاداً يعرف أنه سيلقى الله، وليست القضية أن ينظر طريق الخير إن استطاعه وإلا فلا شيء عليه، فليعلم أنه طريق واحد وليس أمامه خيار في سلوكه، وأن البديل هو الخسارة؛ ولهذا فهو يخادع نفسه. أضرب لك مثالاً هذا في العمل، هل العمل مثل إنسان تخرج الآن من الجامعة ويريد أن يتوظف فقالوا له: لا يوجد وظيفة إلا في قرية بعيدة أو في مكان بعيد يحتاج أن تسكن بعيداً وإلا فلن تتوظف، هل ممكن أن يقول: لن أتوظف لم أجد وظيفة؟ لا، بل سيكون عنده استعداد أن يمشي ستين كيلو على التراب حتى يعمل ويتحمل من أجل الوظيفة؛ لأنه يعرف أنه ليس له إلا هذا الخيار. واحد لم يجد قبول في الجامعة فإنه يذهب إلى جامعة أخرى منطقة أخرى لأنه يبحث عن الدراسة ولأنه مصر على الهدف، فإذا كان هذا الإنسان جاداً استطاع أن يجد الناس الصالحين وإذا بحث عنهم وجدهم ولو في غير حيه. يا أخي! إذا كنت جاداً ومشكلتك أنك نذرت لله يميناً ألا تصاحب إلا من في حيك فلك مجال غير الكفارة وهو أن تنتقل إلى حي آخر غير هذا الحي، وأظن الهداية وطريق الخير يستحق أن تبذل هذا الثمن، مع أنك لو كنت جاداً لوجدت طريقاً بسهولة وأنت ساكن في حيك وبين عشيرتك.

المنهج المنحرف في النقد

المنهج المنحرف في النقد Q ألا تعتقد أن العنف في معالجة الأخطاء من الآخرين والخوف من قسوة العقاب، من أسباب الهروب من المصارحة؟ A من ضمن الأسباب المنهج المنحرف في النقد والمصارحة أعني أن هناك مناهج منحرفة في النقد موجودة في الساحة الآن، وهي مدعاة لأن نرفض النقد لأننا أصبحنا نرفض ونتصور عن كل من ينتقد صورة أخرى، لكن أنا أقول: إن السبب في البداية أننا روجنا لهؤلاء بأننا لم نقم منهجاً للنقد، لكن لو كان هناك منهج واضح للنقد تربينا عليه لما كان هناك مجال لأولئك أصلاً أن يكون لهم وجود وثقل في الساحة.

حكم إسبال الثوب لغير خيلاء

حكم إسبال الثوب لغير خيلاء Q هذا الأخ يسأل عن حكم إسبال الثوب إذا كان لغير خيلاء ولا كبر؟ A إسبال الثوب محرم سواء كان لخيلاء أو لغير خيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جز إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، وفي الحديث الآخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي لنار) فالحديث الأول مقيد، والثاني مطلق، فاختلف الحكم فالحكم في الحديث الأول: أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة، والحكم الثاني أنه في النار، فلا يجوز أن نحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الحكم. ثم في حديث آخر صريح يزيل عنك الإشكال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أزرة المؤمن إلى نصف ساقه، فإن أبى فإلى الكعبين، ومن جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام ثلاثة: قسم يجعل إزاره إلى نصف ساقه أو إلى الكعبين. وقسم يجر إزاره خيلاء، هذا لا ينظر الله إليه. وقسم أسفل من الكعبين يعني: ليس عن خيلاء، فدل هذا الحديث على أن التحريم ليس قاصراً على الخيلاء. نعم، إذا جره خيلاء فهو معصية أخرى وعقوبة أشد؛ لأن عدم نظر الله إليه أشد من مجرد توعده بالنار، ثم إن هناك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ينكر فيها على المسبل دون أن يسأله عن قصده، ولو كان الإسبال خاصاً بالخيلاء لسأله: هل أنت تفعل ذلك خيلاء ولم تفعله خيلاء. بل في حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة) يعني: إسبال الإزار سبب أصل للمخيلة.

كيفية المحافظة على الإجازة باستغلالها في الخير

كيفية المحافظة على الإجازة باستغلالها في الخير Q هذا يسأل عن بعض الوصايا خلال الإجازة أو على الأقل بعض المقترحات المعينة على الحفاظ على الإجازة A نحن اليوم نودع الأسبوع الأول من الإجازة، لكن أقول: إننا يجب دائماً أن لا نتوقف، أحد الشباب في الحرم يسألني: أنا جاد وبدأت أستغل وقتي وأقرأ، لكن لا أجد الكتب المناسبة للقراءة! قلت: هل تعرف كتاب رياض الصالحين، قال: نعم. قلت: ما رأيك هل هو مناسب للقراءة؟ قال: نعم، قرأته؟ قال: لا. هل تعرف كتاب جامع الأصول؟ نعم، هل هو مناسب للقراءة؟ نعم، قرأته؟ لا، تعرف تفسير ابن كثير مناسب للقراءة؟ نعم، قرأته؟ لا. قلت إذاً: ليست مشكلتك أنك لا تعرف الكتب التي تناسب للقراءة لكن هذا أسلوب من أساليب عدم المصارحة مع النفس، ومشكلتك أنك ليس عندك عزيمة على القراءة. فأقول: الناس يختلفون في مستوياتهم وقدراتهم وطاقاتهم، فكل يحفظ وقته بما يرى أنه بحاجة إليه، فمثلاً: بعض الشباب يرى أنه ينبغي أن يوفر وقتاً لحفظ القرآن في الإجازة البعض مثلاً في حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ بعض المتون في قراءة في دعوة البعض في برنامج هنا أو هناك فالناس يختلفون على حسب مواقعهم، المهم أن الهاجس عندنا هو أن نحفظ وقتنا. وأصلاً كونك تضع برنامجاً للناس كلهم فهذا خطأ؛ لأني عندما أقول لك مثلاً: اجتهد في حفظ القرآن قد تكون أنت حفظت القرآن عندما أقول لك: احفظ السنة أو جزءاً من السنة قد تكون لم تحفظ القرآن والأولى أن تبدأ بحفظ القرآن، فأهم شيء أنك تعرف ما الشيء الذي تحتاج إليه، ثم تجتهد في أن ترسم برنامجاً يعينك على حفظ إجازتك أو على حفظ وقتك فيما أنت بحاجة إليه. ثم أيضاً مع هذا نتخلص من عقدة الإجازة، أعني أن هناك أوقاتاً نهدرها غير الإجازة.

اقتراح محاضرة

اقتراح محاضرة Q نشكركم على شريط: يا أبت! وأنا أول من استفدت منه، وأهديته لوالدي فكان لهذا أكبر أثر عليه، وليتنا أن نرى شريطاً بعنوان: يا بني! على غرار: يا أبت! أولاً وإخواني ثانياً. A هناك فكرة، لكن ذلك قد يطول ولا يأخذ وقتاً، وهذا أدعى أن تكون المحاضرة ناضجة وتجتمع فيها الأفكار، وهو اقتراح وجيه، وأتمنى أن الأخ عندما يقترح موضوعاً يقترح بعض العناصر وبعض الأفكار وإذا كان يعرف مراجع تكلمت عن الموضوع فليفدنا بها حتى يكون الموضوع متكاملاً، فأحب أن يكون هناك تواصل ومراسلة مثلاً، سواء في اقتراح موضوعات أو عناوين أو ملاحظات أو انتقادات أو غيرها. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم متحابين بجلاله، وأن يجعلنا وإياكم ممن اجتمعوا لأجله سبحانه وتعالى، وأن يمن علينا وعليكم في هذا المجلس العظيم المبارك بالتوبة الصادقة النصوح، وأن يكفر عنا سيئاتنا وذنوبنا، وأن يرزقنا سبحانه وتعالى العلم النافع والعمل الصالح. وأكرر شكري في نهاية هذا اللقاء للإخوة في مركز الدعوة في مكة على هذا البرنامج الحافل الذي نظموه، والذي هذه المحاضرة ليست إلا جزءاً يسيراً منه، وأيضاً نكرر شكرنا لهم على حسن ظنهم ودعوتهم لنا، ونسأل الله عز وجل أن نكون عند حسن ظنهم، وأن يجعلنا خيراً مما يظنون بنا، وأن يغفر لنا ما لا يعلمون. هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

لبيك اللهم لبيك

لبيك اللهم لبيك الحج شعيرة من شعائر الإسلام، والقيام به هو استجابة لأمر الله عز وجل، وإن الناظر ليجد الحجيج من المسلمين يستجيبون لأمر الله عز وجل ويلبون نداءه ويعملون بما أمر في الحج وينتهون عما نهى رغم انطواء الحكمة من وراء ذلك؛ لكنهم ما أن ينتهوا من النسك ويعودوا إلى بلدانهم حتى ينهمكوا في المحرمات ويرتكبوا المناهي بكافة صورها ومراتبها، فكان من المهم أن يتعلم المرء من الحج الدروس والعبر التي تنفعه في سائر حياته.

وقفات حول التلبية

وقفات حول التلبية

الاستجابة لله ينبغي ألا تعقبها مخالفة

الاستجابة لله ينبغي ألا تعقبها مخالفة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد. فهذه هي أول ليلة من هذا الشهر الحرام شهر ذي القعدة، ونحن نستقبل جميعاً وإياكم موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة من أيام الله سبحانه وتعالى، تلك الأيام التي فضلها الله عز وجل على سائر الأيام، فما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، أي عشر ذي الحجة، وأفضل عمل صالح يؤدى في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام، ومن ثم أحببنا أن نقف في هذه الأمسية وفي هذا الدرس حول بعض المعاني المتعلقة بهذه الشعيرة العظيمة، ولهذا أقترح أن يكون عنوان هذا الدرس: لبيك اللهم لبيك، وهو لا يخرج عن العنوان المعلن فهي وصايا هامة. في هذا الدرس -معشر الإخوة الكرام- لن أتحدث عن أحكام الحج، ولن أتحدث عن آدابه، ولا عما ينبغي أن يفعله الحاج، أو عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج، وهي جوانب مهمة ولا شك ونحتاج إلى الحديث عنها كثيراً، وحين أختار ألا أتحدث عنها فإن هذا لا يعني بحال أني أرى أن ما أقوله هو أولى من ذلك، ولكني أردت أن أطوف وإياكم في هذه الأمسية حول واقع المسلمين الذين يفدون إلى بيت الله الحرام لنأخذ بعض الدروس وبعض الوقفات التي نتأمل فيها واقعنا جميعاً وخاصة واقع أولئك الحجاج الذين يلبون نداء الله عز وجل، ويأتون إلى هذا البيت ملبين مهلين، وأول قضية نقف عندها هي وقفات حول التلبية. الوقفة الأولى: ما إن يخلع الحاج ملابسه ويرتدي ملابس الإحرام حتى يجهر بهذا النداء وهذا الذكر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. إنه يعلن استجابته لله عز وجل استجابة بعد استجابة، يعلن استجابته لنداء الله سبحانه وتعالى ولأمره، ويكرر هذا ويصدح به على رءوس الملأ، ويتعبد إلى الله عز وجل بهذا الذكر، لكنك حين ترقب هذا الذي يلبي في سائر حياته ترى له شأناً آخر مع حدود الله عز وجل، إنه يتجرأ على أن يتجاوز حدود الله عز وجل، ويتجرأ على أن يخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، إنه يرى الأمر واضحاً أمامه مما أمر الله عز وجل به وافترضه عليه، ومع ذلك يترك هذا العمل عن عمد وسبق إصرار، وهو أيضاً يرى الأمر مما نهاه الله عز وجل عنه وحذره منه وتوعده عليه بأليم العقاب، ومع ذلك يتجرأ على مخالفة أمر الله عز وجل وعلى انتهاك حدوده، فأين تلك الاستجابة التي كان يعلنها وهو يقول: لبيك اللهم لبيك؟ أين ذاك الخضوع الذي لم يكتف بأن يكون سراً في نفسه حتى جهر به وأعلنه على رءوس الملأ استجابة لله عز وجل بعد استجابة، وخضوعاً لله سبحانه وتعالى بعد خضوع؟ إنه لو تأمل هذا المعنى لعاد به ذلك كثيراً ولفكر ملياً وهو يجهر بهذا الدعاء وهذا الذكر، ولعادت به الذاكرة إلى حياته تلك التي يسطرها بالصفحات المخالفة لأمر الله عز وجل، إن هذا الدافع الذي يدعوه إلى إعلان الاستجابة لأمر الله عز وجل على رءوس الخلائق ينبغي أن يدفعه للاستجابة لأوامر الله عز وجل ونواهيه في سائر حياته.

التلبية يجب ألا يعقبها الشرك

التلبية يجب ألا يعقبها الشرك الوقفة الثانية حول التلبية: لقد كان أهل الجاهلية يعلنون الشرك الصراح وهم يلبون ويجاهرون به، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! فجاء الإسلام بتلبية التوحيد والإخلاص، إنه إعلان للبراءة من الشرك بكل صوره وأبوابه، من الشرك في ربوبية الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بصفات الجلال والتعظيم فاعتقاد أن أحداً من البشر يشاركه سبحانه وتعالى الخلق أو الرزق أو أنه يملك الضر والنفع هو إشراك مع الله عز وجل المتفرد بالربوبية، وكم يتجرأ أولئك الذين يعلنون هذا الدعاء صباح مساء: لبيك لا شريك لك كم يتجرأ هؤلاء على الشرك بالله عز وجل في مقام ربوبيته، فيعطون تفويضاً لمن يسمونهم بمشايخ الطرق أو الأئمة أو غيرهم، يعطونهم تفويضاً في التصرف في الكون فيعتقدون أن فلاناً ينفع، أو أن فلاناً يضر، أو أن فلاناً بيده هذا الأمر أو ذاك. واعتقاد أن هناك من يملك التشريع للناس والتحليل والتحريم هو أيضاً خرق لسياج التوحيد، واستخفاف بالله عز وجل وعظمته، وهو القائل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. إنها قضية واضحة كل الوضوح لا لبس فيها ولا غموض ولا مجال فيها للمجادلة والمراء، إن إعطاء حق التشريع والإباحة والتحريم لأحد غير الله عز وجل خرق لسياج التوحيد وإشراك بالله عز وجل في ربوبيته، ويصدق على أولئك قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] فما بال هذا الرجل الذي يُعلن التلبية ويصدح بها نافياً للشرك عن الله عز وجل، يتجرأ في الإشراك بالله عز وجل ومنازعة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقد قرن الله عز وجل الحكم بشرعه بعبادته: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]. والتوجه لغيره سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب الحاجة إعلان ممن فعل ذلك أنه يجهل قدر الله عز وجل، وأنه لا يعظّم الله عز وجل حق التعظيم، وهو القائل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] وهو القائل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14] فما بال البعض ممن يعلن البراءة من الشرك هاهنا ويكررها، حين يعود إلى بلاده يتوجه إلى غير الله عز وجل فيدعو غير الله عز وجل، ويرغب إلى غير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إلى غيره عز وجل.

الجهر بالتلبية

الجهر بالتلبية الوقفة الثالثة حول التلبية: يسن الجهر بالتلبية، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الحج العج والثج) والمقصود به رفع الصوت بالتلبية وإراقة الدم في سبيل الله عز وجل، وحين أحرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلبون رفعوا أصواتهم فما بلغوا الروحاء حتى بحت أصواتهم. إنه مشهد جميل ورائع وصوت شجي وندي يملأ الميادين والأزقة والطرقات معلناً التوحيد لله عز وجل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! لكنك ترى المسلم الذي يجهر بالتلبية ويعلنها ويكررها ويرفع بها صوته، تراه حين يعود بعد ذلك إلى بلده يستحي أن يجهر بما ينبغي أن يجهر به، فهو يستحي أن يعلن انتماءه الحقيقي وولاءه لدينه، يستحي أن يصلي النافلة وربما صلاة الجماعة، يستحي أن يترك معاقرة الخمرة، يستحي أن يفعل ذلك أمام الناس وهو الذي كان يجهر بالتلبية لله عز وجل. إن هذا الشعور الذي يدفع المسلم للجهر بالتلبية ينبغي أن يدفعه إلى أن يجهر بانتمائه وبدينه وأن يعلنها صريحة واضحة أمام الناس: ها أنا مسلم أدعو الله عز وجل وأدعو إليه وأنتمي لدينه، ها أنا مسلم أتعبد لله عز وجل بفعل ما أمر واجتناب ما نهى ولو خالف ما عليه الناس.

الحج وإبراهيم

الحج وإبراهيم النقطة الثانية: الحج وإبراهيم.

الولاء لله ولدين الإسلام وأهله

الولاء لله ولدين الإسلام وأهله الحج يربط المسلم ويذكره بنبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو الذي بنى البيت، وهو الذي أذن في الناس بالحج فجاءوا رجالاً وركباناً على كل ضامر من كل فج عميق يستجيبون لهذا النداء، وهو الذي نبع ماء زمزم لابنه إسماعيل حين تركه وودعه وأمه، فنادته أمه قائلة: إلى من تتركنا إلى من تتركنا؟ فلا يجيب إبراهيم النداء ولا يلتفت إليها، ثم تسأله فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم فتقول: إنه لن يضيعنا. وتبقى تلك المرأة مع ولدها إسماعيل في واد غير ذي زرع، وحين يفارقهم إبراهيم يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:35 - 37] وتأتي حين يجوع ولدها ويبكي، تذهب ذات اليمين وذات الشمال، فتصعد الصفا وتصعد المروة وتتردد هنا وهناك حتى يمن الله عز وجل عليه بهذا الماء. إن المسلم هناك وهو يطوف بالبيت، ويصلي خلف المقام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويشرب ماء زمزم، وهو يتنقل بين هذه المناسك إنه يشعر بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم عليه السلام، وهذا يعني أولاً: أن هذا يشعره بالانتماء والولاء لإبراهيم عليه السلام، وللحنيفية التي جاء بها، إن إبراهيم هو الذي دعا الله عز وجل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] إن إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين من قبل، هو الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من بعده أن تتأسى به وأن تنتمي إليه. ما بالنا نرى هذا المسلم الذي يأتي إلى البيت والذي يشعره بالولاء لإبراهيم، نراه حين يعود إلى بلاده يوزع ولاءه ذات اليمين وذات الشمال، فهو تارة ينتمي لاتجاه قومي، وتارة لاتجاه وطني، تارة يتبنى منهجاً علمانياً، تارة يتبنى منهجاً يعارض الملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام. إنه هو الذي كان يطوف بالبيت وكان يصلي خلف المقام، وكان يطوف بين الصفا والمروة، هو الذي لا يستحي بعد ذلك أن يُعلن أمام الناس أنه قومي أو وطني أو علماني، إنه هو الذي يستقبل القبلة البيت الذي بناه إبراهيم كل يوم خمس مرات ويردد في صلاته: كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه هو هو الذي يوزع ولاءه وانتماءه، ولهذا يأمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تجهر بها صريحة وتعلنها واضحة في وجه من يدعوها لمنهج منحرف: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]. ولئن كان الله عز وجل قد أمر المخاطبين بها لأول مرة أن يقولوها في وجه من يدعوهم لليهودية، أو من يدعوهم للنصرانية، فهو أمر لمن يدعوهم بعد ذلك لنحلة أرضية أو مذهب مادي، إن أمة الإسلام حزب واحد، وجماعة واحدة، وأمة واحدة لا يعرف فيها المسلم الولاء إلا لمنهج واضح المعالم، ذاك المنهج الذي اختصه إبراهيم عليه السلام: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].

عدم صرف العبادة لغير الله تعالى

عدم صرف العبادة لغير الله تعالى ثانياً: إن منهج إبراهيم وملة إبراهيم لها معلم بارز وشعار ظاهر بيّنه الله لورثة إبراهيم، فقد اختصم اليهود والنصارى وكل منهم يدّعي أنه سائر على منهج إبراهيم، فجاء الوحي: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] إن مجرد نزاع أولئك على الانتماء له والادعاء بالسير وراءه لأعظم دليل على سمو الانتماء لهذا النبي الكريم، إن ملة إبراهيم هي كما حكى الله عز وجل: {كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وفي سورة الأنعام يقول حين أعلن بطلان إلوهية ما سوى الله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]. وفي سورة النحل يصفه الله عز وجل بذلك: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ثم يأمر الله عز وجل نبيه، والأمر له أمر لأمته من بعده: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]. أترى أخي المسلم وأختي المسلمة بعد ذلك أولئك الذين يصرفون العبادة لغير الله في شتى أنحاء بلاد المسلمين يحق لهم أن ينتسبوا وينتموا لإبراهيم؟ ومع هذا التأكيد على ملة إبراهيم فيوحي الله إليه محذراً إياه من الشرك ومبيناً له أن من أهم ما يقتضيه حج بيت الله الحرام إعلان البراءة من الشرك والخلوص منه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ثم يخاطب الله عز وجل أمة الإسلام في ثنايا آيات الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31]. وقد أخبر الله عز وجل في كتابه وهو العليم الحكيم أن الكثير ممن يدعي الإيمان يقع في الشرك فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فما بال البعض ممن يحج إلى البيت وينتسب لإبراهيم يقعون في الشرك ويتوجهون لغير الله عز وجل؟ أيظن أولئك أن مجرد الانتساب للإسلام كاف لخلاصهم من الشرك وقد قال الله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، أم يظنون أن مجرد إقرارهم بالإيمان والدين كاف وقد أخبر الله عز وجل أن أنبياءه لو أشركوا لحبطت أعمالهم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. لقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم وهم يتوجهون لأوثانهم بالعبادة ما كانوا يقصدون عبادة تلك الأوثان، بل كانوا يتخذونها وسيلة وزلفى إلى الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فبالله عليكم ما الفرق بين أعرابي كان في ذلك العصر البائد يتوجه إلى حجارة يركع لها ويسجد ويرى أنها تقربه إلى الله زلفى، وبين رجل في القرن العشرين في عصر العلم والوعي أصبح يطوف على رفات قد مضت عليها السنون، ويعتقد أن صاحب هذا الضريح يقربه إلى الله زلفى ومنزلة إلى الله عز وجل؟ إنها صورة واضحة، إنه الشرك بالله عز وجل إنه الشرك الذي جاء هذا الدين لمحوه، هو الذي أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم لإبطاله والقضاء عليه، فما أجدر المسلم وقد أجاب نداء إبراهيم فجاء ملبياً أن يحرص على أن يتعلم ملة إبراهيم، أن يحرص على أن يعرف هذا الطريق وهذه الملة ليبتعد عن موجبات الشرك صغيره وكبيره.

عقيدة البراءة من المشركين

عقيدة البراءة من المشركين ثالثاً: لقد ورثت الأمة الإسلامية من أبيها إبراهيم عقيدة البراءة من المشركين وعداوتهم؛ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. فقد أعلنها إبراهيم صريحة واضحة: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4] ولحكمة عظيمة تنزل آية براءة في موسى الحج، ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يقرأ بها في الموسم: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:1 - 2]. فهل يُدرك المسلم وهو يلبي نداء إبراهيم أن عليه أن يقطع الولاء لكل مشرك وكافر، ولو كان أقرب قريب؟ وألا يوالي إلا من كان حنيفاً مسلماً؟ هل يدرك المسلم وهو يلبي، وهو يستجيب لنداء إبراهيم، وهو يستقبل البيت الذي بناه إبراهيم خمس مرات، هل يدرك أن ملة إبراهيم قائمة على البراءة من كل كافر بالله عز وجل، ومن كل مشرك أياً كان كفره وشركه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو كان وثنياْ أو مرتداً ما دام كافراً بالله عز وجل فملة إبراهيم تقتضي إعلان البراءة واضحة، وقد أعلنها الله عز وجل، ونزلت هذه الآيات في موسم الحج وقُرئت على الناس في ذاك العام أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فما أجدر المسلم وهو يقضي هذه المناسك أن يتذكر هذه المعاني العظيمة. إن قوماً من الزائغين رأوا أن الحج موطن إعلان البراءة من المشركين، والبراءة عندهم من المشركين تعني البراءة من أبي بكر وعمر وممن يحبهما ويترضى عنهم، وإن استعمال أولئك الضالين الزائغين لهذا المصطلح الشرعي لا يعني أن نتخلى عنه، فهو مصطلح جاء في كتاب الله عز وجل، وأمر الله سبحانه وتعالى به، ونودي بهذه الآيات في يوم الحج الأكبر في يوم النحر، فاستخدام أولئك لها استخداماً خاطئاً لا يعني بحال أن ينسى المسلم أنه مُتعبد بذلك، لكن البراءة التي يعرفها المنتمي حقاً لملة إبراهيم غير تلك البراءة.

وقفات حول النحر

وقفات حول النحر النقطة الثالثة: وقفات حول النحر.

النحر يذكر بإبراهيم وهو يستجيب لأمر الله

النحر يذكر بإبراهيم وهو يستجيب لأمر الله من أعظم ما شرعه الله عز وجل في الحج النحر له سبحانه وتعالى، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]. فالنحر عبادة عظيمة لله سبحانه وتعالى، ولهذا سمى الله عز وجل هذا اليوم بيوم النحر، وهو أفضل أيام الحج، بل هو أفضل أيام العام وهو يوم الحج الأكبر، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم النحر ثم يوم القر) فتسميته بالنحر دليل على عظم هذه العبادة وعلو شأنها. ولنا مع النحر وقفات: الوقفة الأولى: النحر يذكر المسلم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أمره الله عز وجل بذبح ابنه الذي رزقه الله إياه على حين كبر، وكانت امرأته عاقراً فرزقه الله عز وجل إياه بعد أن يئس من الولد، وحين بلغ معه السعي وبلغ تلك السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ويستبشر به أمره الله عز وجل، وكيف جاءه الوحي؟ جاءه الوحي رؤيا في المنام، ولم يأته الوحي مباشرة كلاماً من الله عز وجل أو من الملك، وهذا لحكمة عظيمة، ثم أُمر إبراهيم عليه السلام أن يقوم هو بذبحه، ولو أمر أن يوصله إلى معركة يقتل فيها أو أن يوصي من يقتله فقد يهون الأمر عليه، أما أن يمارس هو ذبحه فالأمر صعب. ثم هو يمارس الذبح بيده فهو يرى وجهه وروحه تقعقع يراه ويذبحه استجابة لأمر الله عز وجل، ولا يتردد ويتلكأ، ومع ذلك أيضاً يسعى إبراهيم إلى أن يشرك إسماعيل في الابتلاء فيعرض عليه الأمر في صورة عرض وأخذ رأيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]. إنه وهو يسأله هذا السؤال لم يكن ليوقف استجابته لأمر الله عز وجل على موافقة إسماعيل حاشا وكلا، لكنه كان يريد أن يشاركه إسماعيل في الابتلاء، وما كان من ابنه إسماعيل إلا أن قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. وحين استسلم لله عز وجل وانقاد لم يكن بعد ذلك من حاجة أن يراق دم هذه النفس البريئة، والذي شاء الله عز وجل أن يكون من ذريتها هذه الأمة التي تحج إلى بيت الله عز وجل وتحمل رسالة الله عز وجل ويخصها الله بخاتمة الأديان: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]. فيشرع الله عز وجل النحر للمسلمين ليذكروا اسم الله عز وجل، ويشرعه لهم في الحج ومن لم يحج فإنه تشرع له الفدية، لكن أين واقع ذلك المسلم الذي ينحر الدم لله عز وجل من واقع إبراهيم في الاستسلام والخضوع لله عز وجل؟ إنك ترى هذا المسلم الذي يتقرب إلى الله بنحر الدم قرباناً لله عز وجل يتردد ويتلكأ عن الاستجابة لأمر الله عز وجل، تراه يبذل العلم والحجج الواهية ويناقش ويبدئ ويعيد في تسليمه لأمر الله عز وجل.

الاستعداد لبذل النفس وتقديمها قربانا إلى الله

الاستعداد لبذل النفس وتقديمها قرباناً إلى الله الوقفة الثانية حول النحر: المسلم الذي يقدم القربان لله عز وجل ويتعبد إليه بالنحر يحمل الاستعداد لبذل نفسه وتقديمها قرباناً لله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. وكم حفظ لنا التاريخ من النماذج من أولئك الذين يحمل أحدهم روحه على كفه ويسير في ميدان الوغى والجهاد يتمنى أن يصاب ويقتل، فهذا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين يصيبه السهم وتخرج أمعاؤه يضع الدم على وجهه ويستبشر ويقول: (فزت ورب الكعبة). ولا غرو وقد سمعوا نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أُحيا ثم أُقتل، ثم أُحيا ثم أُقتل) إن المسلم الذي ينحر الدم قرباناً لله عز وجل ينبغي أن يكون على أتم الاستعداد أن يقدم رقبته رخيصة لله عز وجل حين يدعو داعي الجهاد في ساحة الوغى.

النحر عبادة لا تصرف لغير الله

النحر عبادة لا تصرف لغير الله الوقفة الثالثة حول النحر: إذا كان النحر من أفضل أعمال الحج، بل هو مما شُرعت المناسك من أجله، وأفضل أيام الحج بل أيام العام هو يوم النحر؛ إذا كان النحر بهذه المنزلة فهو عبادة عظيمة من أجل العبادات، وصرفه لغير الله عز وجل يعني بكل بساطة أن هذه عبادة لغير الله وشرك به، ولهذا أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخلص هذه العبادة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وأمره أن يجهر بها للناس: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] وهذا يعني بكل بساطة أن صرف ذلك لغير الله عز وجل إشراك به. ويحذر صلى الله عليه وسلم أمته من صرف هذه العبادة لغيره سبحانه، ففي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً)، بل ويسد النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الذبح لغير الله عز وجل وطرقه، فحين يأتيه رجل يستأذنه في الوفاء بنذره وقد نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله صلى الله عليه وسلم: (أكان فيها عيد من أعياد الجاهلية؟ أو كان فيها وثن من أوثانهم؟) إن هذا كله إقامة للسياج حول هذه العقيدة، حول هذا التقرب إلى الله عز وجل حتى لا يخرق هذا السياج ويتجاوز، فما بالنا نرى المسلم الذي ينحر لله في هذا الموسم ويتقرب له يريق الدماء وينحر القرابين لغير الله، فتارة يستجيب لأمر مشعوذ أو ساحر، فيذبح طائراً أو حيواناً يهل به لغير الله، وتارة أخرى يذبح للجن، وأخرى يذبح أمام حجارة أو رفاة قبر! إن هذا المشهد مع ما فيه من خرق لسياج التوحيد، وتسور لحدود الشرك فهو يحكي نفسية ضعيفة، تخاف من الجن وتخشى بطشهم، تشعر أن كل ما في هذا الكون عدو يكيد لها ويريدها بسوء، ويحكي صورة من صور الجهل والتخلف الجهل بالأسباب والمقدمات، فهل نحره لحجارة أو رفاة سيدفع عنه ضراً أو يجلب له نفعاً؟ إنك لتأسى على واقع هذه الأمة التي حمّلها الله الرسالة وجعلها خير أمة واستشهدها على الناس، ومع ذلك ترى البعض من المسلمين يعلقون آمالهم بحجارة صماء أو رفاة قبر عفا عليه الزمان.

الاعتناء بالحقيقة والمضمون دون المظاهر

الاعتناء بالحقيقة والمضمون دون المظاهر الوقفة الرابعة حول النحر: يقول الله عز وجل تعقيباً على آيات النحر: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. إن القضية ليست بالمظهر ولا بالمظاهر، إنما هي بالمضمون والمقصود، إن هذه اللحوم والدماء لن ينال الله عز وجل منها خيراً وهو سبحانه المستغني عن خلقه، وهو سبحانه وتعالى أغنى عن الشرك وأغنى عن خلقه، وأنى له سبحانه وتعالى أن يحتاج أو يفتقر إلى غيره، هذا إشعار للمسلمين أن يعتنوا بالحقيقة والمضمون دون المظاهر، وإنك حين تتأمل في واقع المسلمين ترى أن المظهرية قد سيطرت على حياتهم، إنك تراه يصلي ويعتني بأداء الركوع والخشوع، لكن جوهر الصلاة وحقيقتها في واد آخر، فهو في واد وهذا في واد آخر، إنك ترى المظاهر قد أصبحت تخدع المسلمين وتسيّرهم، وهكذا صارت تسيطر على حياتهم، فأنت ترى الأستاذ في ميدان التعليم يُرى أن نجاحه في أن يُكمل هذا الكتاب كله دون أن يترك منه سطراً، أن يكتب كتابة واضحة على السبورة، أن يستعمل وسائل الإيضاح، أن يُعنى بكراسة التحضير ورصد الدرجات، أما ما وراء ذلك وأهم منه بناء الجيل وإعداده وتعليمه فهو شأن آخر، أليس هذا مظهراً من مظاهر عناية الأمة بالمظهرية وغياب المضمون عنها؟ وهو تراه سلوكاً يسيطر على المسلمين في حياتهم كلها وفي عبادتهم، إن في هذا إثارة وإلماحاً لهذه الأمة أن تُعنى بالحقائق وأن لا تكون أمة تُخدع بالمظاهر.

وقفات حول محظورات الإحرام

وقفات حول محظورات الإحرام النقطة الخامسة: وقفات حول محظورات الإحرام.

ترك المحظورات

ترك المحظورات الوقفة الأولى حين يلبس المحرم ويلبي نداء الله عز وجل يلتزم بالامتناع التام عن محظورات الإحرام، فيتجرد عن المخيط، ويترك الطيب، ويمتنع عن حلق شعره، ويتخلى عن الرفث ومقدمات النكاح، إنه يستجيب لذلك كله دون تردد، ولا يمكن أن تحدثه نفسه أن يتجاوز هذا المحظور، لكن ما باله في سائر حياته يتجاوز ما حرّم الله عليه؟ فالذي حرم على المحرم الطيب هو الذي حرم على المسلم أكل الربا، والذي حرم الرفث ومقدمات الجماع هو الذي حرم النظر الحرام على المسلم في كل حين، والذي نهاه عن لبس المخيط هو الذي نهاه عن لبس الذهب والحرير إنك لتبحث عن مبرر أو مسوغ لهذا التناقض الذي يعيشه المسلم في سلوكه فلا ترى غير التناقض.

إحرام المرأة

إحرام المرأة الوقفة الثانية حول المحظورات اعتدت أن ترى في أسواق المسلمين وأزقتهم وفي مدارسهم وجامعاتهم أن ترى المرأة المسلمة متبرجة متعطرة قد فُتنت بتقليد أعداء الله عز وجل، بل تحول الأمر إلى أن أصبحت تُعاب حين تنتقب أو ترتدي الحجاب، لكنك ترى المسلمة نفسها والتي رأيتها بالأمس في السوق كذلك تراها متحجبة حال إحرامها، لا يبدو منها إلا ظاهر لباسها أو وجهها وكفاها، وهنا يقفز إلى ذهنك سؤال يفرض نفسه، ماذا تغير في واقع هذه المرأة؟ ولماذا تحجّبت الآن وتركت الزينة؟ هل أكرهها أحد أو ألزمها به؟ لقد تحجبت استجابة لأمر الله، ولأن هذا لباس المحرمة، إذاً أليس الحجاب هو لباس المسلمة في كل حين وفي كل وقت؟ أليس الذي أمرها بهذا اللباس حال إحرامها هو الذي أمرها بالحجاب في سائر أحوالها فأي مبرر لهذا التناقض؟ وأي مسوغ لهذه الازدواجية.

قتل الصيد

قتل الصيد الوقفة الثالثة حول المحظورات يمتنع المسلم في الحرم عموماً وحال إحرامه أياً كان عن قتل الصيد، بل عن تنفيره وإثارته، ولا تكاد ترى من يتجرأ على خرق هذا السياج، وهو انضباط محمود ولا شك، لكن ما بالك ترى المسلم الذي يتورع عن قتل الصيد بل عن تنفيره وإثارته، يريق دم أخيه المسلم أو يتسبب في ذلك، كم هي الأنهار جارية من دماء المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله؟ والبعض منها يسيل بأيد مسلمة فيقتل المسلم أخاه، ويسعى لذلك دون رادع أو وازع، وهو هو الذي كان يتورع في الحرم عن تنفير الصيد وإثارته، إنه يمتنع هنا لأن الله عز وجل قد حرّم عليه تنفير الصيد وقتله، ولكن الله سبحانه الذي حرم عليه ذلك هو الذي حرم عليه دم أخيه المسلم، فما باله يسترخص دم أخيه ويستعظم تنفير طائر أو حمامة؟ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى وألمح إليه فسأل أصحابه: أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ وحين قرر لهم صلى الله عليه وسلم حُرمت اليوم والشهر والبلد قال: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا). كم ترى ممن يتجرأ على انتهاك حرمات المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله في إراقة دم المسلم، أو السعي إلى ذلك، أو انتهاك عرضه، أو ظلمه في ماله، يتجرأ على ذلك وحين يأتي إلى بيت الله الحرام يتورع عن إثارة طائر أو حمامة، بل تراه يتقرب ويشتري بماله الطعام إلى هذا الطائر أو ذاك يتقرب إلى الله بإطعام هذا الطائر، وينسى أن حرمة دم المسلم أعظم من ذلك كله، ينسى أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم).

وقفات حول الدعاء

وقفات حول الدعاء النقطة السادسة: وقفات حول الدعاء. في الحج هناك ترى المسلمين من كان منهم براً ومن كان دون ذلك، من كان تقياً ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ترى الجميع شيباً وشباناً، رجالاً ونساء، قد رفعوا أكف الضراعة إلى الله عز وجل يدعونه ويبتهلون إليه عز وجل عشية عرفة، وعلى الصفا والمروة، وعند الجمرات، فهم ما بين مستغفر تائب وعائد إلى الله عز وجل نادم، وصاحب حاجة سائل لمولاه، تراهم قد قطعوا العلائق إلا إلى الله عز وجل، وقد انقطعت آمالهم إلا به سبحانه وتعالى، لكن هذا المسلم الذي يتوجه إلى الله عز وجل ويخلص له ويدعوه، ويقطع حبل الرجاء إلا به سبحانه وتعالى، تراه وقد علّق أمله بالمخلوق خوفاً ورجاء، تراه ينطرح ذليلاً بين يدي مخلوق، يشعر أن حاجته بيده، وأن مخرجه مرهون به، فكيف يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أليس خيراً للمسلم أن يعتز، وأن لا تكون له حاجة إلا لله سبحانه وتعالى، وأن يترفع عن استجداء المخلوقين، وشعوره أن مصيره بيد فلان أو فلان من الناس.

وقفات حول الحجر الأسود

وقفات حول الحجر الأسود النقطة السابعة: وقفات حول الحجر الأسود. عبارة يعرفها الجميع ويرددونها حين جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبّل الحجر قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك) إننا مع تلك الشهادة من عمر رضي الله عنه وهو أفضل الأمة بعد خليفة نبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يقر أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، فما بالنا نرى المسلمين بعد ذلك يعتقدون أن هذا الحجر أو ذاك قد تعلّق مصيرهم به، وقد تعلّقوا بحديث باطل لا يصح أن يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) فإذا كان هذا الحجر وهو في بيت الله لا يضر ولا ينفع، فما بالك بغيره من الحجارة؟ تلك التي صار للأسف الكثير من هذه الأمة يتبرك بها ويتمسّح بها. ثانياً: إن عمر رضي الله عنه يبيّن أن الدافع الأول والأخير لتقبيله لهذا الحجر هو أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وهذا يخط لنا منهجاً في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والسير وراءه والحرص على التعرف على معالم هديه صلى الله عليه وسلم، وأن نتّبع سنته ونقتدي بهديه عليه أفضل الصلاة والتسليم سواء أعلمنا الحكمة أم لم نعلم، ظهر لنا المقصود أم لم يظهر، فنحن نتعبد لله عز وجل باتباعنا لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وقفات عامة

وقفات عامة ثامناً وأخيراً وقفات عامة.

دقة المواعيد

دقة المواعيد ثمة وقفات علنا أن نأتي بما يسمح به الوقت منها. الوقفة الأولى: إنك حين تتأمل في المناسك ترى فيها دقة عجيبة، فأنت ترى المسلم يقف عند هذا المكان من حدود عرفة فلو وقف هنا كان داخل عرفة، ولو تأخر متراً واحداً كان خارج عرفة فلو وقف هنا نائماً وقف صامتاً لصح حجه، ولو وقف هنا وصار يدعو ويتضرع لم يصح حجه، ما الفرق بين هذا المكان وذاك؟ تراه يرمي الجمرة الأولى قبل الثانية وبعدها العقبة ولو رمى تلك قبل هذه لم يصح، تراه يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة ولو عكس لم يصح له الأمر، هذا اليوم يقف في عرفة وفي الليل يبيت بمزدلفة وفي أيام التشريق يكون في منى، إنك ترى فيها انضباطاً عجيباً لا ترى له حكمة ظاهرة في نفسك. لو رمى قبل الزوال بدقائق لكان رميه غير صحيح وكانت عبادته غير صحيحة، ولو رمى بعد الزوال لكان موافقاً للسنة، وهكذا في دفعه من عرفة، وفي سائر المناسك تراها منضبطة بمكان أو وقت أو زمن أو هيئة معينة لا تكاد ترى لها تعليلاً وتفسيراً، فما الفرق بين من يتقدم دقيقة أو أخرى؟ لا تكاد تجد لها إلا الاستسلام والخضوع لله عز وجل، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. إن معنى الإسلام أيها الأخوة هو الاستسلام لله عز وجل، والتسليم له، والانقياد لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، سواء أدرك المسلم حكمة ذلك أو لم يدركها، وهو يقطع أنه ما شرع الله من أمر إلا له حكمة، لكن هذا شيء وكونه يجعل استجابته لهذا الأمر موقوفة على إدراك الحكمة شيء آخر.

الانضباط في الوقت

الانضباط في الوقت أيضاً: مما في ذلك الانضباط الدقيق في الوقت في المناسك، ولا شك أن هذا يربي المسلم على أن يُعنى بوقته، وينضبط فيه فأنت ترى أن دقيقة واحدة تقديماً أو تأخيراً قد يتوقف عليها صحة العبادة وبطلانها، أو يتوقف عليها اتباع السنة أو مخالفتها، إن هذا يربي في المسلم أن يكون منضباً في أوقاته وفي مواعيده، وتتأسف حين تتأمل واقع المسلمين فتراهم نموذجاً لإهدار الأوقات وإضاعتها، والتفريط في المواعيد وعدم الانضباط بها، كيف لا وهم يعلمون أن الأوقات هي عمرهم، فالوقت هو الحياة: (ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم فقد ذهب بعضك) كيف به وهو يعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟

العمل بفتوى العلماء

العمل بفتوى العلماء الوقفة الثالثة من الوقفات العامة. ترى الناس في الحج يفدون إلى مراكز الإفتاء، فترى أحدهم يسأل ويستفتي، ويتورع عن مسائل دقيقة، وهو على أتم الاستعداد أن يستجيب لما يقال له، فلو أُفتي بأن عليه أن ينحر دماً لكان على أتم الاستعداد، لو أُفتي أن عليه أن يعيد الطواف لأعاده، لو أُفتي أن عليه كذا وكذا لفعل، بل لو أُفتي أن عليه أن يعيد الحج من العام القادم لكان على أتم الاستعداد لأن يفعل ذلك لكن ما بال هذا المسلم الذي تراه وهو يسأل هنا بدقة وربما بتكلف تراه في حياته بعد ذلك لا يسأل عن أمور دينه، وتراه يضرب خبط عشواء في عبادته وفي معاملته وفي سلوكه، فإنه لا يرى دافعاً في نفسه إلى أن يسأل عن صلاته وأحكامها، إلى أن يسأل عن هذه المعاملة أهي جائزة أم محرمة؟ يسأل عن هذا العمل أهو جائز أم لا؟ وحين يُنكر عليه يعتذر بالجهل، وشفاء العي السؤال، ولو كان جاداً في التزامه بأمر الله عز وجل لسأل ولبحث عمّن يرشده إلى دينه.

التخلف الحضاري عند المسلمين

التخلف الحضاري عند المسلمين وقفة رابعة: حين ترى واقع المسلمين في الحج، ترى مظاهر مؤلمة ومؤذية، ترى مظاهر تدل مع ما سبق الإشارة إليه من الوقوع في الشرك والجهل في العبادة، ترى أيضاً مظاهر من صور التخلف الحضاري عند هذه الأمة، إنك ترى من لا يتردد في أن يرمي زجاجة الماء في طريق الناس، من لا يتردد في أن يقضي حاجته هنا وهناك، وترى الطرق والأزقة قد علتها القاذورات، وترى الفوضى بين الناس ففي مرورهم، في ذهابهم، في إيابهم، في رمي الجمرات، في الطواف ترى ازدحام الناس وخصومتهم وعدم انضباطهم مما يوحي بأن الأمة أيضاً مع أنها تعاني من مظاهر الشرك، تعاني من الجهل في العبادة، من التجرؤ على حرمات الله إلا أنها مع ذلك تعاني تخلفاً حضارياً، فهي تعاني تخلفاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، وهو مشهد يؤذينا جميعاً. ما أجدر أن تكون هذه الأمة قدوة للناس في كل شئونها وحياتها، في توحيدها لله عز وجل، في عبادتها، في أخلاقها، في سلوكها، ومع ذلك أيضاً في مظاهر النظافة والانتظام والانضباط! إنك ترى انعدام مشاعر الأخوة والقضاء عليها، فترى المسلم يخاصم أخاه لا لشيء إلا لأنه دخل قبله في الطريق، لا لشيء إلا لأنه لم يمكنه من هذا المكان أو ذاك، وكم ترى الخصام واللجج ورفع الأصوات بين المسلمين الذين جاءوا خاضعين لله عز وجل، أليس في هذا دليل على أن مشاعر الأخوة بين المسلمين بحاجة إلى من يعيد بناءها؟ بحاجة إلى من يركّز عليها ويعتني بها؟

الطمع والتسفل

الطمع والتسفل صورة أخرى أيضاً تراها من واقع المسلمين مما يحكي تخلفهم كثيراً ما تشاهد هناك في مواقف الحج وقد ازدحموا وأصبح بعضهم يدفع البعض، ولا تكتشف مبرراً لذلك إلا حين ترى من يوزع على الناس زجاجات الماء، أو علب المرطبات، وترى الناس يزدحمون على هذا الذي يوزع بالمجان، ولو أخذت حجارة من أحد جبال مكة ووقفت وأعلنت للحجاج: سبيل لله لازدحم الناس عليك! يحق للإنسان ولا شك أن يأخذ، وهذا ما وزّع إلا ليؤخذ، ولكن أليس في هذا دليل على أن هذه الأمة أصبحت يدها سُفلى، أصبح المسلمون دائماً يستفلون، لا يعملون، لا يبادرون إنهم على أتم الاستعداد أن يأخذوا، أن يزدحموا، على أن يأخذوا أي شيئاً يوزَّع، ربما تراه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، قد يأخذ كتاباً بأي لغة لا يفهمها وتراه يزاحم لأجل أن يأخذ كوباً من الماء، أو يأخذ علبة من المرطبات، ثم مع ذلك لا يراعي مشاعر إخوانه فهو يأخذ كمية كبيرة على حساب ما يحتاج إليه الناس. لقد رأيت مرة سائلاً عند المسجد النبوي، ورأى رجلاً قد مر معه زجاجة فأوقفه وقال: هذا من ماء زمزم؟ يريد أن يعطيه إياه، لقد بلغ به الكسل واستجداء الناس إلى أن يتكلف أن يخطو خطوات والماء قريب منه حتى يأخذ من الماء، فهو ينظر إلى المارين فإذا رأى رجلاً ماراً سأله أن يعطيه من هذا الماء الذي معه، أهذه هي العمرة؟ بل إننا نعاني من اليد السفلى حتى عند الصالحين والأخيار، وإليك المثال إنك تجد الكثير من الشباب على أتم الاستعداد أن يستفيد وأن يحضر الدروس والمحاضرات، وهو لا شك أمر طيب ومطلوب لكن أن يقرأ هو، أن يحصّل هو، أن يبذل هو! هذا أمر صعب، إنك لا تتهمه بعدم الحرص، فما الذي يأتي بهذه الجموع إلا الحرص، والرغبة ولا شك، لكن أين هذا الحرص، لِم لم يدفعه إلى القراءة، إلى الاطّلاع، إلى البذل؟ أليس هذا دليلاً على أنا تعودنا على اليد السفلى؟ واليد العليا خير من اليد السفلى. إن المسلمين بحاجة إلى أن يربوا في أنفسهم هذه المعاني، فتكون أيديهم عليا فيكونون هم المعطين وليسوا هم الآخذين، يكونون هم المنفقين يبذلون لأنفسهم، يعملون في كل أحوالهم ولا ينتظرون الناس ويستجدونهم، بل حتى نحن نمارس اليد السفلى أيضاً في دعوتنا فنحن حين نسلك أسلوباً من أساليب الدعوة ننتظر أن يُقدم إلينا جاهزاً، وبعبارة أخرى: نتسول في أساليب الدعوة، فلا نملك الاستعداد أن نفكر أو نبتكر أو نبذل جهداً في اكتشاف هذه الطريقة أو تلك، حتى الكسل واليد السفلى قد سيطرت علينا في حياتنا الدعوية وفي حياتنا العلمية إن المسلم ما أجدره أن ينظر دائماً إلى الأعلى، وأن يكون هو الأعلى دائماً، وأن لا يكون هو الآخر.

التعب والنصب والبذل للدين

التعب والنصب والبذل للدين وقفة من الوقفات أيضاً حول هذا الحج. ترى الناس في الحج يبذلون جهداً مضنياً، ويتحملون مشقة عظيمة، والله عز وجل قد امتن على عباده بأن سخّر لهم هذه الدواب والأنعام التي تنقلهم وتحملهم إلى بلد قال الله عز وجل: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28]. قبل سنوات معدودة كان المسلم يأتي من خراسان ومن أقصى أفريقيا على دابته، وربما يأتي على قدميه أحدهم جاء من إحدى بلدان أفريقيا على قدميه وبدأ مسيره من شهر ذي الحجة، كلما دخل بلداً عمل فيها واكتسب شيئاً من المال، ثم سافر حتى وصل إلى مكة من العام القادم، وقضى حجه وعاد بنفس الطريقة ووصل إلى أهله وقد هل هلال ذي الحجة من العام الذي يليه، ومع ذلك يتعب ويتحمل النصب! وهذا الوقت الذي تيسرت فيه الأسباب والوسائل ترى المسلم كذلك يوفر من قوته وقوت عياله حتى يوفّر قيمة السفر وتكاليفه، ثم يقف طوابير طويلة ويتعب وينصب حتى يحصل على تصريح بالسفر، ويعطّل عمله وأهله وقتاً ويأتي إلى هذه البلاد، ثم يأتي وتراه يسعى في الشمس والحر وفي كل الأحوال يتحمل ذلك لله عز وجل، لكن أين المسلمون بعد ذلك عن سائر أمور عبادتهم؟ إنهم هم الذين ينصبون ويتعبون وينفقون المال لأجل أن يبذلوا هذا، فأين هم بعد ذلك من بذلهم لله عز وجل في سائر أمورهم؟ من تعبهم في خدمة دين الله عز وجل، وبذلهم لله سبحانه وتعالى؟

قابلية الاستجابة للأمر الشرعي

قابلية الاستجابة للأمر الشرعي أخيراً: ترى الناس في هذا الموسم، وترى عجباً، ترى ذاك الذي كان يعاقر الخمرة ويتغنى بها يبكي متضرعاً مقبلاً على الله عز وجل في عرفات! تراه قد تجرد من ثيابه وتخلى عنها لله عز وجل، ترى تلك المرأة السافرة الفاتنة، ترى تلك المرأة المتبرجة والتي كانت في هذا البلد أو ذاك تعرض مفاتنها وتتاجر بها؛ تراها وقد ارتدت الحجاب، وأقبلت على الله عز وجل في هذا الموسم، إن هذا مع أنه يحمل مظهراً من مظاهر التناقض والازدواجية كما أشرنا إليها قبل قليل، لكنه أيضاً يحمل جانباً آخر، وهو أن هؤلاء المسلمين يحملون استعداداً للاستجابة، يحملون استعداداً للتسليم لله عز وجل، إن تلك المرأة التي هي تتاجر بالسفور وتسعى إليه ها هي تلتزم الحجاب، مع أنها تعيش تناقضاً صارخاً إلا أن عندها استجابة لأمر الله عز وجل، ذاك الذي كان يجتهد في الصد عن سبيل الله صار يتعب وينصب ليحج إلى بيت الله عز وجل. أليس في هذا دليل -معشر الإخوة الكرام- أن النفوس مع ما فيها من أمراض تحمل قابلية للخير لو وظّفت واستثمرت لحققت خيراً كثيراً؟ إنك ترى مظاهر في الحج تدل على الجهل، لكنها مع ذلك تحمل في طياتها بذرة خير، ترى ذاك الذي يأتي وصحن البيت قد امتلأ بالطائفين فصار يزاحم الناس ليقبّل الحجر وهو على استعداد أن تُزهق روحه أن يُقتل دون الحجر، أن يُقبّلها ويُقتل دونها، والآخر في وهج الشمس يصعد على جبل عرفات وهو يظن أن الصعود عليه سنة، وهو على أتم الاستعداد أن يتحمل النتائج التي تترتب على ذلك في سبيل أن يصعد إلى هذا الجبل. إن هذه المظاهر وغيرها مع ما تحمل من الجهل والإيذاء للناس إلا أنها تدل على أن هذا الرجل يحمل نفساً تتطلع للتضحية تتطلع للبذل، فماذا لو أقنعنا هذا المسلم الذي يزاحم ويتعب وينصب ليقبّل الحجر ماذا لو أقنعناه أن جهده في الدعوة لدين الله وخدمة دين الله وفي بلده خير وأبقى له من هذا الأمر الذي قد يأثم به؟ إننا نجزم أن هذا المسلم لو كان يحمل الاقتناع بأن بذله هذا العمل أو ذاك خير له من هذه البدعة في صعوده إلى هذا الجبل أو ذاك، ومن تعريضه لنفسه للضر والمرض، لو أقنعناه بذلك تمام الاقتناع لكان على أتم الاستعداد أن يبذل ولو جزءاً يسيراً من ذلك. وتخيلوا -معشر الإخوة الكرام- هذه الملايين من الرجال والنساء الذين يفدون إلى بيت الله عز وجل يعلنون الاستجابة لله والتوحيد، يخضعون لأمر الله، يسيرون في هذه الليلة وفي تلك يسيرون إلى هذا المكان وإلى ذاك استجابة لأمر الله عز وجل، ماذا لو غُرس عند هذه الأمة حقيقة الإسلام، وحقيقة الانتماء للإسلام، وأن هذا الدين الذي يدعوهم إلى أن يفد إلى هذه الأماكن، وإلى أن يبذلوا هذا العمل أو ذاك يدعوهم إلى أن يستجيبوا لأمر الله وأن يبذلوا لدين الله عز وجل؟ إنني أجزم أن هؤلاء لو اقتنعوا تمام الاقتناع لوجدنا على الأقل منهم ألوفاً يحملون الكلمة الصادقة يغيّرون بها وجه الأرض. معشر الأخوة الكرام إنها خواطر عاجلة لا يجمعها جامع إلا أنها تدور حول الحج إلى بيت الله. مرة أخرى: إن هذا ليس حديثاً عن أحكام المناسك ولا عن آدابها ولا استقصاء لأخطاء الناس في ذلك، وليس هجري للحديث عن هذا رغبة عنه، لكني أردت أن ألمح إلى هذه المعاني التي نفتقدها، والتي هي بحاجة إلى أن نتذكرها وأن نكتشف أمراضنا وأمراض الأمة من خلال هذه المواسم التي يجتمع فيها المسلمون. أسأل الله عز وجل أن ييسر لحجاج بيت الله أمورهم، وأن يرزقهم الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد له، والبراءة من التوجه إلى ما سواه، والاستسلام له، والخضوع له سبحانه وتعالى.

الدعاة الصامتون

الدعاة الصامتون من الأمور اللازمة لنجاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الداعية قدوة في نفسه، وأن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يظهر عليه أثر العلم الذي يحمله، فالقدوة العملية تؤثر في الناس أبلغ تأثير، وهي من أقوى الوسائل لإقناع المدعوين بصدق الداعية في دعوته.

من هم الدعاة الصامتون؟

من هم الدعاة الصامتون؟ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان حديثنا هذه الليلة: الدعاة الصامتون، وحديثنا يتضمن النقاط الآتية: أولاً: وقفة حول العنوان. ثانياً: وقفة مع نصوص القرآن الكريم. ثالثاً: الداعية الأول، والدعوة الصامتة. رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده يترسمون معالم المنهج. خامساً: مزايا الدعوة الصامتة. سادساً وأخيراً: من مجالات الدعوة الصامتة. إن البعض قد يظن أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين، أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق، وأولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، هذا الفهم ربما يتبادر إلى ذهن من يسمع العنوان، لكن هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة، لهذا فلا يسوغ أن يوصف هؤلاء بأنهم دعاة صامتون، بل هم شياطين خرس، إن الذين يسكتون عن الحق حيث يجب بيانه، والذين يقعدون عن القيام بنصرة هذا الدين خاصة في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة، وكشروا عن أنيابهم، وأعلنوها حرباً ضروساً شاملة على الإسلام وأهله، وعلى كل من دعا لدين الله عز وجل، إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة، ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون، إنما هم شياطين خرس، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. إنما نعني بالدعاة الصامتين: أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم ناطقة بما يدعون إليه، بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أي كلمة وأي بيان.

ذكر القدوة والأسوة في كتاب الله

ذكر القدوة والأسوة في كتاب الله أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء والاقتداء بهديهم، يقول تبارك وتعالى عن إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:84 - 90]. إن الله تبارك وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي أولئك الذين قص عليه سيرهم وأنباءهم في هذا الكتاب، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، إنها دعوة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه من الأنبياء، وهي دعوة أيضاً لمن يقرأ القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير على نفس المنهج، ويسلك السبيل نفسها. ثانياً: أمر الله نبيه وأمته من بعده بالتأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4]، ثم قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6]. ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. رابعاً: نهى تبارك وتعالى عن التناقض بين القول والعمل، وذم ذلك المسلك وعابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم ينسون أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم، فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وتتوالى الآيات في كتاب الله التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول وما يدعو إليه الإنسان، يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول ويدعو إليه. خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين والسابقين فيما مضى، يقول تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:10] الآيات، وهي آيات يقرؤها المسلم كل أسبوع في يوم الجمعة، يقرأ فيها قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف، ويقرأ في القرآن الكريم أيضاً قصة أصحاب الأخدود، ويقرأ في القرآن الكريم قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. وهي آيات كثيرة يقصها الله عز وجل علينا في كتابه عن السابقين أتباع الأنبياء الذين ساروا على سننهم وطريقتهم. أيضاً: يذكر الله تبارك وتعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى على مواقفهم، فبقيت خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان الذي كانت فيه؛ لتبقى منارة للأجيال من بعدهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ م

السنة النبوية زاخرة بالنماذج والقدوات

السنة النبوية زاخرة بالنماذج والقدوات ويقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف أولئك الصادقين الصابرين، الذين دعوا لدين الله عز وجل، وبذلوا أرواحهم وأنفسهم وأموالهم ومهجهم في سبيل الله عز وجل، إننا نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة شاب آمن بالله ودعا قومه وضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية حين رأوا موقف هذا الشاب وقد جاد بنفسه في سبيل الله، فتنادى الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام؛ لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، بعد أن أحرقهم وقطع أحشاءهم ذاك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز وجل، وظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام أنهم سيقتلون هذه الدعوة التي دعا إليها، وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به ودعا إليه، فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى غار، فدعوا الله عز وجل بصالح أعمالهم، أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لنعمة الله عز وجل، ونموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى والأقرع والأبرص وغيرها من القصص التي تملأ دواوين السنة، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما أراد لها أن تكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار، لتكون قدوة لمن جاء بعدهم، ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز وجل. سابعاً: أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً وعدواناً، فصار من الدعاة الصامتين للجريمة والقتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها، إذ هو أول من سن القتل، كل ذلك تأصيل للقدوة والأسوة الحسنة، ودعوة للدعاة إلى الله على منهاج النبوة أن يترسموا معالمها، وهو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل، وامتداد لميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب، لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.

النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى والإمام الأوحد

النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى والإمام الأوحد إن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الأساليب والوسائل فهم رهن بمنهج الداعية الأول والإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، والتحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج، والعدوان على السنة المتبعة، وولوج الطريق المبتدعة، لذا فنحن حين ندعو إلى أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها فتتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها، ندعو في ذات الوقت إلى أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل بسياج الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون تخطي الأساليب التقليدية لتجاوز هديه، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعة من القول. ومن صور الاقتداء الواردة في السنة ما كان صلح الحديبية، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا هديهم وأن يحلقوا رءوسهم فلم يستجب له أحد حيث أصاب الناس ما أصابهم من الإحباط؛ ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان، وكانوا قد سمعوا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام، وأن يطوفوا به آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، فحين رأوا ما رأوا من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، وآلمهم الموقف وهم يرون أبا جندل يرسف في قيوده، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعيده إلى المشركين، فلم يطق أولئك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن أتى أم سلمة رضي الله عنها يشكو إليها عدم امتثال أصحابه لأمره، فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه، فخرج صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك، فما كان من الناس حين رأوا ذلك إلا أن اجتمعوا يحلق بعضهم لبعض حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من الغم. وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به البعض على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا في الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يأتي بالوحي من الله تبارك وتعالى، وأنه إنما كان يأتيهم بخبر السماء؛ لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من الناس للإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه. ومن الناس من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف. واختار الله عز وجل له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، وليقرأ في سيرته وهديه -من سمع بدعوته- الصدق وسمو المنهج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، حيث عاش مع بني قومه أربعين سنة عرفوا منه خلالها الصدق والإحسان للناس، والأمانة وحسن الخلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة، وكانت إشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله ومخرجه، وعرفوا سيرته لم يكن ليتحاشى الكذب على الناس، ثم يتجرأ على الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، بل يحكي الله تبارك وتعالى عن قوم صالح أنهم قالوا: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62]، نعم لقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وكسيرة سائر الأنبياء، لقد كانوا يرجون فيه الخير، ويؤملون فيه الخير، فلما دعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى أن يفارقوا ما كانوا عليه خاب ظن أولئك الضالين بنبيهم صالح، وقد كانوا يؤملون فيه الخير، وأي خير أعظم من أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده. إذاًَ: ها هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وها هي حياته تزخر بالعديد من المواقف التي تظهر أنه لم يكن داعية بمقاله فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم داعية إلى الناس بحاله ومواقفه، وها نحن نرى الناس الصادقين، نرى الناس المتعبدين لله تبارك وتعالى، لا يخطئهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، نراهم يسعون إلى أن يعرفوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ينام ويستيقظ، وكيف كان يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف كان في سفره وإقامته، وفي سلمه وحربه، وفي أحواله كلها صلى الله عليه وسلم.

اقتداء الصحابة بالنبي جعلهم قدوات لمن بعدهم

اقتداء الصحابة بالنبي جعلهم قدوات لمن بعدهم رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده هم حملة الدعوة، فكانوا هم أيضاً رضوان الله عليهم دعاة صامتين لمن جاء بعدهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يترسمون معالم منهج اختطه لهم صلى الله عليه وسلم، فتعيش الدعوة حية في قلوبهم وضمائرهم، يقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم، حين دعا صلى الله عليه وسلم الناس للصدقة، وقد جاء قوم مجتابي النمار فرق صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب القلب الرحيم- لحالهم، وتألم صلى الله عليه وسلم لمنظرهم فخطب في الناس ودعاهم لأن يتصدقوا مما يملكون من درهمهم من دنانيرهم من صاع برهم من صاع تمرهم من ثيابهم، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فتتابع الناس بعد ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا الرجل داعية صامتاً، صار هذا الرجل داعية بحاله لأولئك الذين كانوا يشهدون هذا المشهد حتى تتابعوا في بذل صدقاتهم، حتى رئي عند النبي صلى الله عليه وسلم كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). وحين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ليغزوا الروم ولم يعذر أحداً في ذلك، جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، تولى هؤلاء وهم يبكون أن لم يفتح لهم الميدان ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله، فخلد القرآن ذكرهم وسيرتهم، ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. إن من لم يفتح له الميدان للجهاد في سبيل الله، إن من لم يطق أن يشارك مع المجاهدين الصادقين الصابرين، ولم يجد مالاً ينقله إلى ساحة الجهاد، أو لم يجد سلاحاً يقاتل به، أو لم يجد ميداناً يفتح له ليجاهد في سبيل الله، إن ذلك لا يمكن أن يعذره بحال في ألا يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله، والنصح لله ورسوله، إن الذي لم يجد ميداناً يشارك فيه، ولم يجد ميداناً يعيش فيه مع الصادقين الصابرين المخلصين لا يعذر أبداً في ألا يعيش معهم بقلبه، وأن يعيش معهم بحاله، وأن ينصح لله ورسوله. وهاهم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود فيرجع مشدوهاً إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. نعم أيها الأخوة، لقد رجع عروة بغير الوجه الذي ذهب به، لقد رجع وقد رأى هذا الموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رأى هذا الموقف الذي يعبر عن الحب الصادق، الذي يعبر عن الود البعيد عن أبهة الملوك التي كان يعيشها قيصر وكسرى والنجاشي، وقد سبق له أن وفد عليهم فعلم هذا الرجل أن للنبي صلى الله عليه وسلم شأناً آخر غير شأن أولئك الملوك، وعلم أن هؤلاء أتباع صادقون جادون غير أتباع أولئك الملوك: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع أولئك أصحاب النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن همُ فيها بدور وأنجم فيا لائمي في حبهم وولائهم تأمل هداك الله من هو ألوم بأي كتاب أم بأية حجة ترى حبهم عار علي وتنقم وها هي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة ناطقة للأجيال، ما إن يتحدث متحدث وما إن يتكلم متكلم إلا ويجد نفسه مضطراً لأن يزين مقالته ويدبجها بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي تعلم العلم، وفي الإحسان إلى الناس، وفي عبادة الله عز وجل، وفي كل ميدان من الميادين ما إن يتحدث متحدث أو يخطب خطيب إلا وهو يرى أمام عينيه مواقف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى منارة للأجيال من بعدهم، ذكر ذلك الجيل الذي اختاره الله عز وجل ليكون فرط هذه الأمة، الذي اختاره الله تبارك وتعالى ليتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل هذا الدين، يبقى ذلك الجيل داعية لسائر الأ

مزايا الدعوة الصامتة

مزايا الدعوة الصامتة إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة صامتين إلى دين الله تبارك وتعالى بأحوالنا ومواقفنا وسيرنا، ونستشهد على ذلك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف أصحابه من بعده، ومواقف سلف الأمة من بعدهم، إننا أيضاً نضيف إلى ذلك مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة، والتي تعنى بالأحوال قبل الأقوال، ومن هذه المزايا:

أحوال الداعية أبلغ من أقواله

أحوال الداعية أبلغ من أقواله أن الدعوة بالأحوال قبل الأقوال، وأن الدعوة الصامتة أبلغ من القول، فإن المرء يستطيع أن يدبج المقال، ويستطيع أن يحسن الحديث، ويستطيع أن يتفوه بما لا يعتقد، يستطيع المرء أن يزخرف القول ويزينه، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال هذا الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى. لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم كما مر معنا، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم. ولهذا حين سئلت إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم: أكان صائماً يوم عرفة؟ أرسل له صلى الله عليه وسلم بقدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس، فكان ذلك أبلغ دلالة لكل من حضر الموقف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً.

أحوال الداعية يستوعبها سائر طبقات الناس

أحوال الداعية يستوعبها سائر طبقات الناس ثانياً: تمتاز الدعوة الصامتة أنها تدرك من جميع الطبقات، إن الكلمة المسموعة أو المكتوبة تعيش أزمة اختلاف مستويات ومدارك الناس، والذي يتحدث أمام من ينصت له أو يكتب لمن يقرأ له يجد نفسه بين طبقتين ممن يستمع ويقرأ، فإن حسن المقال وارتفعت لغته شعر أن هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه حق فهمه، وإن كان مقاله دون ذلك شعر أن هذا نزولاً بالكلمة عما يليق بها، وأن هذا نزولاً بالسامعين والقراء الذين ينبغي له أن يحترم أسماعهم ويحترم أفهامهم، أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع، ويفهمون مغزاها، يدركها من يقرأ ومن لا يقرأ، يدركها الذي قد بلغ الغاية في إدراك فصيح الكلام وبليغه، ومن كان دون ذلك.

المواقف الحية تبقى في الأذهان أكثر من الكلمات

المواقف الحية تبقى في الأذهان أكثر من الكلمات الميزة الثالثة للدعوة الصاتمة: إن الكلام ولا شك له أثر عظيم على النفوس، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر، بل كم تصنع الكلمة الصادق من مواقف، لكن الكلمة الصادق مهما كانت تبقى بعد ذلك عرضة للنسيان، فهي تبقى في الذاكرة فترة ثم تزول ويأتيها ما يغمرها ويمحوها. أما الموقف والمشهد فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه، فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها وتضمه وترضعه، فاستوقفه الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم، فخاطب أصحابه قائلاً لهم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقول أصحابه: لا، فيقول صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها)، ويمضي هذا الموقف ويزول، لكن أولئك الذين سمعوا هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً كثيراً سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أما إذا رأوا امرأة ترضع طفلها فإنهم سيتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.

المواقف الحية تثبت للمدعو إمكانية تحقيق ما يدعى إليه

المواقف الحية تثبت للمدعو إمكانية تحقيق ما يدعى إليه رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس وتدعوهم إلى العمل والسلوك، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصورة التي يتحدث عنها المتحدث صورة مثالية يصعب تطبيقها، وإذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس صورة تستعصي على التطبيق، أما حين تكون دعوة بالحال وموقفاً يراه الناس فإنها تكون دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث، وأن هذا الموقف يمكن أن يكون، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف، لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية قد لا تطيق هذا البذل وهذه التضحية، لكنه حين يرى هذه النماذج أمام عينيه يدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع، وتتجاوز الحيز النظري، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله، فيرى بعينه من يجود بماله، وحين يسمع عن الاجتهاد في عبادة الله تبارك وتعالى وطاعة الله عز وجل، وحين يسمع عن الصبر عما حرم الله تبارك وتعالى، وعن مجاهدة النفس ومقاومة الفتن ثم يرى النموذج أمام عينيه، سواء كان نموذجاً حياً يراه أمام عينيه، أو كان نموذجاً يقرؤه، فتتخيل تلك الصورة في ذهنه، إنه حين يعيش هذا الموقف لا شك أن ذلك يترك في نفسه أثراً أعظم بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها وبلاغتها. إنه يشعر أن هذه القضية التي يدعو إليها أصحابه يمكن أن يطبقها البشر، ويمكن أن يعملها البشر، ولهذا اختار الله تبارك وتعالى أن يكون أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ليكونوا قدوة وأسوة للناس.

مواقف الدعاة وأفعالهم تدل المدعوين على صدق ما يدعون إليه

مواقف الدعاة وأفعالهم تدل المدعوين على صدق ما يدعون إليه أخيراً: من مزايا الدعوة الصامتة أنها أعظم إجابة على شبه المضلين والمفسدين، إن الصراع لا يمكن أبداً أن يتوقف بين أهل الحق وأهل الباطل، فال يزال أهل الباطل يثيرون الشبه أمام دعاة الحق، فيتهمونهم بأبشع التهم، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال عن موسى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، وقال عن السحرة الذين آمنوا لموسى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، ورثوه من أولئك الذين ما أتاهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، لقد كان أولئك يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، وبأنهم مجانين، وبأن أتباع الأنبياء ضعفاء بادي الرأي، وأن أولئك إنما كان إيمانهم واتباعهم لموسى إنما كان عن مؤامرة خفية كان يستهدف منها عرش فرعون ومجده وملكه، لكن صبر أولئك السحرة على ما واجههم، وسيرة موسى عليه السلام الذي كان قد عاش مع بني إسرائيل، وكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم ويعرفون سيرته؛ كانت تلك المواقف أعظم إجابة على تلك التهمة والفرية التي أطلقها فرعون على أولئك المصلحين. وهي أيضاً أعظم إجابة كانت على تلك الفرية التي أطلقها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بأنه صابئ وأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، واتهموه بما اتهموه به صلى الله عليه وسلم، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم، فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس، وحالاً واضحة للناس تكون هذه أعظم إجابة على كذب أولئك وإفكهم.

مجالات الدعوة الصامتة

مجالات الدعوة الصامتة أخيراً: ما هي مجالات الدعوة الصامتة؟

القدوة الحسنة

القدوة الحسنة أول مجال من مجالات الدعوة الصامتة: القدوة والأسوة الحسنة، وقد مر معنا نماذج كثيرة من ذلك أظن أننا لسنا بحاجة إلى إعادتها.

التفوق في مناحي الحياة

التفوق في مناحي الحياة المجال الثاني من مجالات الدعوة الصامتة: التفوق في مجالات الحياة المختلفة: حين يكون المتدينون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة، هم المتفوقون في دراستهم، وهم المتفوقون في ميادين العمل، وهم العاملون الصادقون المخلصون، ويرى الناس أنهم حين يدخلون ميداناً من الميادين فهم المتفوقون فيه، وهم البارزون فيه، إن هذا يعطي الناس دلالة على صدق هؤلاء، وأن حال هؤلاء وإخلاصهم وصدقهم ليس قاصراً على ميدان من الميادين، بل هاهم يثبتون للناس أنهم ومع انشغالهم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومع انشغالهم بتعلم العلم الشرعي، مع انشغالهم بواجبات شرعية لم يشغل بها غيرهم، فهم مع ذلك كله قد تفوقوا في سائر ميادين الحياة. إن الأعداء اليوم يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لمشكلات اقتصادية أو عقد نفسية واجتماعية يعاني منها أولئك المتدينون، أما حين يكون هؤلاء المتدينون هم المتفوقون في ميادين الحياة ومجالاتها، وحين تمتد هذه الصحوة لتشمل طبقات الأثرياء والمثقفين ثقافة حديثة معاصرة كما يقول البعض فإن هذا يمثل أعظم رد للمتدينين يبين كذب ما يدعيه أولئك الأعداء.

الإحسان إلى الناس وتبني قضاياهم

الإحسان إلى الناس وتبني قضاياهم المجال الثالث من مجالات الدعوة الصامتة: الإحسان إلى الناس وتقديم الخير لهم وتبني قضاياهم، لقد كان صلى الله عليه وسلم -كما حكت عنه زوجه خديجة رضي الله عنها- يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم، ويشفع للناس ويحسن لهم. أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بريرة يسألها أن تعود إلى زوجها، فتسأله صلى الله عليه وسلم: أهو آمر صلى الله عليه وسلم أم شافع؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إنه شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه. لقد اتسع هذا القلب الرحيم صلى الله عليه وسلم ليشفع في هذه القضية الزوجية وليشفع لهذا الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الشفاعة فيشفع صلى الله عليه وسلم لدى امرأة كانت أمة من الإماء أن تعود إلى زوجها. بل يتجاوز صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان فيدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار فيرى جملاً قد احدودب ظهره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، وكأنه رأى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة والإحسان، فيأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل فيقول: (أين صاحب هذا الجمل؟ فيقول رجل: أنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: اتق الله، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه). إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة للناس من بعده يرسم لنا هذه القدوة والأسوة أن نحسن إلى الناس وأن نسعى في تبني قضايا الناس أياً كانت هذه القضايا، وهذا الهدي لم يكن خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان هدياً للأنبياء من قبله، فها هو يوسف عليه السلام يقول له صاحباه في السجن: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فقد رأيا فيه صلى الله عليه وسلم الإحسان إليهما. إن تبني الصالحين والدعاة إلى الله عز وجل الإحسان إلى الناس، وتقديم الخير لهم هو تأسٍ بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو أيضاً باب من أعظم أبواب الخير، وهو أيضاً تعرف إلى الناس، فيعرف الناس أن هؤلاء جادون صادقون مخلصون، وأن هؤلاء خير لهم من أولئك الذين يتاجرون بقضاياهم، وحين نعرف هذا نعرف سر ذلك الحرص الشديد من أعداء هذه الدعوة على إغلاق منافذ الخير لهؤلاء حتى لا يحسنوا إلى الناس، ولو كانت نتيجة ذلك أن تشرد الأسر، وأن يموت الجائعون، وأن يهلك الأيتام، لو كانت نتيجة ذلك ما كانت، المهم ألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم صادقون، وألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم يحسنون للناس.

العفو والتنازل عن حظ النفس

العفو والتنازل عن حظ النفس رابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة كظم الغيظ، والتنازل عن الحظوظ والحقوق الشخصية، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ويقول تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:39 - 40]، ثم يقول تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، ويقول تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ثم يقول تبارك وتعالى في أوصافهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن حقوقنا الشخصية، حين يعرف الناس عنا أنا نعفو عمن ظلمنا، بل ونحسن إليه، فلا شك أن الناس سيعرفون منا حسن الخلق، وسيعرفون منا أخلاق الأنبياء، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أخاً كريماً حين فتح صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وآذوه وأخرجوه، وفي الوقت الذي ظنوا أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم أطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، فكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول أولئك في دين الله أفواجاً؛ لأنهم عرفوا منه صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبأ، وعرفوا منه ذلك بعد أن نبئ وأرسل، وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه وآذوه وفعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وها هو أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

الصدق ورفع راية الخير والصلاح

الصدق ورفع راية الخير والصلاح خامساً: من مجالات الدعوة الصامتة: الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح. في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت). نعم حين رأى هؤلاء يلبون ورأى البدن شعر أن هؤلاء إنما جاءوا عماراً لبيت الله تبارك وتعالى، وأنهم لم يأتوا محاربين لقريش فرجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.

صدق العاطفة من قبل الداعي

صدق العاطفة من قبل الداعي المجال السادس من مجالات الدعوة الصامتة: العاطفة الصادقة المتوقدة في نفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع في سلوكه وفي قسمات وجهه، فيقرؤها كل من يراه لتترك في نفسه أثراً يفوق ألف خطبة وألف محاضرة، ويشعر الناس وهم يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم والنقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص للمرء أن يقال فيه: إنه عاطفي أو متحمس، وربما صار ذم هذا النوع من الناس مهرباً للبعض الذي قد تبلد حسه تجاه المنكرات، وتجاه مصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو يشكى إليه الحال يتنهد قائلاً: إن الأمور لا تعالج بالعواطف، ولا تعالج بالحماس. نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر. ولعل سائلاً يتساءل: هل خلق الله تبارك وتعالى هذه العواطف الجياشة عند الناس عبثاً؟ لم يعد يقبل أهل الطب والعلم اليوم أن يكون هناك عضو من أعضاء الإنسان لا يؤدي دوراً، فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى عامة الناس، والتي تمثل وقوداً لأعمال ومواقف شتى يقوم بها المرء، كيف يكون ذلك كله عبثاً لا فائدة منه، ويذم المرء حين يتصف به؟ إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون فيعملون أعمالاً لم يحسبوا لها حساباً، والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنضبط، فإننا لا نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم، وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تنحر، ويرون الكفر يعلن صراحاً في هذه الأمة، ويرون الأمة يسعى إلى إخراجها من دين الله كما كانت تدخل في دين الله أفواجاً، إن أولئك الذين يرضون بالسكوت والقعود، ولا يزيدون على الحوقلة، أولئك أيضاً قد ارتكبوا منكراً آخر لا يقل عن منكر أولئك: ألا وهو منكر السكوت والقعود عن الحق. إن الصادق أيها الإخوة الذي يغضب لله عز وجل، والذي يغار على حرمات الله تبارك وتعالى، والذي تكون حاله كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتناشدون الشعر فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه، فكانت حالهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء. إن هذه الأحوال أيها الإخوة أعظم قدوة وأسوة لنا لأن نتأسى بها فنملك العاطفة المنضبطة، والحماس لدين الله تبارك وتعالى، وتلك العاطفة أيضاً التي يملكها أولئك الذين ترق أفئدتهم ويحزنون حينما يرون فقيراً معوزاً يتيماً، أو أولئك الذين يرون مسلماً يظلم، أو يموت جوعاً أو يقتله البرد ولم يجد ما يكفيه، إن أولئك الذي يتفاعلون مع هذه العاطفة أو تلك، ويرى الناس هذا الواقع على أحوالهم وعلى قسمات أوجههم، إنهم يتركون أثراً أعظم بكثير من أثر أولئك الخطباء.

المواقف المتميزة التي يقفها الداعية

المواقف المتميزة التي يقفها الداعية سابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة: المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها ومعايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة وضياء للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات الأمر بالصبر والوصية به، والأمر بالثبات على المبدأ وعلو شأن القضية عند أصحابها، لكن ذلك لن يكون مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم في الصبر على البلاء ومواجهة الأذى والمضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمعين ما يردده الخطباء والمتحدثون من صور صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، وتحمل خباب وصهيب، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور لأولئك الذين صبروا على الفتنة والمحنة، إنك تجد أقوالاً لأولئك في الأمر بالعبادة والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى، لكن هذه الأقوال لن تترك في نفسك أثراً أعظم من أثر سير القوم حين تقرؤها وتتمعنها، وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرؤها المعاصرون، فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم. هذه بعض مجالات الدعوة الصامتة، وجوانبها، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التوفيق بين القدوة العملية وكون العمل خالصا لله سليما من الرياء

كيفية التوفيق بين القدوة العملية وكون العمل خالصاً لله سليماً من الرياء Q كثيراً ما يتردد الإنسان في إظهار بعض الأعمال؛ لأنه يريد أن يكون داعية صامتاً، ولكنه يخاف أن يكون داعية مرائياً، فما الموقف الصحيح هنا؟ ويقول: إذا كان الشاب يحاول أن يكون قدوة لغيره، خاصة لمن هو دونه في أمور الخير، لكن نفسه ضعيفة لا تلبث أن ترائي بعملها، وتتزين للناس؛ فما رأي فضيلتكم؟ A هذه من القضايا الدقيقة التي ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، وهي ما يتعلق بقضايا الإخلاص والرياء التي يعيش فيها الشاب في تردد بين أن يعمل العمل فيخشى أن يكون هذا العمل رياءً، وألا يكون خالصاً لله تبارك وتعالى، وبين أن يعمل هذا العمل، وربما أدى هذا بالشاب إلى أن يترك أعمالاً كثيرة خوفاً على نفسه من الرياء، ولا شك أن الذي خشي من الرياء يملك قدراً من الإخلاص لله تبارك وتعالى، وأن خشيته من الرياء دليل على إخلاصه، فلا ينبغي له أن يترك العمل خشية مراءاة الناس ابتداءً. ثانياً: قد تكون بعض الأعمال إعلانها أفضل من إسرارها، وإن كان الأصل في الأعمال أن الإسرار أفضل، أرأيت هذا الذي جاء بصرة فألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم أتظن أن عمل هذا خير، أم لو كان قد أتى بذلك سراً؟ إذاً: الأصل أن يخفي الإنسان أعماله إذا استطاع ذلك، فإن هذا أعظم لإخلاصه وأصدق لنيته وأبرأ، لكن حينما يكون الإعلان أفضل وأولى ويكون قدوة للناس فلا شك أن ذلك يجعله ضمن من قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، ثم إنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلف فعل الأمر أو تركه على خلاف حاله، فينبغي للإنسان أن يسير على حاله المعتادة، أن إنساناً اعتاد أن يصوم قدراً من النفل، أو يصلي قدراً من الليل، أو يقرأ شيئاً من القرآن، أو اعتاد عمل أي باب من أبواب الخير فلا ينبغي له أن يترك هذا الباب وهذا العمل، ويتكلف تركه إذا كان مع الناس، وكذلك لا ينبغي له أن يتكلف فعله ليقتدي الناس به إذا كانت نفسه أصلاً لا تدفعه إلى هذا العمل، وهي قضايا دقيقة ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، فقضايا الإخلاص من أصعب القضايا على النفس.

وجود الداعية الصامت مقترن بكون الدعوة محور حياة الإنسان

وجود الداعية الصامت مقترن بكون الدعوة محور حياة الإنسان Q كيف يمكن تأهيل الدعاة الصامتين باختصار؟ A يتم ذلك حينما تكون قضية الدعوة قضية مهمة عندنا، وليست قضية هامشية، يعني: حينما تسيطر قضية الدعوة على حياتنا كلها، فتصبح حياتنا كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى، ونصبح نشعر أننا نرفض أنفسنا دائماً، فيشعر الإنسان أنه في البيت وفي مقر الدراسة وفي مقر العمل وهنا وهناك وفي أي ميدان يشعر أنه داعية إلى الله تبارك وتعالى.

حكم الساكت عن الحق عند خوف الضرر على نفسه

حكم الساكت عن الحق عند خوف الضرر على نفسه Q هل يعد الساكت عن الحق الخائف على نفسه شيطاناً أخرس؟ A إذا سكت الإنسان عن إنكار المنكر، أو عن بيان حق يجب أن يقوله؛ فإن كان يخاف على نفسه من أذىً سوف يغلب على ظنه أنه يلحقه، فهو بين خيارين: إن اختار تحمل هذا الأذى كما تحمل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأذى في سبيل الله فله ذلك، وهذه من مقامات أولي العزم، وإن لم يختر ذلك فإنه يجوز له حينئذٍ أن يسكت لأنه أصبح في حكم المكره.

التعامل السيئ من قبل الداعية مع الآخرين يمثل نقضا لمفهوم القدوة الحسنة

التعامل السيئ من قبل الداعية مع الآخرين يمثل نقضاً لمفهوم القدوة الحسنة Q كثير من الشباب منا صغاراً كانوا أو كباراً يعطون صورة سيئة عن الالتزام، وذلك من خلال معاملتهم لأهلهم ولوالديهم بالأخص، مما يؤدي إلى نتائج سيئة؛ فما نصيحتك لهم؟ A لا شك أن هذا نقض للدعوة، يعني: أن هذا الشاب الذي يعطي أهله أو يعطي الناس من حوله صورة سيئة عن واقعه لا شك أن هذا يعطي الناس رسالة بأنه غير صادق في تدينه، غير صادق في دعوته، ولهذا تجد مثلاً الآباء أحياناً أو الأمهات يخاطبون هؤلاء وينتقدونهم بعبارات مفادها: أين أثر أصحابك عليك؟ أين أثر هذا الدين الذي تدين به؟ أين أثر ما تدعو الناس إليه على نفسك؟ فقد يكون الشاب مثلاً ينكر على أهله منكرات، وقد يكون يشارك مثلاً إخوانه الصالحين في مثل هذه اللقاءات ومثل هذه التجمعات فيرى أهله منه صورة مخالفة لما هو عليه، فيقصر في حقوقهم ويسيء معاملتهم، وربما يقصر في الواجبات الشرعية فيرون أن الفعل ينطق بخلاف القول، فيشكون في صدق هذه الحال التي هو عليها، وقل مثل ذلك مثلاً في واقعه مع الناس، مع زملائه في المدرسة، مع أقاربه هنا وهناك، حينما تكون سيرته لا تمثل ما يدعو إليه الناس فإن هذا يكون أعظم تنفير وصد عن طريق الالتزام.

حسن الخلق من أهم مجالات الدعوة الصامتة

حسن الخلق من أهم مجالات الدعوة الصامتة Q أليس الالتزام بالأخلاق الكريمة هو من الدعوة الصامتة؟ A سبق الإشارة إلى هذا، ولا شك أن حسن الخلق من أعظم الدعوة الصامتة، بل إننا نجد مثلاً في السيرة أن هناك من أسلم لأنه رأى من النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً من المواقف، وهناك الكثير ممن دخل الإسلام ممن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان دخوله في الإسلام لما رأى من خلق بعض المسلمين.

الدعوة الصامتة سلاح بيد الدعاة إلى الضلال

الدعوة الصامتة سلاح بيد الدعاة إلى الضلال Q هل تعتقد أن من أسباب المذاهب الهدامة الدعاة الصامتين لهذه المذاهب، أم هناك أسباب أخرى؟ A نعم، لا شك أن ما يبذله أولئك عامل من عوامل نجاحهم في دعوتهم، وسبق أن تحدثت عن هذا في محاضرة بعنوان: إنهم يعلمون، وذكرت نماذج مما يبذله هؤلاء، وكيف أنهم يحسنون للناس وينفقون عليهم، ويسهرون في خدمتهم، انظروا مثلاً ما يفعله المنصرون، فهم يدخلون على الناس من باب تقديم العلاج والإغاثة وإنقاذ الناس، وهكذا حتى تكون هذه الوسائل مدخلاً لإضلال الناس، فيشعر الناس أن هؤلاء صادقون وجادون فيما يدعون إليه، ويتساءلون بلسان حالهم، وربما بلسان مقالهم: أين المسلمون عنا؟

وجود جوانب سيئة في الرجل القدوة لا يلزم منه ترك الاقتداء به في جوانبه الحسنة

وجود جوانب سيئة في الرجل القدوة لا يلزم منه ترك الاقتداء به في جوانبه الحسنة Q يقال: ينظر كثير من الناس في هذا الزمان إلى العيوب والمساوئ عند بعض الأشخاص، ولا ينظر ما عنده من المحاسن فيقتدي بها؛ فهل من توضيح لذلك؟ A المسلم دائماً يجب أن يكون ضالته الحق حيثما وجده، فإذا افترضت أن هناك إنساناً سيئاً أو حتى إنساناً غير متدين، ووجدت عنده جانباً إيجابياً فيجب أن تقتدي بهذا الجانب، وليس هذا بالضرورة تزكية لهذا الشخص، فالله تبارك وتعالى خاطب المؤمنين بقوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، يعني: الله عز وجل يقول للمؤمنين: إذا كنتم تألمون وكان الجهاد يصيبكم فيه ما يصيبكم، فإن أعداءكم يصيبهم ما يصيبهم، فإذا كان أولئك يصبرون على ما أصابهم وهم أهل باطل وفساد، فأنتم أولى أن تصبروا، يقول تبارك وتعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. إذاً: أنت قد ترى مثلاً من إنسان اجتهاداً في عمله وإخلاصاً وبذلاً، وقد ترى منه محافظة على وقته، وقد ترى منه أي جانب من الجوانب الإيجابية، وهو إنسان سيئ، فقد تجعل من هذا الجانب قدوة لك، لا أن فلاناً قدوة لك، لكن أنت تقتدي به في هذا الجانب، فكيف إذا كان إنساناً صالحاً وعنده بعض الأخطاء وعنده بعض العيوب، فإنك ينبغي أن تقتدي بما تراه فيه من سلوك حسن، وما تراه فيه من خير، وأن تدع ما تراه فيه مما هو خلاف ذلك، وهذه طبيعة البشر، لا أحد يقتدى به في كل ما يفعل ويدعو إليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الناس مهما علت حاله، ومهما سمت نفسه، ومهما كان سيبقى بشراً يؤخذ من قوله ويرد. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

مشكلات وحلول

مشكلات وحلول مشكلتنا في الواقع ليست مشكلة حديث وتوجيه، وليست مشكلة علم ومعرفة، إنما تتمثل مشكلة كثير من المسلمين اليوم أنهم لا يستطيعون أن يحولوا هذا الرصيد العلمي لديهم إلى واقع وتطبيق وسلوك.

سر وجودنا في هذه الحياة

سر وجودنا في هذه الحياة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب. وبعد: فكثيراً ما نشعر أن مشكلتنا في الواقع ليست مشكلة حديث وتوجيه، وليست مشكلة علم ومعرفة، إنما تتمثل مشكلة كثير من المسلمين اليوم أنهم لا يستطيعون أن يحولوا هذا الرصيد العلمي لديهم إلى واقع وتطبيق وسلوك. عنوان هذا الحديث: (مشكلات وحلول). والحديث موجه لكم، ولهذا فأرى أنه مما يفرض نفسه أن تكون هذه المشكلات نابعة منكم أنتم، فيكون حديثاً عن مشكلاتكم، ويكون حديثي صدى لهمومكم وخواطركم وما تعانون منه. ولهذا حين اقترح علي الإخوة هذا الموضوع فضلت أن أختصر في الحديث، فتكون الكلمة مختصرة بحيث يكون معظم الوقت للأسئلة والتساؤلات، على أن تصبح هذه التساؤلات جزءاً من الموضوع؛ لأنني أستطيع أن أدون قائمة من المشكلات، ثم أتحدث معكم عنها، وربما تشعرون أن هذه المشكلات تعنيكم، لكن لاشك أن هذا يختلف عما إذا كانت المشكلات صادرة منكم أنتم، وحينما يكون الحديث إجابة عن تساؤلاتكم، فتشعرون أن هذا الحديث صدى لما تفكرون فيه، ولما تعانون منه؛ ولهذا فقد اخترت أن يكون معظم الوقت للإجابة على الأسئلة التي تدور داخل هذا الإطار، وإجابة على تساؤلات معينة واستفسارات بقدر ما هو محاولة لحل بعض المشكلات التي نعاني منها أو التي نشعر أننا نعاني منها جميعاً. ولعل ما سأتحدث عنه في بداية الحديث يشكل قاعدة لنا تحل جزءاً من كثير من المشكلات التي نعاني منها. أول مثلاً سؤال يتبادر إلى الذهن عند أي شخص غريب مثلي أنا مثلاً يدخل الدار، قد يدخل مثلاً يتساءل، ينظر ذات الشمال يقول: هذا المبنى لمن؟ وأشعر أن المبنى الذي على يساري صالة، فسأفكر أن هذا ليس مكتباً إدارياً في الدار قطعاً، لأنه وجدت صالة واسعة معنى هذا الكلام أن هذه الصالة لابد أن تستخدم لعمل معين. الساحة التي نجلس فيها الآن جميعاً سيعرف أي شخص يدخل أن هذه الساحة صممت لأجل أن تستخدم لأغراض معينة، يبدو لي أنا مثلاً أنها تستخدم لأنشطة رياضية، تستخدم لمثل هذه الأنشطة المسائية التي يمكن أن تجتمعوا فيها. ولهذا يشعر كل إنسان يعيش في الحياة أن أي شيء موجود فهو موجود لحكمة، وله غرض معين، يعني لو أتانا إنسان غريب عن حياة الحاضرة، ولا يعرف أي شيء من صور الحضارة، ووجدني أتحدث أمامكم وأمامي لاقطات قد لا يستطيع أن يعرف لماذا هذه الأجهزة موجودة أمامي، لكن هو سيقول على كل حال إن هذه الأجهزة ما وجدت عبثاً، وما وجدت لأجل أن تكون حاجزاً للرؤية بين المتحدث وبعض الحضور، فلابد أنها وضعت لغرض ولحاجة معينة، ولاستخدام معين تستخدم فيه. وهذا التساؤل دائماً نجده يأتي إلى أذهاننا في أي شيء، فالإنسان عندما يرى أمامه جهازاً جديداً، ويجد فيه أزراراً ومؤشرات، تجد أنه يتساءل لماذا هذه؟ وما هي الحاجة أن يوضع مثل هذا الشيء؟ هذا تساؤل كما قلت يقفز إلى أذهاننا دائماً في حياتنا اليومية التي نعيشها. لكن يجب أن نطرحه نحن بشكل أكبر في قضية مهمة جداً، وهي سر وجودنا في هذه الحياة، أعني أن الإنسان يتساءل لماذا وجدت في هذه الحياة؟ لماذا وجد هذا الكون كله بما فيه من السموات السبع، والأرض والأشجار والحيوانات والكواكب والعالم الفسيح الذي نراه، لماذا وجد هذا الكون؟ ولماذا وجدت أنت؟ وما هو موقعي من هذا الكون؟ هذا تساؤل يجب أن نطرحه ونفكر فيه ونصل منه إلى نتيجة معينة. قد تكون الإجابة بدهية، فكل إنسان حينما تسأله يقول لك: أنا وجدت وخلقت لعبادة الله عز وجل، وهذا أبسط سؤال يجب أن يجيب عليه أي مسلم، والذي لا يعرف الإجابة على هذا التساؤل سنضع علامة استفهام على دخوله في الإسلام، وعلى اعتباره من المسلمين. هذا فيما يتعلق بخلق الإنسان، لكن بقية الكائنات المخلوقة في هذا الكون كله، لماذا وجدت ولماذا خلقت؟ A خلقت وسخرت ووجدت من أجل الإنسان نفسه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]. فكل ما في السماوات وما في الأرض من كائنات ومن هذا العالم الذي لا نستطيع أن ندرك أسراره، خلق وسخر من أجل هذا الإنسان، وهذا الإنسان خلق من أجل عبادة الله تبارك وتعالى.

قيمة الإنسان في عبوديته لله عز وجل

قيمة الإنسان في عبوديته لله عز وجل أول قضية في التوحيد يجب أن يعيها المسلم: ما هو سر وجوده؟ لماذا خلق؟ خلق الإنسان من أجل عبادة الله تبارك وتعالى، من أجل توحيد الله عز وجل. وماذا يعني هذا الأمر؟ هناك نتائج مهمة تترتب على هذا التساؤل، أولها: ما قيمة عبادة الله في حياتنا؟ فعندما نعرف أن الإنسان ما خلق ولا وجد ولم يسخر له كل ما في الكون إلا لعبادة الله، فهذا معناه أن هذا الإنسان لا يساوي شيئاً بدون عبادة الله عز وجل، بل يصبح كائناً آخر، يصبح صفراً على الشمال. وأصدق وصف لهؤلاء ما وصفهم الله تبارك وتعالى به في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، يعني: هم في حقيقة حياتهم وسلوكهم يعيشون كما تعيش الأنعام، فالإنسان الذي يعيش لشهواته، ولما تدعوه إليه نفسه فقط، وهذه القضية الأولى والأخيرة عنده في الحياة، هو يعيش كما تعيش الأنعام. ثم جاء الاستدراك: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لماذا صاروا أضل من الأنعام؟ أضل من الأنعام لأن الأنعام خلقت هكذا، وما كلفت هذا التكليف، وما جعل عندها الاستعداد لتحمل هذا التكليف، أما أنت فقد جعل الله عندك عقلاً، وفطرك على الخير، وخاطبك بالأوامر والنواهي، وأرسل إليك الرسل؛ كل هذا لكي تعيش حياة أخرى، فحينما تكون عندك كل هذه الفرص وتعيش عيشة الأنعام فأنت في الواقع أضل من الأنعام، لأن الأنعام هذا منتهى ما هي عليه. وهذا يعني أيضاً أن أعلى شرف يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأعلى عز وأعلى قيمة للإنسان في الدنيا هي في مدى تحقيقه لعبودية الله تبارك وتعالى. فأنت لو سألت الناس في كل المجتمعات: ما هي المعايير والموازين والمقاييس التي يقيسون الناس من حولهم بها؟ مثلاً أنت تعتبر هذا الرجل رجلاً ناجحاً في الحياة، أو رجلاً سعيداً في الحياة، من هو الرجل السعيد في الحياة في نظرك؟ لو طرحت هذا السؤال على مجموعة من الناس قطعاً ستجد الإجابة متفاوتة، وكل إنسان يجيب بما عنده، فإجابات الناس تعكس ثقافتهم وتعكس خلفياتهم وتعكس ما عندهم من تفكير. فلو سألت أي إنسان من هو أسعد الناس في الحياة؟ ومن هو أفضل الناس في الحياة في نظرك؟ ستجد إجابات تختلف، فبعض الناس يقول: الإنسان الثري هو أسعد الناس في الحياة، وبعضهم: الإنسان الذي عنده جاه، وبعضهم: الذي عنده سلطان، فإجابات الناس تختلف. لكن ما هي الإجابة الحقيقية فعلاً؟ نعود إلى القضية التي قلناها أول شيء وهي مسألة لماذا وجد الإنسان؟ وجد الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولتحقيق هذا الأمر، إذاً: أسعد الناس في الحياة، وأعلى الناس قيمة في الحياة هو الإنسان الذي يحقق القضية تحقيقاً تاماً، فكلما كان الإنسان أكثر عبودية لله عز وجل، وأكثر خضوعاً لله تبارك وتعالى صار أعلى قيمة في الحياة. إذاً: قيمتك في الدنيا كلها تكمن في تحقيق هذه القضية. أما الاعتبارات التي يضعها الناس ومقاييسهم وموازينهم حتى يقيسوا بها الإنسان الذي له قيمة في الحياة، فكلها يمكن أن تزول، ولنفترض أن عندنا إنساناً ثرياً يملك مبالغ طائلة، ويعيش حياة الأباطرة، قد نتصور أن هذا الإنسان هو الإنسان الذي بلغ القمة، بينما هذا الإنسان يمكن تأتيه كارثة أو مشكلة مالية فينهار ويتحول إلى إنسان مفلس تماماً. هذا الإنسان يمكن يسير بسيارته ويصير عليه حادث فيفقد حواسه ويجلس مقعداً في المستشفى، فماذا تنفعه الملايين التي عنده، أو ماذا تنفعه قيمته أو مكانته عند الناس؟ ممكن بسهولة يأتيه مرض من الأمراض فيقضي على حياته كلها، وممكن في النهاية يموت وسيموت قطعاً، وعندما يموت يمشي وراءه أناس في جنازته، والناس تعزي في الجرائد والصحف، لكن خلاص انتهى. دفن في قبره، مجرد من شهاداته، مجرد من الألقاب التي تعود أن يأخذها في الدنيا، مجرد من الاحترام الذي يلقاه عند الناس في الدنيا. فأي شخص يدخل الحفرة يستوي فيها هو والفقير والغني والصعلوك، فالذي مات من الجوع ودفن وكان سبب موته هو الجوع يستوي تماماً مع الذي مات من التخمة، ومع الذي مات من أي أمر آخر، وتنتهي الستين والسبعين سنة. ما هو الرصيد الحقيقي الذي يجعل لك قيمة في الحياة؟ الإنسان الذي أقام عبودية الله تبارك وتعالى، وحقق هذا الجانب، وتحققت القضية عنده بوضوح، سيبقى له عمر ممتد، وستبقى الحياة الدنيا الذي عاشها مجرد مرحلة من المراحل، فهو يعيش في الدنيا ستين أو سبعين أو ثمانين سنة، لكن في النهاية سينتقل إلى الدار الآخرة. إذاً: فقيمتك في الحياة وحياتك الحقيقية هي بمقدار ما تحقق في نفسك عبودية الله تبارك وتعالى.

حقيقة العبودية

حقيقة العبودية وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر: الله عز وجل الإنسان وجعل له الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، والدورة الدموية، وخلق له حواساً، وسمعاً وبصراً، ومشاعر ونفسيات، وحباً وكرهاً. كل هذه القضايا التي خلقها الله لم يخلقها عبثاً، بل هي مخلوقة كلها لوظيفة، فهل كل هذه الأشياء لكي تحصر قضية العبادة في صلاة خمس مرات في اليوم فقط، وتصوم إذا جاء شهر رمضان؟! عندما نقول: أنت ما خلقت إلا للعبادة ليس المعنى أنه يجب أن تحصر نفسك في المسجد مثلاً، دائماً تقرأ القرآن، أو دائماً تصلي، لكن المعنى أن تكون حياتك كلها مربوطة بشرع الله تبارك وتعالى، وبما يرضي الله عز وجل.

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها

لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أيضاً هذه تقودنا إلى قضية أخرى مهمة: من القضايا الكثيرة التي نجد الشباب يطرحونها، مثلاً عندما تنصح أحد الشباب تقول له: اترك هذا العمل؛ فإنه لا يرضي الله ورسوله، يقول لك: أنا أعرف أن هذا العمل حرام، وأعرف أنه لا يرضي الله ورسوله، وأعرف أن نتيجته نتيجة مزعجة في الدنيا قبل الآخرة، لكن لا أستطيع. فأقول: قبل أن ندخل نحن وإياك في جدل ونقاش تستطيع أو لا تستطيع، نعود إلى القضية التي قلناها سابقاً، أنت لماذا خلقك الله؟ خلقك الله عز وجل لعبادته، والذي خلقك هو الله تبارك وتعالى، وخلق جوارحك، وخلق حواسك، وخلق ما في الكون هذا كله، وقد خلقك تبارك وتعالى بهذه الطبيعة التي فيك، وبهذه الغرائز، وبهذه الجوانب كلها؛ لأجل عبادة الله تبارك وتعالى. إذاً: معنى هذا الكلام باختصار أنه ما دام الله هو الذي خلقك، وخلقك بهذه الطبيعة، وبهذه الخصائص، وبهذه الصفات، وأمرك بالعبادة، إذاً: معناها أنك قادر أن تؤدي هذه الوظيفة وهذا الدور، فإن من صفات الله عز وجل العلم، ومن صفاته عز وجل الحكمة. فهل تتصورن لو اعتنى شخص خبير -مثلاً- وصمم لنا اللاقط الصوتي، على أساس أن يلتقط لمسافة عشرة أمتار، ثم جاءنا فني بسيط وكشف عليه وقال: هذا لا يمكن أصلاً، وهو غير مؤهل أن يقوم بهذا الدور. سنقول: الذي صنع هذا إنسان خبير، وقد جهزه بطريقة معينة تجعله يعمل في هذا الظرف وهذا الوضع. فالذي خلقك أنت هو الله تبارك وتعالى، وهو يعلم أن البشر يمكن تقع عنده مشكلات، يمكن ينسى، يمكن يجهل، لكن الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يجهل شيئاً، ولا يمكن أن تخفى عليه خافية تبارك وتعالى، فالله هو الذي خلقك، ولما خلقك الله لعبادته معنى هذا الكلام تلقائياً أنك قادر أن تقوم بهذا الدور، حينما خلقك الله عز وجل وأمرك بأوامر، ونهاك تبارك وتعالى عن معاص، هذا معناه أنك تستطيع أن تجتنب هذه المعاصي، وهذا معناه أنك تستطيع أن تأتي بهذه الأوامر. لا يمكن أبداً أن يكون الله عز وجل الذي خلقك، وهو تبارك وتعالى يعرف نوازعك، ويعرف طبيعتك، ويعرف قدراتك، ويعرف مشكلاتك، ويعرف كل الواقع الذي يحيط بك، لا يمكن أبداً أنه تبارك وتعالى يأمرك بأشياء أنت لا تستطيع أن تعملها، ولا يمكن أنه تبارك وتعالى ينهاك عن أشياء لا تستطيع أن تتركها. أضف إلى ذلك أنك تعرف أنه تبارك وتعالى مع ما يتصف به تبارك وتعالى من علم ومن حكمة، فالله تبارك وتعالى عليم خبير حكيم عز وجل، أيضاً هو عدل تبارك وتعالى، لا يظلم الناس مثقال ذرة، هو رحيم بعباده، رءوف بعباده تبارك وتعالى، لا يمكن أن يظلم الناس، هل تتصور أن الله عز وجل يخلق إنساناً غير قادر أن يترك المعصية، ثم يقول له: أنا حرمت عليك هذه المعصية، وإذا وقع فيها حاسبه وعاقبه تبارك وتعالى، لا يمكن أبداً أن يتصور هذا؛ لأن هذا الإنسان أصلاً ما خلق إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، وعبادة الله عز وجل تتمثل في فعل الطاعات واجتناب النواهي. إذاً: هذه الحقيقة البدهية وهي أننا ما خلقنا إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، يترتب عليها تلقائياً أن كل شيء نهانا الله عز وجل عنه، فنحن نستطيع أن نتركه، ونستطيع أن نتجنبه. والقضية ليس فيها مجال للمخادعة، فأنت تستطيع أن تخادع البشر، وتستطيع أن تلف وتدور، وتستطيع أن تتصنع أشياء كثيرة، لكن أمام الله عز وجل لا، يختم الله تبارك وتعالى على لسان هذا العبد، ثم تنطق عليه جوارحه، يده ورجله وساقه وسائر أعضائه كلها سوف تنطق عليه أمام الله عز وجل، فلا يوجد مجال للمخادعة. إذاً: لنكن واقعيين مع أنفسنا، حينما خلقنا الله تبارك وتعالى لعبادته، فهذا يعني أن الوظيفة الأساسية لنا في الكون كله هو تحقيق هذه القضية، وهذا يعني أن قيمتك الحقيقية بقدر ما تكون عبداً لله تبارك وتعالى، وأنك كلما ابتعدت عن هذا الطريق أصبحت إنساناً يعيش على الهامش، وهذا يعني القضية التي تهمنا كثيراً ويجب أن نضعها قاعدة لنا في حل مشكلاتنا والتعامل مع حياتنا أنه ما دام الله عز وجل حرم علينا أمراً، فنحن قطعاً نستطيع أن نتركه؛ لأن الله خلق الناس وهو يعرفهم تبارك وتعالى، يعرف الله أن فيهم ذكياً وفيهم غبياً، أن فيهم إنساناً قوي الشخصية وفيهم ضعيف الشخصية، يعرف كل هذه القضايا، والتكليف الشرعي ما جاء لطبقة معينة، جاء للناس كلهم، هذا يعني تلقائياً أن كل إنسان كلف بهذه التكاليف، فهو قادر على أن يمتثل بها، وقادر على أن يسير عليها. هذه القضية يجب أن نعيها، ويجب أن نربطها بالقضية الأساس والأولى التي بدأت بها الحديث، وهي أننا ما خلقنا إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، والله هو الذي خلقنا بهذه الطبيعة وبهذه النوازع، وبهذه الظروف، خلقنا تبارك وتعالى بطبيعة معينة، وبكيفية معينة، تعيننا على تحقيق هذه القضية، تعيننا على أن نكون عبيداً لله عز وجل حقاً، تعيننا على أن نمتثل أمر الله تبارك وتعالى ونجتنب نهيه. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يمتثل أوامره، ويجتنب زواجره ونواهيه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.

الأسئلة

الأسئلة

عبودية المخلوقات كلها لله عز وجل

عبودية المخلوقات كلها لله عز وجل Q إن السماوات والأرض وما فيها خلق من أجل الإنسان، هل هذه الكائنات لا تعبد الله؟ A يقول الله تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. ويقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50]. آيات كثيرة في القرآن تدل على هذه الحقيقة، وهي أن الكون كله خاضع لله عز وجل، يعني: ما من شيء في هذا الكون إلا يسبح لله تبارك وتعالى، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، كيف يسبح؟ قال الله: (لا تفقهون تسبيحهم)، فهذا لا يعنينا، لكن هذا الكون كله يسبح لله عز وجل، ويسجد لله عز وجل، السماوات والشمس والقمر والنجوم تسجد لله تبارك وتعالى، الظل الذي نراه كل صباح ومساء يسجد لله عز وجل، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15]، ثم قال تبارك وتعالى في آخر الآية: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، فالظل في أول النهار وآخره يسجد لله عز وجل. إذاً: هذا يفيدك في قضية مهمة وهي أن الإنسان العابد لله والمطيع لله يعيش متناسقاً مع حركة الكون كله، يعيش عيشة طبيعية، أما الإنسان العاصي لله فهو يعيش في اتجاه مضاد، يشعر أنه يعيش في وادٍ والكون كله بأفلاكه ونجومه وكائناته وما فيه يعيش في اتجاه آخر.

مشكلة صديق السوء

مشكلة صديق السوء Q هناك مشكلة يعاني منها الشباب وهي مشكلة صديق السوء الذي قد جعل كثيراً من الشباب ينحرفون عن الطريق السوي، تكلم حفظك الله عن هذه المشكلة؟ A هذه القضية من أكبر المشكلات التي يعاني منها الشاب، ومن أكبر الأمور التي تشكل ضغطاً عليه، فهي مشكلة له، وربما جزء من الشباب يشعر أن سبب دخوله في الدار أصلاً هي هذه المشكلة، ثم قد توجد معه المشكلة وهو هنا، ثم إذا خرج، يعني بعض الشباب قد يتوب وتتحسن أحواله، ويشعر فعلاً بالخطيئة والذنب، ويقرر أنه إذا خرج من الدار يعود إلى حياة أخرى، فإذا خرج عاد إلى أصدقائه ورفاقه السيئين، ثم عاد إلى ما كان عليه. أول قضية يجب أن نشعر بها أن كل مشكلة نقع فيها لها حل، ولا يوجد مشكلة ليس لها حل، لكن أيضاً لا يعني هذا أن الحل سهل، فيجب أن نفرق بين قضيتين: بين شيء صعب وشيء مستحيل، فحينما أقول لك: المشكلة لها حل لا يعني هذا أنه حل سهل، بل هو حل صعب. ومن الطبيعي عندما تقع في مشكلة كبيرة تحتاج أن تدفع ثمناً باهظاً لها، وطبيعي عندما تريد هدفاً كبيراً أن تدفع له ثمناً، فمثلاً إنسان صار له مشكلة وتحمل ديوناً، وصار عليه مبلغ كبير، وشعر أنه لابد أن يسدد هذا الدين، ودخل في أعمال تجارية وصار يعمل ويشتغل، يشعر هو أنه لكي يحل هذه المشكلة الكبيرة لابد أن يعمل عملاً مضاعفاً، ويبذل جهداً كثيراً، وكلما صارت لك مشكلة أكبر صرت تشعر أنت أن الجهد المطلوب منك لحل هذه المشكلة أكثر. يعني أنت لا تتصور أن هناك حلولاً سهلة للمشكلة، وإذا كنت تريد حلولاً سهلة، فدع عنك التفكير في مشكلاتك، وتحمل أعباء المشكلات، وبعدين تحمل الثمن الباهظ لتدفعه في المستقبل. وأنا سأقول لك حقيقة واحدة أتصور أنها من أفضل ما يعينك على التخلص من هذه المشكلة تماماً: أخبرنا الله تبارك وتعالى أن في يوم القيامة إذا جاء الناس وعاينوا ما عملوا، ورأوا ما قدموا، ورأوا حقيقة الحياة الدنيا، يبدأ كل إنسان يتبرأ ممن اتبعه، كما قال تبارك وتعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]. وكما قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَظُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27]، فالإنسان عندما يصيبه شيء يعض على أصبعه، لكن هنا يعض على يديه كلها {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]. هذه حقيقة لابد أن تحصل يوم القيامة، أن يتبرأ الصديق الحميم، وتتقطع الأوصال بينهم، بل حتى يقولون لربهم تبارك وتعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، يعني: الصديق الذي كان وإياه، والخليل الذي كان وإياه، يسأل الله عز وجل أن يزيده عذاباً؛ لأنه يرى أنه كان هو السبب في ضلاله. إذاً: المقاطعة لابد أن تحصل، ولابد أن تتم، وستعلن على الملأ واضحة مكشوفة، وأنت لا بد أن تصل إلى هذه المرحلة، عرفت أنك لابد أن تصل إلى هذه النتيجة، لابد أن تعلن المقاطعة في الدنيا؛ فهي في الدنيا أهون عليك أولاً، ثم تؤدي ثمرتها وقيمتها، تقول: يا رب! إنني لأجل رضاك قاطعت أصدقائي، وتخليت عن جلسائي، وتخليت عن أولئك الذين أحبهم ويحبونني، وآلفهم ويألفونني، لكن إذا لم تعلن هذه في الدنيا والله ستعلنها يوم القيامة، وتعلنها حيث لا ينفع، يعني مجرد حسرة ومجرد ندم. فإذا كانت قضية إنقاذ نفسك مهمة عليك، وإذا كنت تشعر فعلاً أنك تريد أن تتوب، وأنك تريد أن تجتنب طريق الضلالة، يا أخي! ادفع الثمن، أما إذا كنت تريد المطالب العالية بثمن سهل فلا يمكن أن تأخذها أبداً ولا تستطيع. وأسهل لك أنك تتحمل الصعوبة التي تواجهها الآن من أن تتحمل عذاب الله عز وجل، الذي سيعيش فيه الإنسان خلوداً لا ينتهي أبداً، يا أخي! أيها أسهل عليك أن تتحمل قليلاً من الصعاب الآن، وتتحمل مشقات التخلي عن أهوائك، أو أن تكون يوم القيامة ممن {إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، ممن يعيش يتمنى أن يموت ولا يستطيع أن يموت، يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، يتمنى أن يخفف عنه يوم واحد من العذاب ولا يخفف عنه. فأنت لو فكرت في هذه القضية ووضعت الميزانين، شعرت فعلاً أن القضية لا تساوي شيئاً في الدنيا، وأنك تستطيع أن تتخلى عن كل الاعتبارات والعوائق، إذا شعرت أنك لابد أن

عراقيل موهومة في طريق طلب العلم

عراقيل موهومة في طريق طلب العلم Q بدأت حفظ القرآن الكريم وحفظت بعض الأجزاء ولله الحمد، ولكني توقفت فجأة عن الحفظ، فحاولت إكمال حفظه، لكني لم أستطع حتى قراءة القرآن، أو الكتب الأخرى لا أستطيع قراءتها، لا أدري ماذا حل بي، فأطلب منك أن تجد لي حلاً؟ A هذا السؤال الشخص الوحيد الذي يجيب عليه هو أنت، أنت تقول: أني بدأت أحفظ، وبدأت أقرأ، ومن ثم انصرفت ولا أدري ماذا حل بي. لكن هناك قضية نفسية مهمة أحياناً يجري عليها الإنسان، الإنسان إذا صعب عليه عمل، أو شق عليه عمل، لأن الحفظ والقراءة تحتاج جهداً، وتحتاج أن الإنسان يتخلى عن جلسات السواليف، وعن الاسترخاء، ويجلس يحفظ ويقرأ، وأحياناً لا نستطيع أن نتحمل هذا الجهد، فالإنسان كسول يحب أن يرتاح وأن يطمئن. فيذهب يوهم نفسه أنه لا يستطيع، وأن هناك مشكلة، وأحياناً يكون الإنسان كسولاً قليلاً وغير حافظ فيقول: أنا أتوقع أن عيناً أصابتني، أو أنا أتوقع أن فيَّ شيئاً، وهذه أساليب مخادعة للنفس يلجأ إليها الإنسان أحياناً حتى يخلص نفسه من تحمل تبعات الخطأ. وأنا أتصور أن كثيراً من هذه القضايا هي حيل لا شعورية نخادع بها أنفسنا، وإذا كان الإنسان جاداً وحازماً مع نفسه سيستطيع، ويجب أن نشعر أن المطالبة العالية يجب أن ندفع لها ثمناً، يعني أنا أريد أن أحفظ القرآن، ما هي قضية كلام فقط، أو أنا سأجلس وأوسع صدري في الكلام مع الزملاء، وأسترخي وأقرأ المجلات وأنام وأرتاح، وأريد أن أحفظ القرآن، هذا مثلما يقول الأول: من لي بمثل سيرها المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول يقول: أريد راحلة تمشي ببطء وتصل أول واحدة، هذا مطلب لا يمكن أن يتحقق، إذا كنت تطلب مطالب عالية اجعل نفسك عند مستوى طموحاتك، أو دع الطموحات لأهلها.

اتخاذ العبادة وسيلة للتقرب من أناس من أبواب النفاق

اتخاذ العبادة وسيلة للتقرب من أناس من أبواب النفاق Q اتخاذ العبادة وسيلة للتقرب من أناس محددين، ما حكم ذلك جزاك الله خيراً؟ A هذا باب من أبواب النفاق وهذه لا تحتاج إلى من يفتي فيها، أي إنسان يجتهد في العبادة، يجتهد في الفرائض والنوافل ويتصنع، يريد التقرب من إنسان لأي هدف، هذه صورة من صور النفاق، وصورة من صور الرياء، وأنت لا تضر إلا نفسك. وهذا أعظم دليل أنا إذا أردنا فعلاً أن نستقيم استطعنا، فهذا الإنسان الذي يشعر أنه إذا اجتهد في العبادة والطاعة أن هذا سيعطيه سمعة حسنة، ويمكن يساعد في تخفيف الحكم عليه، ويجتهد في نفسه، فتجده يتظاهر بمظهر الصلاح والاستقامة، هذا يدل على أنك تستطيع لو أردت فعلاً أن تفعل هذا، وأن القضية ليست صعبة، والقضية ليست مستحيلة. فإذا استطعت من أجل أن تختصر ستة أشهر من الحكم، أو تختصر سنة، استطعت أن تغير حياتك كلها، وتظهر بمظهر معين، وتصوم وتجتهد في النوافل، وغيرت برنامجك وظهرت بمظهر الخير، إذا استطعت أنك تصنع هذا من أجل تكسب ستة أشهر من الحرية، فأظن أنك قادر على ما هو أكبر من هذا. واعلم يا أخي! أن الناس لن ينفعوك، ستلقى الله عز وجل، وستكون القضية أضعافاً مضاعفة، فهذا الإنسان -عافانا الله وإياكم- الذي يتظاهر بالعبادة، ويتظاهر بالبعد عن الفساد والسوء لأجل الناس أسوأ الناس، ولهذا يكون في الدرك الأسفل من النار، لأنه إنسان قادر على نفسه، وفعل العبادة، لكن لا لله عز وجل بل للناس. ماذا ينفعك الناس؟ انفع نفسك أنت أولى وأهم، وإذا فعلت العبادة فافعلها وأخلص لله وسينفعك الله عز وجل، لو أنت أخلصت لله، وقلت: أنا أجعلها فرصة، وسأتوب إلى الله فعلاً بحق وألتزم طاعة الله عز وجل بحق، سوف تحقق لك المقصد الذي تريد، وسيحبك الناس حقاً، وسيحبك الله عز وجل، وستشعر أنك حققت السعادة في الدنيا والآخرة. لكن حينما لا تريد إلا الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].

مشكلات الحب

مشكلات الحب Q أنا شاب واقع في حب فتاة منذ فترة طويلة، وعانيت من حبها الويلات والحسرات، وحاولت أن أنساها فلم أستطع، علماً أني أحبها حب شرف؟ A ما معنى حب الشرف هذا؟ أهو حب لأجل طاعة الله عز وجل؟! أول شيء أنت تحس أن عندك مشكلة وإلا ما سألت هذا السؤال، لماذا سألت هذا السؤال ما دام حبك حب شرف؟! أنت تعلم أن عملك هذا فيه مشكلة، لكن نتيجة أنه سيطر عليك هذا العمل وصعب عليك التخلص منه حاولت أن تجد مبرراً له، فكونك تسأل هذا السؤال هذا بحد ذاته دليل أنك تشعر أن هناك مشكلة أصلاً في هذا العمل، والبر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس، ولو أفتاك الناس وأفتوك. فسؤالك وأنت تعاني من هذه الويلات دليل أن القضية ما هي حب شرف، وأن القضية مشكلة أخرى، وعلى الأقل الإنسان إذا ابتلاه الله عز وجل بمعصية أو مشكلة يكون واقعياً مع نفسه، ولن ينفعك أنك تخادع نفسك، كأن تقول: لا، أنا ما عندي مشكلة، كن واقعياً مع نفسك وصريحاً أفضل لك، وقل: أنا إنسان مقصر، وإنا إنسان ضعيف، وأنا إنسان غير قادر على السيطرة على نفسي، هذه حقيقتي، وما في داعي أن تقول هذا الكلام للناس، لكن كن صريحاً مع نفسك، ولا تخادع نفسك، فإن المخادعة لن تنفعك، ولن تعينك. على كل حال الله عز وجل خلق العواطف عند الناس ولم يخلقها عبثاً، الله عز وجل جعل الناس يحبون، وجعل الناس يبغضون، وجعل الناس يكرهون، وخلق الله عز وجل عند الإنسان شهوات، وأول قضية عندما تقول لي: لا أقدر، أقول لك: هذا الكلام غير صحيح، لماذا لا تقدر؟ لأن الله عز وجل نهاك عن هذه الأشياء وحرمها عليك، ثم إن الله هو الذي خلق فيك هذه الغريزة، ولا يمكن أبداً أن الله عز وجل يأمرك بشيء لا تستطيعه. فإذا كنت تتصور أنك ما تستطيع فهذه مخادعة للنفس، وحينما تستسلم لما تدعوه نفسك، فتستسلم للنظر الحرام والتفكير والهواجس، ستبقى عندك مشكلات، تبقى تشتد وتزيد ضراوتها، لكن يجب أن تحزم على نفسك، وتقطع الطريق من البداية. وهذا الحب الذي جعله الله في نفوس الناس سجية وطبيعة لم يخلقه الله عبثاً، لكن هذه العاطفة إذا لم توجهها الوجهة السليمة سوف تنحرف، ولو شغلت قلبك بحب الله تبارك وتعالى، وحب ما يحبه الله عز وجل، والله ستعيش في عالم آخر، وتشعر أن هذه القضايا تافهة، وهذه قضايا لا تستحق أن تشغل تفكيرك بها وذهنك. حينما تعمر قلبك بالإيمان ومحبة الله عز وجل، وتصبح كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار). فحينما تعمر قلبك بمحبة الله عز وجل، والإيمان بالله تبارك وتعالى، وتعيش هذه القضية من قلبك فعلاً، وهي تحتاج إلى مجاهدة وجهد حتى تستقر في النفس، وإذا اجتهدت وغرست هذه القضية في نفسك ستجد أن كل هذه المشكلات تنحت جانباً، وصارت هذه القضايا ما تشغلك ولا تعاني منها. لكن حينما تعيش بعيداً عن الإيمان، وبعيداً عن هذه القضايا ستعاني منها، وأنا أقول لك: لا يوجد حل إلا هذا الحل، وهو الحل الأساس والأول، وبقية الحلول تبقى حلولاً جزئية، أما هذا فهو الحل الأساس، وهو تعمير قلوبنا بالإيمان ومحبة الله عز وجل، الصلة بالله تبارك وتعالى، بالصلاة والدعاء، وتلاوة القرآن والتدبر. وتحتاج القضية إلى تعويد وترويض ومجاهدة، فهذا الأمر لا يأتي مباشرة، مثلما أن الإنسان لكي يتعلم أي صنعة في الدنيا يحتاج له إلى فترة. وأما إذا ابتعدت وصار قلبك خاوياً من هذه المعاني فسوف تتعلق بمثل هذه التفاهات. وهذه القضية جاء فيها أسئلة كثيرة حول قضية السعادة ومن هو أسعد الناس، حينما تصل إلى هذه الدرجة ستكون كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، ما معنى حلاوة الإيمان؟ يعني سيجد لذة وحلاوة للإيمان لا يجدها في أي عمل آخر، ويشعر بالعبادات التي يقوم بها، ويشعر بالطاعات والأعمال الصالحة التي يقوم بها وسيجد فيها أنساً لنفسه، وسيجد أن نفسه تدفعه إلى العمل، وتؤزه إلى العمل. ولا تتصور أن هؤلاء الأتقياء الواحد منهم يجاهد نفسه ويدفع نفسه دفعاً، لا، فقد تحولت هذه القضايا إلى أنه كما أنك أنت تعيش الويلات مع هذا الحب الذي تسميه حب شرف تماماً هو أشد حباً لله تبارك وتعالى، وحباً لطاعة الله، وقلبه أشد تعلقاً بالله من تعلق هذا الإنسان بمثل هذه الفتاة أو بمثل هذه الصور التي نشاهدها ونراها.

كيفية إدخال السرور على الوالدين

كيفية إدخال السرور على الوالدين Q تعلمون أن دخولنا هذه الدار سبب لنا ولأهلنا المتاعب والأحزان، أريد أن أدخل السرور على والدي وأن أضحكهما كما أبكيتهما، كيف أستطيع ذلك؟ A لا شك أن أكبر مشكلة تواجه الوالد هي أن يشعر أن ابنه سلك طريقاً من طرق الانحراف والغواية، ويتمنى أنه يبذل المستحيل ويبذل كل ما يملك حتى يعيد ابنه إلى الطريق الذي يتمنى أن يكون عليه. فالقضية باختصار إذا منَّ الله عليك بالخروج، والقضية هي عمر قصير، فمهما طالت السنوات، فأنت ستخرج إن شاء الله قريباً أو بعيداً، فقرر أن تغير واقعك، وهذا ليس شيئاً صعباً ولا مستحيلاً، وبهذا بإذن الله أولاً ترضي ربك تبارك وتعالى، وتشعر أنك أنقذت نفسك، ثم هذا أغلى ما تقدمه لوالديك، بل ربما يشعر الوالد أحياناً أنه قد كان به خير في دخولك في هذه الدار؛ لأنها كانت سبباً في توبتك، أسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليك بالتوبة.

الإخبار عن المعاصي التي سترها الله

الإخبار عن المعاصي التي سترها الله Q اقترفت كثيراً من المعاصي خارج الدار ولا أستطيع إخبار والدي عنها، فهل أخبر والدي عنها؟ وكيف يكون ذلك؟ A أنا لا أنصحك بإخباره، يعني إذا وقعت في معاصي بينك وبين نفسك لا أنصحك أن تخبر الناس عنها، لا والدك ولا غيره، لكن تب إلى الله عز وجل، وارجع إلى الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، فيستره الله تبارك وتعالى، فيصبح فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويكشف ستر الله عليه). فليس هناك داع لكي تحدث الناس بما عملت، إلا في حالة واحدة، وهي حينما تشعر أنك في مشكلة وتحتاج أن تحلها، وحينما تشعر أن هناك قضية مرتبطة بهذا العمل، أو تساؤلاً تحتاج إلى إجابة عليه، أو مشكلة تحتاج إلى أن تعان عليها، أما ما سوى ذلك فلا توجد حاجة ولا داع، والأولى أن تستتر بستر الله عز وجل، بل هذا يسهل عليك طريق التوبة، والله عز وجل إذا ستر عليك في الدنيا، لعله يستر عليك في الآخرة.

التوبة من المعاصي

التوبة من المعاصي Q أنا شاب وقعت في المعاصي وتبت إلى الله، فهل لي من توبة، أفيدوني أفادكم الله؟ A أنت تقرأ القرآن يا أخي! الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر حال المنافقين قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:146]. لما ذكر حال من هم أشد منهم اليهود الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، سبوا الله تبارك وتعالى، قال تبارك وتعالى عنهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71]. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. هذه قضايا ما يحتاج أن أحدثك عنها، أنت تقرأ القرآن، وتقرأ السنة، وتقرأ كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن ربه تبارك وتعالى أنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه سؤاله)، (وأنه تبارك وتعالى يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل). بل النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما هو أكبر من ذلك كله يخبرنا بأن الله عز وجل يفرح إذا تاب عبده، أشد من رجل كانت معه دابته وراحلته في الصحراء، فأضاعها وعليها طعامه وشرابه، ثم أيس منها -أيس أنه سيجدها- فنام تحت الشجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا بها عند رأسه، ففرح بها أشد الفرح، فالله عز وجل أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل الذي فرح بدابته.

كيفية الخشوع في الصلاة

كيفية الخشوع في الصلاة Q أنا أشاب أريد أن أخشع في صلاتي، ولكن الشيطان يوسوس لي؟ A لا شك أن الشيطان يحرص على إفساد صلاة الإنسان، فإذا سمع الأذان أدبر ثم يأتي، حتى يثبط الإنسان، فإذا سمع الإقامة أدبر، ثم إذا جاء الإنسان يصلي جاء وأصبح يحول بينه وبين صلاته، ويذكره أشياء كثيرة، حتى أننا نجد في حياتنا أن الإنسان ينسى أشياء لا يتصور أن يتذكرها، فإذا جاءت الصلاة تذكرها، والسبب أن الشيطان يستعيد شريط الذكريات عند الإنسان، فيشغله عن مثل هذه الأمور. فلابد أن تجاهد نفسك، وتجتهد في أن تجتنب ما يشغلك عن الصلاة، وهناك وسائل كثيرة من أهمها: أنك تتفكر بالآيات التي تقرأها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي). إذا عرفت أن الله يخاطبك ويقول لك هذا الكلام لا يمكن أبداً أن تنصرف عن صلاتك، إذا ركعت وإذا سجدت، تأتي إلى الصلاة مبكراً، تبتعد عن الشواغل، ثم تجاهد نفسك، والمسألة في المجاهدة والتعود، تعود نفسك وستجد أنك أول مرة تخشع في جزء من الصلاة، ثم جزء، ثم تشعر بعد ذلك أنك أصبحت لا تسهو بإذن الله في الصلاة.

الصبر على البلوى والمصيبة

الصبر على البلوى والمصيبة Q أنا دائم الشعور بالضيق بسبب وجودي هنا في الدار، ودائماً أتمنى الخروج، فكيف أصبر على بلواي ومصيبتي؟ A يجب أن تكون واقعياً مع نفسك، فهذا الموقف ثمن تدفعه لخطأ ارتكبته، فأول قضية أن لا تشغل بالك متى تخرج، فهذا التفكير لن ينفعك في الخروج، يعني: مثلاً واحد باقي عليه سنتان ويخرج وإذا به جالس متكئ على رأسه يفكر متى يخرج، هذا التفكير لن يفيدك، فكر في شيء عملي، يعني: فكر كيف تتدارك نفسك، وكيف تتجاوز الكبوة والخطأ الذي وقعت فيه، فكان سبباً في مجيئك إلى هذه الدار، فكر كيف تستثمر وقت الفراغ الذي أنت فيه، مثلاً: تجعله فرصة لتحفظ شيئاً من القرآن، أو تقرأ وتستفيد، المهم أن تستثمر وقتك بشكل أنفع، ثم فكر كيف تغير من طريقك. أنا أتصور أن هذا هو الحل، وإذا تاب الإنسان واحتسب يكون هذا بإذن الله تكفيراً للخطيئة التي وقع فيها وكانت سبباً لذلك. أسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر أمورنا وأموركم إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أرحم الخلق بالخلق

أرحم الخلق بالخلق أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو أرحم الخلق بالخلق، وتبدو مظاهر رحمته في جوانب معاملاته المختلفة، وذلك في التخفيف على أمته وتعامله مع النساء والصبيان والبهائم.

منهج أهل السنة والرحمة بالخلق

منهج أهل السنة والرحمة بالخلق الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعن أرحم الخلق بالخلق حديثنا هذه الليلة ليلة 13 من شهر ذي القعدة عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. أيها الإخوة الكرام! في وسط هذا العالم الذي يموج بالبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن شرعه، ويموج بالبدعة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، تتعالى صيحات الإنقاذ ودعوات النهوض بهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولن يقوم بهذا الدين إلا تلك الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب لها النجاة حين هلكت سائر الفرق والطوائف وكتب لها النصرة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم). وكان لابد من الحديث والمناداة بإحياء منهج خير القرون، منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، ولا شك أن منهج أهل السنة ومنهج خير القرون أوسع دلالة وأعمق دائرة من أن يكون مجرد مقررات معرفية دون أن يكون لها رصيد من العمل والسلوك، إنه منهج أشمل من ذلك بكثير، فهو ليس ذاك المنهج الذي يعرف جانباً واحداً من جوانب التوحيد لله سبحانه وتعالى، أو لا يتحدث إلا في إطار المعرفة والجدل والإثبات النظري والنفي وحده فقط، بل هو أشمل من ذلك كله. ومن الجوانب المهمة عند أهل السنة الجانب الخلقي والسلوكي، وما فتئ من صنف في معتقدهم مختصراً أو مفصلاً أن يشير إلى هذا البعد الأخلاقي والسلوكي ويصفهم بما هم أهل له من جوانب في الرقائق والسلوك أو الأخلاق أو المعتقد، ومن ذلك أن أهل السنة كما وصفوا أرحم الخلق بالخلق، وهذه محاولة متواضعة للحديث حول هذا الجانب. إن العلم الأول والقائد الأوحد لأهل السنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون سلوك هذا المنهج ويدعون إليه لابد أن يكون لهم نسب وثيق من المحبة والتوقير له صلى الله عليه وسلم وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها، ومن الاتباع له صلى الله عليه وسلم والبحث عن هديه وعن سنته وسلوكه لتقتفى آثارها، ولا يجوز بحال أن يطغى علم من أعلام أهل السنة على جلالته وقدره، ولا أن يطغى صوته على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن نحتكم إلى قوله أكثر مما نحتكم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وهديه. ونحن جدير بنا في كل حال وآن أن نعود إلى هديه صلى الله عليه وسلم بقراءة متأنية دقيقة فاحصة لنلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته معالم طريق النجاة التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو إلا من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ومن الصفات التي اتصف بها نبينا صلى الله عليه وسلم صفة الرحمة، وهي التي وصف بها أهل السنة والجماعة، أنهم أرحم الخلق بالخلق، فلقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك.

ترك بعض الأعمال حتى لا تفرض على أمته

ترك بعض الأعمال حتى لا تفرض على أمته وصفه سبحانه وتعالى بالرحمة على الخلق والعطف عليهم، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. ويمتن الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وتلمس رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق في كل أحواله وأموره، كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقة على أمته حتى لا تفرض عليهم فيعجزوا عن القيام بها، ألم تقرءوا كثيراً في سنته صلى الله عليه وسلم قوله: (لولا أن أشق على أمتي)، إن هذا مصداق الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل). ويصلي صلى الله عليه وسلم فيصلي الناس بصلاته ثم يعتذر لهم خشية أن تفرض عليهم هذه الصلاة فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال يراجع ربه حتى تخفف هذه الصلاة رغبة في التخفيف على أمته. ويأمره جبريل أن يقرئ أمته القرآن على حرف فيقول: إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول: أقرئهم على حرفين حتى أوصله إلى سبعة أحرف، ما يزال رحيماً صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة يخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به.

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أزواجه

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أزواجه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله سبحانه وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8]، نعم لقد يسر صلى الله عليه وسلم لليسرى في كل أموره وحياته صلى الله عليه وسلم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنعيش مع جانب آخر من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهي سيرته مع أزواجه، ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها من أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الناس بحج وبعمرة وأذهب بحجة، فيقول الراوي: وكان صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه. ومن تأمل سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً. إذاً: فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه رءوف رحيم بأمته، وكان صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع والعبادة يخشى أن يشق على أمته، ويسعى إلى أن يخفف عنهم وأن يبعد عنهم العنت والمشقة، وكان ثالثاً صاحب القلب الرحيم اللين مع أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهو رابعاً مع الأولاد والأطفال صلى الله عليه وسلم. جاء أعرابي كما تروي عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أمراً لم يعهده، رآه صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان فقال: تقبلون الصبيان؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: إنا لا نقبلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك).

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصبيان

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصبيان إذاً: فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم جاء إلى ذاك الرجل العظيم الذي يسمع عنه الحديث، ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويحث الناس سيرهم إليه لتكتحل أعينهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، وحق لهم ذلك، فمن رآه صلى الله عليه وسلم وآمن به ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى هذا الرجل العظيم يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة. وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه، فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم. فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من لا يرحم لا يرحم). ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه وهو عند الإمام النسائي (فيسجد صلى الله عليه وسلم فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره صلى الله عليه وسلم، فيطيل السجود حتى ظنوا أنه قد نسي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته قال: إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته). الله أكبر، إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه، فيطيل صلى الله عليه وسلم سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه. ويسمع صلى الله عليه وسلم بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها صلى الله عليه وسلم حتى لا يزعجهم.

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع البهائم

رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع البهائم وتتجاوز رحمته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان البهيم، فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)، رواه أبو داود. الله أكبر ما أعظم هذا القلب الرحيم، وهذا مع ما يحمل صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، بل للثقلين الإنس والجن، ومع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من هم وجهد وما يقوم به، ومع ذلك كله يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف عنه الرحمة فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى، ويسأل عن صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة، أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل، فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم؟ فتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورافقه بأمته ذاك العصر الذي عاشه، وذاك الجيل الذي عاشره؛ ليضع صلى الله عليه وسلم هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، فيضع صلى الله عليه وسلم هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسئولية في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها. وأيضاً: يروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة). وفي صحيح الإمام مسلم: (أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيراً وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالرفق). وكان صلى الله عليه وسلم في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها). والحديث معشر الإخوة الكرام! ليس حديثاً عن رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان، إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسع برحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى لعبادته، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. وقد أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فرسالته صلى الله عليه وسلم وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للجن والإنس. هذه معشر الإخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحلنا على هذا الهدي وحده وهو كاف، بل أمرنا صلى الله عليه وسلم وحثنا على الرحمة وأعلى لنا شأنها، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله.

فضل الراحمين وما يستحقون من ثواب

فضل الراحمين وما يستحقون من ثواب ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله). والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: (أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له). وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل، أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله الصالحين الأتقياء؟ وكما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الراحمين وأخبر أن الراحمين أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته، كذلك توعد صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يرحمون، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس). ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يرحم لا يُرحم). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود أنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي). وأيضاً مضى معنا قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الأعرابي: (أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة). إذاً: فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وأولئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله لا يرحم من لا يرحم عباده، والجزاء من جنس العمل فالذي يرحم الناس يستحق رحمة الله سبحانه وتعالى، والذي يكتم غيظه ويعفو عن الناس يستحق أن يغفر الله سبحانه وتعالى له ويعفو عنه. إذاً: هذه وقفة سريعة مع إمام أهل السنة وقائدهم وفرطهم على الحوض صلى الله عليه وسلم، هذه وقفة مع هديه العملي وهديه القولي، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس: وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء فلم تعرف البشرية أرحم ولا أرفق ولا أعظم خلقاً وهدياً وسمتاً منه صلى الله عليه وسلم. أقول: هذا هو إمام أهل السنة، وهذا هو قائدهم، وهو فرطهم على الحوض، فما أحرى بهم أن يجعلوا هديه نبراساً له وأن يتصفوا بهذه الرحمة العظيمة التي وسع بها صلى الله عليه وسلم خلق الله تبارك وتعالى، فصار صلى الله عليه وسلم رحيماً بخلق الله عز وجل حتى البهائم المعجمة كان لها نصيب من رحمته. أقول: بهذا كان أهل السنة هم أهل الرحمة بالخلق، فكانوا خير الناس للناس، وكانوا أرحم الخلق بالخلق، وكانوا يعرفون الحق ويرحمون الخلق، كما نص على ذلك جمع ممن صنف في معتقدهم. وأكرر ما قلته أول حديثي من أن معتقد أهل السنة وأن منهج أهل السنة لا يقف عند مجرد المقررات المعرفية وحدها، ولا عند باب من أبواب العلم والاعتقاد، بل هو منهج وسلوك يطبع حياة المسلم كلها في اعتقاده في ذات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته، وفيما يجب له وما يستحقه تبارك وتعالى من العبادة والتأله والخضوع والاحتكام إلى شرعه تعالى وتقدس، وفي التلقي من الوحيين دون غيرهما، وفي تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، وفي عبادته تبارك وتعالى والاجتهاد في ذلك، وفي باب الخلق والسلوك والتعامل مع الناس.

أهل السنة أرحم الناس

أهل السنة أرحم الناس ولهذا كان أهل السنة كما قلنا ينصون على هذا الجانب ويؤكدون ما قالوه، هذا هو الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله يقول عن أهل السنة: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق ويرحمون الخلق. ويقول أيضاً في موضع آخر: وأهل السنة فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ويرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق. والنقول عن سلف الأمة تطول في ذلك، وانظر في أي كتاب صنفه إمام من أئمة أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين لتراه ينص على أن أهل السنة والسلف يرحمون الخلق، وأنهم يأمرون بإطعام الطعام وإفشاء السلام، ويتحدث عن الجوانب الأخلاقية والسلوكية. فهذا الأمر له أهميته، ولاشك أن الخلل في أمور الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى أو في أسمائه وصفاته أو عبادته كسر لا ينجبر وخلل لا يرأب، لكن لا ينبغي أن نهمل ذاك الجانب الذي يتصدر بدعوة الناس ويعلن للناس أنه يسير وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنه من الطائفة الناجية المنصورة، وأنه يحمل الحق الواضح للناس، ينبغي أن يكون سلوكه وهديه وسمته خير دليل للناس على صدق مقاله، وعلى صدق ما يدعوهم إليه، فيتمثل هذا السلوك وهذا الجانب في حياته كلها وفي سلوكه.

صور الرحمة بالخلق عند أهل السنة

صور الرحمة بالخلق عند أهل السنة

الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة

الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة وصور بالخلق عند أهل السنة في جوانب كثيرة منها: الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة وقضاء حوائج الناس، ولهم في ذلك أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعطف على الأرملة والمسكين، وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة والرسالة كان يطعم الطعام، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كما وصفته بذلك زوجه خديجة رضي الله عنها، فكيف يكون الأمر بعد النبوة وبعد الرسالة؟ لاشك أنه صلى الله عليه وسلم سيزداد رحمة وعطفاً! إذاً، فأهل السنة والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى والدعاة إلى منهج أهل السنة ينبغي أن يشعر أهل الحاجات ومن ضاقت بهم السبل أن هؤلاء هم أقرب الناس إليهم، فيمسحون دمعة المسكين، ويسدون خلة المحتاج ويحسنون إلى من يحتاج إلى أن يحسن إليه.

الحرص على هداية الناس وإنقاذهم

الحرص على هداية الناس وإنقاذهم الأمر الآخر: الحرص على هداية الناس وإنقاذهم: فلاشك أن من أعظم الرحمة بالناس أن يسعى المرء إلى إنقاذهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، فإن كان المرء الذي يسعى إلى أن ينقذ فقيراً من جوع ومسغبة، أو ينقذ يتيماً من بؤس اليتم فإنه أولى أن ينقذه من نار وقودها الناس والحجارة وأن يدله على جنة عرضها السموات والأرض، جنة ينسى حين يدخلها ويغمس فيها غمسة واحدة كل شقاء الدنيا وبؤسها. ولهذا يخبر الله عز وجل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل رحمة للعالمين، وأعظم رحمة للناس أن أنقذهم الله به صلى الله عليه وسلم من الضلال ومن الشرك والكفر به سبحانه وتعالى، وأنقذهم من نار تلظى وقودها الناس والحجارة، لهذا كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، وكانت حاله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار). يضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلاً برجل أوقد ناراً فجعل الفراش يتهافت فيها، وهو يذبها عنها، إذاً: من تمام الرحمة وكمالها أن يدعونا إلى جنة عرضها السموات والأرض، وأن يسعى إلى إنقاذنا من عذاب النار عافانا الله وإياكم منها، ولا يمكن أن يكون رحيماً ذاك الذي يحسن إلى الناس في دنياهم ويهمل عليهم أمر دينهم.

الرفق بمن تحت يدك من الخلق

الرفق بمن تحت يدك من الخلق ومن صور الرحمة بالخلق: الرفق بهم في من ولاه الله مسئولية وأمراً وقد دعا صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه). فكل من ولاه الله أمانة ومسئولية من أب أو زوج أو أستاذ أو مدير أو مسئول صغير أو كبير فينبغي أن يرفق بالمسلمين، وأيضاً أن يرفق بالناس في نصحهم وفي تصحيح أخطائهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كما وصفه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وقصته مشهورة معروفة، (حين عطس رجل في الصلاة فقال: يرحمك الله ثم رمقه الناس بأبصارهم، فقال: ويل أمي ما بالكم ترمقوني بأبصاركم؟ فيقول رضي الله عنه: فبأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما دعاني وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن). والحديث المشهور: حين جاء الأعرابي وبال في طائفة المسجد وانتهره الناس، فأدركه صلى الله عليه وسلم بقلبه الرحيم وأعلمه بحق وواجب هذه الأماكن وصيانتها، فقال هذا الرجل: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً، وذلك أنه رأى وعرف الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفسر لنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). إذاً: فمن رحمة أهل السنة بالخلق أن يرفقوا بمن يقع في الخطأ والمنكر، خاصة الذي يقع فيه عن جهل والذي لم يجد من يذكره ويعلمه، فينبغي أن يحسن إليه، وأن يرفق به، وأن ندعوه بعملنا وسلوكنا ورحمتنا قبل أن ندعوه بقولنا وإنكارنا، وأن يعلم هذا الرجل أننا حينما ندعوه وننكر عليه أننا ندعوه ونحن أهل الرحمة والعطف والشفقة والرفق ويرى هذا في سلوكنا، مما يشعره بصدق مقالتنا ودعوتنا، ويدعوه إلى أن يستجيب لما نرجوه ونطلبه منه.

عدم الحكم على الناس بالخروج عن السنة بدافع الغيرة

عدم الحكم على الناس بالخروج عن السنة بدافع الغيرة كذلك من الأمور المهمة في الرفق بالناس والرحمة بهم ألا يسعى الإنسان إلى الحكم على الناس ويكون هذا همه، إن البعض من الناس يؤتى من غيرته وحرصه على حماية العقيدة فيتصور أنه بقدر ما يخرج الناس من العقيدة ومن دائرة أهل السنة والتوحيد، بقدر ذلك يكون أكثر غيرة على عقيدة أهل السنة وأكثر حماية لها. وقد يسري وهم خاطئ عند البعض من الناس أن الذين تطول قائمة من يجرحونهم ويخرجونهم من دائرة أهل السنة أن أولئك هم أكثر الناس غيرة على منهج أهل السنة، وأن أولئك هم أصدق الناس توحيداً، فهم أولئك الذين لم ينج منهم أحد، ولن يستطيع أن يفلتهم أحد. نعم، لا شك معشر الإخوة الكرام أن المنتمي إلى هذه العقيدة العظيمة يعز عليه أن تخالف هذه العقيدة، وأن تتسلق أسوارها، ولاشك أن حبه لهذه العقيدة وتمكنها في قلبه تدعوه إلى أن يتجاوز مجاملة الخلق ومداهنتهم على حساب الإخلال بها، لكن هذا أيضاً لا يدعو الإنسان إلى أن يكون همه البحث عن أخطاء الناس والتفتيش عنها ويرى أن هذا من تمام الغيرة على العقيدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً)، وحين قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً قال لا إله إلا الله، والموقف يوحي ويشعر لكل من يقرؤه أن هذا الرجل قالها تقية، كما قال أسامة إنه رجل كان يقتل المسلمين فما ترك أحداً إلا وقتله، فحين أدركه أسامة ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فأي إنسان لاشك أنه يتصور أن هذا الرجل إنما قال هذه الكلمة فراراً من القتل، وإلا فأين تصديقه بهذه الشهادة وأين إقراره بها قبل ذلك؟ ومع ذلك لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم رد أسامة بأنه إنما قالها فراراً من القتل، فقال: (أفلا شققت عن قلبه) يعني: هلا شققت عن قلبه حتى تعرف أقالها صدقاً أم لا؟ يا أخي، ما دام هذا قد أظهر الشهادة وأظهر كلمة الحق فلماذا تفتش عما وراء ذلك، ولماذا تبحث عن قرائن؟ فأغلظ النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة حتى تمنى أنه لم يسلم إلا هذا اليوم حتى ينجو من هذا الموقف، مع أن القرائن كانت قوية عند أسامة، وهي التي دفعته إلى قتله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (هلا فتشت عن قلبه) الخطاب ليس لـ أسامة رضي الله عنه وحده، بل هو خطاب للأمة أجمع، أنه ما كلفنا بالتفتيش عن قلوب الناس. يا أخي هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، بل يقول لك: أنا على عقيدة التوحيد، وأنا على هذا المنهج وأنا أسير عليه، وتقول له: لا، إنك لست على ذلك، وتنكر عليه ادعاءه وتذهب تفتش عما يقوله وتبحث عن كلمة تحتمل تأويلاً حتى تخرجه من هذه الدائرة‍! هل مقتضى الغيرة على عقيدة أهل السنة يقتضي منا هذا المسلك؟ أم يقتضي منا أن نأخذ الناس على ظاهرهم وعلى ما يبدون، فمن أظهر خيراً وصدقاً ونصيحة واتباعاً للسنة قبلنا منه وحسابه على الله عز وجل، ومن أظهر خلاف ذلك عاملناه بما يظهر منه. أما أن يأتينا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويظهر الصدق والإقبال على الله عز وجل، وينتسب إلى أهل السنة وهي الطائفة الناجية ويسلك سبيلها، ونذهب نكابر ونجادل ويكون الأصل عندنا أن نشك في عقائد الناس حتى يثبت خلاف ذلك، ويكون الأصل عندنا إذا ترددنا في الشخص أن نحكم عليه بخلاف ذلك؛ فلا أظن أن هذه غيرة على عقيدة أهل السنة، ولا أظن أن هذه غيرة على عقيدة التوحيد، وليس من الخدمة لمنهجك أن تسعى إلى إخراج الناس منه، وأن تسعى إلى أن تبعد الناس عنه. لاشك أن الرحمة بالناس والخلق لا يمكن أن تدعونا إلى أن نتستر عن الأخطاء والأمور الظاهرة، لكن شرع الله لنا التعامل مع ما يظهر من الناس ومع ما يبدو منهم، وسرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى.

عدم البغي على المخالف

عدم البغي على المخالف أيضاً من الرحمة بالخلق التعامل مع المخالف: والمخالفون أصناف منهم: المجتهد المخطئ: فقد يجتهد الإنسان ويبذل وسعه في تحري الحق والبحث عن الدليل ثم يقع في خطأ، فيتأول نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف تأويله، أو تبدو له شبهة أو عارض من العوارض فيصل إلى نتيجة خاطئة، فهذا قد قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد). والمجتهد الذي بذل وسعه معذور سواء في الأمور العملية أو الأمور الخبرية، وغالب هؤلاء إنما يقع خطؤه في أمور ليست معلومة من الدين بالضرورة عنده، وقد يخالف أمراً أجمع عليه غيره لكنه قد تعرض له شبهة أو تأويل وله من الخير والفضل والحسنات ما يمحو ذلك، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث. ومنهم الجاهل المعذور الذي قلد من يثق في علمه وورعه ودينه، أو وقع في أمر جهلاً منه عن حسن نية. ومنهم متعد ظالم ومبتدع آثم. ومنهم منافق زنديق. ومنهم مشرك ظالم. فالمخالفون والمخطئون لنا ليسوا على طائفة واحدة، وليسوا على درجة واحدة، ولا يجوز أن نحشرهم كلهم في واد واحد. وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة حديثاً طويلاً مستفيضاً عن الموقف من هؤلاء المخالفين والتعامل معهم، ولهذا فالتعامل مع هؤلاء كل على حسب منزلته، فمنهم من يعذر ويحسن إليه، ومنهم من يغلظ عليه، ومنهم من يهجر، ومنهم من يؤدب على حسب ما هو عليه. المقصود أيضاً أن أهل السنة لا يبغون على المخالف كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ويرفقون بمن خالفهم على التفصيل الذي أشرنا إليه. وأيضاً يجب أن نلحظ هنا في مسألة وصف أهل السنة أنهم يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وأن الرحمة بالخلق لا تكون على حساب المنهج، وأن تؤدي هذه الرحمة إلى المساومة على المنهج الإغضاء عن الابتداع والضلال والخطأ. ومواقف شيخ الإسلام رحمه الله العملية تؤيد هذا المعنى الذي قاله، فهاهي مواقفه مع أعدائه الذين امتحن رحمه الله بسببهم وأدخل السجن وأوذي وصار له ما صار بسببهم، يقول ابن القيم رحمه الله: جئت يوماً مبشراً له بموت أكثر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ثم قال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له! ولما مرض مرض الوفاة رحمه الله دخل عليه أحد أولئك الذين عادوه وآذوه واعتذر له، فقال: إني قد عذرت وحللت كل أولئك الذين آذوني وخالفوني، ولهذا قال عنه أحد خصومه وهو ابن مخلوف: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، فقدر علينا فصفح عنا وحاج عنا. والمقصود من ذلك كله أننا ينبغي أن نقتدي بإمام أهل السنة وفرطهم صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق العظيم وهو الرحمة، وأن نرى أنه من تمام انتسابنا إلى منهج أهل السنة أن ننظر إلى سلوكهم وهديهم وورعهم وسمتهم، وأن نقتفي أثرهم عليهم رحمة الله ورضوانه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نجاه الله سبحانه وتعالى فكان على مثلما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنه سميع قريب مجيب. ونترك بقية الوقت للإجابة على ما يتيسر من أسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

رحمة الكفار والفاسقين

رحمة الكفار والفاسقين Q هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يرحم الكفار والفاسقين؟ A هم يرحمون باعتبار الخوف على ما هم عليه؛ لكن أيضاً ينبغي أن يغلظ عليهم وأن يبغضوا كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وأشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله قال: واجعل لقلبك مقلتين كلاهما إلى الخلق ناظرتان فانظر بعين الحق وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن وانظر بعين الحكم واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران فهو يشفق عليهم ويخشى أن يكون مثلهم لكنه أيضاً بعين الحكم ليقيم عليهم حكم الله من البغض في قلبه وإظهار العداوة لهم والبراءة منهم وجهادهم والغلظة عليهم.

الرحمة في إقامة الحدود

الرحمة في إقامة الحدود Q كثير من الناس يخلطون بين الرحمة والشفقة على الخلق وبين إقامة حدود الله والأخذ على يد الظالم وغير ذلك، نرجو توضيح ذلك؟ A هو من تمام الرحمة بهم أن تقام عليهم الحدود؛ لأن الحدود كفارة لأهلها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى أن تقف هذه الرحمة دون عقوبتهم وإعطائهم ما يستحقون فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].

ضرب الأطفال على المخالفات

ضرب الأطفال على المخالفات Q ما حكم ضرب الأطفال على أخطاء بسيطة يرتكبونها في المنزل، وما توجيهكم حفظكم الله لمن يستعمل الشدة مع أبنائه ويرى أنها الأسلوب الأمثل في التربية؟ A أظن أننا قد أشرنا إلى ذلك في درس دور المرأة في التربية، وأحياناً نكون مثاليين في تعاملنا مع أطفالنا، ونريد من الطفل ألا يرفع صوته، وألا يكسر إناءً، وألا يكتب على حائط، وألا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً، نريد منه أن يكون كالجماد فعلاً، وهذه صورة مثالية لا يمكن أن ندركها، فهناك أمور طبيعية تكون من طبيعة الطفل، فيجب أن نكون واقعيين في التعامل مع الأطفال، وهذا أيضاً لا يعني أن يربى الطفل على الفوضى والعبث، فينبغي أن يشعر الطفل أنه توجد خطوط حمراء لا يتجاوزها، وأنه يمكن يحاسب على خطئه، والحساب ليس بالضرورة بالضرب والقسوة، وقد يلجأ إلى الضرب حين يحتاج إليه، لكن ينبغي أن يكون آخر شيء.

التشديد على الطلاب بالضرب والواجبات

التشديد على الطلاب بالضرب والواجبات Q أنا مدرس وكثيراً ما يقع مني أن أشدد على تلاميذي مرة بالضرب أو بأداء التمارين الرياضية أو الإكثار من الواجبات المنزلية، فهل هذا خارج عن الرحمة؟ مع أني أرى أن هذا جزء من مصلحتهم وجزاك الله خيراً. A كونك ترى أن هذا جزء من مصلحتهم هذا ما هو أولاً: معيار لصحة سلوكك وعدم رب مجتهد للخير لم يبلغه، وافرض أنك رأيت أن من مصلحتهم أن تخرجهم من المدرسة إلى الشارع، فهل تكون هذه مصلحتهم. على كل حال يجب أن يكون أمامنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، فلنستعمل الرفق بالناس والإحسان إليهم، وهذا لا يعني طبعاً أن نهملهم وأن تضيع أمورهم، لكن الحزم الذي نرى أنه نتخذه في مسئوليتنا وإمارتنا سواء كنا آباءنا أو أساتذة أو مسئولين في أي جهة ينبغي ألا يخرجنا عن هذا الإطار وهذه الدائرة. ثم الأخ يذكر أنه يعاقبهم بالإكثار من الواجبات، وأنا أظن أن الغرض من الواجبات هو إعانة الطالب على فهم المادة واستيعابها وربطه بالمادة المقررة، وليس في الواجبات عقوبة، فهذا يجعل الطالب يكره مثل هذا الأسلوب، والمدرس ليس في ميدان صراع مع عدو يتمنى أن يجهز عليه، لكن القضية قضية تعليم وتربية وتوجيه.

الإعانة على المعصية

الإعانة على المعصية Q هل أسمح للمستأجر عندي بوضع الدش على بيتي؟ A القاعدة: لا يجوز للمسلم أن يعين على المعصية بحال من الأحوال أياً كانت المعصية، وقد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولعن في الخمر شاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.

أسلوب التعامل مع الطفل وتربيته

أسلوب التعامل مع الطفل وتربيته Q ذكرت أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يشفق على الأطفال ويحبهم ويلاعبهم، فكيف نتعامل مع الأطفال فإني إذا لاعبته ودلعته جعل يتدلع ويتميع، فهل أسلوب الشدة هو الحل أم ماذا؟ A الحل هو أسلوب الوسط، وينبغي دائماً أن تكون عادة المسلم الرفق واللين، وأحياناً تأتي مواقف تحتاج إلى الحزم، فالقسوة المزعجة خلل، وترك الحزم في موضع الحزم يحول الأطفال إلى حياة وأسلوب غير صالح. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الراحمين الرحماء، وأن يجعلنا وإياكم ممن رحم الخلق فرحمهم سبحانه وتعالى وغفر لهم، وألا يجعلنا وإياكم ممن نزعت منه الرحمة، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

فن التهرب من المسئولية

فن التهرب من المسئولية الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسئولية كل مسلم، ولو قام كل واحد بجهد يسير في ذلك لانتشرت الدعوة إلى الله وعم خيرها؛ لكن الكثير منا يتهرب من مسئوليتها بأعذار غير مقبولة في كثير من الأحيان.

التهرب من مسئولية الدعوة إلى الله وأسبابه

التهرب من مسئولية الدعوة إلى الله وأسبابه الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فإن واقع المسلمين اليوم لا يخفى على الجميع، ولعل أصدق وصف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) ولا شك أن القيام بهذه الأمة ورفع الغربة وإزالتها، وإعادة الأمة إلى ما كانت عليه من المكانة الشرعية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتتبوأها لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون أمة شاهدة على الناس مسئولية الأمة جمعاء لا تخص أحداً دون أحد، ولا طبقة دون طبقة مهما تفاوتت المراتب ومهما تنوعت أعباء المسئولية، فإن النصوص التي خاطب الله هذه الأمة أن تعمل بها لتكون خير أمة أخرجت للناس عامة، وقد جعل شرط تلك الخيرية أن تتصف بصفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فهذا النص وغيره من النصوص الأخرى التي تدل على مضمونه هل تخاطب فئة معينة من الناس؟ هل هي موجهة إلى أولي الأمر؟ أم موجهة إلى العلماء أو طلبة العلم؟ أم إلى شريحة معينة من المجتمع؟ أم أنها موجهة إلى كل مسلم يقرأ القرآن؟! ومما يدل على مضمونه قول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] هذه الأمة أخرجها الله لتحمل الهداية للبشرية جمعاء، وهذه النصوص التي خاطب الله بها هذه الأمة -كما قلت- ليست خاصة بفئة دون فئة، ولا بطبقة معينة من الناس، بل هي عامة لكل مسلم مكلّف يقرأ القرآن أو يسمعه. وكذلك النصوص الواردة في السنة النبوية والتي توجب على الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) هذا الخطاب خطاب للأمة جميعاً، فكل مسلم يرى منكراً مخاطب بهذا النص الشرعي، ومخاطب بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بهديه، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). بالله عليكم عندما تقرءون هذه النصوص ماذا تفهمون منها؟! كل مسلم -مهما كان مستواه العلمي والثقافي، بل مهما كان مستوى إيمانه، حتى المسلم الفاسق المقصر، والمسلم الذي يرتكب الكبائر- داخل تحت هذه النصوص. وهذا إذا كان يصدق على واقعة من الوقائع فيها منكر وأمر مخالف لأمر الله ورسوله، فكيف إذا كان الواقع كله يحتاج إلى تغيير؟! لا شك أن المسئولية تكون آكد، وكما كان الخطاب عاماً في الصورة الأولى لكل من رأى منكراً -سواء كان عالماً أو جاهلاً أو تقياً أو فاسقاً- فكذلك هذه النصوص مخاطب بها المسلمون جميعاً، ولا تخص أحداً دون أحد. نعم تتفاوت المسئولية تبعاً لما عند الإنسان من علم، وتبعاً لموقعه وولايته، وتبعاً لعدة أمور يختلف فيها الناس ولكن تبقى بعد ذلك المسئولية مشتركة، فالمسلمون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم) فكل واحد من أبناء هذه الأمة يتكلم باسم الأمة، فهو عندما يجير رجلاً يُقبل جواره، وعندما يسعى بذمة المسلمين فهو أيضاً يتكلم باسم المسلمين، فهم يد واحدة على من سواهم. وهذه معان أظن أنها بدهية، ولكن -أيضاً- مما نعاني منه غربة مثل هذه المفاهيم، والتي هي أحوج ما تكون الأمة إليها حتى تنهض من سباتها. ولكننا عندما نخاطب الناس -سواء خطاباً عاماً أو خطاباً خاصاً- على اختلاف طبقاتهم نجد التهرب من المسئولية والتخلي عن هذه المسئولية وإلقاء المسئولية على الآخرين، ومحاولة اكتشاف أعذار ومبررات تخلص المرء من أن يتحمل هذه المسئولية ليلقيها على غيره، وهذا التهرب له أسباب، فما الذي يدعو المرء إلى أن يتهرب من المسئولية ويحاول أن يلقي بها على غيره؟ أحياناً يكون المرء لديه شبهة، فيرى أنه لا ينبغي له أن يأمر وينهى لقلة علمه، أو لأنه وقع في معصية أو لغير ذلك، فهو يعتقد أصلاً أنه غير مخاطب بهذا الأمر وأن واقع المسلمين واقع مؤلم وأنه يجب إعادة الأمة إلى مكانها الطبيعي، ولكن يرى أن الأمر يُخاطب به غيره، وأنه غير مخاطب. وأحياناً يعلم ويدرك أن المسئولية مناطة به ولكنه يحاول أن يتنصل؛ لأنه لا يتحمل تبعات هذه المسئولية، والقضية ليست قضية يسيرة، أعني عندما نطالب بإعادة صيا

أساليب التهرب من المسئولية

أساليب التهرب من المسئولية بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية في هذه المحاضرة، وهي أساليب التهرب من المسئولية. وقد تكون متداخلة، وهذه قضية لا تهمنا، الذي يهمنا أن أمامي فكرة أريد أن أنقلها إليكم بأي صورة، وأن أحملكم هذه الأمانة؛ لأننا مأمورون أن نتواصى بالحق وأن نتواصى بالصبر جميعاً.

الدفاع عن واقع المجتمع

الدفاع عن واقع المجتمع أول أسلوب نمارسه للتخلص من المسئولية هو الدفاع عن واقع المجتمع. نحن عندما نطالب الناس بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتحملوا المسئولية تجاه هذا المجتمع فإن هذا فرع عن مقدمة أخرى اتفقنا عليها قبل، وهي أن واقع المجتمع واقع مخالف، فكيف تطالب الناس بالدعوة وواقع المجتمع واقع سليم؟ فالبعض يبدأ يناقشك في المقدمة أصلاً، يقول لك: يا أخي! واقع مجتمعنا واقع سليم، فلا داعي لهذا الحديث والمبالغة عن المشاكل التي يواجهها المجتمع، ولا داعي للمبالغة في الحديث عن الانحراف الموجود في صفوف المجتمع، وهي قضايا إما أنها قضايا تبالغون فيها أنتم أصلاً، أو أنها قضايا يمكن أن تحصل في أي مجتمع وقد وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- من وقع في الزنا؟! أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر؟ وهكذا يعطيك قائمة من تلك الحوادث التي كانت حوادث فردية وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مجتمع الخلفاء الراشدين، حتى يقول لك: إنها الصورة نفسها، قد يكون حجم هذه الحوادث وحجم هذه المخالفات في مجتمعنا أكثر، لكن هذا لا يُخرج مجتمعاً عن كونه مجتمعاً واقعاً في وضع سليم. قضية لا يمكن أن نتفق عليها، يعني أنت تقول: إن واقع المجتمع واقع سليم، وأنا أقول: واقع غير سليم! لا يمكن أن نصل إلى نتيجة بمثل هذا الأسلوب، لكن نريد أن نطرح السؤال، نتأمل في واقع المجتمع قليلاً. أولاً: قد أكون أنا أتحدث عن هذا الجانب باعتبار أنني أتعامل معه من خلال عملي في ميدان التعليم، أو من خلال عنايتي نوعاً ما بهذا الموضوع. جانب الفساد الأخلاقي في أوساط الشباب، وانتشار الشذوذ والفساد قضية مزعجة، وأظن أن هذه وحدها كافية أن تعطينا صورة عن مدى الانحراف الموجود في المجتمع. صورة عن بعد المجتمع عن الواقع الشرعي، وفي الواقع أنني أملك معلومات وقضايا موثقة لكنني أتردد كثيراً في عرضها؛ لأنني أعرف أنها مزعجة، وأعرف أن أثرها قد يكون على الكثير هو ردة الفعل، فالكثير عندما يُصدم بمثل هذه المعلومات، ييأس ويتصور أن القضية انتهت. ونحن لا نتحدث من فراغ، ولا نتحدث من مبالغة، ولكني قادر أن أذكر لكم صورة واحدة من النماذج المتكررة والمزعجة من هذا الواقع إلا أنني لا أرى أن أذكر مثل هذه المعلومات التي قد يكون لها آثار سلبية، لكن يكفي أن أقول: إن هذا الواقع سيئ وواقع مؤلم، والذي لا يعلم ذلك فهو قد يكون بعيداً عنه، لكن الذي يعمل في قطاعات أمنية، يعمل في قطاعات لها علاقة بمخالفات الشباب وما يتعلق بها يدرك مصداق ما أقول. الجانب الاقتصادي في حياتنا: والجانب الاقتصادي جزء أساسي من كيان الأمة، من كيان مجتمعنا، نحن نتحدث عن مجتمعنا الذي نجد الناس يدافعون عنه، أليست حياتنا الاقتصادية قائمة على الربا من أولها إلى آخرها على المستوى الفردي، وعلى المستوى الرسمي، وعلى المستوى العام في كافة الأمور، وأصدق دليل على ذلك أنك تذهب إلى أي قرية من القرى لا تجدها تخلو من بنك ربوي. وليست المشكلة وجود بنك ربوي، أو بنوك تمارس الربا أو أن الربا أصبح أمراً له شرعية، لكن المشكلة أن الربا دخل في الحياة الاقتصادية فحياتنا الاقتصادية بكافة جوانبها قل أن تخلو من الربا، وحتى تعرف مصداق ذلك يمكن أن تتحدث مع كبار التجار لترى ذلك، فإنك عندما تذهب إلى أي محل تجاري لتشتري علبة ألبان، أو علبة مياه صحية، أو أي منتج صناعي، تشتريه وأنت لا يدور في بالك شيء، لكن هذا غالباً يكون قد دخله الربا، أما شركة الألبان مثلاً أو شركة المياه الصحية أو غيرها، فسيكون عندها فائض أموال ستودعه في البنك بفائدة. وعندما تحتاج أحياناً سيولة ستقترض بفائدة. وإذا سلمت مثلاً شركة الألبان من التعامل بالربا فشركة التغليف الذي تصنع العلب كذلك، وإذا سلمت هذه فالموزع، وهكذا قل ما تجد منتجاً أو سلعة إلا وقد دخلها الربا بصورة أو بأخرى. أظن أنكم جميعاً تعرفون أن هذا لا يعني أننا نحرم مثل هذه الأمور، ولا أن الإنسان الذي يتعامل مع مثل هذه السلعة أو مع مثل هذه الشركة يتعامل بالربا، لكن حتى أصور لك أنه ليست القضية قضية وجود الربا! بل إن الربا أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الاقتصادية، بل أصبحت وللأسف مجتمعاتنا تعتبر منافسة في القضايا الربوية، ولعل الفضائح الذي تخرج وما يتعلق بالبنوك العالمية، وتقرءون عنها كثيراً وتسمعون عنها. خذ جانباً آخر كجانب المرأة وما فيه، وعلى كل حال فنحن لا نريد أن نسهب في الحديث عن الصور المؤلمة في مجتمعنا والتي يكفي جانب واحد منها ليعطينا قناعة أن مجتمعنا بحاجة إلى أن تتضافر الجهود لإعادته إلى الواقع الشرعي. مرة أخرى نطرح هذا السؤال المحدد الذي نريد من كل رجل يدافع عن المجتمع أن يجيب عليه إجابة سيسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى: هل واقع المجتمع الآن يرضي الله أم لا؟ هل هذا هو الواقع الشرعي أم لا؟ ونحن لا نبالغ فنقول: نعم مجتمعنا مسلم، وفيه جوانب خيّرة، ولك

الاعتراف بالخلل مع اعتباره أحسن الموجود

الاعتراف بالخلل مع اعتباره أحسن الموجود أن يعترف لك بأن المجتمع فيه مخالفات، وأن المجتمع فيه خلل، ولكن يقول لك: مجتمعنا أحسن المجتمعات يا أخي نحن أحسن دولة في العالم، عندنا أجهزة رسمية غير موجودة في العالم، كجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وعندنا رئاسة تعليم البنات، وعندنا تقام الحدود، والأمور الشرعية ظاهرة، وهكذا يُعطيك قائمة من المزايا التي يمتاز به هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وهي قضية نسلّم بها ابتداء فنسلّم نحن أن مجتمعنا خير المجتمعات الموجودة في الجملة، ولكن إذا استعملنا هذا المنطق مثلاً ورتبنا المجتمعات الإسلامية الآن وحصل مجتمعنا على ترتيب رقم واحد مثلاً، فسنجد مجتمعاً بترتيب رقم اثنين، ولا بد أن فيه خللاً ومخالفات جعلته يتأخر فيحصل على المرتبة الثانية، فسيقول المجتمع رقم اثنين: أنا أفضل من سائر المجتمعات، وأيضاً سيأتينا مجتمع رقم ثلاثة ويقول: أنا أفضل أيضاً من سائر المجتمعات، حتى يأتينا آخر مجتمع في القائمة فيقول: أنا على الأقل موجود في دستور الدولة أن دين الدولة الرسمي الإسلام، فهو أفضل على الأقل من دولة دينها الإلحاد. فلماذا نحتج نحن بأننا خير من غيرنا، ولا يحتج الآخرون بأنهم خير من غيرهم، سيقول الآخرون: نعم نحن يفوقنا مثلاً أربعة مجتمعات أو خمسة مجتمعات لكننا على الأقل أفضل من غيرنا، فلماذا لا تذهب إلى الدول الأخرى التي ينص دستور الدولة على أنها علمانية وعلى أنها دولة إلحادية، فهذا هو المنطق نفسه وإن اختلفت الصورة، أو اختلف حجم المقارنة لكن النتيجة التي يؤدينا إليها استخدام هذا المنطق هي النتيجة. ثم مرة أخرى نطرح السؤال نفسه: هل واقع المجتمع واقع يرضي الله ورسوله أم لا؟ هل هذا الواقع هو الذي اختار الله هذه الأمة لتكون عليه أم لا؟ هب أننا اتفقنا على أن مجتمعنا من أفضل المجتمعات، وأن الظواهر السرية في المجتمع لا تستبعد إثارة الناس وحثهم على الدعوة والمشاركة وأن يتحمل كل منهم مسئوليته، فما مدى تحمل مجتمعنا لمسئوليته في هذا الدين ما دمنا الآن خير المجتمعات، وما دمنا وصلنا إلى المستوى فعلاً المطلوب؟ فالدين ليس خاص بجزيرة العرب، وليس خاصاً بهذه البلاد، بل هذا الدين للبشرية جمعاء، فما مدى قيام مجتمعنا بهذا الدور؟ فالواجب أن تكون سفاراتنا كلها مراكز دعوة لهذا الدين، وتحمل هذا الدين وتمثل هذا الدين، وبعوثنا الرسمية كلها تمثل هذا الدين، ومنتخباتنا الرياضية تمثل هذا الدين؛ لأنها تمثل هذا المجتمع، وكل إنسان يخرج من مجتمعنا يدعو إلى هذا الدين. نترك هذه القضية ونقول: الآن يتوافد إلى مجتمعنا آلاف الناس من أقطار العالم، سواء من غير المسلمين أو من المسلمين. فما مدى قيامنا بالواجب الدعوي تجاه هؤلاء؟ يأتينا غير المسلمين، فهل ندعوهم للإسلام؟ وما هي البرامج المنظمة لدعوة هؤلاء للإسلام؟ إنها جهود محدودة قائمة على جهود أفراد، ومهما كانت فهي لا تساوي حجم هذا العدد الهائل من العمالات الوافدة علينا من كافة أنحاء العالم، فهل نحن ننظم برامج لدعوة هؤلاء للإسلام؟ كذلك العمالة المسلمة التي تفد إلى هذه البلاد، نحن كثيراً ما نقول للناس: إننا أهل التوحيد وبلد التوحيد، ونحن الأوصياء على التوحيد وأولئك يقعون في الشرك، وما ينبغي الصلاة خلف رجل لا تدري أهو من أهل التوحيد أم لا؟ لكن ماذا فعل أهل التوحيد لأولئك الذين يفدون. يأتينا أناس عبّاد قبور، ويبقى في مجتمعنا عشرين سنة، خمسة وعشرين سنة ويذهب إلى بلاده لم يسمع كلمة واحدة، ولم يقدم له دعوة من التاجر الذي يعمل عنده، أو قريبه، أو الذي يصلي معه في المسجد فإذا كنا نوافق هذا الرجل الذي يقول إن مجتمعنا ليس فيه حاجة إلى إعادة الدعوة فيه، فنقول: يا أخي لا نريدك أن تذهب للعالم وإن كان هذا من واجبنا، لكن نريد أن تؤدي دورك تجاه الذين يفدون إلى هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع ما دام خير المجتمعات وما دام هو بلد التوحيد وهو بلد الحرمين، فيجب أن يكون هو الرائد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون المجتمع بكل ما يمثّله داعياً إلى الله سبحانه وتعالى.

تضخيم الفساد والانحراف وتقليل ثمار الدعوة

تضخيم الفساد والانحراف وتقليل ثمار الدعوة الأسلوب الثالث: هو الأسلوب المعاكس، تضخيم الفساد والانحراف: فعندما تتحدث مع بعض الناس سيذكر لك ألواناً من الفساد والانحراف الواقع في المجتمع، ثم يقرن هذا بضآلة الجهود المبذولة للدعوة، وهي جهود محدودة، ماذا تصنع أنت؟ تأتي مثلاً تلقي محاضرة، أو خطبة، أو تتكلم مع الطلاب في الفصل وتلقي عليهم كلمة وموعظة وقد يتأثر الجميع، ولكن هذا يذهب إلى المنزل فيرى التلفاز، يرى الفيديو ويهدم في دقائق كل ما بنيته، يذهب مع زملائه في الحي، أو مع زملائه في المدرسة أو حتى مع بعض أقاربه فيُهدم كل ما بنيته، واتسع الخرق على الراقع، والقضية لن يحلها إلا أمر بقدر الله سبحانه وتعالى، فيبدأ يتحدث لك عن ألوان الفساد، والانحراف، الفساد الموجود، والفساد القادم بصورة تجعله يائساً من أن يقدم أي عمل، ويرى أن أي عمل نتائجه محدودة، وحتى لو فرضنا أننا قدمنا عملاً وعملنا جهوداً وأنتجت فسرعان ما تزول هذه النتائج ويُقضى عليها.

الاستسلام للأمر الواقع

الاستسلام للأمر الواقع الأسلوب الرابع: الاستسلام للأمر والواقع: يقول لك هذا الواقع فماذا تصنع؟ ويعطيك بعض الأمثال العامية التي كثيراً ما نسمعها، والتي هي رد لأمر لله ورسوله، مثل قولهم: هل تريد أن تسد السيل بعباءتك؟ كما يقول المثل العامي، أو هل أنت وكيل آدم على ذريته؟ أو غيرها من العبارات التي غاية ما فيها أنها مخالفة لأمر الله ورسوله. أنا ما أريد أن أسد السيل بعباءتي، ولست وكيلاً على الناس، لكن أنا مكلف شرعاً أن أُنكر أي منكر أراه، مكلف أن أساهم في رفع هذه الغربة عن الأمة. فتتحدث عن منكر أو فساد، أو عن قضية معينة يقول لك: هذا الواقع، وماذا نصنع؟ ونحن في آخر الزمان، وإلى آخره، ويسرد لك من مآسي الواقع ما يشعرك بأن الرجل قد أصابه اليأس والإحباط ويرى أن هذا الواقع قد أصبح يفرض نفسه. ونحن نقول: من الذي صنع هذا الواقع؟ ألم تكن مجتمعات المسلمين قبل وقت قريب وقبل قرون قريبة مجتمعات محافظة تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى؟ فما الذي غير الواقع؟ أليس الذي غيره هم الناس؟ فالناس الذين غيّروا الواقع أظن أنهم قادرون، بل هم أقدر على أن يغيروه للأصلح، فإهمال الناس وتخليهم عن دين الله لم يكن كله مقصوداً، أعني أن كل هؤلاء الذين ساهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما كان مقصودهم تدمير الأمة، فإن الذين يسعون في تدمير الأمة قلة إذا نسبتهم إلى حجم الأمة، لكن بقية الأمة شاركت في هذا الواقع بصورة غير مباشرة بالتخلي، فعندما تهب الأمة لتغيير الواقع فالذي جعلها تغير الواقع من حسن إلى سيئ يجعلها قادرة وبصورة أكثر على أن تغيره من سيئ إلى حسن، ولماذا لا يتغير هذا الواقع؟ ولماذا لا تتبدل الصورة؟ ما الذي يمنع؟ الآن لو جاء وبعث أحد الذين ماتوا في الجيل الذي سبقنا لدهش مما رآه الآن من الفساد الموجود في المجتمع الذي لم يكن يألفه، هذا التغير السريع يمكن أن يحصل بنصف الوقت الذي حصل فيه بدون مبالغة؛ لأن الناس هم الناس، وهم الذين غيّروا الواقع، ولكن عندما يسعون للتغير الأصلح فعندهم دافع قوي، وعندهم قبل ذلك كله تأييد الله سبحانه وتعالى وإعانة الله عز وجل وتوفيقه، وعندهم رصيد الفطرة الموجود الذي جعلهم يوقنون أن هذا الفساد سيوصلهم إلى طريق مسدود.

الانشغال بالمصالح الخاصة

الانشغال بالمصالح الخاصة الأسلوب الخامس: الانشغال بالمصالح الخاصة. يعني عندما تطلب من أي إنسان أن يشارك في أي أمر كأحد طلبة العلم: نريدك أن تسافر إلى منطقة قريبة لتلقي محاضرة أو تعطي كلمة أو أي جهد دعوي تقوم به، فتطلب منه أي عمل يحتاج إلى أن يفرغ له جزءاً من وقته، وحينئذ سيعطيك قائمة من الأعذار: أنا عندي المنزل، والأولاد، والزوجة، أو أعمال خاصة وارتباطات خاصة، وأنا إنسان لي ظروفي الخاصة. فنقول: هل أنت كائن آخر غير البشر يا أخي؟ كل الناس عندهم زوجات وعندهم أبناء، بل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله) كان عنده تسع زوجات وكم غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ ناهيك عما يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم من وقته لخدمة دين الله سبحانه وتعالى وهو في المدينة، وهو في حجر أزواجه، وهو في مسجده، في كل حياته كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش لهذا الدين ولهذه الأمة، وكان يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يشارك في كل غزوة وكل سرية ما كان يمنعه زوجاته وأهله، ومهما كنت لن تكون خيراً منه صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم من دفنوا في الهند، وتحت أسوار القسطنطينية، وفي أفريقيا هنا وهناك، أين كانت قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن لهم أزواج؟ ألم يكن لهم أبناء؟ ألم يكن لهم ضيعات وبساتين؟ بل كانت ظروف أولئك غير ظروفنا، الآن يستطيع أحدنا أن يسافر إلى منطقة ثم يعود في نفس اليوم وبكل راحة أحياناً أحد مشاغله في نفس المدينة قد يأخذ عليه أكثر مما يأخذه عليه السفر إلى تلك المدينة وغيرها، وهكذا قائمة بمثل هذه المشاغل وهذه الظروف التي يبديها لك الإنسان حتى يتخلص من المسئولية. وإذا أتيت إلى طالب العلم قال: أنا عندي بحث، أنا عندي رسالة ماجستير، عندي رسالة دكتوراه، عندي مشاغل، عندي كذا وكذا حتى تطلب منه أن يلقي محاضرة لا تحتاج منه إلى تحضير وقد تكون جزءاً من بحثه فيعتذر، أو تريده أن يشارك في مشروع أياً كان فيعتذر لك بمثل هذه الأعذار الطويلة، لكن عندما تدعوه إلى وليمة تجد عنده استعداداً لأن يأتي، أو تدعوه إلى مناسبة فتجد عنده استعداداً فأقول: يجب أن نعيد النظر في كثير من هذه الأعذار والمشاغل الخاصة التي ننشغل بها، أنا لا أدعو الإنسان إلى أن يترك أهله ويترك أزواجه ويعطّل مصالحه الخاصة جملة وتفصيلاً؛ لكن أريد أن نكون واقعيين، وأريد أن أضرب لكم مثالاً آخر: لو أن الإنسان أتيح له فرصة عمل خارج الدوام الرسمي، أو أتيح له فرصة انتداب لمدة شهر أو شهرين، فالكثير من طلبة العلم نلح عليه أحياناً ونطلب منه أن يشارك في محاضرة أو كلمة نعرف أن مادتها موجودة عنده فيعتذر بأن عنده رسالة ماجستير، أو رسالة دكتوراه، ويأتيه أحياناً انتداب لمدة شهر فيذهب ولا يهم رسالة الماجستير أو الدكتوراه، ولا يهم زوجة، ولا أبناء فكل المشاغل هذه لا أدري كيف انتهت؟ ثم من القضايا المعروفة لدينا جميعاً أن الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهناك فرق بين عصرٍ الأمةُ فيه ممكنة، يبقى واجب المسلم أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن يخدم الأمة بما تحتاج، وينكر المنكر بما يراه، فرق بين هذا العصر وبين العصر الذي تعيش فيه الأمة أسوأ أحوالها.

الاحتجاج بعدم القدرة

الاحتجاج بعدم القدرة الأسلوب السادس: الاحتجاج بعدم القدرة. يقول لك: أنا معك لكن أنا لا أستطيع، أنا إنسان ضعيف في العلم أنا إنسان! لا شك أن هناك واجبات وأن هناك أموراً من أمور الدعوة قد لا يطيقها، ولا يقوم بها إلا أناس يملكون العلم ويملكون الخبرة، لكن هناك ما سوى ذلك، وسأعطيكم مثالاً تقيسون عليه ما وراءه. الرجل كبير السن الذي يتوكأ على عصاه، والمرأة العجوز التي لا تعرف أن تقرأ وتكتب قادرة على أن تخدم الأمة، وذلك أنه عندما يعلن في أي منطقة من المناطق عن محاضرة ويأتي هذا الرجل كبير السن يتوكأ على عصاه ويجلس في المسجد، فمجرد حضوره هذا يعتبر تشجيعاً لإقامة هذا النشاط؛ لأنه كلما كثر الحضور في مثل هذه المحاضرات كان ذلك أكثر دافعاً للمحاضر ولغيره أن يزيد منها، وبالتالي فهي رسالة غير مباشرة تبعث إلى المفسدين يقال فيها: هذه الأمة تريد هذا الخير، الأمة لم تعد وراءكم، والناس لم يعودوا وراءكم فهم يسيرون وراء الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. قد يحضر الرجل كبير السن محاضرة ولا يستوعب منها إلا القليل ولا يدرك إلا القليل، لكن عندما تنتهي المحاضرة يدعو لهذا المحاضر فيقول: جزاك الله خيراً وزادك علماً، ونفعنا وإياك، وحماك الله من شياطين الإنس والجن وغيرها من الدعوات التي نسمعها كثيراً من أولئك، فمجرد هذه الدعوة مطلوبة ويعتبر هذا الرجل قد قدّم خدمة، لأنه لا يدعو لزيد من الناس، وإنما يدعو لإنسان تصدى للدعوة، وتصدى لخدمة هذا الدين، فعندما يدعو له أن يزيده الله علماً، أن يزيده ثباتاً، أن يغفر الله له، قد يكون هذا صاحب تقصير ومهمل في حق نفسه، وذاك رجل صاحب عبادة ومجاب الدعوة فيجيب الله دعوته فينفع الله الأمة بدعوة مثل هذا، ونعتقد نحن أيها الأخوة أننا ما نُسقى ولا يأتينا الغيث إلا بدعوات أولئك الضعفاء أولئك العبّاد، البعيدون عن كل شهوة وعن كل هوى يخالف أمر الله ورسوله، فمثلاً إذا كانت هذه المرأة تستمع الشريط وتدعو لهذا الرجل الذي تسمع كلماته، وهذا الرجل أيضاً كبير السن كذلك فإنه يقدّم خدمة للأمة، ما بالك بعد ذلك بمن وراءه، أظن أن أقل الناس قدرة قادر على أن ينقل مثل هذه الأفكار التي يسمعها في خطبة جمعة أو يسمعها في محاضرة ينقلها بصورة أو بأخرى بتعبيره الخاص بلغته الركيكة الضعيفة إلى الآخرين، قادر مثلاً أنه يأخذ شريطاً ويعطيه الآخرين، قادر أن يصنع شيئاً كثيراً. لأضرب مثالاً آخر من واقع الطلاب، أو واقع الشباب باعتبار أنهم أقل الطبقات سناً نأتي إلى واقع المدرسة، ونجد صورة تتكرر كثيراً في الجو الدراسي، فنأخذ صورتين ونعرف أن الطالب وحده قادر على أن يعالج مثل هذه المشكلة، ويعالج مثل هذه الصورة، لكنه هو يتوهم أنه غير قادر. فمثلاً: المخالفات اللاأخلاقية من كلام، أو حركات، أو ممارسات، فيراها في الفصل، يراها في الممرات، يراها عند المقصف في كل مكان في المدرسة، فماذا يصنع الطالب؟ أعرف أن الكثير من هؤلاء الشباب يتألم عندما يرى مثل هذا المنكر، لكنه يعتقد أن القضية مسئولية الإدارة أو مسئولية الأستاذ فلان أو مسئولية فلان وفلان، وأنه غير قادر على أداء هذه المسئولية، فإذا كان عندنا فصل دراسي فيه خمسة من الشباب الأخيار، وكان كل واحد يرى أن الإنكار عليه واجب، فإن هذا يأتي إلى فلان ويقول له: اتق الله، لا يجوز لك أن تفعل هذا الأمر، أو يقول له باللغة الدارجة: عيب عليك تفعل هذا الكلام! وكل إنسان قادر أن يقول هذه الكلمة، ولا تحتاج إلى علم، ولا إلى فصاحة ولا إلى بلاغة. وإذا لم ينفع هذا الأسلوب فإنك ترتفع إلى لغة التهديد، فتقول له: إذا لم ترتدع فأنا سأخبر الإدارة، أو سأخبر الأستاذ فلاناً، فهنا قد يرتدع، فيرتدع جزء منهم عندما ينصح، ويرتدع جزء عندما يهدد، فإذا لم ينفع التهديد فإنك تخبر الإدارة فعلاً، وهذا من وسائل إنكار المنكر فيقضى على هذا المنكر. فإذا كانت هذه الصورة سائدة عند كل الشباب الذين يمقتون هذا المنكر، وكان كل واحد منهم يقوم بهذا الواجب الذي أجزم أن كل الشباب قادرون عليه، فما النتيجة؟ النتيجة أن الذي يريد أن يهم بمثل هذا الأمر سيتلفت يميناً وشمالاً، فإذا رأى واحد فقط من هؤلاء الأخيار كف عن هذه المعصية. فبتعاون هؤلاء الشباب نستطيع أن نقضي على المنكرات الظاهرة في المدارس، مع العلم أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب لا يتعلم هذه الأمور إلا في جو المدرسة، لأن والده محافظ عليه حتى لا يحتك بالآخرين، وقد يكون بعضهم لا يتصل بالعالم الخارجي إلا من خلال جو الدراسة، فلا يتعلم هذه الأمور إلا في المدرسة، فعندما نقضي عليها في المدرسة ونقضي عليها في الشارع، ونقضي عليها في المناسبات العامة، وتنتهي عن إعلانها أمام الناس سنجد أن فئة كبيرة من الشباب لن يقع في مثل هذه الممارسات. الصورة الثانية: يأتي شاب محافظ، شاب مستقيم، شاب خيّر، فيتعرف على صحبة سيئة وخلال أيام أو أسابيع سرعان ما يهوي، ويكون بغير الوجه الذي كنت تعرفه عليه، صورة متكررة يراها الأساتذة ويراها الطلاب جميع

تحميل المسئولية على طبقة معينة

تحميل المسئولية على طبقة معينة الأسلوب السابع: تحمل المسئولية على طبقة معينة، كطبقة الحكام أو المسئولين. حين تحصل مخالفات يقول: والله المسئول عنها هم الحكام أو المسئول عنها المسئول الفلاني. تحصل مخالفات مثلاً داخل الحي، فيقول: هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر هي المسئولة عنها، والمفروض أن تقوم بهذا، أو المسئول إمام المسجد، أو المسئول فلان وفلان من الناس، ونوزع هذه المسئوليات على الناس. وهناك كلمة تسمعها كثيراً في المجالس عندما يثار الكلام عن أي مشكلة موجودة في الواقع، خذ مثلاً قضية البث المباشر والصحون التي أصبحنا نراها في كل مكان، فعندما تثار القضية في أي مجلس يكون Q ما دور العلماء؟ ويبدأ الجميع ينتظرون العلماء أن يقوموا بواجبهم، وكأن الكتاب والسنة إنما هو خطاب للعلماء وحدهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته) أعلى طبقة في المجتمع الإمام الأعظم، ثم حتى آخر فئة (والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) العبد الذي لا تجب عليه الجمعة ولا تجب عليه كثير من التكاليف التي تجب على الحر هو راع أيضاً ومسئول عن رعيته، فكل الأمة مسئولة، وكل الناس مخاطبون بالنصوص الشرعية لا يستثنى منها أحد. نعم أيها الأخوة المسئوليات تختلف، والأمانة تختلف تبعاً لموقع الإنسان، فالمسئولية التي على الطالب ليست كالتي على الأستاذ، والمسئولية التي على العامي ليست كالتي على طالب العلم، والمسئولية التي طالب العلم ليست مثل المسئولية التي تجب على العالِم، ولكن المسئولية في الجملة مشتركة في حق الجميع.

نقد الجهود الدعوية

نقد الجهود الدعوية الأسلوب الثامن: نقد الجهود الدعوية: كثيراً ما نسمع نقد الجماعات الإسلامية، والأعمال الموجودة في العالم الإسلامي. الآن هناك جهود ولله الحمد نراها في كل مكان مراكز إسلامية، جمعيات إسلامية، تجمعات تقوم بخدمة هذا الدين والدعوة إليه، وقد يحصل منها مخالفات فعلاً، فنجد أحياناً بعض الناس حتى يدافع عن نفسه بصورة غير مباشرة يمارس النقد لمثل هذه التجمعات، فالجماعة الفلانية لا تعتني بالعلم الشرعي، والجماعة الفلانية عندها مخالفات، والجماعة الفلانية عندها بدع، والجماعة الفلانية عندها كذا وكذا حتى نقضي على كل تلك الجهود. يأتي هنا يقول لك: والله هؤلاء الشباب يجمعون الشباب على قضايا فارغة لعب كرة، وإضاعة وقت، وقضايا ليس فيها فائدة، أولئك يقصرون في العلم، أولئك يقصرون في العبادة، وأولئك ويعطيك قائمة من الانتقادات الشباب أصحاب الهيئات يقومون بجهد لكنهم ما عندهم عناية بالعلم الشرعي ولا يفقهون هؤلاء أصحاب المراكز الصيفية عندهم كذا وكذا هؤلاء عندهم كذا وكذا ويعطيك قائمة من الانتقادات لكل من يقوم بجهد دعوي، فلماذا ينتقد الجهود الدعوية؟ لأنه عندما يشيد الجهود الدعوية سيقال له: أين دورك أنت؟ وأين موقعك في الساحة؟ لكنه عندما ينتقد يبقى هو على الأقل سالماً من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون. وللأسف أنه أصبح الآن يكفي لتسقط فلاناً من الناس أنك تنجح في إثبات أنه ينتمي إلى جماعة معينة أو أنه له علاقة بجماعة معينة حتى تقضي عليه في أعين الناس، ومتى كانت هذه تهمة؟ نقول: نعم، هناك خلل موجود ولا شك سواء في الأنشطة الإسلامية، أو الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة، ولا زلنا ندعو إلى تصحيح الخلل، لكن هذا شيء والأسلوب الذي نمارسه للتهرب من المسئولية شيء آخر، أن نقضي على هذه الجهود ونلغيها كلها، وهي جهود لا تساوي شيئاً عند الكثير من الناس، وهو لا يصنع شيئاً، ماذا يصنع هو؟ يجتمع في المجالس مع فلان وفلان من الناس، طيب ماذا قدّمت؟ لنفترض أن كلامك سليم مائة بالمائة، وهؤلاء يضيعون أوقاتهم، وهؤلاء لا يقدمون شيئاً، وأنت ماذا قدّمت للأمة؟ لا يعرف إلا ترداد مثل هذه الكلمات، فيجب أن نحذر ونعرف أنه ليس من الفقه ولا من العلم، وليس من علو قدرة الإنسان أن يستطيع أن ينقد الأوضاع فالنقد سهل فهذا المكان لو طلبنا من كل واحد منا أن ينقد، فإنه يستطيع أن يجد فيه أخطاء فنية في تصميمه، كل إنسان يستطيع أن يكتشف لنا أكثر من خطأ، لكن لو يقوم هو بالعمل لم يستطع. لو طلبنا الآن من أحد الشباب أن يقوم فيلقي كلمة، فكل واحد منا يستطيع أن يجد عليه خطأ في اللغة، أو يجد أنه استشهد بحديث ضعيف، أو ترك هذه النقطة ما بيّنها، فكل إنسان يستطيع أن يجد عليه أكثر من ملاحظة، لكن لو يقوم قد لا يستطيع أن يأتي بنصف ما أتى به. فالنقد أمر يجيده الجميع لكن العمل شيء آخر، ونحن لا نمانع من النقد بل نطالب بالنقد والتصحيح، وبيان الأخطاء بالأسلوب الشرعي، لكن هذا شيء كما قلت وأن يكون هذا وسيلة غير مباشرة للتهرب من المسئولية كما يمارس الكثير شيء آخر.

دعوى التفرغ لتحصيل العلم

دعوى التفرغ لتحصيل العلم الأسلوب التاسع: دعوى التفرغ لتحصيل العلم. نقول ابتداءً: العلم الشرعي مطلوب، ويجب أن تقوم الصحوة على العلم، ويجب أن نعتني جميعاً بالعلم الشرعي، وليس أن نصرف جزءاً من أوقات الفراغ، بل أن نفرغ جزءاً من أوقاتنا لتعلم العلم الشرعي والعناية به، ويجب أن نوجه الشباب لهذا العلم والعناية به وتعليمه، لكن هنا منطق آخر، وهو أن بعض الناس يقول: أنا أريد أن أتفرغ لتحصيل العلم، فنقول: هب أن كل إنسان عنده رغبة في العلم، وأظن الناس الأخيار جميعاً يشتركون في وجود قدر من الرغبة في التفرغ للعم وإن كانت متفاوتة، لكن ما النتيجة؟ لن يبقى بعد ذلك عندنا من يقوم برعاية هؤلاء الشباب. أضرب لكم مثالاً واقعياً: الآن من أكثر الناس الذين لا يُتاح لهم فرصة لطلب العلم الشباب العاملون في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يسهر طويلاً ثم ينام في الصباح ثم يرتاح قليلاً، ويقابل أهله، ثم يعود بعد ذلك ليعيد الدوام مرة أخرى، الآن هذا المركز مثلاً عندنا فيه عشرة من الشباب لو قالوا: نريد أن نتفرغ للعلم فسيتعطل هذا العمل، فمن سيقوم به؟ سيقوم به إنسان يريد مجرد الوظيفة، وتخيل المنكرات التي ستوجد عندما يزول أمثال هؤلاء، فهؤلاء مجرد وجودهم يحجز كثيراً من المنكرات. وهكذا كل العاملين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يرعون الشباب ويفرغون جزءاً من أوقاتهم مع هؤلاء الشباب، عندما يتفرغون للعلم ستكون النتيجة أنه يتوجه الشباب للشوارع، أن يتوجهوا إلى تلك التجمعات التي لا تصدهم عن العلم وعن الطاعة فحسب، بل توقعهم في مساوئ الانحراف. أيضاً: جزء من هذا قد يكون مقبولاً عندما تأتينا شخصيات على مستوى من النبوغ وعندها قدرات فذة فيمكن فعلاً أن يُفرغ هؤلاء، بل يجب أن يُفرغ قدر من هؤلاء الشباب الذين عندهم نبوغ وقدرات علمية جيدة، فيجب أن يُفرغ هؤلاء ولو حتى من كثير من أمور الدعوة، حتى ينفعوا الأمة ويخدموا الأمة، والبقية يشتركون في العلم والعناية به وطلبه وإنفاق نفيس أوقاتهم فيه؛ لكن هذا شيء وأن يكون عائقاً عن أداء الواجب الشرعي شيء آخر، أرجو أن يفهم ما أقوله، ولا يُساء الفهم.

الاعتذار بالوقوع في المعاصي

الاعتذار بالوقوع في المعاصي الأسلوب العاشر: وهو من جنس ما أشرت إليه في المقدمة وهو مما يُساء فهمه، وهو الاعتذار بالوقوع في المعاصي. البعض من الناس يعتذر بأنه يقع في معاص، إما أنه مثلاً يقع في معاص معينة، أو أن مظهره لا يؤهله، حيث إن مظهره تظهر فيه المخالفات الشرعية فهذا لا يؤهله لأن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قضية قديمة وليست قضية جديدة، ولذلك يقول سعيد بن جبير رضي الله عنه: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر) فقال الإمام مالك رحمه الله تعليقاً على هذه العبارة قال: (وصدق! من ذا الذي ليس فيه شيء). والحسن وهو معروف بأنه من أشد السلف ورعاً في قضية العمل بما يقول، كان يقول لـ مطرف بن عبد الله: (عظ أصحابك، قال: أخاف أن أقول مالا أفعل، فقال له: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر). فهذه قضية كما قلت يعتذر بها الكثير، وهو يرى فعلاً أن هذا عذر شرعي، يرى أنه يقع في معصية من المعاصي وهذا بالتالي لا يجيز له أن يتحدث أمام الناس، وأن يعظ الناس؛ لأنه عندما يعظ الناس ويذكرهم ويدعوهم كأنه يظهر أمام الناس بغير مظهره الحقيقي وكأن هذا نفاق، وكأنه داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) فلا يمكن أبداً أن يوجد أحد يسلم من الذنوب حتى العلماء، وحتى الدعاة، فأي إنسان لا بد أن يقع في الذنب ولا بد أن يقع في التقصير، وهل تتخيل أن الذين يتصدرون للدعوة أو لتربية الشباب، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لتعليم العلم، أو غيرها من أبواب الدعوة، هل تتصور أن هؤلاء مقتنعون بما هم عليه وراضون عن حالهم مع الله سبحانه وتعالى؟ الكثير منهم ترى ذلك في مقاله وتراه في لسانه حاله، حيث يعترف بالتقصير والخطأ لكن تقصيرك في هذا الواجب لا يعني أن تقصر في الواجب الآخر، وهي قضية كثيراً ما ترد عند الشباب ويرد عنها التساؤل، ومن قبيل المصادفة اليوم أنه وصلتني رسالة من أحد الشباب من منطقة بعيدة وقد ذكر فيها أنه يقع في معصية ثم يقول: إنني كنت أنصح الناس ولكني لم أعد أتكلم مع بعض الشباب؛ لأني أخاف من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ومن يوم يعظ الظالم على يديه، وأحفظ قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. يقول: كنت أعظ الناس وأوجه الشباب لكني أخشى من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، لاحظ كيف يصنع الشيطان فعلاً فيوقعنا في مثل هذا الفهم الخاطئ، يعني يترك هذا الأمر خوفاً من الله عز وجل! يا أخي خوفك من الله وورعك يجب أن يدفعك إلى العكس، الخوف من الله والورع يجب أن يدفعك إلى الأمر والنهي، وموعظة الناس ولو كنت حتى مقصراً في هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، والسلف أورع منا، وأكثر منا إدراكاً لنصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تركوا هذه الأمور خوفاً مما نحتج به.

انتظار مجيء القادة

انتظار مجيء القادة الأسلوب الحادي عشر: انتظار لبعض الأوقات. مشكلة الأمة أنها تتعلق بالأشخاص فينتظر كثير من الناس أن يأتي خليفة راشد مثل عمر بن عبد العزيز أو قائد مثل صلاح الدين أو أحد مثل ابن تيمية أو غيره من المجددين فيقلب الأمور رأساً على عقب. وبين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال وهذا الوهم لا يزال يسيطر علينا، نحن نقول: حتى لو وجد هذا القائد فنحن لا ندري هل يبقى سليماً أو لا؟ فما موقف الذين يحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، يجابهونهم بألوان السجن والاضطهاد بل والقتل أحياناً، وحتى لو سلم من هؤلاء فلن يسلم وللأسف من بعض الصالحين، سيتهم بأنه إنسان مقصر بالعلم، أو أنه وقع في بدعة، أو أنه من دعاة التهييج، أو غيرها من العبارات التي تُمارس ضد هؤلاء، فحتى لو وجد المؤهل فأجزم أنه لن تسير الأمة كلها وراءه، بل هناك من سيواجهه ويقف وراءه، والمؤهل والقائد لا يمكن أن يسير وحده إذا لم تسر الأمة وراءه. ولذلك بعض الناس يحلو له أن يقرأ مثلاً نصوص المهدي المنتظر أو غيرها من النصوص، أو ينتظر أن يأتي رجل آخر غيره، ولم لا يكون واحداً من بيننا؟ لا يكون ابني أو ابنك مثلاً هو هذا الرجل؟ وما الذي يمنع؟ صلاح الدين وفلان وفلان أليسوا بشراً؟ ليسوا أناساً يحملون مواصفات خاصة أبداً، ولا جاءوا من السماء.

الفهم الخاطئ لبعض النصوص

الفهم الخاطئ لبعض النصوص الأسلوب الثاني عشر: الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية. وقد أشرنا إلى جزء منه؛ لكن هناك نصوص أخرى مثل قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متّبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة). وهذه قضية أظن أنها معروفة لدى الجميع، وأن مثل هذه النصوص يقابلها نصوص أخرى متضافرة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فلم نحتج بهذه النصوص ونترك غيرها؟

الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير

الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير كذلك من الأساليب الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير. بعض الناس عندما تخاطبه يقول لك: أنا مقصر والله المستعان، ونسأل الله أن يتوب علينا، وتنتهي القضية هنا! وهذا لا يكفي. نعم الاعتراف بالتقصير عندما أناقشك في أمر سابق، أو أناقشك عن فترة سابقة وأقول لك: كنت مقصراً، كنت تفعل كذا وكذا؟ فيحق لك أن تقول: نعم أنا كنت مقصّراً، وأسأل الله أن يتوب عليّ، لكن لا يصح أن تكون قاعدة! يا أخي! إذا عرفت أنك مقصّر، فما الواجب عليك؟ وللأسف أن هذا المنطق أحياناً يستعمله بعض الأخيار، وبعض الناس من طلاب العلم، ألا تدري يا أخي أن تقصيرك هذا يُعتبر معصية لله؟ فلم أنت تتورع عندما تفوتك صلاة الجماعة؟ وتتورع أن تقع في أي معصية من المعاصي ولا تتورع عن إخلالك بهذا الواجب الشرعي، ما الفرق بينهما؟ أليست واجبات شرعية؟ قد يتفاوت مثلاً قدر وجوبها لكنها تشترك بأنها واجبات شرعية، فالذي أوجب عليك صلاة الجماعة أوجب عليك هذا الواجب، والذي أوجب عليك بر الوالدين وأوجب عليك كل التكاليف الشرعية أوجب عليك ذلك، فلم نراك تعتني بالنوافل أحياناً وتحاسب نفسك عليها حساباً عسيراً وعندما نخاطبك بأمور الدعوة وأمور خدمة الدين لا تزيد على أن تقول: إنني مقصر وأسأل الله أن يتوب عليّ؟ إذا كنت مقصّر فهذا يعني أنه تقصير ستحاسب عليه أمام الله عز وجل كما تُحاسب على غيره من الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليسأل العبد المؤمن حتى ليسأله يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فيقول: يا ربي خشية الناس فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى).

انتظار فتح المجال

انتظار فتح المجال أسلوب آخر: انتظار فتح المجال. بعض الناس يريد أن يُفتح له مجال رسمي، أو أنه مثلاً يُعطى توجيهاً معيناً أو تكليفاً معيناً، وليس عنده استعداد بعد ذلك أن يعمل ولا أن يقدم خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والإجابة نقرأها في قصة لـ عبد الحميد بن باديس رحمه الله حين قال له الحاكم الفرنسي: إما أن تقلع عن تعليم تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت لك الجنود ليغلقوا المسجد، فقال عبد الحميد بن باديس: لا تستطيع ذلك، قال: كيف؟ قال: إذا أتيت إلى عرس ذكّرت الناس المحتفلين، وإذا أتيت إلى مجلس عزاء وعظتهم، وإذا ركبت في حافلة ذكّرت المسافرين، وإذا سجنتموني وعظت المسجونين، وإذا قتلتموني التهبت مشاعر المواطنين، وخير لك أيها الحاكم أن لا تواجه الأمة في دينها. أي: فافعل بي ما تشاء فأنا لا زلت أحمل هذه الدعوة معي إلى أي مكان وأنقل هذه الدعوة حتى تقتلني، وحينئذ ستلتهب مشاعر الناس وسيكون قتلي شهادة، وبعد ذلك يعرف الناس أنك رجل مواجه للأمة في دينها وهذا يدعوهم إلى أن يتمسكوا بدينهم فنريد مثل هذا المنطق، نريد أن يكون عندنا مثل هذه الروح التي كانت موجودة عند عبد الحميد رحمه الله أنه لا ينتظر فتح المجال، بل هو نفسه يستغل هذه المجالات ويسعى لفتح المجالات، ثم هبوا أنها أُغلقت أمامنا الأبواب، هل يعني هذا أن نتخلى عن الدعوة؟ هل يعني هذا أن نتخلى عن تبليغ دين الله سبحانه وتعالى، وعن إعداد الأمة؟ لا يمكن أبداً. كذلك انتظار التكليف والتوجيه، فبعض الناس ينتظر تكليفاً مباشراً وعنده استعداد لما يُكلف به من جهة رسمية أو من أستاذ له أو من شخص يثق به فعندما يحدد له واجباً يقوم به خير قيام، لكن ليس عنده مبادرة فردية. يا أخي عندك تكليف قبل هذا كله من الله سبحانه وتعالى وتكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كلّف من يكلّفك هو الله سبحانه وتعالى وقد أمرك بالأمر والنهي، أمرك بالدعوة، هذا تكليف فوق تكليف البشر.

عدم وجود الثمرة

عدم وجود الثمرة كذلك أحياناً من الأساليب عدم وجود الثمرة: بعض الناس يرى أنه لم يثمر، يرى أنه عمل ولم ينتج، أو يرى أن هذا العمل أصلاً غير منتج، إما أنه يفترض أنه غير منتج وهو ما دخل فيه إلى الآن، أو أنه قد عمل عملاً ولم ير له نتيجة، فنقول: أولاً: هذا ليس صحيحاً أبداً وهي قضية يدركها الجميع، فإن كل مجال من مجالات الدعوة نتائجه -ولله الحمد- ظاهرة وبارزة، يدركها الجميع. ثانياً: هب أنك لم تنتج، هب أنه لم يحصل ثمرة، هل أنت مكلف بهذه النتيجة؟ هل أنت مكلف بهداية الناس، ومحاسب عند الله كم يهتدي على يديك من إنسان، وكم يترك المعصية لأجلك من إنسان؟ أم أنك محاسب على القيام بهذا الواجب؟ فالتكليف ليس عائداً على أن يهتدي على يديك فلان أو فلان من الناس؟ وهل أنقذت فلاناً أو فلاناً من الناس؟ بل التكليف عائد على: هل قمت بهذا الواجب أم لا فقط؟ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي يوم القيامة النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل والرجلان). إذاً هذا النبي لم يكن لدعوته ثمرة ظاهرة أمامه في الدنيا، ولكن هل يعني هذا نقصاً من حقه؟ بل هذا النبي أفضل من الدعاة الذين يهتدي على يديهم الآلاف؛ لأن هذا نبي رسول وأولئك من عامة الناس، فليست العبرة فيما أنتجت، وكم اهتدى على يديك؟ بل العبرة: هل قمت بالواجب الشرعي أم لا؟ مع أنه لا يوجد عمل يقوم به أي إنسان إلا ويرى ثمرته ظاهرة، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، ومن رحمة الله بنا أن نرى الثمرة أمامنا عاجلة، وإلا فإن الثمرة الحقة هي ما نراه عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نقول لأي إنسان: طهّر المجتمع من المنكرات، أو اهد فلاناً أو فلاناً نقول فقط لكل إنسان: قم بواجبك فقط، ولا يهمك بعد ذلك أن تنجح الدعوة أو لا تنجح، أو أن يزول المنكر أو لا يزول، هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك أنت إذا رأيت نتيجة عملك محدودة فبإمكانك أن تعيد النظر، قد يكون أسلوبك خاطئاً، قد يكون عملك غير دقيق، قد يكون هناك طريقة أخرى أفضل من تلك الطريقة التي سلكتها.

المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة

المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة وأخيراً من الأساليب: المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة: لا شك أن الصحوة الآن ولله الحمد موجودة وظاهرة وعامة يدركها الجميع، لكن نحن أحياناً نتعامل مع مثل هذا الواقع، يعني أنت مثلاً تحضر في المركز الصيفي هنا وترى عدداً من هؤلاء الشباب الأخيار، تذهب إلى محاضرة في المسجد ترى مثل هؤلاء الشباب، تذهب تصلي الجمعة فتراهم، تذهب إلى مكة مثلاً في العشر الأواخر فتراهم، ويخيّل لك أن هذه السمة السائدة في المجتمع، لكن يا أخي في الوقت الذي أنتم فيه في هذه المحاضرة هناك الآلاف من الشباب موجودون على الأرصفة، والآلاف موجودون في الأسواق، والآلاف في أمكنة الله أعلم بها العشر الأواخر الذي تسافر فيها أنت إلى مكة هناك عدد يكاد يكون مثل هؤلاء الشباب بل أضعافهم يسافر إلى الخارج ليتمتع بالشهوات المحرمة، لكنها صورة لا ترى، في الوجه الآخر من المجتمع. حين يسافر الإنسان إلى أي منطقة يقابل هؤلاء الشباب، وهذا التوجه فيتخيل أن المجتمع كله بهذه الصورة! فأحياناً نبالغ فنقول: الحمد لله الأمور بخير، ما فيه حاجة لي أنا إذاً هذه النتيجة، يعني في كل مكان هناك من هو قائم بهذا الأمر، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في تربية الشباب، في أبواب الجهاد، في خدمة المسلمين في الداخل والخارج كل الأبواب أبواب ولله الحمد عاملة وأبواب مليئة بالناس فلا حاجة إذاً لنا! ليس صحيحاً أبداً، بل لا تزال الساحة تحتاج إلى أضعاف الأضعاف الذين يعملون بها، وأنا لا أقلل من إنجازات الصحوة بل هي إنجازات يدركها الجميع والذي يقلل منها يتغافل، أو يغفل، لكن أقول: يجب أيضاً أن لا تخدعنا هذه النظرة ونتخيل أننا قطعنا مسافة لم نقطعها بعد.

نماذج قرآنية لتحمل مسئولية الدعوة إلى الله

نماذج قرآنية لتحمل مسئولية الدعوة إلى الله أخيراً لعلي أن أشير باختصار إلى بعض النماذج التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من الناس الذين كانوا يدركون مسئوليتهم من آحاد الناس، فمثلاً في قصة موسى لما تآمر عليه فرعون وملؤه قام رجل مؤمن ذكر الله قصته في سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] إلى آخر الآيات وحواره الطويل معهم. رجل مؤمن كان يكتم إيمانه، ما كان من العلماء ولا من المشهورين لكنه رأى أن من واجبه أن يدافع عن موسى، وأن يدافع هذه الدعوة. نموذج آخر في قصة أصحاب القرية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:13 - 14] إلى آخر الآيات وفيها بعد ذلك: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]. لاحظ معي هنا هذا الرجل الذي لا يظهر لنا من خلال السياق أنه صاحب علم، فالدور الذي قام به يستطيع أن يقوم به كل إنسان، قال: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] يعني غاية ما يقوله للناس: اتبعوا هؤلاء الذين يدعونكم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى دين الله، فلما قُتل هذا الرجل ودخل الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا يزال يحمل هاجس الدعوة حتى بعد أن مات وبعد أن دخل الجنة يتمنى أن قومه الذين قتلوه يعلمون بما غفر الله له، حتى يسلموا، وحتى يتوبوا ويدخلوا الطريق انظر فعلاً إلى ما كان يحمله هذا الرجل من هم، ولذلك يقول ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل فرأيت عجباً، يقول: جاء من أقصى المدينة ولم يأت من وسطها، وجاء يسعى ولم يأت راكباً نموذج آخر في قصة سليمان لما تفقد الطير وفقد الهدهد: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21] فلما جاء الهدهد قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:22 - 24] يعني الهدهد يرى أن مسئوليته على الأقل أن يبلّغ عن هذا المنكر الذي رآه، أن يبلّغ عن أمر أحاط به ولم يحط به سليمان، وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أنه نظراً لأن هذا الهدهد قام بهذا الدور دخلت هذه الأمة في الإسلام {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] ومن كان وراء إسلامهم؟ البداية كانت من هذا الهدهد. نريد أن يكون عندنا على الأقل ولو من يحمل روح وعقلية ذاك الهدهد مع أنه غير مكلف، وهي جهود يستطيع أن يقوم بها آحاد الناس وأفراد الناس. عندما تخاطب أحياناً بعض طلبة العلم وبعض الناس الذين هم على مستويات عالية، بل هم أحياناً أفضل منك يعتذر لك بأنه لا يستطيع، ويذكر لك قائمة من هذه الأعذار التي سبق أن أشرنا إليها، الآن استخرج لي إحصائية سنوية كم يتخرج من الكليات الشرعية عندنا في هذا المجتمع؟ احذف نصفهم، ثم احذف نصف النصف يبقى الربع فقط، فلو أن ربع الخريجين جعل لنفسه في السنة أسبوعاً فقط يذهب إلى منطقة من المناطق المحتاجة، ويحضر له موضوع خلال السنة كلها، ويأتي إلى هذه القرية ويلقي هذه المحاضرة، ثم يلقيها في القرية الأخرى، ويعيدها ويكررها في أكثر من موطن، وآخر جاء وألقى نفس المحاضرة في أكثر من مدرسة مثلاً، والآخر كذا وكذا، لحصل خير كثير. بل لو أن نسبة عشرة بالمائة فقط منهم من حملة العلم الشرعي لحصل ذلك، لكن أين حملة الرسائل الأعلى رسائل الماجستير والدكتوراه في التخصصات الشرعية؟ وما نتيجة هذا العلم الذي حصّلوه؟ إنه كما قلت الأسلوب الذي نمارسه لنتهرب من المسئولية، ونحن نحتاج من كل إنسان مهما كان تخصصه، ومهما كانت قدراته ومهما كان مستواه إلى أن يقوم بدور

الأسئلة

الأسئلة

الاعتذار عن الدعوة بأن المجتمع لا يخلو من المنكرات مهما استمرت الدعوة

الاعتذار عن الدعوة بأن المجتمع لا يخلو من المنكرات مهما استمرت الدعوة Q كيف نرد على من يقول: من أحد المستحيلات أن نجد مجتمعاً نقياً من المعاصي الظاهرة، والمنكرات المنتشرة، فإذا دعونا إلى الله ونهينا عن المنكر فلن نتوقف عن ذلك إلى أن تقوم الساعة؛ لأننا لم نجد ما نسعى إليه كجعل المجتمع كمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، أو مقارباً له على الأقل، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً ليس هناك مشكلة لو استمرت الدعوة إلى قيام الساعة، وهل أنتم تتطلعون إلى وقت تنتهي فيه الدعوة؟ لا تنتهي الدعوة، وستبقى حتى داخل المجتمع الإسلامي، لا بد أن تقع المنكرات. ونحن عندما نتحدث عن واقع المجتمع وما فيه من المنكرات، وعندما نطالب الناس بالدعوة لا نطالب بأن يكون المجتمع مجتمعاً مثالياً خالياً من المنكرات، فهذا أمر مستحيل، ولكن حتى قضية المثالية والواقعية ما نحددها نحن وإنما يحددها المفهوم الشرعي، فيعود السؤال الذي طرحناه في البداية: هل هذا الواقع يرضي الله ورسوله أم لا؟ فعندما نقول إن المجتمع لا يمكن أن يخلو من المنكرات، يمكن أن يأتينا الناس الذين لا تقام في بلادهم الحدود، ويباح ما حرّم الله، ودستور الدولة يُعارض الإسلام معارضة صريحة ويقول لك: المجتمع لا يخلو من المنكرات، وتأتي في مكان تباح الفواحش علانية وتظهر ويقال لك: المجتمع لا يمكن أن يخلو من المنكرات، فليست هذه حجة شرعية، فوجود أي منكر يطلب منا أن نسعى لإنكار المنكر حتى لو وجد مجتمع يُرضى عنه ويبقى فيه منكرات فيجب علينا أن نساهم في تغيير هذه المنكرات.

استغلال الوقت في طلب العلم أو المشاركة في المراكز العلمية

استغلال الوقت في طلب العلم أو المشاركة في المراكز العلمية Q يقول: إنني محتار لأني أحس أن عليّ واجباً بل واجبات كثيرة، ولكني أجد من نفسي التأنيب بأني لا أفعل شيئاً مثل انتمائي للمركز الصيفي للدعوة إلى الله، ولكني أحس من نفسي بأني محتاج إلى طلب العلم، وحفظ القرآن، وغيرها فأجد في نفسي حيرة شديدة جداً أرشدني جزاك الله خيراً. والسؤال الآخر قريب منه يقول: ما نصيحتك لبعض أصناف الشباب الذين يثبّطونا عن المشاركة في مثل هذه المراكز بحجة أن طلب العلم هو أنفع وأصلح من ذلك؟ A ليست القضية الآن أيهما أصلح وأنفع، فهذه المراكز لو لم يأت فيها إلا أنها بديل لبقاء الشباب في الشوارع لكانت خيراً، فأنا أقول وبدون مبالغة: لو كانت هذه المراكز فقط يمارس فيها الشباب الرياضة ويجتمعون فقط ويتحدثون مع بعضهم في جو محافظ لكان هذا وحده كافياً، لأن فيه حماية الشباب عن أماكن المنكرات، مع أنها لا تخلو سواء من البرامج العلمية أو من المواعظ التي يسمعها الشباب، أو من غيرها مما ينفعهم ويفيدهم. وقد لا تستفيد من هذا المركز فوائد علمية لتقصيرك وإهمالك، وإلا فالمركز فيه مجالات وفيه دروس وفيه برامج، والإخوان -أحسبهم والله حسيبهم- من الحريصين على مثل هذا الأمر فما فرغوا أوقاتهم إلا لإفادة الشباب، هذا شيء. الشيء الآخر: بقية الوقت ماذا تصنع به؟ فالمركز لا يأخذ جميع وقتك؟ وقت الصباح الآن سبع ساعات ونصف، فماذا تصنع فيه؟ جزء كبير منه في النوم، وجزء يضيع هنا وهناك! فإذا كنت حريصاً على وقتك فاغتنم الوقت الآخر، فإذا اغتنمت كل الأوقات في العلم والدعوة وما بقي إلا وقت المركز فيمكن أن نناقش حينئذ مثل هذه القضية.

إشكال عن إنكار المنكر ممن هو واقع فيه

إشكال عن إنكار المنكر ممن هو واقع فيه Q كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إلى آخر الحديث، وهذا الشخص مقصر وعنده تفريط، وبين قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]؟ A سبق أن أجبنا عليها، ومن أراد المزيد من هذه فليرجع إلى تفسير ابن كثير وغيره من التفاسير حول هذه الآية، وإلى الكتب التي كتبت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي كثيرة، لكن نقول باختصار: الله سبحانه وتعالى أنكر على بني إسرائيل مخالفتهم ما هم أولى الناس باتباعه؟ فالإنكار هنا ليس لأجل أنهم أمروا، إنما الإنكار لأنهم كانوا أولى أن يجتنبوا ما وقعوا فيه مما ينهون الناس عنه، وأولى أن يفعلوا ما تركوه مما كانوا يأمرون الناس به. ثم إن عليّ واجبين: الواجب الأول ترك المنكر، والواجب الثاني نهي الناس عن المنكر، فإذا تركت الواجب الأول، فهل يسقط عني الواجب الثاني؟ هذا مثل من يقع في الزنا مثلاً أو في المعصية ثم يقول: كيف آتي أصلي وقد وقعت في الزنا؟ فهذا واجب وذاك وجب آخر. ثم لو طبّقنا هذا المفهوم أصلاً ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر؛ لأنه لا يمكن أن يوجد إنسان لا يذنب، ولو فرضنا أنه وجد أحد لا يذنب لذهب الله به وجاء بقوم يذنبون هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبقت عبارة سعيد بن جبير والحسن وغيره أثناء المحاضرة. لعلنا نكتفي بهذا القدر من الأسئلة فقد أثقلنا عليكم كثيراً وأطلنا عليكم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

من حق إخوتنا علينا

من حق إخوتنا علينا الدعوة إلى الله تعالى والسعي في هداية الناس أمر مطلوب من المستقيمين على أمر الله تعالى، ويعين على القيام بهذا الأمر النظر في ثمرات هذا الجهد المبارك، والاطلاع على الجوانب المضيئة في حياة المنحرفين المدعوين، والتزود بحسن الخلق في جملة من الأمور المطلوبة من الداعية، ليصل بذلك إلى نيل رضا الله في دعوته وكسب قلوب العباد.

بيان ما يلزم الشباب المستقيمين تجاه إخوانهم المقصرين

بيان ما يلزم الشباب المستقيمين تجاه إخوانهم المقصرين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فكنا قد انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن هديه صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة، واتفقنا على أن نؤخر الحديث عن هديه العملي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولذا سيكون موضوعنا هذه الليلة بمشيئة الله تعالى بعنوان: (من حق إخواننا علينا). وهو امتداد للمحاضرة التي ألقيت يوم الأحد الماضي وكانت بعنوان: (عوائق الاستقامة)، فهي الجزء الثاني لهذه المحاضرة، والجزء الثالث سيكون بمشيئة الله يوم الأحد القادم بعنوان: (رسالة إلى شاب). وكنا قد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن الدراسة التي تم إجراؤها على مجموعة من الشباب غير الملتزمين، أو الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وتحدثنا عن بعض نتائج تلك الدراسة، ووعدنا باستكمال عرض النتائج في هذا الدرس والمحاضرة التي تليها. وسيكون موضوع هذا الدرس مختصاً بالحديث عن واجب الشباب الملتزمين والأخيار تجاه إخوانهم أولئك الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وسيكون الموضوع وفق العناصر الآتية: أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك. ثانياً: جوانب مضيئة من سيرتهم. ثالثاً: قبل الدعوة. رابعاً: وبعد ذلك.

ثمار الدعوة إلى الله تعالى

ثمار الدعوة إلى الله تعالى

للداعي مثل أجور المهتدين على يديه

للداعي مثل أجور المهتدين على يديه أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك: عندما يهدي الله سبحانه وتعالى على يديك أحد هؤلاء، فما الثمرة التي تجنيها من وراء ذلك؟ ولا شك أن هذا الأمر من الدواعي للشاب إلى أن يهتم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يهتم بدعوة هؤلاء والتأثير عليهم. الثمرة الأولى من ثمرات اهتداء هؤلاء على يديك: أن لك مثل أجورهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا) والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة. فهذا الشاب عندما يهديه الله على يديك لابد أن يكون له نصيب من الصلاة والصيام والصدقة والزكاة والاجتهاد في النوافل، وغير ذلك من أبواب الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فلك حينئذٍ مثل أجره، وقد تكون أنت مقصراً في العمل، وقد يكون لديك بعض الكسل والفتور، فلا تكون صاحب همة في الاجتهاد في الطاعة والنوافل، فيهدي الله على يديك من يكون أكثر منك همة، وأكثر منك تقوى لله سبحانه وتعالى، وورعاً وطاعة لله عز وجل، فيكتب الله عز وجل لك بذلك أجره.

هداية رجل خير من حمر النعم

هداية رجل خير من حمر النعم الجانب الثاني والثمرة الثانية: أن هذا الأمر خير من حمر النعم: فقد أعطى صلى الله عليه وسلم الراية لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسله لقتال اليهود في خيبر بعد أن قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فأعطاها علياً رضي الله عنه، وقال له من ضمن من أوصى به: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والحديث رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث سهل رضي الله عنه. هذا الحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هداية أحد على يدي علي رضي الله عنه -والخطاب ليس خاصاً به، والحكم ليس خاصاً به- خير له من حمر النعم. وماذا تعني حمر النعم؟ إنها تعني أنفس ما كان يملكه العرب في ذلك الوقت، الإبل تلك الرواحل التي كانوا يمتطونها، فهداية رجل واحد خير له من حمر النعم أنفس تلك الرواحل التي يحرص العرب على اقتنائها، بل لقد كان من قيمة الإبل عندهم أنهم كانوا يقدرون بها الدية، فدية الرجل عندهم مائة من الإبل، وكذلك دية الجروح والشجاج وسائر الديات إنما تقدر بالإبل؛ نظراً لقيمة الإبل عندهم. الكثير من الشباب في هذه المرحلة المبكرة يتمنى أن يحصل على سيارة، وتزداد الأمنية عندما تكون السيارة جديدة، ولم يستعملها أحد قبله، وكم يفرح ويسر بذلك عندما يتيسر له هذا الأمر، فكيف لو قيل له: إنا سنعطيك أنفس ما يمتطيه الناس من الرواحل، أنفس السيارات التي يقتنيها الناس ويفاخرون بها، فلا شك أن هذا الأمر خير لك من ذلك كله، هذا إذا كان رجلاً واحداً، فكيف إذا كان أكثر من ذلك؟!

دعوة المهتدي لمن تسبب في هدايته

دعوة المهتدي لمن تسبب في هدايته الثمرة الثالثة: أنك لن تحرم دعوة صالحة يدعو لك بها من أنقذه الله على يديك من الظلمات إلى النور: فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مجابة، عند رأسه ملك يقول له: آمين، ولك بمثله. فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على يديك بهداية أحدهم، فسيعرف لك هذا الفضل، وسيعرف لك ما قدمت له، ولن يبخل عليك بدعوة صالحة، بل قد تكون أنت متوسداً على فراشك، نائماً في فراشك، وهذا قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى في ثلث الليل الأخير حين يقول الله عز وجل: (من يدعوني فأستجيب له؟) فيدعو لك بدعوة صالحة من صميم قلبه، يكتب الله لك بها الخير إلى يوم تلقاه.

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل الأمر الرابع والثمرة الرابعة: الجزاء من جنس العمل: قاعدة شرعية معروفة لسنا بحاجة إلى الاستدلال عليها والتمثيل لها، ولكن شاهدها عندنا هنا أنك لابد أن يكون لك بعد ذلك ذرية وأبناء بمشيئة الله عز وجل، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ومهما أوتيت من قدرات تربوية، ومهما كان عندك من الحرص والعناية والاهتمام، فإن الأمر يبقى بعد ذلك ليس إليك، التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى. وكم نرى من الأبناء الذين يعتني بهم آباؤهم، ويحرصون عليهم، ويبذلون الغالي والنفيس لحمايتهم، ومع ذلك لا يوفقون، ونرى في المقابل من الآباء المعرضين الغافلين من كان لهم أبناء صالحون، متبعون لأمر الله سبحانه وتعالى. فلا شك أن التربية لها دور مهم، لا شك أن المناصحة والعناية والاهتمام له دور في صلاح الابن ورعايته، لكن يبقى بعد ذلك توفيق الله سبحانه وتعالى. فإذا كنت -يا أخي- تحمل هم أبناء الناس، وتسعى إلى إصلاحهم، ويؤرقك هذا الأمر، وتجتهد غاية الاجتهاد في استنقاذ هؤلاء من الضلال والانحراف، فلعل مما يكافئك الله سبحانه وتعالى به، ويجزيك الله عز وجل به، أن يجزيك من جنس عملك، فيصلح لك ذريتك وأولادك، وهي أعلى نعمة يجدها العبد في الحياة الدنيا، ولا تقدر بثمن أبدا {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. إن هذا الأمر يمثل امتداداً لعملك الصالح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). فأقول: نتفاءل ونحسن ظننا بالله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد أخبر أنه عند حسن ظن عبده به، فحينما نجتهد في استنقاذ هؤلاء من الفساد في دعوتهم، ونبذل في ذلك نفيس أوقاتنا؛ سيقيض الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لأبنائنا -ولو بعد وفاتنا- من يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ويستنقذهم. وقد تموت أنت وابنك لا يزال في المهد، وابنك لا يزال صغيراً، حينئذٍ من له بعد الله سبحانه وتعالى؟ ولذلك أخبر الله عز وجل في قصة موسى والخضر لما أتيا المدينة واستطعما أهلها قال: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، ثم لما سأله عن تأويل ما لم يستطع عليه صبرا؛ أخبره عن هذا الجدار {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]. فهذان الغلامان كان أبوهما صالحا، وهما يتيمان قد مات أبوهما ولا شك، فحفظهما الله سبحانه وتعالى في مالهما لصلاح أبيهما، ولا شك أن الذي حفظهما في مالهما يعلم سبحانه وتعالى أنهما أحوج إلى أن يحفظا في دينهما. أقول: لعلك حينما تجتهد في هذا الأمر أن تجزى هذا الجزاء، أن يحفظ الله لك ذريتك، ويقيض الله لأبنائك وذريتك من ينظر إليهم بتلك النظرة التي تنظر بها إلى الناس، فالجزاء من جنس العمل.

الدعوة إلى الله دليل شكر نعمة الهداية

الدعوة إلى الله دليل شكر نعمة الهداية ثمرة خامسة أيضاً: أن ذلك من شكر النعمة: فلقد منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، والتوفيق إلى سلوك طريق الخير، ولا شك أن الفضل أولاً وأخيراً له سبحانه وتعالى، اسمع إلى أهل الجنة ماذا يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. فهؤلاء يحمدون الله سبحانه وتعالى على أن منَّ الله عليهم بالهداية، التي لم يكونوا -ولن يكونوا أبداً- ليحصلوا عليها دون توفيق الله عز وجل (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم). فأنت سلكت طريق الهداية الآن، منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بطريق الهداية، وأنعم الله عليك بهذه النعمة، ولا شك أن هذه النعمة شأنها شأن سائر النعم الأخرى لها حق عليك، ومن حقها أن تشكرها، وأعظم شكر لهذه النعمة أن تنقل هذه النعمة إلى غيرك الذي قد حرمها، وأن تجتهد في دعوة هؤلاء إلى سلوك هذا الطريق الذي منَّ الله عليك بسلوكه، ولو شاء ربك لكنت مثل هؤلاء، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. فهذا الأمر فيه شكر للنعمة، وهو أحرى بأن يكون سبباً لتوفيق الله سبحانه وتعالى لك في الثبات على هذا الطريق طريق الهداية. ابن القيم رحمه الله له أبيات جميلة في نونيته في ذلك، يقول: واجعل لقلبك مقلتين كلاهما بالحق في ذا الخلق ناظرتان فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران واجعل لوجهك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن

للداعية مثل أجر الداعية المهتدي على يديه

للداعية مثل أجر الداعية المهتدي على يديه الأمر السادس: وماذا لو كان داعية؟ هدى الله على يديك شاباً معرضاً غافلاً، كان همه الأمور الساقطة، كان همه المعاصي، ثم بعد أن من الله عليه بالهداية أصبح شخصاً آخر، قد يكون خطيباً مفوهاً، يقول كلمة الحق ويستمع الناس إليه، قد يكون واعظاً يبكي القلوب، قد يكون داعية ينفع الله به الأمة، بل -ولا تستبعد هذا يا أخي- قد يكون مجدداً، أليس النبي صلى الله عليه وسلم أخبر (أن الله عز وجل يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينه)؟ فلماذا تستبعد ذلك يا أخي؟ قد تقول: أنا غير مؤهل للتجديد، لكن قد يكون هذا الذي يهديه الله على يديك مجدداً لهذه الأمة. ونعود مرة أخرى إلى ابن القيم رحمه الله ليسمعنا أبياتاً جميلة، يثني فيها على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما منَّ الله عليه بالهداية على يديه، فقال بعد أن تحدث عن ضلال أولئك الضالين، وما في كتبهم: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي ما زال يشخب فيه ميزابان ميزاب سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيان ثم قال: فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان وقال أيضاً في موضع آخر لما أثنى عليه: فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني أعني أبا العباس أحمد ذلك البحر المحيط بسائر الخلجان ثم قال بعد ذلك: هذا ولو حدثت نفسي أنه قبلي يموت لكان غير هذا الشان مع ما كان للإمام ابن تيمية رحمه الله من دور بارز في تجديد العقيدة، مع ما له من أيدٍ بيضاء سطرها ابن القيم رحمه الله في ثنائه عليه، لكن انظر إلى ابن القيم رحمه الله الذي له مواقف وصولات مع المبتدعة أيضاً، وله مواقف أيضاً في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وله مصنفات ما زال الجميع يعض عليها بالنواجذ، وها نحن في درسنا هذا نقرأ ونتفيأ كتاباً من كتبه التي كتبها في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ابن القيم رحمه الله في جهوده كلها ما هو إلا ثمرة من ثمرات توفيق الله سبحانه وتعالى لشيخ الإسلام ابن تيمية. فتخيل يا أخي -وهذا ليس بعيداً أبداً- أن الله عز وجل هدى على يديك شخصاً كان له دور في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، في خدمة الإسلام، قد يكون من الدعاة، بل قد يكون من المجددين ممن ينفع الله عز وجل بهم. قد تكون أنت طاقاتك محدودة، قدراتك العقلية محدودة، قدراتك العلمية محدودة، بل همتك محدودة، لكن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً صاحب همة، صاحب طاقة، رجلاً أعطاه الله عقلاً وقدرة، فيسخر طاقته لدين الله سبحانه وتعالى، لتعليم العلم، لطلب العلم، للدعوة إلى الله عز وجل. فكيف يكون سرورك وفرحك وأنت ترى في الحياة الدنيا عاجل ثمرة دعوتك؟! وأما ما عند الله سبحانه وتعالى فهو خير وأبقى. أقول: هذه بعض الثمرات التي يجنيها من رزقه الله هذه النعمة، ومن منَّ الله سبحانه وتعالى عليه فأنقذ عز وجل على يديه هؤلاء من الضلالة.

إنقاذ الضلال من الهلاك

إنقاذ الضلال من الهلاك وهناك ثمرة أخرى أيضاً لا تقل أهمية عن هذه، أنه قد أنقذ الله على يديك أحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في الطريق إلى الهاوية، كان في الطريق إلى الضلالة، بل قد يكون -عافانا الله وإياكم- في الطريق إلى الخلود من النار، فأنقذه الله عز وجل على يديك، هذه بحد ذاتها ثمرة تهون دونها تلك الثمار التي يجنيها من يضيعون أوقاتهم ويصرفونها هنا وهناك.

جوانب مضيئة من سيرة الشباب المنحرفين

جوانب مضيئة من سيرة الشباب المنحرفين ننتقل بعد ذلك إلى النقطة الثانية، وهي: جوانب مضيئة من سيرتهم: لا شك أنه ظهر لنا من خلال الدراسة التي أجريناها -سواء الاستبيانات التي أجاب عليها الشباب، أو الدراسة الميدانية التي قمنا بإجرائها، والمقابلات الشفوية التي أجريناها معهم- ظهر لنا فعلاً أن هؤلاء يعيشون في عالم آخر، عالم آخر من الضياع والانحراف والغفلة لا نتصوره، مع إدراكنا لخطورة ما هم عليه، لكن كلما ازداد الأخ اطلاعاً على واقع هؤلاء عرف ذاك العالم الذي نغفل عنه وننساه. ننحن مثلاً لا نقابل في مثل هذه الدروس وفي هذه المحاضرات وفي لقاءاتنا إلا أولئك الذين منَّ الله عليهم بالهداية، أما تلك الأفواج التائهة الضائعة فلا نعرف عن حالهم شيئاً. أقول -أيها الإخوة-: مع تلك الجوانب السيئة التي برزت لنا، والتي ظهر لنا منها أمور خافية قد كانت غائبة عنا، أو -على الأقل- كنا لا نعطيها حق قدرها، مع ذلك كله هناك جوانب إيجابية عند هؤلاء، ولا أريد أن أتحدث عن عاطفة، بل عن أرقام وأمور وصلنا إليها من خلال الدراسة:

عدم رضاهم عن حالهم

عدم رضاهم عن حالهم فالجانب الأول من الجوانب المضيئة: عدم رضاهم عن حالهم: أكثر هؤلاء -مع أنه يتمتع بالشهوات، مع أنه يرخي لنفسه العنان- غير راضٍ عن حالته التي هو عليها، وجه لهم سؤال: ما مدى رضاك عن حالك الآن من الناحية الشرعية؟ فـ (6%) فقط من طلاب المرحلة الثانوية قالوا: إنهم راضون تماماً عن حالهم، و (14%) من طلبة المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم راضون تماماً. وأما البقية (94%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (86%) من طلاب المرحلة المتوسطة هؤلاء كلهم عندهم قدر من عدم الرضا يتفاوت. فـ (14%) من المرحلة الثانوية يقول: إنه متضايق جداً من حالته التي هو عليها، و (15%) من الفئة الثانية الذين منَّ الله عليهم بالاستقامة بعد أن كانوا في طريق الانحراف وجه لهم هذا Q هل كنت راضياً -في وقت انحرافك- عن حالك؟ فـ (15%) منهم أجاب بأنه كان متضايق جداً، و (30%) من طلاب المرحلة الثانوية أجابوا بأنهم غير راضين عن حالهم، و (32%) من الفئة الثانية أجابوا بأنهم غير راضين، و (22%) من المرحلة المتوسطة أجابوا أنهم غير راضين، و (51%). من المرحلة الثانوية أيضاً قالوا: إنهم غير راضين عن حالهم نوعاً ما، و (64%) من المرحلة المتوسطة أجابوا نفس الإجابة. الخلاصة: أن أكثر هؤلاء عنده قدر من عدم الرضا والقناعة بحاله التي هو عليها، ويتفاوت هذا الأمر، فبعضهم متضايق جداً، وبعضهم غير راضٍ، وبعضهم الأمر عنده دون ذلك، لكن غالبهم وعامتهم يشتركون في أنهم غير راضين بحالتهم التي هم عليها، ولا شك أن هذا الجانب إيجابي، يخدمنا أيضاً في دعوتهم، ويشعرنا أن هؤلاء لديهم قرب من الحق وطريق الاستقامة.

رغبتهم في تغيير حالهم

رغبتهم في تغيير حالهم الجانب الثاني من الجوانب المضيئة في سيرتهم: رغبتهم في تغيير حالهم: عندما سئل: هل ترغب في تغيير حالك؟ كانت النتيجة أن (3%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (7%) من طلاب المرحلة المتوسطة فقط هم الذين قالوا: إنهم لا يرغبون في تغيير حالهم، أي: أن البقية يرغبون في تغيير حالهم، والنسبة تتفاوت فـ (46%) من طلاب المرحلة الثانوية رغبتهم أكيدة في تغيير حالهم، و (37%) من طلاب المرحلة المتوسطة رغبتهم أكيدة. نلاحظ تفاوت النسب بشكل واضح بين المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية، يعني: كلما تقدم الشاب في السن ازداد تعقلاً، وازداد إدراكاً لسوء الحال التي هو عليها، ومن ثم ازداد رغبة في تغيير واقعه. إذاً: فعامتهم وأكثرهم عندهم رغبة في تغيير حالهم، بل إن النصف من طلاب المرحلة الثانوية تقريباً لديه رغبة أكيدة في تغيير حاله التي هو عليها.

تفكيرهم في الالتزام

تفكيرهم في الالتزام وهناك جانب ثالث -وهو قريب من هذا الجانب-: تفكيرهم في الالتزام: فـ (93%) من طلاب المرحلة الثانوية فكروا في الالتزام، و (92%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا في الالتزام. إذاً: فأكثر هؤلاء ليست القضية تقف عند عدم قناعته ولا عند رغبته، بل قد فكر فعلاً في الالتزام، هؤلاء الذين فكروا في الالتزام (32%) منهم فكروا تفكيراً جاداً في الالتزام، و (71%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا ثلاث مرات فأكثر، يعني: ليست القضية مجرد مرة واحدة ولا مرتين، بل قد فكروا أكثر من مرة بأن يسلكوا طريق الالتزام. و (49%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (34%) من طلاب المرحلة المتوسطة صنعوا خطوات عملية، يعني: تقدموا، ما توقفت القضية عند التفكير فقط، بل قد صنعوا خطوات عملية، وأجابوا بتلك الخطوات التي صنعوها، فمنهم من قال: أصبحت أحافظ على الصلاة، ومنهم من يقول: أصبحت أجلس في المسجد بعد الفجر في الإجازة، ومنهم من يقول: التحقت بأناس صالحين، يعني: ذكروا عدة خطوات سلكها هؤلاء، ومنهم من يقول: مزقت الصور، أحرقت الأفلام والأشرطة التي عندي، لكن لم يستطيعوا الثبات على ذاك الطريق الذي بدءوا في سلوكه. وفي دراسة أجراها الشيخ سلمان العودة أفادت الدراسة أن (99. 5 %) من شباب الأرصفة يحب أن يكون متديناً. إذاً: فعامة هؤلاء عندهم رغبة في الالتزام، عنده وفي الاستقامة، وإن أبدى أحدهم لك ما أبدى، فداخله يعبر عن ذلك، هذه إجابتهم الصريحة كما أجابوا هم بها.

شعورهم بأن الالتزام طريق السعادة

شعورهم بأن الالتزام طريق السعادة ومن الجوانب المضيئة في حياتهم: أن أكثر هؤلاء يشعر بأن الالتزام طريق السعادة: فقد وجه لهم Q هل تشعر بأن الالتزام طريق السعادة؟ والخيارات متاحة أمامهم: (نعم)، (لا أدري)، (لا). فالذين أجابوا بـ (نعم) (79%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (81%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة. أما الذين أجابوا بقولهم: (لا أدري)، فهم (21%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (18%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: لا إنهم لا يدرون هل الالتزام طريق السعادة أم لا. أما الذين أجابوا بـ (لا) فهم (1%) من طلاب المرحلة المتوسطة، ونصف في المائة من طلاب المرحلة الثانوية، شخص واحد فقط من العينة في المرحلة المتوسطة، وشخص واحد فقط من العينة في المرحلة الثانوية يقول: إنني لا أشعر بأن الالتزام طريق السعادة. إذاً: أكثر هؤلاء عنده شعور بأن الالتزام طريق السعادة، ولا شك أيضاً أن هذا من الجوانب المضيئة، ومن الجوانب التي تخدم في دعوتهم، فلست بحاجة إلى مزيد من الجهد لإقناعه بأن هذا طريق السعادة، هو يشعر بذلك، لكن أن تحدثه عن السعادة التي وجدتها بعد استقامتك، أن تحدثه عن جوانب من تلك السعادة التي لا شك أنه مع إدراكه -يعني: مع أنه يدرك أن الالتزام طريق السعادة- لا يدرك ذلك تمام الإدراك. وسنتحدث عن هذا الجانب -إن شاء الله- في محاضرة الأحد عندما نتحدث عن الأجوبة التي وردت إلينا من الذين هداهم الله سبحانه وتعالى بعد أن كانوا على طريق الانحراف، سنشير إلى نماذج من ذلك.

استجابتهم للنصيحة

استجابتهم للنصيحة الجانب الخامس: استجابتهم للنصيحة: وجه لهم Q هل وجه لك نصيحة شخصية؟ فـ (88%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (85%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا بأنهم قد تلقوا نصيحة شخصية. ثم وجه لهم سؤال آخر: ما أثر هذه النصيحة عليك؟ هذه النصيحة التي وجهت لك ماذا كان أثرها عليك؟ فـ (31%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (34%) من طلاب المرحلة المتوسطة -أي: عدد قريب من الثلث- أجابوا بأنهم استقاموا مدة محدودة. يعني: ما قبِلَ النصيحة ولا تأثر بها فقط، بل استقام فعلاً، لكنها مدة محدودة لم يستمر عليها. و (36%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (40%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا أنهم تأثروا تأثراً وقتياً، يعني: تأثر وقت توجيه النصيحة إليه. إذاً: فـ (67%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة كان أثر النصيحة أثراً إيجابياً عليهم، إما أنه استقام مدة محددة، وإما أنه تأثر تأثراً وقتياً، وهي قضية نشاهدها -مثلاً- عندما نتحدث في الفصل مع الطلاب، ونوجه لهم نصيحة وموعظة، نشاهد في وجوه الكثير من هؤلاء التأثر، وتشعر فعلاً بالندم في وجهه، فكيف إذا كانت النصيحة نصيحة شخصية؟! وكلكم قد يكون مرت عليه تجربة، قد وجه نصيحة شخصية لأمثال هؤلاء، أظن أننا قد لمسنا هذا بأنفسنا، أنك عندما تناصحه نصيحة شخصية ومؤثرة؛ تجد فعلاً أن الرجل متأثر وتعرف ذلك في وجهه، مما يدل على أن استجابته لهذه النصيحة إيجابية. فـ (23%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (25%) من طلاب المرحلة المتوسطة يقول: شكرته ولم أستجب له. يعني: على أقل الأحوال عنده شكر وعرفان لهذه النصيحة وإن لم يستجب، هذا لا شك يعتبر جانباً إيجابياً، فأنت لما تنصح إنساناً ويثني ويشكر ويقدر، وتعرف أنه لم يستجب، تشعر على الأقل بأن جهدك لم يذهب سدى. أما الذين سخروا ممن نصحهم فأفاد (2%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (1%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم سخروا ممن وجه لهم النصيحة، وعندما تكون نصيحة جادة أخوية لا شك من النادر أن تجد من يسخر منك. إذاً: فهؤلاء يستجيبون للنصيحة، هؤلاء يسمعون النصيحة، تؤثر فيهم كما عرضنا، وكما نشاهده، وتعرفونه جميعاً من تجربتكم الشخصية، بل إنا عندما جلسنا مع بعض الشباب على الرصيف ووقفنا عندهم كانوا مؤدبين، كانوا يدخنون فأطفئوا الدخان، ورحبوا بنا، وجلسنا معهم، فعرضنا عليهم الموضوع، قلنا: نريد أن نتناقش معكم حول عوائق الاستقامة، ما الذي يمنعكم من سلوك طريق الاستقامة؟ ودخلنا معهم في النقاش، وأبدوا لنا الترحيب. بعد ذلك استأذنا منهم، فقال أحدهم: إنك قد جعلت هذه المحاضرة وهذا الموضوع عائقاً بينك وبين النصيحة، فكنا ننتظر منك أن توجه لنا نصيحة شخصية بعد ذلك، فلماذا لم توجه لنا هذه النصيحة؟ وكان حديثه محرجاً فعلاً، وطلبه محرجاً لنا. هذه دليل على أن هؤلاء عندهم رغبة وحرص، يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل يرحبون بالنصيحة، وأسوأهم حالاً من يرحب بك ترحيب مجاملة، ولا شك أن هذا يعطيك دافعاً أكثر. ونلاحظ من خلال النسب التي عرضنا أن استجابة طلاب المرحلة المتوسطة للنصيحة وتأثرهم بها أكثر من السابقين، مع أنهم أكثر جدية، لكن هؤلاء يسهل التأثير عليهم؛ لأنهم لم يغوصوا بعد في أعماق الفساد والشهوات.

سماعهم الشريط الإسلامي

سماعهم الشريط الإسلامي الجانب السادس من الجوانب الإيجابية من حياة هؤلاء: سماع هؤلاء للشريط الإسلامي: وجه لهم Q هل تسمع الشريط الإسلامي؟ فأجاب (6%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (5%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم لا يسمعون الشريط الإسلامي إطلاقاً، والبقية يسمعون سماعاً متفاوتاً، منهم من يسمع دائماً، ومنهم من يسمع كثيراً، ومنهم من يسمع نادراً، لكن يشترك هؤلاء جميعاً في أنهم يسمعون الشريط الإسلامي، بل أفاد أكثر هؤلاء أن أكثر الوسائل -التي يرونها- تأثيراً على الشباب هو الشريط الإسلامي. ولا شك أن هذا الجانب إيجابي يجب أن نعتني به، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي؛ فهذا يعطينا فرصة ابتداءً لأن يخصص لهم حديث خاص، محاضرات خاصة لهؤلاء، خطب خاصة لهؤلاء، إصدارات خاصة موجهة لهؤلاء. ثم -أيضاً- نسلك معهم وسيلة أخرى، وهي نقل الشريط الإسلامي، إهداء الشريط الإسلامي، توزيع الشريط الإسلامي على هؤلاء، فالكثير من هؤلاء يسمع الشريط الإسلامي، ولا شك أنه سيتأثر به كما أفاد أكثر من (60%) أنهم يتأثرون عندما يسمعون الشريط الإسلامي. وهذه رسالة نوجهها إلى أصحاب التسجيلات: أن يعتنوا بهذا الجانب، وأن يعتنوا بهذه النوعية من الشباب، وكذلك نوجهها إلى مشايخنا وأساتذتنا من العلماء والدعاة: أن يعتنوا بهؤلاء، ويقدموا لهم مادة تستحق التقديم، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي، فما نسبة المادة الموجهة لهم من المواد المعروضة في التسجيلات؟ لا شك أن المحاضرات والخطب التي تأخذ الجانب الوعظي تناسب هؤلاء، لكن هل يجد هؤلاء حديثاً واقعياً؟! حديثاً فيه نقاش عقلي لمشاكلهم، ومحاولة في الحديث عن مشاكلهم الخاصة، وعما يواجهونه من عقبات، والاهتمام بهم، فمجرد شعورهم بالاهتمام بهم كافٍ بحد ذاته، وقد أبدى لنا الكثير من هؤلاء الشباب شكره على اهتمامنا به، وأبدى لنا شكره على توجيه مثل هذه الأسئلة والاستبانة التي تشعر بالاهتمام والعناية بشأنهم.

موقفهم الإيجابي تجاه الشباب الملتزمين

موقفهم الإيجابي تجاه الشباب الملتزمين الجانب الإيجابي السابع من مواقف هؤلاء: موقفهم من الشباب الملتزم: لقد فوجئنا فعلاً بنتيجة ما كنا نتوقعها من موقف هؤلاء من الشباب الملتزمين، ولعلي أشرككم في شيء مما لمسته من ذلك، فقبل ذلك نشير إلى دراسة الشيخ سلمان العودة التي وصل فيها إلى أن (10%) فقط من أفراد العينة لا يحب الشباب المتدينين، أما (70%) فهو يحبهم، و (20%) يقول: إنه يحب المعتدلين من هؤلاء فقط. كان من الأسئلة الموجهة لهم: كلمة توجهها إلى كل من: الأب، الأستاذ، الداعية، الشاب الملتزم؟ وسأقرأ عليكم بعض الكلمات التي وجهها هؤلاء للشباب الملتزمين، وفي الواقع لا أستطيع أن أقرأ كل ما ورد علي، لكن سأقرأ بعض ما اخترته من عباراتهم التي هي نموذج للشعور الذي يملكونه تجاه الشباب الملتزمين. يقول أحدهم: أن يحمدوا الله على الهداية. يقول الآخر: تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة. والكثير من هؤلاء رسالته للملتزمين: أن ينصحوا إخوانهم غير الملتزمين، وأنا بدوري أنقل هذه الرسالة لكم. ومن ذلك أيضاً: ترك العزلة، والأنانية، وكسر الحواجز بينهم وبين غير الملتزمين، فهو يرى أنك عندما تستأثر بهذا الخير لوحدك وتبتعد عن هؤلاء، أنك تملك قدراً من الأنانية، فينبغي أن تشركهم في هذا الخير الذي بين يديك. والآخر يقول: أن يكونوا قدوة صالحة، ويدركوا أهميتهم. وآخر -أيضاً- يقول: أن ينظر أمامه، ولا يبالي بمن يسخر منه، فهو أفضل منه. والآخر يقول: أن يتحملوا كل ما يقال لهم، ويصمدوا، ويكونوا خير مثل. وآخر يقول: جزاهم الله خيراً، لا أقترح عليهم شيئاً؛ لأنهم قائمون بواجبهم التام. والآخر يقول: أتمنى أن أكون مثلهم. والآخر يقول: هم قدوتنا نحو الصلاح. وآخر يقول: أشكركم على ما فعلتم بي. وآخر يقول: محاولة أن يكون لهم كيان، ويؤثروا على غيرهم. وآخر يقول: نسأل الله أن يثبتهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وآخر يقول: إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر، وعيون أهل الخير، فكونوا على أهبة الاستعداد. وآخر يقول: زوروا الشباب غير الملتزمين، ووجهوا إليهم النصيحة. وهذه الكلمة تكررت أكثر من مرة. وآخر يقول: كونوا على جانب كبير من الأخلاق والتعامل للتأثير في غيركم. وآخر يقول: عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه. وآخر يقول: الإصرار والعزيمة، وأن يعرفوا أنهم على حق، ولا يهتموا بكلام الناس. وآخر يقول: كم أسر عند رؤيتكم يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي! هذا بعض ما وصلنا من مشاعر لهم تجاه الملتزمين، صحيح أن بعضهم انتقد، صحيح أن بعضهم ذكر جوانب سلبية، لكن أكثر هؤلاء ذكروا عبارات مثل هذه، والوقت لا يتسع للاستطراد في ذكر جميع العبارات التي حكاها هؤلاء. المهم أن هذه العبارات على اختلاف مجالاتها واتجاهاتها يجمعها أمر واحد، وهو أنهم يحبون الشاب الملتزم، يثقون به، لهم شعور تجاه هذا الشاب إيجابي، ولا شك أن هذا الأمر يخدمك كثيراً عندما تشعر بأن هؤلاء يحبونك، وإن أبدوا ما أبدوا من السخرية والاستهزاء، فهذه وسيلة للاعتذار؛ لأنه يشعر بالتقصير، يشعر بالإهمال، فيحاول أن يعبر أو يدافع عن نفسه بالسخرية والاستهزاء، وغالباً لا يسلك منطق السخرية والاستهزاء إلا الشخص الذي ليس عنده قناعة بالطريق الذي هو عليه، أما صاحب القناعة فلا يمكن أن يسلك هذا الطريق.

أمور مطلوبة قبل الدعوة

أمور مطلوبة قبل الدعوة

حسن الخلق أثقل ما في الميزان

حسن الخلق أثقل ما في الميزان ثم بعد ذلك نصل إلى النقطة الأخيرة -وأظنها من أهم ما نتحدث عنه-، وهي: قبل الدعوة: الجانب الأول: حسن الخلق أثقل ما في ميزانك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عظم حسن الخلق، وأخبر أنه ما من عمل أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن أحب الناس إليه أحاسنهم أخلاقاً. والحديث عن فضل حسن الخلق حديث يطول، لكن لا شك أن لحسن الخلق والتعامل والبشاشة وطلاقة الوجه مع هؤلاء وغيرهم أثراً كبيراً في دعوتهم واستجابتهم وتأثرهم بك، بل قد يكون سبب تأثرهم ليس دعوتك وحدها، بل حسن خلقك، قد يكون حسن خلقك فقط داعياً لأن يتأثر هؤلاء ويستجيبوا. وكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم بسبب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، بسبب موقف واحد حين رأى منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، وهذه قضية سنتحدث عنها -بمشيئة الله- فيما نستقبل من الدروس عندما نتحدث عن هديه صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق، وعن شمائله.

حمل الكل وإكساب المعدوم هدي رسول الله

حمل الكل وإكساب المعدوم هدي رسول الله الجانب الثاني: حمل الكل وإكساب المعدوم من خلق نبيك صلى الله عليه وسلم: تقول خديجة رضي الله عنها لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها يشتكي فزعاً بعد شدة الوحي: والله! لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. لقد كانت هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقري الضيف، وكان يكسب المعدوم، وكان يعين على نوائب الحق، ولنا قدوة فيه صلى الله عليه وسلم وأسوة حسنة، فهو قدوتنا صلى الله عليه وسلم وأسوتنا. ولقد كان لهذه الأخلاق -كما قلت- عظيم الأثر وبليغ الأثر في استجابة الكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له.

أهمية استغلال مواقف السير بالسيارة

أهمية استغلال مواقف السير بالسيارة الجانب الثالث: وأنت في السيارة: قد تحصل لك مواقف كثيرة وأنت في السيارة تستطيع من خلالها أن تشعر الناس بأنك تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق. فهناك موقف يحصل كثيراً عند التقاطعات، أو في طرق ذات أفضلية، عندما تفسح الطريق لأحد المارة لا شك أنك تراه مباشرة يلوح لك ويشير لك بيده يعبر لك عن الشكر والثناء والتقدير، أما ما في قلبه فهذا أمر لا تعلم عنه شيئاً. فماذا لو كان خلقنا هكذا؟! وماذا لو كان هؤلاء يعرفون أننا نقدمهم، ونفسح لهم في الطريق، ويعرفون منا حسن الخلق والمعاشرة؟! وهناك موقف آخر قد يحصل: تسير بسيارتك فترى شخصاً قد تعطلت سيارته، قد يكون عطلاً يسيراً، قد يكون عطلاً في إطار السيارة، وقد يكون عند خزان الوقود، المهم أن يكون عنده عطل يسير، فعندما تقف وتسلم عليه وترحب به، ثم تعرض عليه مساعدتك وخدمتك، قد يطلب منك المساعدة والخدمة فعلاً، وقد يشكرك ويفيدك بأنه لا يحتاج لذلك، فهو بانتظار من سيأتيه، أو قد أصلح هذا العطل الذي حصل له، أو قد تكون أنت لا تستطيع هذا الأمر فتعتذر منه. فما أثر ذلك على هؤلاء؟! أليس هذا -أيضاً- من خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة)؟! هذا من الصدقة، ومن الأمر الذي تؤجر عليه. ولو كان هؤلاء قد اعتادوا أننا دائماً الذين نقف لهم، ودائماً نعينهم، ودائماً نشعر بشعورهم، لأثر ذلك عليهم، يعني: قد يكون هو يسخر منك، وقد يكون يهزأ بك، فإذا بك تقف وتعرض عليه المساعدة فعلاً، وتساعده مساعدة جادة، لا شك أن مثل هذه المواقف وحدها كفيلة بأن تعطيه صورة أخرى، بل قد يكون هذا الموقف وحده سبباً في هدايته، أن يعلم أنك إنسان تحمل منهجاً، وأنك إنسان رباك هذا الأمر. وكم يكسب الناس بخلقهم؟! أحياناً قد يخطئ عليك إنسان، فيسيء إليك، فتهم بشتمه أو سبه أو عقوبته، فيعتذر منك اعتذاراً حاراً، فتصدم ولا تستطيع بعد ذلك أن تقول كلمة واحدة، فكيف إذا لم يرتكب ضدك أي خطأ؟!

أثر الطالب في فصله الدراسي

أثر الطالب في فصله الدراسي الجانب الرابع: وأنت في الفصل الدراسي: في الفصل لا شك أنه يكون لك زملاء من أمثال هؤلاء، وتحصل مواقف كثيرة أيضاً من المواقف الشبيهة بما أشرنا إليها، فمثلاً: قد يحتاج إلى أي مساعدة معينة، يعني: مساعدة مشروعة، وقد يكون عنده مشكلة، وقد يكون عنده مسألة -مثلاً- في المنهج ما فهمها، والغالب أن أمثال هؤلاء يكون مهملاً في الدراسة، وقد تكسبه بحسن خلقك، وقد تؤثره على نفسك عندما تأتي وتجده قد جلس في مقعدك. فعندما تتخلق بهذا الخلق وأنت في فصلك الدراسي، فما أثر ذلك على زملائك في الفصل؟! ما أثر ذلك عندما يشعر جميع طلاب الفصل بأنك أنت الإنسان المتميز بحسن الخلق، والمتميز بقضاء حوائجهم، والمتميز بالنصح لهم، والمتميز بالعفو عن زلاتهم، والمتميز بكل ذلك؟! لا شك أنك تعطي صورة مضيئة فعلاً، وكأنك تقول بلسان حالك -ولو لم تقل لهم شيئاً-: هذا هو الطريق الذي أريدكم أن تسلكوه. ومهما اختلفت أفكار الناس واتجاهاتهم فإنهم يجمعون جميعاً على محبة صاحب الخلق، ويجمعون جميعاً على أن يجدوا في قلوبهم المنة لمن أحسن إليهم، حتى الناس أصحاب الأخلاق السيئة، وحتى الناس أصحاب الشراسة، يتفقون جميعاً على تقدير صاحب الخلق الحسن، ولا يجرؤ أحد منهم على أن يسيء إلى صاحب الخلق الحسن أبداً، فإذا كان الشاب متميزاً في فصله، يعرفه طلاب الفصل جميعاً، ويعرفه الأساتذة، وتعرفه إدارة المدرسة بأنه صاحب الخلق الحسن، وصاحب المواقف الحميدة، وصاحب الاعتذار قبل أن يخطئ، عندما يعرف عنه ذلك هؤلاء، فإنه قبل أن ينصح هؤلاء سيكون له دور، فما بالك إذا وجه نصيحة أو وجه كلمة؟! كيف سيكون أثرها؟!

لا تنتظر ثمرة إحسانك

لا تنتظر ثمرة إحسانك الجانب الخامس: -وهو مهم ومرتبط بما قلناه-: لا تنتظر ثمرة إحسانك: عندما تقدم إحساناً لهؤلاء من حسن خلق، أو عفو، أو صفح أو غير ذلك؛ لا تنتظر ثمناً لذلك، بل ليس من الضرورة أن تربطه بالنصيحة، يعني: عندما آتي -مثلاً- وأجد شاباً عليه آثار انحراف، وأجده قد تعطل في الطريق وأقف له وأعينه، ليس بالضرورة أن أوجه له النصيحة، فعندما يجد مني أني عندما أقدم له خدمة لابد أن أقابلها بالنصيحة قد يشعر بأن هذا ثمن للنصيحة، وإن كان في الواقع لن يتضايق من النصيحة، لكن يجب أن يشعر بأني أتخلق بحسن خلقي لذاتي؛ لأن هذا حسن خلق أمرنا به الإسلام، وهذا خلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، الذي ما رئي أحسن منه صلى الله عليه وسلم خلقاً، الذي يقول عنه حسان رضي الله عنه: وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء هذه هي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفت الدنيا أبر وأطهر وأحسن خلقاً منه صلى الله عليه وسلم بآبائنا هو وأمهاتنا. فأقول: يجب أن يعرف الناس عنك أنك تتخلق بحسن الخلق لا لأجل أنك تكسب الناس فقط، بل تتخلق بحسن الخلق؛ لأنك تعلم أن هذا هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، ولأنك تعلم أن حسن الخلق يبلغ به العبد ما لا يبلغ الصائم القائم، ولأنك تعلم أن أقرب الناس وأحبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة وأحبهم إليه أحاسنهم أخلاقا، ولأنك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لك ببيت في أعلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). أقصد من ذلك كله أنه مع هذه الآثار التي تحصل لحسن الخلق من محبة الناس، وهي آثار تجدها في الدنيا قبل أن تجدها في الآخرة، ومع هذه الآثار وهذه النتائج التي تجدها في دعوتك لا يكون همك في حسن الخلق هو هذه الآثار والنتائج فقط، لا، بل أنت تتعبد لله بحسن الخلق الذي طبع عليه نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمرك به، ورتب على ذلك الأجر العظيم، بل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الإنسان بأن يعود نفسه فيقول: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).

تنازل عن بعض حقوقك

تنازل عن بعض حقوقك الجانب السادس: تنازل عن بعض حقك: تحكي لنا عائشة رضي الله عنها صورة من هديه صلى الله عليه وسلم فتقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً في مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم على ذلك غضبا، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً) الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي في الشمائل. فهو صلى الله عليه وسلم لم ينتصر في مظلمة لنفسه ظلمها قط، إنما ينتصر عندما تنتهك محارم الله عز وجل. وتقول أيضاً في وصف آخر له صلى الله عليه وسلم: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي في سننه، ورواه الترمذي -أيضاً- في الشمائل المحمدية والطيالسي. وكلنا يحفظ تلك الصورة المثلى من خلقه صلى الله عليه وسلم التي يحكيها أنس رضي الله عنه، يقول: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فجاءه أعرابي، فجبذه بردائه؛ حتى أثر الرداء في صحفة عنقه، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه وابتسم، ثم أعطاه حتى رضي). أقول -يا إخوان-: قد يساء إليك، وما أكثر ما يسيء إليك هؤلاء، ولا شك أن الذي أساء الأدب مع الله عز وجل، وأن الذي يتجرأ على محارم الله، لابد أن يسيء الأدب مع خلق الله عز وجل. أقول: لابد أن يأتيك من ذلك إساءات، ولابد أن يأتيك تجاوزات من هؤلاء، قد يسخر منك، وقد يظلمك، وقد يأخذ بعض حقك. المهم أنه قد تحصل لك إساءة، فتنازل -يا أخي- عن بعض حقك، ويجب أن تتميز بأنك الرجل الذي تتنازل عن حقك، تحلم، وتعفو، وتكظم الغيظ، وتصفح، تلك الأخلاق التي تعلمتها وأنت تقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]. بل إن عفوك وصفحك وتنازلك عن حقك الغالب أنه يعيد إليك الحق، فلو سخر منك وقابلت ذلك بالإحسان؛ فإنه لابد أن يعرف أن هذه يد لابد أن يجزيك بها، ولو أساء إليك بأي إساءة أخرى وقابلت هذه الإساءة بالصفح والإحسان والعفو؛ لحفظ هذا الجميل لك، وستلقاه بعد ذلك عاجلاً، وأنت لا تبحث عن الجزاء العاجل، إنما تسلك ذلك استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يعفو صلى الله عليه وسلم، بل تحكي عنه زوجه أقرب الناس إليه أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ينتصر لمظلمة ظلمها قط عليه أفضل الصلاة والسلام، وما يكسب الناس مثل الحلم، وما يكسب الناس مثل الصفح والعفو والتنازل عن الحقوق.

أمور يلزم التنبه لها

أمور يلزم التنبه لها

الحذر من قياس الأمور بمقياس واحد

الحذر من قياس الأمور بمقياس واحد وبعد ذلك ننبه على بعض الأمور: أولها: احذر من القياس على رأس الديك: هذا مثل طريف يحكونه، وهو أن أحد الناس غير المبصرين عاد إليه بصره، فرأى رأس الديك، ثم بعد ذلك فقد بصره، يعني: ما رأى في الدنيا إلا رأس الديك، فصار كلما قيل له شيء، فقيل له عن الجبل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! قيل له عن الفيل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! يعني: كل شيء يقارنه برأس الديك، ما عنده إلا نظرة واحدة. وأقول: يجب أن يكون عندنا سعة أفق، وألا نعرف الأسلوب الواحد فقط، أحياناً يجرب أسلوب فينجح، أو طريقة معينة فتنجح، فنسلك نحن جميعاً هذا الأسلوب، فيجب أن يكون عندنا تنويع في أساليب الدعوة، وتنويع في الخطاب، وابتكار. اقرأ القرآن -يا أخي- تجد القرآن ينوع الموعظة، مرة يذكر ما يحصل لأهل النار من عذاب، ومرة يذكر نعيم أهل الجنة، ومرة يذكر مخلوقات الله سبحانه وتعالى والتفكر فيها، ومرة قصص الأولين والسابقين، وهكذا تجد الموعظة في كتاب الله سبحانه وتعالى قد جاءت متنوعة على أنحاء شتى. والنبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى دعوته صلى الله عليه وسلم، فهو -مثلاً- لما أتاه الوليد بن المغيرة ماذا قال له؟ قال: اسمع، فقرأ عليه القرآن. ولما أتاه أعرابي أعطاه مالاً، فأسلم لأجل المال، كما قال أنس: فلقد كان الرجل من الأعراب يسلم ما به إلا حب الدنيا، ثم ما يلبث أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. لما جاء إليه ضماد وكان رجلاً كاهناً قال له صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له). ولما جاء عدي بن حاتم وهو ملك قال: (أترى الحيرة؟ قال: نعم. سمعت عنها ولم أرها، قال: يوشك أن تسير الظعينة من الحيرة فتطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، قال: أتعرف كسرى بن هرمز؟ قال: نعم. قال: يوشك أن تنفق كنوزه في سبيل الله، ثم قال: ويوشك أن يعطى المال فلا يقبله أحد، فيقول عدي رضي الله عنه: فلقد رأيت اثنتين وأنا انتظر الثالثة). المهم أن عدياً رضي الله عنه كان ملكاً، ولذلك خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يناسبه، وهكذا تأمل في السيرة، اقرأ في أحداث السيرة، وانظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، أحدهم يقرأ عليه القرآن، والآخر يعظه، والآخر يناقشه نقاشاً عقلياً، والآخر يعطيه مالاً، ينوع الأساليب صلى الله عليه وسلم التي تتناسب مع الناس. فأقول: نحن بحاجة أيضاً إلى أن نسلك نفس الهدي الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى هذه القضية بالتفصيل عندما تحدثنا عن هديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة. فأقول: نحن بحاجة إلى أن ننوع الأساليب، ونبتكر الوسائل والأساليب التي تؤثر على أمثال هؤلاء.

الحذر من اليأس من المدعوين

الحذر من اليأس من المدعوين ثانياً: اليأس داء قاتل: قد توجه النصيحة، وقد تبذل الجهد، ثم لا يستجاب لك؛ فتيأس، نحن نريد منك أن تكون كما كان نوح عليه السلام، يقول في دعائه لما دعا على قومه: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]. إنه لما يئس يأساً تاماً من قومه أصبح يؤمل في أولادهم، حتى يئس من أولادهم، فقال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]، وقد ظل يدعو قومه عليه السلام خمسين وتسعمائة سنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين قال: (لا؛ لعل الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله). فأقول: لا تيأس أبداً، فلمجرد كلمة، أو كلمتين، أو نصيحة، أو جهد محدود تيأس وتقول: لم يستجب؟! يجب أن تأخذ من أنبياء الله ومن الدعاء السابقين العزيمة والإصرار والهدي الذي كانوا عليه، وهب أنه لم يستجب لك، وهب أنه لم يسمع لك، فلا تظن أبداً أن هذه الكلمة التي قلتها لله عز وجل ستذهب سدىً، فإن العبد قد يتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، أو يرفعه الله بها درجات.

مهد الطريق لغيرك

مهد الطريق لغيرك ثالثاً: قد تمهد الطريق لغيرك: يعني: قد تنصحه ولا يستجيب، وقد تسلك معه أسلوباً ولا ينجح هذا الأسلوب، لكن لا يعني هذا أن القضية ذهبت سدىً، لا، فقد تكون أنت بهذا الأسلوب وبهذا النصيحة وبهذه الدعوة قد مهدت الطريق لمن يليك، يعني: أوجدت عنده إحساساً وشعوراً، فيجيء الذي بعدك فيوجد عنده نفس الشعور، حتى تتكامل الجهود، وليس بالضرورة أن يستجيب لنصيحة واحدة، فلما تتكرر عليه النصائح، ولما تتكرر عليه الأساليب، فيجمع هذا مع رصيده السابق، حتى يكون ذلك سبباً في هدايته، فيكون لك أنت دور في هدايته وإن لم تكن أنت السبب المباشر في هدايته، فإنك قد صنعت خطوة على الأقل ولو خطوة محدودة في ذلك.

بين حسن الخلق ومجالسة المنحرفين

بين حسن الخلق ومجالسة المنحرفين بقيت نقطة أخيرة أرجو الانتباه لها؛ لأنها أحياناً تكون عائقاً عما قلناه قبل قليل من ضرورة حسن الخلق والبشاشة والطلاقة مع هؤلاء، وأيضاً قد يفهم ما قلناه فهماً سلبياً، فيتجاوز بعض الشباب في ذلك، وهي: بين ترك الجليس وحسن المعاملة: نعلم جميعاً أثر الجليس السيئ، وأن الشاب يجب أن يجتنب هذا الجليس، وأن يحذر منه ولا يجالسه، وندرك جميعاً خطر هذا علينا خاصة في مرحلة الشباب ونحن في مقتبل العمر، وأن الكثير من الشباب الذي ينحرف بعد أن هداه الله قد يكون سبب ذلك أمثال هؤلاء الجلساء. فحينئذٍ يتساءل بعض الشباب فيقول: هل تريدني أن أجلس مع هؤلاء وأعاشرهم حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى، أم غير ذلك؟ أنا أقول: يجب أن نفرق بين قضيتين: بين قضية البشاشة وحسن الخلق والتقدير، وبين قضية الجلوس معهم، فمثلاً: ما الذي يمنع أن تبدأ بالسلام وتبتسم، ثم بعد ذلك تودعه وتنصرف؟ ليس بالضرورة عندما نقول: كن حسن الخلق معه أن تقضي الوقت معه، فهذا زميلك في الفصل أو في المدرسة من هؤلاء وغيرهم عندما تلقاه تبدأه بالسلام وتبش له وتبتسم له وتصافحه، ثم بعد ذلك تودعه. فلا يعني بالضرورة عندما نطالبك بحسن الخلق أن تقضي وقتك معهم، بل أنا لا أدعو الشباب إلى ذلك، خاصة في هذه المراحل الأولية، فلا أدعو الشاب إلى أن يقضي وقتاً طويلاً مع أمثال هؤلاء، فإنه قد يتأثر من حيث يريد أن يؤثر، يعني: يمكن أن تناصحه، وأن تدعوه مع إخوانك الطيبين إلى مجالات الخير، لكن لا تقضي وقتك معهم، أو لا تذهب وحدك مع هؤلاء فتكون وحيداً، فإنك قد تتأثر بما عند هؤلاء، وقد يستجرك الشيطان بحجة الدعوة والتأثير عليهم خطوة خطوة حتى تقع في فخ هؤلاء، فتصبح بعد ذلك تجالسهم حباً لما عندهم، بل قد ينتقل الأمر بعد ذلك إلى أن تجالسهم حباً لممارسة الشهوات التي يمارسونها. لذا أرجو أن تفهم هذه القضية جيداً، ففرق بين حسن الخلق والطلاقة والبشاشة، وبين ترك مجالستهم، وأظن أن قضية ترك مجالستهم ومعاشرتهم لا تعني أن تكون مكفهر الوجه، لا تؤدي عليهم السلام، ولا تحسن الخلق معهم، فإن هؤلاء مسلمون، عندهم جوانب خير وجوانب طاعة، ولهم من الولاء -على الأقل- بقدر ما عندهم من الإسلام. وقد جاء رجل فاستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فلما خرج الرجل سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب هذا التغير، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه)، والحديث رواه البخاري وغيره. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بئس أخو العشيرة)، ومع ذلك يحسن معاملته والبشاشة له، ففرق بين الأمرين، يحسن معاملته اتقاء فحشه، فمن يحسن معاملة صاحبه رجاء هدايته ورجاء أن يهديه الله على يديه أولى من ذلك، أو -على الأقل- أظن أن هذا الحديث يدلنا على مشروعية حسن الخلق، وحسن معاملة هؤلاء، وإن كان عندهم ما عندهم من الفسوق والعصيان، فنحسن معاملتهم، ونشعرهم بأننا نحبهم، ونحب جوانب الخير فيهم، وإن كنا نكره ما عندهم من المعصية، وإن كان عندنا -لا شك- شعور بقدر من الكره والبراءة مما هم فيه من العصيان، ومع ذلك تبقى قضية الولاء، فهو يقول: لا إله إلا الله، فهو يصلي، ويحب أهل الخير، وعنده جوانب من الخير يجب أن يمنح الحب لأجلها، ومع ذلك قضية حسن المعاملة وحسن الخلق أمر آخر، فأرجو أن يفهم ما قلته حتى لا يلتبس على الإخوة.

الأسئلة

الأسئلة

اقتراح بإضافة درس

اقتراح بإضافة درس Q هذا طلب من أحد الطلاب المحافظين على الدرس يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اقترح عليك -أيها الشيخ حفظك الله، وأنا مصر على هذا الاقتراح- أن تضيف درساً على درسك يوم الثلاثاء في هديه صلى الله عليه وسلم، وأظن أن يوم السبت مناسب لهذا الدرس إنني مصر على هذا الاقتراح، وأرجو رجاءً حاراً أن تلبيه، وأرجو من المحاضرين أن يوافقوا، ولا أنسى أن أحرضهم على طلب العلم، وهم أعلم مني بذلك، ضع الاقتراح اليوم، وفي الدرس القادم خذ ما يقترحون بعد أن يكتبوه على أوراق، أرجو رجاءً حاراً أن تلبي طلبي، أرجو ذلك؟ A على كل حال لا شك أن الأخ وغيره من الشباب الذين يحضرون هذا الدرس لهم قدر ومكانة في قلوبنا، وما يطلبه له قيمته، لكن قد لا نستطيع هذا الأمر، فكفانا مئونة أن نقوم بهذا الدرس، ولنفترض أنني أقمت درساً آخر، فأظن أنكم قد تخسرون، فإني عندما يكون لي درسان في الأسبوع قد يقل حضوركم، فلما يكون هناك درس في الأسبوع يكون ذلك أسهل، هذا أمر. الأمر الثاني: أنه عندما يكون درس واحد يستطيع الأخ أن يتفرغ له، ويعتني بالتحضير والأعداد، بخلاف ما لو كان هناك درسان في الأسبوع، وعلى كل حال -مع تقديري للأخ الكريم- فالاقتراح غير قابل للتنفيذ في هذا الوقت.

توجيه لاحتواء من لا يحمل جنسية بلاد الداعية

توجيه لاحتواء من لا يحمل جنسية بلاد الداعية Q هناك بعض الأجانب يلتزم، ولكن يبحث عن رفقة صالحة فلا يجد أحداً، فما الحل -يا ترى- في ثباتهم على هذا الدين؟ A هذا المصطلح يجب أن نزيله، حيث يقصد بالأجانب الذين هم ليسوا من هذه البلاد؛ لأن الحدود الجغرافية هذه أمور وضعها الاستعمار، ولا ينبغي أن تؤثر علينا في تقييمنا، وفي موازيننا، وفي محبتنا وكراهيتنا. أقول: الحل واضح: أن ينظم إلى رفقة صالحة، ولا يجوز أبداً أن نتخلى عن فلان من الناس بحجة أنه ليس من أهل هذه البلاد، فهذا الدين ليس لهم وحدهم، وليسوا هم المكلفين بالدعوة، بل العرب والعجم كلهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى.

تذكير للشباب الملتزمين بنعمة الهداية

تذكير للشباب الملتزمين بنعمة الهداية Q سرنا ما ذكرته من إحصائيات عن محبة الشباب المنحرفين الالتزام، وشعورهم بأنه طريق للسعادة، فهل من كلمة لنا نحن -الشباب- بألا نفرط فيما نحن فيه من خير؟ A نعم، لا شك أنك عندما تعلم أن هؤلاء الذين يعيشون الانحراف منغمسين في الشهوات ضائقون ذرعاً مما هم عليه، وأنهم قد فقدوا السعادة، وأنهم يشعرون ويتمنون أن يسلكوا طريق الالتزام والسعادة، لا شك أن هذا يزيدك ثباتاً، بل قرأت عليكم بعض رسائلهم، فأحدهم يقول: لا تفكر في أن تعود إلى ما كنت عليه سابقاً. أثبت على ما أنت عليه. نسأل الله لك الثبات. فهذا يزيدك -ولا شك- ثباتاً، ويزيدك قناعة بالطريق الذي أنت عليه، وإن كان لا ينقصك القناعة، لكن لماذا تريد أن تتمتع بالشهوات؟! هؤلاء قد متعوا أنفسهم بما شاءوا من الشهوات، وتيسرت لهم أمور قد لا تتيسر لك أنت، ومع ذلك هاهم يندبون حظهم، وهاهم يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل إن بعضهم يقول: إنني أريد أن أستقيم، وأريد أن التزم، فما الحل؟ يتمنى من كل قلبه أن يسلك طريق الاستقامة، لكن يبحث عن الحل، يعني: عنده شعور بأنه غير قادر على سلوك هذا الطريق، ويتمنى أن يتيسر له أن يسلك طريق الاستقامة وطريق الخير. فإذا كان هؤلاء -يا أخي- الذين انغمسوا في الشهوات وذاقوا لذتها قد عرفوا مرارة الطريق؛ فهذا -أيضاً- يزيدك ثباتاً، ويزيدك شعوراً بأن ما أنت عليه خير، يجب أن تعض عليه بالنواجذ، ولا تفرط فيه.

حال من اهتدى ثم عاد إلى الانحراف

حال من اهتدى ثم عاد إلى الانحراف Q هل هذه النقاط والجوانب المضيئة تنطبق على من التزم وضل الطريق؟ A يقصد: هل الذين انحرفوا بعد أن هداهم الله عز وجل يشعرون بهذه المشاعر؟ هذه القضية ما عندي بها نتائج دقيقة؛ لأننا لا نفرق، فنحن وزعنا الاستمارات على أشخاص غير مستقيمين أو غير ملتزمين، وعندما جاءتنا الإجابة استبعدنا الاستمارات التي اكتشفنا أن الذين أجابوا عليها عندهم قدر من الاستقامة؛ حتى تكون النتائج دقيقة أكثر. قد يكون غير الملتزم فعلاً قد مرت عليه تجربة، بل إن بعضهم قد أشار إلى ذلك، يعني: قد يكون سلك طريق الهداية، ثم انحرف، وقد لا يكون كذلك، لكن -على كل حال- لا شك أيضاً أن غالب هؤلاء يتمنى أن يعود إلى ما كان عليه، بل إن الكثير ممن تحدثت معهم ممن منَّ الله عليه بسلوك طريق الاستقامة، ثم انحرف بعد ذلك، عندما أوجه له هذا Q كيف ترى حالك الآن، وحالك قبل؟ هل تتمنى أن تعود إلى ما كنت عليه؟ هل أنت راضٍ عن حالك الآن؟ أجد أن الإجابات جميعاً تؤيد ما نقوله.

طريق الوصول إلى قلوب المنحرفين لدعوتهم

طريق الوصول إلى قلوب المنحرفين لدعوتهم Q عرفنا كل ذلك، ولكن كيف نبدأ معهم، وكيف نصل إلى قلوبهم؟ A لا شك أن ما أشرنا إليه من حسن الخلق، والتأسي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لا شك أنه مما يوصلنا إلى قلوب هؤلاء، أن نشعر هؤلاء بأنا نريد الخير لهم، ونحب الخير لهم، وأيضاً أساليب الهدية، والتقدير والتوقيع وغيرها، فتشعر هؤلاء بالمحبة والتقدير، ثم بعد ذلك الدور الأساس والمهم: النصيحة والموعظة، ودعوتهم إلى اجتماعات الأخيار، ودعوتهم إلى مجالس الناس الخيرين، لا شك أن لذلك دوراً كبيراً في هدايتهم وجلبهم إلى طريق الخير والاستقامة.

توجيه للشباب المتكبرين عن مجال المنحرفين

توجيه للشباب المتكبرين عن مجال المنحرفين Q بعض الشباب الملتزمين لا يكلم هؤلاء الشباب، ولا يضحك معهم، فما رأيك -يا شيخ- في هؤلاء، هل هم على الصواب أم على الخطأ، ثم ما نصيحتك لهؤلاء الملتزمين؟ A قضية الضحك معهم شيء آخر، فرق بين الابتسامة وحسن الخلق، وبين المضاحكة، فعندما ندعو الشاب المستقيم إلى أن يبتسم لهؤلاء، وأن يحسن الخلق، لا ندعوه بعد ذلك إلى أن ينزل عن الوقار الذي منحه الله إياه، فيصبح إنساناً هازلاً، إنساناً يشارك هؤلاء في هزلهم، بل هذا يسقط قيمتك، يجب أن تكون متميزاً عندهم، فمع حسن الخلق والابتسامة واللطافة تشعرهم بأنك رجل جاد، عندك قدر من الجدية ليس عندهم، لا يسوغ أن تشاركهم في كل ما هم عليه ولو لم يكن محرماً، ولا أن تشاركهم في أحاديثهم، أو أن تنزل إلى القدر الذي ينزلون إليه؛ لأن هذا يزيل وقارك، ويزيل هيبتك، هذه قضية. القضية الثانية: بعض الذين أجابوا بتلك الإجابات أفادوا أن بعض الملتزمين ينظرون نظرة استكبار إلى هؤلاء، وبعضهم أفادوا أن بعض الملتزمين عنده سوء خلق، المهم أنه تنوعت -أيضاً- الإجابات التي تدل على تضايقهم من هذا السلوك وهذا الأمر. وبعضهم يعتذر عندما نقول له: لم لا تسلك طريق الاستقامة؟ يقول: إنني لا أجد في الملتزمين حسن الخلق، ولا أجد فيهم القدوة، وعلى كل حال ليس الأكثر هؤلاء، وإن كان عددهم كثيراً، لكنهم بالنسبة إلى أولئك الذين أبدوا المشاعر الطيبة يعتبرون قلة ولا شك. ولكن مع ذلك ينطلقون من بعض السلبيات التي نقع فيها: من النظرة السيئة، فبعض الشباب الذي عنده استقامة وخير ينظر إلى هؤلاء من علو، وينظر إلى هؤلاء وكأنه أعلى منهم منزلة، فيا أخي! أعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، واعلم أن هذه الهداية التي أنت عليها وهذه الاستقامة ليست من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من جهدك، بل هي توفيق الله سبحانه وتعالى، فلو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم، فالقلب بين أصابع الرحمن.

دور التبرعات لشراء وسائل الهداية

دور التبرعات لشراء وسائل الهداية Q اقترح أن يكون هناك جمع تبرعات نقوم بها لعدد من المشاريع كتوزيع شريط، وتوزيع بعض الكتيبات المناسبة للشباب؟ A هذا اقتراح وجيه، وأدعو الشباب إلى أن يستعملوا هذه الأساليب فيما بينهم، مثلاً: الشباب في الحي، في مدرسة، في جمعية، أي جامع يجمعهم ما الذي يمنع أن يدفع أحدهم كل شهر عشرة ريالات أو أكثر أو أقل، ويشتروا به كتيبات وأشرطة، ثم يقوموا بتوزيعها على أمثال هؤلاء، فعندما يكون الجهد منظماً ومستمراً -ولو كان قليلاً- لا شك أنه يثمر ثمرة كبيرة، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. فأنا أؤيد أيضاً، وأضم صوتي إلى صوت الأخ صاحب هذا الاقتراح، فأقول: هذا اقتراح وجيه وطيب، ويجب أن نتعاون جميعاً، ولو كان الأمر يسيراً لا تحتقره، بعض الناس يقول: إما أن أتبرع بخمسين ريالاً أو مائة ريال وإما لا أتبرع، لا، هذا غير صحيح. فلو كنا عشرين شاباً -مثلاً- عندنا مناسبة نلتقي بها كل أسبوع أو كل شهر، فاتفقنا على أن كل واحد منا -مثلاً- يدفع عشرين ريالاً في الشهر، فكم سنجمع؟ سنجمع في الشهر أربعمائة ريال، وإذا اتفقنا مع أحد أصحاب التسجيلات، أو الناس الذين ينسخون أشرطة، فينسخ لنا الشريط بريالين، أو بثلاثة ريالات، أو بأقل أو أكثر، فنستطيع أن ننسخ كمية من هذه الأشرطة، أو نشتري بعض الكتيبات، ونساهم في توزيعها على هؤلاء أو غيرهم؛ فيكتب الله لنا بها الخير الكثير، خاصة عندما نضع برنامجاً مستمراً، فالأشياء الوقتية تنقطع، لكن لو وضعنا برنامجاً مستمراً -ولو كان يسير- سيثمر بعد ذلك، ويكون له آثار كثيرة لا نتصورها، يعني: لو كنت -مثلاً- تدفع كل شهر عشرين ريالاً، ستجد أنك دفعت في السنة مائتين وأربعين ريالاً، ولو قلنا لك في سنة واحدة: ادفع مائتين وأربعين فقد تشعر بأن هذا المبلغ كثير، أو قد لا تطيق أصلاً أن تدفع هذا المبلغ جملة واحدة.

الموقف من أذية المنحرفين

الموقف من أذية المنحرفين Q بعض الشباب المنحرفين يسبوا الملتزمين، فما نصيحتنا لهم، أفيدونا بارك الله فيكم، وأثابكم الله؟ A لابد أن تجد نوعيات شاذة، الغالب أن من يجد حسن خلق منهم وعفواً لا يمارس السخرية، لكن ستجد من يمارس السوقيات، وستجد من يسب، كما وجد ذلك الأنبياء قبلك، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]، {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، واقرءوا كتاب الله سبحانه وتعالى، واقرءوا قصص الأنبياء؛ لتجدوا فيها الكثير من تلك المواقف من مواقف السخرية والاستهزاء التي ووجه بها أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأنتم لستم خيراً من أنبياء الله، فماذا تنتظرون بعد ذلك؟ فأقول: يجب أن نتحمل ما نواجه به من سخرية واستهزاء وسب ومضايقة وأذى، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. فمجرد الإيمان يعرض الإنسان لأن يفتن، فكيف بعد ذلك بما هو بعد الإيمان من الدعوة، وتسخير الجهد لله عز وجل؟! فهل تريد أن تكون داعية ينفع الله على يديك، ويهدي الله سبحانه وتعالى على يديك الناس دون أن تواجه أذى ومضايقة؟ كثيراً ما نردد ونتمثل بأبيات أو بعبارات تدل على أن لدينا استعداداً للتضحية، ولدينا استعداداً لبذل أموالنا، ولبذل نفوسنا، فما بالنا الآن لا نتحمل مثل هذه الكلمات اليسيرة، أو المضايقات اليسيرة؟! يجب أن نصبر، ونحسن الخلق، ولا نجزي السيئة بالسيئة، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجزي السيئة بالسيئة، ولو أنك عندما يوجه لك سخرية واستهزاء تقابلها بابتسامة وإعراض، فحينئذٍ لابد أن يتغير موقف هذا الشخص على أقل الأحوال، أو ينتهي الأمر. افترض أنه سبك وسخر منك، ثم أنت سببته، فازداد الغضب عنده وسبك، ثم أنت أيضاً كذلك، ما النتيجة؟ ماذا حصل؟ ما حصل شيء، سببته وسببت والديه، وسببت قبيلته، وسببت كل الناس من حوله، فما النتيجة التي تجنيها؟ ما حصلت على شيء، هذا عمل السفهاء، السب والسخرية عمل السفهاء، والرجل يمدح بالحلم، وكان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يمتدحون بالحلم. حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب المهم أن العرب السابقين قبل الإسلام، وقبل أخلاق النبوة، وقبل القرآن كانوا يمتدحون بالحلم وبالصبر، وأنهم لا يجزون السيئة بالسيئة، فكيف بعد ذلك بمن منَّ الله عليهم بالقرآن، وبأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أنهم أولى بأن يكونوا أكثر حلماً وصبراً.

تفاوت درجات أجر الدعاة

تفاوت درجات أجر الدعاة Q من المعلوم أن من يهتدي على يديك فلك أجره وأجر من تبعه، فهل إذا اهتدى على يديك شخص في قاع الانحطاط في الفساد يختلف أجره عن شخص آخر فساده أقل؟ A قضية الأجر والحسنات الأمر فيها نسبي، والأمر فيها لله سبحانه وتعالى، فقد يستوي العمل ويختلف الأجر، فالرجل ينصرف من صلاته ما كتب له إلا نصفها، ربعها، سدسها، فمثلاً: رجلان يصليان متجاورين، فهذا صلاته قد كتبت له تامة كاملة، وهذا صلاته لم يكتب له إلا عشرها، وهذا صلاته قد ردت عليه وضرب بها وجهه، بل الإنسان نفسه قد يصلي هذه الصلاة، ثم يصلي صلاة أخرى وبينهما كما بين الشمس والمغرب. فهناك فرق بين شخص جاء ووجد إنساناً منحرفاً وأعطاه شريطاً وسمعه وهداه الله على يديه، وبين إنسان بذل معه كثيراً، ونصحه، وجاهد معه، وبذل حتى هداه الله على يديه، فكلاهما وصل إلى نتيجة واحدة، لكن فرق بين هذا العمل وبين ذاك، وفرق بين من جاء بالعمل هكذا دون مبالاة، وبين من دفعه الإخلاص والحرص، وطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى. فأقول: أمر الأجور والحسنات هذا أمر عام، إذا هدى الله على يديك إنساناً فلك مثل أجره، لكن بعد ذلك تبقى القضايا الجزئية أمرها عند الله عز وجل، ما أحد يستطيع أن يعرف أبداً كم أخذ من الحسنات؟ وكم ناله من السيئات؟ بل -يا أخي- قد تبذل جهداً مع شخص ويهديه الله سبحانه وتعالى، وتبذل جهوداً أخرى أكثر مع شخص ولا يهديه الله عز وجل، فهل يعني هذا أن جهدك يضيع سدى؟ وافترض أن إنساناً -مثلاً- بذل جهوداً كثيرة ولم يوفق أبداً، ولم يهد الله على يديه أحداً، كحال ذاك النبي الذي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فهل يذهب جهده سدى؟ هل يذهب أجره سدى؟

بيان نتائج واقعية من اللقاء بالشباب المنحرفين وتوجيه لدعوتهم

بيان نتائج واقعية من اللقاء بالشباب المنحرفين وتوجيه لدعوتهم Q علمنا أنك قد خرجت في الأسبوع الماضي إلى الأرصفة؛ لتلتقي بالشباب، فنرجو منكم -يا فضيلة الشيخ- أن تعطينا نتائج هذا الخروج، وهل لقيتم ما يسركم أم لا، وهل تنصح بالخروج إلى شباب الأرصفة للشباب الذين هم في بداية طريق الالتزام أم لا؟ A كان لقاؤنا معهم خاصاً حول هذا الموضوع، ما كان لأجل مناصحة وتوجيه، إنما كان لنقاشهم هل هم مقتنعون بما هم عليه؟ وما الذي يمنعهم من سلوك طريق الاستقامة والالتزام؟ وأشرت إلى بعض نتائج هذه الحوارات الشفوية التي أجريناها معهم في محاضرة لاحقة. ولا شك أنا لقينا ما يسرنا ترحيب وتقدير وشكر، بل لقينا تجاوباً، وألحوا علينا، قالوا: اسألوا ما عندكم، وما تريدون، ووجدنا أن الأكثر منهم يجيبنا بصراحة تامة، وعرفنا الكثير من واقعهم، وما يدور فيهم، أما النصح بالذهاب إليهم فلا شك أننا ننصح الشباب بأن يذهبوا إلى هؤلاء ويناصحوهم، ويحسنوا معاملتهم، ويعطوهم كلمة طيبة، فكثيراً ما يهتدي أحد هؤلاء بمجرد سماع النصيحة. أما الشاب الذي في بداية الالتزام، أو هو حديث عهد بالالتزام؛ فله مجال آخر، لا أنصح أمثال هؤلاء قبل أن يثبت ويستقر بأن يبادر بالذهاب إلى أمثال هؤلاء، فقد يتأثر، وقد يحن إلى الماضي الذي كان عليه، فبإمكانك -مثلاً- أن تلقي عليهم السلام، وتجلس معهم قليلاً بالكلمة الطيبة، ثم توجه لهم كلمة في خمس دقائق أو عشر دقائق، وأن تعطي لهم شريطاً وكتاباً. بل إن هؤلاء اعتادوا، فقالوا لنا: إنا كثيراً ما يأتينا بعض الشباب وينصحنا، ونقدر نحن هذه النصيحة، وهذا هو الشعور عند هؤلاء الشباب، ويجب أن نتعاون جميعاً ونركز جهودنا، لكن القضية التي أؤكد عليها للأخوة: هي زميلك في الدراسة؛ لأنه يجلس معك دائماً، وبصفة دائمة تقابله وتلقاه، وتستطيع أن تتابع بعد ذلك معه المناصحة والجهد، وهذا لا يعني إهمال هؤلاء.

تعليق على خبر منشور

تعليق على خبر منشور Q هذا خبر منشور في جريدة الشرق الأوسط يقول: بيبسي كولا تلغي حملة إعلانية بضغط من المتشددين اليهود: اضطرت شركة بيبسي كولا إلى وقف حملة إعلانية كبيرة؛ بسبب احتجاج المتشددين اليهود على استخدام الإعلان لنظرية داروين في التطور، وتهديد محكمة دينية بالدعوة إلى مقاطعة المشروب في حال الاستمرار في عرض الإعلان، وجاءت هذه النكسة الإعلانية بعد أيام من عودة الشركة الأمريكية العملاقة إلى السوق الإسرائيلية؛ لتتحدى منافستها الرئيسية شركة كوكا كولا، وكانت بيبسي قد خرجت من السوق الإسرائيلية في الستينات بخطوة اعتبرتها الأوساط الإسرائيلية رضوخاً لأحكام المقاطعة العربية، أما كوكا كولا التي رفضت تنفيذ قرارات المقاطعة؛ فقد وضعت يومها على اللائحة السوداء، إلا أن الدول العربية عادت ورفعت الحظر عنها بصورة تدريجية في السنوات الثلاث الماضية؟ A هذا الخبر الطويل لا يعنينا، لكن هذا موقف اليهود، إذا كان اليهود يقفون هذا الموقف من شركة أساءت إليهم، فما موقفنا نحن من هذه الشركة نفسها التي أساءت إلينا بمثل هذه الأكاديمية الرياضية؟! وقد قرأنا في محاضرة الأحد فتوى لفضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله بتحريم المشاركة في مثل هذا اللقاء، فيعجبني ما سمعت أن بعض المدارس أعلنت مقاطعة الشركة، وقالوا: لا نريد منكم شيئاً من منتجاتكم، لا هذا العام، ولا الأعوام التي تليه، وسلموا لهم الثلاجات التي اعتادت الشركة أن تضعها عند هؤلاء، وقالوا: خذوا ثلاجاتكم ولسنا بحاجة إليها. أظن أننا لن تصيبنا الأمراض، ولن نصاب بقلق عندما نستغني عن شرب المشروبات التي تنتجها هذه الشركة وغيرها، ولو استعملنا هذا الأسلوب لنجحنا أكثر، فما قدرة اليهود على التأثير على سوق البيبسي كولا؟! كم عدد اليهود الذين في إسرائيل؟! بل إن منطقة الخليج ومنطقتنا من أكثر المناطق استهلاكاً لمثل هذه المنتجات، فلو وجدوا مقاطعة من أصحاب المحلات ومنا نحن؛ لرضخوا لما نريد بعد ذلك، وما استطاعوا أن يتجرءوا على مثل هذه المخالفات. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب سخطه.

آفات النجباء

آفات النجباء إن كل أمة على وجه الأرض لا تقاد إلا بنجبائها، ولا تتقدم إلا بالموهوبين من أبنائها، فمتى ما وجد الرجل النجيب في بيئة معينة أو وسط ما فإنه لا يقول قولاً -سواء كان حقاً أو باطلاً- إلا ويهب الآلاف من البشر للعمل بقوله، واتخاذه منهجاً لحياتهم. وكما أن لكل خصلة آفات ولكل صفة سلبيات، فإن النجابة لا تخلو من هذا وذاك.

دعوة إلى التواضع والإخلاص في العمل الدعوي

دعوة إلى التواضع والإخلاص في العمل الدعوي الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة في المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بشقراء على إتاحة هذه الفرصة، وعلى حسن ظنهم ودعوتهم لي، ولكني أعتب كثيراً على أخي الذي قدم فأثنى علي ثناء أعلم من نفسي دون مبالغة ودون تواضع أني لا أستحق جزءاً منه. ونحن في الحقيقة أيها الإخوة -وأقولها بكل صراحة- أحوج إلى أن نوصى بالتواضع، ونحن أحوج إلى أن ننهى ونحذر كثيراً من العجب والرياء عافانا الله وإياكم، فإن تصدر المرء لهذه المنابر مدعاة لأن يدخل الإعجاب إلى نفسه، وأن يعجب بعلمه، وهو لا يحصل ولا يدرك إلا أقل من القليل، ويعلم الله عز وجل أنه لولا شعورنا بالحاجة والأمانة لكان هذا الأمر -أعني خوف العجب والظهور عند الناس بمظهر لا نستحقه- عائقاً لنا، ولكنا نعلم أن هذا ليس عائقاً شرعياً، وأنه لا يجوز للمرء أن يتأخر أو يتوانى في أن يقول علماً علمه، أو ينشر خيراً رآه، أو يساهم في دفع مسيرة الصحوة بحجة أنه يخشى من الإعجاب والرياء، فإن أملنا بالله سبحانه وتعالى، وظننا بالله عز وجل -نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يحسن الظن به- أن يعيننا على أنفسنا. إنني أقول أيها الإخوة: إننا أحوج إلى أن نوصى بأن نعرف قدر أنفسنا أكثر من حاجتنا إلى الثناء، وخاصة أيضاً الحديث عن الإخلاص وعن المساهمة في أمور الدعوة، فهي أمور أظن أنها من قضايا الغيب مما لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكني لا أملك إلا أن أقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما أعمل خالصاً لوجهه، وأن يجعلني خيراً مما يظن أخي، وأن يكتب لي ما لا يعلم. بين يدي هذا الموضوع مدخل، ثم بعد ذلك العنصر الثاني: حاجتنا إلى النجباء، ثم آفات النجباء، وأخيراً: حتى لا نظلم النجباء.

من هم النجباء وما واجبنا تجاههم؟

من هم النجباء وما واجبنا تجاههم؟ نحن حينما نتكلم عن النجباء فإننا نعني بهم الذين يملكون قدرات خاصة، وطاقات خاصة من النبوغ والذكاء، أو قوة الشخصية، أو تحمل المسئولية، أو هو ما يسمى في مصطلح علم النفس المعاصر بالموهوب والمتفوق، ونحن نعيش ولله الحمد صحوة مباركة، ونعيش بداية شعور الأمة بانتمائها للإسلام وولائها للإسلام، وقد سارت هذه الصحوة ولن تتوقف بمشيئة الله تعالى، ولكننا بحاجة إلى بذل الجهد، وبذل العمل والوقت، وبالإضافة إلى ذلك نحن بحاجة إلى أن ندرس قضايانا، وأن نربي هذا الجيل الذي ينتمي إلى الصحوة تربية ناضجة، وأن نحرص قدر الإمكان أن نستغل الطاقات والمواهب ونوجهها الوجهة التي تجعلها بإذن الله قائدة ورائدة لهذه الصحوة، وأحسب أن هذا من تقوى الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فنحن نستطيع أن نخطط، ونستطيع أن ننظر إلى المستقبل بنظرة فاحصة، ونستطيع أن نتجاوز السطحية ونتجاوز العجلة والتخبط الذي كثيراً ما تتسم به أعمالنا وللأسف، فنستطيع أن نملك قدراً من العمق والبعد في عملنا وفي نظرتنا للمستقبل وفي اكتشافنا لأخطائنا وفي معالجتنا لها، وفي نظرنا إلى قضايا الصحوة جملة، والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نتقيه بما نستطيع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، ونحسب أيضاً أن هذا من إتقان العمل. إننا أيها الإخوة نتحمل مسئولية عظيمة تجاه الجيل اللاحق، وهؤلاء الشباب الذين أصبحوا يسيرون في هذا التيار لم تعد القضية مسئولية تربيتهم وحدهم، وليست القضية حمايتهم وحدهم، بل إن إعداد هؤلاء الشباب والعناية بهم إنما هو في الحقيقة إعداد للجيل اللاحق، هؤلاء الشباب هم في المستقبل قادة الجيل، منهم المفكرون منهم العلماء منهم قادة الأمة، فنحن حين ندعو إلى تحمل المسئولية التربوية، وحين ندعو إلى العمق في التربية، إلى إدراك المسئولية تجاه هؤلاء الشباب فإننا لا ندعو إلى تحمل المسئولية تجاه هؤلاء الشباب لذواتهم -وإن كانوا يستحقون، وإن كان الفرد المسلم يستحق حتى ينهى عن منكر، وحتى ينقل للهداية أن يبذل له الجهد الكثير- ولكن القضية أبعد من هذا كله، إنها مسئولية إعادة صياغة الجيل، ومسئولية إعادة بناء المجتمعات الإسلامية التي تعاني من الخلل، فنحن عندما نعد هذا الجيل ونربيه التربية الصحيحة السليمة فإننا حينئذ نساهم بطريقة مباشرة في إعداد وتصحيح الجيل اللاحق. إن أي جيل لا بد أن يكون له قادة، ولا بد أن يكون له موجهون، وهؤلاء القادة إما أن يكونوا من العلماء المخلصين والدعاة والمفكرين الناضجين، وإما أن يكونوا من علماء السوء وعلماء السلطة، وإما أن يكونوا من المنافقين، وإما أن يكونوا من الأدباء الساقطين، وإما أن يكونوا من أي طبقة تعتلي عرش الشهرة وتتبوأ مراكز التوجيه وهي لا تستحقها، فلا بد أن يكون للمجتمع قادة، ولا بد أن يكون للمجتمع موجهون، ونحن الآن نستطيع أن نملك زمام المبادرة، فنعد هذا الجيل الذي نؤمل أن يقود المجتمع في المستقبل بإذن الله وهو قادر على ذلك، ونحن وحدنا معشر جيل الصحوة القادرون على صنع القادة؛ لأننا نملك الرصيد، ونملك ما تحتاج إليه المجتمعات الإسلامية وتفتقر إليه، فالشعارات العلمانية، والشعارات الأرضية قد أفلست، والأمة الإسلامية قد تجرعت الهزائم والويلات من هؤلاء، وأصبحت تتطلع إلى الإسلام ليقودها، وليحل لها مشاكلها، وليعيدها إلى مكانها الطبيعي. ونحن هنا نملك المنهج، ونملك ما تتطلع إليه الأمة، ولكن هذا كله مربوط بإعداد الجيل الذي يكون عند مستوى تحمل المسئولية، إن مجرد التزام الإنسان بالإسلام، ووجود قدر من العاطفة مع ذلك، يضاف إليه قدر من الفصاحة والبلاغة يصدره المنابر ليس وحده هو المؤهل للقيادة، وليس وحده هو المؤهل لتحمل أمانة ومسئولية المجتمع. ونحن حين نتحدث عن موضوع النجباء والعناية بهم، فلسنا نتحدث حديث المختصين في علم النفس، وحين يتحدث المرء في غير فنه -كما يقال- يأتي بالعجائب، فلست من المختصين بل لست من العارفين بهذا العلم وما يعنيه، فحينئذ لست أعني في حديثي ما يعنيه علماء النفس بالموهوبين بمعنى أوسع، إنما أعني فئة خاصة، أعني أولئك الشباب المستجيبين لتيار الصحوة، والذين يملكون قدراً من النبوغ، والذين يملكون قدراً من قوة الشخصية، والذين يملكون مؤهلات -أياً كانت هذه المؤهلات- تؤهلهم أن يساهموا في قيادة المجتمع ويساهموا في بناء الأمة، فإننا في واقعنا نظلم هؤلاء كثيراً، ونعطل هذه الطاقات كثيراً، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن ندرس حالنا مع هؤلاء حتى نستفيد منهم.

حاجتنا إلى النجباء

حاجتنا إلى النجباء

تمايز الناس واختلاف إمكاناتهم ومؤهلاتهم

تمايز الناس واختلاف إمكاناتهم ومؤهلاتهم أولاً: من سنة الله سبحانه وتعالى أن تختلف معادن الناس، فالله عز وجل جعلنا خلائف الأرض، ورفع بعضنا فوق بعض درجات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165]، رفع الله سبحانه وتعالى الناس فوق بعض درجات في التقوى في العلم في الصلاح في المؤهلات الدنيوية: في العقل في الذكاء في قوة الشخصية في القدرة على القيادة في كافة ما يتميز به الإنسان عن أخيه الإنسان، بل إن حياة الناس لا تستقيم أصلاً إلا بهذا الأمر، ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى أن من حكمة رفعه بعضنا على بعض درجات أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، أن يسخر بعضهم لبعض. ويصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف الناس في تمثيل بليغ رائع، قيل له: (من خير الناس؟ قال: أتقاهم، قيل: ليس عن هذا نسألك، قال: نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله -يعني: يوسف عليه السلام- قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). إذاً: فيشبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمعادن، بعضهم كالذهب، وبعضهم كالفضة، وبعضهم كالمعادن التي هي دون ذلك، ولكن أيضاً المعادن الأخرى التي دون الذهب والفضة لها دور لا بد أن تؤديه ولا يمكن أن يستغني الناس عنه، ومهما بلغنا في التربية، ومهما ارتفع مستوى التربية التي يتلقاها الإنسان فإنها لا يمكن أن تصل إلى أن تحول المعدن من حديد إلى ذهب، ولا يمكن أيضاً أن تحول الحديد إلى فضة، ولا يمكن أن تحول الفضة إلى ذهب، فيبقى بعد ذلك معدن الإنسان؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية من الحديث: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، أي: أولئك الذين كانوا يملكون مقومات عالية في الجاهلية إذا هداهم الله عز وجل ووفقهم للإسلام سيكونون خيار الناس؛ نظراً لأنهم يملكون مقومات فهم، ويملكون قدراً من الذكاء، ويملكون قدراً من قوة الشخصية، ويملكون قدراً من قيادة المجتمعات وتوجيهها، ولكن هؤلاء إن بقوا في الجاهلية فسيبقون شراراً لا خير فيهم ما لم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى. إذاً: فمن القضايا التي يتفق عليها ويدركها العقلاء أن الناس يتفاوتون، فمنهم النابغ ومنهم الذكي ومنهم دون ذلك، ومنهم من هو كما قال الأول: والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى الذين يقودون البشرية ويقودون المجتمعات هم بشر صحيح، ولكنهم على الأقل يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لهذا الأمر، وهذه قضية -كما قلت- يدركها العقلاء، وهي قضية جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). وأيضاً دل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17]، الماء الذي نزل من السماء واحد، ولكن الأودية تحتمل من الماء وتحتمل من هذا السيل بقدر ما تتسع إليه، فهذا واد يحتمل الشيء الكثير، وهذا لا يحتمل إلا القليل، ومثل ذلك ينطبق على الناس فتظهر فيهم الاستفادة على حسب ما في القلوب من استعداد وتوجه وإخلاص وتجرد من الشوائب، ولهذا يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه القضية التي -كما قلنا- يتفق عليها الجميع، لكن أقول: إذا كان من طبيعة الناس أنهم يتفاوتون وأن فيهم أصحاب القدرات العالية وفيهم من هم دون ذلك، فلا بد أن نعتني نحن بأولئك الذين ما خلقهم الله يملكون قدرات عالية إلا لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، حتى يتأهلوا لقيادة البشرية، فإما أن يقودوا البشرية إلى الدمار والهلاك، وإما أن يقودوا البشرية إلى الصلاح والخير والاستقامة.

النبي كان يصنف أصحابه حسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم

النبي كان يصنف أصحابه حسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم ثانياً: عندما نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نجده يولي الأمر عناية فائقة، بدءاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وحينما نتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم نجده أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يدعو أقواماً إلى الإسلام، ويسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام برجل مثل عمر بن الخطاب أو من في طبقته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن مثل عمر رضي الله عنه يحمل مؤهلات عالية لو هداه الله عز وجل للإسلام لنفع الله سبحانه وتعالى به، ولكان فيه الخير الكثير، وفعلاً ذاك الرجل الذي كان جباراً في الجاهلية، ذاك الرجل الذي كان يخشى المسلمون ويفرقون من بطشه وكيده، ذاك الرجل الذي كان يعيش في الجاهلية مرحلة من التخلف والضلال كما حكى عن نفسه، بعد أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية ونوَّر الله بهذا الإيمان قلبه وبصيرته، أصبح لا يراه الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً آخر، وأصبح فاروقاً يفرق بين الحق والباطل، وقاد هذه الأمة، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية ووثنيتها وقضى عليها، هو الذي خلف صاحب وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر). ومصعب بن عمير رضي الله عنه يذهب إلى المدينة فيكون مع أسيد بن حضير، فيأتيه سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو لما يسلم بعد، فيقول له أسيد: اتق الله فيه، فهذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، فيتقي مصعب الله سبحانه وتعالى ويدخل سعد رضي الله عنه في الإسلام على يد مصعب بن عمير، فماذا كان من سعد بن معاذ؟ كم كان عمر سعد بن معاذ في الإسلام؟ إن سعد بن معاذ قتل بعد غزوة الأحزاب في بني قريظة، فعمره لم يتجاوز ست سنوات في هذا الدين، ومع ذلك كانت له المواقف المحمودة، لقد أطار الله بحكمه رءوس كثير من صناديد الكفر، {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:82]، سعد بن معاذ هو الذي حكم ذلك الحكم الجليل الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الذي قاد قومه وكانت له المواقف المشهودة في السيرة، حتى لما مات اهتز له عرش الرحمن، وهنا فعلاً كان ما قاله أسيد حق: هذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، وعندما دخل في الإسلام فعلاً دخل قومه جميعاً في الإسلام، فهو رجل يملك مؤهلات خاصة، رجل من خيار معادن الناس، وكم من رجل دخل في الإسلام ولكنه لم يبل فيه مثل بلاء سعد بن معاذ رضي الله عنه. على كل حال لسنا بحاجة إلى الاستطراد في ذكر أحداث السيرة، ولكنا عندما نعود بالذاكرة إلى ما نحفظه من أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد هذا أمراً واضحاً في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتني بأمثال هؤلاء؛ لأنه يعرف صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم الذين ستقوم بهم الأمة. فهل من قبيل المصادفة مثلاً أن يكون أبو بكر رضي الله عنه هو جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وهو الذي كان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، هل كان من قبيل المصادفة أن يكون هؤلاء هم جلساء النبي صلى الله عليه وسلم، أم أن أولئك كانوا قوماً اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لأن يقوم الإسلام بعد ذلك على أيديهم؟ وعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت قبائل العرب ظهر أثر هذه التربية، وظهر أثر معادن الناس في موقف أبي بكر، ومن ثم بعد ذلك في موقف عمر رضي الله عنه الذي ساهم في نشر الإسلام وتثبيت قواعده، ثم سائر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة رضوان الله عليهم.

النجباء والموهوبون هم أقل القليل في أي مجتمع

النجباء والموهوبون هم أقل القليل في أي مجتمع ثالثاً: أنهم نوادر في كل مجتمع، فليس الجميع كذلك، فتقول مثلاً بعض الدراسات النفسية: أن نسبة الموهوبين لا تتجاوز (1%) من المجتمع، على كل حال لا تعنينا هذه النسبة صحت أو لم تصح، قلَّت أو كثرت، ولكننا ندرك جميعاً أن هؤلاء النجباء هم قلة في المجتمع أصلاً، ثم المنتمي منهم إلى جيل الصحوة سيكونون أيضاً قلة، فوجودهم في المجتمع أصلاً قلة، وإذا لم نكسبهم لينظموا إلى جيل الصحوة -مع قلتهم- فقد تتحول قدرتهم وموهبتهم للإجرام، فيصير الرجل منهم قائد عصابة تفتك وتقطع الطريق، ويسخر عقله وطاقته لحرب الله ورسوله، وقد يكون الرجل منهم صاحب فكر منحرف فيسخر فكره وطاقته وقدرته لمواجهة دين الله سبحانه وتعالى، وقد يكون صاحب شهوة وصاحب هوى فيسخر ما عنده لأن يحقق الشهرة لنفسه، أو أن يساهم في تحقيق الشهرة لفلان أو فلان من الناس. فإذا كان هؤلاء قلة في المجتمع أصلاً، فالذي يستجيب منهم لنداء الصحوة وسير الصحوة هم أيضاً قلة، ومن هنا فإنهم معدن نادر ونفيس ينبغي أن نعض عليه بالنواجذ وأن نعتني به؛ لأن هؤلاء عندما يوفقهم الله سبحانه وتعالى ويسيروا في طريق الهداية يكتب الله عز وجل على يديهم الخير الكثير.

كسب ولاء أفراد المجتمع للنجباء من قادته سبب في قبولهم لتوجيهاتهم

كسب ولاء أفراد المجتمع للنجباء من قادته سبب في قبولهم لتوجيهاتهم رابعاً: نحن نحتاج إلى قادة يقودون المجتمع، فهل نتصور مثلاً أن الصحوة ستصل إلى درجة أنها تعم المجتمعات كلها فيصبح جميع المجتمع على قلب رجل واحد، أظن أن هذا مطلب بعيد، بل وحتى مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيه المنافقون، ووجد فيه ضعفاء الإيمان، أليس دين الإسلام في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد عم هذه الجزيرة، ثم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب؟ هؤلاء كانوا قد دخلوا في الإسلام واستجابوا لهذه الدعوة، لكنهم لم يكونوا الخلص الذين تربوا تلك التربية الناضجة. حينئذ فقد لا نصل إلى تلك الدرجة العالية، حتى لو استقام عامة أفراد المجتمع، فإن قطاعاً كبيراً من هؤلاء سيبقى على شفا جرف هار، وسيبقى جزء منهم ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَة} [الحج:11]. إذاً: فنحتاج نحن إلى قادة يقودون المجتمع، وكل الناس يمكن أن يمنحوا ولاءهم للدعاة إلى الله عز وجل، وأن يمنحوا ولاءهم للمصلحين ولحملة الدعوة وحملة الرسالة، وقد يكون في الناس الفاسق، وقد يكون فيهم المقصر، وقد يكون فيهم ضعيف الإيمان، ولكن القدر الذي ينبغي أن نصل إليه -ونحن قادرون أن نصل إليه- هو أن نكسب ولاء المجتمع، وأن يمنح المجتمع ولاءه للدعاة إلى الله عز وجل، وللذين يقولون كلمة الحق، على ما في المجتمع من تقصير، وإن كنا نسعى إلى الوضع الأفضل والوضع الأعلى، حينئذ فنحن بحاجة إلى قادة للمجتمع، فمن سيقود المجتمع؟ إن الذين يقدرون على كسب ولاء الناس ويقدرون على توجيه الناس، وعلى تغيير أفكار الناس وقناعاتهم، ويقدرون على التأثير على الناس، هم أولئك النجباء الذين نعنيهم، فهم القادرون على تبوؤ المكانة، ومنهم الخطيب الناجح الذي يحدثك وكأنه يحدثك عما في نفسك، ومنهم العالم الذي يستطيع أن ينزل حكم الله عز وجل على الوقائع المستجدة، والذي يقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وعلى أن نقول الحق حيث كنا لا نخشى في الله لومة لائم)، ومنهم الدعاة إلى الله عز وجل، ومنهم المفكرون، ومنهم القادة الذين تسير الأمة وراءهم، هؤلاء لا بد أن يملكوا مؤهلات تؤهلهم للقيادة وتجعل الناس يثقون بهم فيسمعون كلمتهم، وتجعل الناس يثقون بهم فيمنحونهم الولاء، ولن يكون هؤلاء الذين يعطيهم المجتمع الولاء والذين يسمع لهم المجتمع كلماتهم إلا أولئك الذين يملكون هذه القدرات وأولئك النجباء. وهؤلاء القادة منهم أيضاً العلماء الذين سيفتون في القضايا المصيرية التي تحدد مستقبل ومصير الدعوة، فهم القادة الذين يتخذون القرارات التي قد تكون سبباً في النجاح والانتصار للدعوة، وقد تكون أيضاً سبباً في الانحراف وانجراف مصير الدعوة، هم وجه هذه الصحوة، إذاً فلا بد أن نعتني بهم، فحينما نعتني بهم فإننا لا نعتني بفلان أو فلان من الناس إنما نعتني بالمجتمع كله، ونعتني بالصحوة، ونعتني بالدعوة؛ لأن هؤلاء هم قادتها، وهم موجهوها، وهم مفكروها، وهم أعمدتها التي لا تقوم إلا عليهم.

آفات النجباء

آفات النجباء بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة وهي: آفات النجباء. كثيراً ما يشتكي المربون من آفات يقع فيها أمثال هؤلاء الشباب الذين يملكون قدراً من النجابة ويملكون النبوغ والذكاء، فيشتكون كثيراً من أمراض يعاني منها هؤلاء، فإما أنه لا يستمر أصلاً في طريق الاستقامة نتيجة لهذه الأمراض التي تتصارع، أو أن يستمر ولكن مع كثير من الأمراض التي تعوقه عن أن يتبوأ المكانة التي تنبغي له.

الغرور والإعجاب بالنفس

الغرور والإعجاب بالنفس من أخطر الأمراض التي تصيب النجباء الغرور والإعجاب بالنفس، فإن النجيب يكون بارعاً متفوقاً على أقرانه بالذكاء والاستيعاب، فهو يفهم عندما يتحدث الأستاذ أو يسمع الخطبة أو المحاضرة أو الدرس، وعندما يسمع أي كلام يفهم ما لا يفهمه الآخرون، ويدرك هو أنه أكثر استيعاباً من الآخرين وأكثر فهماً وإدراكاً، ويدرك الآخرون جميعاً أنه يفوقهم، فيحصل على مراكز متقدمة في الدراسة، ويتفوق على أقرانه، في حين أنه يبذل جهداً يسيراً، فهو إذاً يملك أصلاً البيئة التي تؤهله للغرور والإعجاب بالنفس، وحين يعجب بنفسه وحين يقع في الغرور فإنه يكون وقع في أول معصية عصي الله بها، وصار كالشيطان الذي استكبر عن السجود لآدم فعصى الله عز وجل، وإنما أوقعه في ذلك غروره وإعجابه بنفسه، فاعترض على أمر الله سبحانه وتعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، والمشكلة أن الإنسان المغرور المعجب بنفسه لا يشعر بذلك أصلاً، فلا يمكن أن تجد إنساناً مغروراً ومعجباً بنفسه يوافقك على أنه بهذا يضع نفسه فوق المنزلة التي يستحقها، فهو يرى أن هذه هي منزلته الطبيعية، وهذا هو مكانه، وإلا لو استطعت أن تقنعه أنه يضع نفسه فوق منزلته، ولو استطعت أن تقنعه أن عنده قدراً من الغرور والإعجاب بالنفس لانتهت المشكلة ابتداء. وهكذا كل أصحاب هذه الظواهر المرضية لا يشعرون بذلك، فالإنسان الذي عنده غلو؛ غلو في التفكير غلو في العبادة غلو في المعتقد لا يوافقك على أن عنده غلواً، بل لا تجد أحداً من أهل الغلو إلا ويدعي أنه مقصر، وأنه من أهل التوسط، فعندما تناقشه في غلوه، يقول: يا أخي أنا مقصر أصلاً في ذلك، ولو استطعت أن تقنعه فقط أنه قد تجاوز الطريق الوسط وأنه قد غلا حينئذ لانتهت المشكلة، فكذلك لا نفترض من هذا الآن أن يتصور وأن يوافقنا على أنه مغرور، أو على أنه معجب بنفسه، لا نتصور ذلك؛ لأنه لو وافق وأحس فعلاً بأنه عنده غرور وعنده إعجاب بالنفس، ولو أحس أنه وضع نفسه في منزلة فوق المنزلة الطبيعية، حيئنذ فلا بد أن يعود ويضع نفسه في حجمها وموقعها الطبيعي، فأنت يا أخي عندما تفوق أقرانك وتتفوق وتملك موهبة لا يملكها الآخرون، فما الذي يدعوك إلى الغرور؟ أنت يجب أن تعلم أولاً أن هذه الموهبة التي تملكها ليست منك، وما لك فيها أي جهد، يعني: أنت لما تكون إنساناً ذكياً تفهم أكثر مما يفهم الآخرون، وتحفظ أكثر مما يحفظ الآخرون، وتكون فصيحاً أكثر من الآخرين، المهم أنك تملك موهبة متميزة عن الآخرين، فهل حصلت هذه بجهدك أو بكدك أو كد أبيك؟ أبداً، إنها موهبة من الله سبحانه وتعالى، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تتصرف في مظهرك، وفي جسمك؛ في طولك وقصرك، وفي تقاطيع وجهك، وكما أنك لا يمكن أن تغير هذه الصورة التي خلقك الله عليها، فكذلك هذا العقل إنما أعطاك الله إياه. ولو جاءنا مثلاً إنسان يفتخر أن له جاراً ذكياً، وأن له جاراً نابغة لسخر الناس منه، ولقالوا: كيف تفتخر بما ليس لك؟ وكيف تفتخر بما لا تملك؟ فعلى هذا يا أخي حتى لو كنت ذكياً، وحتى لو كنت نابغة متفوقاً هل من حقك أن تفتخر بهذا الشيء الذي ما هو من تحصيلك أصلاً؟ يعني: هذا الذكاء ليس من تحصيلك، وهذا النبوغ ليس من تحصيلك إنما هي نعمة منَّ الله بها عليك، فليس لجهدك ولا لخير فيك إنما هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ تفاخر بما ليس لك. كذلك هذه النعمة الله سبحانه وتعالى قادر على أن يسلبها منك، أنت لما تكون ذكياً فالله عز وجل قادر على أن يجعلك معتوهاً أبلهاً، وعندما تكون فصيحاً تهز المنابر فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلك أخرس لا تستطيع أن تفصح عما في قلبك، ولا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة، إذاً فكما أن الله سبحانه وتعالى قد يسلب من الإنسان نعمة البصر، وقد يسلب من الإنسان نعمة السمع، يمكن أن يسلبك هذه الموهبة، بل يمكن أن تبتلى فتتوجه هذه الموهبة إلى معصية الله عز وجل، فماذا تجني عليك بالله عليك؟! الإنسان الذي يسلك طريق الانحراف؛ سواء كان انحراف شهوة، أو انحراف شبهة أو انحرافاً فكرياً، ماذا يفيده عقله وماذا يجنيه عليه؟ إنه يجني عليه الويل والثبور، وهاهم أساتذة الإلحاد والفساد والمنظرين للضلال والشرك، أتدري ماذا جنى هؤلاء؟ إنهم جنوا وبالاً أكثر، فهذا المنظر لهذه الأفكار الإلحادية يحمل وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً، فكان عقله وذكاؤه وموهبته وبالاً عليه، وأنت كذلك يمكن أن تعاقب بأن تبقى هذه الموهبة عندك لكنها تكون حينئذ وبالاً عليك، تجني ويلها وثبورها. الأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على قدر ما أعطاهم، وعلى قدر ما عندهم من العلم، وعلى قدر ما عندهم من القدرات، كل إنسان سيأتي الله سبحانه وتعالى وحده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *

روح النقد عند النجباء

روح النقد عند النجباء الآفة الثانية: روح النقد، إن هؤلاء النجباء كثيراً ما يكونون ناقدين، وقضية النقد ابتداء ظاهره صحية، أن ينتقد الإنسان نفسه، وأن ينتقد مجتمعه، وأن ينتقد حتى البرامج التي تقدم له، فيكون النقد ظاهرة صحية إذا كان بقدر معين، أما أن يتحول الإنسان ناقداً صرفاً فهذه هي المشكلة، فعندما يكون النجيب إنساناً عنده قدر من النجابة فهو يستطيع أن يفهم دقائق الأمور أكثر مما يفهمها الآخرون، وحينئذ يستطيع أن يدرك الأخطاء أكثر من غيره، فينتقد فلاناً وينتقد فلاناً حتى تنمو عنده روح النقد فيصبح بعد ذلك يسمع لينتقد، فكثيراً ما تراه يصنف أساتذته وينتقدهم، وقد يستطيع فعلاً أن يدرك جانباً من القصور والخطأ على أستاذه، أو جانباً من الخطأ والقصور على من يتولى تربيته، ولكن الخطأ والمشكلة هي أن يتحول إلى شخص ناقد فيصبح لا يستمع إلى الدرس إلا لأجل أن ينتقد، وإنما ينظر لجهد فلان حتى ينتقده، فمتى ما أصبح الإنسان ناقداً أصبح إنساناً عاطلاً لا يعمل؛ لأنه مشغول بالنقد. مرة أخرى أقول: النقد ظاهرة صحية، بل نحن نعاني أحياناً من أننا نسير دون أن نفكر في أن ننقد أنفسنا، أو ننقد مجتمعاتنا، أو ننقد الأوضاع التي نعاني منها، ونتردد كثيراً ونتهيب من هذا النقد نظراً لأنه يحملنا المسئولية، فنحن لا ندعو إلى إلغاء النقد، لكن المشكلة التي نعاني منها أحياناً من بعض النجباء أنه تنمو عنده روح النقد فيصبح هذا الشاب ناقداً ينتقد كل ما أمامه: ينتقد المربي، ينتقد الأستاذ، ينتقد هذا البرنامج، ينتقد ذاك.

احتقار الآخرين نتيجة القدرة على رؤية ما لا يرونه

احتقار الآخرين نتيجة القدرة على رؤية ما لا يرونه الآفة الثالثة: احتقار الآخرين نتيجة لأنه أصبح يستطيع النقد، وأصبح يستطيع اكتشاف الأخطاء، فيرى مثلاً: أن هذا الأستاذ عنده ضعف في الجانب العلمي، وذاكرة هذا الأستاذ غير مركزة، وهذا الأستاذ يخطئ في كذا وكذا، والمربي الفلاني عنده كذا وكذا، وهذا البرنامج عنده كذا وكذا، حينئذ نتيجة لنمو روح النقد عنده وانتقاده للآخرين يصبح يحتقر الآخرين، فيحتقر الأساتذة يحتقر المربين يحتقر الذين ينبغي أن يستفيد منهم، وحينما يبدأ بتقييم الآخرين واحتقارهم فلن يستفيد منهم، لن يستفيد من هذا المربي؛ لأنه يشعر أن هذه المربي عنده قصور، وأن هذا المربي لا يملك المقومات التي تؤهله للتربية أصلاً، فينمو عنده احتقار الآخرين، ومن هنا يجب أن نحرص على أن نربي مثل هذا النجيب على أن يتواضع، وعلى أن يستفيد ممن هو دونه، وعلى أن يستفيد من الآخرين، وعلى أن يعلم أنه لو أدرك ما لم يدركه غيره فهذا لا يعني أنه أصبح أفضل منه. تقرءون مثلاً في القرآن قصة سليمان عليه السلام لما جاء الهدهد وسأله سليمان فقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، هذا الهدهد الآن أحاط بما لم يحط به سليمان، وعلم مسألة لم يعلمها سليمان، فهل يعني هذا أن الهدهد أصبح أعلم من سليمان عليه السلام؟! أبداً. إذاً: فقد تستطيع أن تنتقد الآخرين وتكتشف عليهم أخطاء لكن هذا لا ينبغي بحال أن يقودك إلى احتقار الآخرين. فيجب أن نحرص على أن يتربى هذا النجيب على أن يحترم الآخرين، وأن يوقر الآخرين، خاصة من يتربى على يديه ومن يتعلم منه، حتى ولو شعر بأن عنده قصوراً، أو ضعفاً، لكن هذا القصور وهذا الضعف لا يجعله إنساناً غير مؤهل بأن يستفيد منه، لا يمكن أبداً، فلا ينبغي للشاب النجيب أن يقول: هذا إنسان غير مؤهل أصلاً لنستفيد منه، وغير مؤهل أن نتلقى منه التربية، بل عليه أن يحدث نفسه: إنني مهما بلغت من الذكاء والإدراك فإنه يبقى بعد ذلك يملك قدراً من الخبرة والرصيد يستطيع أن يفيدني به.

عدم الانضباط عند النجباء

عدم الانضباط عند النجباء الآفة الرابعة: عدم الانضباط. أحياناً يصعب انضباط هؤلاء النجباء واستجابتهم؛ لأن الواحد منهم يشعر أن فلاناً لا يستحق أن يتولى عليه، وأن فلاناً لا يستحق أن يأتمر بأمره، وأن فلاناً كذا، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يولي فلاناً صغير السن، حتى يتربى أصحابه صلى الله عليه وسلم على التسليم والانضباط، ما دام أن فلاناً تولى فله السمع والطاعة، ولو كنت خيراً منه، ولو كنت أفضل منه. وعندما تتأمل في كيفية تأمير النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فستجد أنه ما كان يؤمر الأفضل، فنحن نعلم أن أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الأربعة الخلفاء، ثم العشرة، ثم أصحاب الشجرة، ثم أصحاب بدر، ثم الذين أسلموا قبل الفتح، فتجد أحياناً النبي صلى الله عليه وسلم قد يولي من هو دون هؤلاء عليهم وهم كبار الصحابة، ومع ذلك لا يجدون غضاضة في ذلك أبداً. إذاً: فمن آفات النجيب أحياناً ألا ينضبط وألا يستجيب حينما يولى عليه غيره؛ لأنه يشعر أنه هو نفسه يملك مؤهلات تؤهله لأن يتولى المسئوليات ولأن يكون فوق الجميع، ويشعر أن فلاناً من الناس لا يستحق أن يتولى عليه أو يطلب منه الانضباط والاستجابة لأنه يشعر أنه لا يملك هذه القدرات، وأنه أولى منه بهذا المكان، وأحياناً تلمس هذه الظاهرة مثلاً في الفصول الدراسية عند بعض الطلاب، فعندما يولى الطالب على الفصل كعريف للفصل يقوم بضبط الفصل، فإن بعض الطلبة لا يستجيب ولا ينضبط؛ لأنه يشعر أنه هو أولى بهذا المكان من ذاك فهو أذكى منه وأنبغ منه وأقدر منه.

إهمال الشاب النجيب في تطوير نفسه وتحسين مستواه العلمي

إهمال الشاب النجيب في تطوير نفسه وتحسين مستواه العلمي الآفة الخامسة: عدم العناية بنفسه؛ لأنه يشعر أنه لا يحتاج للتربية، ولا يحتاج لأن يزيد تحصليه العلمي لأنه ما شاء الله يفوق الآخرين، وهو في الواقع عنده قدر من العلم والذكاء والنبوغ يؤهله لأن يكون مستوى استيعابه أكثر، فيستوعب مثلاً ما لا يستوعب الآخرون، قد تكون ذاكرته أقدر على الاحتفاظ بكم هائل من المعلومات لا يحتفظ به الآخرون، فذاكرته أقوى، وحفظه أقوى، وقدرته على حل المشكلات أقوى، المهم أنه يملك مؤهلات لا يملكها الآخرون، فحينما يقارن بينه وبين أقرانه يتصور أنه قطع مرحلة جيدة في العلم، وقطع مرحلة جيدة في شتى الجوانب فيكون بذلك غير محتاج إلى أن يربي نفسه، ولا إلى أن يعتني بنفسه، بينما هو في واقع الحال يكون أحوج ما يكون إلى ذلك؛ لأن مثل هذا الشخص هو بحاجة إلى أن يكون أكثر تحصيلاً أصلاً من أولئك؛ لأنه سيصل إلى منزلة لن يصلها أولئك، وسيتحمل مسئولية لن يتحملها أولئك، فهو بحاجة إلى أن يكون فوق تحصيلهم بمراحل، وفوق إدراكهم بمراحل، لا يمكن له أن يقيس نفسه بأقرانه؛ لأنه سيصبح بعد ذلك مؤهلاً لأن يوجه أقرانه ويربيهم، وسيصبح مؤهلاً لأن يوجه الأمة ويربي الأمة، وحينئذ فالمطلوب منه تحصيلاً أكثر، والمطلوب منه تفوقاً أكثر، فهو أحوج ما يكون إلى مزيد من التحصيل ومزيد من العناية بالنفس. أقول: هو أحوج ما يكون إلى ذلك، ومن هنا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين ننظر في الدين أن ننظر إلى من هو فوقنا، فإذا نظر أحدنا في مسائل الدين والخلق عليه أن ينظر إلى من هو فوقه، وإذا نظر في الدنيا ومتاعها فعليه أن ينظر إلى من هو دونه، ولعل من حلول هذه المشكلة: أن يربط مثل هذا الشاب بالنماذج العالية، فمثلاً: يطلب منه أن يقرأ ترجمة أحد العلماء أو أحد المتقدمين أو أحد كبار الصحابة ليرى أن هذا في سنه وبلغ منزلة عالية، فحينئذ نرسم أمامه نموذجاً عالياً؛ لأنه الآن ينظر إلى أقرانه على أنهم نماذج أمامه، وليس فيهم مثل أعلى، فعندما نرفعه فنقول له: اقرأ التاريخ، واقرأ سير العلماء، واقرأ سير السابقين الذين بلغوا منزلة في كل شيء: في الجهاد في التقوى في العبادة في العلم في قيادة المجتمعات، فإذا قدمنا له مثل هذه النماذج يصبح أمامه مثل أعلى بعيد يشعر أن المسافة بعيدة بينه وبينه، وحينئذ يشعر بالقصور والضعف؛ ولهذا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر دائماً إلى من هو فوقنا في العلم والخلق؛ حتى نشعر بتقصيرنا وإهمالنا، فإذا نظر الإنسان إلى من هو دونه سيبقى ينزل وينزل؛ لأنه سيقول: أنا على الأقل لا أفعل لكبائر، وعندها سيأتي صاحب الكبائر فيقول: أنا أفعل الكبائر بصورة لكن أقل من فلان الذي يفعل أكبر الكبائر والموبقات، وسيأتي صاحب الموبقات فيقول: أنا أفضل من فلان لأني لا أقع في الشرك ولا زلت على الإسلام، وهكذا يتدرج الإنسان في النظر إلى من هو دونه حتى لا يصبح المنافس الوحيد له إلا الشيطان، أما إذا كان ينظر إلى من هو فوقه فهذا أحرى أن لا يزدري نعمة الله عز وجل عليه، وأحرى أن يعلم تقصيره وإهماله، فهذا الشاب بحاجة ماسة إلى أن يربط بالنماذج: شباب الصحابة، سير السابقين، النماذج الرائعة في العلم في الجهاد في التقوى في الصلاح في كافة جوانب النبوغ، وهذا أدعى له إلى أن يحتقر نفسه، وأدعى له إلى أن يشعر أنه بقي درجات ما وصل إليها إلى الآن.

حتى لا نظلم النجباء

حتى لا نظلم النجباء وبعد ذلك ننتقل إلى العنصر الأخير لهذه المحاضرة وهو: حتى لا نظلم النجباء. نحن أحياناً نمارس أخطاء في تربيتنا لهؤلاء النجباء، والمشكلة أنهم نوادر كما قلنا، والمستجيبون للصحوة والاستقامة هم أيضاً نوادر من هؤلاء، فالقضية لا تحتمل المخاطرة، ولا تحتمل أن يكون هؤلاء مجالاً لتجاربنا التربوية عليهم، وإنما نحن بحاجة إلى أن نتعلم كيف نتعامل معهم، وكيف نكتشف مواهبهم، فكما أن هؤلاء عندهم مزايا كثيرة، فإن من مزاياهم أنهم أسرع استجابة للتربية والاستفادة، وأكثر إدراكاً للأخطاء التربوية، فالأخطاء التي نرتكبها تؤثر فيهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم أكثر استجابة سلباً وإيجاباً، ومن هنا فلا بد أن نحذر في التعامل معهم.

ظلم النجباء بتحطيم مواهبهم

ظلم النجباء بتحطيم مواهبهم نحن أحياناً نتخيل أن تربية النجيب أسهل، وأن هذا الشاب الذكي النابغ الذي يستجيب لما يقال له أنه أسهل، لكن في الواقع هو أصعب من غيره بكثير، ونحن يسيطر علينا أحياناً وهم مفاده: أنه ما دام أن هذا الشخص يمشي مع الأخيار وما دام أنه مستمر في طريق الخير والصلاح فهو إنسان ناجح، لا، ليس هذا هو النجاح الذي نريده، فمرحلة الصلاة والاستقامة تطلب من عامة المسلمين، بينما الموهوب نحتاج إلى أن ننجح في أن نوظف طاقته، وأن نجعله في مستوى أعلى، فإذا كنا قد وقعنا في أخطاء تجاه هذا الشاب وهو يمثل طاقة جيدة وفعالة ثم مع ذلك بقي مستقيماً وصالحاً فهذا لا يعني أننا نجحنا، وإنما الحقيقة أننا ساهمنا في حرمان الأمة من طاقة كانت هي بحاجة إليها. قبل أن نتحدث عن الأخطاء لا بد أن نعرف هذا المعيار من النجاح، فنجاحنا مع النجيب والموهوب لا يعني أن ننجح فقط في أن يكون مستقيماً وصالحاً، هذا لا شك أنه خير، ولكنا أحياناً بل كثيراً ما نجعله يسير في طريق الاستقامة والصلاح بعد أن نقضي على مواهبه ونحطمها، فحينئذ نحرم الأمة من هذه الطاقة الفعالة التي كانت يمكن أن تساهم في الخير، وكم تتألم لما ترى بعض الشباب مستقيماً وصالحاً وخيراً وقد أتاح الله له من يربيه، ولكنك ترى عنده مواهب وطاقات قد قضي عليها قضاء مبرماً نتيجة للتربية السيئة التي تلقاها، وهذا الأخ الذي يتولى تربيته يرى أنه قد نجح في تربيته؛ لأنه لا زال يسير في طريق الاستقامة والصلاح، فإذاً ليس المعيار مجرد استمراره في طريق الصلاح والاستقامة، بل المعيار هو وصوله إلى المنزلة التي يستحقها باعتبار ما يملكه من طاقات ومواهب.

ظلم النجباء بترسيخ صفة الغرور فيهم

ظلم النجباء بترسيخ صفة الغرور فيهم من أخطائنا تجاه هؤلاء ومما يقع فيه الآباء والأساتذة والمربون: أن نساهم في جلب الغرور لهم، فمثلاً: الأب يكون عنده ابن متميز وفيه ذكاء واضح، ولهذا يعامله والده معاملة متميزة، وأعمامه وأقاربه لما يأتون يحتفون به أكثر من غيره من إخوانه ومن غيره من الأطفال، فيتربى من الصغر على الشعور وبأنه كائن آخر، بأنه إنسان متميز، فنساهم نحن في غرس الغرور عنده، وكذلك الأستاذ والمربي أحياناً يضعه في مواقع لا يستحقها، أو يبالغ في الثناء عليه ووضعه في هذه المواقع مما يساهم في زيادة الغرور الذي قلنا أنه من أكبر آفات هؤلاء النجباء.

ظلم النجباء بعدم الاعتماد عليهم وترسيخ هاجس الخوف من الغرور والإعجاب بالنفس عندهم

ظلم النجباء بعدم الاعتماد عليهم وترسيخ هاجس الخوف من الغرور والإعجاب بالنفس عندهم ومن الأخطاء التي نقع فيها تجاههم -وهو الخطأ المعاكس- تنمية هاجس خوف الإعجاب عندهم، فأحياناً نقضي على الشاب ونحطمه بحجة حمايته من أن يعجب بنفسه، وهي مشكلة أيضاً أخرى، فمثلاً: الأب لما يأتيه ابن عنده قدر من الذكاء فيعطي ملاحظات على ما يشاهده، ويبدأ ينتقد أشياء معينة، فيخشى الأب أن يعجب الابن بنفسه فيحاول أن يقضي عليه، ويقتل هذا الطموح عنده، ويربيه على الاتكالية وعدم الاعتماد على النفس، حتى أنك تجد أحياناً الشاب يكون عمره عشرين سنة ووالده لا يثق فيه ليرتب لوليمة أو مناسبة عائلية، بل أحياناً وللأسف لا يحصل الشاب على منزلة عند والده من الثقة إلا بالقدر الذي يؤهله لأن يشتري الخبز لأهله، فنقول لمثل هذا الأب: يا أخي إن هذا الابن لما بلغ سن التكليف أصبح مؤهلاً لأن يتحمل المسئوليات فأتمنه الله على الطهارة والغسل والصلاة والزكاة والحج وعلى سائر العبادات، ففرض عليه الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أحياناً يتخرج الشاب من الجامعة وهو غير مستقل في اتخاذ قرار، ولا يستطيع أن يعبر عن رأيه، ولا يمكن أن يشارك أبداً، فإذا نظرنا إلى كيفية تعاملنا مع أبنائنا لوجدنا أن الخلل فينا، مثلاً: عندما يكون عند الإنسان مناسبة فهل يثق في ابنه كي يتحمل مسئولية الإعداد للوليمة بدءاً من شراء الذبيحة والفاكهة وإعدادها ودعوة الأقارب والتنظيم والتنسيق مع المطبخ إلى غير ذلك، أبداً لا يمكن أن يثق فيه؛ لأنه لا يعرف كيف يشتري، ولا يعرف كيف يصرف إلى غير ذلك، فيبدأ الابن يتحطم، وحينما يطلب منه أستاذه أو من يربيه أدواراً هي أصلاً دونه يشعر أنها أعلى منه لأنه ما تعود على مثل هذه المسئولية، فنحن نساهم إذاً في تحطيم هذا الشاب، فالأب أو حتى الأستاذ أو أحياناً المربي يساهم في تحطيم هذا الشاب وقتل موهبته حتى لا يصاب بالغرور والإعجاب. يذكر لي أحد الأساتذة أن عنده طالباً موهوباً وعنده قدرة جيدة في الفصاحة والإلقاء، فيقول: إني لا أمكنه من أن يلقي كلمة في المدرسة أبداً، فقلت: لماذا يا أخي؟ قال: أخاف عليه من الإعجاب بنفسه، فقلت: طيب يا أخي متى سيتأهل بعد ذلك؟! ولننظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنرى مواقف عجيبة: فمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمَّ قومه وهو دون العاشرة، طيب هذا ليس عرضة لأن يصاب بالإعجاب؟! علي بن أبي طالب وهو لم يصل إلى سن العشرين وثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأتمنه على سر من أخطر أسرار الدعوة في مكة، حيث كان علي يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وما كان كل المسلمين يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، ونعرف فائدة هذه الثقة من قصته مع أبي ذر، فلما جاء أبو ذر ليسلم تعرف عليه علي بن أبي طالب ثم قاده إلى دار الأرقم بطريقة محكمة فعلاً، نفهم منها لماذا ائتمن علي رضي الله عنه على هذا السر، وهذه المعلومات التي أعطيها علي ليست خطيرة في حق المجتمع، ولا في حقه هو، ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى، بل هي خطيرة في حق الدعوة؛ لأن هذا المنزل بمن فيه يمثلون نواة الدعوة: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض)، ومع ذلك يتحمل المسئولية. في حادثة الهجرة يبيت علي يبيت على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ويبقيه النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمه الودائع ليسلمها لأعدائه الذين أخرجوه. نموذج آخر: أسامة بن زيد رضي الله عنه يثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيشاوره كثيراً في أمور أهله، ويوليه النبي صلى الله عليه وسلم الجيش الذي يذهب إلى الروم وهو لما يبلغ العشرين من عمره، رغم أن هذه تكاد تكون أول مواجهة للمسلمين مع الروم، لأنه في غزوة تبوك ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الروم كيداً، والمواجهة الفعلية ستكون هذه المواجهة التي سيذهب فيها فيوطئ الخيل تخوم البلقاء، فيوليه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، وحين طعن بعض الناس في هذه الإمارة واستغربوا أن يتولى شاب هذا الأمر غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن كانوا طعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه وإن كان لخليقاً للإمارة)، وهذا الجيش فيه كبار الصحابة، وفعلاً يقوم أسامة بن زيد بهذه المهمة وينجح فيها. فهذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما عرفت البشرية أفضل تربية منه، وكما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه). وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كما قال حسان رضي الله عنه في ثنائه على النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يمكن أن نقول: إن ا

إهمال النجباء وعدم العناية بهم

إهمال النجباء وعدم العناية بهم من الآفات التي نرتكبها تجاههم أو من مجالات ظلمهم: هو الإهمال وعدم العناية، وأننا لا نلتفت لهم، بل أحياناً لا نكتشف أن فلاناً يملك هذه الموهبة، فإن من مسئولية المربي أياً كان أستاذاً أو أباً أن يحرص على أن يكتشف المواهب والطاقات؛ حتى يستطيع أن يوجه الشاب ويوجه هذه المتربي الوجهة الصحيحة، وينمي هذه الطاقة والموهبة ويضعها في مكانها الطبيعي حتى تساهم في خدمة الأمة وخدمة الدعوة، فكثيراً ما نهملهم ولا نعتني بهم. وننظر الآن مثلاً في قضية رعاية الموهوبين فنجد أن الغرب يعتنون بهم كثيراً، حيث يعتنون بهؤلاء الموهوبين من الصغر، بل إنه في نيويورك يقام معرض سنوي للمخترعين الصغار ممن هم دون الخامسة عشرة، وتختار من بين هذه المخترعات خمسون عينة وتعرض جنباً إلى جنب مع ما يقدمه المخترعون الكبار، أمة تحرص على أن تربي الطاقات، وتحرص على أن تربي هؤلاء النجباء، بالله عليكم هل أولئك خلقهم الله من طينة خاصة؟! هل أولئك الغربيون هم فقط الأذكياء وحدهم؟! هل هم وحدهم الذين يملكون القدرة؟! نحن نتيجة للمرض والتخلف الذي أصابنا صار عندنا وهم أن الذكاء خلق لهم وحدهم، وأن التقدم المادي خلق لهم وحدهم، هم بشر ونحن بشر، فما الذي يميز هؤلاء حتى يقودوا البشرية الآن؟! ما الذي يميزهم حتى يحققوا التقدم الاقتصادي والتقدم المادي والتقدم الصناعي؟! هل يجري فيهم دم زكي؟! هل خلقوا من طينة خاصة؟! بل نحن نرى أن هذه الأمة تملك طاقات أكثر؛ لأنها أمة خاصة، أمة اختارها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تملك الأمة أفضل الطاقات وأفضل المواهب، ولكننا نمارس أحياناً -بقصد أو بغير قصد- قتلاً ووأداً للطاقات، حتى إذا نبغت مواهب لا يفتح لها المجال للإبداع، ولا يفتح لها المجال للعمل، ولا يفتح لها المجال لئن تساهم في تصحيح المجتمعات، فإن مراكز الفكر والتوجيه أحياناً تصبح وقفاً على فئة خاصة من الناس، وأحياناً تصبح وقفاً على الذين حجروا عقولهم وصاروا يقولون: سمعاً وطاعة لكل أمر، أما الإنسان صاحب الإبداع الذي عنده روح الإصلاح للمجتمع، والذي يحمل غيرة على المجتمع، وهو مع ذلك كله يملك كافة المقومات التي يملكها الآخرون، لا يمكن أن يفسح له المجال حتى يؤدي ما عنده، أليس هذا وأداً وإهمالاً لهذه الطاقات؟ لا نريد أن نتحدث عن واقع الموهوبين والعناية بهم في بلادنا الإسلامية، وحتى لو اعتني بهم فنحن نريد أن يعتنى بهم ويوجهوا الوجهة الشرعية التي تخدم الأمة في مرحلتها الراهنة، فالأمة اليوم تعيش في ذيل القائمة، وهي أمة لا تملك قرارها ولا مصيرها، حتى المشاكل التي تثور بين الأمة الإسلامية لا تملك الأمة الرأي فيها، فهي بحاجة إلى أن تستنفر الطاقات، فكيف نساهم في وأد هذه الطاقات، سواء بقصد أو بغير قصد، سيان الأمر هي جناية وجريمة في حق هذه الأمة! فلا نريد نقع نحن أيضاًَ في نفس الخطأ الذي يمارسه أولئك، فنكرر نفس الخطأ ونساهم في وأد الطاقات الصاعدة التي نأمل إن شاء الله أن تكون قائدة لجيل الصحوة.

توجيه النجباء توجيها خاطئا لا يوافق مواهبهم

توجيه النجباء توجيهاً خاطئاً لا يوافق مواهبهم وأخيراً وهو الأمر الرابع: أن يوجه النجيب توجيهاً خاطئاً، فهو يملك مواهب وطاقات تؤهله لمنزلة معينة ومكانة معينة وقيادة معينة، فنوجهه لما لا يحسن، وقديماً قيل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع والإنسان فضله وطاقته فيما يحسن، وإذا تحدث في غير فنه وفي غير ما يحسن -كما يقال- أتى بالعجائب، فنحن عندنا طريق وأحياناً طريق واحد نرى أنه لا بد أن يسلك، فإذا أتانا شخص نجيب يملك قدرات جيدة فإننا نتصور أنه أن يتوجه إلى هذا الطريق. أتاني مرة أحد الطلبة -وهو يملك قدراً من النبوغ- ليستشيرني حول دراسته في المعهد العلمي فقال: إن أهلي يشيرون عليَّ أن أترك المعهد العلمي وأتوجه إلى الثانوية العامة، قلت: لماذا؟ قال: لأجل أن أكون مثل والدي -وكان والده مهندساً- فقلت له: يا أخي الكريم، أنت تملك قدراً من الذكاء والنبوغ قد يفوق أقرانك، ولكن عندما تتوجه للعلم الشرعي، وتسخر علمك في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، فستكون عالماً شرعياً وستملك مكانة أكثر مما يمتلكه أبوك الآن، فأبوك يملك منزلة وشهرة ومكانة اجتماعية، وهي التي لا تسعى إليها أنت، ونحن أحوج منك أن نوجه هذه الطاقات إلى العلم الشرعي؛ لأنا نريد إنساناً مخلصاً يقول كلمة الحق، ونريد إنساناً جريئاً، يضحي بوقته ومع ذلك يحمل العلم الشرعي، حتى يقود الأمة قيادة صحيحة وسليمة. فأحياناً يتصور أن الشاب الذكي النابغ ما ينبغي أن يتوجه للعلم الشرعي، وإنما ينبغي أن يتوجه للطب أو الهندسة وأنه لو لم يفعل ذلك فإنه يكون من الإهمال للطاقات والإهدار للطاقات. فنقول: ثم ماذا؟ يتوجه للطب ويكون طبيباً ثم تقتل موهبته ويوضع في مكان آخر ويتولى عليه رجل نصراني وانتهينا، أو يكون مهندساً أو غير ذلك، لأنه حتى لو نبغ في علمه فلن يتاح له المجال الذي ينتج فيه، صحيح نحن لا نقلل من شأن هذه العلوم، ولكننا بحاجة إلى أن ندفع فئات من هؤلاء أصحاب الشجاعة، وأصحاب الجرأة على اتخاذ القرار، وأصحاب العمق في التفكير وأصحاب الذكاء، نحتاج لأن ندفع فئات من هؤلاء للعلم الشرعي حتى يقودوا الأمة، فإنه من غير المعقول أن التخصصات الشرعية لا يتوجه إليها إلا الأغبياء والمغفلون. هذه بعض الخواطر حول هذا الموضوع، وهو موضوع له أهميته كما قلت، وهذا الموضوع وغيره لا يمكن أن نقتصر فيه على مثل هذه الأحاديث، بل لعل ما أطرحه يكون على الأقل مساهماً في إثارة الاهتمام بهذا الموضوع، وأن يشعر الآباء والمربون والأساتذة أنهم يجب أن يعتنوا بهؤلاء النجباء، وأنهم عندما يعتنون بهم فإنهم يعتنون بالجيل اللاحق ويعتنون بقادة الأمة. لعلي أقف عند هذا الحد لأجيب على بعض ما ورد من أسئلة الإخوة.

الأسئلة

الأسئلة

الدعوة إلى الاهتمام بالنجباء لا يعني إهمال من هم دونهم

الدعوة إلى الاهتمام بالنجباء لا يعني إهمال من هم دونهم Q تعلمون حفظكم الله كما أن لأهل السنة والجماعة أصولاً اعتقادية فإن لهم أصولاً سلوكية ومنهجية دعوية، ومن هذه الأصول: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29]، ولقد أكثرت حفظك الله من الإشارة إلى وجوب الاهتمام بالنجباء، ولكني أخشى أن يفهم من هذا تقليل الاهتمام بغير النجباء، وإن كانوا أقوياء الإيمان، وهذا يخالف الأصل السابق؟ A نحن أحياناً عندنا مشكلة، وهي أننا لما نسمع إنساناً يتحدث عن قضية معينة فنفترض أنه يتحدث عن كل ما يتعلق بالدعوة إلى الله عز وجل، فأنا الآن لم أتحدث عن الدعوة إلى الله أصلاً، وإنما تحدثت عن جزئية واحدة وهي النجباء، وكيف نتعامل مع النجباء، فهل يفهم أحد من كلامي أني أدعو إلى إهمال الناس الآخرين؟ وهل يفهم من كلامي أني أدعو إلى العناية بالنجباء وحدهم؟ لا أبداً، فدعوة الله سبحانه وتعالى عامة إلى الناس جميعاً، للمتعلم وغير المتعلم، للصغير والكبير، ولكن هذا النجيب يحتاج إلى قدر من التربية وقدر من العناية والرعاية؛ لأنه سيتبوأ منزلة وسيؤهل لقيادة لم يتبوأ لها غيره، وهذه القضية لا نقاش فيها، فدعوة الله عامة للصغير والكبير، وقد قلت في ثنايا المحاضرة: أننا بحاجة إلى أن نستنفر كل الطاقات حتى الشيخ الطاعن في السن، وحتى العجوز في منزلها بحاجة إلى تسخر هذه الطاقة للدعوة إلى الله عز وجل ولخدمة الأمة، هذه قضية ما نخالف فيها، وأن الدعوة إلى الله مخاطب بها الجميع. وقبل أن أتحدث أمامكم اليوم كنت أتحدث مع السجناء، وإذا كان السائل يفهم أني أنطلق من هذا المنطلق، فماذا عساي أرجو من وراء أولئك السجناء، وأنا هنا لا أحتقرهم، لكن أولئك طبقة نعتبر أننا حققنا قدراً من النجاح معها عندما يستقيم الواحد منهم على طاعة الله عز وجل ويترك ما هو عليه من الفساد والسوء، فلا أدعو بحال إلى إهمال هذا القطاع، ولا يمكن أن يفهم ذلك مما أقوله، لكن الذي أدعو إليه أن نعتدل في الفهم، فعندما يتكلم إنسان عن موضوع معين جزئي فلا يعني ذلك أن هذا هو أهم الموضوعات، فمثلاً: الآن عندما أتحدث عن هذا الموضوع هل يعني هذا أن هذه أكبر مشكلة تواجه الدعاة؟ وهل يعني أن هذه القضية أهم قضايا الدعوة؟ لا ليس بالضرورة، فأنا أجزم أن هناك موضوعات أهم، وأن هناك جوانب أخرى، لكني أتحدث عن قضية جزئية معينة بحاجة إلى أن نلقي عليها الضوء ونعتني بها.

ضرورة سعي الإنسان إلى تطوير نفسه في مجاله الذي يتخصص فيه

ضرورة سعي الإنسان إلى تطوير نفسه في مجاله الذي يتخصص فيه Q نحن شباب لسنا بالنجباء ولكن نعد من الملتزمين، ولكننا لا نرى في التزامنا زيادة بل نحن باقون على حد معين لا نزيد ولا نقص، فما الحل في مثل حالنا؟ A الإنسان -كما قلنا- مسئول مسئولية فردية، والإنسان لا يبقى عند مستوى واحد، فكل إنسان يملك قدراً من الاستمرار، حتى الرجل الطاعن في السن عندما يهديه الله عز وجل يستطيع أن يغير الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء بهذا الدين دخل في الإسلام كبار السن والعجائز، وكان منهم نماذج رائعة، فكان منهم: المرأة العجوز التي تقدم بها السن وفي ثقافتها على أن هذا الطفل الذي تربيه تخشى عليه الموت وتخاف عليه النوائب وترى أنه ذخر لها في قادم أيامها، ولكنها بعد ذلك أصبحت ترمي به في المعارك، وتتمنى أن يقتل، وتتمنى أن يشرفها الله باستشهاده، وهي ما تربت هذه التربية إلا في سن متأخرة، فكل إنسان قابل للتربية، والذي يملك القرار الوحيد هو أنت. بل حتى أنت افترض أن الله رزقك بمرب قدير يملك قدرات ومؤهلات عالية، فإذا لم يكن عندك تفاعل أنت أصلاً فإنك لن تستفيد من هذه التربية، وغاية ما يستطيعه المربي هو أن يقدم لك فقط الفرصة، وأن يتيح لك المجال، أما التفاعل والاستجابة للتربية فهو قرار لا يتخذه إلا أنت، حينئذ يجب أن تساهم أنت بزيادة التزامك والحرص على الإيمان وزيادة العلم، وتقوى الله سبحانه وتعالى، وزيادة الخبرات والطاقات التي ترى أنك تحتاج إليها.

الأساليب التي يلجأ إليها المربي لتحريك الطاقات وتوظيفها عند تلاميذه

الأساليب التي يلجأ إليها المربي لتحريك الطاقات وتوظيفها عند تلاميذه Q من كان قائماً ومربياً على جيل يعد للدعوة ولحمل هذا الدين فكيف يحرك ما به من طاقات ويوظفها التوظيف الصحيح؟ A هناك عدة أساليب لعلنا نشير إلى بعضها باختصار، منها: أن نربي عند الناس أن يحملوا في قلوبهم الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى، وأن تكون الدعوة إلى الله عز وجل هماً لهم، وأن تصبح هي الهاجس الوحيد والهدف الذي يتطلع إليه، وهي قضية القضايا عنده، وهذا شعور يجب أن نحاول وأن نجتهد في أن نغرسه عند كل مسلم، أن يشعر بأن الأمر الذي ينبغي أن يسعى إليه هو هذا الدين ونصرته، وأن يتيقن أننا الآن لسنا في مرحلة أن الإنسان يبدأ يباري غيره في الشهرة أو في المال أو في الثراء أو في تحقيق الشهوات، فالأمة الإسلامية تعيش في مرحلة حرجة -بل وأسوأ من الحرجة- وهي بحاجة إلى أن تستنفر الطاقات، فنربي عندهم هذا الشعور؛ أن يشعر بالغيرة، وأن يشعر بالواقع المر، وأن يشعر بأنه هو وغيره هم أداة التغيير، وأن هذا الواقع لن يغيره إلا الناس. ثم بعد ذلك أيضاً من الوسائل: ذكر النماذج التاريخية السابقة كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الشباب وغيرهم من الجيل السابق. كذلك أيضاً من الوسائل: التربية العملية، وذلك بأن يدفعه ويعطيه خطوات عملية، مثلاً: هذا إنسان عنده قدرة على الخطابة والإلقاء فعلي أن أبدأ بتعويده على إلقاء كلمات أمام زملائه في الفصل، أو أمام زملائه في أي لقاء آخر، حتى يتقوى ويبدأ في إلقاء كلمات في مساجد نائية، وإذا وجد إنسان أشعر أن عنده قدرة على القيادة والمسئولية فأبدأ أحمله مسئوليات بسيطة في البداية، ثم أتدرج به حتى يكون مؤهلاً، فهذه هي التربية العملية، ثم التربية العملية هي من أفضل وسائل الإقناع، فقد يكون الشاب عنده قدرات مدفونة لكنه لا يشعر بها، وعندما أضعه في الموقع المناسب وينجح في أداء الدور المناط به يقتنع حينئذ أنه قادر.

التربية العملية علاج للنجباء من الشعور باحتقار النفس

التربية العملية علاج للنجباء من الشعور باحتقار النفس Q يعاني كثير من المربين والعاملين مع النجباء مشكلة احتقارهم لأنفسهم أو ما يسمى بالتواضع؟ A لا هو ليس بالتواضع، التواضع أمر مشروع، لكن نحن وهماً نسميه بالتواضع، فالإنسان لا يتصدر، ولا يقول كلمة، ولا يعض الناس، ولا يدعو بحجة أنه يتواضع، ولأنه يرى أن من تقوى الله ألا يتصدر، هذه مغالطة، نعم نحن لا ندعو الإنسان إلى أن يتصدر إلى ما ليس له بأهل، ولكن أيضاً من علم علماً فلا يسوغ له أن يسكت عنه، ومن رأى منكراً فلا يسوغ له أن يمتنع عن إنكاره؛ لأن من أعطاه الله خيراً فسيسأل عنه يوم القيامة، فأقول: أفضل الوسائل لهؤلاء التربية العملية، وذلك بأن يوضع في ميدان حتى يرى النجاح بنفسه ويلمس النجاح ويوقف هو على النجاح، أحياناً: الإنسان قد يقوم بعمل فينجح فيه لكنه لا يلمس النجاح بنفسه، فيأتي مثلاً يلقي كلمة على زملائه ولا يستطيع أن يلمس أثر هذه الكلمة، لكن عندما أقول له: كلمة رائعة وجيدة وفلان تأثر بها، فإنني بذلك أوقفه على نجاح فعلاً، وحينئذ أعطيه دفعة وشعوراً بالنجاح؛ لأنه ما من شيء يقنع الإنسان إلا النتائج المباشرة له. فأنا أتصور أن أفضل وسيلة تقنع هؤلاء الذين يحتقرون أنفسهم هي أن يوضعوا في الميدان، وحينئذ سيلمسون النجاح بأنفسهم.

بعض الوسائل المعينة على التغلب على صفة الغرور والعجب عند الداعية

بعض الوسائل المعينة على التغلب على صفة الغرور والعجب عند الداعية Q المرأة الداعية إلى الله كيف تواجه مشكلة الغرور والإعجاب بالنفس، خاصة إذا كان من حولها هم الذين يوحون إليها بأنها ذات منزلة ومكانة عالية في مجتمعها، ونحن نعلم أثر المجتمع المحيط على الفرد؟ A هي مشكلة تعاني منها المرأة كما يعاني منها الرجل، أولاً: نحن نفرح ولله الحمد أن يوجد من النساء من تؤدي هذا الدور، والإنسان حين يشعر أنه يؤدي دوراً ما ثم يدعوه ذلك إلى الغرور أو الإعجاب بالنفس، فلا يصح أن يتخذ قراراً معاكساً ويترك هذا الدور، لا بل يستمر في هذا الدور، ولكن يبدأ يعالج المرض ولا يعالجه بخطأ آخر. ومن وسائل العلاج: أن يتذكر الإنسان ذنوبه وتقصيره، وأن يذكر أن هذه نعمة أعطاه الله إياها، وسيحاسب على قدر هذه النعمة، وأن هذه منة من الله وليست من تحصيله. وكذلك من وسائل العلاج، ومن أفضلها: أن يقرأ في سير السلف؛ لأنه سيجد نماذج عالية لا يمكن أن يقيس نفسه بهم إطلاقاً، وإذا فعل فإنه سيحتقر نفسه وسيرى أنه لن يصل إلى شيء. ومن الوسائل أيضاً: أن يعلم أن الناس لا يعلمون حقيقته، ولا يعلمون ما في داخله، ولا يعلمون قدراته، وإنما الناس لما يجدون عند أي إنسان شيئاً ليس عندهم فإنهم يعطونه مكانة عالية، ويتصورون أن هذا عالم وأن هذا صاحب قدرات، فقط لكونه يملك شيئاً لا يملكونه، فينبغي له أن يعرف أن تقييم الناس له لا يساوي شيئاً ولن ينفعه أمام الله عز وجل، وحينما يتذكر هذه الأمور ويستعين بالله ويدعو الله عز وجل ويتذكر ذنوبه فلعل هذا مما يساهم في دفع هذا الغرور.

شعور الداعية بالتقصير في نفسه يدفعه إلى تربيتها لا إلى ترك ما يدعو إليه

شعور الداعية بالتقصير في نفسه يدفعه إلى تربيتها لا إلى ترك ما يدعو إليه Q إنني إنسان قد أعطاني الله قدرة على إقناع الشباب المبتدئين في العلم والحفظ ورحل مشاكل الشباب، ولكني أجد في نفسي أنني أريد أن أكون أنا الأعلى، فإذا فتشت في نفسي وحاسبتها وجدت أني مقصر في كل ما أحث عليه، فأرجو أن توجهوني إلى حل هذه المشكلة، فإني أعاني منها منذ زمن طويل، علماً أن كثيراً من الشباب يعتبرونني قدوة لهم، ويرجعون إلي في كثير من مشاكلهم، وجزاكم الله خيراً. A نقول: هذه منزلة طيبة فلا تفرط فيها؛ لأنك حين تكون مرجعاً للشباب، وتساعد في حل مشاكلهم، وقدوة لهم، ولكن كما قلت سابقاً ليس الحل أن تترك هذا الأمر، بل الحل أن تساهم في تربية نفسك. ثم أنت هل تتصور أن الآخرين أيضاً لا يعانون من هذه المشكلة؟ الجميع يعاني من هذه المشكلة، ويرى أنه من أكثر الناس تقصيراً وذنوباً وإهمالاً، أنا الآن الذي تعرض علي السؤال أشعر بأني أكثر منك تقصيراً وإهمالاً، بل أشعر أن الكثير ممن يستمع إلي هو أتقى لله وأخشى لله مني، وما لي من رجاء أكثر من أن ينفعني الله بدعوة من رجل صالح سمع مني خيراً فنفعه الله به، هذا العمل الذي أرجوه، أما ما أقدمه فأنا أعلم بنفسي، وأعرف أن عندي تقصيراً، وأعرف أن عندي إهمالاً وذنوباً، لكن لو كان كل إنسان يرى عنده ذنوباً وتقصيراً فلن يعمل أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم لا يذنبون). فالبشر لا بد أن يقعوا في الذنب والتقصير، ثم الذنوب شيء وواجب الدعوة شيء آخر، يعني: وقوعك في الذنب لا يعني أبداً أن تترك الدعوة، وتعال قارن لي بين شخصين: شخص مذنب ومقصر ويساهم في الدعوة، وشخص آخر مذنب ومقصر ولا يساهم في الدعوة، أيهما أسوأ حالاً؟ فهل الحل أن تترك الواجب الشرعي بحجة أنك مذنب؟! لا أدري من أين جاء هذا الوهم، عند بعض الناس شعور أنه لا يصلح لأن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا ينصح ولا يقول كلمة الحق إلا الإنسان المتقي الكامل، أبداً، إذا صار عندنا هذا الشعور فلن يصل الإنسان إلى المنزلة التي يقتنع فيها بنفسه، وإذا وصل الإنسان إلى منزلة يقتنع فيها ويرضى فيها عن حاله فهو مغرور ومعجب بنفسه.

كما يوجد النجباء الصالحون يوجد النجباء المنحرفون

كما يوجد النجباء الصالحون يوجد النجباء المنحرفون Q ذكرت أثابك الله بعض النجباء من الصحابة رضي الله عنهم وكيف اعتنى رسول صلى الله عليه وسلم بهم، فهلا ذكرت أمثلة حية من الجيل المعاصر؛ حتى لا يقول البعض: إن جيل الصحابة لن يتكرر لتتحقق القدوة الحية بهم، وحتى يقتنع البعض بتكرر أولئك النجباء في كل مجتمع، كما أن هناك بعض النجباء الذين انحرفوا، فلو ذكروا للعبرة والحذر، خصوصاً أن بعضهم لم يهتدوا إلى هذا الدين أو ارتدوا عنه نسأل الله السلامة، خصوصاً أن مدينة شقراء ولله الحمد تزخر بالكثير من النجباء نفع الله بهم الإسلام والمسلمين. A هذه شهادة ونحن لا ننكر هذه الشهادة لكن على الأقل أنت متهم؛ لأنك تشهد لبني قومك، ونحن لا ننفي عن بني قومك هذه الصفة، ونعرف منهم إن شاء الله الأفاضل والنجباء، ونؤمل فيهم الخير الكثير، لكن الإنسان يتعود أنه ما يشهد لبني قومه؛ لأنه قد يكون متهماً. على كل حال النماذج المعاصرة نحن نراها ولا نحتاج إلى أن نمثل، فالقادة من الناس الذين يقول أحدهم الكلمة فيسير الناس وراءه، والذين يغيرون كثيراً في المجتمعات هم كثر ولا نريد أن نمثل بهم. لكن سنتكلم عن الشق الثاني وهم النجباء المنحرفون وهو فعلاً سؤال وجيه، وسبق أن أشرت إليه، فانظروا مثلاً إلى فرويد صاحب النظرية الإباحية في علم النفس، وكم سار وراءه من البشر، فهو رجل نابغ قطعاً، وأيضاً ماركس وغيره من الناس النوابغ، صاحب الفكر الوجودي، وكل أصحاب المبادئ المنحرفة المعاصرة هم ناس نوابغ ولا شك، كذلك قادة الأمم الكافرة نوابغ، ولكن كم يتحملون من أوزار الذين يضلونهم بغير علم، وبعض قطاع الطريق وبعض المجرمين هم من النوابغ، فتجده يحترف في الإجرام لكن ماذا جنى من قدراته؟ إذاً: كما قلنا: إن قدرتك إذا لم تسخرها في الخير فقد تقودك إلى الشر، عافانا الله وإياك. ولعلنا نكتفي بهذا القدر من الأسئلة حتى لا نثقل على الإخوة، وفي الختام نشكر الإخوة القائمين على الدعوة على حسن ظنهم ودعوتهم، والإخوة الحضور على استجابتهم وعلى حضورهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا لقاء خير وبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العمل بما علمنا، وأن يوفق هذه الأمة وشبابها الصاعد، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الحور بعد الكور

الحور بعد الكور الإقبال على السنن والالتزام بالدين في ازدياد وتوسع كل يوم، وفي الجانب الآخر نجد الفتور في الالتزام، والانتكاس الذي يصيب بعض الشباب، وهي ظاهرة خطيرة تحتاج منا مبادرة إلى دراسة أسبابها والعمل على علاجها.

استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الحور بعد الكور

استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الحور بعد الكور الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المركز على حسن ظنهم ودعوتهم لأتشرف باللقاء بإخواني وأحبابي الشباب، وقد سرني كثيراً أن أرى مثل هذا العدد في مثل هذه المدينة يجتمع في مثل هذه المراكز الصيفية. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب القائمين عليها، وأن يجعل ذلك في موازين حسناتهم يوم يلقونه. موضوع محاضرتنا -أيها الإخوة- هو: الحور بعد الكور. ولعل الكثير يتساءل عن العنوان ومدلوله، وقد وقع اختياري على هذا العنوان؛ نظراً لأنه كان دعاءً يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال)، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه. وفي رواية أخرى: (الحور بعد الكون). إذاً: فالحور بعد الكور أمر كان يستعيذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ما معنى الحور بعد الكور؟ الحور: يقول صاحب لسان العرب: يقال: حار إلى الشيء وحار عنه، أي: رجع إليه ورجع عنه، فالحور إذاً هو الرجوع إلى الشيء أو الرجوع عن الشيء. أما المقصود بهذا الدعاء في الحديث فيفسره الإمام الترمذي رحمه الله وهو أحد الذين خرجوا هذا الحديث: بأنه الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية.

ظاهرة الصحوة والإقبال على الدين

ظاهرة الصحوة والإقبال على الدين وأستأذن الإخوة الأكارم الأساتذة والآباء أن أبسط قليلاً في الحديث؛ نظراً لأن الموضوع يعني بدرجة كبيرة الشباب حتى يكون الموضوع مدركاً للجميع، سواءً الإخوة الحاضرون معنا أو من كان يسمعه من خلال التسجيل. أيها الشباب! ظاهرة ولا شك تدركونها جميعاً وتسركم، وهي ظاهرة الإقبال الطيب من الشباب على طريق الاستقامة وطريق الخير، فنرى الكثير من الشباب يتوافدون الآن -ولله الحمد- على المساجد، يتوافدون على مثل هذه المراكز، على مثل هذه اللقاءات، قد تغيرت الصورة، أولئك الشباب الذين كانوا في السابق يتزاحمون إلى ملاعب الكرة، أولئك الشباب الذين كان هم أحدهم شهوته ودنياه العاجلة، أصبح يحمل في طياته همة عالية، فلم تعد مشكلة هذا الشاب أنه لا يستيقظ لصلاة الفجر، إنما هو الآن يسعى ويسأل عن الوسائل التي تعينه على قيام الليل، ونراه يحرص ويجتهد على أن يكون له حظ من صيام النوافل. هذا الشاب قد أصبحت همته عالية، أصبح يتطلع إلى أن يخدم أمته، أصبح يتطلع إلى أن يفتح له باب الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولعلنا قد رأينا النماذج الكثيرة من هؤلاء، ورأينا النماذج من إخواننا وأحبابنا الذين قضوا نحبهم في أرض الجهاد هناك، هذه الظاهرة ولله الحمد ظاهرة طيبة وتبشر بالخير. ولكنا نرى أيضاً في أثناء هذه الظاهرة، أن هناك عدداً يحور ويتنكب الطريق بعد أن هداه الله سبحانه وتعالى، فهذا الأمر يتطلب منا وقفة لدراسة مثل هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها حتى نقي أنفسنا أولاً، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للهداية أسباباً، وجعل للضلالة أسباباً. فالله سبحانه وتعالى يقول مثلاً: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الجهاد في سبيل الله من الأمور التي تجلب الهداية للعبد، وأن الإنسان إذا جاهد في الله سبحانه وتعالى استحق أن يكافئه الله بالهداية إلى طريقه؛ هذا المجاهد يستحق أن يهديه الله لأنه يريق دمه في سبيل الله حتى ينقذ الناس من الضلال، فيجزيه الله سبحانه وتعالى من جنس عمله. ويقول الله عز وجل أيضاً في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].

الهداية والضلال بيد الله تعالى

الهداية والضلال بيد الله تعالى وفي الجانب الآخر أيضاً -جانب الضلال- يقول الله سبحانه وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف:146]، ويقول في آية أخرى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. إذاً: -معشر الشباب- الضلالة والهداية بيد الله سبحانه وتعالى ولا شك، ولكن هناك أسباب من سلكها سهّل الله له طريق الهداية، ومن سلك أسباب الضلالة قاده ذلك -عافانا الله وإياكم- إلى الضلالة وإلى خاتمة السوء. أنتم تعلمون جميعاً وتدركون أن الله سبحانه وتعالى من صفاته العدل، فلا يمكن أن يظلم أحداً سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يظلم الله عز وجل عبداً مثقال ذرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، فهل تتصورون معي أن شاباً يقبل على الله سبحانه وتعالى ويتوجه إلى الله عز وجل بقلبه وقالبه، ثم بعد ذلك يضله الله ويصرفه الله دون سبب أو تقصير منه؟ لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، وعندما يسلك العبد طريق الضلالة، لا شك أن إرادة الله فوق كل شيء، لكن الله عز وجل قد جعل للهداية أسباباً وجعل للضلالة أسباباً.

أهمية الحديث عن الحور بعد الكور

أهمية الحديث عن الحور بعد الكور معشر الشباب! النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، إذاً: فهي قضية جدير بنا أن نحرص على معرفتها أشد الحرص، وما حالنا وحال الصالحين فضلاً عن حال أنبياء الله فضلاً عن حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين. معشر الشباب: الفتن والصوارف عن طريق الخير في هذا العصر أكثر، فأنت هنا تسمع الكلمة الناصحة، تسمع ما يرقق قلبك، أو تسمع ذلك في خطبة الجمعة، أو في اللقاءات الطيبة مع إخوانك الأخيار، ولكنك عندما تذهب إلى المنزل سترى في أجهزة اللهو ما يهدم كل ما بنيته، عندما تذهب إلى محل تجاري تقابلك المجلات التي تحمل تلك الصور الفاتنة، عندما تجلس مع فلان وفلان من زملائك في الدراسة أو الفصل أو الحي ماذا يتحدث هؤلاء؟ وعم يتحدثون؟ الكثير من الشباب حديثهم وهمهم هو الشهوات المحرمة وتحصيلها، ففي خضم هذا الواقع الذي هو مليء بما يفتن الشاب ويصده عن دينه، يكون جديراً بالشاب وواجباً عليه أن يحرص على أن يتعرف على أسباب الهداية، وأن يتعرف أيضاً على أسباب الحور، عله أن يجتنبها حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى إلى سلوك الطريق المستقيم، وقبل ذلك كله وبعده هو توفيق الله سبحانه وتعالى وهدايته. وهنا سؤال مهم: عندما نتحدث مثلاً عن هذه المشكلة فهل يعني أنها أصبحت مشكلة سائدة؟ أصبحت مشكلة عامة؟ ما مدى حجم هذه المشكلة وانتشارها؟ فلابد أن نضع الأمور في نصابها، ولابد أن نتعرف على حجم هذه المشكلة ولا نعطيها أكثر من حجمها، بحيث يتخيل كل من يسمعنا أن الفئة الكثيرة من الشباب الذين سلكوا طريق الاستقامة ينحرف عن الطريق المستقيم، وأيضاً لا نبالغ في الطرف الآخر وندس رءوسنا في التراب، ونقول: إن هذه حالات أصلاً غير موجودة أو حالات نادرة جداً، نحن يبدو لنا بادئ ذي بدء أن المشكلة كبيرة. نعم يا إخوة! المشكلة ضخمة عندما نخسر واحداً، لا شك أن ذاك الشاب الذي رأيناه قد سلك طريق الاستقامة نتمنى أن نبذل كل ما نملك ويستمر على هذا الطريق، ولا شك والله إنه ليسوؤنا أن يتنكب واحد من هؤلاء الشباب الطريق، والأمة أحوج ما تكون إلى مثل هذه الطاقات، ومن هنا تبدو ضخامة المشكلة، لكن Q ما نسبة هذه المشكلة؟ ما حجم هؤلاء الذين ينحرفون بالنسبة إلى أولئك الذين يستمرون على طريق الاستقامة؟ نحن يخيل لنا في البداية -كما قلت- أنها مشكلة منتشرة، ومشكلة عامة وقضية خطيرة كما يثير الكثير من الشباب. فأولاً: سأضرب لكم مثالاً: أنت الآن -مثلاً- عندما تذهب من هنا إلى مدينة عنيزة وترى ثلاثة حوادث في الطريق، تتخيل أن الحوادث كثيرة جداً، تتخيل أنه ليس هناك من أحد يسير من هذا الطريق إلا وهو معرض لأن يقع عليه الحادث، تتجاوز -مثلاً- مدينة عنيزة إلى مدينة بريدة وترى أيضاً أربعة حوادث، فتشعر بأن هذه المشكلة مشكلة عامة، تشعر بأن كل من سار في هذا الطريق معرض للحادث، لأن السيارات التي تسير في الطريق السليم ولا تتعرض للحادث لا تلفت انتباهك، لا يلفت انتباهك إلا الحالة الشاذة، حتى تصل إلى النسبة الحقيقية لحجم هذه الحوادث، خذ عدد السيارات التي أصابها حوادث وانسبها إلى عدد السيارات التي سارت ولم يصبها الحادث. فكذلك نأتي إلى هذه الظاهرة، أنت مثلاً عندما تعرف أحد الشباب كان مستقيماً ثم قابلته بعد فترة ورأيته قد انحرف، ثم يمر عليك نموذج آخر، وثالث ورابع وخامس، تتخيل أن المشكلة عامة، لكن الآخر الذي كنت تعرفه مستقيماً، ثم قابلته بعد سنوات وهو لا زال على طريق الاستقامة لا يلفت انتباهك؛ لأن هذا سائر على الأصل. على كل حال أنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، لكن أقول: إنه مع عنايتنا بهذا الأمر يجب ألا نضخمه، وأن نخيل للناس ونتخيل أن أكثر وعامة من يسلك هذا الطريق يتنكب الطريق، ولكن المشكلة تبقى مشكلة خطيرة، لأن القضية ليست مجرد خسارة مادية بل كون الإنسان يتنكب هذا الطريق معناه أن يخسر دنياه وآخرته، فهي قضية لا تقبل التنازل، هذا أمر. الأمر الثاني: أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى هذه الطاقات، فلا شك أن سقوط واحد يعني أننا تأخرنا قليلاً، ونحن نحتاج إلى أن نبحث عما يدفعنا إلى الأمام.

أسباب ظاهرة الانتكاس

أسباب ظاهرة الانتكاس

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان الأسباب لهذه الظاهرة أسباب كثيرة ومتنوعة، وقد يكون بعضها داخلاً في بعض، فأول سبب وأهم هذه الأسباب هو ضعف الإيمان. قد يكون الشاب مستقيماً يسلك طريق الاستقامة ويجالس الأخيار، لكن إيمانه ضعيف، لذلك مثل هذا الإنسان الذي لا يملك قدراً من الإيمان يعينه على الثبات على هذا الطريق عندما تعرض له شهوة أو شبهة أو له فتنة يمكن أن ينصرف عن الطريق. عندما نأتي بعود مثلاً ونحفر له في الأرض بحيث تكون قاعدته غير صلبة قد يثبت، لكن عندما يأتي أدنى هواء يسقطه، السبب ليس في مجيء الهواء والرياح، إنما السبب أن القاعدة غير ثابتة، لكن عندما أحفر له في الأرض وأثبته بقوة لا يمكن أن يسقط اللهم إلا إذا أتت العواصف التي تهوي بكل شيء، فهذا أمر آخر، فالسبب هنا والعامل الرئيسي والأساس هو الإيمان. ولذلك لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وسأله، قال: هل يرتد أحد من أصحابه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً. وانظروا في أحداث الردة، لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب وقبائل بأكملها، بل لم يبق على الإسلام إلا عدد محدود بالنسبة إلى المناطق التي دخلها الإسلام في ذاك الوقت، لكن من الذي ثبت على الإسلام، هل ارتد أحد من أهل بدر، هل ارتد أحد من الذين بايعوا تحت الشجرة، هل ارتد أحد من المهاجرين والأنصار، من الذين عاشوا الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عامة الذين ارتدوا هم من الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، فعامة الذين ارتدوا هم من حديثي عهد بالإسلام، لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، لم يعمر الإيمان قلوبهم، أما أهل مكة والمدينة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، أولئك ثبتوا وصمدوا، بل حتى ترى هذا النموذج في أحدهم لما كان في غزوة أحد لما قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة قال: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟ اذهبوا فموتوا على ما مات عليه. إذاً: هذا يعطينا درساً أنه كلما كان المرء أقوى إيماناً وأقوى صلة بالله سبحانه وتعالى كان أكثر ثباتاً، فقد دخلت جزيرة العرب في الإسلام، لكن حصلت الهزة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن موته أمر ليس يسيراً على المسلمين، فأهل المدينة أصابتهم هزة، وبعضهم لم يصدق الخبر، لكن قرأ عليهم أبو بكر الآية، وانتهت الصدمة فاطمئنوا ووثقوا، وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ودفنوه، لكن قبائل أخرى ارتدوا من أول صدمة وأول فتنة واجهتهم وخرجوا عن دين الإسلام. إذاً: يا شباب! الإيمان هو الأساس، ولذا يجب أن نعنى بإيماننا وأنتم تدرسون في العقيدة أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعليك أن تحرص على أن تسلك أسباب زيادة الإيمان، وتنمي هذا الإيمان في قلبك، وأن تتجنب وتحذر كل الحذر من الأمور التي تنقص من إيمانك، فإنك قد لا تواجه بعد ذلك أي فتنة وأي شهوة تواجهك، أو أي شبهة تصدك عن دين الله سبحانه وتعالى.

السير وراء الشهوات

السير وراء الشهوات السبب الثاني: وهو أيضاً لا يقل خطورة عن هذا السبب وخاصة في مرحلة الشباب فإنه يعتبر عاملاً أساسياً، بل الكثير من الحالات التي مرت علي، ومنذ فترة وأنا أنزعج وأظن كل واحد منكم ينزعج حين يرى مثل هذه الظاهرة، وعندما أكتشف مثل هذه المشكلة أحاول أن أعرف السبب؛ لأنها قضية تعنينا جميعاً، أولاً حتى نتجنبها وحتى نتناصح فيما بيننا وننصح إخواننا. فالسبب الثاني هو: السير وراء الشهوة. وخاصة في مرحلة الشباب، وخاصة في هذا العصر، حيث تفتحت الأبواب أمام الشباب بالشهوات، وتفنن الأعداء في صد الشباب عن دينهم وفي إثارة الغرائز، واستعملوا كل ما تفتقت عنه المدنية الحديثة وكل ما تفتق عنه العلم الحديث لإثارة هذه الغرائز. الآن يا شباب هؤلاء الذين يصنعون الأفلام، والذين يجلبون لكم هذه الأفلام الساقطة التي يراها الكثير من الشباب، هل تتخيلون أنهم أناس يريدون المادة فقط، أم أن هناك أيادي ًتريد أن تفتك بهؤلاء الشباب؟ المجلات التي ترونها وللأسف حتى في محلات التموينات، هذه المجلة التي تراها مزينة بصورة المرأة الفاتنة؛ أتدري لم يصنع هؤلاء ذلك؟ الإعلانات التي تشاهد أحياناً في المجلات وفي التلفاز، عندما يراد الإعلان يؤتى بامرأة جميلة فاتنة لتقوم بالإعلان عن هذه السلعة. فمن وراء ذلك؟ قد يكون فئة من المغفلين النفعيين الماديين الذين يريدون المال على حساب الأخلاق والقيم، ولكن أجزم أن هناك فئة كبيرة جداً يهمها دمار الشباب، يهمها إثارة الفتن وإثارة الغرائز. فأقول: الشاب حين يكون حديث عهد بهذه المرحلة، والشهوة تتوقد لديه، ولم يتيسر أمامه الطريق الشرعي لصرف الشهوة فيما أحل الله عز وجل من الزواج، فالذي يحصل أن الشاب يقتنع بطريق الاستقامة ويسلك طريق الاستقامة ويذهب مع الناس الأخيار ويأتي معهم، ولكنه قد يأتي إلى البيت في يوم من الأيام فيجلس أمام التلفاز فيرى تلك الصورة الفاتنة، تلك المرأة فتفتنه تلك الصورة ويتعلق بها، ثم يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم، وحتى يوقعه الشيطان في معصية وكبيرة من الكبائر، حينئذٍ يقول له الشيطان: لا أمل لك بعد ذلك في التوبة والرجوع أبداً، ويقوده بمجرد نظرة واحدة، أو بمجرد تعلق بشهوة محرمة واحدة، يقوده بعد ذلك إلى طريق الانحراف وطريق الضلال، وهي قضية خطيرة عندما يسترسل فيها أحد. أي معصية قد يفعلها الإنسان وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام لا ينتهي أثرها، ليست القضية أنك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو إلى ذاك الغلام تكتب عليك سيئة وتنتهي، نعم هي سيئة تكتب عليك وستحاسب عليها، فإن شاء الله عفا عنك أو عاقبك، لكن لا تقف القضية عند هذا الحد، فإن هذه النظرة يعقبها ما بعدها، أنت تنظر النظرة ويزول أمامك هذا الذي نظرت إليه، ثم بعد فترة عندما تذهب للمنزل يبدأ الشيطان يحرك هذه الصورة في ذهنك، وتبدأ تتدرج القضية إلى تفكير، ثم يطول التفكير حتى يستولي على الشاب حتى يفكر في هذه الشهوة في صلاته وهو بين يدي الله عز وجل! ماذا بقي لله سبحانه وتعالى؟ تستولي عليه هذه الشهوة حتى يبدأ يفكر في تفريغ هذه الشهوة فيما حرم الله، فقد يقع أحياناً في العادة السرية، ثم وقوعه في هذه المعصية يسهل له ما بعدها، حتى تقوده إلى التهاون بالنظرة الأخرى، ثم بعد ذلك يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من النظر، ويوصي صاحبه وصهره علياً رضي الله عنه يقول: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية)، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31]. وإذا تبدت أمامك تلك الصورة التي قد تنال من قلبك شيئاً، فتذكر تلك الصورة التي لا يمكن أن تقارن أبداً بهذه الصورة، تذكر تلك التي لو اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لملأت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها). وفي الحديث الآخر أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة يدخلون الجنة على هيئة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)، اختر أحد البديلين، واعلم أنك عندما تفتح أمامك أبواب الشهوات وأبواب النظرة الحرام، وتصرف نظرك لله سبحانه وتعالى، أن ذلك مهر تقدمه بعد ذلك للحور العين، ذاك النعيم الذي لا يمكن أن يزول ولا يمكن أن يحول أبداً.

التهاون بالمعاصي

التهاون بالمعاصي السبب الثالث: التهاون بالمعاصي. الله سبحانه وتعالى حكى عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، هؤلاء فروا من الزحف، والفرار من الزحف ليس من الكبائر فحسب بل هو من السبع الموبقات، هؤلاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين فروا من الزحف في غزوة أحد، فما السبب؟ قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، فبسبب بعض ذنوبهم وبعض سيئاتهم استزلهم الشيطان حتى أوقعهم في تلك الكبيرة، وماذا عسى أن تكون سيئات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ في غزوة أحد قبل أن يعز الإسلام ما كان يدخل في الإسلام إلا الصادقون، ولا شك أن السابقين في الدخول للإسلام ليسوا مثل غيرهم، ومع ذلك لما فعلوا بعض السيئات تسلط عليهم الشيطان وأوقعهم في الفرار من الزحف، ولكن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم كما في آخر الآية، فأنت عندما تتهاون بالمعصية الصغيرة تفعلها مرة أخرى، فيزول استقباح المعصية من نفسك، فتصبح تتجرأ على المعصية التي هي أكبر منها حتى تتجرأ على الكبائر، وتتجرأ على الفواحش، ثم تعرض بعد ذلك وتسير في طريق الغافلين. ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وذا بعود حتى أشعلوا نارهم وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه)، يضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً، مثل قوم جاءوا في واد وأرادوا أن ينضجوا عشاءهم، فما وجدوا حطباً، فجاء كل واحد بعود، ووضعوا هذه الأعواد فأشعلوا تلك النار، فتخيل تلك النار التي ستنتج نتيجة هذه الأعواد، ومن هذا المعنى يعظك أحد السلف قائلاً: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فالجبل عبارة عن حصيات صغيرة، لو جئنا الآن إلى جبل عظيم وفجرناه لتفتت إلى حجارة صغيرة جداً، فإذا جمعت هذه الحجارة فستكون كوماً هائلاً لا يمكن أن تتصوره. ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة فيقول: (يا عائشة! إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً)، فالحذر الحذر معشر الشباب من المعاصي! وقلنا لكم في السبب الأول: إن من أهم الأسباب ضعف الإيمان، وقلنا لكم: إن هناك أموراً يزيد بها الإيمان وأموراً ينقص بها الإيمان، ومما ينقص الإيمان المعصية، وعندما يفعل الإنسان معصية يتجرأ على التي تليها، ثم يتجرأ على التي تليها حتى يتجرأ بعد ذلك على الكبائر والفواحش كما أسلفنا، ثم بعد ذلك يقول: إنني لا أستحق أصلاً أن أسير في طريق الصالحين، وأنا إنسان ملوث سيئ، وأنا إنسان منافق أظهر ما لا أبطن، ثم بعد ذلك ينحرف ويسير في طريق الضلال، عافانا الله وإياكم.

عدم العناية بتربية النفس والصلة بالله

عدم العناية بتربية النفس والصلة بالله السبب الرابع: عدم عناية الشاب بتربية نفسه وصلته بالله سبحانه وتعالى. يكون الشاب مثلاً قد وفقه الله لصحبة صالحة يذهب هو وإياهم ويأتي هو وإياهم، يذهبون مثلاً إلى مثل هذه المراكز الصيفية، أو إلى حلقة من حلق القرآن، أو إلى أي مكان يجتمع فيه الشباب الأخيار، قد يسافرون، يقرءون القرآن، يصلون، يسمع المواعظ معهم، وهو يذهب بدافع من نفسه، ويشعر فعلاً بالارتياح، لكنه عندما يرجع إلى المنزل لا يهتم بنفسه، ولا يعتني بنفسه، ويعتبر أن القضية تنتهي عندما يسير مع الأخيار. ولا شك يا إخوة أن مجرد مسايرة الأخيار لا تكفي، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية، فكل إنسان سيقدم إلى الله وحده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان). الذي يحصل أن الشاب يذهب مع الأخيار ويأتي، وهو صاحب نية صادقة، ويشارك معهم في أعمال الخير والطاعة، لكنه لا يعتني بنفسه عندما يكون في المنزل، فلا يحرص على العبادة، وليس له نصيب من قراءة القرآن، ولا من قيام الليل ولا من غيرها من العبادات التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة أعمال السر، لابد أن يكون لنا منها نصيب؛ لأن لها أثراً في إصلاح النفس، وأثراً في صلة النفس بالله سبحانه وتعالى، فليس بالضرورة أن تقوم ثلث الليل كله، ولكن ربع ساعة أو نصف ساعة، بل لو لم تستطع أن تقوم الليل فصل قبل أن تنام ركعتين واطمئن فيهما، أمسك المصحف واقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى بتدبر وتمعن، قف مع نفسك وتفكر في الدار الآخرة، تفكر في حياة البرزخ، ليكن لنفسك حظ من العبادة، اعتن بنفسك، لا يمكن ولا يليق أبداً أن يعطي أحد الآخرين وكالة عن نفسه، فهذه أمور أنت فيها مسئول عن نفسك: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولن ينفعك مجرد كونك تسير مع فلان أو فلان أو فلان من الناس. لا شك أن هذه الخطوة مطلوبة وندعو كل شاب أن يحرص عليها، وهي خطوة مجالسة الأخيار، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي أن نعتني بأنفسنا بعد ذلك، وأن نحرص على أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، ونصيب من الصلاة، ونصيب من الصيام، ومن أعمال السر بيننا وبين الله عز وجل، فإن لذلك أثراً عظيماً في إصلاح النفس.

الغثائية وعدم القناعة

الغثائية وعدم القناعة السبب الخامس: الغثائية وعدم القناعة. الأمة الإسلامية تشكو من الغثائية، كم من الناس من يشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غثاء كغثاء السيل)، بعد انتشار الصحوة أصبح يوجد نوع من الغثائية، يكون الشاب مثلاً له أخ مستقيم أو ابن عم أو قريب، أو نشأ في بيت محافظ، ويؤتى به إلى مثل هذا المركز ويرى العدد الكبير من الشباب الطيبين، وعندما يذهب ليصلي في الجامع يرى ذلك، وعندما يذهب إلى الحرم المكي أو إلى المحاضرات يرى عدداً كبيراً من الشباب الطيبين، فأصبح جواً عاماً، وسار مع الناس وليس عنده قناعة تامة، يعني ليس عنده تلك الرغبة القوية بحيث يشعر أن هذا الطريق لابد أن يسلكه، يشعر أن هذا هو ما أمره الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن الطريق الآخر طريق ضلال وانحراف، وأن هذا لا خيار له فيه أصلاً، وهو لا يسلك هذا الطريق لأنه جالس مع فلان وفلان من الناس. فعندما يكون مستوى القناعة عنده ضعيفاً وإنما يأتي عن عاطفة واستجابة لدعوة فلان أن يكون مع الأخيار، يكون عنده استعداد لأن يتخلى عن الطريق لأي مشكلة تعرض له. وهنا لابد أن يكون عندنا قناعة، وأن نعرف أن القضية مستقبل، أنتم الآن اعتدتم أن تسمعوا من آبائكم ومن أساتذتكم وممن حولكم: يا بني أنت لابد أن تعتني بمستقبلك، فهو يدرس ويجتهد في الدراسة حتى يعتني بمستقبله، يريد أن يحصل على تقدير عال حتى يؤمن مستقبله، وهكذا يصبح هذا المستقبل هاجساً، بل يصبح أحياناً وللأسف وثناً، فهو يسترخص كل شيء لأجل هذا المستقبل، وما هو المستقبل الذي يتجه إليه الجميع؟ فعندما يقال: أمِّن مستقبلك ماذا تفهم من هذه الكلمة؟ تفهم من هذه الكلمة أنه يلزمك أن تحصل على مركز وظيفي أو مركز اجتماعي مرموق، وفي النهاية ستموت وترحل، الرجل الذي حصل على مركز اجتماعي عال مثل الرجل الفقير الصعلوك الذي لا مال له، سيرحلون جميعاً ولا فرق، فما هو المستقبل الحقيقي إذاً؟ المستقبل الحقيقي: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، هذا هو المستقبل الذي يجب أن نتطلع إليه، والذي يجب أن نرتب أمورنا وحياتنا على أساسه، يؤتى بالموت على هيئة كبش، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت. ويقال: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. نعم لا شك أن الشاب سيحرص على أن يؤمن له وظيفة، وأن يكون له مركز اجتماعي مناسب، ولكن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه، ونربط أمورنا كلها به هو هذا المستقبل. إذاً: فأنت يجب أن تعرف أن طريق الاستقامة وطريق الالتزام ومعاشرة الأخيار ليست مجرد عواطف، ولكن القضية مستقبل، فتسلك هذا الطريق وأنت تعرف نهايته، وتسلك الطريق الآخر وتعرف نهايته.

عدم الجدية

عدم الجدية السبب السادس: عدم الجدية: بعض الناس عنده استعداد أن يخرج مع الأخيار في رحلة قد يكون فيها فوائد طيبة، وفيها مجال للانبساط وحظ النفس، ممكن أن يأتي ويشارك في المركز الصيفي وما فيه من البرامج الجادة، لكنه سيجد فيه برامج رياضية، وسيجد فيه ما يزيل السأم عن النفس، ولا شك أن النفس تميل إلى مثل هذا الأمر، لكن عندما تأتينا أشياء جادة، كأن يقال: هناك درس علمي فمن يريد أن يبقى فليبق، والذي يريد أن ينصرف فلينصرف، ستجد أن هذا الدرس لا يقبل عليه إلا عدد أقل، عندما يكون هناك برامج جادة كأن يقال للشاب: نريدك أن تقرأ هذا الكتاب، وحجمه 300 صفحة أو 400 صفحة، أو عندما يقال له في أمر من باب الجهاد في سبيل الله عز وجل. نحن نمني أنفسنا بالجهاد، ويحدث الواحد نفسه فيقول: الآن أتمنى إن شاء الله أن يتاح لي المجال للجهاد والشهادة، لكن هذه أماني، وعندما تأتي الحقيقة تتغير الصورة، وأظن أنه قد مرت بكم تجربة وكانت الأحداث بعيدة عنكم، ومع ذلك أصبحت القلوب ترجف، وأصبح الإنسان يريد أن يبذل كل شيء ليسلم فقط من هذا الخطر الداهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]. نحن لا نريد مظهراً خارجياً في شاب يلتزم بالأمور المظهرية فيقصر ثيابه ويعفي لحيته ويحافظ على السنن الرواتب وغيرها من الأمور، وهذه أمور مطلوبة، لكن أقول: العبرة بالصبر على التكاليف الجادة مثل أن يصبر الإنسان على الفتن، أن يصبر على المصائب، أن يعد نفسه للجهاد في سبيل الله. هل تتخيلون أن يزيد عدد الشباب الأخيار ثم يصبحوا آباء ومسئولين، وبعد فترة تقوم عندنا دولة إسلامية وخلافة إسلامية؟ لا، فلابد أن تحصل فتن ولابد أن تراق دماء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فأقول: الطريق الذي تسلكونه طريق سجن، طريق مصائب، طريق يحتاج إلى أن يضحي الإنسان بماله وبراحته، بل أحياناً يضحي بنفسه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]. إذاً: نعود إلى ما أشرنا إليه، فنقول: إن بعض الشباب قد يكون شخصية غير جادة، يسلك طريق الاستقامة وقت الراحة، لكن عندما تأتي قضايا جادة تتطلب الصبر والتضحية يحس أنه مهدد أن يصيبه ما يصيبه، وسرعان ما يهلك، ولذلك تصبح الفتن هي المحك؛ لأن أكثر ما يكون التساقط عند الفتن، وسميت فتناً لأنها تصفي الناس وتميز سالصادقين: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]. فأقول: يجب أن نربي أنفسنا على الجدية، ولا حرج أن يكون لنا حظ من اللهو المباح في لقاءاتنا مع زملائنا وإخواننا، يكون لنا حظ مثلاً من الرياضة المباحة، لكن بشرط أن نتطلع إلى أمور أعلى، ونكون جادين، ولا نكون شخصيات هازلة.

ضعف الشخصية

ضعف الشخصية ننتقل بعد ذلك إلى السبب السابع: ضعف الشخصية: بعض الناس عندما يكون مع الأخيار سرعان ما يتحول زاهداً ورعاً تقياً صالحاً، لكنه ليس عنده ثبات، فبعد يوم أو يومين يعاشر فلاناً من الناس فسرعان ما ينصرف وينحرف. وهناك قضية تحصل كثيراً وهي أن الشاب يكون له زملاء أخيار يذهب معهم ويأتي معهم، فيسافر مثلاً إلى بلدة أخرى أو هم يسافرون مثلاً ولا يذهب معهم، فينقطع عنهم مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، فأحياناً تجده قد رجع بغير الوجه الذي ذهب به كما يقال، تغير وجهه جملة وتفصيلاً، لماذا؟ لأن الرجل -كما قلنا سابقاً- ما كان يعتني بنفسه، فلم لكن له حظ من عبادة الله وطاعة الله عز وجل، وأيضاً هو رجل ضعيف الشخصية سرعان ما يتأثر، وأي إنسان يستطيع أن يقوده، وأن يؤثر عليه.

الإعجاب بالنفس والغرور

الإعجاب بالنفس والغرور السبب الثامن: الإعجاب بالنفس والغرور: والذي أوقع الشيطان فيما أوقعه فيه هو إعجابه بنفسه وغروره، ومهما كان عليه الإنسان من الإيمان والتقوى والصلاح فبدون تثبيت الله وتوفيق الله عز وجل لن يستطيع الثبات أبداً. الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول في قيام الليل: (اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو بهذا الدعاء عبثاً، بل إن الله يقول له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تثبيت الله، فغيره من باب أولى. المشكلة أن بعض الشباب يحس بأنه قد وصل إلى مرحلة استقرار، وأصبح عارفاً لكل شيء، وأنه إنسان ليس عنده أي قصور، وقد أصبح الآن بحاجة إلى أن يعطي، وليس بحاجة إلى ما يزيد إيمانه وطاعته، وعندما يشعر الإنسان بأنه اكتمل فقد بدأ النقص، وهذا ما يريده الشيطان. فالحذر الحذر -يا شباب- من الإعجاب بالنفس، وعندما تتخيل أنك صاحب عبادة، فتذكر سيرة العباد واقرأ سير العباد لترى المسافة الشاسعة بينك وبينهم. وعندما ترى نفسك وصلت منزلة من الورع والزهد فاقرأ سير الزهاد وأهل الورع. وعندما تتخيل أنك بذلت جهداً في الدعوة فاقرأ سير الأنبياء، واقرأ سير السابقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم لترى المسافة الشاسعة بينك وبين أولئك، ومع ذلك كان أولئك يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل أن يثبتهم على هذا الطريق وأن يهديهم إلى الطريق المستقيم؛ فهل أنت خير منهم؟!

الغلو

الغلو السبب التاسع: الغلو. وهذا أحياناً ما يسلكه الشيطان، فعندما يجد الإنسان عنده حماس أكثر يصعب أن يأتيه من طريق التقصير؛ فيأتيه من طريق الغلو، كيف يكون، و Q كيف يكون الغلو سبباً للانحراف؟ يكون سبباً للانحراف إما أن يبتدع أصلاً، ويصبح مثل المبتدعة الخوارج وغيرهم، فيبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، أو العكس الذي يحصل كثيراً مثلاً عندما يأتي الشاب وقد يكون صاحب معاص وتقصير على نفسه فيتوب ويلتزم، فيقول: أنا الآن صاحب تقصير وإهمال، ولا يغسل عني هذه الذنوب إلا أن أقبل إقبالاً صادقاً على الله عز وجل، فيكلف نفسه من الأعمال ما لا يطيق ويتعب نفسه ويرهقها، ثم النتيجة أنه يتحمل شهراً، أو شهرين، لكن بعد ذلك لا يستطيع أن يتحمل، فإذا لم يتحمل لا يعود إلى الاعتدال، ولو كان سيعود إلى الاعتدال فلا إشكال، لكن يعود إلى الطريق السابق، وإلى الاتجاه الآخر. فحذار حذار من الغلو، وعندما نحذر من الغلو، لا يعني ذلك أنا ندعو إلى التساهل، فمعنى الغلو إنما نفهمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ألا تكلف نفسك من الأعمال ما لا تطيق، ولكن أيضاً لا تستلم للكسل حذراً من أن تقع في الغلو، فالاعتدال والتوسط هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيقول: (إياكم والغلو في الدين).

عدم القدرة على استغلال الوقت

عدم القدرة على استغلال الوقت السبب العاشر: عدم قدرة الشاب على استغلال وقته: كيف يكون هذا السبب؟ نعم سبق أن أشرت إليه، مثلاً عندما يكون الشاب له زملاء أخيار يجلس معهم، ويحفظون عليه وقته، لكن انقطع عنهم لسبب أو لآخر، يبقى في المنزل يوم يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام وما اعتاد أن يستغل وقته استغلالاً جيداً، فينصرف إلى اللهو والشهوات، ويكون معرضاً لأن يذهب مع فلان أو فلان من الناس، والشيطان يتمنى هذه اللحظة، ولو كان قد تعود على أن يستغل وقته لكان سيستغل جزءاً من وقته في حفظ القرآن، وجزءاً منه في القراءة، وجزءاً في سماع أشرطة إسلامية، وجزءاً في صلة رحمه، المهم أنه سيستغل وقته فيما ينفعه، وجزءاً يصرفه في اللهو المباح الذي لا يأخذ عليه عامة وقته، ومهما كان عليه الإنسان من العبادة والطاعة إذا لم يتعود على أن يستغل وقته فإنه إذا بقي لوحده فارغاً في البيت فلن يستطيع وسيفشل ويتعب، ولذا يجب أن نعود أنفسنا على استغلال أوقاتنا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك مؤدياً إلى الانحراف عافانا الله وإياكم.

الفتن والمحن

الفتن والمحن السبب الحادي عشر: الفتن والمحن: ولذلك بعدما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتد ناس، كما روى ذلك الحاكم والبيهقي؛ لأنها قضية مفاجأة لا يتحملها كل إنسان، النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة يسرى به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم يعرج به إلى السماء، ويعود في نفس الليلة! قضية لا يصدقها إلا إنسان يؤمن بالغيب فعلاً، ولذلك ارتد بعض من كانوا أسلموا عندما سمعوا بهذا الأمر، والردة العظمى حصلت كما أشرنا في بداية المحاضرة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أذكركم بما قلته في أول المحاضرة أن هذه الفتن إنما تفتن وتصد من كان ضعيف الإيمان، أما من كان قوي الإيمان، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويعينه.

ضغط الدنيا

ضغط الدنيا السبب الثاني عشر: ضغط الدنيا: أحياناً يكون الشاب في بيت غير محافظ، بيت سيئ فيه فتن، فيقاوم ويقاوم وبعد ذلك لا يستطيع الثبات، وأحياناً يكون له أبناء عم أو أبناء خالة أو غيرهم من الأقارب، فيصبح يقضي وقته معهم، فعندما تأتي مناسبة زواج مثلاً يجلس معهم، وقد لا يكونون بلغوا الغاية من الانحراف، لكن على الأقل عندهم ما عند غيرهم من الشهوات، فعندما يجلس معهم يسخرون منه، ولا يستطيع أن يظهر بالمظاهر التي اعتاد عليها، فيبدأ يترك السنة الراتبة مجاملة، يأخذ معهم في الحديث في أمور لا ترضي الله ورسوله، وهكذا يتنازل تدريجياً، حتى سرعان ما يهوي ولا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الضغط الذي يواجه مرة بالسخرية ومرة باللمز ومرة بصورة أو بأخرى. الإنسان الذي عنده قوة إيمان وثبات وصلة بالله سبحانه وتعالى يستطيع أن يواجه ويقاوم كل هذه الفتن وهذه الصوارف.

وجود بعض الرواسب

وجود بعض الرواسب السبب الثالث عشر: وجود بعض الرواسب: قد يتوب الشاب مثلاً ويلتزم، لكن يبقى عنده قضايا لم يتخلص منها كمعصية أو شهوة معينة، أو قضية تبقى معه ويأتي ما ينميها ويثيرها فتقضي عليه وتعيده إلى ما كان عليه.

الجليس والصحبة

الجليس والصحبة السبب الرابع عشر والأخير: وتعمدت أن أؤخره لأهميته؛ فالشيء إنما يقدم لأهميته ويؤخر أيضاً لأهميته؛ لأن ما يؤخر يكون غالباً آخر ما يبقى في الذهن. والسبب الرابع عشر هو الجليس والصحبة: فالصحبة قد تكون صحبة عامة وقد تكون خاصة، فمثلاً أي شاب عنده مجموعة من الأقران والزملاء، هم جلساؤه، هذه القضية نتفق عليها، وما أظنكم بحاجة إلى أن أتحدث معكم عن أثر الجليس، لكن النقطة التي أشير إليها الآن لأهميتها هو الجليس الخاص، فيأتي الشاب مع مجموعة طيبة ومع أناس أخيار يعتبرهم صحبة له، ثم يصطفي داخل هذه المجموعة اثنين أو ثلاثة تجده يذهب معهم ويأتي معهم دائماً، وعندما تقابلهم تستطيع أن تكتشف هذه العلاقات الخاصة، فتجده لا يذهب إلا مع فلان ولا يأتي إلا مع فلان، فهنا يحصل الخلل، فقد يكون المجموعة خيرة ومع ناس أخيار ومستقيمين، ولكن قد يكون مع أحدهم ممن التحق بهم حديثاً أو ليس على مستوى أولئك، فيكون عنده ضعف وعنده بعض الشهوات، فعندما ضعيف مع ضعيف يكونان ضعيفين، وقد يجتمع الثالث فيكونون ثلاثة ضعفاء، فيجر بعضهم بعضاً ويهوي بعضهم ببعض. فيجب -يا شباب- أن نختار لأنفسنا الجليس وخاصة الجليس الخالص، ولا يكفي مجرد الانتماء إلى مجموعة خيرة، لكن حتى داخل هذه المجموعة الخيرة يجب أن تصطفي من ترى أنه أقوى منك إيماناً وأكثر منك طاعة لله سبحانه وتعالى، ولا تختر أضعف المجموعة وأقلها، فيهوي بك وتهوي به، ويأخذ بعضكم بيد بعض حتى تخرجون خارج هذه الدائرة.

العلاج الفردي لظاهرة الانتكاس

العلاج الفردي لظاهرة الانتكاس

معرفة الأسباب والحذر منها

معرفة الأسباب والحذر منها ننتقل بعد الحديث عن الأسباب إلى العلاج. العلاج لا شك أنه مهم لكن أظن أن معرفة الأسباب وما سبق يغنينا عن الإسهاب في العلاج، وإذا عرفنا الأسباب عرفنا (75%) من خطوات العلاج، فلعلي أذكر بعض الخطوات باختصار شديد. هذه الأمور أولاً: العلاج يمكن أن نقسمه إلى شقين: الشق الأول: أمور فردية يفعلها الإنسان من نفسه. والشق الثاني: أمور تتعلق بالمربي الذي يتولى تربية الشباب وتوجيههم، فيجب أيضاً أن يمارس أنواعاً من العلاج مع أمثال هؤلاء الشباب، فأول قضية بالنسبة للقضايا الفردية، أول قضية كما قلنا هي معرفة تلك الأسباب والحذر من الوقوع فيها.

الخوف من الانتكاس

الخوف من الانتكاس الأمر الثاني: الخوف، أن يخاف الإنسان على نفسه من الوقوع في هذا الأمر، وعندما تقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء:113]. يوسف عليه السلام ويثبت ويواجه الفتنة ثم يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، إبراهيم عليه السلام يحطم الأصنام بيده ويواجه قومه ثم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، أنت تخاف من سلوك هذا الطريق، وأن تعرف أنك لن تضمن نفسك إلا عندما ترى الملائكة يقبضون روحك، إذا أمنت فهذه بداية للوقوع في الطريق، ولذلك كان السلف يقولون عن النفاق: ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن، أن تخاف ولا يكون الخوف مجرد هاجس، بل يكون خوفاً يدعوك إلى العمل بعد ذلك.

تقوية الإيمان والصلة بالله سبحانه وتعالى

تقوية الإيمان والصلة بالله سبحانه وتعالى الأمر الثالث: تقوية الإيمان والصلة بالله سبحانه وتعالى، وسبق أن أشرنا إلى هذه القضية.

المبادرة بتصحيح أي تقصير أو خلل

المبادرة بتصحيح أي تقصير أو خلل الأمر الرابع: المبادرة بتصحيح أي تقصير أو خلل: حين تكتشف أنك بدأت تتراجع فبادر إلى علاج نفسك ولا تنتظر الآخر. يحصل عند الإنسان مد وجزر، فعندما تجد نفسك نزلت قليلاً بادر إلى علاج نفسك والرقي بإيمانك، لكن عندما تهمل تبدأ تنزل تدريجياً حتى تصل إلى مرحلة لا تستطيع بعد ذلك أن تعالج نفسك، فعندما تكتشف من نفسك ضعف إيمان أو تقصير أو خلل فبادر ولا تتأخر في التوبة والإقبال على الله سبحانه وتعالى وعلاج هذا الخلل.

الدعاء

الدعاء الأمر الخامس وهو أمر مهم جداً معشر الشباب: الدعاء: قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]. تخيل معي شاباً يسلك طريق الاستقامة ويتخلى عن الشهوات والفتن ويقبل على الله ويحرص على العبادة، ثم يظل يبكي بين يدي الله سبحانه وتعالى ويسأل الله ويتضرع إليه، ويسلم نفسه لله سبحانه وتعالى ويسأله أن يثبته على هذا الطريق، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، فهل تتصور بعد ذلك أن يتخلى الله عنه، فالله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما على وجه الأرض من مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، وصرف عنه من السوء مثلها). ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في قيام الليل الدعاء الذي أشرت إليه: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فاحرص يا أخي على أن تسأل الله الثبات، على أن تسأل الله الهداية دائماً، حتى ولو كنت ترى أنك قد سلكت طريق الهداية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أهدى الناس وكان يسأل الله عز وجل أن يهديه وأن يثبته، ولا تمل من الدعاء والإلحاح على الله عز وجل، واعلم أنك مهما ازددت إلحاحاً على الله عز وجل بالدعاء فإن ذلك أحظى لك وأقرب لك منزلة عند الله سبحانه وتعالى.

العلاج الجماعي لظاهرة الانتكاس

العلاج الجماعي لظاهرة الانتكاس النقطة الثانية: وهي الأمور الجماعية التي يجب على المربي أن يعتني بها، وتتلخص في أمور:

الارتقاء بالمستوى التربوي

الارتقاء بالمستوى التربوي الأمر الأول: الارتقاء بالمستوى التربوي، من ناحية العناية بالإيمان والعناية بالجدية، نريد أن نربي شباباً أصحاب ورع وعبادة وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولا نريد مظاهر، نريد شباباً جادين، عندهم استعداد أن يستجيبوا لله ويقدمون مرضاته على حظوظ النفس. وأخاطب الإخوة الأساتذة والمربين فأقول: إن الشباب مهما كانوا فهم قادرون على أن يصلوا إلى مستويات عالية من التربية، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكونوا بشراً؟ الشباب الذين رأينا نماذج كثيرة منهم في أرض الجهاد في أفغانستان، يترك أحدهم أهله وماله ويذهب هناك ويسلم نحره للعدو، هم شبابنا ومن مجتمعاتنا، بل قد يكون بعضهم عاش في فتن أكثر مما عاشه أولئك الشباب، فالشباب مهما كانوا فهم قادرون على أن يصلوا إلى مستويات عالية من التربية، لكننا نظراً لأننا نمارس تربية دون المستوى المطلوب نتخيل أن هذا هو القدر الذي يمكن أن يصل الشباب إليه. فلابد من الارتقاء بتربية الشباب من ناحية الإيمان، والجدية والعلم النافع، فالعلم هو الذي يعين الإنسان على الثبات، ويجعل الإنسان يعرف الحق من الباطل، عندما يغرم الإنسان بالعلم يعرف أنه سلك طريقاً لن ينتهي به، أما عندما تكون القضية مجرد عواطف، ومجرد ذهاب فلان مع فلان وفلان من الناس فسرعان ما يمل هذا الطريق.

المتابعة الدقيقة

المتابعة الدقيقة الأمر الثاني: المتابعة الدقيقة، فهؤلاء الشباب أمانة في أعناقكم، وتسألون عنهم يوم القيامة، وكل راع مسئول عن رعيته.

الحرص على الاستدراك في المراحل الأولى

الحرص على الاستدراك في المراحل الأولى الأمر الثالث: الحرص على الاستدراك في المراحل الأولى: عندما ترى تقصيراً على أحد هؤلاء الشباب وخللاً يجب أن تبادر في البداية؛ لأنه عندما يهوي يصعب بعد ذلك استدراكه.

المناصحة

المناصحة وأخيراً: المناصحة: فعندما ترى أحداً قد أعرض يجب أن تناصحه، وتبذل كل ما تستطيع، وليس عليك إلا المناصحة والبلاغ، والتوفيق والهداية بيد الله سبحانه وتعالى. أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

معنى الحور بعد الكور

معنى الحور بعد الكور Q إني أريد معنى واضح وصورة مبسطة لهذه الكلمات: الحور بعد الكور؟ A إن معنى الحور بعد الكور هو الانحراف بعد الاستقامة؛ إما الكفر بعد الإيمان، أو الانحراف بعد الاستقامة، يعني: بدلاً من أن كان مطيعاً تحول إلى عاص.

سماع الأناشيد والتعلق بالأشخاص

سماع الأناشيد والتعلق بالأشخاص Q بعض الشباب لا يسمعون غالباً إلا الأناشيد، فهل عليهم خطر الانحراف؟ والسؤال الثاني: بعض الشباب قد يلتزم بسبب شخص معين، فيصبح هذا الشخص هو قدوته، فيعلق التزامه عليه، فإذا حدث أي خلل من ذلك القدوة تأثر التزام ذلك الشاب، ألا يكون هذا من أسباب الحور؟ نرجو التحدث عن هذه النقطة. A القضية الأولى لا شك أنها قضية سلبية، ومن الخطأ ألا يسمع إلا الأناشيد، بل بقدر ما يتقلل منها يكون أولى، لأنك لا تستفيد منها علماً ولا قربةً ولا طاعة لله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى إجمام النفس فلا بأس، لكن لا نبالغ أحياناً ونقول إن تحثنا على الجهاد فإن الجهاد يحتاج إلى رجال، لا إلى نشيد. فأقول: سماعها لا حرج فيه، لكن علينا أن نتقلل قدر الإمكان، ونحرص على سماع القرآن وعلى سماع المحاضرات والدروس العلمية التي تفيدنا، وبعد أن تعود نفسك لا تصبر على مثل هذه الأشرطة، يعني في البداية أنت تحتاج إلى أن ترغم نفسك على سماع المحاضرات والدروس العلمية التي يكون فيها نوع من الجفاف، لكن بعد ذلك تصبح أمنية لك، وتصبح تبحث عن الشريط بأي وسيلة. الشق الثاني من السؤال وهو قضية التعلق بالأشخاص، لا شك أن له دوراً كبيراً، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات ارتد الكثير من الناس، ولذلك ينهانا الله سبحانه وتعالى حتى أن نعلق أنفسنا بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]. ثم افترض مثلاً أن هذا الذي دعاك إلى طريق الاستقامة انحرف، فهل يعني هذا أن تنحرف؟ لا، هذا طريق واضح، مستقبلك الحقيقي هو معلق بسلوكك لهذا الطريق، وليس ذلك لأجل فلان من الناس، وفلان من الناس جزاه الله خيراً كان سبباً في هدايتك وله دور في تعليمك ودعوتك، لكن لا يعني هذا أن تقلده في كل صغيرة وكبيرة، لكن تستفيد مما عنده من الخير، ولا يمنع أن تستفيد ممن سواه.

كيفية ترك الأصدقاء السيئين

كيفية ترك الأصدقاء السيئين Q إنني أسير مع أصدقاء سيئين، وأسير مع أصدقاء صالحين، وأريد أن أترك السيئين، فما هو الطريق الذي أسلكه لكي أتجنبهم؟ A كثيراً ما يأتي مثل هذا السؤال وغيره، وأحياناً تأتيني رسائل في البريد من بعض الشباب يقول: إنني أعاني من هذه المعصية، وفعلت وفعلت ولم أستطع التخلص منها، وأحدهم يقول: أنا أسير مع السيئين وأحاول أن أتخلص منهم وعجزت، حتى سألني أحدهم مرة سؤالاً يقول: إنني أعق والدي، وعجزت أن أتخلص من عقوق الوالدين! يا أخي أنت تعرف أن هذه معصية، والحل هو ترك المعصية باختصار. تعرف أن هذه طاعة فجاهد نفسك على الطاعة، إذا لم تستطع فأنت إنسان ضعيف الإرادة ضعيف الشخصية. أحياناً يخيل لأنفسنا أن هذه مشاكل، فإذا تخيلنا أنها مشاكل أخذنا نبحث عن حل، والقضية أنك على طريق معصية فاتركها، أو طاعة فافعلها، ويجب أن تعرف أنك لابد أن تتبرأ من الأصدقاء السيئين، إما الآن وإما يوم القيامة، فاختر أحد الأمرين، إما أن تتبرأ منهم الآن، أو أن تقول يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29]. ويجب -يا شباب- أن نعتني بأن نربي الإرادة في أنفسنا، فعندما تقتنع أن هذا الطريق خاطئ ما الذي يجبرك على البقاء فيه!

كيفية علاج ضعف الحماس عند الصديق

كيفية علاج ضعف الحماس عند الصديق Q بماذا تنصح المسلم عندما يرى صديقاً له ضعف إيمانه بعد أن كان قوياً؟ وما هو الأسلوب الحقيقي لإرجاعه؟ A أولاً: بالنسبة لضعف الإيمان بعد قوته، له حالتان: هناك حالة فتور عادية تحصل لكل إنسان، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، خاصة الشاب أول ما يلتزم ويستقيم يكون عنده حماس فتجده يشعر بالإقبال على العبادة والطاعة، وبعد فترة يفتر قليلاً، لكنه لا يعني هذا أنه يقصر، وهذه قضية عادية يجب سألا نقلق منها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو: (إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى)، يعني: كل إنسان يكون عنده فترة فيها إقبال وحماس، ثم بعد ذلك يفتر، هذه الفترة هل تؤدي بك إلى التهاون بالمعاصي وتتهاون بالفرائض؟ إذا كان كذلك فهي خلل وليست فترة. أما إذا كانت مجرد أن يفقد بعض الحماس وبعض الإقبال على الطاعة، فهو أمر يصيب كل الناس، لكن اعتن بنفسك. فأقول: يجب أن نفرق بين الحالتين، وعندما ترى على أخيك مثل هذا الأمر فمن حقه عليك أن تناصحه وتعظه.

التأثر بغير الملتزمين

التأثر بغير الملتزمين Q إني أحبك في الله، أنا شاب في مركز، فحينما أخرج من المركز أذهب إلى أصدقاء آخرين، ونشاهد الكرة، فهل علي إثم في ذلك؟ A أحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلال الله سبحانه وتعالى. هنا يختلف الوضع، عندما تذهب مع الناس الذين يشاهدون الكرة، فإذا كانوا أخياراً صالحين يعملون مثل هذه الأمور لأجل إجمام النفس، فهذه صورة. وإذا كنت تذهب مع الذين يلعبون في الشوارع أو في الأحياء فهم فئة غير مرغوب فيها في الغالب، ولو كان ابن عمك أو ابن خالك، أو كان أحد أقاربك أو جيرانك فاحذر منه، وما يؤتى الشر إلا من هؤلاء، وأنا أذكر لكم موقفاً مؤلماً. مرة اتصلت علي امرأة في المعهد، استغربت للاتصال، قالوا: امرأة تريدك، قالت: أنت الأستاذ فلان؟ قلت: نعم، قالت: ابني فلان كان صالحاً ومستقيماً ويذهب مع الناس الأخيار، ثم بعد ذلك انحرف، كان يقوم الليل، وكان يؤذن إذا لم يأت المؤذن، وكان يصوم، وأنا أتشجع عندما أراه، وبعد ذلك انحرف وأصبح يسمع أغاني، فأريد منك أن تناصحه بأسلوبك المناسب؛ لأنه يتحدث عنك، أي: باعتبار أني أنا مدرسة، وقد يكون شارك معي في بعض الأنشطة، فقد يرد الاسم عند هذه المرأة. فهذه المرأة المسكينة أصيبت بولدها، فتريد أن تبحث عمن ينقذه، فلما استدعيته عندي وتحدثت معه اكتشفت أن السبب ما أشرت إليه، أنه سافر إلى منطقة مع أقاربه وأصبح يجلس مع أبناء عمه، فأنا أحاول أن أقنعه أن يتخلى عن أبناء عمه، وأبناء عمه قد لا يكونون سيئين إلى آخر درجة، لكنهم على الأقل أناس غير مستقيمين، فهنا عندما يجلس معهم الشاب يذهب معهم ويأتي معهم، فقد يصاب، فأنا أحذر الشباب من ذلك؛ لأن بعض الشباب يقول لك: هذا من الحارة، أو هذا ابن عمي أو ابن خالي، فأقول: ما دام غير مستقيم فيجب أن تتخلى عنه.

رواسب الماضي والتلذذ بأصوات الفتيات

رواسب الماضي والتلذذ بأصوات الفتيات Q أنا شاب حديث عهد بالتزام، وكان لي مع التلفون مرحلة كبرى، حيث أنني أكلم الفتيات، وبعد التزامي تركت المكالمات، ولكن في قلبي منها شيء، وصرت أتلذذ بسماع أصواتهن وأتذكر ذلك؛ فما العلاج لذلك؟ A أولاً: نحمد الله سبحانه وتعالى على أن هداك، واسأل الله عز وجل الثبات والهداية، وأكثر من دعاء الله سبحانه وتعالى، ثم حاول قدر الإمكان أن تتخلص من التفكير؛ لأن التفكير في حد ذاته قد لا يكون معصية، لكنه قد يقودك حتى تستولي الشهوة على قلبك، فتخلص من التفكير إطلاقاً، وعندما يأتي إلى ذهنك مثل هذه الأفكار فانصرف إلى التفكير بما ينفعك، فكر في البرزخ، في القبر وما فيه من العذاب والنعيم، فكر في الدار الآخرة، في الجنة والنار، فكر بالحور العين، واقرأ في كتب الرقائق، اقرأ مثلاً في الترغيب والترهيب، في نعيم الجنة، وترى أوصاف الحور العين التي أعدها الله لمن أطاعه، واقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى وتمعن، وألح على الله في الدعاء في جميع صلواتك وفي كل وقتك أن يخلصك من هذه الفتنة، وادع الله عز وجل أن يعينك وأن يثبتك، واعلم أنه لا يرد القدر إلا الدعاء، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يرد العبد الصادق إذا أقبل عليه، وتخلص من كل الأمور التي تذكرك بالمعصية، إذا كنت تستطيع الزواج فلا شك أن هذا أمر طيب، وإذا لم تستطع فليكن لنفسك حظ من الصيام، تصوم بعض الأيام الفاضلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوجـ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ونسأل الله سبحانه وتعالى في هذا المكان أن يثبتك وأن يعينك أنت وإخوانك الصالحين، وأن يعصم إخواني الشباب من هذه الفتن.

أثر الازدواجية في الصداقة وعلاجها

أثر الازدواجية في الصداقة وعلاجها Q كثير من الشباب يقع في ازدواجية بين الطيبين وغيرهم، فهو متذبذب، فما أثر ذلك وما علاجه؟ A أثر ذلك أنه لابد أن يصير إلى أحد الطريقين، ولا يمكن أن يستمر؛ عندما تسير مع الطيبين هناك مواصفات يجب أن تتصف بها، يجب أن تحافظ على الصلاة، يجب أن تكون إنساناً مستقيماً ورعاً عن المعاصي، وعندما تكون مع السيئين هناك مواصفات أخرى يجب أن تتصف بها، فتقع في تناقض، فإما أن تكون شخصاً متناقضاً، تأتي مع هؤلاء بوجه وأولئك بوجه، وهذه مشكلة، أو أن تكون إنساناً ضعيفاً، المهم أنك لن تستمر فاختر أحد الطريقين، بأن تتبرأ من الطيبين وتكون مع السيئين فتأخذ كل الشهوات، لكن النتيجة أنك تتبرأ منهم يوم القيامة، أو تتبرأ من السيئين وتعاشر الطيبين الأخيار، والنتيجة أن تكون ممن قال الله فيهم: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). والله يا شباب إنها لفرصة أن يمن الله عليكم بالصحبة الصالحة، فرصة أن ييسر الله لك أن ترى صحبة صالحة تعينك على الخير، وغيركم قد لا يطيق هذا الأمر وقد لا يجده، فماذا يصنع؟ لا يستطيع أن يثبت وحده. فأقول: يجب أن نعض على هؤلاء بالنواجذ، ولو كان عندهم سلبيات أحياناً، ولو أخطئوا أو قصروا، فقد يكون في النفوس ما بها، وقد يكون بينك وبين أخيك بعض ما يكون بين الناس، قد تكون هناك حزازات ومشاكل، لكن النهاية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، يوم القيامة بعد أن يظلهم الله في ظله، بعد أن يكونوا على منابر من نور، بعد أن يتبرأ الأب من ابنه والزوجة من زوجها، هؤلاء يبقون أخلاء؛ لأن علاقتهم لله ومحبتهم له، ثم بعد ذلك قبل أن يدخلوا الجنة يتم الله عليهم النعيم، فينزع كل شيء في قلوبهم، تصبح القلوب صافية مائة في المائة، على سرر متقابلين، فقرر مصيرك من الآن.

المقصود بالجهاد في آخر العنكبوت

المقصود بالجهاد في آخر العنكبوت Q ما المقصود بالجهاد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]؟ A الجهاد عام، لكن إذا أطلق الجهاد فهو ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله بقتال الكفار، فالجهاد معنى عام يعني: جهاد الدعوة وجهاد النفس في طاعة الله سبحانه وتعالى، لكن الأصل أنه إذا أطلق الجهاد فإنه ينصرف إلى القتال في سبيل الله.

كتب ينصح بقراءتها

كتب ينصح بقراءتها Q ما الكتب التي تنصح بقراءتها، وخاصة في هذا الباب؟ A بعد كتاب الله سبحانه وتعالى كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم، ولا أنصح بقراءته فقط، بل بإكثار قراءته، فهو كتاب قيم ورائع، وبداية الكتاب هو سؤال سأله شخص قال: ما تقول السادة العلماء في رجل أصيب ببلية ويرى أنها إن استمرت عليه أفسدت دنياه وآخرته، أفتونا مأجورين، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه؟ وكذلك كتاب: العفة ومنهج الاستعفاف للعقيلي، وكتاب وسائل الثبات على دين الله للشيخ محمد المنجد. على كل حال الكتب كثيرة، وبإمكانكم أيضاً أن تسألوا أساتذتكم في مثل هذا المركز، فسيفيدونكم كثيراً.

مواجهة الشهوة

مواجهة الشهوة Q كيف نواجه الشهوة؟ A هذا يحتاج إلى محاضرة كاملة، لكن نستطيع أن نقول باختصار: بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والاتجاه إلى الله عز وجل، غض البصر والإعراض عن مثيرات الشهوة ودواعيها، ترك التفكير في مثل هذه الأمور، التخلي عن الجلساء السيئين، دعاء الله سبحانه وتعالى، في بعض ما أشرت إليه، وسبق أن أشرت إلى جزء من هذه الأمور، ولعلكم تجدون في كتاب الجواب الكافي وكتاب العفة ومنهج الاستعفاف كثيراً من علاج مثل هذه القضية.

الالتزام الشكلي وعدم العمل للدين

الالتزام الشكلي وعدم العمل للدين Q مشكلة تظهر في الشباب، ألا وهي كثرة الشباب الملتزمين شكلاً، ولكنهم باردون، بل الأكثر لا يختلفون عمن سواهم في العمل للإسلام والحماس له إلا القليل، فضيلة الشيخ! أرجو توضيح السبب في ذلك، مع العلاج، وجزاكم الله خيراً؟ A هذه الذي سبق أن أشرت إليها هي قضية الغثائية، يعني أن فئة من الشباب يلتزم التزاماً ظاهرياً، وليس هو منافقاً، لكنه غير جاد، لا يقدم للإسلام شيئاً، ولا يشعر بقيمة التزامه. ومن الأسباب لذلك، أولاً: عدم القناعة، فليس عنده قناعة بأن هذا طريق لابد أن يسلكه، وليس عنده معرفة تامة بطريق الهداية وطريق الضلال. أيضاً: ضعف الإيمان الذي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الأعمال. كذلك التربية: أحياناً يكون مع بعض الشباب الذين يضيعون الوقت كثيراً ويربون على مثل هذا الأمر، يذهبون ويأتون في لقاءات، وعندهم كثرة هزل وكثرة عبث ولهو، فهذه الأمور لا تربي أناساً جادين، وإنما تخرج أمثال هؤلاء. وهناك عامل آخر، وهو انتشار الصحوة، فإنه يساعد على وجود مثل هذه النوعيات، فإذا كان الملتزمون قلة يصبح الملتزم غريباً نادراً، ولذلك لا يلتزم إلا عن قناعة، لكن عندما ينتشر الأمر يسلك هذا الطريق كل إنسان، ولذلك تجد الذين دخلوا في الإسلام أول الأمر كانوا أناساً أقوياء وثبتوا وما ارتدوا، أما بعد ذلك فقد ارتد الكثير ممن دخلوا في الإسلام. العلاج لذلك باختصار: هو أن نشعر بأهمية هذا الطريق وحاجتنا إليه، وأن القضية قضية مستقبل، وقضية إيمان، وأن نرى واقع الأمة الآن، وأنه لا يسمح لنا بأن نقضي أوقاتنا في العبث واللهو وإضاعة الأوقات، بعض الشباب الطيبين يقضون ليلة كاملة، بل ليالي عديدة، مرة عند فلان ومرة عند فلان، ومرة يذهبون هنا وهناك يضيعون أوقاتهم، والوقت لا يحتمل، وواقع الأمة كلها لا يحتمل، وتخيل هذه الساعة نضيعها على فلان، ونضيعها على فلان، اجمع هذه الساعات كلها وتخيل الأوقات الهائلة التي تضيع على الأمة في مرحلة هي أحوج ما تكون إلى أبنائها، فعندما ندرك واقع الأمة ودورنا جميعاً في إنقاذ الأمة أظن أننا ننظر إلى حياتنا وتربيتنا نظرة أخرى تختلف عما نحن عليه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، كما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم، وشباب المسلمين، وأن يصد عنهم الفتن. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

ولله الأسماء الحسنى

ولله الأسماء الحسنى الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى من أهم الأمور العقدية التي ضلت فيها كثير من الفرق والطوائف، ولذا ينبغي الاهتمام بها ومعرفة معانيها والعمل بمقتضاها.

أهمية الحديث عن الأسماء والصفات

أهمية الحديث عن الأسماء والصفات

تعلقها بالله سبحانه وتعالى

تعلقها بالله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فموضوعنا في هذا اللقاء هو: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا شك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما نتحدث عنه، وحين نتحدث عن الأسماء الحسنى فإننا نتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته. وهو حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر ليتعرف على أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويتعرف في المقابل على فقره وذله وخضوعه لله سبحانه وتعالى. الأسماء والصفات تأخذ جانباً كبيراً وباباً واسعاً من أبواب العقيدة، بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فمن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة.

أنه من أعظم الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق

أنه من أعظم الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق وباب الأسماء والصفات كما تعلمون من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار جدل طويل وصراع طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة؛ صراع علمي وعقدي وفكري حول هذه القضية. ولا شك أن علماء أهل السنة والذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعنيهم أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنها، فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل كانوا يعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات، وقضية الجدل مع المخالفين، ودفع شبه أولئك الذين يثيرون هذه الشبه حول أسماء الله عز وجل وصفاته، وحينها يتوقفون عند هذا القدر؛ وذلك أن الأمة كانت تقرأ القرآن، وكان الناس يتدبرون القرآن، وكانوا يعون هذه المعاني، وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب لله سبحانه وتعالى، وما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه، وهي قضايا بدهية. القضايا الأساسية دائماً في العقيدة قضايا واضحة يدركها كل مسلم متعلم أو طالب علم؛ فكل مسلم يشعر بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويشعر أنه لا يمكن أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، ويشعر أنه ليس له الحق أن يعتدي على أسماء الله عز وجل وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر وقياسه العقلي، فهو يدرك أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأعلى وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة، ومن أن يتصوره هو في ذهنه ويتخيله.

اعتقاد ما يليق بالله تعالى من الأوصاف

اعتقاد ما يليق بالله تعالى من الأوصاف وأيضاً: يعرف المسلم أن الله سبحانه وتعالى حينما يصف نفسه بأنه الرزاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه وتعالى على العرش استوى، وأن يديه سبحانه وتعالى مبسوطتان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وعظمته. ولعلك ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل من العامة عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل، أو يسمع متحدثاً يتحدث عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وعن صفاته لا يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى، ولو قدر أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمام ذات الله عز وجل. إن هذه القضايا قضايا متقررة وبدهية، لكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال الذي حاول أن يحرف هذا المعتقد فيؤول أسماء الله عز وجل وصفاته، ويشبه الله عز وجل بخلقه، ويسلط عقله البشري على ذات الله سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته، فيجعل من عقله القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، حكماً على ما يجب لله سبحانه وتعالى وما لا يجب، لا شك أن هذا التيار الجارف كان يفترض من أهل الإسلام مواجهته ويفترض منهم رد الشبه، والحديث عن هذا، وهو واجب لا شك متحتم، وعامة المسلمين من حقهم أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه. لكن تلك الفترة التي بدأ الحديث فيها عن الأسماء والصفات كانت القضية واضحة عند الناس، وكان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمان وطال العهد بالناس، وبعدوا عن مشكاة النبوة، وبعدوا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا انحرفت نظرتهم لهذا المعنى أو صار الناس حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم مباشرة الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية التي انحرف فهمها لهذه العقيدة، وانحرفوا في فهمهم لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته. ثم يغيب عن بالهم معنى آخر له أهميته حول هذا الجانب، ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين قضية التوحيد وقضية السلوك، وقضية الواقع الذي يعيشه المسلمون. لقد صار البعض من المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة لا تعدو أن تكون مجرد قضايا معرفية بحتة يعتقدها ويصارع حولها، ثم تقف وتنتهي عند هذا الحد. وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا، ثم أعود إلى موضوعنا الأساسي: من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله، وهذا يعني: أنه لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى. إن قضية لا إله إلا الله، وقضية ألوهية الله عز وجل وعبودية المخلوق حينما تضعها على بساط معرفي جدلي بحت تراها قضية واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى البعض قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى. إن الذي يخاف من المخلوق ويحسب له ألف حساب هو نفسه الذي يقر بعقيدة التوحيد، ويقر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يخاف وينبغي أن يخشى وينبغي أن يرجى عز وجل. خذ على سبيل المثال عقيدة الولاء والبراء وهي من أسس اعتقاد المسلم، بل الخلل بها باب من أبواب الكفر، فمن نواقض الإسلام موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين. كم يقع الموحدون والمسلمون في هذا، بل يرون الفصل التام بين هذه القضية وقضية التوحيد، فيرون أن قضية العقيدة التوحيد إنما هي قضايا معرفية بحتة بعيدة عن السلوك والواقع الذي يعيشونه، ولعل ما يأتي من الحديث بمشيئة الله حول الأسماء والصفات سيجيب على جزء من هذا التساؤل الذي طرحناه: ما مدى العلاقة بين واقع المسلمين سلوكاً وحياة، وبين التوحيد والمعتقد؟ وقضية التوحيد ليست قضية جدلية فلسفية، وليست قضايا معرفية بحتة، إنما هي قضايا ما لم ينطبع أثرها على السلوك فإنها لا فائدة منها ولا أثر، وما قيمة أن يقتصر المرء على قضايا معرفية مجردة، بل هو منشأ الضلال الذي نشأ عند أهل الفلسفة والجدل؛ أن حولوا القضية إلى قضية جدل وفلسفة ومعرفة فقط بعيدة عن واقع العمل والسلوك.

شرف العلم بشرف المعلوم

شرف العلم بشرف المعلوم الأسماء والصفات تتعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا يزيدها شرفاً، وهذا يجعل علم الأسماء والصفات أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بالله سبحانه وتعالى، كما قال ابن العربي رحمه الله: شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم. وابن القيم رحمه الله يقول: وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به أو لعدم حكمته، أما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض. أنتم جميعاً أحسبكم من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن لم يكمل منكم حفظ كتاب الله فهو في الطريق، وتقرءون كتاب الله عز وجل كثيراً، فما هو حجم الحديث عن الأسماء والصفات في القرآن الكريم؟ إنك حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تخطئك هذه الأسماء والصفات فتجد أحياناً حديثاً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تجدها تعقيباًَ على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله. وحينها نطرح سؤالاً مهم: لماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟ لو أننا وقفنا عند النقطة المعرفية البحتة وقلنا: إن واجبنا تجاه أسماء الله عز وجل وصفاته أن نثبتها حقاً كما هي لله سبحانه وتعالى فقط فهل يجوز ذلك؟ إن المعرفة قضية لا يجوز أن نهمشها، بل الخلل فيها انحراف ومدعاة لأن يكون المسلم خارج دائرة الفرقة الناجية، وضمن الفرق الهالكة المتوعدة بالنار عافانا الله وإياكم، لكن هذا الحديث المستفيض عن علو الله على خلقه، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو العليم الحكيم السميع البصير، فهل يمكن أن نقف فقط هنا ونقول: هذا إثبات اسم والاسم يتضمن صفة وننتهي فقط عند هذا القضية، أم أن هناك معنى آخر. لماذا يحدثنا الله في القرآن عن الأسماء والصفات؟ بل لماذا يكون أكثر الحديث في كتاب الله عز وجل. أليس هذا موحياً بأهمية الأمر، ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجباً آخر وأن هناك أثراً آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعيه؟

الإيمان بالأسماء والصفات يتضمن إثبات معناها

الإيمان بالأسماء والصفات يتضمن إثبات معناها ثانياً: الإيمان بالأسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها، وهي معلومة المعنى لكنها مجهولة الكيفية، ولهذا حكموا بالضلال على أهل التفويض الذين يقولون إن المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد. فمثلاً حتى نقرب لكم الصورة: خذ مسلماً عامياً لا يعرف القراءة وقل له مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى غفور حليم تواب رحيم، تجد أنه يعرف من هذه الكلمة معنى، وقل له: إن الله عز وجل شديد العقاب، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12 - 13]، هنا الآن ذكرت له صفات من صفات الله، وهنا ذكرت له صفات من صفات الله، ألا يفهم من هذا فهماً؟ ألا يترك هذا أثراً على نفسه؟ بغض النظر عن قدرته على التعبير الدقيق عما فهمه، لكن هذه تترك معنى في نفسه. حينما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) ألا يفهم المسلم من هذا معنى، يترك أثراً في نفسه؟ جرب واذهب إلى جدك أو إلى أحد أعمامك أو أقاربك كبار السن أو جدتك الكبيرة في السن واقرأ عليها هذا الحديث وانظر ماذا تقول، وانظر أثر هذا النص عليها. إذاً: فالمسلمون يفهمون معنى الأسماء والصفات في الجملة، وإن كانت الكيفية وما وراء ذلك قضية لا يدركونها. إذاً: حينما تكون قضية الإيمان بالمعنى وإثبات معاني هذه الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم ضمن قضية اعتقاد أهل السنة، حينها يكون المعنى له أثر، وإلا فما الفائدة من ذلك؟

ختم الآيات بما يناسبها من الأسماء والصفات

ختم الآيات بما يناسبها من الأسماء والصفات ثالثاً: نحن نجد أن الآيات كثيراً ما تختم بالأسماء والصفات، وهي تختم غالباً ختماً مناسباً لمعنى ما دلت عليه الآية. من الأمثلة على ذلك: يحكون أن أعرابياً جاء فسمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ} [المائدة:38] غفور رحيم، فقال هذا الأعرابي: لست قارئاً للقرآن؛ لأنه لو غفر ورحم لما قطع، ولكنه عز فحكم فقطع. وفعلاً: تنبه الرجل وعرف أن الآية كما قال، ولهذا تجد ختم الآية مناسباً، خذ مثلاً قول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] بقية الآية ما هي؟ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]. وفي آية الزكاة مثلاً يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60] بقية الآية: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. وفي آية الفرائض لما ذكر الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ختمها بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]. فختمت بنفس المعنى، إذاً: وصف الله عز وجل بالعلم والحكمة بعد آية الصدقة أو آية الفرائض فيها معنى، وفيها إشارة للذي يقرأ الحكم بأن هذا التوزيع للزكاة أو التركة صادر من عليم حكيم. فإذا سأل: لماذا تأخذ البنت النصف؟ يسمع: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11] فيشعر أن الله عز وجل اتصف بصفة العلم والحكمة فهو يضع الأشياء في مواضعها. يقول الله عز وجل مثلاً لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] وذلك حينما دعا على أولئك الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:128 - 129]، بينما تقرأ في سورة المائدة نفس الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40]، هنا السياق يختلف عن ذاك السياق؛ ولهذا ختمت الآية بهذا الاسم، وهناك ختمت بذاك. إذاً: ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة أن هناك ارتباطاً بين الاسم والصفة وبين ما سبق من الآية، وهذا يعني أن قضية الأسماء والصفات ليست قضية جافة، وأن هناك علاقة بين هذه الأحكام وبين أن الله عز وجل عليم حكيم، وعلاقة بين تلك القضية وبين كون الله عز وجل سميعاً بصيراً، وقل مثل ذلك في سائر الأحكام. ثم تجد عجباً حينما تتأمل، فهناك معان قد يبدو لنا أنها مترادفة، لكنها ليست مترادفة، فمثلاً قد يأتي أحياناً غفور رحيم، وقد يأتي: غفور حليم، هناك فرق هنا الرحمة والحلم، قد يأتي مثلاً عليم حكيم، وقد يأتي عليم حليم، قد يأتي خبير بما تصنعون، وقد يأتي لطيف خبير، كل هذه المعاني لها أثر، ولها دلالة، ولا يوجد في لغة العرب كلمتان مترادفتان ترادفاً تاماً، بل كل كلمة لها دلالة، حتى مثلاً أسماء الأسد كما يقولون: الأسد والهزبر والليث، كل كلمة لها دلالة معينة، ولو ساغ هذا في كلام العرب لما ساغ في كلام الله عز وجل، فمجيء الآية هنا له معنى وله أثر غير مجيئها هناك، فغفور رحيم غير غفور حليم، ولو قرأت في كتب التفسير وتأملت لوجدت عجباً في ذلك. إذاً: ختم الآيات بهذه الأسماء والصفات دليل على أن هناك ارتباطاً بين هذا المعنى الذي دلت عليه الآية وبين الاسم والصفة، ودلت على أن قضية الاسم والصفة ليست قضية معرفية جافة.

الأسماء والصفات من القضايا الأساسية في العقيدة

الأسماء والصفات من القضايا الأساسية في العقيدة أيضاً: مكان الأسماء والصفات في العقيدة، فلو سألت أي شخص عن أنواع التوحيد، لقال لك: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، أو تقسيم آخر: توحيد المعرفة والإثبات والطلب والقصد، لكن المقصود أنها تأخذ حيزاً كبيراً وقسماً مستقلاً من أقسام التوحيد. ثم في كتب العقيدة لو تصفحت فهارس كتب العقيدة لوجدت أن الأسماء والصفات تأخذ حديثاً واسعاً عند أهل السنة، بل إنك تجد طوائف المشكلة بينها وبين أهل السنة هي في قضية الصفات وسبب الخلاف معهم هو قضية الصفات. إذاً: فهي تمثل قضية أساسية في العقيدة، وقضية لها أهمية، ونوعاً مستقلاً من أنواع التوحيد، فلماذا نهمش القضية ونجعلها قضية معرفية، لا أظن أن هذا هو التعامل الصحيح اللائق بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته.

الدعاء بالأسماء والصفات

الدعاء بالأسماء والصفات أيضاً: من الأمور التي ينبغي أن نطرحها بين يدي الحديث عن الأسماء والصفات والتي تقودنا إلى مثل هذا الفهم الأوسع الأمر بالدعاء بها، فإن الله عز وجل قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، وأنتم تقرءون في القرآن الكريم عن جمع من أنبياء الله أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه وصفاته. وفي السنة النبوية فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية سواء مما دعا به صلى الله عليه وسلم أو أمرنا صلى الله عليه وسلم بالدعاء به نجد كثيراً من هذه النصوص فيها الدعاء بالأسماء والصفات، فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:38]، وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] هذه فيها دعاء بالأسماء والصفات؛ فالرب من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته. وأما الأدعية في السنة النبوية فهي كثيرة، منها مثلاً قوله: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك). وقوله: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). نكتفي بهذه الأمثلة والأمثلة كثيرة.

أنواع الدعاء بالأسماء والصفات

أنواع الدعاء بالأسماء والصفات الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، فحينما يقول المسلم: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهذا دعاء لكنه دعاء ثناء على الله سبحانه وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، لكنه دعاء ثناء وليس دعاء مسألة، فدعاء الثناء ثناء على الله سبحانه وتعالى، ودعاء المسألة نعرفه جميعاً وهو الذي ينصرف إليه الذهن حينما نقول: الدعاء. الدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم، فكما قال ابن العربي: يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني، يا هاد اهدني. وقال ابن القيم: يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا. هناك عدة معان حول قضية دعاء الله بأسمائه وصفاته تترك آثاراً على النفس، منها أن يتقدم المسلم بين يدي الدعاء بالثناء على الله عز وجل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، ولا أحد أغير من الله سبحانه وتعالى)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله عز وجل في كل خطبة، ويثني عليه في كل مناسبة حينما يبدأ حديثه، فهو حينما يدعو الله بأسمائه وصفاته يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه لله عز وجل، هذا جانب. جانب ثان له أهميته وقد نغفل عنه، وهو الأثر النفسي على الإنسان عندما يدعو بهذا الاسم، وذلك أنه يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقين بالإجابة سبب من أسباب إجابة الدعاء، تأمل معي مثلاً حديث دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي). حينما يتأمل الإنسان هذا المعنى سينخلع من كل حول وقوة، ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل، وحينها سيشعر أنه محتاج إلى الله ليختار، محتاج إلى الله عز وجل أن يوفقه؛ لأن الله يقدر وهو لا يقدر ويعلم وهو لا يعلم، وهو صاحب الفضل العظيم سبحانه وتعالى، وعندما يعيش هذا المعنى يكون على يقين ويكون عنده شعور بالحاجة ويقين بالإجابة، وحينها يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء غافل لاه). إذاً: فالدعاء بالأسماء والصفات مع ما فيه من الثناء على الله عز وجل والتوسل بين يدي هذا الدعاء؛ فيه معنى آخر مهم، وهو أنه يترك عند الداعي شعوراً يجعله يعظم الله سبحانه وتعالى، ويسلم لله عز وجل، ويجعله يوقن بإجابة الدعاء؛ لأنه حين يقول مثلاً: رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ويتأمل هذه المعاني تترك أثراً وتعطيه أملاً ورجاء يجعله يوقن بالإجابة، فيساهم هذا بأن يتحقق لديه أدب من آداب الدعاء، وهو اليقين بالإجابة، علاوة على الأثر والشعور بالعبودية والخضوع لله والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى، وذلك حين يعيش آثار هذه الأسماء والصفات ومعانيها؛ ولهذا كان الدعاء عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لأن فيه الفقر والذل والخضوع بين يدي الله سبحانه وتعالى.

الأسماء الحسنى ليست محصورة في تسعة وتسعين اسما

الأسماء الحسنى ليست محصورة في تسعة وتسعين اسماً أخيراً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) وفي رواية: (من حفظها دخل الجنة)، واختلف العلماء في معنى: (من أحصاها). وهذا الحديث ثابت لكن الحديث الذي ورد فيه تعداد الأسماء والصفات لا يصح باتفاق أهل المعرفة بالحديث. بقيت قضية أخرى: هل هذه الأسماء محصورة في تسعة وتسعين؟ الصحيح والمقطوع به أنها لا تنحصر في تسعة وتسعين، وفي هذا الحديث قال: (إن لله)، ولم يقل: إن أسماء الله تسعة وتسعون. وفي الحديث الآخر قال: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن) إلى آخر الحديث وهو دليل على أن لله عز وجل أسماء غير معلومة، مما استأثر سبحانه وتعالى بعلمها أو مما علمها أحداً من خلقه ممن اختصهم بذلك. لكن هذه التسعة والتسعين لابد أن تكون مما علمنا الله في كتابه، لأن الله رتب عليها ثواب دخول الجنة، فلا يمكن أن يكون من هذه التسعة وتسعين اسم مما استأثر الله بعلمه؛ لأنه لا فائدة إذاًَ في أن يدعى إلى إحصائها وحفظها وأن يرتب على ذلك ثواب، والثواب إنما يترتب على عمل يمكن أن يقوم به الناس، لكن حينما تكون هذه التسعة والتسعون من ضمن ما استأثر الله بعلمه لا يمكن الناس أن يعملوا بهذا الحديث، ولا يمكن أن يحصوها، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يكون عبثاً وأن يعلق الأمة بثواب لا يمكن أن تصل إليه أصلاً ولا تطيقه. المقصود: أن العلماء اختلفوا في معنى: (من أحصاها)، فمنهم من ربطها مع قوله عز وجل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] أي: لن تطيقوه، فقال: أن إحصاءها هنا إطاقتها. ومنهم من قال: من قام بحقها، وتأمل معانيها، وقام بآثارها. ومنهم من قال: المقصود عدها. ومنهم من قال: أن يدعو الله بها كلها. ومنهم من قال: قراءة القرآن؛ لأنها في القرآن، فإذا قرأ القرآن يكون قد أحصاها. ومنهم من قال: إحصاؤها حفظها، وهي رواية في الحديث: (من حفظها)، وهذا لكن هناك رأي آخر ومنحى آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله: هو أن الإحصاء مراتب: مرتبة الإطاقة، ومرتبة الحفظ، ومرتبة الدعاء كل هذه مراتب. ويوضح هذا أنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها لترتب عليه شيء آخر، فإن ثواب حفظ القرآن الكريم معروف كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فلو فرضنا أن شخصاً منافقاً حفظ القرآن، أو شخصاً يختم القرآن كل يوم، لكنه لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، فهل ينفعه حفظه للقرآن؟ وهل تنفعه تلاوته القرآن؟ (القرآن حجة لك أو عليك)، ربما كان خصماً له هذا القرآن، فكذلك هذه الأسماء حين يكون إحصاؤها مجرد حفظ فقط لا ينفعه ذلك، لكن يحفظها ويتأمل معانيها ويلزم نفسه بمقتضياتها.

آثار الأسماء والصفات على المسلم

آثار الأسماء والصفات على المسلم من خلال كل ما سبق نصل إلى نتيجة أن هذه الأسماء والصفات لابد أن تترك آثاراً على نفس المسلم، وهي آثار عظيمة نشير إلى جزء يسير منها:

تعظيم الله سبحانه وتعالى

تعظيم الله سبحانه وتعالى من هذه الآثار: تعظيم الله سبحانه وتعالى: المسلم الذي يعلم أن الله عز وجل حليم وأن الله عز وجل غفور رحيم كريم، وفي المقابل شديد العقاب وأنه يبطش ويمكر بمن يمكر، وأنه يكيد الكافرين، ولا يعجزه شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وحين يعرف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ولا يغيب عن سمعه شيء، ويبصر سبحانه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ حين يعلم هذه الأسماء والصفات فإنه يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، ويزداد خضوعاً له عز وجل. ولله المثل الأعلى والله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه: فلو رأيت إنساناً حليماً لا يغضب، فإنك تزداد إعجاباً به، وسرداً لتلك القصص التي تحكي حلمه وتحكي صبره على من يجفونه وعلى من يغلظون عليه ويسيئون إليه. والله سبحانه وتعالى أعلى وأجل وأعظم من أن يقاس بخلقه، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى حليم، لكن حلم المخلوقين مهما كان لا يمكن أن يكون كحلم الله عز وجل، وهو عز وجل كريم، لكن لا يمكن أن يقاس كرم المخلوقين به، وأيضاً حلمه سبحانه وتعالى وكرمه وعفوه ومغفرته وتوبته لا يمكن أن يطمع بها كافر ومعرض، بل هو سبحانه وتعالى كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. وأخبر سبحانه وتعالى أنه قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:12 - 16]، فحينما يتأمل المسلم هذه المعاني يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد المرء تعظيماً لله عز وجل ازداد عبودية وخضوعاً له سبحانه وتعالى.

احتقار المخلوق

احتقار المخلوق من آثارها أيضاً: احتقار المخلوق: فعندما يعرف المسلم أسماء الله وصفاته يحتقر المخلوق، ويشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً. العز بن عبد السلام لما جاء السلطان في يوم العيد وخرج بأبهته وجنوده وكبريائه قام إليه وقال له: الحانة الفلانية يباع فيها الخمر، المكان الفلاني فيه كذا وكذا، قال: هذا من عهد أبي، قال: إذاً أنت ممن قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فأمر بإزالة هذه المنكرات. الشاهد معنا: أنه بعد هذا سأله أحد تلامذته، قال: أما خفت السلطان لما رأيته؟ قال: تذكرت عظمة الله عز وجل، فصار السلطان أمامي كالنملة. ولاحظ أثر هذا الأمر عند هود عليه السلام، حينما عاداه قومه: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:53 - 54] أحس هود أن هؤلاء القوم لا يعرفون إلا منطق التحدي، ولا يعرفون منطق الحوار ولا ينفع فيهم هذا الأسلوب: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]، يقول لقومه وهم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، يقول لهم: ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ))، كيدوني كلكم ولا تمهلون، وافعلوا ما بدا لكم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. والذي جعل هوداً يسلك سبيل التحدي والمواجهة حتى يقولها أمام قومه صريحة: كيدوني وتآمروا علي واصنعوا ما بدا لكم لأنه يعلم أن ما من دابة إلا ربه آخذ بناصيتها. المسلم عندما يتصور أن نواصي العباد بيد الله عز وجل، وأن قلبه بيد الله عز وجل الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، حينها يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً، فيحتقر المخلوق، ولا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق، ولا أن يرجو منه نفعاً ولا نوالاً ولا عطاء ولا حفظاً، ولا يمكن أن يرهبه أو يخافه.

التوبة

التوبة من آثارها أيضاً: التوبة، حينما يعرف المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه حينها يقبل على الله عز وجل ويتوب إليه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، حينما يتأمل المسلم هذه المعاني فإنه سرعان ما يتوب إلى الله ويقبل ويشعر أن الله رحيم رءوف، وأن الله سبحانه وتعالى تواب سيقبل توبته.

الدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء

الدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء أيضاً: الدعوة إلى الله عز وجل ومواجهة الأعداء، حينما قال موسى وهارون: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] قال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. أيضاً: من آثارها مراقبة الله سبحانه وتعالى، تقول عائشة: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كانت المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وهي في طائفة الحجرة وأنا لا أسمع منها شيئاً)، أي أن هذه المرأة كانت تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتجادل وعائشة لا تسمع ما يقولون، ثم ينزل قول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، ثم تجد في نفس السورة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. حينما يعرف المسلم أن الله سميع يعرف أن أي كلمة يتفوه بها أو يقولها فإن الله عز وجل سيسمعه، حينما يعرف أن الله لا تخفى عليه خافية: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] لا يتجرأ على المعصية؛ لأنه قد يخلو، ويغلق الباب على نفسه ولا يراه أحد، لكنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيراه. وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني فحين يستحضر المسلم هذه المعاني سيراقب الله عز وجل، وسيعلم أن الله يسمعه، وأنه سبحانه وتعالى يراه وأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.

أمور الاعتقاد تدور على الأسماء والصفات

أمور الاعتقاد تدور على الأسماء والصفات أيضاً: أمور الاعتقاد كلها مدارها على قضية الأسماء والصفات، مثلاً مسألة الدعاء وأنه عبادة كما قلنا مداره على قضية الأسماء والصفات، فالذي سيسأل الله أن يغفر له لو لم يكن يعلم أن الله غفور رحيم لما دعا الله عز وجل. الذي تلم به حاجة وتدلهم الخطوب أمامه فيستعين بالله في حاجته لو لم يكن عالماً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب لما توجه إلى الله عز وجل بالدعاء، لو لم يكن عالماً أن الله قادر، وأن نواصي العباد بيده سبحانه وتعالى لما دعا الله عز وجل، وقل مثل ذلك في الاستغاثة والرجاء والتوكل، والقدر، والحاكمية، حيث يخضع المسلم لحكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الحكم سبحانه وتعالى يحكم ما يريد، وأن له الخلق والأمر، وحينئذ لا يمكن أن يخضع لغير الله عز وجل، وهكذا لو تأملت في اعتقاد المسلم وفي سلوكه وفي حياته لرأيت أن أموراً كثيرة إنما تصدر عن قضية معرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته.

كلام ابن القيم عن آثار معرفة الأسماء والصفات

كلام ابن القيم عن آثار معرفة الأسماء والصفات أختم هذا الحديث بكلام طويل لـ ابن القيم رحمه الله حول هذا المعنى: يقول بعد أن تحدث عن أولية الله عز وجل وما في ذلك الشهود من الغنى التام: وليس هذا مختصاً بأوليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها، فمن شهد مشهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت، بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية، لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة. وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته تيقن أنه بمرأى منه سبحانه، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء. وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يضل ولا ينسى إلى آخر كلامه رحمه الله. والمقصود: أن هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى لله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترك أثراً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا، وأن نشعر أن من كمال التعبد لله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء والصفات أن نصف الله سبحانه وتعالى بها كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وأن ننزهه عن مشابهة خلقه ومساواة خلقه، ومع ذلك أيضاً أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه الأسماء والصفات. فالذي يعرف أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين لا يمكن أن يتطلع إلى ما حرم الله، أو إلى أن يخشى من غير الله أن يقطع رزقه، أو يمنع عنه رزقه فيشعر أن الأمور بيده سبحانه وتعالى، ومن يعرف أن الله سميع بصير عليم لا تخفى عليه خافية لا يمكن إلا أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشى الله عز وجل وأن يعبد الله كأنه يراه. هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا الأمر، والأمر أوسع وأعظم وأجل من أن تحيط به لغة العبد الفقير المذنب المسيء، لكن هذه محاولة لأن نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل.

دعوة للعمل

دعوة للعمل العمل عمود الحياة، فلا تقوم حياة الناس من غير عمل، ومن كان أكثر عملاً وأتقن فعلاً فهو الأسعد بالنجاح والفلاح. وقد أولى الإسلام العمل أهمية كبيرة في مصادره التشريعية، وتمثل ذلك في واقع أتباعه على مر العصور.

نعي لأخوين توفيا في حادث سيارة

نعي لأخوين توفيا في حادث سيارة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف هذه الدروس المباركة مع بداية هذا العام الدراسي الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عام خير وبركة، وأن يرزقنا فيه العلم النافع والعمل الصالح. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إتمام هذه الدروس، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب. عنوان هذا الدرس أيها الإخوة كما تعلمون جميعاً: (دعوة للعمل). وقبل أن نبدأ الحديث عن الدرس لعلكم تذكرون أنه في آخر الدروس في العام الماضي وعدنا بإكمال هذه الدروس أثناء الإجازة مفرقة، فلعلي أذكر لكم عناوين تلك الدروس التي ألقيت في الإجازة حتى يتيسر لمن أراد أن يرجع إليها. كان آخر هذه الدروس في العام الماضي هو الدرس السابع والذي كان بعنوان: (التربية الجادة ضرورة). وكان الدرس الثامن بعنوان: (كلانا على خير)، وألقي في الرياض في كلية إعداد المعلمين في التاسع والعشرين من شهر محرم. والدرس التاسع كان بعنوان: (التربية الذاتية)، وألقي في جدة في الثامن من شهر صفر. والدرس العاشر كان بعنوان: (عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة)، وألقي أيضاً في جدة في التاسع من شهر صفر. والدرس الحادي عشر كان بعنوان: (الشباب والاهتمامات)، وألقي في عنيزة في الثاني والعشرين من شهر صفر. والدرس الثاني عشر كان بعنوان: (ماذا بعد الهداية)؟ وألقي في البكيرية بتاريخ الثالث والعشرين من شهر صفر. وآخرها الدرس الثالث عشر وكان بعنوان: (سوء الفهم آفة)، وألقي في الخرج في الثاني من شهر ربيع الأول. وهذا هو الدرس الأول في هذا العام وهو يمثل الرقم الرابع عشر من هذه الدروس المباركة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إتمامها. وقبل أن أبدأ هذا الدرس لعلي أن أبث لكم خبراً لتشاركوني أحزاني ولتعذروني أيضاً عما يبدر من خلل في أداء هذا الدرس، فقد تلقيت عصر هذا اليوم نبأ وفاة أخوين من إخوانكم الذين كانوا يحضرون معنا هذه الدروس، وقد أصيبوا في حادث سيارة فتوفي منهم شابان وبقي بعضهم في المستشفى، منهم من هو في العناية المركزة، ومنهم من هو بصحة جيدة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهم ويتجاوز عنهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي مرضاهم. وحق على كل من حضر مثل هذا المجلس المبارك أو سمع هذا الكلام أن يدعو لإخوانه المسلمين، ونحن إذ يصيبنا الحزن والأسى ونحن نفقد أخوين من إخواننا نشعر أيضاً بالغبطة لهم على هذه الميتة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون خاتمة حسنة، حيث كانوا في سفر -نحسبهم والله حسيبهم- يبتغون به وجه الله وطلب العلم في صحبة صالحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا وإياكم حسن الخاتمة، وقد صلي عليهم هذا اليوم بعد المغرب، ولقد فكرت في أن أذهب لأشهد الصلاة عليهم لكني كرهت أن أخلفكم الموعد، ولعل في الأمر خيراً أن ندعو لهم جميعاً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن عليهم بواسع رحمته وعفوه وأن يتجاوز عنهم ويرفع درجاتهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشفي سائر إخواننا المرضى والمصابين، وأن يجعل ذلك تكفيراً لسيئاتهم وذنوبهم، وأن يجعل ما يصيبنا من حزن وأسى لفقد إخواننا في تكفير سيئاتنا ورفعة درجاتنا إنه سميع مجيب. ويحق لي أن أحزن وقد فقدت أناساً من أعز طلابي وتلامذتي الذين كنت أراهم لثلاث سنواتٍ خلت يحضرون معي هذه الدروس، ويحضرون معي بعد الفجر، ويسألونني وأتحدث معهم، ولعل أحدهم الذي كان في غرفة العناية المركزة نسأل الله أن يمن عليه بالعافية كان من أكثرهم مداومة على هذه الدروس سواء هذا الدرس أو درس الثلاثاء، أو دروس ما بعد الفجر. ولا أنسى وقد حدثني بعد ثاني درس من هذه الدروس عن جهد وعمل قام به في مدرسته بعد محاضرتي على مقاعد الدراسة، إنني لا أتصور أني أنسى تلك الوجوه أو أن أنسى هذا الحزن والأسى الذي يصيبنا، لكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يغفر لهم ويتجاوز عنهم، وهكذا الدنيا أيها الإخوة لا تدوم على حال، والبقاء إنما هو في دار القرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم جميعاً في مستقر رحمته.

الجد في العمل عنوان النجاح

الجد في العمل عنوان النجاح هذا الموضوع يشمل مدخلاً للموضوع وتمهيداً، ثم في القرآن دعوة للعمل، وفي السنة دعوة للعمل، وأهل العلم على الجادة يدعون للعمل، وصور من الإخلال بالعمل، وصور مشرقة، وأخيراً: لم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ سنة الله في الحياة أن لا يعيش فيها ولا يفلح إلا الرجل العامل، بل ولا يأكل رزقه إلا الرجل العامل، وحتى أصحاب الشهوات والمبادئ الأرضية لا بد لهم من عمل يحصلون من خلاله على ما يريدون، فكيف بالمسلم العابد لله عز وجل. إن صاحب المؤسسة الخاصة والعمل الشخصي لا يريد أن يوظف لديه إلا الرجل العامل المنتج، والتقارير ومعايير الكفاية لديه مرتبطة بالعمل الذي يقدمه والإنتاج الذي يحققه، ومدير الدائرة الرسمية هو الآخر لا يريد إلا الموظف العامل، ومعايير التقويم الرسمية وغير الرسمية لديه أيضاً مرتبطة بعمل الموظف وما يقدمه. ولا نزال نسمع أن فلاناً المسئول أو فلاناً المدير حين انتقل من دائرته أو شركته اختار بعض الموظفين في مكتبه لينقلهم معه؛ والجميع يتحدثون أنه أدرك منهم أنهم أناس عاملون جادون فهو يريد رجلاً عاملاً يعينه ويعتمد عليه. إذاً: فالعمل هو مطلب الجميع ومعيار التقويم، بل حتى في تاريخ الأمم أيضاً فالأمم إنما تنمو وتفلح بالعمل والإنتاج، وأي أمة لها تاريخ كان سواءً كانت حضارة مرتبطة بدين سماوي قامت به على هداية الناس، أو كانت حضارةً مادية ارتفعت على الناس في دنياهم، لم تدخل التاريخ إلا من بوابة العمل. وفتش في صفحات التاريخ فإنك لن تجد فيه مكاناً لأمة من الكسالى أو أمة من غير العاملين اللهم إلا أن تجد لها صفحات من الذم والحديث أنها كانت ضحيةً للمتآمرين والطامعين. إن الحياة كلها لا تقوم إلا على العمل، فالرجل الذي يحقق أهدافه خيرةً كانت أو سيئة مرتبطة بالدار الآخرة أو بالدار الدنيا، هو الرجل العامل، والرجل الذي يلقى التقدير والإكرام هو الرجل العامل، والأمة التي تدخل التاريخ من باب واسع إنما هي الأمة التي تملك رصيداً من العمل ومن الرجال العاملين. ولعلنا نرى التقهقر الذي أصاب هذه الأمة في شتى جوانب الحياة فندرك أن من أسباب هذا التخلف وهذا التقهقر أننا أمة رضعنا الكسل والهوان والذل فأصبحنا نعتمد على غيرنا.

القرآن يدعو إلى العمل

القرآن يدعو إلى العمل

تلازم الإيمان مع العمل

تلازم الإيمان مع العمل حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد أولى هذا الأمر عنايةً وجعله مطلباً أساساً، فالإيمان لا بد من اقترانه بالعمل الصالح، نقرأ في أكثر من خمسين موضعاً من القرآن أن العمل الصالح يعطف على الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] ولا شك أن ذكر الإيمان مجرداً يدخل فيه العمل الصالح، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والله عز وجل قال في شأن الذين ماتوا وقد صلوا إلى بيت المقدس: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. فالعمل إيمان والإيمان لا يتم مطلقاً ولا يصح إلا مع العمل، ومع أن الإيمان عندما يطلق لا يعني إلا ذاك الإيمان المرتبط بالعمل، فإننا نجد أن العمل الصالح يعطف على الإيمان في أكثر من خمسين موضعاً في كتاب الله سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا تأكيدٌ على هذا الأصل الأصيل، ألا وهو العمل، فالإيمان أول واجب على المكلف، وهو لا يمكن أن يكون مجرد شعور قلبي يتوجه المرء فيه بقلبه فقط، ولا يمكن أن يكون مجرد كلمة تقال باللسان فما لم يصحبه العمل فإنه ناقص مصاب بالخلل.

الإيمان الخالي عن العمل دعوى فارغة

الإيمان الخالي عن العمل دعوى فارغة ثانياً: الإيمان في القرآن حين لا يصاحبه عمل يصبح دعوى فارغة لا يحق لصاحبها أن يدعيه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] إنه لا يحق لكم أن تدعوا الإيمان ولا يحق لكم أن تقولوا آمنا لأنكم لما تصلوا إلى مرحلة الإيمان بعد، فالمؤمنون الذين يحق لهم أن يتسموا بالإيمان والذي يحق لهم أن يدعوا الإيمان هم: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] إيماناً يقينياً لا شك فيه، ثم مع ذلك: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] أي: إن الذين يحق لهم أن يدعوا الإيمان حقاً هم العاملون الذي قدموا أنفس ما يملكون من الأنفس والأموال لله عز وجل: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].

تعليق الجزاء في الدنيا على العمل

تعليق الجزاء في الدنيا على العمل ثالثاً: يعلق القرآن الجزاء في دار الدنيا على العمل: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55] إننا نقرأ في القرآن الكريم كثيراً من المصارع التي آلت إليها الأمم المكذبة والأمم الضالة، ونقرأ التعقيب في آيات القرآن الكريم أن هذا الجزاء الوخيم الذي صار إليه أولئك المكذبون إنما كان في مقابل عملهم السيئ، إذاً: فالعمل هو الذي قادهم إلى هذا المصير المحتوم. والعمل الصالح يلقى المرء جزاءه في الدنيا بركةً وسعةً في الرزق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] إذاً: فالجزاء بالإحسان أو بالعقوبة في دار الدنيا مرتبط بالعمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وشواهد هذا الأصل في كتاب الله سبحانه وتعالى أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.

السؤال يوم القيامة عن العمل

السؤال يوم القيامة عن العمل رابعاً: السؤال يوم القيامة والحساب إنما هو على العمل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93] {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] فحين يسأل المرء يوم القيامة، وحين يحاسب، وحين يجازى فهو إنما يحاسب ويجازى على ما قدم من عمل خيراً كان أو شراً، فالعمل إذاً هو مناط الحساب، وهو مناط المساءلة، وهو مناط الجزاء بعد ذلك.

الثواب الأخروي على العمل

الثواب الأخروي على العمل خامساً: الثواب الأخروي وهو الأساس الذي شمر إليه المشمرون، والذي تسابق إليه العاملون، وتنافس فيه الصالحون، مرتبط أيضاً بالعمل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، ويقال لهم هناك: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات:43] فما فاز من فاز وأفلح من أفلح في دار القرار ودار النعيم المقيم إلا بالعمل، والرصيد الوحيد الذي يؤهله لهذا التكريم ولتلك المكانة إنما هو عمله الصالح.

العقاب الأخروي على العمل

العقاب الأخروي على العمل سادساً: العقاب الأخروي في نار الجحيم مرتبط أيضاً بالعمل: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، ويقال لهم تبكيتاً وتوبيخاً: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14]، وحين يطالبون بالعودة إلى دار الدنيا -وأنى لهم ذلك حتى تشيب مفارق الغربان- فهم إنما يطلبونها لأجل أن يمكنوا من العمل، فقد أدركوا الآن قيمة العمل. إن تلك الدنيا التي كانوا يعيشون فيها من أجل الشهوات الفانية من أجل المال من أجل الجاه، إن كل تلك المعاني التي كانت عندهم تستحق التضحية بالمبادئ تستحق التضحية بكل ما يملكه الإنسان؛ كل تلك المعاني قد زالت وانمحت من ذاكرتهم، فهم يريدون العودة للدنيا لأجل أن يعملوا: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53].

التفكر في آيات الله لا بد أن يثمر العمل

التفكر في آيات الله لا بد أن يثمر العمل سابعاً: التفكر في آيات الله عز وجل وما يتبعه من مشاعر لا بد أن يتحول إلى رصيد عملي، يقول الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران:190 - 195]. مع هذا التفكير في مخلوقات الله عز وجل، ومع هذا الدعاء، ومع ذكر الله عز وجل قياماً وقعوداً وعلى الجنوب مع ذلك كله الجزاء مرتبط بالعمل هذا التفكير وهذا الدعاء دعاهم إلى العمل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وما هو هذا العمل؟ {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} [آل عمران:195] إن الهجرة والإيذاء في سبيل الله عز وجل وما يتبعها إنما هي نتيجة مباشرة لذاك العمل الذي كانوا يقدمونه حين تصدوا لحمل دين الله عز وجل ودعوة الناس إليه، حتى واجهوا ما واجهوا من قومهم فأوذوا وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم لأجل أن يفروا بدينهم من تلك الفتنة التي تعرضوا لها. إن هذه الهجرة مع أنها عمل، وهذا الإيذاء الذي تعرضوا له مع أنه عمل إلا أنهما أيضاً ناشئان عن عمل وجهد، لن يتعرض للإيذاء ولن يضطر للهجرة إلا ذاك الذي واجه الأعداء بما يكرهون، والذي أعلنها صريحة مدوية في وجه الأعداء، فاضطر لأن يتحمل الأذى والضيم في سبيل الله عز وجل، ويتبع ذلك بالخروج من تلك الديار وتلك البلاد يفر بدينه من الفتن.

الخوف من الله يقود إلى العمل

الخوف من الله يقود إلى العمل ثامناً: وفي القرآن الكريم أيضاً الوعظ والتأثر به والخوف من الله سبحانه وتعالى لابد أن يقود إلى العمل فينتج رصيداً عمليا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:7 - 11]. لقد كانوا يخافون من هذا اليوم العبوس القمطرير فماذا كان أثر هذا الخوف وماذا كانت نتيجته؟ لقد دعاهم هذا الخوف وهذا التأثر الذي لمسوه في قلوبهم إلى أن: {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:8 - 10] أي: إن الذي دعانا إلى هذا الإنفاق الذي دعانا إلى هذا البذل وهذا العمل إنما هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، فالخوف والشعور بخشية الله عز وجل لا بد أن ينتج أيضاً رصيداً عملياً: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50]. وقل هذا أيضاً في سائر المشاعر القلبية، فالحب الذي هو شعور من المشاعر القلبية لا بد أن يدفع إلى العمل، فمن يحب الله سبحانه وتعالى لا بد أن تؤثر هذه المحبة فتتحول إلى محبة لما يحبه الله عز وجل من الأعمال، وبغض لما لا يحبه الله عز وجل من الأعمال، ومحبة لمن يحبه الله سبحانه وتعالى ومن يحب الله، اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك. والرجاء: إن رجاء رحمة الله عز وجل ومغفرته ورضوانه لا بد أن يدفع صاحبه إلى العمل وإلا كان أمناً من مكر الله سبحانه وتعالى. وهكذا سائر المشاعر، وسائر ما يجده الإنسان في قلبه من تأثر بما يسمعه من موعظة، أو ما يقرؤه في كتاب الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتحول إلى رصيد عملي، وإلا فهي مشاعر غير صادقة، أو قل: إنها مشاعر مرت على الخاطر عاجلة لم تؤت ثمارها.

مقت القول من غير عمل

مقت القول من غير عمل تاسعاً: لقد مقت الله عز وجل في القرآن الكريم القول بغير عمل وذمه وعابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] وأتبعت هذه الآيات بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فالله سبحانه وتعالى إنما يحب العاملين إنما يحب المجاهدين الذين يقاتلون في سبيل الله عز وجل الذين يعملون ولا يشغلهم القول عن العمل. إذاً: أيها الإخوة! هذه شواهد متضافرة من كتاب الله سبحانه وتعالى الذي نتلوه جميعاً صباح مساء كلها تدعونا إلى العمل، وكلها تجعل القضية مرتبطة أصلاً بالعمل.

الدعوة إلى العمل في السنة النبوية

الدعوة إلى العمل في السنة النبوية

العلم بلا عمل شر يستعاذ منه

العلم بلا عمل شر يستعاذ منه وفي السنة النبوية دعوة إلى العمل، فالعلم الذي هو من أشرف العبادات العلم الذي هو أفضل من النوافل ما لم يقد صاحبه إلى عمل يصبح شراً يستعاذ بالله عز وجل منه، لقد دعا صلى الله عليه وسلم وعلمنا أن ندعو: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عز وجل من العلم الذي لا ينفع.

وظيفة المسلم في الحياة العمل

وظيفة المسلم في الحياة العمل ووظيفة المسلم في الحياة هي أيضاً العمل، فقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو للمريض إذا عدناه بأن نقول: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدوا، أو يمشي إلى صلاة، فأمرنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء للمريض، أي: أن وظيفة المسلم أصلاً ووظيفة الإنسان في هذه الحياة أن يعمل فينكأ العدو بجهاده بسنانه ينكأ العدو بأن يغيظ قلوبهم بالكلمة الصادقة بالدعوة لدين الله عز وجل بقول كلمة الحق غير وجل ولا هياب أن ينكأ العدو ويغيظه، فهذا عمل متعد نفعه إلى سائر المسلمين. وأعلى صور العمل المتعدي النفع هو الجهاد، ثم ذكر الصورة الأخرى من العمل الذي يقصر نفعه على الإنسان نفسه: وهي الصلاة، فذكر أعلى أعمال العبد القاصرة على نفسه وهي الصلاة، وأعلى أعمال العبد التي يتعدى نفعها إلى الآخرين ألا وهو الجهاد.

النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في العمل

النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في العمل وأما الواقع العملي للنبي صلى الله عليه وسلم فهو خير شاهد على ذلك، من منا لم يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقرأ فيها سيرة ذاك الرجل الداعي إلى الله عز وجل الذي يضحي بأوقاته، ويضحي براحته، وبكل ما يملك صلى الله عليه وسلم في العمل والخدمة لهذا الدين، وتراه صلى الله عليه وسلم وأنت تتمعن في كتب السيرة تراه في أوائل صفوف المجاهدين، وأول من يفزع إذا سمع وجفه أو صيحة، وأول من يرق قلبه حين يرى بعض أصحابه قد أصابتهم فاقة، وأول من ينفق على محتاج أو يحن على مسكين، تراه صلى الله عليه وسلم سباقاً في كل ميدان من ميادين العمل. أليس لنا فيه قدوة صلى الله عليه وسلم وأسوة حسنة؟ إننا حين ندعو إلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى التأسي بسنته صلى الله عليه وسلم، وحين نقول: إن من علامة محبة المرء للنبي صلى الله عليه وسلم اتباعه لسنته، فإنه لا يجوز أن نقصر هذه السنة على جزء يسير من حياته صلى الله عليه وسلم من أعمال أو مظهر أو هيئة كان عليها صلى الله عليه وسلم، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة هي قيام الليل هي صيام النفل هي تشمير الثياب هي إعفاء اللحية هي الدعوة إلى الله عز وجل هي الجهاد في سبيل الله عز وجل هي الرحمة بالخلق هي الإحسان إلى الناس هي العمل بكل هذه الشريعة وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. إن تمام التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها أن ننظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وسائر أيامه صلى الله عليه وسلم ونسير ورائها. وقد كان صلى الله عليه وسلم أيضاً يربي أصحابه على العمل، وعلى أن يحملوا هم العمل، جاءه رجل فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟)، إن الذي ينبغي أن يشغلك ليس الحديث عن وقت الساعة متى تكون فهذا أمر علمه عند الله سبحانه وتعالى، إنما الذي ينبغي أن يشغلك وينبغي أن تسأل عنه هو العمل، ينبغي أن يكون همك هو العمل فأنت عرضة لأن يتخطفك الأجل في أي ساعة من ليل أو نهار، فهمك المرتبط بالساعة والذي يعنيك من الساعة هو أن تسأل ماذا عملت، وماذا قدمت، وماذا أعددت لهذه الساعة؟

أهل العلم يدعون إلى العمل

أهل العلم يدعون إلى العمل

سير العلماء ومؤلفاتهم تحتفل بالعمل

سير العلماء ومؤلفاتهم تحتفل بالعمل أهل العلم على الجادة يدعون إلى العمل، فحين نقرأ في سير العلماء من سلف هذه الأمة بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومروراً بتاريخ هذه الأمة الطويل نجد أن أهل العلم الذين كانوا على هذا المنهج يدعون إلى العمل بالعلم، فهم حين يدعون طالب العلم إلى التعلم يدعونه إلى أن يقرن العلم بالعمل، ولهذا تراهم تتابعوا على أن يوصوا طالب العلم بالعمل، وتوارثوا على أن يعقدوا فصولاً فيما يكتبون من آداب العالم والمتعلم للحديث عن العمل بالعلم. وللخطيب البغدادي رحمه الله جزء مشهور: اقتضاء العلم العمل، وأقوالهم مشهورة مشهودة في ذلك، فـ أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟ ويقول أيضاً: لا تكون عالماً حتى تكون بالعلم عاملاً. وكان نقش خاتم الحسين بن علي رضي الله عنه: علمت فاعمل. وقال الحسن: الذي يفوق الناس في العلم جدير بأن يفوقهم في العمل.

الفقهيات التي لا يترتب عليها عمل ترف فكري

الفقهيات التي لا يترتب عليها عمل ترف فكري ثانياً: المسائل الفقهية التي لا يترتب عليها عمل تعتبر من لهو الحديث وتعتبر ترفاً فكرياً عند علمائنا؛ ولهذا فإنهم يوصون طالب العلم أن يعتني بقراءة وبحث المسائل التي يترتب عليها ثمرة عملية؛ ولهذا ترى مثلاً علماء الأصول وعلماء الفقه يعقبون أحياناً بحث كل مسألة أن يقولوا: والثمرة العملية لهذه المسألة كذا وكذا، أي: ما يترتب عليها من عمل.

الاستفتاء لا يكون إلا عما يعقبه عمل

الاستفتاء لا يكون إلا عما يعقبه عمل ثالثاً: السائل حين يسأل وحين يستفتي لابد أن يسأل عن مسألة يعقبها عمل وإلا كان مجادلاً مماحكاً لا يستحق الإجابة على سؤاله.

واقع العلماء يشهد بأهمية العمل عندهم

واقع العلماء يشهد بأهمية العمل عندهم وأما واقعهم العملي وتاريخهم فخير شاهد على ذلك: لقد كانوا يتصدرون لتعليم الناس، ويقضون نفيس أوقاتهم في ذلك، وهذا لا شك من العمل، ومن خير العمل الذي يقدمونه للأمة، وما هذا التراث الذي نراه بين أيدينا من التصنيف والتأليف والتعليم إلا جزء من نتيجة هذا العمل الذي كان يبذله سلف الأمة ويتواصون به. كانوا أيضاً قائمين بالحق محتسبين على العامة والخاصة منكرين لمنكرات العامة، والمنكرات الخاصة، ونحفظ جميعاً مواقف خالدة لأهل العلم في إنكار المنكرات وقول الحق والوقوف في وجوه الفجرة والظالمين، نرى ونقرأ أيضاً في التاريخ أنهم كانوا في الصفوف الأولى من المعارك. فلعلنا مثلاً نقرأ في سيرة صلاح الدين الذي حرر الله عز وجل على يديه بيت المقدس من الصليبين أنه كان في مقدمة صفوفه الفقهاء والمحدثون والعلماء حتى أمر أحد المحدث أن يحدث ويقرأ وهو بين الصفين ثم قال: هل سمع أحد في هذا الموطن؟ قال: لا، فصار يفتخر صلاح الدين رحمه الله أنه أول من سمع الحديث وهو بين الصفين وقد التحمت السيوف. إذاً: كان أهل العلم عاملين فكانوا سباقين في تعليم العلم في التصدي للناس ونفعهم والإحسان إليهم في قول كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التجديد لهذا الدين، وكم صفحة مرت على هذه الأمة احتاجت إلى مجدد ليرفع الغشاوة عن هذه الأمة، فقام أهل العلم بالعمل وتحملوا ما تحملوا من مضايقة الناس ونقدهم وعيبهم والتشكيك في نواياهم، والطعن فيهم، فقد واجه عبد الغني المقدسي رحمه الله ما واجه، وواجه شيخ الإسلام ابن تيمية ما واجه، وواجه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما واجه، وكل المصلحين الذي مروا على تاريخ هذه الأمة واجهوا ما واجهوا من الطعن والتشكيك في نواياهم، وتآمر أهل السوء وأهل البدعة وأهل الهوى عليهم، ومع ذلك ما ضرهم شيئاً، وتحملوا ذلك كله في ذات الله سبحانه وتعالى، فقد كان همهم وداعيهم هو العمل.

من صور الإخلال بالعمل

من صور الإخلال بالعمل

الانشغال بحديث المكاسب عن العمل

الانشغال بحديث المكاسب عن العمل لعل ما ذكرنا من الآيات القرآنية، والشواهد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مواقف أهل العلم يعطينا بعد ذلك قناعةً تامة أن العمل يجب أن يكون همنا دائماً أن العمل يجب أن يكون هو الهاجس الوحيد لنا، وأن نتساءل دائماً: ماذا عملنا وماذا قدمنا؟ وأن نفكر دائماً في حياتنا، وفي أعمالنا، وفي أوقاتنا: ماذا عملنا؟ ثمة صور من الإخلال بالعمل صور قد تبدو لنا نحن أحياناً أنها مفيدة وأنها من مجالس الخير ومن جوانب الخير، لكنها صور شاذة صور لا يقع فيها إلا الناس الذين تخلوا عن العمل، فلنشر إلى بعض هذه الصور: أولاً: من الإخلال بالعمل الانشغال بالحديث عن المكاسب والإنجازات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله عز وجل حديثاً تسوده المبالغة فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين الواقع العملي، ويدرك أن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض ما يقال، وقد امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية فأصبحنا كثيراً ما نتحدث عن بعض الأعمال وبعض الجهود حديثاً فيه مبالغة، وحديثاً فيه لغة الأرقام التي أصابتنا العدوى فيها. إنه يحق لأهل الدنيا يحق لمن لا يريدون وجه الله أن يتحدثوا بهذه اللغة وهذا المنطق، أما الدعاة إلى الله عز وجل فيجب أن يحسبوا للأمر حساباً، يجب أن يكون همهم هو العمل، نعم أيها الإخوة! إن نشر بعض الأعمال، ونشر بعض التقارير، ونشر بعض الجهود لا شك أنه يدفع إلى العمل، ولا شك أنه يقنع الناس بجدوى هذه الجهود، فالناس مثلاً الذين يتبرعون بأموالهم يريدون أن يجدوا أثراً لما قدموا من أموال فيطلبون تقارير عن تلك الأعمال وتلك الجهود الناس الذين يؤيدون بعض البرامج ويقفون وراءها بحاجة إلى أن يقفوا على بعض النجاح الذي حققته هذه البرامج بحاجة إلى أن يعرفوا شيئاً من تلك المنجزات، فالحديث عنها من هذا الباب لا إشكال فيه، أما أن نبالغ وأن نتحدث حديثاً يدرك القريب والبعيد أنه حديث لا يملك رصيداً من الواقع يؤهله فهذا انشغال عن العمل. إن هذا يشغلنا عن الحاجة إلى العمل، وعن أن نشعر بأن أمامنا مواقع لا تزال هائلة ومواقع شاغرة بحاجة إلى أن نتقدم إليها؛ ولهذا فإن أخشى ما نخشاه أن نبدأ الحديث الآن عن المنجزات التي حققتها الصحوة، وعن المكاسب التي حققتها، والأوراق التي ربحتها وننسى أن ثمة مراحل أمامنا شاسعة وخطوات هائلة لما نتقدم إليها بعد، فيشغلنا حديث الإنجازات والمكاسب عن العمل الحقيقي الذي يجب أن نتصدى له.

لغة النقد

لغة النقد ثانياً: من الإخلال بالعمل لغة النقد التي يحترفها البعض وتملأ مجالسنا، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج والمؤسسات الدعوية نقداً صارخاً يأتي على الأخضر واليابس، بل ويكون النقد حدثاً يقرأ من أجله، ويسمع له؛ أليس هناك من وظف نفسه لهذه المهمة الدنيئة وتطوع لخدمة أعداء الدين وأعداء الدعوة بالمجان، فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة؟! إنك حين تتساءل عن حال هذا الرجل ماذا قدم؟ هل هدى الله عز وجل على يديه شاباً ضالاً، أو أنقذ فتاة من الغواية، أو دعا رجلاً غير مسلم إلى الإسلام، أو أنكر منكراً ظاهراً، أو تصدى لتعليم علم؟ لا تكاد تجد رصيداً يذكر من هذه الأعمال. مساكين أولئك الذين يقضون أوقاتهم في هذه الأحاديث مساكين أولئك الذين أصبح همهم الطعن في الآخرين والنقد والتقويم والتصنيف، فأنت ترى من اشتغل بالعمل لخدمة دين الله عز وجل، طلباً للعلم، أو تعليماً ونشراً له، أو تحفيظاً لكتاب الله عز وجل، أو دعوة إلى الله عز وجل، دعوة للمسلمين المقصرين، دعوة لغير المسلمين، جهد هنا وجهد هناك، فترى هذا التيار المتدفق من هذه الجهود المبذولة، وترى أولئك قد أفلسوا من هذا الرصيد كله، وانشغلوا بالغيبة والنميمة والتصنيف، وهذه أيها الإخوة عقوبة عاجلة لأولئك. إن أشد عقوبة وأقسى عقوبة يعاقب بها المرء أن يحرم العمل، حين ينشغل الآخرون فيستغلون أوقاتهم بالعمل المنتج والمثمر الذي يكون رصيداً له عند الله عز وجل. أيها الإخوة! حين يشغل المرء نفسه بمثل هذه الأعمال فماذا عساه يلقى عند مولاه حين ينطقه فيسأله: ماذا فعلت وأنت ترى المنكرات العامة التي أصبحت تعج بها المجتمعات ماذا فعلت وأنت ترى الأمة تقاد إلى الهاوية وأنت ترى الأعداء قد تآمروا على الإسلام من الشرق والغرب من النصارى واليهود والمنافقون والوثنيون، وقد اتفقت راية العالم كله في هذه الظروف الكئيبة على حرب هذا الدين، وعلى حرب الدعاة إلى الله عز وجل، ومع ذلك تجد من وظف نفسه في أن يقف في صف الأعداء، وأن يقدم لهم الخدمات بالمجان، ويحسب أنه يحسن صنعاً. إننا لا نرفض مبدأ النقد، ولا نرفض مبدأ الحديث عن الأخطاء، لكن هذا شيء، وما يدور عند واقع البعض شيء آخر، وحتى تدرك سوء هذه الهاوية التي ينحدر إليها هذا الصنف من الناس تأمل في واقعهم وماذا قدموا وماذا عملوا، لا تكاد ترى لهم عملاً ولا تكاد ترى لهم جهداً، بل تكاد ترى ارتباطاً عكسياً كما يقول الرياضيون بين العمل الذي يقدمونه وبين اشتغالهم بالنقد والتصنيف والإثارة. لا أريد الحديث عن هذه القضية لكنها صورة من صور الإخلال بالعمل، وأحيل الإخوة إلى كتاب قيم صدر حديثاً لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد بعنوان: تصنيف الناس بين الظن واليقين.

كثرة الشكوى من مشاكل الواقع

كثرة الشكوى من مشاكل الواقع ثالثاً: من صور الإخلال بالعمل كثرة الشكوى من مشاكل الواقع، ومشاكل العمل الإسلامي، ومشاكل الشباب والدعوة إلى آخر هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ما تكون شكوى صادقة لكنها تحتل مساحة من التفكير فينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس. إنك ترى بعض الشباب قد شغل بمشكلة خاصة به، وقد تكون في قضية شرعية، فتراه يشتكي أنه يقع في هذه المعصية أو تلك تراه يشتكي أنه يقصر في تلك الطاعة أو تلك تراه يشتكي من مشكلة أياً كانت هذه المشكلة، فتسيطر هذه المشكلة على تفكيره وتستولي عليه فتصبح هاجساً أمامه حتى يتحول هذا الرجل إلى شاب محطم الآمال، ليس لديه قدرة أن يعمل وأن يقدم أو ينتج فتتحول وبالاً عليه. أو ذلك الذي شغل بمشاكل الدعوة، ومشاكل العمل الإسلامي، ومشاكل الأمة فأصبح الرجل محطم الآمال محطم التفكير لا يتحدث معك إلا عن المشاكل لا يتحدث معك إلا عن الخلافات إلا عن الإحباط الذي حصل له من جراء ثقته بهذا العمل فبان على خلاف ما يظن ثقته بفلان فبان على خلاف ما يظن، إلى غير ذلك، وكان ماذا؟ إن هذا الذي استولت عليه هذه المشاكل جدير بأن يقف مع نفسه فيخصص لحظات ودقائق من وقته ليفكر تفكيراً جاداً ماذا يغني هذا التفكير، وماذا يغني هذا الانشغال بهذه المشاكل، والتفكير فيها، والحديث عنها، وماذا عساه أن يقدم له؟! إننا نوافقك على أن هذه مشاكل موجودة سواء كانت في شخصك، أو كانت في أوساط الشباب والناشئة، أو كانت في أوساط العمل الإسلامي، وهي مشاكل يعاني منها الجميع، ولا شك أنها تؤرق ليل المخلص تؤرق ليل الصادق ليل من يحمل هم هذا الدين وهذه الدعوة الصادقة؛ ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا قدمنا من عمل، وماذا يغني الانشغال بالمشاكل والتفكير فيها؟ إنه لا يعدو أن يكون فيروساً يقتل العمل المنتج فيروساً يقضي على الإبداع فيروساً يحطم كل همة يمكن أن تتولد عند صاحبها حينما يرى منكراً حينما يرى سوء واقع الأمة حين يسمع كلاماً يحضه على العمل فتتحطم الآمال فيعود صاحبنا لا يستطيع أن يتخذ قراراً لا يستطيع أن يعمل عملاً، سيطرت عليه هذه المشاكل وهذه الهموم. لقد نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينشغل بهذه الهموم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم الذي تحمل ما تحمل في سبيل الدعوة لدين الله عز وجل، والجهاد لإعلاء كلمته، عن أن يهلك نفسه وأن ينشغل بالهم على أولئك المعرضين: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:3 - 4]. {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] فما بالنا بعد ذلك ننشغل بالحديث عن المشاكل فتسيطر علينا حتى تؤدي بنا إلى الإحباط؟!

كثرة التساؤل

كثرة التساؤل رابعاً: من صور الإخلال بالعمل: كثرة التساؤل ماذا أريد ماذا أصنع كيف أطلب العلم كيف أحفظ كيف أدعو؟ إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأسئلة التي ترد ولا يعقبها خطوات عملية جادة، إن التساؤل ابتداءً مطلب ملح لا جدال فيه؛ لكنه مطلب سليم حين يكون مصحوباً بإرادة العمل بالهمة التي تدفع إلى العمل، أما حين يكون سؤالاً يكرره الشاب في كل مناسبة، فلعلك تعود بالذهن إلى سنة أو سنتين مضت من تاريخك فتتذكر أنك كنت تطرح هذا السؤال وأنت جاد: كيف أطلب العلم كيف أحفظ كيف أدعو ماذا أصنع ما دوري في الحي ما دوري في المدرسة؟ قف الآن وتفكر في نفسك: ماذا قدمت وأنت على مدى سنتين تطرح هذه الأسئلة؟ أليس هذا من القول بغير عمل، إنها أسئلة لا شك جادة لكن لا بد أن تكون أسئلة مصحوبة بالعمل بإرادة العمل بالنية الجادة العازمة، ونتفكر في واقعنا في تلك الأسئلة التي كنا نطرحها، والمشاكل التي كنا نطلب الحل لها، والأدوار التي كنا نطلب ونتساءل أن تعطى لنا ماذا قدمنا منها؟ إذا شعرنا أننا لم نتقدم خطوات جادة فإننا مع الاعتذار الشديد غير عاملين.

الانهزام أمام العوائق

الانهزام أمام العوائق خامساً: من صور الإخلال بالعمل: الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو مضايقة والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد إلى غير ذلك من الأعذار، شاب يدرس في مدرسة أو يعمل في مؤسسة أو يدرس في جامعة في أي مكان على عرض هذا العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه وتوصد الأبواب أمامه فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح الأبواب أو طلب الانتقال إلى مجال آخر يمكن أن يعمل فيه، وهي لغة كثيراً ما نسمعها. أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟ هل كان أنبياء الله عز وجل كذلك؟! الدعاة والمصلحون هل كانوا كذلك؟! دعاة الفتنة وأصحاب الطوائف والمبادئ الأرضية هل كانوا كذلك؟! ألم يكونوا يضحون ويبذلون سنوات طويلة وهم يضايقون ويتعرضون للسجن والمضايقة والملاحقة والمتابعة ومع ذلك يدعون ويتحملون. واقرأ في تاريخ الطوائف الباطنية بدءاً بالعصور المتقدمة من تاريخ الإسلام كيف كان القرامطة والإسماعيلية والدروز والنصيرية والرافضة وغيرهم على مدى التاريخ إلى الطوائف المعاصرة من أصحاب الأفكار الضالة المعاصرة؛ كيف يعملون ويتحملون مع المضايقة ومع مصادرة حرياتهم والتضييق على جهودهم، فما بالنا نحن يسيطر علينا هذا المنطق؟ أنا عندي استعداد أن أعمل لكن عندما يفتح المجال أمامي عندما تبارك جهودي عندما أدعى إلى العمل، أما حين يكون الإنسان في موقع فيضايق حينئذ يقف مكتوف الأيدي، ويشعر أنه لا مجال أمامه، ولينتقل إلى ميدان آخر. وتعال معي مثلاً فافترض إنساناً يدرس في جامعة من جامعات العالم الإسلامي المترامي الأطراف، جامعة فيها ثمانمائة طالب وحين يضايق ولا يكون له مجال ينتقل إلى ميدان آخر، فيأتي الثاني يفكر بنفس العقلية فينتقل وهكذا فما ذنب هؤلاء الطلاب أن يحرموا من هذا الخير وهذه الدعوة؟! نعم قد يكون انتقالك إلى هذا الميدان يعطيك مجالاً من العمل أكثر وهذا صحيح لكن أيضاً هذا الثغر وهذا الميدان ينبغي أن لا يترك. والقضية ليست قضية مادية تجارية بحتة: ماذا قدم فلان وماذا قدمت أنا كم اهتدى على يدي شخص وكم اهتدى على يده؟ لا، فالقضية أن يعمل كل إنسان في موقعه، وأن يشعر كل امرئ أنه على ثغر. أحياناً يعمل الإنسان بعمل فتأتيه مشاكل فينهار عمله وتتحطم الكثير من نتائج عمله فلماذا ينهار؟ لماذا لا تستمر في عملك ولو كانت النتيجة قليلة؟ ولو كانت النتيجة يسيرة ولو كانت تلك المواقف محطمة لك. لقد من الله عز وجل على المسلمين بانتصار الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً فعم الإسلام أرجاء هذه الجزيرة المعمورة، وفوجئ المسلمون ورزئوا بموت النبي صلى الله عليه وسلم فماذا كان بعد ذلك؟ ارتدت فئام وطوائف من العرب، وتآمروا حتى أصبح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، ومع ذلك مع هذا الانهيار، ومع هذه المشكلة، ومع هذا الوضع الذي صار إليه واقع المجتمع آنذاك لم يقف المسلمون مكتوفي الأيدي، بل جاهدوا وتحملوا حتى استطاعوا خلال سنتين ونصف أن يتحولوا إلى فاتحين، فيفتحون العراق والشام ومصر. أيها الإخوة! نحتاج إلى هذه الإرادة التي تتجاوز كل العقبات، وتتجاوز كل المشاكل، والتي تجعل الإنسان يعمل في أي موقع كان وهو يشعر أنه يعمل من خلال ما يستطيع من خلال ما يقدم مهما كانت النتائج التي يحققها.

الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للإسلام وأهله

الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للإسلام وأهله سابعاً: من صور الإخلال بالعمل: الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، والمشاركة في المنتديات والدروس العامة دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعالة، ولعلنا نجد قطاعاً كبيراً من الناس يرى أن دوره يقف عند هذا الحد. فيتصور الشاب أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب واللقاء مع الأخيار ومشاركتهم الأعمال والمنتديات كافٍ في أن يجعله منسلكاً في قطار الدعاة إلى الله عز وجل، إن هذا لا شك خطوة مطلوبة أن يختار الشاب رفقة صالحة له يصحبهم في حلهم وترحالهم في إقامتهم وسفرهم، وأن يشاركهم مناشطهم لكن هذا وحده لا يكفي أن يجعله منخرطاً في سلك العاملين والدعاة إلى الله عز وجل، فلا بد من أن يقدم عملاً لا بد من أن يقدم مبادرة ومشاركة في أي مجال يمكن أن يساهم فيه.

الحديث المستفيض عن الدعوة

الحديث المستفيض عن الدعوة الصورة الثامنة من صور الإخلال بالعمل: ما يدور في مجالس المثقفين خاصة وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، يقولون: ليت الدعاة يصنعون كذا، ولعلهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول ويتجنبون ذاك، وهي مقترحات لا شك جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس والمتحدث يعبث بمسبحته، أو يهز يده، والأمر يتوقف عند هذا الحد، فيتحدثون كثيراً في مجالسهم ومنتدياتهم عن الدعوة وعن همومها، ولو فعل الدعاة ولو صنعوا ولو تجنبوا ولو صار كذا وكذا؛ لكن هذا الحديث لا يعدو أن يكون حديثاً مجرداً في مثل هذه المجالس وهذه المنتديات لا تكاد ترى له أثراً عملياً أو مشاركة فعالة من أولئك. إنها طبقة من الناس المؤيدين للخير والمحبين له لكنها طبقة تعاني من البطالة تعاني من الفراغ وانهيار الرصيد العملي، ويظن أحدهم أنه حين يملأ مجالسه بمثل هذا الحديث أنه قد قدم خيراً كثيراً للأمة.

شغل النفس بنقد المجتمع وذكر صور الانحراف وقصص الفساد

شغل النفس بنقد المجتمع وذكر صور الانحراف وقصص الفساد تاسعاً: من صور الإخلال بالعمل: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع نقداً، وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، فيأخذ الحديث ساعات طوالاً مع النماذج والأمثلة، يجتمع الناس والخيرون منهم خاصة في مجلس من المجالس فيتحدثون مثلاً عن انتشار الفواحش عافانا الله وإياكم، فهذا يذكر قصة، والآخر يذكر حادثة، والثالث قضية، والرابع إحصائية، وهكذا يستمرون في حديث طويل لا يقطعه عليهم إلا شغل آخر من ذكر هذه النماذج وهذه القصص، فيظنون أن هذا حديث خير، وأن هذا من باب إشغال المجلس بما يفيد فيقضون ساعات طويلة ويتمخض المجلس بعد ساعتين أو ثلاث ساعات دون أي نتيجة عملية. إن هذا الحديث ولو كان مصحوباً بالبكاء مصحوباً بالنشيج مصحوباً بالتألم على واقع المجتمع لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يمكن أن يدفع الأمة ولو خطوة واحدة، لقد تجاوزنا جميعاً ويجب أن نتجاوز مرحلة الشعور بواقع المجتمع مرحلة فسد الناس مرحلة: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحوقلة والاسترجاع، إنها مرحلة يجب أن نتجاوزها إلى العمل إلى المشاركة الفعالة، ولا يجزئ عنا شيخ يتوكأ على عصاه، أو شاب يتوقد همة وحيوية يملأ مجالسه من البكاء والتألم على واقع المجتمع والأمة، والإفاضة في الحديث عن ذكر الصور المؤلمة من ألوان الانحراف والفساد التي تعج بها مجتمعات المسلمين دون أن يتبع ذلك بأي رصيد عملي أو خطوة عملية. ولو ألزمنا أنفسنا أننا بعد نهاية كل مجلس من هذه المجالس نخصص ونقتطع جزءاً من هذا الوقت ولو كان لا يزيد على ربع ساعة أو نصف ساعة للسؤال عن الدور العملي الذي يجب أن نقوم به في مواجهة هذه المشكلة أو تلك لتحول حديثنا إلى لغة أخرى، ولتحولت مجالسنا إلى مجالس منتجة للعمل ومقدمة للخير للأمة جمعاء.

الحديث المتشائم عما يحاك ضد الإسلام

الحديث المتشائم عما يحاك ضد الإسلام الصورة العاشرة من صور الإخلال بالعمل: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله: رويداً فالسيل لا ترده بعباءتك، ولست وكيلاً لآدم على ذريته، منطق من يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي يقول صاحبها لقد فسد الناس ومرجت عهودهم ولا مجال للإصلاح، فالدعوة تحاصر، والمنكر محمى ويدعى إليه، وماذا عساك أن تقدم؟ فلا يزيد صاحبنا على الحوقلة والاسترجاع. إن الحديث أيها الإخوة عن الأعداء وعن تآمرهم مطلب مهم، بل مطلب ملح ولا شك، فلا بد أن نكون واعين لما يحيك أعداؤنا من مؤامرات، ولا بد أن نتحدث عن الأعداء وخططهم ومؤامراتهم التي تحاك في الداخل والخارج من القريب والبعيد، لكن هذه الأحاديث يجب أن تدعونا إلى العمل إلى أن يكون رصيداً عمليا، أما أن تسيطر هذه الأحاديث علينا فتصبح هماً يشغلنا عن العمل هماً يحولنا إلى أناس محطمين، ويبدد الأعمال فهذا من الانشغال بالقول عن العمل.

تدافع الأدوار والمسئوليات

تدافع الأدوار والمسئوليات الصورة الحادية عشرة من الإخلال بالعمل: تدافع الأدوار والمسئوليات، وإلقاء التبعات على الآخرين، وهي صورة يكثر الحديث عنها ولا أريد الإفاضة فيها، لكني أقول في هذه العجالة: يحق لموظف يعمل لأجل أن يتسلم الراتب أن يقول: إن إنجاز هذا العمل من مهمة فلان يحق له أن يقول: إن هذا ليس شأني بل هو من اختصاص فلان يحق لعامل بناء مثلاً أو عامل في شركة أن يتحدث بهذا المنطق، أما الدعاة إلى الله عز وجل أما الذين يسابقون إلى الخيرات أما الذين يعملون لله فيجب أن يكون لهم منطق آخر ولغة أخرى. كم نحتاج أيها الإخوة إلى ذلك الصنف من الناس الذي همه العمل، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، ذاك الصنف الذي يعمل على كل الأحوال في السراء والضراء ذاك الصنف الذي يعمل مع المشاكل مع العقبات، يعمل بهدوء وصمت ويتكيف مع الظروف أياً كانت كما يقول المثل العامي: يمد رجله على قدر لحافه.

صور مشرقة

صور مشرقة حتى لا يكون حديثنا متشائماً، وحتى نضع الأمل المشرق أمام الراغبين في الاستجابة في الدعوة للعمل، فلنعرج في هذه العجالة للإشارة لبعض العناصر الفعالة والنماذج الجادة العاملة: ذلك الشاب الذي ثنى ركبته في بيت من بيوت الله ليعلم أبناء المسلمين كتاب الله عز وجل، في حين يعيش أقرانه جلسات الانبساط والحديث المتبادل صورة مشرقة من صور العمل الفعال. وذاك الذي أخذ على عاتقه تربية النشء ومصاحبتهم والتوجه لكل مؤامرات الأعداء التي تسعى إلى غمس الشباب في مستنقع الرذيلة، إنها أيضاً هي الأخرى صورة مشرقة من صور العمل. والآخر الذي تصدى لإنكار المنكرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار ليله في الأسواق أو في مراكز الاحتفال متحملاً الأذى والمضايقة والمؤامرات، بل حتى والامتناع عن حضور هذه المجالس حيث لا تتيسر له، وقبل يومين كنت أتحدث مع أحدهم فصار يحدثني عن موضوع هذه المحاضرة ويقول: إنه لن يتيسر لي حضورها؛ لأني منشغل بهذا العمل وهذا الميدان، فقلت: لا يعنينا حضورك فأنت من العاملين ولست بحاجة إلى أن ندعوك إلى العمل. والرابع: الذي رق قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية فصار ينفق على المحتاجين فيقوم على شئونهم ورعايتهم في المبرات الخيرية أو الجمعيات الاجتماعية التي تسهر على رعاية حال أولئك، أو الذي يجعل نفسه رهن الإشارة أمام الدعاة والعلماء والمصلحين ولسان حاله أو قاله: أنتظر الأمر والتوجيه فأنا في الطوع وفي السمع والتنفيذ. ولا ننسى بعد ذلك الشاب الذي اختار الغربة والبعد عن العشيرة والأهل ليعمل في منطقة نائية محتسباً لله عز وجل، فلله دره كلما رأيناه تذكرنا التضحية تذكرنا الصدق تذكرنا العزيمة الجادة تذكرنا مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وغيرهم من أولئك الذين كانوا يغتربون في الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى. إنها أيها الإخوة! صور كثيرة مشرقة من صور أولئك العاملين، فهاهو الميدان أمامك وإن شئت فاقرأ تاريخ الأنبياء والدعاة والمصلحين تاريخ سلف هذه الأمة، وإن شئت فانظر إلى هذه النماذج التي تراها بعينيك فترى هذه النماذج الفعالة العاملة إنها كلها تقول بلسان حالها: هيت لك إلى الميدان إلى العمل كلها تدعوك بلسان الحال والقال إلى العمل الجاد والمنتج.

ألم نتجاوز هذه المراحل

ألم نتجاوز هذه المراحل وأخيراً: ألم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ هل بعد ذلك كله؛ بعد هذه النصوص الشرعية، وبعد هذه الجهود المتضافرة والنداءات المتعالية هنا وهناك في ضرورة العمل والمشاركة والمساهمة؛ هل بقي أحد يفكر بهذه العقلية التي تقول: إن المهمة مهمة الدعاة مهمة العلماء، إن الواقع أكبر من أن يغيره أنا وأمثالي إنني مقصر لا أملك القدرة ولا العلم ولا التقوى! أم هل بقي من يقول: إن مجتمعنا بخير وإن الخطأ لم يسلم منه مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، والكمال لا يمكن أن يصل إليه بشر؟ أم لا يزال هناك من يفكر في جيبه لا غير في الأرض والمسكن والوظيفة والعلاوة والشهادة، ولسان حاله لسان عبد المطلب الذي يرى الهجوم الكاسح على بيت الله عز وجل من الطاغية أبرهة فيقول: أنا رب هذه الإبل وللبيت رب يحميه. إننا نجد الكثير ممن يتكلم بلسان عبد المطلب وإن كان ليس على دينه فيقول: مالي شهادتي وظيفتي حياتي الفانية والدعوة لها الله ينصرها لها من يتصدى لها، ألم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ وهل بقي أيها الإخوة! فينا بعد كل هذه الجهود بعد هذه النداءات المتوالية، وبعد هذه الحرب على هذا الدين وعلى هذه الدعوة؛ هل بقي فينا من يفكر بهذه العقلية؟ أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

وضع جدول يمشي عليه الشاب

وضع جدول يمشي عليه الشاب Q هل من الجدية في العمل وضع جدول يمشي عليه الشاب، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A الرجل العامل ليس بحاجة إلى أن يوضع له برنامج معين يسير عليه، صحيح أنه يحتاج إلى إضاءات يحتاج إلى إرشادات يحتاج إلى توجيه يحتاج إلى أن يقال له: هذا الميدان منتج، وهذا جربه فلان فأنتج، وهذا الميدان نافع، لكن أن ينتظر فقط مجرد التوجيه فهذا شيء آخر، فهذا التوجيه أو هذه البرامج أو هذه المقترحات إنما تنتج وتنمو مع الإنسان الذي هو جاد أصلاً الذي هو عامل أصلاً لكنه بحاجة إلى من يفتح أمامه مزيداً من الأبواب ومزيداً من المجالات. فنحن يجب أن نتربى أيها الإخوة على العمل وعلى المبادرة، وأن يكون العمل هماً لنا، وهاجساً لنا نسعى إليه ونشعر أنه هو الهدف الوحيد الذي نتطلع إليه ولا ننتظر من الآخرين أن يقدموا لنا برامج أو مقترحات، بعد ذلك حين نعمل يمكن أن نستفيد من البرامج والجداول والمقترحات وما أكثر الاقتراحات وأكثر البرامج التي تطرح لكن ما أقل العمل.

العلاقة بين العمل وغزارة العلم

العلاقة بين العمل وغزارة العلم Q نرجو من فضيلتكم ضرب الأمثلة عن أقل العمل والتعرض لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) حيث إن العمل لا يحتاج إلى غزارة العلم، بل الجميع مطالب بالعمل قل أم كثر علمه! A تحدثنا أو أشرنا إلى هذه القضية في درس سابق كان بعنوان: كلانا على خير! فجميع الناس يمكن أن يعمل ويمكن أن يساهم، صحيح أن التصدي للدعوة العامة للناس لا يمكن أن تكون إلا لمن يملك قدراً من العلم يؤهله لذلك، الذي يتصدى لقيادة دعوة وتوجيهها هم أهل العلم، أما ما سوى ذلك فالميدان مفتوح أمام الجميع مفتوح أمام كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله أن يشارك بكل ما يملك، وما أظن أحداً يعجز أن يقول كلمة طيبة أو نصيحة أو أن يهدي شريطاً أو كتاباً، أو أن يؤيد داعية من الدعاة إلى الله عز وجل، أو أن يذب عن عرضه، إنها أعمال كثيرة وقائمة طويلة من الجهود والأعمال تنتظر أولئك الذين لا يملكون قدراً من العلم، والذين لا يملكون فصاحةً وبياناً وبلاغةً لكنها بحاجة إلى رجل يحمل إرادة العمل وهم العمل.

بقاء المدرس في مدرسته مع المضايقة أفضل من الانتقال

بقاء المدرس في مدرسته مع المضايقة أفضل من الانتقال Q ماذا يفعل المدرس في مدرسة ما وهو يواجه تضييقاً من إدارة المدرسة حول ما يقوم به من أعمال لخدمة الدين، أليس من الأفضل أن ينتقل إلى مدرسة أخرى بحيث يقيض الله لهذه المدرسة مدرساً آخر يكون مفتاح قلوبهم على يده؟ A المفروض أن يبقى ويلزم هذا الميدان، صحيح أنه قد ينتج إنتاجاً ضعيفاً؛ لكن من لهؤلاء البقية في هذا الميدان، وليس بالضرورة أن يكون إنتاج الإنسان في مدرسة مرتبطاً بنشاط مدرسي، هذا لا شك جزء من الأعمال المنتجة والمهمة؛ لكن المدرس يدخل الفصل ويتحدث مع الطلاب ولا يملك أحد أبداً أن يحاصر حديثه، ولسنا بحاجة إلى مدرس يوقع نفسه والآخرين في إحراجات، نحن بحاجة إلى إنسان يخوف الناس بالله عز وجل أن يعظهم ويذكرهم بالدار الآخرة أن يعالج المشاكل التي يعانون منها مشاكل الشهوات الصارخة أمامهم مشاكل عدم وضوح الطريق، أقول: يمكن أن يؤدي من خلال فصله التوجيه في الفصل مع الطلاب من خلال المنهج الدراسي وغيره أن يوجه الطلاب بالكلمة الصادقة أن يدعوهم إلى حسن الخلق أن يذكرهم بالله عز وجل ويخوفهم منه، هذا جزء لا يتجزأ من الدعوة التي نريد. وعندما نتحدث عن الدعوة فليس بالضرورة أن تكون الدعوة تلك المواقف التي فيها مواجهة، أو فيها إنكار لمنكرات ظاهرة أو غيرها، قد تكون هذه جزءاً من الدعوة وهي تطلب من أشخاص معينين، أو في مواقف معينة فيما يحقق المصلحة ولا يترتب عليه مفاسد، أما الخط العام في الدعوة إلى دين الله عز وجل فهي دعوة إلى دين الله بكل ما يحمله هذا الدين، فهل يعجز المدرس عن أداء مثل هذه الأدوار؟ لا يمكن، حتى ولو حوصر في فصله أو ضويق، فيجب أن ندعو ونعمل على قدر الموقع الذي نحن فيه. وإذا كنت أنت ستنسحب والثاني والثالث فمن يبقى لهؤلاء؟ وأنا بصراحة أقول: إن الرجل الذي ينتظر الأدوار أن تفتح له الأبواب قد يكون رجلاً مستوى الجدية عنده منخفض، ومستوى العزيمة والإصرار عنده منخفض. يا أخي! أنبياء الله عز وجل كانوا يواجهون ما واجهوا من المضايقة والمحاصرة، والمحاصرة الإعلامية، والمحاصرة الجسدية، ومحاصرة كل ما يقول من كلمة والمضايقة والأذى، ومع ذلك واجهوا وعملوا، ولم يقولوا: قد قطعنا الإياس في شأن أقوامنا.

مراجع درس التربية الجادة

مراجع درس التربية الجادة Q طرحت في إحدى دروسك المفيدة درس: التربية الجادة؛ ولأهمية الموضوع ولبعض زملائي أود أن تدلني على المراجع التي تفيد عن ذلك الموضوع. A في النية إن شاء الله نشر هذا الموضوع وبعض الموضوعات الأخرى، فلعله يتيسر، لكن يمكن أن أحيل للأخ إلى قراءة سير الدعاة والمصلحين، فهي نموذج من السير التي تشعر الإنسان بالنماذج الجادة التي تساهم في إفادته، ولعل من المراجع القيمة في ذلك كتاب: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لـ عبد الفتاح أبو غدة؛ لكن يجب أن يحذر القارئ لأن فيه بعض الهنات الخلفية، فهو يثني أحياناً على بعض المتصوفة، أو على بعض من ترك الزواج لأجل العلم، إلى غير ذلك من الهفوات التي لا تخفى على اللبيب، وإذا كان الشاب مبتدئاً في طلب العلم فالأنسب أن لا يقرأه، لكن إذا كان قد قطع مرحلة فيقرأ ويستطيع أن يدرك ما فيه من هنات أو أخطاء، وإن قرأه على من يبين له ما فيه من أخطاء فلا بأس؛ لأن الكتاب جمع فيه مواقف جيدة ونماذج من صبر العلماء على التحصيل والشدائد. وأيضاً الكتب التي تحدثت عن إنكار العلماء للمنكرات ودعوتهم سواء كانت كتباً فردية عن دعوة عالم بعينه أو كانت عامة، والسير والتراجم التي ترجمت العلماء أيضاً حافلة بذلك.

صحبة الشاب للأخيار خير له ولو لم يتأثر بهم

صحبة الشاب للأخيار خير له ولو لم يتأثر بهم Q لي أخ يذهب مع بعض الأخيار وله أكثر من سنة ولكني لم أجد عليه أي تأثر بهم، فهو يمشي معهم أو مع بعض أقاربه أو مع أبناء الجيران وإن كان لديهم لعب أو لهو، وحاولنا أن يقتصر على الأخيار فقط ولكن دون فائدة، فما توجيهكم؟ A أن يستمر ولا حرج، نفترض أنه الآن يصاحب الأخيار أو يصاحب غيرهم، صحيح أنه لا يستفيد لكن استمراره معهم فيه خير كبير فإنه سيحافظ على الأقل على مستوى معين من الالتزام لو كان لم يجلس مع هؤلاء الأخيار فلن يبقى، ولو وضعنا أمامه خياراً إما أن تختار هؤلاء وحدهم أو أولئك وحدهم فقد ينحرف وينجرف إلى أصحاب السوء جملة واحدة، فمهما كان فهو على خير، ولعل الله عز وجل أن يفتح على قلبه فيجب أن يواصل معهم ولو كنا لا ندرك عليه أثراً واستفادة فلعله أن يستفيد فيما يستقبل من الأمر ولا نستعجل النتائج.

إقناع الناس بالعمل وأهميته في الدين

إقناع الناس بالعمل وأهميته في الدين Q إن لي صديقاً أقضي معظم وقتي معه ولا يخلو وقتي معه من فائدة، ولكن عندما أعرض عليه المشاركة في أنشطة مع مجموعة من الشباب لا أجد منه حماساً مثلي، وربما كان أفضل مني، فما السبيل في محاولة إشراكه في مثل هذه الأنشطة الخيرة؟ A السبيل أن نقنع الناس بأنهم يحتاجون إلى العمل حتى تبرأ ذممهم من هذا الواجب الشرعي الذي فرضه الله عز وجل على الناس من الدعوة لدين الله سبحانه وتعالى ونشر الخير ونشر الدين. أيضاً: أن أمتهم ومجتمعهم بحاجة إلى مثل هذه المشاركة، ثم أيضاً إقناعه بالأجر العظيم الذي يترتب على المشاركة في مثل هذه الأعمال الخيرة وهذه الجهود الدعوية المثمرة، وأيضاً إقناعه بشؤم التخلي عن هذه الأدوار وما يجنيه من تخلى عنها وأعرض عنها إلى غير ذلك من وسائل الإقناع والمناصحة فلعلها أن تجد في قلبه مكاناً ولعلها أن تجد في قلبه أثراً. في ختام هذا المجلس المبارك نسأل الله سبحانه وتعالى ونتوجه إليه ونحن في بيت من بيوت الله عز وجل قد اجتمعنا على مجلس من مجالس العلم ومجالس الذكر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون من المجالس التي تحفها الملائكة، نسأله سبحانه وتعالى ونتوجه إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يكتب العز والتمكين لهذه الدعوة المباركة ولأولياء الله عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرحم إخواننا الذين كانوا يشاركوننا وتخطفتهم المنية ولم نعد نراهم في هذه المجالس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهم وأن يتجاوز عن سيئاتهم، وأن يرفع حسناتهم، نسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم، وأن يرفع درجاتهم في المهديين، وأن يخلفهم في عقبهم في الغابرين إنه سميع مجيب، وأن يمن على المرضى منهم بالشفاء العاجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته ودار كرامته كما اجتمعنا جميعاً في هذه الدنيا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

يا أبت

يا أبت تربية الأبناء أمر مهم حثنا عليه الشرع الحنيف، وتحثنا عليه الفطرة السليمة، وتحثنا عليه عاطفة الأبوة؛ حتى لا يضيع الأبناء، وحتى لا يقعوا في شرك إبليس. وأساليب التربية كثيرة، لكن كثير من الناس يظن أن التربية هي حمل العصا، والضرب المبرح فقط، وهذا غير صحيح، فالأبناء تختلف طباعهم؛ فمنهم من ينفع معه الضرب والمؤدِّب، ومنهم من تنفع معه المجادلة والمناقشة، ومنهم من تنفع معه العاطفة واللين. فعلى الآباء أن يكونوا فطناء للتنبه لما ينفع أبناءهم.

أساليب تربية الأبناء

أساليب تربية الأبناء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان هذا الدرس: يا أبت، وهو الدرس السادس عشر من هذه الدروس التربوية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة. اعتدنا أن نسمع كثيراً -معشر الإخوة- في مجالسنا أن أبناء هذا الزمان قد تغيروا، وأن أبناء هذا الزمان يختلفون عن سابقيهم، وقد كان الأبناء سابقاً كذا وكانوا كذا، لكننا لم نسمع يوماً من الأيام أن آباء هذا الزمان قد تغيروا، ولست أريد أن أستبق الأحداث فأصدر حكماً: من الذي يتحمل المسئولية الكبرى والأساس، ولكن لا أشك أنه من الظلم ومن المجازفة ومجانبة العدل: أن نتحدث عن الأبناء، وعن تغير الأبناء، وعن تغير شباب هذا الزمان، الذين تغيرت أخلاقهم وعباداتهم، ولم يستطيعوا أن يتعاملوا مع الناس، وصاروا يميلون إلى اللهو واللعب إلى غير ذلك من هذا الكلام الذي يردد كثيراً في المجالس، لكننا نحتاج -ومعذرة- إلى أن نقول: آباء هذا الزمان قد تغيروا أيضاً. وها هنا وقفات قبل أن نبدأ هذا الحديث: أولاً: إن الحديث عن الآباء لا يعني أن نضعهم في قفص الاتهام أو قاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إنما القضية ابتداءً وانتهاءً محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوىً أعلى في التربية. ثانياً: لن نتحدث في هذه الدقائق عن نظرية تربوية شاملة، ولا عن أسس تربية الابن؛ لأن هذا قد يضيق عنه هذا الوقت، ولن نتحدث عن أهمية تربية الأبناء فهي مرحلة أحسب أنا قد تجاوزناها، أو أن الكثير قد تجاوزها، وصارت الحاجة إلى معالجة أساليب التربية والغوص فيها، فقد أدرك الجميع من جراء أخطائهم أو من جراء ما يسمعون ضرورة التربية وأهمية تربية الأبناء، إنما المقصود في هذه المحاضرة هو إلقاء الضوء على بعض التصرفات الخاطئة التي تقع من الآباء تجاه أبنائهم. ثالثاً: الكثير من الآباء يدرك مسئولية التربية، وخطورة إهمال الابن، ومصطلح تربية الأبناء مصطلح واضح له دلالة محددة عند الجميع، وإن كانوا يختلفون في فهمها، وإن كانوا يختلفون في تفسيرها، وإن ما ينبغي أن نعيده هنا أن مجرد إدراك أهمية تربية الأبناء، أو ضرورة تربية الأبناء لا يعني بالضرورة الوصول إلى الطريق الصحيح، ولا حتى إلى جزء من الطريق الصحيح، فكم نرى ممن يمارس قتل المعاني التربوية في ابنه، ويقتل شخصية ابنه بكل ما فيها، بل نراه يكون سبباً مباشراً في انحراف ابنه وغوايته، كل هذا بحجة التربية، وأن التربية تقتضي ذلك. رابعاً: إن هذا الحديث لا يعني أن الأب هو وحده المسئول الأول والأخير، ولا يعني كذلك أن نقف موقف المحامي عن الابن، وإنما الأب بدون شك يتحمل جزءاً من المسئولية، ولا يعني أيضاً كونه لا يعنينا من الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية: أهو الأب أم هو الابن؟ وهي قضية أحسب أنها قضية جدلية فلسفية أكثر من أن تكون قضية عملية. ونحن ينبغي أن نكون عمليين، وأن نطرح ما نحتاج إليه، فالنقاش الطويل فيمن الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية أهو الأب أم الابن؟ أتصور أنه نقاش جدلي فلسفي لن يترتب عليه كثير عمل، وإنما السؤال الذي يجب أن نطرحه ونطرحه بجد ووضوح هو: ما الأخطاء التي يقع فيها الآباء؟ وما الأخطاء التي يقع فيها الأبناء؟ وما الدور المرتقب من الآباء والدور المرتقب من الأبناء؟ أتصور أن مثل هذا الطرح لهذا السؤال هو الذي قد يوصلنا إلى نتيجة عملية، وخطوة إيجابية. خامساً: إن حديثنا هنا لا يعني أن هذا شأن الجميع، وأسلوب الكافة، بل هناك من يجيد التربية، ويحسن التوجيه، وهو مثال للأب الواعي. سادساً: سرد هذه الأخطاء لا يعني أيضاً أن كل أب يحوي هذه الأخطاء جميعاً، فالأول له نصيب من هذا الخطأ، والثاني له نصيب آخر، والثالث كذلك، وهم بين مستقل ومستكثر، بل لعل هذه الأخطاء قد لا تجتمع في أب واحد، ومن ثم فإنك أخي الأب حين تعرض هذه القائمة على نفسك، فتفتقد منها عناصر كثيرة، لا يعني بالضرورة أنك قد بلغت الغاية في التربية، فافتقاد عنصر أو آخر أو ثالث أو رابع غاية ما فيه أنها عقبة اجتزتها وتجاوزتها، وبقيت أمامك عقبات عدة. وكمحاولة للتجديد في صياغة الموضوع أردت أن أصوغ الموضوع على شكل رسالة يبعثها ابن إلى أبيه، ويحدثه عن بعض الأخطاء التربوية التي يرى أن والده كان يقع فيها تجاهه، ويبدأ الابن رسالته كالتالي، وأقول قبل أن أبدأ الرسالة: إنني عندما أتحدث هذا الحديث فإنها ليست رسالة أوجهها إلى أبي رحمه الله؛ فقد فقدته صغيراً، ولو رأيته لما عرفته، فلا يعني هذا الحديث أني أوجه الرسالة إلى أبي، أسأل الله أن يغفر له ويرحمه، ويعينني على ما بقي من بره، إنما أتخيل ابناً من الأبناء، أو شاباً من الشباب يريد أن يبعث رسالة إلى والده يحدثه فيها عن بعض الأخطاء التربوية:

نصح الابن لأبيه لا يعد عقوقا ولا تعديا

نصح الابن لأبيه لا يعد عقوقاً ولا تعدياً يا أبت! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله علينا وعليكم نعمة الإسلام والصحة والعافية، أحييك يا أبت! بتحية أهل الإسلام، تحية المحبة والمودة، تحية من لهج قلبه بالتوقير والحب لك، ولسانه بالثناء عليك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. يا أبت! أذكرك مع إشراقة كل شمس وغروبها، أذكرك مع إقبال الليل وإدبار النهار، حين أسافر وحين أقيم، حين أحل وحين أرتحل، فمحياك لا يفارق ناظري، وذكراك لا تزول عن خاطري. يا أبت! كم هي عظيمة آلاؤك علي، وكم هو جميل إحسانك إلي، ولن أستطيع إحصاء أفضالك، أو عد محاسنك، فأنت الذي تفتحت عيني على رؤياك، وتحملت المشاق من أجلي. يا أبت! لقد قرأت في كتاب الله عز وجل حواراً بين إبراهيم وأبيه، وفي كل كلمة يقولها لأبيه يصدرها بقوله: يا أبت! فأحببت أن يكون هذا عنوان رسالتي إليك: يا أبت! {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:41 - 48]. ومعاذ الله يا أبت! أن أضع نفسي موضع إبراهيم، وأضعك موضع أبيه، أو أن أتحول إلى موجه لك ومعلم. يا أبت! لقد عشت مرحلة من العمر مضت بما فيها، مرحلة غفوة وصبوة، ثم منّ الله علي بالهداية، وجلست طويلاً أفكر تفكيراً طويلاً فيما مضى وأعانيه؛ فقررت بعد طول تفكير، وجزمت بعد طول تردد، أن أسطر لك هذه الرسالة؛ لأتحدث معك بكل صراحة، وأخاطبك بكل وضوح، فأصارحك ببعض ما أرى أنه كان لا ينبغي تجاهي من أساليب تربوية، وأنا أجزم بإذن الله أنك قادر على تجاوز هذه الأخطاء تجاهي أولاً، وتجاه إخوتي ثانياً. إن المصارحة ضرورة يا أبت! والتهرب من الواقع لن يجني ثماره غيرنا. يا أبت! لا يَدُرْ في بالك أبداً أن ما أذكره هو عنوان نقص قدرك لدي، أو دليل ضعف محبتك عندي، أو مبادئ عقوق حاشا لله! وإني وحين أسطر هذه السطور لازلت أدعو لك في صلاتي، وما تركت موطناً أتحين فيه الإجابة، وأظن أنه من مواطن الإجابة إلا خصصتك فيه بدعوة خالصة صادقة، ولا زال لساني يفيض بالثناء عليك، والاعتراف بالجميل، أسأل الله أن يعينني على برك وأداء حقك. وقد تطول فصول هذه الرسالة يا أبت! لكن ذلك خير من أن تطول فصول المعاناة، وسيكثر سرد الأخطاء، لكن ذلك أولى بحال من أن يكثر الندم والتحسر على الإهمال.

أهمية تربية الأبناء، وخطورة إهمالهم

أهمية تربية الأبناء، وخطورة إهمالهم هكذا شأن التربية: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. فيخاطبنا الله يا أبت! أن نساهم في وقاية أنفسنا ووقاية أهلينا من عذاب الله عز وجل، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته). ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: حافظوا على أبنائكم بالصلاة، وعودوهم الخير؛ فإن الخير عادة. يقول ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. قال علي بن أبي طالب: علموهم وأدبوهم. فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدىً؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً. كما عاتب بعضهم على العقوق فقال: يا أبت! عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. وقال الغزالي: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم والوالي عليه، وإلى هذا أشار أبو العلاء في قوله: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوهُ وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوهُ وها هو ابن باديس يا أبت! يقول: إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً. فهكذا نشأ الرجال، وهكذا خرج المصلحون يا أبت!

تربية الأبناء على معرفة الأهداف الأساسية في الحياة

تربية الأبناء على معرفة الأهداف الأساسية في الحياة هدف الحياة: كثيراً ما تحدثني يا أبت! حديثاً مستفيضاً عن المستقبل، حديثاً ألمس منه الحرص وحرارة العاطفة: ابني! اجتهد في دراستك؛ لتتفوق بإذن الله، فتحصل على الشهادة العالية، والوظيفة المناسبة لقد كنت تحدثني عن النجاح، وعن بناء المنزل، وعن الزواج، وعن الأولاد، وعن الوظيفة، حتى اختزلت أهداف الحياة لتصبح هذا الهدف الوحيد والمراد الأهم والأساس، لكني يا أبت! لم أسمع منك يوماً من الأيام حديثاً عن دوري في الحياة، ولم أسمع منك يا أبت! هذه الكلمة: يا بني! اجتهد؛ لتكون أهلاً لأن تخدم أمتك، وتساهم في نصرة دينك، يا بني! لقد ابتعد الناس عن شرع الله، وأعرضوا عن معينه الصافي، فالأمل فيك يا بني! أن تعد نفسك، وتبني ذاتك؛ لتكون أهلاً للمشاركة في إنقاذ الأمة. لطالما تمنيت يا أبت! أن أسمع منك هذه الكلمة، لكني لم أسمعها منك ولو مرة واحدة، ألا ترى يا أبت! أن هدف الحياة أعلى وأسمى من مجرد حطام الدنيا الفاني، ويؤسفني يا أبت! أن أقول: إني نشأت وترعرعت والدنيا أكبر همي، فلأجلها أدرس وأتعلم وأعمل، وحتى طلب العلم الذي أسلكه غرست في نفسي أنه وسيلة لتحصيل الحياة الدنيا. لقد حفظت يا أبت! مما حفظته في (عمدة الأحكام) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله)، لقد كان الهدف عند نبينا سليمان عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم أن يخرج شباباً وأبناءً يجاهدون في سبيل الله عز وجل.

خطورة إهمال تربية الأبناء

خطورة إهمال تربية الأبناء الإهمال: ألا تشعر يا أبت! أن واجب التربية يفرض على المربي المتابعة لابنه، ومعرفة مدخله ومخرجه، فما نصيبك أنت يا أبت من ذلك؟ إنك لا تعرف أحداً من أصدقائي اللهم إلا عن طريق الصدفة، وأما أين أذهب؟ وكيف نقضي أوقاتنا؟ وماذا نمارس؟ فهذا ما لا تعلم عنه شيئاً. إن هذا السلوك التربوي والذي يكون دافعه الإهمال، أو الثقة المفرطة أحياناً، إن هذا السلوك يريح الابن، ويفتح له الباب على مصراعيه، ولكن نهايته يا أبت! لن تكون محمودة العاقبة، ولا مطمئنة النهاية، إنني حين أدعوك يا أبت! إلى المتابعة والملاحظة فلست أدعوك إلى أن تكون كوالد زميلي في الفصل، والذي يحدثني عن نفسه يا أبت! أن والده يفرض عليه رقابة صارمة، فلا يسمح له بالخروج من المنزل، ويشك في تصرفاته، ولابد أن يراه في المسجد وإلا فهذا يعني أنه لم يؤد الصلاة، ويقوم بتفتيش غرفته الخاصة، وأحياناً يتنصت على مكالماته الهاتفية، وتصور يا أبت! أنه قد قام بقياس المسافة بين منزله وبين المدرسة؛ ليعرف هل سار بسيارته إلى شيء آخر. إن هذا الأسلوب يا أبت! يخرج ابناً محطماً لا يثق بنفسه، ولا يتعامل مع الآخرين، وحين تتاح له الفرصة فسينطلق دون قيد أو وازع، فحين ينتقل إلى الجامعة ويجاوز القرية فسينفتح على عالم لن يجيد التعامل معه، بل افترض أن والده قد مات، فماذا ستكون حاله بعد ذلك؟ فالتوسط هو سنة الله في الحياة يا أبت! فالإهمال أمر مرفوض، والرقابة الصارمة والقسوة هي الأخرى مرفوضة كذلك.

الاهتمام بمعرفة من يصاحب الابن

الاهتمام بمعرفة من يصاحب الابن مفهوم الصداقة: جليس السوء كنافخ الكير كما شبهه صلى الله عليه وسلم، وليس من وصف أبلغ من هذا الوصف، لقد كنت يا أبت! تنهاني فعلاً عن جليس السوء، لكني اكتشفت فيما بعد أن مفهوم جليس السوء يحتاج إلى تحرير وتحديد، لقد سألتني عن صديقي محمد، فقلت لك: إنه ابن فلان، فقلت: نعم الرجل والده! فقد كان صاحباً لي وخيِّراً، وكأني يا أبت! سوف أصاحب والده، ومحمد يا أبت! من أسوأ الشباب الذين صحبتهم، وأبناء خالي كانوا لا يقلون عنه سوءاً، فقد كان لهم عظيم الأثر علي في مقتبل حياتي، ومع ذلك فقد كانت قرابتهم هي المؤهل الوحيد لديك لتزكيتهم، إن القرابة يا أبت! ومعرفة والد الصديق ليست معياراً في صلاحه، ولا مؤهلاً في أن ترضاه صديقاً وجليساً لي.

عدم الإتيان للأولاد بما يضرهم بدون قيد ولا متابعة

عدم الإتيان للأولاد بما يضرهم بدون قيد ولا متابعة السيارة: يا أبت! لا أنسى ذلك اليوم الذي سلمتني فيه مفتاح السيارة، ومعه بعض الوصايا العاجلة، لقد فرحت بها، وقدرت لك الموقف في حينه، وكنت أقدم لك ما يرضيك للحصول على هذا المطلب، وبعد أن تقدم بي العمر اكتشفت يا أبت! أنه كان الأولى أن يتأخر هذا القرار، معذرة يا أبت! إن قلت لك: إنك اشتريت السيارة استجابة لضغط أمي وإلحاحها أولاً، وثانياً: لأكفيك أمور المنزل وحاجة الأهل. إن من حقك يا أبت! أن تبحث عما يرضي ابنك، ومن حقك تجاه ابنك وواجبه نحوك أن يكفيك مؤنة المنزل وأعباءه، ولكن ذلك كله يا أبت! ينبغي ألا يكون على حساب التربية. نعم، أقولها يا أبت! وبكل أسف: لقد كنت قبل أن يهديني الله أذهب بسيارتي إلى حيث ما لا يرضي الله دون أن يعلم أبي أين أذهب، أو حتى والدتي، ومع اعترافي يا أبت! بأني أتحمل الجزء الأكبر من المسئولية، إلا أني اعتقد أن من أعطاني السيارة في ذلك الوقت يتحمل جزءاً لا يقل عما أتحمله أنا.

التحذير من وسائل اللهو المضرة

التحذير من وسائل اللهو المضرة وسائل اللهو: يا أبت! من الذي أحضر جهاز التلفاز في البيت، وبعده جهاز الفيديو، وأخيراً صحن الاستقبال؟ ومن الذي سمح لي باقتناء المجلات الهابطة والأغاني الساقطة، أليس أبي؟ ويطالبني بعد ذلك بالاتزان، وبالجد في الدراسة والتفرغ لها، وقد تاه قلبي في أودية وشعاب أخرى لا تخفى عليك يا أبت! ألا ترى أن الأولى يا أبت! هو ذكر مساوئ هذه الأجهزة، والتحذير منها، والنهي عنها، بدلاً من تأمينها، أو السماح باقتنائها؟

الاهتمام بالصلوات وخصوصا صلاة الفجر

الاهتمام بالصلوات وخصوصاً صلاة الفجر الدراسة وصلاة الفجر: لقد حفظت يا أبت! من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتخلف عنها إلا منافق)، وأبي يوقظني لصلاة الفجر أحياناً، ولكنه لا يزيد على أن يوقظني بكلمة واحدة ثم ينصرف، وكم من مرة تخلفت عن الصلاة فلم أسمع منه كلمة عتاب، وأما الإجازة فأنت تعلم متى كنت أصلي صلاة الفجر فيها، وأما حين تخلفت يا أبت! عن الدراسة فتعلم ماذا صنعت معي، أترضى يا أبت! أن يقول الناس عنك: إن الصلاة أقل شأناً وأهون قدراً لديك من الدراسة وأمور الدنيا؟ اسمح لي يا أبت! إن قلتُ: إن صنيعك يشعر الناس بذلك، وكم كنت أتمنى أن تصنع كما يصنع والد جارنا محمد، فهو يحدثني عن والده حيث كان يوقظه ويصطحبه معه للمسجد سوياً، وذات يوم لم يستيقظ فدعاه والده وقال له: أي بني! لقد تخلفت عن الصلاة وأنت تعلم شؤم ذلك وخطورته، وجدير بك يا بني! أن تسأل نفسك ما الذي دعاك لهذا العمل، فإن كان تأخرك في النوم، فلعلك من الغد أن تنام مبكراً، فإن أدركت السبب استطعت أن تصل إلى الحل والعلاج، أرجو أن تفكر ملياً يا أبت! في هذه التربية العالية التي أتمنى أن أكون قد تلقيتها.

ضرورة الجلوس مع الأبناء وحل مشاكلهم بحكمة ولين ولطف

ضرورة الجلوس مع الأبناء وحل مشاكلهم بحكمة ولين ولطف حين اكتشفت الشرارة: لا زال في خاطري وهاجسي يا أبت! موقفك حين اكتشفت أول مظهر من مظاهر الانحراف عند أخي، وكان ذلك بالطبع عن طريق الصدفة، وبعد وقت طويل، وأتذكر يا أبت كيف كان موقفك: كلمات لاذعة كالعادة، وتأنيب قاتل، وما هي إلا أيام وكأن شيئاً لم يكن، حتى استمرأ أخي ما هو عليه وألف الفساد. ما رأيك يا أبت! لو كان البديل أن جلست معه جلسة خاصة، وفتحت له قلبك، وسألته المصارحة: ما السبب؟ ومتى؟ ولماذا؟ أتعرف عواقب هذا الطريق؟ وماذا أستطيع أن أعينك به؟ وهذا كله مع قدر من الحزم والجدية، ألا ترى أن هذا البديل قد يكون أنجع، وأن هذا الحل قد يكون أولى؟ التعليق: أعتقد يا أبت! أن التربية أبعد مدى من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لا نسمعها إلا بلغة أعلى في المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة، أليس من حقي يا أبت! عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة مفيدة، أو تعليم مسألة من مسائل العلم مما أحتاج إليه؟ لقد قرأت يا أبت! في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة، ووصيته الجامعة الفذة لابنه، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:13 - 19]. وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذه الوصية. يا أبت! أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) الحديث. وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر)، رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح. وهاهو محمد بن سعد رضي الله عنه قد ورث هذا المعنى من والده سعد، يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني! إنها شرف آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها. لا ترى يا أبت! ذكر ابن سحنون في كتابه (آداب المعلمين) عن القاضي الورع عيسى بن مسكين: أنه كان يقرئ بناته وحفيداته، قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه؛ ليعلمهن القرآن والعلم. وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة. لقد كان السلف يا أبت! يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم، ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم، روى الخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: ائت الفقهاء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث. وحين سافرت يا أبت! في رحلة مدرسية مع أستاذي عشت فيها جواً أستذكر طيفه، وأستعيد خياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة، والوصية من أستاذي، بلغة التعليم والتربية، مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف، ومما حفظته في المدرسة يا أبت! عود بنيك على الآداب في الصغر كي ما تقر بهم عيناك في الكبر فإنما مثل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر

ضرورة الاهتمام بتربية الأبناء، وترك أوهام أن ذلك يكون في الكبر

ضرورة الاهتمام بتربية الأبناء، وترك أوهام أن ذلك يكون في الكبر يصلح حين يكبر: حين كنت أقدم الشاي يوماً للضيوف، وأسمع بالطبع ما يدور بينكم من نقاش، كان يهمني بدرجة كبيرة؛ لأنه كان حديثاً يدور حولنا معشر الأبناء، وصدمت بتعليقك: يكبر حين يطفي، هكذا الشباب، قد كنا هكذا في الصغر حتى هدانا الله، وقلت في نفسي: نعم تقول: كنا كذلك؛ لأنك للأسف يا أبت! لا تعلم ماذا نصنع، ولا تدري ماذا نمارس، ولو علمت بذلك لكان لك منطق آخر ولغة أخرى. وقد تساءلت بمرارة يا أبت! عن هذا المنطق: يكبر حين يطفي، فمن يضمن لك ذاك؟ ولما لا يكون البديل أنه يزداد إيغالاً في السوء والانحراف حين يكبر؟ ثم هل تضمن له أن يكبر يا أبت؟ أتذكر قبل شهرين حين توفي اثنان من زملائي تغمدهم الله برحمته؟ وبعدهم بأسابيع توفي اثنان كذلك، فلم تتصور أن ابنك لن يكون كهؤلاء، فيتخطفه الأجل قبل الموعد الموهوم الذي تنتظر أن يتوب فيه؟

زرع الثقة المحمودة في الأبناء

زرع الثقة المحمودة في الأبناء أزمة الثقة: أجد يا أبت! فرقاً شاسعاً بين ما ألقاه منك من تعامل حين أكون مع الناس، وبين ما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا يا رسول الله! لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، فتله، أي: وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده). وروى الشيخان يا أبت! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: (من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع في نفس ابن عمر -يا أبت- أنها النخلة، وكان أصغر القوم، فاستحيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة)، فحين خرج مع أبيه قال له ما كان في نفسه، فقال له أبوه: لئن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا. لقد تجرأ ابن عمر يا أبت! أن يحدث أباه بما دار في نفسه، ولو كنت مكانه لما تجرأت على ذلك، وشجعه أبوه أن يقول هذا الكلمة، وفي الوقت نفسه لم يعاتبه على ألا يكون قالها. وكنت أقرأ في التاريخ يا أبت! عن سيرة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، والأرقم بن أبي الأرقم، وعلي بن أبي طالب وغيرهم من شباب الصحابة الذين كانت لهم أدوار محمودة في تاريخ أمتهم، وفكرت يوماً من الأيام أن أتطلع لأكون مثلهم وأقتدي بهم؛ لكني وجدت أن أبي قد رباني على أني لست مؤهلاً إلا لإيصال الأهل إلى السوق، وإحضار الخبز إلى المنزل، وحتى الفاكهة لست مؤهلاً لشرائها من السوق فضلاً عن الذبيحة وما فوق ذلك، ومع ذلك لست مؤهلاً لاستقبال الضيوف، أو الجلوس معهم إلا حين أقدم القهوة والشاي فقط، وعلي حين ذلك أن أعلن الصمت المطبق إلا ما يكون استفساراً عن أمر يصدر لي من والدي. ألا ترى يا أبت! أن هذا قد أدى إلى طمس الثقة بنفسي حتى أصبحت أشعر أني لست مؤهلاً لأي دور في الحياة؟!

الاعتناء بمشاعر الأبناء

الاعتناء بمشاعر الأبناء مشاعري غالية: أتذكر يا أبت! حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي وتعثرت في الطريق؛ أتذكر كلمات التأنيب أمام أعمامي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى ما لا ينساه المصفوع، وهل تتصور يا أبت! أنني أنسى حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي، وفي مجلس قريب من المجلس نفسه؛ فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لاقيته؟ وهل تريدني أن أنسى ذلك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟ بل أحياناً يا أبت! تحملني ما لا أحتمل، ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف، فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد، وعدت إليك، ألم يكن البديل يا أبت! عن التأنيب لي ولأمي الذي واجهته منك حينذاك، ألم يكن لك بديل عن هذا الأسلوب؟ أوليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لم ينته بعد، وهب أنه تأخر لدقائق معدودة فماذا في الأمر؟ أعتذر لك يا أبت! عن الاستطراد في هذه الأمثلة لأقول لك بعد ذلك: ألا تتصور أنني إنسان أحمل مشاعر، وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي؟ لقد حفظت يا أبت! مما حفظته في (عمدة الأحكام): أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأحد أصحابه حين أهدى له صيداً وهو محرم، فلما رأى ما في وجهه دعاه واعتذر له، وقال: (لم نرده عليك إلا لأنا حرم)، فقد كنا يا أبت! نحتاج منك إلى مثل هذه المراعاة لمشاعرنا.

ضرورة إعطاء الأهل والأبناء جزءا من الوقت لتربيتهم، والنظر في أمورهم

ضرورة إعطاء الأهل والأبناء جزءاً من الوقت لتربيتهم، والنظر في أمورهم أعطني جزءاً من وقتك: كم هما شخصيتان مختلفتان: شخصية أبي حين يكون مع أصحابه وزملائه، يتحدث وإياهم بكل انبساطة وسعة بال، وقد علته ابتسامة مشرقة. والشخصية الثانية لأبي نفسه حين يجلس معنا، فلا نراه إلا على وجبة الطعام، والسكوت قد خيم على الجميع، ولا يقطعه إلا الأوامر التي ترد منه تارة وتارة، وأما أن يصحبنا في نزهة، أو يباسطنا الحديث، أو يسأل عن أحوالنا فهذا ما لا يمكن. إنني حين أراك يا أبت! مع أقرانك يؤسفني أني أقول: إني أحدق النظر فيك وأعيده مرة أخرى: أهذا هو أبي فعلاً؟ لقد كنت أشعر يا أبت! أني يتيم حين حفظت في المدرسة قول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا يا أبت! اُقترح عليك أن تمسك ورقة وقلم وتسجل فيها كم ساعة تقضيها في العمل الرسمي من وقتك؟ ثم كم ساعة للراحة؟ وكم ساعة للزملاء؟ وكم ساعة لمشاغلك الخاصة؟ وأخيراً كم ساعة لتربية أبنائك؟ أخشى أن تجد إجابة مزعجة يا أبت! أخبرك عنها سلفاً؛ لأني أعرفك جيداً، ستجد أن وقت التربية إن استطعت أن تحسبه لا يمثل إلا نسبة تافهة من وقتك لا تستحق الذكر، أهكذا قدر التربية عندك يا أبت؟ ثم هل فكرت يا أبت! أن تقرأ كتاباً عن التربية وأسسها، أو تسمع شريطاً كذلك؟ أهكذا قدر أبنائك وقيمتهم لديك؟! يا أبت! لقد دعاني هذا الأسلوب إلى أن أمنح زملائي الثقة المفرطة، وأن استأمنهم على مشكلاتي، وأستشيرهم في أموري، وأستأمرهم في قراراتي، مع أنني أدرك أن أبي أكثر خبرة، وأصدق لهجة، وأعمق نصحاً من زملائي، ولكني لا أجد الوقت المناسب له لأفاتحه الحديث، ولو وجدت الوقت المناسب لكانت أمامي العقبة الآتية:

مصارحة الأبناء في حل مشاكلهم ومطالبهم

مصارحة الأبناء في حل مشاكلهم ومطالبهم المصارحة: لقد حدثتني نفسي أن أصارحك مرة يا أبت! ببعض مشكلاتي ومعاناتي حين كنت وإياك على مائدة الطعام، وقد سيطر عليك الصمت المطبق كالعادة، ولكني لم أستطع؛ لأني أعرف أن الجواب سيأتي قبل أن أكمل حديثي؛ لأني أعرف أني لن أعطى الفرصة للحديث، ناهيك عن أن تناقش مشكلتي بهدوء وتجرد، وبموضوعية بعيدة عن التشنج والغضب. يا أبت! ألا توافقني أن الابن يحتاج إلى أن يفتح الأب له صدره؛ حتى يفضي له بما يريد، ويشكو له مما يعاني، وأن لغة النقد والتشنج تقضي على كل حماسة من ابنه للمصارحة قد يدفعه إليها حرارة المشكلة؟

على الأب أن يكون واقعيا مع أبنائه

على الأب أن يكون واقعياً مع أبنائه الواقعية: كم مرة يا أبت! دعوتني وأنا خارج من المنزل لتكلفني بإيصال أهلي، أو إحضار طلب معين لك، فأخبرك أني على موعد مع أصحابي، فأطلب منك فرصة للاعتذار منهم على الأقل، أو أطلب تأخير طلبك لوقت آخر وهو قابل للتأخير، فلا ألقى منك إلا الزجر والتأنيب؟ يا أبت! لا شك أن من حقك ألا أتردد في تلبية أمرك، وألا أقدم عليك أحداً، لكن ألا توافقني يا أبت! أن لو كنت تعاملني بمرونة أكثر؛ فتخبرني بطلبك قبل وقت كافٍ، وتسألني عن الوقت المناسب لي، وتؤخر لي أحياناً ما يحتمل التأخير، ويبقى بعد ذلك قدر لا يتسع له هذا المجال يمكن أن أضحي فيه، وأما أن يكون هذا هو القاعدة فقديماً قيل: إذا أردت أن تطاع؛ فأمر بما يستطاع. ألا ترى يا أبت! أن هذا الأسلوب يشعرني بالتقدير والاحترام والثقة بالنفس، ويدعوني إلى أداء ما تطلبه بنفس راضية مطمئنة؟

تربية الأبناء على الخوف من الله وحده، وعلى الشجاعة لا الجبن

تربية الأبناء على الخوف من الله وحده، وعلى الشجاعة لا الجبن الخوف والجبن: إننا يا أبت! أمة رسالة، أمة جهاد في سبيل الله، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، (ومن لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق). لقد كان من حقي يا أبت! عليك أن تربي في الخوف من الله وحده، والانخلاع من خوف المخلوقين وخشيتهم، أترى يا أبت! أن أسلوب التخويف في الصغر من الهر، من اللص، من العفاريت، وربما من عامل النظافة، ولم يتغير هذا الأسلوب حين تقدم بي السن إلا في الأسلوب فقط، أترى يا أبت أن هذا الأسلوب يخرج شاباً مؤهلاً لحمل الرسالة، والجهاد في سبيل الله، والتضحية لأجله سبحانه؟ وهل تظن يا أبت! أنت وأمي أن مثل هذا سيخرج أمثال: خالد بن الوليد أو نور الدين، أو صلاح الدين؟ لقد كانت الشجاعة يا أبت! مضرب المثل عند العرب الأوائل، ويلقنونها لأبنائهم، ويعيرون بها من فقدها، فنحن يا أبت! ونحن أصحاب الرسالة أولى أن نتربى على الشجاعة، وعدم الخوف من المخلوقين.

كيفية معالجة أخطاء الأبناء

كيفية معالجة أخطاء الأبناء كيف يعالج الخطأ: الخطأ يا أبت! لا يخلو منه بشر، فهو صفة ملازمة للإنسان، فكيف بالشاب الصغير! ومن واجب الأب ولا شك أن يقوم بتصحيح أخطاء ابنه، والجميع ينتظر منه هذا الدور، ولكن ألا تشعر يا أبت! أن أسلوبك في معالجة الخطأ يحتاج إلى بعض المراجعة؟ فهل يسوغ ألا تترك صغيرة أو كبيرة، شاردة أو واردة، إلا واجهتني بها؟ ثم لماذا تعالج الأخطاء بالقسوة دائماً؟ كثيرة هي المرات يا أبت! التي أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، أو لوماً عنيفاً، أو صداً وإعراضاً، والسبب خطأ تافه لا يستحق الوقوف عنده، بل يا أبت! إن بعض المواقف لا أكتشف خطئي فيها، أو لا أقتنع أن ما فعلته خطأ فضلاً عن أن يصل إلى حد العقوبة. ما رأيك يا أبت! لو تم علاج الخطأ من خلال المناقشة الهادئة، والإشارة، والتلميح، والتغاضي عن بعض الأخطاء أحياناً، ألا تتصور يا أبت! أن هذا أولى؟ وبعد ذلك يمكن أن يبقى مجال لا ينفع فيه إلا التأنيب والتأديب. وأود أن تطرح على نفسك هذا التساؤل: ما المقصود من معالجة الخطأ: أهو الانتقام من الابن، أم هو إقناعه بترك الخطأ؟ ثم راجع بعد ذلك إسلوبك. أترى أن الأسلوب يخدم الهدف الأول أم الهدف الثاني؟ يؤسفني يا أبت! إن قلت لك: إنني مع يقيني أن مقصودك هو علاج الخطأ إلا أن أسلوبك يشعرني أن المقصود هو القصد الأول.

ليست القسوة دائما حلا لتربية الأولاد، ولا التدليل والإهمال، وإنما التوسط

ليست القسوة دائماً حلاً لتربية الأولاد، ولا التدليل والإهمال، وإنما التوسط القسوة: تصور يا أبت! أن بعض الآباء يسجن ابنه في دورة المياه أعزك الله، والآخر قد جهز غرفة في المنزل لسجن ابنه الذي يقع في الخطأ، والثالث قد أعد سلسلة من الحديد يربط بها ابنه حين يقع في الخطأ، إنها يا أبت! وقائع حق، وليست من نسج الخيال، وأما الضرب المبرح والقاسي فهو لا يخفى عليك، فهو سنة يمارسها الكثير من الآباء. إنك توافقني يا أبت! أن هذا السلوك ينتج ابناً عدوانياً متبلد الإحساس، ينظر إلى والده بنظرة الكراهية والاشمئزاز، ويتمنى فراقه بأي وسيلة ولو كانت الوفاة يا أبت! وليس البديل يا أبت! هو التدليل والإهمال، ولكن البديل لا يخفى عليك.

ضرورة رحمة الأولاد والحنان عليهم

ضرورة رحمة الأولاد والحنان عليهم الرحمة والحنان: لست أدري يا أبت! أين يذهب هؤلاء عن قول معلم البشرية ومربي الأمة: (من لا يرحم لا يرحم)، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)؟! حفظت يا أبت! في (عمدة الأحكام): (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب رضي الله عنها)، (وجاء الحسن وهو يتعثر في ثوبه والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فترك خطبته صلى الله عليه وسلم ونزل من المنبر فحمله، ثم قال: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين). كم هو عظيم يا أبت! ذلك القلب الرحيم الذي يرعى حق الذرية ويحسن إليهم، حتى وهو يحمل أعباء الرسالة، ومسئولية الأمة، حتى وهو يصلي بالناس، أو يخطب فيهم! أقول لك يا أبت! مع إنني -مع الاعتذار الشديد- كنت أحتاج إلى هذه المعاني، فهلا استدركتها في حق إخوتي الصغار؟

مكافأة الأبناء إذا أحسنوا

مكافأة الأبناء إذا أحسنوا المكافأة: قرأت يا أبت! في (مستدرك الحاكم): أن ابن عباس رضي الله عنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل). وأورد الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) عن النضر بن الحارث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بني! اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا. وليس بالضرورة يا أبت! أن يكون الثواب مالاً، بل يكون أيضاً الثناء الحسن، بل إن السؤال وحده كافٍ ليمنح التشجيع والحث. كم مرة يا أبت! استخدمت هذا الأسلوب مع ابنك؟ وكم مرة سمع منك الثناء والتقدير فضلاً عن المكافأة؟ وهل يمكن يا أبت! أن أضع ثوابك وعقابك في كفتين؟

تنبه الآباء لفتن العصر التي تواجه الشباب

تنبّه الآباء لفتن العصر التي تواجه الشباب الفجوة الحضارية: لقد عشت يا أبت! في جيل وعصر له ظروف وملابسات، وقد تبدلت الأحوال وتقلبت الأمور بعده، فها نحن في عصر جديد تختلف موازينه وقيمه، لقد عشت يا أبت! في قريتنا العامرة حرسها الله، عشت وبصرك لا يتجاوز أسوار القرية، وغاية ما تتعرض له من فتنة يا أبت! أن ترى امرأة قد ارتدت عباءتها، والتصقت بالحائط حتى أثر الحائط في جنبها. وأما أنا يا أبت فحين أخرج من المنزل تقابلني وهي يفوح العطر منها، وقد أبدت مفاتنها، وأخرج بعد ذلك إلى المدرسة فأسمع من زملائي من الأحاديث ما يثير الغافل، ويوقظ الساهي، وأعود إلى المنزل فأراها أمامي على الشاشة فاتنة ساحرة تتكسر وتتغنج، وحين أذهب إلى المحل التجاري أرى المجلات وقد زينت أغلفتها بهذه الصور، وأما جهاز الفيديو فلا يخفى عليك با أبت! ما فيه، ويجهز بعد ذلك على ما بقي جهاز الاستقبال، الذي أصبح يعرض أمام ناظري قنوات العالم بأسره. هذا ما أواجهه يا أبت! وما أعاني منه، فهل لازلت بعد ذلك يا أبت! تعاملني بعقلية العصر الذي عشت فيه؟! سارق العمر: وبعيداً عما قلته يا أبت! في الصفحة السابقة فأنت قد بلغت أشدك، وأنا لا زلت شاباً مراهقاً، وأنت متزوج من اثنتين، وأنا لازلت أعزب، فتجلس معي أمام شاشة التلفاز، فيثيرني ما لا يثيرك، ويحرك مشاعري ما لا يحرك لديك ساكناً، فهلا فكرت يا أبت! وأنت ترى ما أنا عليه، بل وحتى وأنت تقيِّم أعمالي وأخطائي هل فكرت في سني ومبلغي من العمر؟!

الاهتمام بزواج الأبناء

الاهتمام بزواج الأبناء الزواج: ومع ما سردته لك يا أبت! من معاناتي مع الشهوات والفتن ألست بحاجة إلى أن أذكرك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ أتخشى ألا أقوم بأعباء الزواج وقد قال الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]؟ تعتذر يا أبت! بعدم القدرة، لكنك بعد ذلك تزوجت الزوجة الثانية، وهذا أمر من حقك ولا أتدخل فيه، لكني أتصور يا أبت! أن حاجتي أكثر إلحاحاً من حاجتك للزوجة الثانية، وأظن أنك قادر على تزويجي بأقل من نصف ما دفعته أنت في زواجك الثاني، وبعد ذلك اشتريت لي السيارة بمبلغ كان يكفي أقل منه، فيوفر جزء من ذلك لما أنا أحوج إليه وهو الزواج.

الأبناء أصناف وأنواع من حيث الذكاء والفهم والحفظ

الأبناء أصناف وأنواع من حيث الذكاء والفهم والحفظ الناس معادن: لقد منَّ الله يا أبت! على أخي محمد بذكاء وفطنة وشخصية جادة تتعلق بمعالي الأمور، وصبر وجلد ليس لغيره من إخوته، وأنا كذلك شأني شأن إخوتي، لكن يا أبي! ما لك تريدنا دائماً أن نكون مثل محمد حتى في الذكاء والحفظ والفطنة مما لا نملكه؟ ودائماً تذكرنا به، وتعيرنا أنت بأنا لم نكن مثله، مما أوغر صدورنا، وجعله يتكبر علينا، لقد اكتشفت يا أبت! بعدما تقدم بي العمر أن الناس مواهب وطاقات، وأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهلا أخذت هذا في حسبانك يا أبت! وأنت تعامل أبناءك؟

على الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم في الخير

على الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم في الخير القدوة: كم مرة أوصيتني بأن أقول لمن يطلبك في الهاتف: إن والدي غير موجود، وحين أوصلتني للمدرسة قبل أن تشتري لي السيارة أمرتني أن أعتذر بأعذارٍ غير صادقة، في حين سمعت الإمام بعد صلاة العصر مراراً يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)، وسمعته يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف) الحديث. وسمعت من أستاذي ومن خطيب الجمعة النهي عن الكذب، والتغليظ على من فعله، ألا ترى يا أبت! أني تعلمت الكذب وبكل أسف ممن كان يوصيني بذلك، وممن كان الأولى أن يكون القدوة الحسنة، من أكبر رجل في المنزل، وقل مثل ذلك في استماع الحرام، والنظر إلى الحرام، والتهاون بالصلاة، أليست التربية بالقدوة يا أبت! من أهم جوانب التربية؟

على الأب أن يكون قدوة في مجالسه وكلامه

على الأب أن يكون قدوة في مجالسه وكلامه مجالس الآباء: حين تجلس يا أبت! مع أصحابك وأقدم لكم الشاي -دون أن أقول كلمة كالعادة- أسمع ما يجري بينكم مما أرى أنه كان ينبغي الترفع عنه ولو أمامي، يا أبت! لا أفهم كيف تفيضون في الحديث عن أمور النساء، وغالب حديثكم لا يجاوز ما بين السرة والركبة، وأمامكم شاب مراهق لديه من الشهوة ما لا يفتقر إلى ما يثيره، فيسمع مثل هذا الحديث، فهلا سألت نفسك يا أبت! عن أثر هذا الحديث على أمثالي؟ أليس مدعاة لأن تثور الشهوة لدي، وأنت تعلم أني لا أجد المصرف الشرعي؟ أليس مدعاة إلى قدوة سيئة واستمرائي لمثل هذا الحديث في مجالسي مع أصحابي؟ وهناك حيث لا يضبطها ضابط أو يمنعها وازع، فقد تتطور إلى ما لا يخفى عليك.

إعانة الأب لابنه في الالتزام بشرع الله، وتشجيعه

إعانة الأب لابنه في الالتزام بشرع الله، وتشجيعه مرحلة الالتزام: لقد عشت يا أبت! مرحلة من الغفلة والصبوة كما قلت لك في بداية الرسالة، ثم من الله علي بالهداية، وانتقلت إلى مرحلة أستأذنك أن أحدثك عنها قليلاً: أولاً: هل كان لك دور؟ كم كنت أتمنى أن يكون صاحب الفضل في التزامي واستقامتي بعد الله هو أحب الناس وأقربهم إلي، هو أنت يا أبت! ولكن كم يؤسفني أن هذا الرجل لم يكن له أي دور، بل وحين هداني الله كنت أنتظر التشجيع، وأن أرى تغيراً، ولكن للأسف لم أجد شيئاً يذكر. ثانياً: لماذا تكون عائقاً يا أبت؟! وحيث لم أجد ذلك يا أبت! فهل وقفت موقف الحياد، أم أن الأمر تغير في الاتجاه المعاكس؟ كم أعاني يا أبت! حين أريد أن أسافر للعمرة، أو أشارك مع طلاب الحلقة، في حين لا يعاني أخي الذي يسافر إلى ما لا يخفى عليك، ولست أدري يا أبت! ما أقول ها هنا، كم مرة ودعت أصحابي ودموعي تذرف؛ لأني لم أصحبهم؛ لا لشيء إلا لأن أبي لم يوافق، وكم ورقة أحضرتها من المدرسة تطلب الموافقة على المشاركة في برامج الجمعية المدرسية وكان رضاك دائماً في زاوية: لا أوافق. أتدري كم حفظت من القرآن؟ لقد التحقت بعد أن هداني الله يا أبت! بحلقة لتحفيظ القرآن الكريم، ومضيت في حفظ كتاب الله بجد وعزيمة، وها أنا الآن قد أنهيت حفظ كتاب الله بحمده عز وجل، وابتدأت بعد ذلك في حفظ (عمدة الأحكام) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يؤسفني يا أبت! أني لم أسمع منك هذا السؤال ولو مرة واحدة: كم حفظت يا بني! من القرآن؟ أي درس حضرت؟ ما أخبار الحلقة؟ ما أخبار الدرس الأسبوعي في المسجد؟ أي أثر يتركه يا أبت! مثل هذا السؤال، وخصوصاً حين يصحب ذلك بالتشجيع والثناء والحث والدعاء: اللهم فقهه في الدين، وزده علماً وعملا؟! أتعرف أصحابي؟ كم مرة تقابلهم يا أبت! لدى الباب فلا يحظون منك بالسلام، فضلاً عن الترحيب والتقدير، أو الجلوس معهم والتعرف عليهم، ومعرفة أحوالهم، ألا ترى يا أبت! أن ذلك يشعرني بالتقدير والاهتمام والثقة؟ هل أنا متشدد فعلاً؟ كم سمعت منك هذا الوصف يا أبت! ولست أدري هل انتقلت إليك العدوى من وسائل الإعلام، فما أن أفوه بكلمة، وما إن تراني على عمل حتى تنهاني عن التشدد، وحتى صيام النوافل مدرج في القائمة لديك ضمن التشدد، فضلاً عن قيام الليل، وحتى إنكار المنكر وآلة اللهو يعتبر هو الآخر تشدداً. لا أنكر يا أبت! أني قد أقع في الخطأ، وأني شاب قد أبالغ أحياناً، ولكن ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تؤخذ الأمور.

المحافظة على البنات من الفتن، والتعجيل بتزويجهن

المحافظة على البنات من الفتن، والتعجيل بتزويجهن أختي يا أبت! أخيراً: والوقت يلاحقنا يا أبت! أستأذنك أن أحدثك عن معاناة أختي، والتي شأنها شأني لم تجد وقتاً للحديث، أو مجالاً للمصارحة معك، يا أبت! تعلم ما يخططه الأعداء للمرأة المسلمة، وما يعملون لجرها إلى الرذيلة والفساد، وأختي واحدة من هؤلاء، فهل تستطيع أن تشتكي لك مشكلة، أو تصارحك بهمٍّ يا أبت؟ بل هل تستطيع أن تجلس معك ولو دقائق؟ يا أبت! ألا ترى أن خلافك مع والدتي ينبغي أن يؤجل ليكون خاصاً؟ هل ترى مما يخدم المصلحة وبالذات مع أختي أن تؤنب والدتي أمام الجميع، وعلى أمور تافهة: ربما زيادة أو نقص كمية الملح أو السكر في الطعام؟ يا أبت! أليس من حق أختي أن تعجل موضوع زواجها، بل أن تبحث لها أنت عن الزوج الصالح؟ ولنا سلف يا أبت! في عمر حين عرض ابنته على الصديق رضي الله عنه. يا أبت! أليس من حق أختي أن تأخذ رأيها في الزواج، وألا تكون ضحية معرفتك وصداقتك لوالد زوجها، والذي معيار تزكيته لديك معرفتك لوالده وأخواله؟ أليست أجهزة اللهو مما يدمر أختي يا أبت؟! أتدري يا أبت! أن أختي تعلمت مصطلحات الحب العشق الغرام العلاقة العاطفية؟ ومن أين؟ مما أمنه لها والدها، الذي أمنه لها ليسليها، ويقضي وقت فراغها، الذي وفرته لها الخادمة النصرانية؟ يا أبت! هذا حصاد الخاطر المكتوب، وهذه نتاج العزيمة التي تحاملت فيها على نفسي حتى سطرت لك فيها هذه السطور، ومعذرة يا أبت! إن كانت فيها قسوة أو غلظة، ولكنها يا أبت! رغبة في الوصول إلى مستوىً أفضل في التربية، فهذا وضع يا أبت! ينبغي ألا نسكت عليه، وأنا بعد ذلك وقبله لازلت أقول: إني عاقد العزم على برك، وإن خطأك تجاهي مهما كان لا ينبغي أن يسوغ لي التقصير في حقك، فأنت أولاً وأخيراً وقبلاً وبعداً أنت والدي، أنت الذي رعيتني، وأحسنت إلي، وأنت الذي أوصاني الله عز وجل بك، وقرن حقك بحقه سبحانه وتعالى. وأنا أعلم يا أبت! وأجزم أن الكثير من تلك الأخطاء التي سردتها لك كنت أنت يا أبت! تمارسها بحجة التربية، كنت تمارسها بحجة أنها وسائل للتربية والإصلاح، ويدفعك لها محبتك لي، وشوقك وعطفك علي. وإلى هنا انتهت هذه الرسالة.

أحوال بعض الأبناء مع آبائهم

أحوال بعض الأبناء مع آبائهم مع الرسائل: كنت قد تلقيت بعض المشاركات من بعض أبنائي الطلاب، والتي تمثل رسائل من معاناتهم هم فعلاً مع آبائهم، وأستأذنكم أن اقرأ لكم نماذج من ذلك، وقد تحيرت كثيراً فكان أمامي أكثر من خمسين رسالة حتى أختار منها ما أقرأه أو أقرأ جزءاً منه، ولهذا سأقرأ لكم رسالتين، واقرأ لكم أجزاءً من بعض الرسائل، مع شكري وتقديري لأبنائي الذين شاركوني وأعانوني، واعتذاري لمن لم يسمح الوقت لإبداء مشاركته. رسالة من الصميم إلى أبي: إليك أبي الحبيب، إليك يا من سهرت عيناك لمرضي، وتعبت قدماك لأجلي، إليك أنت أيها الحنون المشفق! أبعث هذه الرسالة، وفؤادي قد سكب أشواقه فيها. أبي! لا يتبادر إلى عقلك النير أنها على سبيل العتاب، لا يا أبي! إنها وربي كلمات من صميم قلب يفديك بدمه وماله وروحه، ومستعد أن يخسر كل شيء لأجلك، إذاً: فما بالك تعرضه على لفح الجمر، بل وتكويه بها، لا لا تنكر مهلاً مهلاً، تراهم والمؤذن يؤذن ولا تأمرهم بالصلاة، فكيف سمح لك عقلك النير أن تضع ابنك في قعر الجحيم؟! أنت تعلم عقوبة تارك الصلاة أنه كافر، أترضى أن يكون لك ابن كافر؟! أجب ما بالك صامتاً، أنا أعلم أن إجابتك ستكون بالنفي. إذاً: ما بالك تجلب دواعي الشر، وكأنك تحب له الشر والفساد، ابنك فلذة كبدك تراه حبيس الشهوة، وأسير المعصية، فلا تحرك ساكناً، ولا تأمره بمعروف أو تنهه عن منكر؟ أنت قد جلبت له السعادة المزعومة، وتركت السعادة الحقيقية، إن الحياة الحقيقية هي في الإسلام والإيمان، ومحبة الرحمن، والابتعاد عن العصيان. أبي! لا يضيق صدرك من حدة الصراحة، ولا تحزن فإن المجاملة تدفن نار الدمار برماد الفساد، وإن الجنة يا أبي! أفضل بكثير من الدنيا، فالدنيا مزرعة، وللعاصي نكد وهم وغم، والمؤمن مع تعبه فيها فهو في سعادة. جمعني الله وإياك في طريق الفلاح. ابنك المحب. هذه رسالة من طالب في المرحلة الثانوية. ورسالة أخرى يقول فيها كاتبها: والدي! عندما ينزف القلب دماً، وتقطر العيون دمعاً، ونظرات الناس تكوي جلدي كأنها السياط، وهمزاتهم تحرق قلبي كأنها الإبر؛ لتكتب لك يا أبي! مأساة شاب راقت له حياة الانحراف، ولكن قبل أن تسألني، ولابد أن تسألني: ما سبب انحرافك؟ تهتز صورتك بعقلي؛ لكي تسطر لك حكايتي، تقول: ابتليت أنت بنقمة المال، فحولت قلبك إلى آلة حاسبة، تتعامل معها بلغة الأرقام، ولم تنظر إلى فلذة كبدك، وإلى ما يحتاجه، ولم تشعر بقدر المسئولية التي يشعر بها أي أب آخر، كان همك الوحيد هو جلب المال فقط، ولم تعلمني كيف حكم الدنيا عمر، ولم تعلمني كيف كان يقاتل خالد بن الوليد، ولم تعلمني كيف حفظ القرآن ابن عباس، ولم تعلمني كيف يسرد الشعر حسان بن ثابت وغير ذلك. ملعونة هي الدنيا التي صدتك عني، وملعونة هي الأموال التي أبعدتك عن ابنك، حين سلمتني الأقدار إلى تيارات الحياة، وسيرتني كالكرة أتدحرج هنا وهناك، آه وألف آه حتى جمعتني حياتي مع جماعة هم كالبهيمة يأكلون ويشربون لا هم لهم ولا هم عليهم، وقد يكونون أشباهي جمعتنا ظلمة سجن الدنيا، فكم تمنيت أن أموت ولا أحيا مثل هذه الحياة، فقد أصبحت كالقيثارة يعزف عليها البائس والسعيد، وأصبحت جرثومة يتحاشاني كل من رآني. وبعد ذلك نعتني أبناء جنسي بالفاشل، نعم، أنا لا أرفض ذلك اللقب، فشلت في دراستي، وفشلت في حياتي، وسبب ذلك كله يعزى إليك، أصبحت مسلوب الإرادة لا حول لي ولا قوة، فقد جردتني حياتي من حياة سعيدة بالحنان والعطف والوئام في ضل أسرة كريمة، أفرادها متفاهمون. أنا فاشل بمعنى الكلمة، فأين أنا من طالب مجد؟ وأين أنا من طبيب مخلص؟ وأين أنا من مهندس ناجح؟ كل أولئك جعلهم المجتمع في القمة، وأما أنا فأدس رأسي في التراب؛ خجلاً وغضباً. أحضرت إلى منزلنا كل آلات اللهو والفجور، حتى أصبحت هي القاسم المشترك في انحرافي، فكلما رأيت الناجحين أحس بنفسي أني لا أساوي جناح بعوضة، نعم، أعطيتني المال فأصبح سلاحاً يطعنني في نحري، أعطيتني لكي أكون غنياً ابن غني، نعم الكنية هي لفاشل مثلي! ومنعت عني النصيحة وأنت تعرف أنها مفيدة لشاب مثلي، وحرمتني من نعمة الجلوس معك والتحدث إليك، كل ذلك وكأنك تنتقم مني لذنب لم أقترفه سوى أني ابنك. الآن وحين يتجدد الندم أسأل المولى أن يلهمني الخطى السديدة، والعلم النافع، والعادة هي أن يقتدي الولد بوالده، لكن سوف أكسر تلك الديدنة، وسوف أعلم أبنائي وأحسن تعليمهم؛ حتى يصبحوا أفراداً ناجحين يرفعون رأس أبيهم، والسلام خير ختام، ابنك خيران. ملحوظة: العنوان كالتالي: الندم، شارع الانحراف، سجن الفساد. وهذه بعض الرسائل التي قد يضيق الوقت عن قراءتها، فأجتزئ بعض المقاطع منها: يقول أحدهم: وعندما كبرت أصبحت يا أبت! تراقبني حتى في غرفة نومي، وتلاحظني كل وقت، حيث إنك تفتش غرفتي بين الآونة والأخرى، وأصبح عندي شعور بأنك وضعت أجهزة تصنت في سيارتي، وعندما اشتريت لي السيارة أخذت كلما ذهبت وجئت تنظر إلى العداد،

الأسئلة

الأسئلة

زرع الثقة المحمودة في نفوس الأبناء

زرع الثقة المحمودة في نفوس الأبناء Q والدي العزيز أشعر دائماً أنه لا يثق بي في أمور كثيرة، فكيف أقنعه بمقدرتي على القيام بأمور كثيرة مما يظن أنني غير قادر على القيام بها، مع ملاحظة أنه لا يعطيني فرصة أبداً، وجزيتم خيراً؟ A الثقة لابد أن تصدر من الأب ابتداءً، ولابد أن يشعر الأب أن ابنه إنسان على الأقل، وأن ابنه قادر أن يصنع كما يصنع الآخرون حين يغرس فيه الثقة، فغرس الثقة من مسئولية الأب ودور الأب، والابن كذلك عليه أن يثبت لوالده أنه أهل للثقة من خلال النجاح الذي يحققه في كافة أمور حياته.

استخدام الضرب الموجع في التربية

استخدام الضرب الموجع في التربية Q هل ترى أن الضرب الموجع من أساليب التربية؟ A الضرب لا شك أنه أسلوب تربوي، فإن الله عز وجل قال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر). وقال أيضاً: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله). لكن هذا الضرب إنما يكون بعد استيفاء الوسائل التربوية: من المناقشة والإقناع والموعظة، ثم حين يتم الضرب فإن الأب والمربي يجب أن يشعر أن الضرب ليس وسيلة للانتقام، فالضرب المبرح لا شك أنه ليس أسلوباً تربوياً، وليس مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مما دعا إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لخادمه قط يوماً من الأيام لشيء لم يفعله: ألا فعلته، أو لشيء فعله: لما فعلته؟

حكم التأديب للولد أمام الناس

حكم التأديب للولد أمام الناس Q هل التأديب والتأنيب للفرد عند الجماعة أمر سلبي دائماً، وإذا كان الجواب بلا، فمتى يكون التأنيب أمام الناس محموداً؟ A الأصل أن يكون التأديب والتأنيب أولاً بلغة هادئة، وبعيداً عن التشنج والانفعال، ثم يكون بين الابن وأبيه؛ حتى يشعر الابن أن الأب يحترم مشاعره ويقدرها، وما أكثر ما يتلقى الأبناء من الإهانات من آبائهم أمام الناس، أو في محضر الأطفال: الابن فاشل في الدراسة، الابن غير مؤدب شقي إلى غير ذلك من الأمور، حتى يستمرئ الابن مثل هذا الكلام، وقد يضطر أحياناً إلى نوع من التأنيب أمام الناس لكن هذه حالات شاذة واستثنائية، فلا ينبغي أن تكون القاعدة عندنا.

متابعة الأبناء حتى ولو كانوا صالحين

متابعة الأبناء حتى ولو كانوا صالحين Q ما رأيك في أب اجتهد مع ابنه في التربية حتى خرج شاباً صالحاً، وبعد ذلك أهمل الأب ابنه فأصيب بالانتكاسة؛ وذلك لثقته الزائدة بابنه؟ A هذه لفتة جيدة ذكرنا الأخ بها، وهي أن بعض الآباء عندما يستقيم ابنه ويصير مع الأخيار، يتصور أن القضية انتهت، ويسلم بعد ذلك، ولا يقوم بأي دور، بل يجب أن تشعر أن ابنك مادام على ظهر الحياة فهو عرضة لأن ينحرف، أو يزيغ، أو يضل، فينبغي أن تتابعه، وتعينه، وتؤيده، وتقف معه، حتى ولو صار مع الناس الصالحين، فمع اطمئنانك وثقتك لا ينبغي أن تعتمد على ذلك وحده.

ضياع الأبناء يتحمله الآباء والأبناء أنفسهم

ضياع الأبناء يتحمله الآباء والأبناء أنفسهم Q بأسلوبك وبكلامك كأنك تعتب على الآباء، فلماذا لا يكون النقص والضعف في الأبناء؟ A لقد قلت في المقدمة: إننا نسمع الكلام الكثير عن أبناء هذا الزمان، لكننا لم نسمع عن آباء هذا الزمان، وأرجو يا إخوة! أن يرتفع مستوانا في الفهم والإدراك، فنحن نتحدث عن موضوع معين، نحن الآن لم نتحدث عن أسباب الانحراف، وأسباب الضلال، ولم نحلل أسباب فساد الأبناء فنجعله وحده يعود حول الآباء، إنما حديثنا عن نقطة محددة وهي عن إهمال الآباء لأبنائهم. إن هذا الحديث لا يعني بحال أن إهمال الآباء هو السبب الأكبر، ولا هو السبب الوحيد، ولا يعني أيضاً أنه هو السب الأقل، هذا شأن آخر، فنحن نتحدث عن قضية جزئية يجب أن نفهم ما يقال من خلال هذا الموضوع الذي نتحدث عنه، وحينما نقيس هذا المقياس، ونفهم هذا الفهم أظن أن إشكالات كثيرة ترد علينا ليس في مثل هذا الدرس بل في دروس كثيرة، ويمكن أن تزول هذه الإشكالات، فلا شك أن الأبناء يتحملون مسئولية لكن ليس هذا هو وقت الحديث عن مسئولية الأبناء.

التوسط في السماح للنساء بالخروج، وعدم منعهن مطلقا

التوسط في السماح للنساء بالخروج، وعدم منعهن مطلقاً Q هناك من الآباء من يمنع ابنته وزوجته من الخروج من البيت ألبتة، فلا تخرج البنت إلا إلى المدرسة فقط، ولا تخرج الزوجة إلا إلى المستشفى إن مرضت، بل حتى منعهن من النزهة والخروج للبر منذ سبع سنوات، فعندما تتزوج البنت تنفتح على الدنيا انفتاحاً كلياً، وأما المرأة فتعيش الهموم، بل حتى جيرانها يمنعهم من زيارتها، فما توجيهكم حفظكم الله؟ A يجب أن يكون هناك توازن، فالسماح للمرأة بالخروج إلى أي مكان وفي أي وقت وفي أي فرصة أمر غير لائق، والمرأة لها ظروف خاصة غير البنت، ولا شك أن للمرأة ظروفها التي تتطلب أن تبقى في البيت أكثر، لكن نحن نمارس أحياناً جلب الفراغ للمرأة من خلال توفير الخادمة التي توفر الوقت والفراغ للبنات، وتوفير أجهزة اللهو التي تعلم البنات العلاقة الحرام والحب والعشق، ثم تبحث بعد ذلك عنها؟! وحتى الأب الذي يمنع عن بناته أجهزة اللهو وغيرها، لا يسوغ له أن يبقي بناته وأهل بيته في البيت، فليصحبهم في رحلة طويلة، وليكن هناك رحلة كل أسبوع أو كل أسبوعين، المهم أن تكون هناك بدائل تقنع فعلاً أهل البيت أن ما يفعله الأب لمصلحتهم، وأما حين يكون لا يراهم إلا قليلاً، ولا يسمح لهم بالخروج من المنزل، فإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.

دور الأم في التربية

دور الأم في التربية Q أليس العتب قد يكون كذلك على الأم؛ لأنها هي المربية، أرجو منك التنبيه على ذلك لوجود نساء هنا؟ A ( النساء شقائق الرجال)، وكل خطاب في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يوجه للرجال فهو موجه للنساء، ولا شك أن المرأة لها دور مهم في التربية، ولكن الوقت يطول، ولعلنا إن شاء الله أن نخصص حديثاً خاصاً عن المرأة ودورها في التربية؛ لأن المرأة يغلب عليها جوانب معينة فطرها الله عليها؛ لتؤدي أدواراً لا يمكن أن يؤديها الأب، فكما أن الأب يؤدي ما لا تؤديه الأم، فالأم كذلك تؤدي ما لا يؤديه الأب، وكل ما نقوله يشمل الأم، لكن الأم لها حديث خاص، أسأل الله عز وجل أن ييسر الوقت المناسب لحديثي عنه.

المفهوم الصحيح للتربية

المفهوم الصحيح للتربية Q ليس العتب على الأب فقط، بل على كل شيء، فقد تجد أباً يتبع نفسه، ويعمل بالأسباب، ولا يستطيع ذلك، أليس كذلك؟ A لا، المشكلة يا إخوة! أن مفهومنا للتربية غير صحيح في بعض الأمور، فالكثير من الآباء يتصور أن التربية مرادفة تامة لرفع العصا الغليظة، وأن التربية تعني القسوة، وأن التربية تعني أن يغلق على الابن في البيت، وحين يفعل ذلك ويجتهد في إيجاد الأقفال، وفي جلب العصي، وتوفير وسائل الإهانة لابنه، يتخيل أنه قد اجتهد في التربية، وهذا اجتهاد خاطئ، فإن مجرد شعور الأب بأهمية التربية، ومجرد قسوته، ومجرد حرصه الشديد ليس هو المؤهل الوحيد ليكون أسلوبه أسلوباً تربوياً ناجحاً. نعم قد يبذل الأب الأسباب، ويكون أسلوبه التربوي أسلوباً ناجحاً، ويبذل كل ما يستطيع ولا ينجح، لكن هذه الحالات قليلة، بل أقول يا إخوة: إنها حالات نادرة، فالغالب أن يكون هناك تقصير من الأب، وقد لا يكون بالضرورة تقصير ناشئ عن إهمال، وسبب وجود هذا الإشكال عندنا أننا نتصور أن التربية مرادفة للقسوة، وأن التربية مرادفة لصورة معينة تعودنا عليها، فتعود الأب من أبيه تربية معينة، وتعود الأب من والده أسلوباً معيناً يمارسه معه، فيتصور أن هذه هي التربية، وأن هذا هو الأسلوب، وليس بالضرورة أن يكون أسلوبه هذا هو التربية، ثم هب أنه كان ناجحاً في وقت، فهذا لا يعني أنه سينجح في وقت آخر، لقد تغيرت الأمور، وتغير الأبناء، وتغيرت الظروف، ولهذا لابد أن نضع هذا الاعتبار في الذهن ونحن نجيب على مثل هذا التساؤل، مع أيضاً كما ذكرنا أن هناك من قد يبذل الجهد لكنه قد لا ينجح، لكن هذه نسبة نادرة، ويبقى بعد ذلك التوفيق بيدي الله سبحانه وتعالى.

حكم تفضيل الأب بين ابنه الملتزم وغير الملتزم

حكم تفضيل الأب بين ابنه الملتزم وغير الملتزم Q يقول: هل يفضل الأب بين ابنه الملتزم وغير الملتزم؟ A التفضيل بين الأولاد -أمر كان ينبغي أن أتحدث عنه؛ لكن لم يتسع الوقت له- مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ففيما يتعلق بالمال والامتيازات والحقوق لا يجوز للأب أن يفضل أحد أبنائه على الآخر، لكن لا شك أن هناك أموراً معينة من التعامل والتقدير قد يراعي فيها ابنه الملتزم دون ابنه الآخر، وهذه تكون رسالة غير مباشرة للشاب الآخر، لكن أيضاً ينبغي على الأب إذا كان له ابن عليه مظاهر الانحراف والإعراض ألا يهمله، وألا يجعل الأصل هو القسوة معه، بل يرفق به، ويحسن صحبته، فلعل الله عز وجل أن يمن عليه بالهداية والتوفيق. أسأل الله عز وجل في ختام هذا الدرس أن يمن علينا وعليكم جميعاً بأن يصلح أزواجنا وذرياتنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أصلح لنا أزواجنا وذرياتنا، اللهم أعنا على تربيتهم، ولا تكلنا إلى أنفسنا يا أرحم الرحمين! هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

حصاد الأفلام

حصاد الأفلام مما أصيبت به الأمة الإسلامية ظاهرة انتشار الأفلام وأجهزة الفيديو التي دخلت معظم البيوت، والتي خلفت الكثير من الآثار السيئة ونشرت الوباء الأخلاقي العربي إلى تلك المجتمعات المسلمة حتى صارت خراباً، فانتشرت الفاحشة والفساد الأخلاقي والتسكع والضياع.

نشأة الأفلام

نشأة الأفلام الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهذا هو الدرس السادس من هذه الدروس التربوية، وموضوعه كما قرأتم جميعاً: حصاد الأفلام. وكان في نيتي أن يكون هذا الموضوع هو أول هذه السلسلة، أي: بداية هذا العام، وقد بدأت فكرته أثناء الإجازة ولكن تزاحمت الموضوعات حتى تأخر إلى هذا الوقت، وعسى أن يكون في الأمر خير! قبل أن نبدأ في الحديث نحتاج إلى أن نوضح مقصودنا بالأفلام التي نتحدث عنها؛ لأن الكثير من الإخوة وجهوا انتقاداً لموضوع المحاضرة وبالذات في هذا التوقيت، فنحن نعني بالفيلم: ذاك الفيلم التلفزيوني الذي يسجل، سواء كان يعرض من خلال أجهزة فديوتيب، وهو الاصطلاح الذي ينصرف إليه ذهن السامع عندما يقرأ مثل هذا الإعلان، أو من خلال شاشة التلفاز، سواء من خلال البث المحلي، أو من خلال استقبال البث المباشر، والكثير من الإخوة انتقد الحديث عن الأفلام في هذه الفترة التي أصبح يواجهنا فيها خطر أوسع وأشد من هذه الأفلام ألا وهو البث المباشر. لكن أقول: إن الحديث عن الأفلام جزء من الحديث عن حمى البث المباشر؛ لأن البث المباشر عبارة عن أفلام لكنها تبث بصورة أخرى، فهي غير خاضعة لما يسمى بالرقابة، وكذلك تكون أكثر تركيزاً، ويستطيع أن يشاهدها المستمع والمشاهد ولو لم يكن عنده جهاز الفيديو. وها نحن نرى الثمار السيئة لهذا البث تترى حتى استطاع المشاهد أن يشاهد أي قناة تلفزيونية دون أي صحن استقبال أو فضائي. وسنلقي هنا نبذة سريعة عن نشأة الأفلام وكيف اخترعت: ففي البداية كان البث التلفزيوني مباشراً من خلال الأستوديو مباشرة، وتجرى التمثيليات والمسرحيات وغيرها من برامج التلفزيون فتذاع مباشرة من خلال الأستوديو، ثم في عام (1956م) اخترعت الأفلام التي تسجل البرنامج التلفزيوني قبل أن يعرض، وقد مرت بمراحل حتى وصلت إلى هذا التطور الملحوظ فساهمت في كساد سوق السينما العامة؛ نظراً لأن الأفلام تتمتع بمزايا أكثر من خلال وضوحها وسهولة الاستخدام الشخصي. فجهاز الفيديو يخاطب العين والأذن معاً، فهو يخاطب القارئ والأمي، ويخاطب الجميع، ويأسر مشاعر الإنسان، وينقل للإنسان صورة حية واضحة تشد انتباهه، ومن هنا فلا تستغرب إذا كان يجلس المشاهد أحياناً أربع ساعات أو خمس ساعات تجاه التلفاز أو شاشة الفيديو؛ نظراً لأن هذه الأفلام تخاطب الإنسان وتنقله نقلة أخرى إلى عالم آخر، بخلاف القراءة أو السماع المجرد.

كيف وفدت ظاهرة الأفلام إلى مجتمعنا

كيف وفدت ظاهرة الأفلام إلى مجتمعنا بدأ ورود الأفلام إلى مجتمعنا في عام (1397هـ)، أي: أنها مرحلة متأخرة نسبياً، وفي تحقيق نشر في جريدة الرياض بتاريخ (16 شوال عام 1403هـ) يقول التحقيق: كانت البداية عام (1397هـ)، وصرح مدير المطبوعات في ذلك الوقت بأنه يوجد في السعودية حوالي (700) محل بيع وتأجير أشرطة فيديو منها (220) محلاً في الرياض، و (195) في جدة و (90) في الشرقية و (35) في المدينة و (40) في مكة، والباقي (120) محلاً موزعاً على سائر المناطق. وهكذا ترى أنه في خلال هذه الفترة القصيرة جداً انتشر هذا الانتشار الواسع النطاق، وبعده وقفت التصريحات الجديدة بالسماح لمحلات الفيديو، ولكن تحصل حالات استثنائية، المهم: أنك تستطيع أن تقول الآن: إن محلات بيع الأفلام وتأجيرها في مدينة الرياض تكاد تكون ضعف محلات التسجيلات الإسلامية. وحتى نأخذ تصوراً عن حجم متابعة ومشاهدة هذه الأفلام يمكن أن نشير إلى بعض الدراسات التي أجريت في مجتمعنا عن متابعة الشباب للأفلام: ففي بحث بعنوان: (وقت الفراغ وشغله) من جامعة الإمام محمد بن سعود توصل الباحث إلى أن (67%) من أفراد العينة -والدراسة مطبقة على مرحلة ثانوية- يملكون أجهزة فيديو، والذي لا يملك جهاز فيديو لا يعني ذلك بالضرورة أنه لا يشاهد الأفلام، فهناك نسبة كبيرة ممن لا يملكون جهاز الفيديو يشاهدون الأفلام عند أصدقائهم، وهي قضية أخطر، وإن كان كلا الأمرين فيهما خطر، لكن جلوسه مع أصدقائه يعني: أن الأصدقاء يتحكمون في نوعية الأفلام التي تشاهد وتختار، وقد يقصد باختيار أفلام معينة تحقيق أغراض ومقاصد سيئة بهؤلاء الأصدقاء كما لا يخفى على الجميع. وكذلك أفاد أن (45. 7%) من أفراد العينة يقضون أوقاتهم في مشاهدة الفيديو، يعني: أنه يقضي معظم وقته في مشاهدة الفيديو، أي أن نصف أفراد العينة تقريباً يقضون أوقاتهم في مشاهدة أفلام الفيديو. وفي دراسة أجراها طالبان في المعهد العالي أو كلية الدعوة في جامعة الإمام بعنوان: (أثر الفيديو على متابعة برامج التلفاز بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض) ظهر أن الذين لا يوجد لديهم أجهزة فيديو هم (19. 5%) فقط، والذين لا يشاهدون أفلام الفيديو هم (10%) فقط من أفراد هذه العينة. على كل حال نكاد نقول: إنه في أوساط الشباب يكاد يبلغ الرقم النصف ممن يتابع ويشاهد أفلام الفيديو، وهو رقم هائل جداً، وتصور أن كل الآثار والنتائج التي سنعرضها بعد قليل -إن شاء الله- ستنطبق بصورة أو بأخرى على هؤلاء الشباب الذين يشاهدون هذه الأفلام. لا تنزعجوا من هذه الأرقام، فقد جاء الآن البث العالمي وصار الكثير من الناس يستقبل باستخدام الهوائيات، وكم تتصورون عدد الهوائيات أو الصحون أو ما يسمى بالدشوش الموجودة الآن لاستقبال البث العالمي؟ نشرت جريدة الحياة أنه يوجد في الخليج (97000) هوائي، منها في السعودية (60000)، و (20000) في الإمارات و (10000) في الكويت و (3000) في البحرين و (2000) في عمان و (2000) في قطر، حتى إنك تجد أحياناً بيوتاً من الطين توجد عليها هذه الدشوش، وبعض الناس من محدودي الدخل وأصحاب الموارد المحدودة يقتنون هذه الدشوش، حتى إنها أصبحت توجد في كثير من المناطق والقرى النائية وللأسف.

حجم وجود أجهزة الفيديو في الخليج

حجم وجود أجهزة الفيديو في الخليج حجم وجود أجهزة الفيديو في الخليج ونسبة وجودها أيضاً في بلادنا: كان يوجد في الخليج عام (1403هـ) خمسة ملايين جهاز فيديو، وهذا العدد يفوق الأجهزة الموجودة في أمريكا، وأيضاً يفوق الأجهزة الموجودة في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا مجتمعة. أما في بلادنا فتؤكد الأرقام أن أجهزة الفيديو نسبة إلى عدد السكان تعتبر من أعلى النسب في العالم، إن لم تكن أعلاها على الإطلاق، ففي أمريكا يوجد ثلاثة ملايين جهاز، أي: بواقع جهاز واحد لكل مائة شخص، أما هنا فإن عدد الأجهزة مقارناً بعدد السكان يصل إلى نسبة واحد إلى عشرين، أي أن النسبة تزيد خمسة أضعاف عن مثيلاتها في أمريكا، وتزيد ثلاثين ضعفاً عن بلد متقدم مثل إنجلترا. وهذا منقول عن تصريح رسمي لأحد المسئولين في وزارة الإعلام نشر في عام (1403هـ). هذه الأرقام أرقام مزعجة جداً، وهي تصور لنا انتشار هذه الحمى الوافدة في مجتمعاتنا، والمشكلة في التعامل مع هذه الظاهرة وغيرها حين نكون أسرى لبيئتنا المحدودة ومجتمعنا المحدود، فقد يكون الإنسان ينتمي إلى أسرة محافظة ونزيهة وعلاقته عادة في محيط العائلة وأقربائه والناس القريبين منه، ولا يحتك بالآخرين، فهو يتعامل مع عينة متحيزة بالمصطلح الإحصائي في المجتمع، أي: يتعامل مع عينة تمثل توجهاً معيناً، ويحكم على المجتمع من خلال هذه العينة ومن خلال هذا النموذج الذي يتعامل معه، وينسى أن هناك طبقات أخرى وفئات كثيرة تعيش واقعاً آخر وعالماً آخر، بل إن هناك العديد من الأسر التي تملك في البيت أكثر من جهاز. وفي دراسة أجراها المجلس الأعلى للإعلام في عام (1403هـ) يصرح الدكتور عبد الرحمن الشبيلي فيقول: وجدت الدراسة أن حمى الفيديو تنتشر وتتفاعل وتتصاعد بازدياد بنسبة لا تقل عن (30%) كل عام، كما بينت الدراسة أنه يصل إلى المملكة كل شهر ما يزيد على (10000) شريط، وعلى كل حال فإن فكرة الدراسة لم تقم أصلاً على أساس الحد من هذه الظاهرة أو إيقافها أو منعها، ولكن للعمل على تنظيمها وتوجيهها الوجهة الصالحة المفيدة للمجتمع. انتهى هذا التصريح. وأيضاً حتى تعرف صورة عن انتشار الأفلام الممنوعة والتي لا تجيزها الرقابة، مع العلم أن كثيراً من المراقبين يجيزون -مثلاً- بعض صور النساء التي تكشف فيها العورة إلى نصف الفخذ أحياناً، وأحياناً تجاز بعض الأفلام إلى حد ما يسمى بالمايوه إذا لم يتكرر هذا المشهد في الصورة أكثر من مرة أو مرتين، وتستغرب فعلاً عندما تجد مثل هذه الأفلام المفسوحة، مع العلم بأن لائحة متابعة أو تنظيم أجهزة الفيديو تنص على أنه لا يجوز أن يعرض أي فيلم يتعارض مع أحكام وآداب الشريعة الإسلامية، ولو طبقت هذه اللائحة لأغلقت جميع المحلات. أقول: حتى تأخذ صورة واضحة عن حجم انتشار الأفلام الممنوعة -مع أن الأفلام المسموحة أيضاً هي الأخرى لها آثار سيئة جداً- فإنه قد نشرت فيريدز جزيرة في تاريخ (3/ 6/1413هـ) في صفحة الرسالة -وهي صفحة تصدرها الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قصة في كيفية قبض رجال الهيئة بمدينة الرياض على محل يوجد به (2000) شريط ممنوع، وأحد الزبائن يحمل في يده الأولى شريطاً والثانية عقاراً للتنشيط الجنسي، إلى هذا الحد هذه الأفلام تساهم في زيادة الرغبة والشهوة الجنسية، فلا يستطيع مثل هذا الشخص الذي يتابع ويشاهد هذه الأفلام أن يقضي شهوته فيحتاج إلى عقار آخر يزيد من تنشيط أدائه الجنسي، ويساهم أيضاً مثل هذا المحل في ترويج مثل هذا العقار. لا أريد أن أتحدث عن بعض الأرقام والإحصائيات المذهلة عن كمية الأفلام الممنوعة التي يقبض عليها، فهي أرقام مزعجة، ولك أن تتصور أنه يمكن لأي شاب مراهق أن يحصل على هذه الأفلام بصورة أو بأخرى، وهذه الأفلام الممنوعة تتمثل بصورة أكثر في الأفلام الجنسية المكشوفة كما يقال، والتي تعرض فيها الفاحشة بصورها وألوانها ويرى الناس فيها كما ولدتهم أمهاتهم، فضلاً عن الأفلام التي تدعو إلى الشرك والإلحاد والوثنية كما سيأتي عرض نماذج من ذلك. إذاً: هذه المقدمة تعطينا صورة عن هذا الخطر الداهم وانتشاره، فإذا كان انتشار الأفلام وانتشار الفيديو بمثل هذه الصورة فكيف يكون الأمر بعد وفود البث المباشر واستطاعة الناس استقبال محطات فضائية لدول غربية، بل هناك محطات خاصة لبث أفلام جنسية ومحطات خاصة لبث التنصير والطعن في العقائد. أقول: كيف تكون الصورة حينما لا يكون هناك مجال للرقابة، وذكرت لكم رقم وعدد هذه الصحون، ولا يزال العدد يتضاعف باستمرار، والقضية أخطر من ذلك، فبعد فترة سيكون بإمكان المشاهد من خلال جهازه العادي أن يستقبل أي محطة بدون أي جهاز استقبال.

الآثار الخبيثة للأفلام

الآثار الخبيثة للأفلام بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمهمة في هذا الموضوع ألا وهي: حصاد الأفلام، أو ثمارها الخبيثة وآثارها، وهي آثار كثيرة ومتنوعة، آثرت الاقتصار على بعضها؛ لأن الوقت لا يتسع لعرض مثل هذه الآثار ولا حتى عرض النماذج والصور أيضاً من مدى انتشار هذه الآثار وخطورتها:

الدعوة إلى الشرك والكفر

الدعوة إلى الشرك والكفر من أخطر -بل أخطر- هذه الآثار: الدعوة للشرك والكفر، ويتمثل ذلك في عدة جوانب منها: الدعوة لعبادة الأوثان والأصنام. وجانب ثان: تعليم العبادات الوثنية. جانب ثالث: الدعوة لعبادة القبور وشد الرحال إليها. جانب رابع: تشويه سير الأنبياء، وتنتشر أفلام تعرض سيرة موسى وعيسى بصورة وقحة. وأيضاً: نشر عقيدة تناسخ الأرواح. وحتى لا أتهم بالمبالغة؛ فأمامي الآن قائمة فيها (49 فيلماً) من الأفلام المقبوضة والتي فيها مخالفات تتعلق بالعقيدة وأكثرها أشياء شركية، منها مثلاً: فلم هندي بعنوان: (كرشم كالي كا) وكالي: اسم لصنم معبود عند الهندوس، وقصة الفيلم مبنية على ألوهية: كالي. كذلك فلم هندي أيضاً بعنوان: (منتالي) وهي قصة عن العشق وتحث على شد الرحال إلى مقبرة شاه الحميس. كذلك فلم هندي أيضاً بعنوان: (رات سوريا ويشي) ويدور حول قصة مبنية على أن الأرواح تنتقل من شخص إلى شخص بواسطة الكهنة والسحرة عندما يفعل بعض العبادات. كذلك فلم: (من مول فيستيل) وهذا فلم تنصيري من إنتاج نصارى الكاثوليك، وهو يزود المشاهد بمعلومات كاملة عن كنيستهم المقدسة في الفاتيكان وما يقام فيها. فلم بعنوان: (ماديوتا) وهي قصة مبنية على حب ومذهب تناسخ الأرواح. أشرطة وخطب نصرانية وهي تشتمل على إثبات التثليث والدعاء والاستغاثة بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام. على كل حال لا أريد أن أطيل في عرض هذه النماذج. منها أيضاً: أشرطة تقوم حول عبادة الصليب وعيسى أشرطة حول عبادة الأفاعي كذلك من الوقاحة أيضاً: فلم يعرض قصة موسى عليه السلام، وعلى غلاف الفيلم صورة يدعون أنها صورة موسى وبيده التوراة -وهذه هي الصورة- ويعرض في هذا الفيلم باستخدام الأشعة كيف أن الوحي جاء من الله عز وجل إلى موسى. صورة أخرى أيضاً وقحة وهو فلم يقبض عليه كثيراً يحكي قصة عيسى عليه السلام، وهو فلم جنسي ساقط داعر يمارس فيه الجنس بصورة مكشوفة، وتعرض فيه صورة عيسى عليه السلام، وناهيك عن الأفلام التي فيها صلب المسيح عليه السلام. كل هذا الحديث عن أفلام موجودة ومقبوضة هنا وليس حديثاً عن أفلام في الخارج، فكيف إذا كنا بعد ذلك نستقبل بدون أي رقابة وبدون أي متابعة كل ما يعرض في محطات العالم، فلك أن تتصور بعد ذلك خلفية هذا الشخص الذي يعتمد على التلقي من هذا الجهاز وحده، ولا يكاد يتلقى تربوياً من غير هذا الجهاز وثقافته وقدراته مرتبطة بهذا الجهاز وحده، وسنشير إلى نماذج من آثار متابعة هذه الأفلام على الثقافة والتفكير وآثارها التربوية.

إضعاف عقيدة الولاء والبراء

إضعاف عقيدة الولاء والبراء الأثر الثاني، وهو أيضاً أثر عقدي: إضعاف عقيدة الولاء والبراء، إن الكثير من هذه الأفلام يمثلها أبطال كفار، ويعرض هذا الرجل بصورة البطل الذي حقق البطولة، وقد تكون هذه البطولة: تحقيق شهوة جنسية وقد تكون القدرة على التغرير بفتاة، أو القدرة على القيام بعملية جنسية وقد تكون بطولة عسكرية، وأياً كانت هذه البطولة، فالكثير من هؤلاء الأبطال هم من الكفار. عندما يشاهد الطفل والمراهق، بل حتى الرجل الكبير والمرأة عندما تشاهد مثل هذه الأفلام والتي يعرض فيها صورة هذا الرجل على أنه بطل تخيل أثر هذا الفيلم وهذه المشاهدة على القضاء على عقيدة الولاء والبراء التي هي أوثق عرى الإيمان ومن أهم جوانب العقيدة، والتي انطمست عند الكثير من المسلمين نظراً لإهمالها وإهمال الحديث عنها والعناية بها. أيضاً ما ينشأ من التقليد والمحاكاة والتي تورث المحبة للكفار وسنأتي إلى هذه النقطة بعد قليل إن شاء الله. وسأستشهد كثيراً بكتابات بعض الغربيين أو كتابات بعض المسلمين الذين لا نوافقهم على منهجهم؛ لأن الجميع يجمعون على خطورة مثل هذه الأفلام، وقرأت كثيراً مما كتب في الدوريات والصحف والرسائل الجامعية والكتب تجد أن الجميع بدءاً بالغرب والكفار وحتى العلمانيين في المجتمعات الإسلامية يتحدث عن خطر الأفلام وخطر السينما والتلفاز، وعندما تبحث في أي مركز من مراكز المعلومات عن المقالات والدراسات التي أجريت حول هذه الظاهرة تخرج أمامك أرقام هائلة من البحوث والدراسات، حتى أنهم أعطوا الوقت الذي قضيته في الإعداد والقراءة فيما تيسر لم أستطع أن أقرأ كل ما حصلت عليه مما كتب حول الموضوع؛ ولهذا فليس بالضرورة أن يكون معنى استشهادي نستشهد بقوله أني أوافقه. تقول الدكتورة كافية رمضان في مقال لها في مجلة البيان الكويتية: بل إن المساهمة في تزييف الوعي تتضح في أفلام السوبرمان على سبيل المثال، وعلى الرغم مما قد يكون فيها من فائدة -هذا بناءً على رأي الكاتبة- فالرجل الأمريكي -يعني: في هذا الفيلم- قادر على ما لا يقدر عليه غيره من البشر، وهو يعرف ما لا يعرفون، ولديه من القدرات ما لا يملكون، وهو عادل وكريم ومدافع عن الحقيقة -ممكن أن نضيف نحن: ومدافع عن حقوق الإنسان- ولا شك أن مثل هذه الصورة عندما تنطبع في ذهن الطفل يصعب عليه تغييرها أو التخلص من أسرها.

تشويه المعاني الشرعية

تشويه المعاني الشرعية الأثر الثالث لهذه الأفلام: تشويه المعاني الشرعية، من خلال جوانب كثيرة مما يعرض في هذه الأفلام، ولعل منها مثلاً: الطلاق، وتعدد الزوجات، وغيرها من القضايا الشرعية التي تدور كثيراً في الأفلام، لا نقول: الأفلام الغربية بل الأفلام العربية، بل كثير من الأفلام التي تعرض الآن والتمثيليات التي تعرض حتى في الإذاعة المسموعة تدور كلها حول مشكلة تعدد الزوجات والطلاق وغيرها مما يشوه مثل هذه المعاني الشرعية، فينطبع في ذهن المستمع والمشاهد أن الإسلام ظلم المرأة وأهانها، وأن الطلاق يعتبر ظلماً وإهانة للمرأة. وهذا الأثر لا يقتصر على مجرد قضية الطلاق أو تعدد الزوجات وإن كانت قضية شرعية لها احترامها ولها قيمتها، بل يتجاوز ذلك إلى المناقشة أصلاً في الشرائع والمناقشة في هذا الدين.

تشويه سير العلماء والصالحين

تشويه سير العلماء والصالحين جانب رابع: تشويه سير الصالحين والعلماء، ولعل ما عرضناه قبل قليل من ما يعرض من مشاهد الأنبياء وتصوير الأنبياء في مثل هذه الأفلام يعتبر خير دليل على ذلك. تقول الدكتورة كافية رمضان في المقال المشار إليه آنفاً: وأما الموقف من رجل الدين -طبعاً هذا المصطلح غير سليم- فيكفي أن نتابع كيف تظهر شخصية المأذون في معظم الأفلام العربية، فهو شخص غبي شره يسهل خداعه، وهو لا يهمه سوى البحث عن معدته أو جيوبه. ويجد -مثلاً- من يتابع الأفلام الكرتونية أو غيرها، أنه كثيراً ما يصور ذلك الرجل الملتحي كرجل إرهابي يطلق النار ليقتل الناس أو رجل يسرق إلى غير ذلك من الصور التي يقصد من خلالها تشويه الملتزم بالإسلام وربط هذه الشعيرة بمثل هذا السلوك الذي يراه الطفل ويراه المشاهد.

التأخر عن الصلاة وتركها

التأخر عن الصلاة وتركها أثر خامس: التأخر عن الصلاة وتركها، من خلال انهماك المشاهد بمتابعة مثل هذا الفيلم، ويذكر لي أحد الطلبة الذي كان يشاهد هذه الأفلام، يقول: كثيراً ما أكون منهمكاً في مشاهدة الفيلم فلا أشعر أصلاً بوقت الصلاة وأتأخر حتى أصلي الصلاة بعد خروج وقتها، وأحياناً أترك الصلاة بالكلية. والكثير ممن يشاهد هذه الأفلام لا يستطيع أن يترك مثل هذا الفيلم، إذا كان الناس في أي مجلس عادي تتبادل فيه الأحاديث يثقل على الجالسين أن ينصرفوا إلى الصلاة إلا مع وقت الإقامة تقريباً فكيف إذا كان مشدوداً بكل حواسه وجوارحه لمشاهدة مثل هذا الفيلم الذي تمارس كل أنواع ووسائل إثارة الغرائز وشد انتباه المشاهد، وكيف إذا كان مثل هذا الإنسان لا يقيم للصلاة وزناً ولا قيمة، وليس عنده أي شعور بأهمية الصلاة، لا شك أن مشاهدته لمثل هذه الأفلام ستشغله قطعاً عن الصلاة وستؤدي به إلى تأخير الصلاة عن وقتها فضلاً عن صلاة الجماعة. وأيضاً يتمثل ذلك في السهر، فعندما يجلس أمام الفيلم أو أمام مسلسل يعرض في التلفاز سيتأخر عن النوم ولن يستطيع الاستيقاظ لصلاة الفجر.

انحراف الشباب

انحراف الشباب أثر سادس: أن هذه الأفلام مسئولة مسئولية كبيرة عن كثير من حالات انحراف وفساد الشباب، وأظن أن هذه صورة معروفة ومشاهدة لدى الجميع، لكن يمكن أن أذكر بعض الأمثلة: في أحد أعداد مجلة دار الملاحظة، يذكر أحد الموقوفين في الدار: أن سبب مشكلته أصلاً تبدأ من خلال فيلم شاهده، وبعد ذلك قاده إلى أن يقع في الجريمة ويكون أحد نزلاء الدار. وفي تحقيق أجرته جريدة الأنباء الكويتية أيضاً حول بعض هذه المظاهر: يذكر أحد هؤلاء الشباب أنه كان مع مجموعة من رفاقه فقام أحدهم بتشغيل الفيلم وبدأ بعد ذلك مسلسل الانحراف والفساد. أحد الشباب كان طالباً يدرس عندي وهداه الله سبحانه وتعالى واستقام، وبعد فترة لاحظت عليه أثر التغير وانحرف عافانا الله وإياكم، فوجهت له هذا السؤال، قلت له: أريد أن أعرف السبب المباشر لتغيرك وانحرافك، فذكر لي أنه كان يجلس مع بعض الشباب الصالحين الأخيار وانشغل عنهم أو انقطع عنهم فترة معينة ويقول: كنت أجلس عند الباب فدعاني أحد الشباب في الحي -من أصدقائه القدامى- فدخلت عنده فشاهدت أحد الأفلام وبعد ذلك بدأ مسلسل الفساد والانحراف. طبيعي جداً أن يكون فيلم واحد مسئولاً عن تدمير هذا الشاب، بل مسئول عن تدمير أسرة بكاملها، وسيأتي عرض نماذج من ذلك. أقول: طبيعي جداً أن يكون ذلك؛ نظراً لأن هذا الشاب يعيش شهوة متوقدة وعارمة ويعاني من وسائل الإثارة والإغراء، وتفتح أمامه أبواب قضاء الشهوة، وإضافة إلى افتقاد التوجيه، وافتقاد النصح، ويفتقد هذا الشاب إلى من يعرف دوافعه ومن يعرف حقيقته، وأستطيع أن أقول: إن الرجل الذي يعرف حقيقة هذا الشاب وواقعه ودوافعه هو ذاك الذي قام بتسجيل هذا الفيلم له، أما الكثير من الناصحين، فتجد أن كثيراً من الأساتذة والآباء والكثير من أصحاب التوجيه يعيشون في بعد وغيبوبة عن مثل هذا الواقع، فهو يسمع عن شيء اسمه الأفلام يسمع عن شيء اسمه البث المباشر؛ لكنه لا يدري ماذا يدور وراء هذه الكواليس ولا يدري ماذا يشاهد أمثال هؤلاء الشباب، وعندما تحكي له قصة أو صورة من ذلك يضع يده على رأسه ويستغرب كيف يحصل مثل هذا، فكيف إذا شاهد مثل هذا الواقع بنفسه؟ ولا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وأقول أيها الإخوة، وأكرر ما قلته قبل قليل: لا يسوغ أبداً أن نحكم على ظواهر المجتمع، ونحكم على المجتمع من خلال زوايا محددة نتعامل معها فقط، أو من خلال الواقع الذي يتعامل معه الإنسان أو الجو الذي يعيشه، فالواقع والمجتمع جو وفيه متغيرات أكبر بكثير من تلك التي تراها وتدركها.

الفساد الأخلاقي

الفساد الأخلاقي الأثر السابع: الفساد الأخلاقي، يقول الأستاذ عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية: إن السينما التي حشرت في علب الفيديو لا تكرر الحب الجسدي في كل فيلم فقط، بل ترسم الطريق الملتوية لتحقيق الرغبات. إن قضية مساهمة هذه الأفلام في إشاعة الفساد الأخلاقي تتصور أنها من البدهيات ولا تحتاج إلى إثبات، فأنت ترى مثلاً على رأس القائمة الأفلام الجنسية الساقطة المكشوفة، أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر: أفلام السكس، هذه الأفلام التي تعرض الجنس بكل وقاحة أمام هذا الشاب المراهق، والذي قد لا يكون بلغ سن التكليف، وترى الكثير من هؤلاء الشباب قد اعتاد مشاهدة ألوان وأصناف كثيرة منها من خلال أفلام الفيديو أو من خلال ما يعرض من البث المباشر، حتى يصل الأمر إلى أنه إحدى قنوات إفريقيا تلك القارة السوداء تعرض بعض الأفلام الجنسية الهابطة من هذا النوع. كذلك أيضاً: الأفلام العاطفية وهي تؤدي إلى نتيجة أخطر من الأفلام الجنسية من وجهة نظر الكثير ممن يتحدث عن هذه الأفلام. والأفلام العاطفية هي تلك التي تتحدث عن الحب والغرام واللقاء وتعرض للمشاهد صورة العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، ويعيش الشاب خلال ساعة ونصف خلال أربع ساعات أو أقل أو أكثر مشدوداً مع مثل هذه المشاهد التي تتحكم بغريزته وعاطفته. كذلك أيضاً: الأفلام الفكاهية والبوليسية لا تخلو من بعض المشاهد والإيحاءات الجنسية. تقول الدكتورة كافية رمضان عن المشاهد الفكاهية: هذه لا تخلو من مشاهد الجنس أو الإيحاءات الجنسية، بل قد تدور أحداث الفيلم كلها حول محاولة الرجل دفع المرأة إلى الموافقة على ممارسة الجنس معها، هذه الأفلام الفكاهية، أما الأفلام الجنسية والأفلام العاطفية فهي أصلاً تدور حول هذه القضية. ويكفي في استثارة الشاب فقط أن يرى صورة تلك الفتاة أو يسمع ذاك الصوت المتغنج المتكسر الذي تتحدث به الفتاة أو يتحدث به الرجل، ناهيك أيضاً عما يمارس من استخدام بعض وسائل الإغراء: استخدام المكاييج والعرض أحياناً من خلال غرف النوم، أو من خلال مشاهد مؤثرة تنقل ذاك الطفل البريء أو ذاك المراهق إلى واقع وعالم آخر قد لا يكون والده يعلم عنه أو يراه.

تعليم العلاقات المحرمة

تعليم العلاقات المحرمة من النتائج والآثار وهي نتيجة أيضاً خطيرة: تعليم العلاقات المحرمة. إن الكثير من قصص هذه الأفلام تدور حول الحب بين شاب وفتاة، وكيف بدأت قصة هذا الحب وتطورت؛ ولهذا لا تستغرب إذا كنت تجد الكثير من الشباب يكتب على كتبه، أو على دفتر الكشكول تعذيبه وغرامه من حب فلان أو فلانة، ويتمثل بأبيات من الشعر -إذا لم يكن شاعراً- والتي تحكي معاناته من هذا الحب، هذه هي من إفراز في الواقع لأثر مثل هذه الأفلام. هذه العلاقات التي لم يكن يعرفها مجتمعه كيف وفدت؟ أعرض عليكم نماذج من هذه الصور التي قد تكون مؤلمة ومزرية، ولكنه واقع لا يسوغ أن نتهرب عنه، ولا يجوز أن ندس رءوسنا في الرمال ونبدأ نتحدث عن جوانب إيجابية ومنجزات ونترك تلك الصور الموجودة في مجتمعاتنا بكثرة بحجة عدم الإثارة وعدم الحديث عن هذه المظاهر، وقد آثرت أن أختصر جداً، وأن أقتضب بالذات في المشاهد التي أعرضها من واقع هذا المجتمع بأنها مشاهد مزعجة لكنها لا بد من عرضها: في رمضان هذا الشهر: فتاة يقبض عليها مع أحد الشباب في خلوة محرمة وتكون النتيجة كالآتي: هذه الفتاة شاهدت أحد الأفلام فأخذت جهاز الهاتف واتصلت على أحد الشباب وواعدته، وكيف كان الموعد؟ ستخرج مع والدتها في صلاة التراويح في أحد المساجد المزدحمة، ثم تخرج أثناء صلاة التراويح وتلتقي مع الشاب، وتكون المصيبة أكثر عندما يأتي الأب لمركز الهيئة فيكتشف أن الأب لم يكن يعلم أن في البيت جهاز فيديو، هذه صورة! وهي صور ومآس تتكرر كثيراً، أكتفي بعرض هذا النموذج وحده لتعرف كيف أن هذه الأفلام تساهم في تربية وتركيز العلاقات المحرمة بين الفتاة والشاب، وتصور للفتاة أو للشاب أن تلك العلاقة المحرمة أمر يجب أن يكون بين الشاب والفتاة، وخرج ما يسمى بالحب النظيف والعلاقة النزيهة إلى غير ذلك من المصطلحات. ويصور أن ذاك الشاب الذي لا يملك علاقة محرمة إنما هو يعاني من عقدة نفسية معينة أو يعاني من حالة شاذة، وكذلك تلك الفتاة.

وأد العفاف وتدنيس الأعراض

وأد العفاف وتدنيس الأعراض الأثر التاسع: هذه الأفلام لوئد العفاف وتدنيس الأعراض. مرة أخرى قد أعرض لكم صوراً مزعجة، ولكن لا بد من عرضها: أب يشاهد أحد الأفلام الجنسية وليس بجواره إلا ابنته فيمارس مع ابنته بعض الصور التي يراها في ذاك الفيلم، حتى تتقدم تلك البنت بشكوى وتصل القضية إلى المحكمة الشرعية. هذه قضايا تظهر أما ما لا يظهر فهي قضية أخرى. صورة أخرى من أب أيضاً يقوم بانتهاك عرض أم زوجته بسبب مشاهدته لمثل هذه الأفلام. نموذج آخر من تأثير الأفلام أيضاً وقيادتها إلى مثل هذه النتيجة المؤلمة وتدنيس الأعراض: فتاة بعد أن قبض عليها واعترفت بأن هذا الشاب الذي معها قام بتدنيس عرضها، تقول وهي تبكي: اذهبوا وانظروا إلى الأفلام التي عند أخي، بعد ذلك تعذروني. فتاة بريئة عفيفة ومغفلة تلتقي مع أحد الشباب ثم يقوم بتشغيل أحد الأفلام الجنسية، فتنهار تلك الفتاة وتكون النتيجة أن يتناوب مجموعة من الشباب على تدنيس عرض هذه الفتاة. نماذج أيها الإخوة مؤلمة ومفزعة، وهي عرضة لأن تصيب كل منزل يتهاون في مثل هذه الأمور، سواء هذا الجهاز الخبيث أو جهاز استقبال القنوات العالمية. ويحدثني أحد الإخوة أن أحد السائقين سائق لرجل لا تفوته صلاة الفجر مع الجماعة ويوجد في بيته دش، يقول: إنه في ساعة معينة من الليل في يوم معين من أيام الأسبوع يعرض أفلام جنسية ساقطة، وأيضاً موجود أفلام جنسية أو أفلام عارية مسجلة من هذه القنوات يقوم بعض ضعاف النفوس بترويجها، وهناك عينات موجودة منها لمن أراد إثبات ذلك من أهل الاختصاص وممن يعنيه الأمر. ولهذا يأتي هذا الأب المسكين المغفل ويضع مثل هذا الهوائي ليستقبل الأخبار ويتلقى الأخبار، أو ليتباهى بين زملائه والناس حوله، وينام مثل هذا الرجل الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليستيقظ إلى الصلاة أو ليذهب إلى عمله، وقد يجهل أن ابنته تسهر أمام هذا الجهاز الذي يعرض لها صوراً ساقطة قد لا يكون هذا الأب رآها، وماذا تتصور من أثر ونتيجة هذه الأفلام على هذه الفتاة أو على ذاك الشاب الذي يعيش في جو مشحون بوسائل الإثارة والإغراء، ويعيش في فترة تتوقد فيها الشهوة، إضافة إلى افتقاد التوجيه. ولهذا لا نلوم من يتحدث عن مثل هذه الأجهزة ويطالب بحل حاسم للقضاء عليها وعلى خطورتها.

القضاء على مفهوم المنكر

القضاء على مفهوم المنكر أثر عاشر من آثار هذه الأفلام: القضاء على مفهوم المنكر. يعتاد المشاهد في هذه الأفلام مشاهدة المنكر فتتكرر مشاهدته لمشاهد التبرج، حتى يصير أمراً عادياً جداً أن يرى امرأة متبرجة الاختلاط الموسيقى الغناء التدخين الخمور فاعتياد المشاهد لمثل هذه المشاهد يزيل من قلبه استقباح المنكر ومن ثم لا يستنكر هذا المنكر، بل قد يوجد عنده نفسية تطالب بتطبيق هذه الأمور في مجتمعه، فيقول في نفسه: لماذا تحصل هذه الأمور في المجتمعات الأخرى ونحن محرومون ونعاني من الكبت وتقييد الحريات؟ لماذا لا يتاح لنا فرصة التعرف واللقاء بالفتيات لماذا لا يكون هناك فرص الاختلاط لماذا لماذا هذه القيود كلها؟ هذه نتيجة وإفراز لمشاهدة ومتابعة هذه الأفلام. وأياً كان هذا الإنسان الذي يتجرأ ويشاهد أفلام الفيديو أو التلفاز فيسمع فيها الموسيقى أو يشاهد فيها الصور المحرمة، أو الاختلاط، أو التبرج، أو أياً كانت تلك المنكرات؛ فلا بد أن يزول استقباح المنكر من قلبه، ولولا زوال استقباح المنكر من قلبه أصلاً لما تجرأ على مشاهدة مثل هذه الأفلام، وتخيل عندما يتربى المجتمع على فقد الغيرة وفقد الغضب للمنكر ولانتهاك حرمات الله عز وجل؛ حينئذ يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما قال صلى الله عليه وسلم.

القضاء على الآداب الشرعية

القضاء على الآداب الشرعية الأثر الحادي عشر: القضاء على الآداب الشرعية. سأشير إلى نموذج واحد: من الآداب الشرعية أن يستأذن الطفل عندما يدخل على والديه: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] فهناك أحكام خاصة بالاستئذان للطفل الذي لم يبلغ الحلم وأحكام خاصة بالاستئذان للطفل الذي بلغ الحلم. أما من خلال أفلام الفيديو أو التلفاز فلا مجال لهذا الاستئذان؛ لأنه سيرى في هذا الفيلم غرفة النوم، ويرى كل ما يدور فيها، ويرى كل ما يحصل، فحينئذ يقضى على هذا الأدب الشرعي، ناهيك عن كثير من الآداب والأخلاق الشرعية التي تقضي عليها مثل هذه الأفلام وهذه البرامج.

المعاصي المتراكبة

المعاصي المتراكبة الأثر الثاني عشر: المعاصي المتراكبة. المشاهد لهذا الفيلم لا يخلو من النظر المحرم، وتخيل معي كم نظرة حرام سينظر إليها عندما يشاهد فيلماً واحداً، فكيف عندما يشاهد أكثر من فيلم، تخيل أثر هذه المعاصي على قلبه والطبع على قلبه، وتخيل عقوبة هذه المعاصي التي تعم المجتمع كله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف:100]. ومن هنا فإنك لا تستغرب أن تجد القسوة التي رانت على قلوبهم؛ لأننا بين رجل يتجرأ على المنكر، ورجل يشاهد ويعمل المنكر فتخيل معي كم نظرة حرام سينظر إليها هذا الشخص، وكم سيئة ستصيبه نتيجة هذه النظرة، ناهيك عن الأثر الذي ستبقيه في قلبه!

هدم الصلة الزوجية

هدم الصلة الزوجية الأثر الثالث عشر لمشاهدة هذه الأفلام: هدم الصلة الزوجية، من عدة جوانب، فالزوج سينظر إلى امرأة أجمل من زوجته، وحينئذ سيذهب لزوجته، والزوجة هي الأخرى ستنظر إلى شاب أجمل من زوجها؛ خاصة أن من يظهر على هذه الشاشات يحرض على إبراز نفسه باستخدام المكاييج ووسائل التجميل بصورة تثير المشاهد، وهذا لا شك أن له أثراً كبيراً على هدم الصلة والعلاقة بين الزوجين. كذلك أيضاً: الوقت، فحينما يسمر الزوجان أو أحدهما عينيه أمام التلفاز فإنه لا يبقى وقت لتبادل الحديث بينهما، مما يزيد من الجفوة والفجوة بين هذين الزوجين فيصبحان يقضيان الوقت في صمت مطبق يشاهدان بعض هذه الأفلام أو هذه المشاهد، ولك أن تتصور غاية الوقاحة عندما يقوم الكثير من الأزواج بمشاهدة الأفلام الجنسية مشتركين. كذلك أيضاً: قتل الغيرة، فهذا الزوج الذي يشاهد هذه المشاهد ستموت الغيرة في قلبه مما يساهم في ضعف وتوتر هذه العلاقة بين الزوجين، مما يؤدي إلى مشاكل اجتماعية كثيرة قد تصل أحياناً إلى الطلاق وتفكك الأسرة.

غرس القيم الوافدة

غرس القيم الوافدة الأثر الرابع عشر: القيم الوافدة. إن الكثير من هذه الأفلام التي تعرض هي مستوردة من بلاد ومناطق سواء كانت كافرة أو كانت مسلمة لكنها تحمل قيماً غريبة عن مجتمعاتنا، وتعرض أمام المشاهد وتتكرر، بل قد يشاهد مثل هذه الصور نتيجةً لطول مشاهدته لهذه الأفلام أكثر مما يشاهدها في المجتمع، فتؤدي إلى وجود أنماط من السلوك والقيم لم تكن موجودة في المجتمع، ولعل المتجول والناظر المتأمل في واقع الكثير من الشباب والفتيات يجد هذه الصورة واضحة. وفي الرسالة التي أشرنا إليها سابقاً (أثر أفلام الفيديو على متابعة برامج التلفاز بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض)، أفاد (81%) من أفراد العينة أنهم يشاهدون أفلاماً أجنبية، ولك أن تتصور كيف ستساهم هذه الأفلام في غرس القيم وأنماط السلوك الشاذة عند هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام.

التقليد والمحاكاة

التقليد والمحاكاة الأثر الخامس عشر: التقليد والمحاكاة، ولعل الصورة الظاهرة لذلك قصات الشعر التي تتنوع على حسب القصة التي يقوم بها البطل الفلاني أو البطلة الفلانية أو غيرها، وأحياناً تجد أنها تنتشر هنا أكثر مما تنتشر هناك، فعندما يخرج نوع من أنواع قصات الشعر أو موديلات الملابس، تجد مباشرة أن كثيراً من الفتيات أو الشباب يساهم في تطبيق ما رآه مباشرة، وقد يكون انتشارها هنا في مجتمعاتنا أسرع من انتشارها في تلك المجتمعات التي ولدت ووجدت فيها. في دراسة أجريت في الكويت بعنوان: (الآثار النفسية والتربوية للتلفاز والفيديو على الأطفال)، اتضح أن (84%) من الأبناء في مرحلة الطفولة يحبون تقليد الأبطال، وكانت هذه النسبة (75%) لدى الأبناء في مرحلة المراهقة، ويرى معظم الآباء والأمهات بنسبة (95%) أن الطفل يحاول تقليد الأبطال الذين يعجب بهم في مسلسلات التلفاز. وعلى كل حال فكل نتائج الدراسات التي تجرى في الخارج لا بد أن يكون لها أثر في مجتمعاتنا؛ نظراً لأننا سنصبح نستقبل كل المحطات التي يرسلها العالم القريب والبعيد. وجه سؤال لبعض الأطفال: من يعرف شخصية تاريخية كانت مثالاً للبطولة والشجاعة؟ فأجاب أحدهم: إنه جرانديزر، وهو أحد هؤلاء الأبطال. هل هذه الأفلام تركز عند الشاب أن البطل هو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو غيره من المصلحين والمجددين، أم تغرس عندهم أن البطل هو ذاك الرياضي، أو الممثل، أو الداعر، أو الساقط، أو فلان وفلان، وكثيراً ما يكون هؤلاء الأبطال من الكفار، ولعل الكثير منكم يتذكر تلك النتائج التي جنيت من عرض الفيلم الذي كان يدور حول بطولة رجل يسمى: ستيف، وكان كثير من الأطفال يقلد مثل هذا البطل الأسطورة الذي يقفز من السقف ولا يتأثر، وحصلت حالات وفيات وحالات كسور؛ بسبب ما قام به بعض الأطفال من تقليد مثل هذا البطل. وتبرز هذه الصورة في الأفلام الكرتونية، وفي الواقع كنت أريد أن أتحدث عن الأفلام الكرتونية كعنصر من عناصر هذا الموضوع ولكن الوقت لا يتسع، ولذلك آثرت تركها وعدم الحديث عنها، فالصورة التي تعرض فيها قد تكون أشد من مثل هذه الصور.

الاهتمامات الدائرة حول الحب والغرام

الاهتمامات الدائرة حول الحب والغرام الأثر السادس عشر: الاهتمامات، فإن هذا الشاب الذي يعيش طول وقته أمام هذه الشاشة، لا شك أنها ستشكل اهتمامات هذا الشاب أو اهتمامات تلك الفتاة والتي ستدور حول الحب والغرام والعشق والعلاقات المحرمة، أو حول الرياضة والفن، أو أفلام المطاردات والأفلام البوليسية الكوبي وغيرها من الأفلام، المهم أنها ستشكل لنا جيلاً من الشباب والفتيات لا يمكن أبداً أن يكون عنده اهتمام بالعلم الشرعي، أو حفظ القرآن الكريم، أو الدعوة إلى الله عز وجل، أو الاهتمام بقضايا أمته. يقول الأستاذ عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية: وإن المسألة هنا تتعدى في خطورتها معرفة أسماء الممثلين أكثر من معرفة أسماء الصحابة إلى التفريغ الداخلي الذي يسقط في الحماسة المتوجهة نحو الجهاد والمجد الإسلامي، ليحل محلها الهوى الساذج وأحلام اليقظة في الأموال والترف والسفر وربما العبث وكأن الحياة لعب في لعب، ومعروف أن الحياة أبعد ما تكون عن ذلك، وأن البقاء نفسه يقتضي قوة في العقل والثقافة والتزاماً بالدين وتوهجاً واستعداداً للجهاد والجلاد، فالأعداء يتربصون بنا من كل صوب، وهذه الأفلام أبعد ما تكون عن هذه التأثيرات.

التعثر الدراسي

التعثر الدراسي الأثر السابع عشر: التعثر الدراسي، ويتمثل ذلك من خلال وقت المشاهدة الذي يقضيه بعض الشباب في مشاهدة هذه الشاشة، أو الهم والتفكير الذي يستولي عليه، فهو يدخل الفصل وذهنه هناك يفكر في تلك الصورة التي رآها ويفكر في ذاك الفيلم أو البطولة التي شاهدها، فيعيش في عالم آخر غير عالم الدراسة. في دراسة قام بها بعض طلبة جامعة الملك سعود حول بعض الطلبة في المرحلة الثانوية في مدينة الرياض: يرى (58%) من أفراد العينة أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى ضعف التحصيل الدراسي، ويرى (58%) أيضاً أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى عدم وجود وقت كاف للمذاكرة. وفي دراسة أجراها الدكتور عبد الرحمن الشاعر على بعض الطلبة أيضاً في مدينة الرياض: يرى (42%) من أفراد العينة أنها تعوق عن التقدم الدراسي، ويرى (42%) أنها تؤدي إلى إهمال الدراسة. أيضاً: يجب أن تعلم أن هذه الآراء من خلال هؤلاء أنفسهم، فقد يكون البعض تعوقه عن الدراسة لكنه لا يرى أنها تعوقه أو تؤثر عليه، فهذه اعترافات من شاهدوا هذه الأفلام. وفي دراسة أجريت في الكويت: اتفق معظم الآباء والأمهات بنسبة (74%) على أن التلفاز يشغل الطفل عن أداء واجباته المدرسية.

الدعوة للسفر إلى الخارج

الدعوة للسفر إلى الخارج الأثر الثامن عشر: الدعوة للسفر للخارج من خلال عرض المناظر في هذه الأفلام، سواء المناظر الطبيعية أو مشاهد الإثارة والإغراء والتي تدعو الطالب أو الشاب بل الفتاة إلى أن يفكر في السفر للخارج. في الدراسة التي أجراها الدكتور عبد الرحمن الشاعر أفاد (53. 08%) من هؤلاء الشباب أن مشاهدة الأفلام تؤدي إلى زيادة الشوق للسفر للخارج.

الهم والتفكير

الهم والتفكير الأثر التاسع عشر: الهم والتفكير. يحدثني أحد الشباب الذين كانوا يشاهدون هذه الأفلام، يقول: إنك تبدأ التفكير بهذا الفيلم منذ أن تبدأ في مشاهدته وحتى تنتهي ويستمر معك هذا التفكير ولا ينتهي هذا التفكير إلا من الغد عندما تبدأ في مشاهدة الفيلم الآخر، فيعيش مشاهد هذا الفيلم وهذه الشاشة طول وقته في هم وتفكير مع ما شاهده في هذا الفيلم.

إضاعة الوقت

إضاعة الوقت الأثر العشرون: إضاعة الوقت، وكثير من الشباب يقضي ساعات طويلة، منهم من يقضي أربع ساعات إلى خمس ساعات يومياً في مشاهدة الأفلام بل ذكر لي بعض الشباب أن أحد الشباب يجلس من صلاة الظهر إلى قريب من آخر الليل وهو يشاهد هذه الأفلام، وتخيل هذا الوقت الذي سيضيع على هذا الشاب أو تلك الفتاة من خلال مشاهدة هذه الأفلام.

الانصراف عن القراءة والمطالعة

الانصراف عن القراءة والمطالعة الأثر الحادي والعشرون: أن هذه الأفلام تصرف عن القراءة والمطالعة التي يحتاج إليها الشاب وتحتاج إليها الفتاة لتنمية شخصيتها. في دراسة للدكتور عبد الرحمن العيسوي على عينة من مشاهدي هذه الأفلام، أفاد (64%) من أفراد العينة أن التلفاز يشغل المشاهد عن القراءة.

اعتياد السهر

اعتياد السهر الأثر الثاني والعشرون: اعتياد السهر، حتى أصبح الإنسان الذي ينام مبكراً ويوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم يذم على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، والناس يقولون في المثل العامي: إنه لا ينام بعد العشاء إلا دجاج! ولا شك أن من أهم أسباب هذا السهر مشاهدة برامج التلفاز والفيديو، ناهيك عما يحدثه هذا السهر من التأخر عن الصلاة وإنهاك الإنسان وإشغاله في وقته فيأتيك الطالب في الفصل فتحتاج إلى أن تبذل جهداً مضنياً لإيقاظه من النوم، وعندما يستيقظ يبدأ يعيش في عالم آخر فيسترجع تلك الصور التي كان يراها على شاشة التلفاز.

تضييع الأموال

تضييع الأموال الأثر الثالث والعشرون: الأثر الاقتصادي، في إحصائية لمصلحة الإحصاءات العامة تقول: في عام (1982م) هنا: بلغت قيمة أجهزة الفيديو المستوردة في ذاك العام (475. 362. 000 ريال) وقيمة الأشرطة المستوردة (102. 505. 000 ريال) أي أن المجموع (577. 867. 000 ريال) يعني: ما يزيد على نصف مليار هذا في عام واحد قيمة أجهزة الفيديو والأشرطة، ناهيك عن الصيانة والاشتراك والتسجيل وغيرها من الأمور. أليس من إهدار طاقة الأمة أن يصرف في مجتمع مثل هذا المجتمع المحافظ يصرف نصف مليار في عام واحد على هذه الأفلام؟! والمسلمون يموتون جوعاً ويتضورون جوعاً، ويحتاج أحدهم إلى رغيف الخبز، ويحتاج أحدهم إلى رصاصة واحدة أو طلقة واحدة يقاتل بها عدوه. في تحقيق أجرته مجلة الدعوة: أفاد أحد المستهلكين أنه يصرف (70%) من راتبه على شراء الأشرطة، وأفاد أحد أصحاب محلات الفيديو أن بعض الزبائن يسجل على حسابه آخر الشهر.

تعليم فن الجريمة

تعليم فن الجريمة الأثر الرابع والعشرون والأخير: تعليم فن الجريمة، وتساهم هذه الشاشة في تعليم أساليب وفن الجريمة مساهمة فعالة، ويتنادى الآن عقلاء الغرب -وليس فيهم عاقل- والمفكرون والكتاب إلى ضرورة الحد مما يعرض على شاشة التلفاز من تلك البرامج التي تعلم الجريمة، فقد عقد مجلس العموم البريطاني جلسة في عام (1984م) لمناقشة كيفية بيع وتنظيم الأفلام؛ وذلك أن الإحصاءات البريطانية أثبتت أن معدل العنف والجريمة ارتفع بشكل ملحوظ نتيجة انتشار أفلام الفيديو. وفي دراسة في الكويت اتفق معظم الآباء والأمهات (72%) على أن التلفاز خلق لدى الكثيرين الاعتقاد بأن العنف أسلوب من أساليب التعامل مع الآخرين. في دراسة أجريت في سوريا حول بعض الأحداث الجانحين أفادت الدراسة أن (81%) من هؤلاء كانوا يرتادون السينما، وقد اعترف (83%) من أولياء الجانحين بأنهم يعتقدون بأن الأفلام السينمائية تركت أثراً سيئاً على سلوك أبنائهم كما نشرت ذلك مجلة الأمن والحياة. وفي تونس قام طفل بشنق نفسه ليطبق ما رآه في أحد الأفلام كما ذكرت ذلك مجلة الأمن والحياة. في مدينة بوسطن الأمريكية طفل عمره تسع سنوات رسب في جميع المواد فاقترح على والده أن يرسل علبة مسمومة من الحلوى للمدرسة، فسأله عن السبب وكيف تعلم ذلك؟ فقال: إنه أخذ هذه الفكرة من فيلم سينمائي. في فرنسا طفل عمره خمس سنوات قام بإطلاق الرصاص على جاره وأصابه بجروح خطيرة، وأفاد بعد ذلك أنه تعلم حشو البندقية وإطلاق الرصاص من أحد الأفلام. على كل حال هناك صور مزعجة جداً من الجرائم التي كانت تحصل نتيجة مشاهدة هذه الأفلام منها: عصابة من الأحداث من طلاب المرحلة الإعدادية في مصر قاموا بتخريب سبع مدارس، وكانت لغزاً محيراً لرجال الأمن حتى استطاعوا أن يقبضوا عليهم، وكان هؤلاء بعدما يقومون بالتخريب في المدرسة يكتبون على السبورة عبارة: البرادعي وإلى اللقاء في مدرسة أخرى، وأخيراً بعد القبض اعترفوا بأنهم قاموا بذلك تقليداً لأحد المسلسلات التي شاهدوها. بل هناك جرائم على مستوى أكبر فـ براون المختلس المعروف خطط لجريمته عقب مشاهدة أحد الأفلام، وخلال أربع وعشرين ساعة من عرض ذاك الفيلم، تلقى البوليس خمس تهديدات بتفجير رحلات ومكاتب خطوط جوية. إن هذه البرامج تقدم العنف والجريمة وتشرح كيفية ارتكابها، وكيف يخطط البطل اللص للضحية، وكيف يستخدم التهديد ويحصل على الفدية؛ ولهذا يقول استيفن بانا وهو أحد علماء النفس الغربيين: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث. وعندما نعود الآن بعد عرض هذه النماذج المذهلة إلى مجتمعنا نرى انتشار ما يسمى بالأفلام البوليسية، أو أفلام المطاردات، أو أفلام الكوبوي، وكل هذه الأفلام تساهم مساهمة فعالة في تعليم أساليب الجريمة والقتل والاحتيال وهي تحظى بالنسبة العظمى من المشاهدة. ففي الدراسة التي أشرنا إليها قبل قليل بعنوان: (أثر الفيديو على مشاهدة التلفاز في مدينة الرياض)، أفاد (79%) من الشباب أنهم يشاهدون الأفلام البوليسية، وفي دراسة أجراها مجموعة من طلاب كلية الآداب بجامعة الملك سعود وأشرنا إليها آنفاً: حصلت الأفلام البوليسية على الترتيب الأول في المشاهدة. وفي تحقيق أشارت إليه مجلة الدعوة: ذكر أحد أصحاب الأفلام أن أكثر الأفلام انتشاراً أفلام الكوبوي والمطاردات البوليسية والمباريات. ولا بد أن تترك هذه الأفلام أثراً بصورة أو بأخرى، إنها تعلم المجتمع وتعلم هذا الشاب ألواناً من أساليب الجريمة والاحتيال لم يكن متعلماً لها، وقد لا يكون بالضرورة أن يتحول كل هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام إلى مجرمين، ولكن يكفينا عندما تخرج هذه الأفلام مجموعة من هؤلاء المجرمين، يكفي أثراً ودافعاً إلى ضرورة منع هذه الأفلام والحد منها.

الأثر الأمني والسياسي

الأثر الأمني والسياسي وأخيراً: الأثر الخامس والعشرون: الأثر الأمني والسياسي؛ حيث إنه تعرض في هذه الأفلام مشاهد لأعمال ما يسمى بأعمال العنف والتخريب والمظاهرات والمشاهد السياسية التي لم يعتد عليها المجتمع، وتعرض كوسيلة للتنفيس عما يجده المرء من مضايقة، ولا شك أن استمرار المجتمع على مشاهدة هذه الأفلام وهذه المشاهد لا بد أن تترك عنده أثراً سلبياً في تقليد هذه الأساليب مما يهدد المجتمع ببروز مخاطر أمنية لم يكن يألفها ولم يكن يعتد عليها.

كيفية التخلص من الأفلام السيئة

كيفية التخلص من الأفلام السيئة بعد ذلك سؤال يطرح نفسه: ما الحل؟! إنه يكفي أن أثير القضية أمامكم، ويكفي أن أصور لكم حجم هذه المشكلة التي أشعر أن الكثير ممن يدرك خطورتها لا يعطيها حجمها الأمثل؛ ولهذا سأشير باختصار شديد إلى الحل الذي يمكن أن نقوم به نحن أنفسنا، فأنا أخاطب الإخوة المستمعين والجمهور والذي أعرف أن كل فرد منهم لا يتجاوز أن يكون فرداً محدوداً من أفراد المجتمع.

التفكير الجاد في الاستغناء عن التلفاز

التفكير الجاد في الاستغناء عن التلفاز أولاً: لا بد من التفكير الجاد في الاستغناء عن جهاز التلفاز؛ لأنه سيقود في المستقبل إلى أن يكون بوابة لأن يستقبل كل ما يعرض في المحطات العالمية، وهو خطر على ما فيه فكيف إذا كان يستقبل كل المحطات العالمية، علماً بأنه الآن يوجد بعض الأجهزة التي يكون فيها جهاز الاستقبال داخل جهاز التلفاز نفسه، وقد لا يكتشف هذا الأسلوب قد لا يكتشفه الأب ولا يكتشفه الجيران، فيكون هذا الجهاز موجوداً داخل جهاز التلفاز نفسه، وبعد مرحلة -كما قلنا- سيستطيع المشاهد أن يشاهد من خلال جهاز التلفاز العادي كل محطات العالم.

تربية نوازع الرفض للأفلام عند الشباب

تربية نوازع الرفض للأفلام عند الشباب الأمر الثاني: لا بد من العناية بتربية الشباب والفتيات حتى يتكون عندهم الرفض لذلك من الداخل. نريد أن يتربى الشاب والفتاة على أنه لو وجد عنده التلفاز لو وجد عنده الفيديو لو وجد عنده الدش والهوائي؛ فإنه يرفض مشاهدة مثل هذه المشاهد والصور، وحينئذ نوجد الحصانة لهؤلاء، وهي مسئولية ضخمة تناط بالآباء والأمهات والخطباء والأساتذة وأهل التوجيه والرأي، فلا بد أن يدرك كل فرد مسئوليته ولا بد أن نقوم بجهد مكثف وواسع لتربية هؤلاء وغرس الرفض من الداخل، وتربية الإيمان الذي يدعوهم إلى أن يرفضوا مثل هذه المظاهر ويحميهم حتى لو تيسرت أمامه هذه المظاهر والفتن فيقول الواحد منهم: إني أخاف الله.

تقديم البدائل المفيدة عن الأفلام

تقديم البدائل المفيدة عن الأفلام الأمر الثالث: لا بد من تقديم البدائل المفيدة وعلى رأسها الشريط الإسلامي، فلا بد أن يوجد في البيت مكتبة متكاملة من الأشرطة الإسلامية، سواءًَ الأشرطة التي تعالج قضايا اجتماعية، أو قضايا المرأة، أو الأشرطة الموجهة للأطفال، فلا بد من العناية بهذه الأشرطة وتوفيرها في البيت لتكون بديلاً عن هذا الوقت الذي يقضيه هؤلاء في مشاهدة تلك الأفلام. كذلك أيضاً توفير أجهزة الحاسب الآلي للشباب أو الفتيات، مما يؤدي إلى إشغال وقتهم بشيء على الأقل لا يكون أثره سلبياً، أو على الأقل لا يكون له أثر إن لم يكن له أثر إيجابي لتعليم الشاب والفتاة علوماً ومعارف معينة يمكن أن يستفيد منها، وحتى لو تصورنا أن أثر هذا الجهاز كان محدوداً وأنه لم يستفد منه فيكفي أن هذا الجهاز يكون وسيلة لإشغال وقت الشاب ووقت الفتاة عن مشاهدة مثل هذه الأفلام. كذلك أيضاً الرحلات والنزهات المفيدة، أعني أن يعتني الأب بواقع بيته زوجته وأبنائه فيأخذهم إلى رحلات إلى مناسبات أن يصرف جزءاً من وقته لهؤلاء حتى لا يعيشون وهم يعانون من الفراغ الذي يدعوهم إلى المطالبة بمثل هذه الأجهزة.

ملء أذهان الشباب بالاهتمامات الجادة

ملء أذهان الشباب بالاهتمامات الجادة الأمر الرابع: وهو ضرورة ملء أذهان الشباب والفتيات بالاهتمامات الجادة وحين ينشغل الشاب والفتاة باهتمامات جادة كحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله والانشغال بقضايا الأمة فإنه لن يجد في قلبه مكاناً لمثل هذه التفاهات وهذه الصور والمشاهد الساقطة.

اشغل أوقات الفتيات بأعمال المنزل

اشغل أوقات الفتيات بأعمال المنزل الأمر الخامس: إشغال وقت الفتاة بالذات في المنزل بالعمل الذي يملأ فراغها وقتاً وذهناً، والعجب من أولئك الآباء الذين يحضرون الخادمات للمنزل حتى تبقى تلك الفتاة فارغة وحينئذ لا يكون أمامها إلا مشاهدة أفلام الفيديو وبرامج التلفاز فتكبر تلك الفتاة وتبلغ سن الزواج وقد لا تجيد إعداد الشاي أو إعداد أبسط أنواع الأطعمة؛ نظراً لأن هذا العمل تقوم به الخادمة، ولا تستطيع ترتيب أي أمر من أمور البيت، فلماذا لا تشغل هذه الفتاة بالقيام بأمور البيت من الطهي وإعداد البيت والقيام به فلا تجد بعد ذلك وقتاً لمشاهدة ومتابعة هذه الأفلام، ثم أيضاً يكون هذا وسيلة لإعداد الفتاة المؤهلة لحمل مسئولية المنزل.

توسيع التوعية بأضرار الأفلام

توسيع التوعية بأضرار الأفلام الأمر السادس: ضرورة توسيع الدعوة العامة والتوعية خاصة الحديث عن هذه القضايا والمشاكل في كل المناسبات، في المناسبات العائلية في الخطب في المحاضرات الكتب دروس المساجد في المدارس أن نستعمل كافة القنوات والوسائل للدعوة لمثل هذه التوعية وإبراز الجوانب الضارة والدعوة إلى التخلي عنها.

تبني برامج توزيع الشريط الإسلامي

تبني برامج توزيع الشريط الإسلامي الأمر السابع: تبني برامج في الأحياء لتوزيع الشريط الإسلامي بقوة، كأن يتفق أهل كل حي أو مدرسة أو جهة معينة على أن يقوموا بتنظيم برنامج لتوزيع الشريط الإسلامي، سواءًَ ما يعالج هذه القضايا أو غيرها، كي يمثل غزواً إعلامياً -إن صحت العبارة- من الداخل، ويمكن أن يشتري هؤلاء جهاز نسخ والذي لا يتجاوز ثمنه ثمن الدش الذي يشتريه الكثير من أصحاب الدخل المحدود حتى أصحاب الأحياء الفقيرة جداً، بل أصحاب البيوت الطينية كما ذكرنا من قبل، لماذا هؤلاء يشترون هذا الجهاز بالثمن الباهظ، فلو اجتمع عشرة أو ثمانية لا ستطاعوا أن يوفروا مبلغاً يمكن أن يؤمنوا به جهاز نسخ وتسجيل لهذه الأشرطة، ويستطيعون أن يقوموا بتوزيع كميات من هذه الأشرطة في المناسبات العائلية وفي المساجد والمدارس، لا بد أن يكون لنا مساهمة فعالة، أما الحديث العاطفي والتألم فإنه لا يجدي شيئاً.

ميزان الرجولة

ميزان الرجولة الرجولة معنى يفرق بين الذكور والإناث، كما أنه يحمل معنى يميز بعض الرجال عن غيرهم بالصفات النبيلة التي تتحقق بها مقاصد الدين ومصالح الدنيا، وهي أمر ينبغي أن نتربى عليه وننشئ عليه أبناءنا باتباع الأساليب المعينة على ذلك.

أهمية الحديث عن الرجولة

أهمية الحديث عن الرجولة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد. أيها الإخوة الكرام! لم يكن أحد يحسب أن نكون بحاجة إلى أن نحدث الناس عن الرجولة وأن نذكر بصفات الرجال وسماتهم. فالرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفي حين تمدح إنساناً أن تصفه بالرجولة، وحين تذمه وتعيبه أن تنفي عنه الرجولة، أليس الأب والمعلم يعاتب ولده بنفي الرجولة قائلاً: ألست رجلاً؟ أليس يذكره بالرجولة قائلاً له: لقد أصبحت الآن رجلاً؟ أليس يعيبه ويذمه حين يقول: إنك طفل ولست من الرجال؟ يتطلع الصغير والصبي إلى ذلك اليوم الذي يوصف فيه بالرجولة ويحدث من حوله من الصغار والكبار عما سيفعل حين يكون رجلاً، إنه يتشبه بالرجال في حديثهم وفي مشيتهم وفي لباسهم، وحين تعود إلى دنيا الناس ترى العجب من أخلاقهم وطباعهم وترى ما لا يخطر لك على بال لكنك مع ذلك كله لا ترى فيهم من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة، إنه أمر يتفق عليه الجميع مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم عاقلهم وسفيههم بل أنت ترى كثيراً من الحمقى والسفهاء يبررون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست مسافة قريبة فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم. فيما مضى في عصر العرب الأوائل كانت الرجولة إرثاً كانت مفخرة وممدحة، وبغض النظر عما انحط فيه أولئك من السفاسف والرذائل فقد كان لديهم سمو في الأخلاق ونبل في المعدن، ولذا فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعث في خير الناس. لقد خلق الله عز وجل الخلق عرباً وعجماً وجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب فهم خير فرقة من الناس، وهو صلى الله عليه وسلم خيرهم وأبرهم وأتقاهم وأكملهم رجولة. وفي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم في عصر التقنية والاتصال؛ تحول العالم إلى قرية صغيرة فارتقى الناس في عالم المادة وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم شهواتهم وأهوائهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] وورث المسلمون وذرية العرب الأوائل ورثوا من هؤلاء العفن والفساد ورثوا منهم مساوئ الأخلاق، وساروا وراءهم في لهث وسعار، فلا المدينة والحضارة أدركوا ولا أخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة. وصرت بحاجة إلى أن تذكر الرجال بسمات الرجولة وتطالب الشباب بأن يكونوا رجالاً لا صغاراً. إن هذا يدعونا إلى أن نتحدث عن الرجولة إن هذا يدعونا إلى أن نذكر الرجال بسمات الرجولة وصفات أهلها. وذكر هذا الحديث ليس عيباً لهؤلاء الذين تحلقوا في هذا المكان، فهم من خير الرجال وأبرهم، لكننا جزء من هذا المجتمع والكيان المتكامل نتأثر بما فيه ونؤثر فيه، ونحن الذين ينتظر منا أن نحمل لواء الإصلاح والتغيير والبناء في المجتمع، فنحن بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا بسمات الرجال وصفاتهم؛ لأن من مهمتنا جمعياً أن نسعى في بناء الرجولة في مجتمعاتنا، ولئن كان أمراً استفدناه وتربينا عليه فهذا لا يعني بالضرورة أننا لا نحتاج إلى أن نذكر به خاصة حين نريد أن نحمله إلى الآخرين، وحين يراد أن نربي أبنائنا وجيلنا على هذا المعنى.

تعريف الرجولة

تعريف الرجولة الرجل في اللغة: يطلق على الذكر من بني الإنسان، وهو ضد المرأة. قال في اللسان: الرجل معروف، الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة. وعلى هذا المعنى فكل من لم يكن امرأة من بني البشر فهو رجل، لكن الرجولة في عرف الناس اليوم تعني معنىً زائداً عن مجرد الذكورة، فهل لهذا العرف أصل في لغة العرب أم أنه أمر تعارف الناس عليه، ولا حرج في ذلك حيث لا مشاحة في الاصطلاح. حديثنا ليس عن المصطلح لكن عن المضمون، حديثنا عن المعنى الذي يتحدث الناس حوله ويطالب به الآباء أبناءهم والمعلمون تلامذتهم يطالبونهم أن يكونوا رجالاً وأن يعيشوا في مصاف الرجال. فحديثنا عن المعنى والمضمون، والأمر لا يعني بقليل أو كثير مدى صحة هذا المعنى في استعمال العرب الأوائل، لكننا حين نفتش في معادن اللغة ونبحث فيها فإننا نجد ما يوحي بذلك نجد أن العرب وإن أطلقوا الرجولة على الذكورة فإنها قد تأتي ويراد بها معنىً زائد قد يتحقق في بعض الرجال دون غيرهم. وها هي بعض الأمثلة مما ذكره أهل اللسان في ذلك: قال في لسان العرب: قال ابن سيده: وقد يكون الرجل صفة -أي: تكون صفة وليست لمجرد الذكورة فقط- يعني بذلك الشدة والكمال، وعلى ذلك أجاز سيبويه الجر في قولهم: مررت برجل رجل أبوه. وقال في موضع آخر: إذا قلت: هذا الرجل فقد يجوز أن تعني كماله وأن تريد كل رجل تكلم ومشى على رجلين فهو رجل لا تريد غير ذلك، وفي معنىً تقول: هذا رجل كامل، وهذا رجل أي: فوق الغلام، ويقال: رجل به بالرجلة ورجل بين الرجولة والرجلة والرجلية والرجولية، وهذا أرجل الرجلين، أي: أشدهما، أو فيه رجلية ليست في الآخر، والرجيل: القوي على المشي الصبور، والرجيل أيضاً من الرجال: الصلب. إن هذه المعاني توحي بأن لهذا الاستخدام العرفي لدى الناس أصلاً، فكما أن الرجل يراد به الذكر من بني الإنسان فهو يعني وصفاً زائداً، ومن ثم فقد تنفى الرجولة عن طائفة من الناس وإن كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وينجبون البنين والأحفاد. ويطلق الرجل على البالغ فيقال: هذا غلام وذاك رجل، فالبلوغ يتأهل به المرء للمسئولية ويدرك منزلة الرجال، وينزل منازلهم، كيف لا وقد أمره من خلقه تبارك وتعالى وهو أعلم به من نفسه ومن الناس؛ أمره عز وجل ونهاه وحمله أعظم مسئولة. إذاً: فالرجولة: هي اتصاف المرء بما يتصف به الرجال عادةً؛ ولهذا فالجلد والصبر والقوة والتحمل هي من معاني الرجولة، وفي القرآن الكريم جاء وصف الرجولة في مواضع ومنها: تحمل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لأعباء الرسالة، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]. ومما جاء في التنزيل: صدق الرجل فيما عاهد الله عليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. ومن صفات الرجال في كتاب الله عز وجل: عدم الانشغال بالعوارض عن الذكر والآخرة: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38]. ومن سمات الرجال في كتاب الله: حب التطهر: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. ومع ذلك جاء في القرآن الكريم استخدام الرجال في مقابل النساء: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7] {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12]. وجاء وصف طائفة ممن سيق خبرهم في سياق الذم أنهم رجال، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32] لكن هذا لا يعني نفي أن يكون للرجولة إطلاقان: إطلاق عام، وإطلاق خاص وهو موضوع حديثنا. أيها الإخوة والأخوات! يدرك المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم جاهلهم ومتعلمهم يدركون مهما كان علمهم ومهما كانت ثقافتهم؛ أن الله عز وجل لم يخلق الناس ويوجدهم إلا لعبادته تبارك وتعالى، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومن ثم فمنزلتهم وقيمت

الرجولة بين المظهر والمضمون

الرجولة بين المظهر والمضمون الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها فمن يجلونه ويقدرونه ليس بالضرورة هو أهل الإجلال والتوقير، ومن يحتقرونه ويزدرونه قد يكون من أولياء الله الصالحين المقربين وماذا يضيره حين يرضى عنه الله عز وجل ويسخط عنه الناس؟! لذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن لا يهتموا بالمظاهر، فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهراً، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب أشعث مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره). وهاهو نموذج من الرجال الذين بلغوا هذه المنزلة وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا فيه بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] إلى آخر الآية، وقال: إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) رواه البخاري. إنهم ضعفاء يستضعفهم الناس لكن ذلك لا يضيرهم فعند الله هم أهل المنزلة العالية، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟! كل عتل جواظ مستكبر) رواه البخاري. وهاهو نموذج آخر يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقى وإجابة الدعاء، وهو مع ذلك يعيش في دهماء الناس فلا يقيم له من تأسرهم المظاهر وزناً؛ عن أسير بن جابر قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأل: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويساً فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس، فانطلق على وجهه قال أسير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لـ أويس هذه البردة؟) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله

الرجولة روح أكثر منها جسد

الرجولة روح أكثر منها جسد وكما أن الرجولة في المضمون لا المظهر فهي في الروح لا الجسد، فرب من أوتي بسطة في الجسم وصحة في البدن يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورب من كان معوق البدن وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال، ولهؤلاء سلف في عمرو بن الجموح رضي الله عنه الذي أصر على أن يطأ بعرجته الجنة. وفي العصر الحديث يوقد شرر الجهاد في الأرض المباركة رجل لا تحمله قدماه، ويقاضى بأن يغيب عن الناس مدى الحياة، لولا أن كانت مصالح لأعدائه تقتضي المساومة على أن يسمح له بأن يتنفس الهواء النقي.

مفاهيم خاطئة حول الرجولة

مفاهيم خاطئة حول الرجولة

إثبات الذات بطرق خاطئة

إثبات الذات بطرق خاطئة يسعى الناس لتحقيق الرجولة والامتداح بها، ويحذرون من أن يوصموا بنقصها، لذا فأولئك الذين لا يسعفهم رصيدهم من الرجولة يلجئون إلى أساليب ترفع لهم هذا النقص وتسد لهم هذا الخلل، ومن ذلك إثبات الذات، وكثيراً ما يلجأ الشاب المراهق لذلك فيصر على رأيه ويركب رأسه وتغدو مخالفة رأي معلمه أو والده مطلباً بحد ذاته، فلسانه دوماً يردد: ألست رجلاً؟ ألست أدرك مصالح نفسي؟ كيف يكون مصيري بيد الآخرين؟ ويسهم رفاقه وأقرانه في دفعه إلى هذا التصلب مشيدين برجولته ونجاحه معيرين من لا يحالفهم الحظ في الانتصار على السلطة الغاشمة في نظرهم. وربما يكون جهل بعض المربين بحاجات هذا الشاب وسماته مدعاة لهذا التصلب، لكن هذا الشاب لو أدرك أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بخفض الجناح للوالدين فقال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] ولو أدرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لشاب جاء يريد أن يصحبه قال له صلى الله عليه وسلم آمراً أن يعود إلى والديه: (اذهب إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)؛ لو أدرك ذلك لكان له شأن آخر. إن الشاب الذي يملك مقومات الرجولة ليس بحاجة إلى تصنعها وإقناع الآخرين بها، فما لم تنطق حاله بذلك وما لم تشهد أفعاله برجولته فالتصنع لن يقوده إلا إلى مزيد من الفشل والإحباط، وبدلاً من ذلك فالأولى به أن يقنع من حوله برجولته من خلال اتزانه وهدوئه وأنه لم يعد يستفز كالأطفال، ومن خلال قدرته على إدارة الخلاف مع الآخرين، ومن خلال قدرته على إبداء رأيه لمن يكبره سناً وقدراً وأن يقدم هذا الرأي بلغة تليق بمقام المخاطرة، ومن خلال نضج رأيه وانطلاقه من أسس موضوعية تقنع الآخرين.

التصلب في غير موطنه

التصلب في غير موطنه ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: التصلب في غير موطنه. يعد كثير من الناس الثبات على الكلمة التي تقال مظهراً من مظاهر الرجولة لذا توصف الكلمة بأنها كلمة رجل، ويعيره الناس حين يتراجع عن كلمة قالها بانتفاء الرجولة، لا شك أن من الرجولة الحقة أن يقر الرجل على كلمة حق قالها يريد بها وجه الله وأن يستعد لدفع الثمن من أجلها ولو كان غالياً، وأن يأبى التراجع مهما كلفه من ثمن. ومن الرجولة الحقة أن يصر المرء على الوفاء بوعد كريم نبيل قطعه على نفسه، ولو كلفه ذلك ثمناً باهظاً، لكن حين يقول كلمة يدرك أن الحق بخلافها أو حين يزل بكلمة لا يريد بها وجه الله، أو حين يفسح له من حوله الطريق فيستبين له بعض ما كان يجهل، أو يذكر بعض ما كان ينسى، فالرجولة حينها أن يعود إلى الحق، والرجولة الحقة أن يقول بشجاعة: إنني أخطأت وبالباطل نطقت. من السهل أن يتشبث المرء بباطله أو يصر على كلمته، لكن الشجاعة أن ينتصر على نفسه أن لا يسيره إلا الحق أن يتجرأ على الموقف الذي يضعف الكثير عن التجرؤ عليه فيتراجع عن قول الباطل ويخضع للحق.

القسوة على الأهل

القسوة على الأهل ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: القسوة على الأهل. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] كما جاء في كتاب الله تعالى، والرجل هو الآمر الناهي، والسيد المطاع في بيته، وهي سنة للحياة الزوجية لا تستقيم بدونها سنة يدركها العقلاء ويتعبد باتباعها المسلمون الأتقياء. وثمة فئة من الأزواج يدير بيت الزوجية كما تدار المعركة ويبني صوراً من الأوهام حوله. إن معالم الرجولة لدى هؤلاء استقرت في أن يقول: لا، وأن يرفض إعادة النظر في رأي رآه أو موقف اتخذه أو يوصد الأبواب أمام الحوار أو الاستماع لشريكة عمره وحياته، إن البيوت لا تبنى إلا على التأني والطمأنينة، ولا تشاد أسوارها إلا بالرحمة الشفقة، لذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده بهذه المنة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. إن حال أولئك الذين يتصنعون الرجولة في بيوتهم حال من فقد الرحمة والمودة، وأين هم من صاحب الرجولة الحقة الذي آتاه الله كمالها وجمالها حين كان حاجاً للبيت العتيق أصاب زوجته ما يصيب بنات آدم فلم تعتمر معه قبل حجه، وأعلمها صلى الله عليه وسلم أن حجها حج وعمرة لكنها رضي الله عنها سألته أن يأذن لها في العمرة، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن لبى رغبتها، وصفه جابر رضي الله عنه بقوله: (وكان رسول صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هوت الشيء تابعها عليه). أين هذا الحال وهذا الواقع من أولئك الذين يفتخرون ويعتزون بأن رجولتهم تتحقق في مخالفتهم لما تريد نساؤهم ولو كانت تريد حقاً مشروعاً ولو كان ما تريده هو الحق، فالسيد والمطاع والرجل الحق عند هؤلاء هو الذي يقول: لا، وهو الذي لا يرضخ لطلبات أهله وزوجته. وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عن أحب الناس إليه قال: عائشة، وها هو صلى الله عليه وسلم يعطيها حظها من اللعب واللهو فتقول: (والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللعب). لكن لينه صلى الله عليه وسلم وحبه لزوجه لم يكن دافعاً له أن يقرها على أمر يسخط الله، فرضا الله أولى من رضا المخلوق، وطاعة الله أولى ما تؤسس عليه البيوت، فها هي تحكي ما رآه صلى الله عليه وسلم وما فعله حين رأى أمراً منكراً تقول رضي الله عنها: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين). تلك مجالات للرجولة يحسب أصحابها أنهم يكونون رجالاً بذلك، وما أتي هؤلاء إلا من جهلهم أو فشلهم في تحقيق الرجولة الحقة، ولو وعوا الرجولة وفهموها لعلموا أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتصنعوها، إنها سلوك يفرض صاحبه إنها روح يبدو أثرها على الناس دون أن يتصنعها صاحبها، أما أولئك الذين يتصلبون أو يركبون الباطل محتجين بأن هذا من شيم الرجال وشأنهم فإن هؤلاء من أبعد عن الرجولة الحقة.

مجالات الرجولة

مجالات الرجولة ما دامت تلك مجالات خاطئة فما المجالات الحقة للرجولة؟ إنها مجالات وميادين كثيرة منها، بل أهمها:

الإرادة وضبط النفس

الإرادة وضبط النفس المجال الأول: الإرادة وضبط النفس، كثير هم أولئك الذين تبدو عنترياتهم وصلفهم أمام الآخرين لكنهم ينهارون مع من هو دون الآخرين وأقرب إليهم من غيرهم. إن أول ميدان تتجلى فيه الرجولة أن ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء إن الرجل هو الذي تدعوه نفسه للمعصية فيأبى، وتتحرك فيه الشهوة فيكبح جماحها، وتبدو أمامه الفتنة فلا يستجيب لها، وأولى الناس بالثناء شاب نشأ في طاعة حيث تدعو الصبوة أترابه وأقرانه إلى مقارفة السوء والبحث عن الرذيلة، ورجل تهيأت له أبواب المعصية التي يتسابق الناس إلى فتحها أو كسرها حيث تدعوه امرأة ذات منصب وجمال فيقول: إني أخاف الله. معشر الشباب! إن ميادين الانتصار على دواعي الرذيلة وشهوات النفس، وأول ميادين الهزيمة أن يدرك المرء خطأ الطريق ووعورة المسلك لأنه لم يطق أن يقول لنفسه: لا، فأين الرجال هنا لينتصروا على أنفسهم أين الرجال الذين يقودون أنفسهم ولا تقودهم ويأمرونها ولا تأمرهم؟ إن أولئك الذين يهزمون في المعركة مع النفس أحرى بأن يهزموا في المعركة الكبرى مع العدو الغاشم، ولن تنتصر أمة يقودها نحو الميدان مهزومون. وهاهم قادة المسلمين الذي سطروا الملاحم كان حاديهم نحو النصر على العدو الانتصار على الذات والاستعلاء على الشهوات، فهاهو عبد الرحمن الداخل لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني محتاج لما يزيد عقلي لا إلى ما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت له جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي، فلا حاجة لي بها الآن. وكما أن الرجال ينتصرون على أنفسهم حين تدعوهم للهوى والصبابة، فهم ينتصرون عليها حين تدعوهم للغضب والحمية في غير ما يرضي الرحمن. عن رجل شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قال: (تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: تدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الرجل يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه أحمد. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). إن الاستجابة للاستفزاز والزمجرة والانفعال عند الغضب ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمر يجيده الكثير، لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم حين تطيش عقول السفهاء والعفو حين ينتقم الأشداء، ولذا أثنى القرآن على طائفة من المتقين ووعدهم بالمغفرة والجنان الواسعة فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136]. والإحسان إلى من يسيء منزلة لا يطيقها كل الناس إنما يطيقها الرجال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. وقد يسوغ للإنسان أن يأخذ حقه وينتصر ممن يظلمه لكن العفو والتنازل عن الحق من شيم الذي كملت رجولتهم ولا يطيقه إلا أهل العزائم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُ

السخاء والجود

السخاء والجود المجال الثاني: السخاء والجود: وهي صفة سادت عند العرب حتى صارت من أروع ميادين الفخر والثناء لديهم، وسارت بذلك أشعارهم وأمثالهم، يقول أحدهم: ذريني فإن البخل يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال شروق ذريني وحطي من هواي فإنني على الحسب الزاكي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء دعوته وقد حل من نجم الشتاء خفوق فقلت له: أهلا وسهلاً ومرحباً فهذا صبوح راهن وصديق وكل كريم يتقي الذم بالقرى وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق ويأبى أن يأكل طعامه لوحده فلا يطيب له الطعام إلا مع الضيف: فيا ابنة عبد الله وابنة مالك وابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فلست بآكله وحدي أخا طارق أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وحين يحل الضيف عليهم يحل بالترحاب واليمن والسعة: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ولم يلهني عنه غزال مقنع أحادثه إن الحديث من القرى وتعلم نفسي أنه سوف يهجع بل الرقيق حين يجلب ضيفاً لسيده يكافئه بأعظم مكافأة ينتظرها مثله: أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر فجاء الإسلام وأبقى مكارم الأخلاق وهذبها، فقد أثنى على الكرم ودعا إليه لكنه هذبه، فبعد أن كان دافعه خوف المذمة أو الفخر على الناس صار الدافع رجاء الثواب: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وكان أكرم الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورث الكرم من خليل الرحمن الذي تلقى الملائكة بعجل سمين، جاء الإسلام فاتسع مفهوم السخاء والجود لتكون قمته الجود بالنفس في ميدان الوغى في سبيل الله، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. وليربي المسلم على أن يجود بجهده ووقته وعلمه نصرة للدين ورفعة لكلمة الله ونفعاً لعباده.

الهمم العالية

الهمم العالية المجال الثالث: الهمم العالية: تسمو همم الرجال وتعلو وتتعلق بالمثل العليا فيضعون الأمور في مواضعها ونصابها، فاللهو لدى الرجال ترفيه واستجمام، وإزهاق للسآمة والملل، واستعادة للنشاط والهمة لتنطلق النفس محلقة في ميادين العطاء، لكنه عند غير الرجال أمنية وحياة يعيشون لأجلها وينفقون الأموال في سبيلها، ويفنون أعمارهم وشبابهم في الانشغال بها، ليس يعنيهم كم ضاع من العمر والوقت ما داموا في اللهو والعبث فقد ودعوا حياة الجد وطلقوها طلاقاً باتاً، بل سخروا من الجادين واستعذبوا ما هم فيه من بطالة وعبث. النموذج الحي أمامهم والمثل الذي يتطلعون إليه هو من يجيد فنون اللهو واللعب فاسمه يتردد دوماً على مسامع صغيرهم وكبيرهم، واللون الذي يعشقون هو الذي يذكرهم بفريقهم ومحبوبهم، إنها صور مخزية في دنو الهمة وأشد منها خزياً أن تعنى الأمم باللهو وتنفقه عليه الملايين، وأن تشغل أبناءها به. إن رسالة الأمة أسمى من العبث واللهو وهي حاملة الهداية والخير للبشرية أجمع، فكيف يكون اللهو واللعب ميدان افتخارها وهي تنحر وتذبح وتهان كرامتها وتمرغ في التراب، إن بناء النفوس وبذل الخير والهدى للناس وإعادة العز لأمة ذاقت الهوان؛ إن ذلك كله من أسمى همم الرجال وأولى ما ينشأ عليه الجيل، وحين تعلو همم الناشئة وتسمو وتتجاوز التوافه يعلو صوت الأمة وتنهض من كبوتها.

النخوة والعزة والإباء

النخوة والعزة والإباء المجال الرابع: النخوة والعزوة والإباء الرجال هم أهل الشجاعة والنخوة والإباء وهم الذي تتسامى نفوسهم عن الذل والهوان، وقد كان للعرب الأوائل اعتناء بالشجاعة والنخوة، وكانت من مفاخرهم وأمجادهم، جاء في بلوغ الأرب: والعرب لم تزل رماحهم متشابكة وأعمارهم في الحروب متهالكة وسيوفهم متقارعة قد رغبوا عن الحياة وطيب اللذات، كانوا يتمادحون بالموت ويتحاجون به على الفراش ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه. يقول أحدهم: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وإن أدع للجلى أكن من حماتها وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد ويقول قائلهم: إني لمن معشر أفنى أوائلهم قول الكماة ألا أين المحامونا لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس خالهم إياه يعنونا ولا تراه وإن جلت مصيبتهم مع البكاة على من مات يبكونا فجاء الإسلام فربى أبناءه على الشجاعة والعزة والحمية، وجعل الجبن والهوان من شر ما ينقص الرجال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) رواه أبو داود. وكان القدوة للأمة في الشجاعة رسولها صلى الله عليه وسلم، أخرج الشيخان واللفظ لـ مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لـ أبي طلحة رضي الله عنه وفي عنقه السيف وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا). وفي حنين حينما انكشف المسلمون ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (ولقد كنا إذا حمى الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذي به). وهذب الإسلام العزة والشجاعة فلم تعد عند أتباعه ميداناً للفخر والخيلاء، بل هي ميدان للنصح في الدين والذب عن حياضه، والخوف من أهل الضلال تلبيس من الشيطان، والمؤمن الذي يمتلئ قلبه بمخافة الجبار لا يخاف سواه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] ومن ثم فلن يأتي المرء الخوف إلا من قبل نقص الإيمان، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.

الغيرة

الغيرة المجال الخامس: الغيرة، الرجال يغارون على الحرمات، فالأعراض لديهم أسمى من المال وأسمى من كل ما يملكون، وقد كان العرب الأوائل أمة غيرة وحمية، فمع ما هم فيه من شرك وضلال، ومع جرأتهم على الفواحش فلأعراض لديهم منزلة، وللحرمات مكانة، قال عروة: وإن جارتي ألوت رياح ببيتها تغافلت حتى يستر البيت جانبه قال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها فأين هؤلاء؟ أين هؤلاء من الكتاب الذين يفاخر بهم وتسود الصحف بمقالاتهم، كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجاً مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه. ولم بنات الصعيد؟ ألأجل أنه لا تزال لديهن الحشمة والغيرة؟! ألأجل أن المدنية المعاصرة لم تلوث نقاء النفوس ولم تمح أثر تربية الدين أيها الشباب! إن الرجل يغار على محارمه ويأبى أن تبدو أمام الناس بلباس فاضح أو غير لائق، يأبى أن تنساق وراء دعوة الموضة والتطور على حساب الستر والعفاف وغيرته تدعوه إلى تربيتها على العفة والفضيلة والإيمان والتقوى وغيرته لا تقف عند محارمه بل تمتد إلى بنات المسلمين فيكف بصره عن الحرام، وعن تتبع الفتن فضلاً عن أن يهم بالمضايقة والبحث عن العلاقة المحرمة، وهو يغار على حرمات الأمة فينكر المنكر ويقف في وجه من يريدون تغريب الأمة وجرها إلى مهاوي الرذيلة ومستنقعات الغفلة.

الوفاء

الوفاء المجال السادس: الوفاء، الوفاء من شيم الرجال التي يمدحون بها، كيف لا وقد كان أهل الشرك يفتخرون به قبل أن يستضيئوا بنور الإسلام، يقول أحدهم: أسمي ويحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في مجمع إنا نعف فلا نريب حليفنا ونكف شح نفوسنا في المصنع ويعدون الغدر مسبة ومذمة، قال امرؤ القيس: إذا قلت هذا صاحب قد رضيته وقرت به العينان بدلت آخرا كذلك جدي ما أصاحب صاحباً من الناس إلا خانني وتغيرا وخير نموذج للوفاء لدى أهل الجاهلية ما فعله عبد الله بن جدعان في حرب الفجار التي دارت بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، فقال له عبد الله: أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله لو أعلم أنه لا يبقى منها إلا سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئاً. وكان من وفائه أن العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى مضارب قومهم. وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أنسى بخلقه ووفائه مكارم أهل الجاهلية، ومن أمثلة وفائه عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة: موقفه يوم الفتح من عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية عندما طلب منه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان؟ فدعي له فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء). وحين تخلت الأمة عن خلق الرجال وساد فيها التهارج هوت وانهارت قواها حتى رثاها أعداؤها، يقول أحد كتاب النصارى: العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات. وقال أحد شعراء الأندلس راثياً ما آلت إليه: حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط

كيف نبني الرجولة

كيف نبني الرجولة كيف نبني الرجولة؟ وكيف نعيد الاعتبار لها؟ لقد كانت الرجولة إرثاً يتوارثه الناس لا تعدو أن تكون بحاجة إلى التهذيب والتوجيه، أما اليوم فقد فتنت المدنية الناس وقضت على معالم الرجولة في حياتهم فصرنا بحاجة إلى التذكير بالشيم التي توارثها العرب قبل الإسلام فلم يزدها الإسلام إلا شدة وتهذيباً.

ضبط العادات

ضبط العادات من أساليب بناء الرجولة: ضبط العادات، فالعادات تسيطر على صاحبها حتى لا يقوى على منعها، إن اعتياد المرء عادة قبيحة يحوله إلى أسير لها، لا يملك فكاكها، إنها تقعد به عن مصالح دينه وتعوقه عن مصالح دنياه، وكم رأينا من الشباب الذي يؤمل عليهم أهلهم وتؤمل عليهم مجتمعاتهم كم رأينا من هؤلاء من قعد به كسله أو اعتياده على نمط في الحياة فعاقه ذلك عن أن يحصل علماً ينفعه في دينه ودنياه أو يكسب قوتاً يحميه من تكفف الناس والتطلع إلى ما في أيديهم، وحري بالمربين الغيورين على أولادهم أن ينشئوهم منذ الصغر وطراوة النفوس على التخلي عن العادة والبعد عن الاستسلام لها حتى لا تتحول إلى سيد يسترق صاحبه. ومن ذلك: الاعتناء بمعادن الناس، (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) والذين يسودون في حياة الضلال يسودون حين يمن الله عليهم بالهداية، فحري بالمصلحين أن يعنوا بدعوة من تعلو لديه صفات الرجولة وتسود عنده سمات الأكارم، فحين يهتدي هؤلاء يؤدون ما لا يؤديه غيرهم. ومن ذلك: ترشيد الرجولة من الرجال من يملك مواهب وطاقات لكنها صرفت في السوء والفساد، فحري ببناة الرجولة في المجتمع أن يسعوا إلى ترشيد رجولة هؤلاء، وقد كان للسلف رضوان الله عليهم جهد في ذلك، فهاهو زاذان أبو عمر الكندي الضرير أحد العلماء الكبار ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم روى عن عمر وعلي وغيره من الصحابة وكان ثقة صادقاً روى جماعة أحاديث، قال ابن عدي: تاب على يد ابن مسعود، قال حاكياً عن توبته رحمه الله: كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية فبددها وكسر الطنبور ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود. فألقى في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج لي تمراً، قال زبيد: رأيت زاذان يصلي كأنه جذع. وكان أحدهم قاطع طريق يشغل الناس بالنهب والسلب، وكان بطلاً شجاعاً يقول لمن سيتولون دفنه: وخطّا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا وقد كنت عطافاً إذا الخيل أقبلت سريعاً إلى الهيجا إلى من دعانيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا وبينما هو في غيه وعدوانه لقيه أحد قادة المسلمين فدعاه إلى التوبة وأن يصحبه إلى الجهاد فأعلن الرجل توبته وسار إلى الجهاد ولدغ في الطريق وقال مرثيته البليغة وفيها: ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا إنه مالك بن الريب رحمه الله وتقبله في الشهداء. إن أولئك الذين يسعون إلى تحويل طائفة من أئمة الطيش والسفه وممن أقلقوا البلاد والعباد إلى جند للرحمن وهداة لطريق الإيمان سيقدمون خيراً للمسلمين ويكفون عنهم شراً مستطيراً. إنها جهود تقود الأمة إلى الخير وتلحقهم بقافلته قبل أن يهووا إلى الحضيض.

بناء الرجال وتربيتهم معرفيا وعمليا

بناء الرجال وتربيتهم معرفياً وعملياً ومن ذلك بناء الرجال وتربيتهم جدير بمن يرعى الشباب ويربيهم أن يعنى ببناء سمات الرجولة وأن لا يقتصر الأمر على خطاب الوجدان وحده، إن جيل الصحوة اليوم جدير به أن يكون قدوة للناس، وأن يتسم بما يتسم به الرجال الأكارم، وأن يثبت للمجتمع أنه أهل لأن يعتمد عليه وتعلق عليه الآمال بعد الله، وبناء الرجال المنتظر من المربين يبدو على مستويين: الأول: المستوى المعرفي من خلال إبراز مفاهيم الرجولة وتقديمها نموذجاً للجيل يسعى إليها ويتطلع لها ويسير إلى تحقيقها في نفسه وتحقيقها في دنيا الناس، ومن خلال تصحيح النظرة الخاطئة والمفاهيم السلبية عن الرجولة. الشباب لديهم حاجة يسعون إلى تلبيتها لديهم حاجة يريدون أن يصبحوا رجالاً يريدون أن يعدهم الناس رجالاً، إن هذه الحاجة قد تلتبس لديهم بمفاهيم خاطئة فيعتقدون أن سبيل تحقيق الرجولة هو في تصلبهم في مواقفهم هو في وقوفهم ضد من يصفونه بأنه سلطة غاشمة من أب أو أم أو معلم أو أستاذ إن تصحيح هذه المفاهيم وفتح آفاق للرجولة الحقة مما يعين على بناء الرجولة عند هؤلاء. وهي أيضاً تحتاج أن تبنى على مستوىً عملي يتمثل في بناء سمات الرجولة وتحقيقها في النفوس واستثمار كافة الوسائل والميادين التربوية وتحقيق ذلك، وهذا الأمر يتطلب من المربين وبناة الرجال أن يسعوا إلى إعطاء الشباب الثقة بأنفسهم إن الشباب الذين يشعرون أنهم ليسوا أهلاً للثقة الذين لا يولون المسئوليات الذين يشعرون أن المجتمع ومن حولهم لا يزال يعدهم أطفالاً فيسعون إلى إثبات رجولتهم، ومن حقهم أن يسعوا إلى إثبات رجولتهم، لكنهم حين يسعون في غياب توجيه أولئك الذين شعروا أنهم لا يثقون بهم فسوق يضلون الطريق ويسعون إلى إفساده بوسائل تقصيهم عن الرجولة وتبعدهم عنها. إن الشباب بحاجة إلى أن تفتح لهم المجالات العملية والميادين التي يعملون من خلالها التي ينتجون من خلالها التي يتحولون من خلالها يتحولون من أن يكونوا قوة مزعجة للآخرين أن يكونوا أمة مثيرة للقلق والخوف إلى أمة منتجة أمة تسر آباءهم وتسر أمهاتهم وتسر المجتمع، نعم، إن من واجب المصلحين وبناة الرجولة أن يفتحوا المجالات العملية فالرجولة لا يمكن أن تبنى من خلال التوجيه والحديث، ولا يمكن أن تبنى من خلال اللوم والتأنيب، ولا يمكن أن تبنى من خلال خطوات نعدها أمام الناس ونقول لهم: هذه هي خطوات الرجولة فعليكم أن تسلكوها إنهم بحاجة إلى ثقة داخلية بحاجة إلى أن يشعروا أنهم أهل للثقة بحاجة إلى أن يشعروا أن المجتمع يعدهم رجالاً يعدهم حقاً وليس في مقام المخاصمة إننا حين نخاصم الشباب نحدثهم بأنهم رجال، لا نحدثهم شهادة وتزكية وثناءً إنما نحدثهم لوماً لهم على موقف خالفناهم فيه، وهذا لا يكفي في إشعارهم بالثقة ولا يعطيهم الثقة، إنهم بحاجة إلى ذاك الحديث الذي ينبع ابتداءً دون أي مؤثر آخر الذي يشعرون أنه يقال لهم دون أي دافع يقال لهم دون تمهيد للمطالبة بمطالب لم يلتزموا بها فيشهر في وجههم سلاح الرجولة، وهم بحاجة إلى أن تفتح لهم مجالات عملية في الأسرة في المنزل في المدرسة في المجتمع هنا وهناك، مجالات تدعوهم إلى أن يثبتوا رجولتهم مجالات تحولهم إلى أمة عاملة منتجة. أيها الرجال الكرام! أيها الشباب! كما قلت في بداية حديثي: لست أتحدث في هذا المقام المبارك مع الرجال لأطالبهم بأن يكونوا رجالاً وحاشا لله، ولست أذكر الرجال بسمات الرجولة ومعالم الرجولة لأعيبهم لأنهم لم يتمثلوها، إنما هو حديث أملاه هذا الواقع الذي نعيشه اليوم والذي غابت فيه كثير من معاني الرجولة فصرنا بحاجة إلى أن نحدث عنها لنسعى إلى تحقيقها في ديننا ولدى أبنائنا. أسال الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين يحبون أن يتطهروا والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. فأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن يتشبهون بالنساء

نصيحة لمن يتشبهون بالنساء Q كما هو ملاحظ اليوم انتشار ظاهرة التشبه بالنساء عند شبابنا من حيث المظهر والملبس وأسلوب الكلام، فما نصيحتكم لهم؟ A هذا نوع من غياب الرجولة فالرجل يعتز برجولته، وحين يتشبه بالنساء فإنه يهين نفسه وينقص رجولته، ثم هو يعرض نفسه للعنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.

الرجولة والشجاعة

الرجولة والشجاعة Q يظن بعض الناس أن الرجولة هي الشجاعة، فهل هذا مفهوم صحيح؟ A نعم، الشجاعة هي ميدان من ميادين الرجولة، وتحدثنا عن ذلك، لكن الإسلام كما قلنا هذب الشجاعة وجعلها في ميدان الحق، فالرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة ليس في سبيل الله، إنما الذي يكون شهيداً في سبيل الله هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والشجاعة هي في مواقف الحق التي تتطلب ذلك.

الجهل بالعادات القبلية وأثره على الرجولة

الجهل بالعادات القبلية وأثره على الرجولة Q يعتقد كثير من الناس أن من أهم صفات الرجولة المعرفة بما يسمى سلوم الرجل، فهل إذا كان الإنسان جاهلاً بها تنقص رجولته أو تنعدم؟ A كثير من أهل القبائل البدوية وغيرهم يقدسون هذه العادات ويعظمونها وكأن الخلل بها كبيرة من الكبائر ومن الموبقات، لأن هناك عادات لها قيمة ووزن مثل إكرام الضيف والوفاء وغيره، لكن هناك أمور اعتادها الناس لا تعدو أن تكون أمراً عادياً لا قيمة له، وعدم مخالفة الإنسان لها ما لم تكن معصية أمر محمود لكن جهله بها لن يضيره، بل جهله بأحكام الدين والخلل به أشد عليه خطراً في دينه ودنياه من جهله بهذه العادات.

منع الأهل من التسوق والملاهي

منع الأهل من التسوق والملاهي Q هل إذا منعت أهلي ورفضت الذهاب معهم إلى الأسواق والمنتزهات والملاهي المختلطة أصبح ممن يتصنع الرجولة، ما هو توجيهكم؟ A الرجل يمنع أهله عن الذهاب إلى ما حرم الله عز وجل أو عن الوقوع في الحرام، فإذا فعل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل فلا شك أن هذا امتثال أمر الله عز وجل وهو من تمام الرجولة.

ترجل النساء

ترجل النساء Q يقول: ما تقول في أشباه الرجال والذين ترجلت نساؤهم؟ A هذا من هوان الرجال وضعفهم، وأنت اليوم ترى في واقعنا عجباً ترى فئات من الرجال كأنهم قد غدوا أشباه الرجال كما قال الشاعر.

كيفية اكتساب قوة الشخصية

كيفية اكتساب قوة الشخصية Q من صفات الرجل قوة الشخصية في الحق، فكيف تضعف الشخصية وخاصة ذلك الذي يدخل في دائرة الرجال بعد مجال الطفولة، كيف يقوي شخصيته بالطريقة الصحيحة والبعيدة عن الصلف والتعدي والتهور؟ A بيئتنا لا تربي الرجال بطريقة صحيحة؛ بيئتنا في المنزل وفي المدرسة للأسف تقضي على الكثير من سمات الرجولة فالشاب يهان وتهان كرامته ولا يشعر بكرامة ومنزلة ودوماً يعاتب ويلام على الخطأ وعلى غير الخطأ، وفي ظل هذه التربية القاسية أو التربية التي لا تقيم له قدراً لن يخرج لنا رجال يبنون الأمة ويقودونها.

التدخين والرجولة

التدخين والرجولة Q ما نصيحتك للمدخن ويظن ذلك من الرجولة؟ A بعض الشباب يعتقد أن التدخين ينقله إلى عالم الرجال، والواقع أنه ينقله على عالم الحمقى والجهلة.

الإصرار على الخطأ

الإصرار على الخطأ Q قلتم: من الرجولة تراجع المرء عن الخطأ، فما رأيكم في بعض المربين والمشرفين والموجهين الذين يخطئون في عمل أو قول أمام التلاميذ، ثم إذا شعر بخطئه لم يعتذر، وإذا أشهر من قبل أحد تلاميذه يصر على فعله أو قوله خشية من سقوطه في أعين تلاميذه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قول حباب بن المنذر في بدر إلى غير ذلك، أليس في هذه الطريقة تربية الجيل على الإصرار على الخطأ أليس في ذلك تربية الجيل على الخوف والوجل من إنكار المنكر وتصحيح الخطأ، فهل لنا بتوجيه منكم لهؤلاء المربين حفظهم الله. A أولاً: الناس ليسوا حمقى وليسوا مغفلين الناس يدركون أنك أخطأت، فإذا وقعت في الخطأ فسيدركون أنك وقعت في الخطأ، والدليل على ذلك أنهم قد نبهوك، وحين تصر على الباطل وعدم الرجوع عن الخطأ فغاية ما تقرره عند الناس أنك إنسان مشاكس فتسقط قيمتك لديهم. ثانياً: أنت مرب فأولى بك أن تربي على الرجوع إلى الحق وعلى الرجوع عن الباطل، ومن الطبيعي أن يتحدث الإنسان فيقع في الخطأ، قد يسبق لسانه قد يخطئ في نص قد يزل في كلمة لم يحسب لها حساباً فيقع في هذا الخطأ، ورجوعه حينئذ لا ينقصه بل يزيده قيمة ومنزلة.

الجمع بين الرجولة واللين مع الأهل

الجمع بين الرجولة واللين مع الأهل Q كيف يكون الرجل قواماً في بيته ذا شخصية قوية ومطيعاً لأهل بيته ويداعب أولاده؟ A يكون قواماً في بيته؛ لأن يكون هو صاحب القرار وصاحب الأمر أن يكون مطاعاً إذا أمر بأمر، وأن يأمرهم بما يرضي الله وينهاهم عما يسخط الله عز وجل، وينهاهم عما يكون فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، ومع ذلك فهو يجالسهم ويداعبهم ويفرحون بقدومه، والرجل الذي يفر أطفاله وينزوون حين يقدم إلى البيت وحش وليس رجلاً، الرجل هو الذي يستبشر أطفاله وأهله بقدومه إلى المنزل.

دور النساء في بناء الرجولة

دور النساء في بناء الرجولة Q هل لمن أتت معي إلى هذا المسجد المبارك كلمة توجيهية لكي يكون لها حظ ونصيب من هذه المحاضرة، وجزاكم الله خيراً؟ A المرأة هي بانية الرجال وهي أم الرجال وأعتقد أن الحديث لا يعني الرجال وحدهم، بل ويعنيها فهي أم الرجال، ونحن بحاجة إلى أن تسهم نساؤنا في تربية الرجال.

خطاب الكفار في القرآن بالرجولة

خطاب الكفار في القرآن بالرجولة Q لم يرد في الكتاب والسنة مناداة أو خطاب فيه رجولة أو كلمة رجل تجاه المشركين والكفار، هل معنى ذلك ألا ننادي الكفار من النصارى وغيرهم برجل؟ A بلى يا أخي! أنا قرأت آيات في كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32] ثم ذكر حال الرجل الكافر، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وغيرها من الآيات، والرجولة لها إطلاقان: إطلاق عام في أصل اللغة وهو خلاف المرأة، والإطلاق الآخر هو الوصف الأخص وهو الذي كان موضوع الحديث.

وضع الأمة

وضع الأمة Q إن وضع الأمة الإسلامية وضع يرثى له، ومن أهم أسباب هذا الوضع عندما تشبع رجال الأمة الإسلامية بأهل الغرب، ما تعليقك؟ A وضع الأمة كما قال الأخ وضع يرثى له، وهذا سبب من الأسباب وليس كل الأسباب.

كيفية بر الوالدين وعدم مغاضبتهما

كيفية بر الوالدين وعدم مغاضبتهما Q أنا كنت لا أطيع والدي ولكني عندما ابتعد عنه أعاهد نفسي على البر بهما، ولكن أرجو منكم أن تدلوني على الطريق الصحيح، والدعاء لي بالهداية والمسلمين جزاكم الله خيراً. A من خلال تجربتي بما يرد علي من أسئلة كثيرة من الشباب أن أكثر ما يقع فيه الشاب من خطأ مع والديه حينما يغضب، والموقف الثاني حينما يكون له حاجة يصر عليها ويريدها ولا تتفق رغبته فيها مع رغبة والديه، والأمر يحتاج إلى ترويض وتعويد أن يعود نفسه إذا غضب أن يهدأ أن يعود نفسه إذا غضب أن لا يتكلم ويتفوه أمام الآخرين إذا كان أمام أمه أو أمام والده فغضب أن ينصرف عنهما حتى لا يقول كلمة تسخطهما، وبعد ذلك يهدأ غضبه ويعود نفسه، ومن الطبيعي أن الشاب يكون أكثر حدة وأكثر انفعالاً وأن يغضب أسرع من غيره من الرجال، وأن يكون غضبه أشد، لكنه حينما يعود نفسه على الهدوء يكتفي بالحلم، والحلم بالتحلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

مشكلة في الرجولة بين الأمهات والأولاد

مشكلة في الرجولة بين الأمهات والأولاد Q شباب بلغوا منزلة الرجولة ولكنهم ما زالوا صغاراً في نظر أمهاتهم، فما الحل لهذه المشكلة؟ A نحن الذين نربي أولادنا، ونحن الذين نجعلهم رجالاً، وكثير من الآباء والأمهات لديهم حرص على أن يكون أولادهم رجالاً، لكنهم قد يخطئون الطريق، فقد يسطون عليهم قد يهملونهم قد تكون المطالبة بالرجولة هي ردة فعل لمواقف. وحتى نبني الرجولة عند أولادنا فإنهم يحتاجون إلى أن يشعروا أنا نثق بهم أننا نقدرهم أن نوليهم المسئوليات أن نتجاوز عن الهفوات اليسيرة أن لا يشعروا أننا في صف وهم في صف آخر ومن خلال التربية يمكن أن نعدهم رجالاً. ونحن نلحظ أن أبناء بعض القبائل الذين يعيشون في البادية يملكون من صفات الرجال ما يملكه غيرهم بغض النظر عن أن لا يكون لديهم نقص في الديانة لكنك تراهم أكثر رجولة من غيرهم، لأنهم نشئوا في بيئة تنشئهم على الرجولة.

العزة والرجولة

العزة والرجولة Q ثمة تصرفات يراها أصحابها رجولة أو عزة وشهامة كأن يخطئ شخص على آخر فيكتم الآخر ذلك في نفسه وإذا قلت له: كلم ذلك الشخص قال: لا، أتريدني أن أهين نفسي إني لم أعد طفلاً إني عزيز عن نفسي A العزة هي أن ينتصر الإنسان على نفسه، والله عز وجل يقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. أكتفي بهذا القدر من الأسئلة، وأسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على حضورهم

الباحثات عن السراب

الباحثات عن السراب الحضارة الغربية قامت بغزو المسلمين في عقر دارهم في مجالات عدة، ومن أخطرها الغزو الفكري الذي تأثر به كثير من أبناء المسلمين وصاروا يتابعون الكفار عليه، ومن ذلك خلع كثير من بناتهم للحجاب والخروج سافرات متبرجات، وإذا أردنا العودة للحجاب فعلينا أن نبين الشبهات الملقاة حوله فنرد عليها ونبين أضرار التبرج والسفور.

سؤال يفرض نفسه حول السفور ودوافعه

سؤال يفرض نفسه حول السفور ودوافعه بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون هذا اللقاء لقاءً طيباً مباركاً، وأن يكون هذا المجلس في موازين حسناتنا يوم نلقاه، وأن يثيب كل من كان سبباً في إقامة مثل هذا المجلس المبارك. حديثنا أيها الإخوة والأخوات كما سمعتم عن الباحثات عن السراب: حين يتيه المرء في الظهيرة وسط الصحراء يتبدى له أثر ضوء الشمس على أنه ماء زلال، وكلما اقترب منه ابتعد هذا الماء، وهكذا يجري وراءه يريد إدراكه فيكون أسرع منه، إنه السراب الذي يتبدى للإنسان بصورة يحبها، وحين يبلغه يجده هباء لا حقيقة له. حين نتأمل واقع الناس اليوم نرى عجباً، نرى الرجل يختار اللباس الواسع والساتر لجسده، بينما تسعى المرأة لاختيار لباس من نوع آخر. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل هذا السفور يرتبط بدافع وعامل موضوعي أم هو وضع اجتماعي تسايره المرأة؟ هل الأصل في المرأة أن تكون سافرة مبدية لمفاتنها، أم الأصل أن تكون محجبة مستترة؟ لماذا لا تسير المرأة على سجيتها وطبيعتها؟ بل لماذا تتسابق الأزياء الحديثة في مقدار ما تبديه من مفاتن المرأة وجسدها؟ بل على حساب انطلاقها في سيرها وصحتها؛ فكثير من الملابس الضيقة التي ترتديها النساء لها آثارها الصحية التي لا تخفى، أليست صورة من الرغبة في استثارة الآخرين؟ كانت الفتاة في بلاد المشرق مستترة محتشمة، وما أن جاء المستعمر إلى بلاد المسلمين بنفسه وبعد ذلك بإعلامه، حتى سارت الفتاة في طريق نساء الغرب، وصرت حين تلقاهن في الأماكن العامة لا تفرق بينهن وفتيات الغرب إلا بلون البشرة، فما الذي يدعو الفتاة المسلمة للسفور؟ وما الذي يمنعها من الحجاب؟ في هذا اللقاء المبارك بإذن الله سأسعى للإجابة على هذا السؤال، وأملي من أختي الكريمة الإنصات والمتابعة، والله قد جعل لها عقلاً تميز به ما تسمع وما تقرأ، فإن رأت خيراً قبلته، وإن رأت غير ذلك فلن يملي أحد على أحد اقتناعاته. إن حديثنا أيها الإخوة والأخوات حديث لتلك الفتاة التي اختارت طريق التبرج والسفور، ورفضت أن تلتزم بهذا الحجاب، وهو حديث أيضاً لتلك الفتاة التي أخذت الحجاب صورة، فارتدت حجاباً تعتقد أن فيه استجابة لأمر الله، بينما هو يبدي مفاتنها فصارت أقرب ما تكون إلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (صنفان من أمتي لم أرهما قط: نساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) ارتدت في ظاهرها الحجاب لكن تفننت في إبراز مفاتن جسمها ما بين لباس ضيق، وما بين أجزاء تبديها من هنا وهناك، فغاب المعنى الذي شرع من أجله هذا الحجاب. وهو أيضاً خطاب للفتاة الصالحة المتدينة التي تنطلق داعية لأخواتها، فهي بحاجة إلى أن تعي ما يفكر به هؤلاء، فالفتاة الصالحة رسولة خير إلى أخواتها، إنها حين تعي واقع هؤلاء النسوة فإنها ستكون أقدر على دعوتهن والتأثير عليهن. وهو خطاب للآباء والمصلحين حتى يعوا هذه الظاهرة المؤلمة في مجتمعات المسلمين.

شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها

شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها

الحجاب ينافي الأناقة

الحجاب ينافي الأناقة إن من أول ما تحتج به الفتاة المتمردة على الحجاب أن الحجاب خلاف الأناقة، يميل الناس بطبيعتهم إلى حب الجمال والأناقة، وليس من عيب في الإنسان أن يسعى لأن يكون أنيقاً جميلاً، لكن هل الأناقة أمر موضوعي يتفق عليه الناس أجمع أم هو أمر نسبي، فما يعده الهنود أناقة قد لا يتقبله الأفارقة، وما يعجب أهل الصين قد لا يعجب أهل المشرق؟ إنني اليوم أتحدث أمامكم باللباس الذي يلبسه أهل بلادي وهو الذي اعتاده الناس وأحبوه، بينما الأناقة عند غيرهم من بلاد المسلمين تعني نوعاً آخر من اللباس، فلم يكون السفور أقرب إلى الأناقة من الحجاب؟ ودعونا نثير سؤالاً جريئاً مهماً: ماذا يريد الرجال من المرأة؟ ما الذي يثيرهم إلى أن يطلقوا نظراتهم نحوها يميناً وشمالاً؟ وحين تعمل المرأة فما المكان المفضل لعملها؟ لننظر إلى واقع الغرب الذي بلغ القمة في المساواة الشكلية بين الرجل والمرأة: كم امرأة مديرة لجامعة؟ كم امرأة وزيرة؟ كم امرأة تشغل منصباً دستورياً؟ كم امرأة تحكم ولاية؟ أين هي من هذه الوظائف؟ إننا حين نتأمل في المواطن التي توضع فيها المرأة نرى أنها توضع حيث تكون أكثر إثارة للآخرين، إنها تعمل في الاستقبال في الفنادق والأماكن العامة، في السكرتارية، في المرافق إلى غير ذلك. إن المرأة العاقلة أياً كان دينها وخلقها تأبى أن تكون مجرد وسيلة لإثارة الآخرين وإغرائهم، وما معنى اختيار الحسناء في هذه المواطن إذا كان الباعث هو العمل وتوظيف هذا العنصر. عندما سئل مدير مكتب توظيف في نيويورك عن أهم العوامل التي يجب أن تتوافر لدى المرأة لتحصل على وظيفة قال: الجمال؛ ولهذا انتشرت عمليات التجميل، ففي بريطانيا تم إجراء خمس وتسعين ألف عملية تجميل عام 1998 للميلاد. وفي عاصمة عربية قرأت إعلاناً وضع على واجهة أحد المحلات، هذا الإعلان يطلب فيه صاحب هذا المحل نساء حسناوات للعمل في المحل. إذا كان المقصود هو العمل والقيام به فما معنى أن تكون هذه المرأة التي تعمل في هذا المحل التجاري حسناء؟ إنه يريد أن يوظف أناقة المرأة وحسنها لكسبه هو، في لقاء مع البريطانية المسلمة سارة جوزيف والتي تبلغ الرابعة والعشرين من العمر واعتنقت الإسلام قبل سنوات قالت: من ناحيتي كان قرار ارتداء الملابس الإسلامية ينبع من قناعة قوية؛ لأنني أعتقد أن جسم المرأة يساء استخدامه بصورة كبيرة في المجتمع البريطاني، فصور الفتيات شبه العاريات تنتشر في كل مكان، حتى أصبح جسم المرأة ملكية عامة لكل أفراد الجمهور، أنا أكره ذلك وأعترض عليه؛ لأنني أود أن يحكم الناس علي من خلال شخصيتي وليس من منطلق جسمي أو شكلي، وهكذا حررتني الملابس الإسلامية من أن أكون أسيرة منظري وشكلي الخارجي.

الحجاب يعطل الحياة العامة

الحجاب يعطل الحياة العامة ثانياً: الحجاب يعطل الحياة العامة: يمثل انطلاق المرأة في ميادين الحياة العامة قضية محورية كثيراً ما تثار وتناط بها أمور قد لا تكون بالضرورة ذات علاقة بها، فالحجاب لدى طائفة من هؤلاء يعوق المرأة عن المشاركة بفاعلية، ويعطل مسيرتها، وما دمنا بحاجة إلى مشاركة فاعلة للمرأة فلا معنى لأن تصر على تمسكها بالحجاب. ودعونا هاهنا نثير تساؤلاً له أهميته: ألا يمكن أن تمارس المرأة دورها الفاعل في الحياة وهي بحجابها؟ وحين يرتبط التخلي عن الحجاب بذلك في مجتمعات الغرب فلا يعني أن المسألة قد غدت محسومة في سائر المجتمعات. ودعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المرأة الغربية التي لم يعد يعوقها شيء، والتي وصلت إلى كل شيء، كيف كان واقعها حين مارست الحياة العامة كما يمارسها الرجال: أن واقع المرأة العاملة في الغرب واقع يبعث على المأساة، فمن أول مظاهر ذلك التمييز، فلا يزال الغرب الذي يناضل دوماً عن حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة والذي يعتبر انتهاك أي بلد من بلاد المسلمين لحقوق المرأة موجباً لعقوبات اقتصادية، بل موجباً لحرب قد تشن على تلك البلاد لإنقاذ هذه المرأة المظلومة؛ لا يزال الغرب في مجتمعاته غير قادر على حسم مسألة التمييز ضد المرأة. تقول إحدى الغربيات وهي إيفان: ظل التمييز بين الرجل والمرأة هو سمة المجتمع الأمريكي حتى مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ومن أكثر المظاهر التي تنتشر في تلك المجتمعات التحرش الجنسي في أماكن العمل، دلت إحدى الدراسات على أن (90%) من الفتيات في أمريكا عانين من التحرش الجنسي. وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي طبع عام (1978م) -أي: كان هذا الكتاب قبل ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً:- إن الاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة منتشرة انتشاراً ذريعاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي القاعدة وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة في أي نوع من الأعمال تمارسه مع الرجال. ويقول مكتب المرأة في لجنة الحقوق المدنية للولايات المتحدة: إن هذا الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة واسع الانتشار جداً ويشكل مشكلة عويصة الحل. وقامت إدارة الخدمة المدنية في اليابان بتوزيع ستين ألف كتيب على موظفي الحكومة في محاولة للحد من حوادث التحرش الجنسي داخل المكاتب الحكومية. وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي سبقت الإشارة إليه، تقول متحدثة عن الانتشار الذريع لهذا الابتزاز وأنه تحول إلى قاعدة وليس حالة شاذة: وكشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن (80%) من ضابطات الشرطة أي بنسبة (4/ 5) يتعرضن للمضايقة الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية، وشارك في الاستطلاع (1800) ضابطة في عشر مديريات أمن في إنجلترا وويلز. وقالت منظمة العمل الدولية: إن النساء العاملات في مختلف دول العالم الصناعي يعانين من مضايقات تجبر كثيرات منهن على ترك وظائفهن، وحذر التقرير أرباب العمل من أن عدم معالجة هذه المشكلة يمكن أن يؤثر على الأداء الاقتصادي لشركاتهم وأن يكون سبباً لفقد موظفات أكفاء ولتكاليف إضافية بسبب عمليات التقاضي. وأظهر التقرير أن (84%) من النساء العاملات في أسبانيا و (74%) في بريطانيا يبلغن عن تعرضهن لمضايقات، وأشار هانس في تعليق على التقرير إلى أن الأرقام الحقيقية للمشكلة أعلى من ذلك بكثير؛ لأن نسبة غير قليلة من الحالات لم يتم الإبلاغ عنها، ويرجع السبب في ذلك في الأغلب إلى أن النساء اللاتي تعرضن لها خشين من العواقب. وحين تتعرض المرأة العاملة للابتزاز الجنسي فلا خيار لها إلا أن تتجاهل قيمتها الأخلاقية وعفتها؛ لأن أي عاهرة تستطيع أن تحتل مكانها بسهولة إذا هي رفضت الانصياع لرغبات رئيسها الجنسية. هذا أيها الإخوة والأخوات ما جنته المرأة حين خرجت للحياة العامة، فماذا حققت من وراء ذلك، إنه طريق موحش مظلم تقابله المرأة المسلمة، تقاد وقد تستجيب أحياناً فتلهث وراء السراب تريد أن تذوق طعم السعادة التي ترى أن المرأة الغربية قد نالتها، ويخفى عليها أنها هناك تعاني من ابتزاز وتعاني اقتيادها إلى مذابح الفضيلة والعفاف لتروي نزوات طائشة لمن لا يرون فيها إلا أنها وسيلة لإشباع نهمهم نحو الشهوات. أيها الأخوات! أيها الإخوة الكرام! هذا هو واقع تلك المرأة التي ترى أن العفاف وأن الحجاب يعطل الحياة العامة، هل نريد أن تقاد مجتمعات المسلمين، وأن تقاد فتيات المسلمين لأن تعيش هذا الواقع الذي تعيشه تلك البلاد التي تقتدي كثير من فتياتنا اليوم بواقع نسائهم؟

الحياء وسخرية الآخرين

الحياء وسخرية الآخرين رابعاً: الحياء وسخرية الآخرين: من الذي يلوم الناس حين يستحون؟ أليس الحياء دلالة توقير وتقدير للآخرين؟ أليس الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا يليق؟ يستحي الإنسان أن يخالف الآخرين ويبدو أمامهم بمظهر يدفعهم للسخرية منه ويستحي أن يفعل أمامهم ما يكون منقصة في حقه، والحياء خلق ممدوح وفضيلة سامية، ومن هنا أكد عليه سيد الناس وأحسنهم خلقاً وعده شعبة من الإيمان، وحين رأى رجلاً يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه فإن الحياء من الإيمان). والحياء خصلة فطرية في المرأة، بل هي مضرب المثل في الحياء، وقديماً وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (أشد حياء من العذراء في خدرها)، لذا فحين جاء الإسلام وحفظ للمرأة حقها ومكانتها كان من أهم ما قرره أن لا تتزوج الفتاة دون إذنها، لكن لما كان الحياء قد يعوق الفتاة عن إبداء موافقتها على الزوج المتقدم لها فقد جعل صمت البكر دليل قبولها بالزوج بخلاف الثيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها)، لكن انتشار التساهل في الحجاب في مجتمعات المسلمين قلب الصورة لدى بعض الفتيات فصرنا نرى طائفة منهن يمنعهن الحياء عن ارتداء اللباس الشرعي، فهي تخشى أن تبدو بصورة غير لائقة، وتستحي من أن تلتزم باللباس الشرعي الساتر، إنها الصورة المنكوسة، فالحياء يدعو إلى الستر والعفاف، والحياء يدعو إلى البعد عن التبرج وإظهار المفاتن، ولئن دعا الفتاة حياؤها من الناس أن تجنح للتبرج والسفور أفلا يدعوها حياؤها من الخالق البارئ الذي يراها أينما حلت وارتحلت ويعلم نواياها وطويتها إلى التزام أمره عز وجل؟ أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحياء فقال: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء. فتساءلوا مخبرين أنهم يستحون فقال صلى الله عليه وسلم مفسراً حقيقة الحياء: من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

الثقافة والتعليم

الثقافة والتعليم خامساً: الثقافة والتعليم: لم تعد الفتاة اليوم هي ابنة القرية التي لا تقرأ ولا تكتب، فقد تعلمت وخاضت ميادين الحياة العلمية فحازت أعلى الشهادات والدرجات، وحين عاشت فتاة الإسلام داخل أروقة الجامعة، ورأت ما فيها من اختلاط وسفور، ورأت في المقابل أن الستر والحياء ارتبط بجدتها وأمها شعرت حينها أن الفتاة المتعلمة لا ينبغي لها أن تلبس هذا اللباس الذي لا يليق إلا بالقروية الجاهلة. ما العلاقة بين التعليم والسفور؟ هل التعليم يدعو إلى الفضيلة والعفة أم يدعو إلى التهتك والسفور؟ هذه كاتبة من إحدى بلاد المسلمين سخرت نفسها للنضال فيما تسميه معركة تحرير المرأة، الدكتورة نوال السعداوي ألفت كتاباً عنوانه: الله مات في النيل. تعالى الله عما تقول! وأين طبع؟ طبع في تل أبيب، ومما قالته هذه الكاتبة: إن فكرة الحجاب نشأت في التاريخ البدائي القديم لأسباب صحية وقائية، ثم اكتسبت على يد اليهود صفة دينية، لم يكن بوسع النساء في المجتمع الصحراوي الشحيح بالماء أن يجدن وسائل النظافة الكافية، خاصة في فترات الطمث والولادة؛ ولهذا تقرر عزل المرأة فيما يشبه الحجر الصحي خلال أيام الولادة والطمث، لكن فكرة عزل المرأة اتخذت شكلاً دينياً وتطورت من عزل المرأة إلى فرض الحجاب عليها، واتخذ هذا الحجاب شكل تغطية رأس المرأة، مع أن الرأس ليس عورة وليس عضواً جنسياً! وتقول: أنا أرى أن الفتاة التي تتغطى مثل الفتاة التي تتعرى، ومثل الفتاة في أوروبا وأمريكا التي ترتدي الميني جيب. التعرية والتغطية واحدة، لماذا؟ لأنها تقول: أن المرأة جسد، وتقول: فالوجه هو الإنسان ومن تغطي وجهها ليست بإنسانة. ردت عليها الكاتبة سهيلة زين العابدين حماد رئيسة ومنشئة مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة النبوية، وعضو رابطة الأدب الإسلامي وعضو اتحاد المؤرخين العرب، فقالت لها: بأي حق تلغي إنسانية المرأة التي تغطي وجهها، إن محدثتك تغطي وجهها؛ لأنها إنسانة كرمها الله بأن شاء لها أن تولد وتعيش وتتعلم في مهبط الوحي ودار الهجرة، وتنتمي إلى هذا المجتمع المسلم الذي يحترم إنسانية المرأة ويصونها فحجب وجهها عن أعين الرجال ولكنه لم يحجب عقلها ويقيد فكرها، إذ فتح لها أبواب العلم والمعرفة على مصراعيها، ونالت منها ما أهلها بأن تكون رئيسة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة المنورة، وعضواً في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضواً في اتحاد المؤرخين العرب، ودرست مؤلفاتها في الجامعات، وتعتمد بحوثها في أطروحات الماجستير والدكتوراه، وتوزع مؤلفاتها في الوطن العربي، وتنشر مقالاتها وبحوثها في مختلف الصحف والمجلات، ومع ذلك لم يرها أجنبي قط، وهاهي تقف أمامك لترد على أقاويلك، وتحاجك بالعلم الذي تتمنطقين به، وتتجرئين على خالقك باسمه. وتمضي قائلة: وإن كان مرجعك مؤلفات فرويد وماركس اليهودي وإنجلز وجان بول سارتر وكنزي وفاسترز وجونسون وكاري هوم لي وسيرتي وغيرهم من أصحاب مدرسة التحليل النفسي الفرويدي؛ فإن المرجع الأول لمحدثتك هو كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان أساتذتك فرويد وماركس فإن المعلم الأول لمحدثك هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون، ثم بقية الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فلتكن المواجهة إذاً بين ابنة الحجاب التي تغطي وجهها وتؤمن بتشريع خالقها وبين ابنة السفور التي تتجرأ على خالقها وتعترض على تشريعاته وتقول: إنها لا تصلح للعصر. إن كاتبة هذه المقالة ليست قروية جاهلة، بل هي متعلمة من أرقى الكاتبات والمتعلمات، ومع ذلك لم يكن هذا التعليم والترقي عائقاً لها عن ارتداء الحجاب. دخلت فتاة في أمريكا في أحد الأسواق، وإذا بها ترى امرأة متحجبة حجاباً كاملاً فأرادت أن تسخر منها وتزدري تمسكها بالحجاب في بلاد الحرية، فماذا فعلت؟ قالت هذه الفتاة بلهجة متهكمة: حجاب هاهنا! دعينا من هذا التخلف. فالتفتت إليها هذه المرأة المتحجبة ولم ترد عليها، فكررت هذه الفتاة سخريتها ولم تجبها تلك بشيء إلا أنها قالت باللغة الإنجليزية: عفواً لا أعرف اللغة التي تتكلمين بها! أنا أمريكية، فضحكت هذه الفتاة وعجبت من لبسها الحجاب، فقالت تلك المرأة الأمريكية المسلمة بلهجة واثقة: اسمعي أنا أمريكية عشت العري والخلاعة أصالة، وأنا أعرف تماماً ماذا جلب لنا هذا العري من بلاء، ولكن أحمد الله أن هداني للإسلام، وشرع لي الحجاب، لقد صار لأجسادنا وذواتنا قيمة بعد أن كنا ألعوبة للغادين والرائحين، افهمي يا مسكينة هذا الكلام جيداً وانتبهي لنفسك ولا تكوني صورة سيئة عن مسلمات العرب، وانهالت عليها بالنصائح حتى ذهلت تلك الفتاة المتبرجة وبدأت تبكي وكانت صدمة لها لم تنسها لأيام. قال قريبون منها: فلبثت أسبوعاً لا تخرج من دارها ثم رأيناها تخرج م

الحضارة والمدنية

الحضارة والمدنية سادساً: الحضارة والمدنية: يرتبط السفور بالمدنية والتحضر والحجاب بالتخلف والبداوة لدى بعض فتيات المسلمين، ومن ثم فهي تتخلى عن الحجاب لتكون أكثر تحضراً، ودعونا نثير هذا السؤال مرة أخرى: ماذا جنى العالم المتحضر من السفور؟ تقول كاتبة إنجليزية وهي نس إنيرود: أنا ليس بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، تنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم، إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل لكثرة مخالطة الرجال. انتشرت في تلك المجتمعات الخيانة الزوجية، ففي إحصاية في مطلع هذا القرن الهجري في أوروبا (75%) من المتزوجين يخونون زوجاتهم قبل الزواج، و (80 - 85%) لهم خليلات، انتشار الاختطاف رغم أن أبواب التمتع بالحرام متاحة لهؤلاء. أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح (1. 300. 000) أي: (1/ 3) امرأة، وأضاف المركز أن واحدة من كل 8 بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمال من اغتصبن (12. 100. 000) على الأقل، ويشير المسح إلى أن (61%) من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن (18) عاماً، وأن (29%) من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن أحد عشر عاماً، وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة (59%)، وفي بريطانيا (9. 000) فتاة صغيرة لم يتجاوزن الخامسة عشرة حملن عام (1996 للميلاد). انتشار الشذوذ، ممارسة الشذوذ بين الرجال وبين النساء هو لون آخر من ألوان ما جنته تلك الحضارة، انتشار إتيان المحارم، اعتداء الآباء على بناتهم، بل اعتداء بعض الأجداد على حفيداتهم، اعتداء الإخوة على أخواتهم، أرقام هائلة يضج منها ذلك العالم، هذا هو واقع تلك الحضارة، وهذا هو واقع تلك المدنية، فكيف بفتاة الإسلام تعتقد أن التخلي عن الحجاب هو مظهر من مظاهر الحضارة، وكيف بها ترى أن الحجاب والستر مظهر من مظاهر التخلف، فماذا جنى ذلك العالم المتحضر؟ الذي يبدو منطقياً أنه حينما ينتشر السفور والإباحية في أي مجتمع أن حالات الاغتصاب تقل وتتضاءل، لأن من يريد الفجور أمامه أبواب متاحة، والمفترض منطقياً أن تزيد حالات الاغتصاب وحالات الشذوذ في المجتمعات التي لا يتاح فيها الباب للمارسة الجنسية خارج إطار الزواج، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، فهل فتاة الإسلام تجعل ذلك المجتمع الذي ترى منه صورة من صور الرقي، هل يسوغ أن تجعل ذلك المجتمع مرآة لها وترى أنها حين تلتزم الحجاب والستر والعفاف تنتمي إلى عصر التخلف والرجعية؟

الزميلات والصديقات

الزميلات والصديقات المعوق السابع: الزميلات والصديقات: إن الصديق والصاحب له أثره على الإنسان؛ ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وأخبر صلى الله عليه وسلم: (أن المرء على دين خليله -قال:- فلينظر أحدكم من يخالل)، ويوم القيامة يحشر المرء مع من أحب، فإن أحب الصالحين حشر معهم ولو كان عمله دون عملهم، وإن أحب غيرهم حشر معهم. الفتاة تختار صديقاتها ممن تلتقي بهن في الجامعة أو في حيها من أقاربها وتعيش معهن، وللصديقات تأثير بالغ على الفتاة، فحين تكون صديقات الفتاة من السافرات أو من المستهينات بالحجاب فإن هذا يمثل عائقاً لهذه الفتاة عن العودة إلى ما فرض الله عز وجل عليها من الستر والعفاف، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن حال تلك الصلة والعلاقة التي تبنى على خلاف طاعة الله تبارك وتعالى؛ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]. إن هذا المرء سيتبرأ من خليله وصديقه يوم القيامة، فإذا كان يريد النجاة من هذا الموقف فليتخذ هذا القرار في دار الدنيا وإلا فسيبقى ديناً عليه يدفعه يوم القيامة في يوم لا تجدي فيه هذه البراءة، ولا يجديه فيه هذا التخلي، وإنما هو مظهر من مظاهر إبراز التحسر والتأسي.

الشذوذ عن المجتمع

الشذوذ عن المجتمع المعوق الثامن: الشذوذ عن المجتمع: حين يصبح السفور هو السمة السائدة في المجتمع، أو التساهل في شأن الحجاب هو القاعدة العامة وهو الظاهرة العامة، تشعر الفتاة أنها حين تلتزم بالحجاب تعيش شاذة عن هذا المجتمع الذي تعايشه، والشذوذ ليس بالضرورة صفة سلبية، بل هو حين يكون على خير وعلى حق هو دلالة على قوة الشخصية، ودلالة على أن الإنسان لا يستجيب لضغط المجتمع، ولا يستجيب لضغط الآخرين. في كتاب الله تبارك وتعالى قص الله عز وجل علينا نبأ فتية لا يبلغ تعدادهم العشرة، عاشوا في مجتمع كان كل الناس فيه من أهل الشرك والضلال ودعوة غير الله عز وجل، ومع ذلك كان هؤلاء الفتية مؤمنين أتقياء صادقين؛ ذكر الله عز وجل قصتهم نبراساً للأمم من بعدهم إلى يوم القيامة، إن هؤلاء كانوا شاذين في عرف مجتمعاتهم. بل هاهي امرأة طاغية من الطغاة وجبار من المتجبرين إنها امرأة فرعون الذي لم يعرف التاريخ رجلاً أكثر جبروتاً وتسلطاً منه، وأي جبروت أشد من أن يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ثم يقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك آمنت بالله تبارك وتعالى، فضربها الله عز وجل مثلاً للمؤمنين والمؤمنات {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. كانت وحدها في بيت هذا الجبار الطاغية الظالم وذاقت ألوان العذاب والأسى، ومع ذلك بقيت مؤمنة صامدة متمسكة بما أمرها الله عز وجل به، فقضت نحبها وأراها الله تبارك وتعالى بيتها في الجنة قبل أن تلفظ روحها، وبقيت مثلاً يتأسى به المؤمنون والمؤمنات إلى قيام الساعة.

سلوك المحجبات وواقعهن

سلوك المحجبات وواقعهن المعوق التاسع: سولك بعض المحجبات وواقعهن: تحتج بعض الفتيات بأن سلوك وأخلاق بعض الفتيات المحجبات لا يقود إلى الحجاب، فإنها ترى منهن سوء الخلق، ترى منهن الغش، ترى منهن الكذب إلى غير ذلك من هذه المظاهر. دعونا نأخذ الصورة المقابلة، لو رأينا امراة متبرجة تدخن أو تتعاطى المخدرات أو تقع في الجريمة، فهل يلفت نظرنا ذلك ونقول: إن هذا الفساد والإجرام ارتبط بالتبرج والسفور؟ إن الذي يلفت نظرنا هو النموذج الشاذ، فتلك الفتاة التي تمارس سلوكاً سيئاً وهي محجبة إنما لفتت نظرنا لأنها محجبة ولو كانت سافرة لما لفتت نظرنا. والحجاب لا يعني العصمة، فحينما تتحجب الفتاة فهي تلتزم بأمر من أمور الله تبارك وتعالى، تلتزم بفريضة من فرائض الله عز وجل على المرأة، وهذا لا يعني أنها تحولت إلى امرأة معصومة سليمة من الأخطاء. وهكذا الرجل حين يظهر عليه أثر الصلاح والتدين فلا يعني أنه قد أصبح إنساناً معصوماً، وإذا وجدت هذه الحالات فهي حالات شاذة؛ لكن الغالب على الذين يظهرون بمظهر الصلاح من الرجال والنساء هو أنهم منطقيون مع ما يظهرون أن باطنهم يحكي ظاهرهم، هذا هو الأصل وهو الغالب، وما سوى ذلك في حالات شاذة.

الأهم صلاح القلب

الأهم صلاح القلب الأمر العاشر: الأهم صلاح القلب: تقول بعض الفتيات المسلمات: نعم إنني متبرجة، إنني سافرة، ولكني طيبة القلب، والأهم ليس في المظهر، الأهم هو صلاح القلب. أيها الإخوة! ما في القلب يظهر أثره على سلوك الإنسان وعمله، إذا ادعى شخص أنه يحب إنساناً وهو مع ذلك يسيئ إليه وينفر منه، أو ادعى أنه يبغضه وهو يجالسه ويشتاق إليه ويسعى لمجالسته، فهل من حوله سيصدقون هذه الدعوى؟ إذا ادعى زوجك أنه يحبك ويقدرك ويجلك ومع ذلك يتلفظ عليك بأقبح الألفاظ، وهو يسب ذلك اليوم الذي عرفك فيه، وهو يبحث عن زلاتك وسقطاتك ويهمش محاسنك، فهل تقتنعين فعلاً بهذه الدعوى من أنه يحبك؟ الانتساب للجندية، لو أن إنساناً لبس ملابس الجند فهل يؤهله ذلك لأن يكون جندياً، وهل يقبل الناس منه ذلك؟ لو انتسب لمؤسسة أو جامعة وهو يقول: إنه جاد وحريص على الدراسة ومع ذلك لم يحضر الدراسة، لم يحضر الامتحانات، فهل يمكن أن يجتاز هذه الجامعة؟ هل يمكن أن يعطيه صاحب هذا العمل الذي التحق به راتباً لأنه يؤكد ويحلف الأيمان المغلظة أنه جاد في ذلك؟ إن مجرد الدعوى لا تكفي. إذاً: الفتاة حين تقول إنها طيبة القلب صالحة القلب فمرآة طيب القلب وصلاحه استجابتها لأمر الله تبارك وتعالى.

الأهم الصلاة والصيام

الأهم الصلاة والصيام الأمر الحادي عشر: تقول بعض الفتيات: إن الأهم الصلاة والصيام، إنني أصلي، أحافظ على الصلاة، أصوم شهر رمضان، أجتنب الفواحش، وهذا هو الأهم، وهذه الحجة كثيراً ما نسمعها من كثير من المسلمين حينما ينكر عليهم معصية أو منكر. حين يحترم الإنسان نظاماً من أنظمة البشر فهل يعفيه ذلك عن احترام سائر الأنظمة؟ هناك أنظمة وقوانين تلزم صاحب البناء أن يلتزم بها، فإذا التزم بواحد من هذه الأنظمة فهل يعفى من البقية؟ هناك أنظمة تلزم سائق السيارة كأن يحمل رخصة قيادة للسيارة، وأن يضع لوحات على السيارة، وأن يرتدي حزام الأمان، وأن يسير وفق سرعة محددة، فلو أن صاحب سيارة من السيارات ارتكب مخالفة من المخالفات ثم أوقفه رجل الأمن فقال: إنني محترم للنظام، إنني أحمل رخصة قيادة، إنني أحمل رخصة سيارتي، فلن يقبل منه ذلك. إذاً: التزام الإنسان بشيء من شرع الله لا يعفيه من بقية الفرائض، فالتزام الفتاة بالصلاة هو استجابة لأمر الله عز وجل، لكن هذا لن يعفي الفتاة من أن تلتزم ببقية ما شرع الله عز وجل لها. وهكذا شأن المسلم في سائر أحكام هذا الدين، فحينما يلتزم بالصلاة، يلتزم بالصيام، يؤدي الحج إلى بيت الله، يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذا قيام بأركان عظيمة من أركان الإسلام، لكن هذا لن يعفيه من أن يقوم ببقية الواجبات والشرائع. هذه أيها الأخوات والإخوة الكرام بعض ما تحتج به فتيات المسلمين اللاتي يتنكبن طريق الحجاب، اللاتي يسعين نحو السفور والتبرج، ودعونا نختم ولو أطلنا قليلاً بصوة من صور الواقع الغربي.

صورة من واقع الحياة الغربية

صورة من واقع الحياة الغربية دعونا نختم بصورة من صور واقع الحياة الغربية، ولماذا نورد هذه الشواهد هنا؟ لأن تلك البلاد هي التي أصبحت مرآة لفتياتنا ونسائنا، وهي التي سبقتنا في السفور والاختلاط ومشاركة المرأة للرجل في سائر ميادين الحياة، هاهو الغرب اليوم يتراجع عن السفور، يتراجع عن الاختلاط، وهذه بعض شهادات أولئك وهم لا يقولون هذه المقالة ديناً، فهم لا يؤمنون بالله، لكن هذه مقالات بعض حكمائهم وعقلائهم وقد أدركوا خطورة هذا الطريق الذي سارت عليه مجتمعاتهم. تقول باميلا سو أرومان التي أسلمت فيما بعد: إن اعتناقها للإسلام أعاد لها كرامتها وعفتها وحقوقها، فيما لا تزال المرأة الغربية تعاني من النظرة الدونية واتخاذها مجرد وسيلة للاستمتاع أو وليمة سهلة على موائد اللئام، وتأسف أسماء لأن معظم نساء الغرب لا يعرفن حقيقة الموقف المشرف للإسلام من قضياهن، فلو عرفن ذلك لسارعن إلى اعتناقه. تقول الأستاذة جانيت ليفن: بعد خمس وعشرين سنة من التعليم المختلط نلاحظ أنه لا يقدم الحل المأمون، فما زالت الفتيات يتحدثن عن المخاوف من التحرشات الجنسية في المدارس الثانوية المختلطة، وبسببها يفضلن المدارس الخاصة بالبنات، وقد لوحظ أن أعداد المتقدمات إلى كليات البنات قد زاد في السنوات الثلاث الأخيرة زيادة ملحوظة. وفي صحيفة عربية نشر تحت هذا العنوان: كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة. قدمت الصحيفة هذه الكاتبة بقولها: هلتيان سانسبري صحفية متجولة تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاماً وزارت جميع دول العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها. تقول الصحفية الأمريكية بعد أن أمضت شهراً في إحدى بلاد المسلمين: إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأمريكي والأوروبي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا؛ ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة وأقصد من هي تحت العشرين هذه القيود صالحة ونافعة وأنا هنا أقرأ مقالها كما هو، وإلا فهي في الواقع ليست قيوداً بل هي أحكام تتشرف المسلمة بالالتزام بها. تقول: لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات جيمس بين وعصابات المخدرات والرقيق. ويقول أحد الغربيين وهو هملتون: إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في العناية بها عن كل ما يؤذيها ويمس كرامتها ويتناول سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض كتابنا الغربيين، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة. ويقول البروفسور خون همر: الحجاب في نظر الإسلام وتحريم اختلاط النساء بالأجنبي ليس معناه انتزاع حرية المرأة. هذه الشهادات أيها الإخوة لم نوردها لأننا نعتبرها منطلقاً لتسويق الحجاب والفضيلة، إنما هي اعترافات من واقع أولئك الذين مع أنهم لا يدينون بالإسلام إلا أنهم رءوا أن هذا السفور قد قاد مجتمعهم إلى الدمار والهلاك، ومثل هؤلاء دعاة التحرير فكثير منهم عاد وتراجع عما كان يقول، ومن هؤلاء ما كتبه قاسم أمين يقول: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في نحو تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي، رأيتهم ما مرت عليهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، ثم ما وجدت زحاماً في طريقي فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعاً، إنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل. وربما كان لبعض التجارب التي مرت بها أثر في نفسه، فهاهو يروي أن صديقاً عزيزاً زاره مرة فلما فتح له الباب قال: جئت من أجل

شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها

شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها

الحجاب ينافي الأناقة

الحجاب ينافي الأناقة إن من أول ما تحتج به الفتاة المتمردة على الحجاب أن الحجاب خلاف الأناقة، يميل الناس بطبيعتهم إلى حب الجمال والأناقة، وليس من عيب في الإنسان أن يسعى لأن يكون أنيقاً جميلاً، لكن هل الأناقة أمر موضوعي يتفق عليه الناس أجمع أم هو أمر نسبي، فما يعده الهنود أناقة قد لا يتقبله الأفارقة، وما يعجب أهل الصين قد لا يعجب أهل المشرق؟ إنني اليوم أتحدث أمامكم باللباس الذي يلبسه أهل بلادي وهو الذي اعتاده الناس وأحبوه، بينما الأناقة عند غيرهم من بلاد المسلمين تعني نوعاً آخر من اللباس، فلم يكون السفور أقرب إلى الأناقة من الحجاب؟ ودعونا نثير سؤالاً جريئاً مهماً: ماذا يريد الرجال من المرأة؟ ما الذي يثيرهم إلى أن يطلقوا نظراتهم نحوها يميناً وشمالاً؟ وحين تعمل المرأة فما المكان المفضل لعملها؟ لننظر إلى واقع الغرب الذي بلغ القمة في المساواة الشكلية بين الرجل والمرأة: كم امرأة مديرة لجامعة؟ كم امرأة وزيرة؟ كم امرأة تشغل منصباً دستورياً؟ كم امرأة تحكم ولاية؟ أين هي من هذه الوظائف؟ إننا حين نتأمل في المواطن التي توضع فيها المرأة نرى أنها توضع حيث تكون أكثر إثارة للآخرين، إنها تعمل في الاستقبال في الفنادق والأماكن العامة، في السكرتارية، في المرافق إلى غير ذلك. إن المرأة العاقلة أياً كان دينها وخلقها تأبى أن تكون مجرد وسيلة لإثارة الآخرين وإغرائهم، وما معنى اختيار الحسناء في هذه المواطن إذا كان الباعث هو العمل وتوظيف هذا العنصر. عندما سئل مدير مكتب توظيف في نيويورك عن أهم العوامل التي يجب أن تتوافر لدى المرأة لتحصل على وظيفة قال: الجمال؛ ولهذا انتشرت عمليات التجميل، ففي بريطانيا تم إجراء خمس وتسعين ألف عملية تجميل عام 1998 للميلاد. وفي عاصمة عربية قرأت إعلاناً وضع على واجهة أحد المحلات، هذا الإعلان يطلب فيه صاحب هذا المحل نساء حسناوات للعمل في المحل. إذا كان المقصود هو العمل والقيام به فما معنى أن تكون هذه المرأة التي تعمل في هذا المحل التجاري حسناء؟ إنه يريد أن يوظف أناقة المرأة وحسنها لكسبه هو، في لقاء مع البريطانية المسلمة سارة جوزيف والتي تبلغ الرابعة والعشرين من العمر واعتنقت الإسلام قبل سنوات قالت: من ناحيتي كان قرار ارتداء الملابس الإسلامية ينبع من قناعة قوية؛ لأنني أعتقد أن جسم المرأة يساء استخدامه بصورة كبيرة في المجتمع البريطاني، فصور الفتيات شبه العاريات تنتشر في كل مكان، حتى أصبح جسم المرأة ملكية عامة لكل أفراد الجمهور، أنا أكره ذلك وأعترض عليه؛ لأنني أود أن يحكم الناس علي من خلال شخصيتي وليس من منطلق جسمي أو شكلي، وهكذا حررتني الملابس الإسلامية من أن أكون أسيرة منظري وشكلي الخارجي.

الحجاب يعطل الحياة العامة

الحجاب يعطل الحياة العامة ثانياً: الحجاب يعطل الحياة العامة: يمثل انطلاق المرأة في ميادين الحياة العامة قضية محورية كثيراً ما تثار وتناط بها أمور قد لا تكون بالضرورة ذات علاقة بها، فالحجاب لدى طائفة من هؤلاء يعوق المرأة عن المشاركة بفاعلية، ويعطل مسيرتها، وما دمنا بحاجة إلى مشاركة فاعلة للمرأة فلا معنى لأن تصر على تمسكها بالحجاب. ودعونا هاهنا نثير تساؤلاً له أهميته: ألا يمكن أن تمارس المرأة دورها الفاعل في الحياة وهي بحجابها؟ وحين يرتبط التخلي عن الحجاب بذلك في مجتمعات الغرب فلا يعني أن المسألة قد غدت محسومة في سائر المجتمعات. ودعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المرأة الغربية التي لم يعد يعوقها شيء، والتي وصلت إلى كل شيء، كيف كان واقعها حين مارست الحياة العامة كما يمارسها الرجال: أن واقع المرأة العاملة في الغرب واقع يبعث على المأساة، فمن أول مظاهر ذلك التمييز، فلا يزال الغرب الذي يناضل دوماً عن حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة والذي يعتبر انتهاك أي بلد من بلاد المسلمين لحقوق المرأة موجباً لعقوبات اقتصادية، بل موجباً لحرب قد تشن على تلك البلاد لإنقاذ هذه المرأة المظلومة؛ لا يزال الغرب في مجتمعاته غير قادر على حسم مسألة التمييز ضد المرأة. تقول إحدى الغربيات وهي إيفان: ظل التمييز بين الرجل والمرأة هو سمة المجتمع الأمريكي حتى مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ومن أكثر المظاهر التي تنتشر في تلك المجتمعات التحرش الجنسي في أماكن العمل، دلت إحدى الدراسات على أن (90%) من الفتيات في أمريكا عانين من التحرش الجنسي. وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي طبع عام (1978م) -أي: كان هذا الكتاب قبل ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً:- إن الاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة منتشرة انتشاراً ذريعاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي القاعدة وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة في أي نوع من الأعمال تمارسه مع الرجال. ويقول مكتب المرأة في لجنة الحقوق المدنية للولايات المتحدة: إن هذا الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة واسع الانتشار جداً ويشكل مشكلة عويصة الحل. وقامت إدارة الخدمة المدنية في اليابان بتوزيع ستين ألف كتيب على موظفي الحكومة في محاولة للحد من حوادث التحرش الجنسي داخل المكاتب الحكومية. وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي سبقت الإشارة إليه، تقول متحدثة عن الانتشار الذريع لهذا الابتزاز وأنه تحول إلى قاعدة وليس حالة شاذة: وكشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن (80%) من ضابطات الشرطة أي بنسبة (4/ 5) يتعرضن للمضايقة الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية، وشارك في الاستطلاع (1800) ضابطة في عشر مديريات أمن في إنجلترا وويلز. وقالت منظمة العمل الدولية: إن النساء العاملات في مختلف دول العالم الصناعي يعانين من مضايقات تجبر كثيرات منهن على ترك وظائفهن، وحذر التقرير أرباب العمل من أن عدم معالجة هذه المشكلة يمكن أن يؤثر على الأداء الاقتصادي لشركاتهم وأن يكون سبباً لفقد موظفات أكفاء ولتكاليف إضافية بسبب عمليات التقاضي. وأظهر التقرير أن (84%) من النساء العاملات في أسبانيا و (74%) في بريطانيا يبلغن عن تعرضهن لمضايقات، وأشار هانس في تعليق على التقرير إلى أن الأرقام الحقيقية للمشكلة أعلى من ذلك بكثير؛ لأن نسبة غير قليلة من الحالات لم يتم الإبلاغ عنها، ويرجع السبب في ذلك في الأغلب إلى أن النساء اللاتي تعرضن لها خشين من العواقب. وحين تتعرض المرأة العاملة للابتزاز الجنسي فلا خيار لها إلا أن تتجاهل قيمتها الأخلاقية وعفتها؛ لأن أي عاهرة تستطيع أن تحتل مكانها بسهولة إذا هي رفضت الانصياع لرغبات رئيسها الجنسية. هذا أيها الإخوة والأخوات ما جنته المرأة حين خرجت للحياة العامة، فماذا حققت من وراء ذلك، إنه طريق موحش مظلم تقابله المرأة المسلمة، تقاد وقد تستجيب أحياناً فتلهث وراء السراب تريد أن تذوق طعم السعادة التي ترى أن المرأة الغربية قد نالتها، ويخفى عليها أنها هناك تعاني من ابتزاز وتعاني اقتيادها إلى مذابح الفضيلة والعفاف لتروي نزوات طائشة لمن لا يرون فيها إلا أنها وسيلة لإشباع نهمهم نحو الشهوات. أيها الأخوات! أيها الإخوة الكرام! هذا هو واقع تلك المرأة التي ترى أن العفاف وأن الحجاب يعطل الحياة العامة، هل نريد أن تقاد مجتمعات المسلمين، وأن تقاد فتيات المسلمين لأن تعيش هذا الواقع الذي تعيشه تلك البلاد التي تقتدي كثير من فتياتنا اليوم بواقع نسائهم؟

الحياء وسخرية الآخرين

الحياء وسخرية الآخرين رابعاً: الحياء وسخرية الآخرين: من الذي يلوم الناس حين يستحون؟ أليس الحياء دلالة توقير وتقدير للآخرين؟ أليس الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا يليق؟ يستحي الإنسان أن يخالف الآخرين ويبدو أمامهم بمظهر يدفعهم للسخرية منه ويستحي أن يفعل أمامهم ما يكون منقصة في حقه، والحياء خلق ممدوح وفضيلة سامية، ومن هنا أكد عليه سيد الناس وأحسنهم خلقاً وعده شعبة من الإيمان، وحين رأى رجلاً يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه فإن الحياء من الإيمان). والحياء خصلة فطرية في المرأة، بل هي مضرب المثل في الحياء، وقديماً وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (أشد حياء من العذراء في خدرها)، لذا فحين جاء الإسلام وحفظ للمرأة حقها ومكانتها كان من أهم ما قرره أن لا تتزوج الفتاة دون إذنها، لكن لما كان الحياء قد يعوق الفتاة عن إبداء موافقتها على الزوج المتقدم لها فقد جعل صمت البكر دليل قبولها بالزوج بخلاف الثيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها)، لكن انتشار التساهل في الحجاب في مجتمعات المسلمين قلب الصورة لدى بعض الفتيات فصرنا نرى طائفة منهن يمنعهن الحياء عن ارتداء اللباس الشرعي، فهي تخشى أن تبدو بصورة غير لائقة، وتستحي من أن تلتزم باللباس الشرعي الساتر، إنها الصورة المنكوسة، فالحياء يدعو إلى الستر والعفاف، والحياء يدعو إلى البعد عن التبرج وإظهار المفاتن، ولئن دعا الفتاة حياؤها من الناس أن تجنح للتبرج والسفور أفلا يدعوها حياؤها من الخالق البارئ الذي يراها أينما حلت وارتحلت ويعلم نواياها وطويتها إلى التزام أمره عز وجل؟ أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحياء فقال: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء. فتساءلوا مخبرين أنهم يستحون فقال صلى الله عليه وسلم مفسراً حقيقة الحياء: من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

الثقافة والتعليم

الثقافة والتعليم خامساً: الثقافة والتعليم: لم تعد الفتاة اليوم هي ابنة القرية التي لا تقرأ ولا تكتب، فقد تعلمت وخاضت ميادين الحياة العلمية فحازت أعلى الشهادات والدرجات، وحين عاشت فتاة الإسلام داخل أروقة الجامعة، ورأت ما فيها من اختلاط وسفور، ورأت في المقابل أن الستر والحياء ارتبط بجدتها وأمها شعرت حينها أن الفتاة المتعلمة لا ينبغي لها أن تلبس هذا اللباس الذي لا يليق إلا بالقروية الجاهلة. ما العلاقة بين التعليم والسفور؟ هل التعليم يدعو إلى الفضيلة والعفة أم يدعو إلى التهتك والسفور؟ هذه كاتبة من إحدى بلاد المسلمين سخرت نفسها للنضال فيما تسميه معركة تحرير المرأة، الدكتورة نوال السعداوي ألفت كتاباً عنوانه: الله مات في النيل. تعالى الله عما تقول! وأين طبع؟ طبع في تل أبيب، ومما قالته هذه الكاتبة: إن فكرة الحجاب نشأت في التاريخ البدائي القديم لأسباب صحية وقائية، ثم اكتسبت على يد اليهود صفة دينية، لم يكن بوسع النساء في المجتمع الصحراوي الشحيح بالماء أن يجدن وسائل النظافة الكافية، خاصة في فترات الطمث والولادة؛ ولهذا تقرر عزل المرأة فيما يشبه الحجر الصحي خلال أيام الولادة والطمث، لكن فكرة عزل المرأة اتخذت شكلاً دينياً وتطورت من عزل المرأة إلى فرض الحجاب عليها، واتخذ هذا الحجاب شكل تغطية رأس المرأة، مع أن الرأس ليس عورة وليس عضواً جنسياً! وتقول: أنا أرى أن الفتاة التي تتغطى مثل الفتاة التي تتعرى، ومثل الفتاة في أوروبا وأمريكا التي ترتدي الميني جيب. التعرية والتغطية واحدة، لماذا؟ لأنها تقول: أن المرأة جسد، وتقول: فالوجه هو الإنسان ومن تغطي وجهها ليست بإنسانة. ردت عليها الكاتبة سهيلة زين العابدين حماد رئيسة ومنشئة مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة النبوية، وعضو رابطة الأدب الإسلامي وعضو اتحاد المؤرخين العرب، فقالت لها: بأي حق تلغي إنسانية المرأة التي تغطي وجهها، إن محدثتك تغطي وجهها؛ لأنها إنسانة كرمها الله بأن شاء لها أن تولد وتعيش وتتعلم في مهبط الوحي ودار الهجرة، وتنتمي إلى هذا المجتمع المسلم الذي يحترم إنسانية المرأة ويصونها فحجب وجهها عن أعين الرجال ولكنه لم يحجب عقلها ويقيد فكرها، إذ فتح لها أبواب العلم والمعرفة على مصراعيها، ونالت منها ما أهلها بأن تكون رئيسة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة المنورة، وعضواً في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضواً في اتحاد المؤرخين العرب، ودرست مؤلفاتها في الجامعات، وتعتمد بحوثها في أطروحات الماجستير والدكتوراه، وتوزع مؤلفاتها في الوطن العربي، وتنشر مقالاتها وبحوثها في مختلف الصحف والمجلات، ومع ذلك لم يرها أجنبي قط، وهاهي تقف أمامك لترد على أقاويلك، وتحاجك بالعلم الذي تتمنطقين به، وتتجرئين على خالقك باسمه. وتمضي قائلة: وإن كان مرجعك مؤلفات فرويد وماركس اليهودي وإنجلز وجان بول سارتر وكنزي وفاسترز وجونسون وكاري هوم لي وسيرتي وغيرهم من أصحاب مدرسة التحليل النفسي الفرويدي؛ فإن المرجع الأول لمحدثتك هو كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان أساتذتك فرويد وماركس فإن المعلم الأول لمحدثك هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون، ثم بقية الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فلتكن المواجهة إذاً بين ابنة الحجاب التي تغطي وجهها وتؤمن بتشريع خالقها وبين ابنة السفور التي تتجرأ على خالقها وتعترض على تشريعاته وتقول: إنها لا تصلح للعصر. إن كاتبة هذه المقالة ليست قروية جاهلة، بل هي متعلمة من أرقى الكاتبات والمتعلمات، ومع ذلك لم يكن هذا التعليم والترقي عائقاً لها عن ارتداء الحجاب. دخلت فتاة في أمريكا في أحد الأسواق، وإذا بها ترى امرأة متحجبة حجاباً كاملاً فأرادت أن تسخر منها وتزدري تمسكها بالحجاب في بلاد الحرية، فماذا فعلت؟ قالت هذه الفتاة بلهجة متهكمة: حجاب هاهنا! دعينا من هذا التخلف. فالتفتت إليها هذه المرأة المتحجبة ولم ترد عليها، فكررت هذه الفتاة سخريتها ولم تجبها تلك بشيء إلا أنها قالت باللغة الإنجليزية: عفواً لا أعرف اللغة التي تتكلمين بها! أنا أمريكية، فضحكت هذه الفتاة وعجبت من لبسها الحجاب، فقالت تلك المرأة الأمريكية المسلمة بلهجة واثقة: اسمعي أنا أمريكية عشت العري والخلاعة أصالة، وأنا أعرف تماماً ماذا جلب لنا هذا العري من بلاء، ولكن أحمد الله أن هداني للإسلام، وشرع لي الحجاب، لقد صار لأجسادنا وذواتنا قيمة بعد أن كنا ألعوبة للغادين والرائحين، افهمي يا مسكينة هذا الكلام جيداً وانتبهي لنفسك ولا تكوني صورة سيئة عن مسلمات العرب، وانهالت عليها بالنصائح حتى ذهلت تلك الفتاة المتبرجة وبدأت تبكي وكانت صدمة لها لم تنسها لأيام. قال قريبون منها: فلبثت أسبوعاً لا تخرج من دارها ثم رأيناها تخرج م

الحضارة والمدنية

الحضارة والمدنية سادساً: الحضارة والمدنية: يرتبط السفور بالمدنية والتحضر والحجاب بالتخلف والبداوة لدى بعض فتيات المسلمين، ومن ثم فهي تتخلى عن الحجاب لتكون أكثر تحضراً، ودعونا نثير هذا السؤال مرة أخرى: ماذا جنى العالم المتحضر من السفور؟ تقول كاتبة إنجليزية وهي نس إنيرود: أنا ليس بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، تنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم، إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل لكثرة مخالطة الرجال. انتشرت في تلك المجتمعات الخيانة الزوجية، ففي إحصاية في مطلع هذا القرن الهجري في أوروبا (75%) من المتزوجين يخونون زوجاتهم قبل الزواج، و (80 - 85%) لهم خليلات، انتشار الاختطاف رغم أن أبواب التمتع بالحرام متاحة لهؤلاء. أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح (1. 300. 000) أي: (1/ 3) امرأة، وأضاف المركز أن واحدة من كل 8 بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمال من اغتصبن (12. 100. 000) على الأقل، ويشير المسح إلى أن (61%) من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن (18) عاماً، وأن (29%) من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن أحد عشر عاماً، وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة (59%)، وفي بريطانيا (9. 000) فتاة صغيرة لم يتجاوزن الخامسة عشرة حملن عام (1996 للميلاد). انتشار الشذوذ، ممارسة الشذوذ بين الرجال وبين النساء هو لون آخر من ألوان ما جنته تلك الحضارة، انتشار إتيان المحارم، اعتداء الآباء على بناتهم، بل اعتداء بعض الأجداد على حفيداتهم، اعتداء الإخوة على أخواتهم، أرقام هائلة يضج منها ذلك العالم، هذا هو واقع تلك الحضارة، وهذا هو واقع تلك المدنية، فكيف بفتاة الإسلام تعتقد أن التخلي عن الحجاب هو مظهر من مظاهر الحضارة، وكيف بها ترى أن الحجاب والستر مظهر من مظاهر التخلف، فماذا جنى ذلك العالم المتحضر؟ الذي يبدو منطقياً أنه حينما ينتشر السفور والإباحية في أي مجتمع أن حالات الاغتصاب تقل وتتضاءل، لأن من يريد الفجور أمامه أبواب متاحة، والمفترض منطقياً أن تزيد حالات الاغتصاب وحالات الشذوذ في المجتمعات التي لا يتاح فيها الباب للمارسة الجنسية خارج إطار الزواج، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، فهل فتاة الإسلام تجعل ذلك المجتمع الذي ترى منه صورة من صور الرقي، هل يسوغ أن تجعل ذلك المجتمع مرآة لها وترى أنها حين تلتزم الحجاب والستر والعفاف تنتمي إلى عصر التخلف والرجعية؟

الزميلات والصديقات

الزميلات والصديقات المعوق السابع: الزميلات والصديقات: إن الصديق والصاحب له أثره على الإنسان؛ ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وأخبر صلى الله عليه وسلم: (أن المرء على دين خليله -قال:- فلينظر أحدكم من يخالل)، ويوم القيامة يحشر المرء مع من أحب، فإن أحب الصالحين حشر معهم ولو كان عمله دون عملهم، وإن أحب غيرهم حشر معهم. الفتاة تختار صديقاتها ممن تلتقي بهن في الجامعة أو في حيها من أقاربها وتعيش معهن، وللصديقات تأثير بالغ على الفتاة، فحين تكون صديقات الفتاة من السافرات أو من المستهينات بالحجاب فإن هذا يمثل عائقاً لهذه الفتاة عن العودة إلى ما فرض الله عز وجل عليها من الستر والعفاف، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن حال تلك الصلة والعلاقة التي تبنى على خلاف طاعة الله تبارك وتعالى؛ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]. إن هذا المرء سيتبرأ من خليله وصديقه يوم القيامة، فإذا كان يريد النجاة من هذا الموقف فليتخذ هذا القرار في دار الدنيا وإلا فسيبقى ديناً عليه يدفعه يوم القيامة في يوم لا تجدي فيه هذه البراءة، ولا يجديه فيه هذا التخلي، وإنما هو مظهر من مظاهر إبراز التحسر والتأسي.

الشذوذ عن المجتمع

الشذوذ عن المجتمع المعوق الثامن: الشذوذ عن المجتمع: حين يصبح السفور هو السمة السائدة في المجتمع، أو التساهل في شأن الحجاب هو القاعدة العامة وهو الظاهرة العامة، تشعر الفتاة أنها حين تلتزم بالحجاب تعيش شاذة عن هذا المجتمع الذي تعايشه، والشذوذ ليس بالضرورة صفة سلبية، بل هو حين يكون على خير وعلى حق هو دلالة على قوة الشخصية، ودلالة على أن الإنسان لا يستجيب لضغط المجتمع، ولا يستجيب لضغط الآخرين. في كتاب الله تبارك وتعالى قص الله عز وجل علينا نبأ فتية لا يبلغ تعدادهم العشرة، عاشوا في مجتمع كان كل الناس فيه من أهل الشرك والضلال ودعوة غير الله عز وجل، ومع ذلك كان هؤلاء الفتية مؤمنين أتقياء صادقين؛ ذكر الله عز وجل قصتهم نبراساً للأمم من بعدهم إلى يوم القيامة، إن هؤلاء كانوا شاذين في عرف مجتمعاتهم. بل هاهي امرأة طاغية من الطغاة وجبار من المتجبرين إنها امرأة فرعون الذي لم يعرف التاريخ رجلاً أكثر جبروتاً وتسلطاً منه، وأي جبروت أشد من أن يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ثم يقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك آمنت بالله تبارك وتعالى، فضربها الله عز وجل مثلاً للمؤمنين والمؤمنات {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. كانت وحدها في بيت هذا الجبار الطاغية الظالم وذاقت ألوان العذاب والأسى، ومع ذلك بقيت مؤمنة صامدة متمسكة بما أمرها الله عز وجل به، فقضت نحبها وأراها الله تبارك وتعالى بيتها في الجنة قبل أن تلفظ روحها، وبقيت مثلاً يتأسى به المؤمنون والمؤمنات إلى قيام الساعة.

سلوك المحجبات وواقعهن

سلوك المحجبات وواقعهن المعوق التاسع: سولك بعض المحجبات وواقعهن: تحتج بعض الفتيات بأن سلوك وأخلاق بعض الفتيات المحجبات لا يقود إلى الحجاب، فإنها ترى منهن سوء الخلق، ترى منهن الغش، ترى منهن الكذب إلى غير ذلك من هذه المظاهر. دعونا نأخذ الصورة المقابلة، لو رأينا امراة متبرجة تدخن أو تتعاطى المخدرات أو تقع في الجريمة، فهل يلفت نظرنا ذلك ونقول: إن هذا الفساد والإجرام ارتبط بالتبرج والسفور؟ إن الذي يلفت نظرنا هو النموذج الشاذ، فتلك الفتاة التي تمارس سلوكاً سيئاً وهي محجبة إنما لفتت نظرنا لأنها محجبة ولو كانت سافرة لما لفتت نظرنا. والحجاب لا يعني العصمة، فحينما تتحجب الفتاة فهي تلتزم بأمر من أمور الله تبارك وتعالى، تلتزم بفريضة من فرائض الله عز وجل على المرأة، وهذا لا يعني أنها تحولت إلى امرأة معصومة سليمة من الأخطاء. وهكذا الرجل حين يظهر عليه أثر الصلاح والتدين فلا يعني أنه قد أصبح إنساناً معصوماً، وإذا وجدت هذه الحالات فهي حالات شاذة؛ لكن الغالب على الذين يظهرون بمظهر الصلاح من الرجال والنساء هو أنهم منطقيون مع ما يظهرون أن باطنهم يحكي ظاهرهم، هذا هو الأصل وهو الغالب، وما سوى ذلك في حالات شاذة.

الأهم صلاح القلب

الأهم صلاح القلب الأمر العاشر: الأهم صلاح القلب: تقول بعض الفتيات المسلمات: نعم إنني متبرجة، إنني سافرة، ولكني طيبة القلب، والأهم ليس في المظهر، الأهم هو صلاح القلب. أيها الإخوة! ما في القلب يظهر أثره على سلوك الإنسان وعمله، إذا ادعى شخص أنه يحب إنساناً وهو مع ذلك يسيئ إليه وينفر منه، أو ادعى أنه يبغضه وهو يجالسه ويشتاق إليه ويسعى لمجالسته، فهل من حوله سيصدقون هذه الدعوى؟ إذا ادعى زوجك أنه يحبك ويقدرك ويجلك ومع ذلك يتلفظ عليك بأقبح الألفاظ، وهو يسب ذلك اليوم الذي عرفك فيه، وهو يبحث عن زلاتك وسقطاتك ويهمش محاسنك، فهل تقتنعين فعلاً بهذه الدعوى من أنه يحبك؟ الانتساب للجندية، لو أن إنساناً لبس ملابس الجند فهل يؤهله ذلك لأن يكون جندياً، وهل يقبل الناس منه ذلك؟ لو انتسب لمؤسسة أو جامعة وهو يقول: إنه جاد وحريص على الدراسة ومع ذلك لم يحضر الدراسة، لم يحضر الامتحانات، فهل يمكن أن يجتاز هذه الجامعة؟ هل يمكن أن يعطيه صاحب هذا العمل الذي التحق به راتباً لأنه يؤكد ويحلف الأيمان المغلظة أنه جاد في ذلك؟ إن مجرد الدعوى لا تكفي. إذاً: الفتاة حين تقول إنها طيبة القلب صالحة القلب فمرآة طيب القلب وصلاحه استجابتها لأمر الله تبارك وتعالى.

الأهم الصلاة والصيام

الأهم الصلاة والصيام الأمر الحادي عشر: تقول بعض الفتيات: إن الأهم الصلاة والصيام، إنني أصلي، أحافظ على الصلاة، أصوم شهر رمضان، أجتنب الفواحش، وهذا هو الأهم، وهذه الحجة كثيراً ما نسمعها من كثير من المسلمين حينما ينكر عليهم معصية أو منكر. حين يحترم الإنسان نظاماً من أنظمة البشر فهل يعفيه ذلك عن احترام سائر الأنظمة؟ هناك أنظمة وقوانين تلزم صاحب البناء أن يلتزم بها، فإذا التزم بواحد من هذه الأنظمة فهل يعفى من البقية؟ هناك أنظمة تلزم سائق السيارة كأن يحمل رخصة قيادة للسيارة، وأن يضع لوحات على السيارة، وأن يرتدي حزام الأمان، وأن يسير وفق سرعة محددة، فلو أن صاحب سيارة من السيارات ارتكب مخالفة من المخالفات ثم أوقفه رجل الأمن فقال: إنني محترم للنظام، إنني أحمل رخصة قيادة، إنني أحمل رخصة سيارتي، فلن يقبل منه ذلك. إذاً: التزام الإنسان بشيء من شرع الله لا يعفيه من بقية الفرائض، فالتزام الفتاة بالصلاة هو استجابة لأمر الله عز وجل، لكن هذا لن يعفي الفتاة من أن تلتزم ببقية ما شرع الله عز وجل لها. وهكذا شأن المسلم في سائر أحكام هذا الدين، فحينما يلتزم بالصلاة، يلتزم بالصيام، يؤدي الحج إلى بيت الله، يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذا قيام بأركان عظيمة من أركان الإسلام، لكن هذا لن يعفيه من أن يقوم ببقية الواجبات والشرائع. هذه أيها الأخوات والإخوة الكرام بعض ما تحتج به فتيات المسلمين اللاتي يتنكبن طريق الحجاب، اللاتي يسعين نحو السفور والتبرج، ودعونا نختم ولو أطلنا قليلاً بصوة من صور الواقع الغربي.

صورة من واقع الحياة الغربية

صورة من واقع الحياة الغربية دعونا نختم بصورة من صور واقع الحياة الغربية، ولماذا نورد هذه الشواهد هنا؟ لأن تلك البلاد هي التي أصبحت مرآة لفتياتنا ونسائنا، وهي التي سبقتنا في السفور والاختلاط ومشاركة المرأة للرجل في سائر ميادين الحياة، هاهو الغرب اليوم يتراجع عن السفور، يتراجع عن الاختلاط، وهذه بعض شهادات أولئك وهم لا يقولون هذه المقالة ديناً، فهم لا يؤمنون بالله، لكن هذه مقالات بعض حكمائهم وعقلائهم وقد أدركوا خطورة هذا الطريق الذي سارت عليه مجتمعاتهم. تقول باميلا سو أرومان التي أسلمت فيما بعد: إن اعتناقها للإسلام أعاد لها كرامتها وعفتها وحقوقها، فيما لا تزال المرأة الغربية تعاني من النظرة الدونية واتخاذها مجرد وسيلة للاستمتاع أو وليمة سهلة على موائد اللئام، وتأسف أسماء لأن معظم نساء الغرب لا يعرفن حقيقة الموقف المشرف للإسلام من قضياهن، فلو عرفن ذلك لسارعن إلى اعتناقه. تقول الأستاذة جانيت ليفن: بعد خمس وعشرين سنة من التعليم المختلط نلاحظ أنه لا يقدم الحل المأمون، فما زالت الفتيات يتحدثن عن المخاوف من التحرشات الجنسية في المدارس الثانوية المختلطة، وبسببها يفضلن المدارس الخاصة بالبنات، وقد لوحظ أن أعداد المتقدمات إلى كليات البنات قد زاد في السنوات الثلاث الأخيرة زيادة ملحوظة. وفي صحيفة عربية نشر تحت هذا العنوان: كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة. قدمت الصحيفة هذه الكاتبة بقولها: هلتيان سانسبري صحفية متجولة تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاماً وزارت جميع دول العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها. تقول الصحفية الأمريكية بعد أن أمضت شهراً في إحدى بلاد المسلمين: إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأمريكي والأوروبي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا؛ ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة وأقصد من هي تحت العشرين هذه القيود صالحة ونافعة وأنا هنا أقرأ مقالها كما هو، وإلا فهي في الواقع ليست قيوداً بل هي أحكام تتشرف المسلمة بالالتزام بها. تقول: لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات جيمس بين وعصابات المخدرات والرقيق. ويقول أحد الغربيين وهو هملتون: إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في العناية بها عن كل ما يؤذيها ويمس كرامتها ويتناول سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض كتابنا الغربيين، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة. ويقول البروفسور خون همر: الحجاب في نظر الإسلام وتحريم اختلاط النساء بالأجنبي ليس معناه انتزاع حرية المرأة. هذه الشهادات أيها الإخوة لم نوردها لأننا نعتبرها منطلقاً لتسويق الحجاب والفضيلة، إنما هي اعترافات من واقع أولئك الذين مع أنهم لا يدينون بالإسلام إلا أنهم رءوا أن هذا السفور قد قاد مجتمعهم إلى الدمار والهلاك، ومثل هؤلاء دعاة التحرير فكثير منهم عاد وتراجع عما كان يقول، ومن هؤلاء ما كتبه قاسم أمين يقول: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في نحو تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي، رأيتهم ما مرت عليهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، ثم ما وجدت زحاماً في طريقي فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعاً، إنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل. وربما كان لبعض التجارب التي مرت بها أثر في نفسه، فهاهو يروي أن صديقاً عزيزاً زاره مرة فلما فتح له الباب قال: جئت من أجل

موعظة فتاة

موعظة فتاة وأختم حديثي بهذه القصة: عادت الفتاة الصغيرة من المدرسة، بعد وصولها إلى البيت لاحظت الأم أن الابنة قد انتابها الحزن، فاستوضحت من ابنتها عن سبب هذا الحزن فقالت: أماه! إن مدرستي هددتني بالطرد من المدرسة بسبب هذه الملابس الطويلة التي ألبسها. الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا ابنتي. قالت الفتاة: نعم يا أماه! ولكن المدرسة لا تريده. قالت الأم: حسناً يا ابنتي، المدرسة لا تريده والله يريد، فمن تطيعين؟ أتطيعين الله الذي أوجدك وصورك وأنعم عليك أم تطيعين مخلوقة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً. فقالت الفتاة: بل أطيع الله. فقالت الأم: أحسنت يا ابنتي وأصبت. وفي اليوم التالي ذهبت تلك الفتاة بالملابس الطويلة وعندما رأتها معلمتها أخذت تؤنبها بقسوة، فلم تستطع تلك الصغيرة أن تتحمل ذلك التأنيب مصحوباً بنظرات صديقاتها إليها، فما كان منها إلا أن انفجرت بالبكاء ثم هتفت تلك الصغيرة بكلمات كبيرة في معناها قليلة في عددها: والله لم أدر من أطيع أنت أم هو؟ فتساءلت المدرسة: ومن هو؟ فقالت الفتاة: الله، أطيعك أنت فألبس ما تريدين وأعصيه هو. فطلبت المعلمة استدعاء أم تلك الطفلة، ماذا تريد منها؟ جاءت الأم فقالت المعلمة للأم: لقد وعظتني ابنتك هذه أعظم موعظة سمعتها في حياتي. إن المدينة يابنتي تبقى محصنة أمينة ما دامت الأسوار تمنعها بأعمدة متينة، فإذا هوت جدرانها نفذ العدو إلى المدينة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن على نسائنا بالستر والعفاف، وأن يجعلهن مؤمنات صالحات قانتات، وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من الفجور والفساد والسوء إنه سميع مجيب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الالتزام هوية أم تكاليف

الالتزام هوية أم تكاليف لقد ظهر التدين في أوساط الشباب المسلم بصورة طيبة، وانتشر الالتزام بالسنن عند الشباب والشابات، لكن البعض لا يزال يرى أن التدين عبء ثقيل، ولا يزال النقد والكلام على الأخطاء يبرز بصورة واضحة تكاد تطغى على خطاب التربية، وكان ينبغي إبراز الجوانب الحسنة والإيجابية عند الشباب.

ظاهرة الالتزام بين الشباب والفتيات

ظاهرة الالتزام بين الشباب والفتيات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أرحب بالإخوة الحاضرين والأخوات الحاضرات، وأسأل الله عز وجل أن يثيب القائمين على هذا المخيم، وأن يجعل هذا العمل في موازين حسناتهم إنه سميع مجيب. الموضوع هو: الالتزام هوية أم تكاليف؟ في ظل هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ومع تركيز الجهود على صرف الشباب من الجنسين عن دينهم خرج جيل من الشباب والفتيات بعيد عما يريده الله تبارك وتعالى، جيل لا تتمثل فيه صفات أهل الإسلام، جيل ينتسب إلى الإسلام، لكنك حين تراه لا ترى فيه خلق المسلمين وسلوكهم، ولعل ما شاهدتموه قبل قليل يعطي صورة أو جزءاً من هذا الواقع. عاشت الأمة غربة كالحة حتى أصبح المتدين إنساناً غريباً شاذاً سواء أكان من الشباب أو الفتيات، أصبح الشاب الذي تظهر عليه مظاهر التدين يمثل نموذجاً شاذاً في المجتمع، خاصة حين يكون شاباً متعلماً، فالمفترض أن يكون شاباً راقياً، والتدين إنما يليق بالقرويين والفلاحين وغيرهم! الفتاة حين تكون محجبة فإنها تصبح نموذجاً شاذاً، ويزيد الأمر حينما تكون طالبة متعلمة مثقفة، حينما تكون طالبة في التخصصات التي يتسابق الناس عليها ويشعرون أنه لا مكان لأمثال هؤلاء في هذه الدائرة. بدأت الأمة تستيقظ، وبدأت ظاهرة عودة الشباب إلى الله تبارك وتعالى من الشباب والفتيات، وأصبحت اليوم في أي مكان وعلى أي مستوى لا يخطئك هذا النموذج؛ أن ترى هذا الشاب المتدين، تراه في مظهره فترى مظهره يحكي لك دون أن تعرف حاله وتعرف أخباره، هذا المظهر يعطيك انطباعاً وصورة بأنك أمام شاب متدين حريص على استقامته والتزامه. وأصبحت أيضاً ترى الفتيات في تلك البلاد التي انتشر فيها السفور وأصبحت الفتاة تستطيع أن تلبس ما تشاء، وتستطيع أن تفعل ما تشاء، وتخرج كما تشاء في تلك البلاد أصبحت ترى الفساد ليست تلك الفتاة القروية، ليست تلك الفتاة التي تعيش في البادية أو تعيش في قبيلة محافظة إنما تلك الفتاة التي تعيش في المدن، في العواصم، تدرس في الجامعات ومع ذلك تراها محجبة تعتز بحجابها. أصبحت هذه الظاهرة منتشرة في كل مكان، في الدول، في المدن، في الأقاليم، في القرى، في النواحي، في كافة الطبقات وكافة التخصصات، أصبحت ظاهرة تفرض نفسها، ومن هنا نشأ هذا الاصطلاح. ربما البعض يتحفظ عليه أو يطرح بديلاً آخر لسنا في صدد نقاش هذه القضية، إنما نحن نتعامل مع أمر واقع، والمعنى واضح، فهناك شباب أصبح الالتزام سمتاً لهم وسمة لهم، وهناك فتيات أصبح الالتزام سمتاً لهن وسمة لهن، وصار الالتزام حياة ونقلة جديدة؛ ولهذا من الطبيعي أن تسمع أن فلاناً التزم واستقام أنني التزمت منذ التزمت أصبحت صورة واضحة، وصار هذا الوصف يعطي دلالة، فأنت حينما تصف فلاناً من الناس بأنه ملتزم أو تصف فلانة من الناس بأنها ملتزمة فهذا الوصف يعطي دلالة واضحة يفهمها الجميع ويعيها الجميع. من هنا نشأ هذا الجيل وأصبحت له هذه الصفة، هذا المصطلح اصطلحنا عليه وإن كان البعض يتحفظ على هذا المصطلح، يتمنى أن نعبر بالمصطلحات التي دل عليها الشرع: المستقيم الصالح إلى آخره، لكن الاصطلاح إذا لم يترتب عليه محذور فلا إشكال فيه، وإن كان لو أتيح لنا الاصطلاح الشرعي الذي جاء في الكتاب والسنة فلا شك أنه أولى. لكن لو اصطلح الناس على وصف لا يعارض الشرع فلا حرج في ذلك، فقد اصطلحت الأمة على علوم ومصطلحات، واصطلح الفقهاء على عبارات لم تكن بالضرورة قد نص عليها في الكتاب والسنة. حينما نتأمل واقع هؤلاء الملتزمين من الشباب ومن الفتيات نرى مشكلة تؤرقنا كثيراً، تلكم المشكلة هي الشعور بالإحباط، نرى جيلاً محطماً، يأتي الشباب يلقون أسألتهم، يتحاورون، تسمع منهم، تجد أن الشباب الملتزمين المتدينين يعيشون إحباطاً، يعيشون نوعاً من عدم الثقة بالنفس، يعيش كثير منهم نوعاً من الشك في الالتزام، فتراه يطرح علامة استفهام على التزامه؛ ولهذا تجده كثيراً ما يقول: أنا شاب محسوب من الملتزمين، أنا شاب يعدني الناس من الملتزمين، وهكذا بالنسبة للفتيات؛ ولهذا ترى كثيراً منهم يضع علامة استفهام على التزامه واستقامته أصلاً.

السمات المرتبطة بالشعور بالإحباط

السمات المرتبطة بالشعور بالإحباط

الشعور بالنقص

الشعور بالنقص Q هذه القضية هي التي سنحاول أن نتحدث حولها حديثاً لعله أن يكون حديثاً من عفو الخاطر. أعتقد أن عدم ضبط التوازن بين الهوية والتكاليف كان من نتائجه أن نرى هذه الصورة، يمكن أن نذكر أبرز السمات التي ارتبطت بهذا الشعور منها: الشعور بالنقص: ترى الشباب والفتيات الملتزمين يشعرون بنقصهم، لا نعني بذلك النقص البشري، فالبشر لابد أن يكون لديهم النقص البشري، لابد أن يكون لديهم القصور الذي هو ملازم للبشر، سواء في طبيعتهم وخصائصهم أو حتى في تدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم). وقال: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فكل الناس لابد أن يقعوا في الخطأ، كل الناس لابد أن يقعوا في التقصير، فأن نشهد تقصيرنا البشري الذي هو جزء من كوننا بشراً هذا أمر طبيعي، لكن الشعور بالنقص الذي يتجاوز هذه القضية، ضعف الثقة بالنفس، سواء على مستوى الجيل والتيار أو على مستوى الأفراد. فالآن لو سألت هذا السؤال وسألت الشباب: ما رأيك في الشباب الملتزم اليوم؟ وسألت الفتيات: ما رأيكن في الفتيات الملتزمات اليوم؟ ماذا تتوقعون أن تكون معظم الإجابات، ونحن نتحدث عن تيار عام، عن ظاهرة عامة، سنجد أن النسبة الكبيرة تنظر نظرة قاصرة، تنظر نظرة دونية، إنه يقول لك: إن جزءاً كبيراً من الالتزام الشائع اليوم مظهر أكثر منه حقيقة، إن هؤلاء كثير منهم غثاء، هؤلاء لا يتوقع منهم إلى آخره. أنت ترى الحكم الآن في النهاية يدور حول الشعور بضعف هذا الجيل، بضعف هذا التيار، سواء أكان على مستوى الشباب أو كان على مستوى الفتيات، وعلى المستوى الفردي تجد معظم الشباب فاقدين للثقة بأنفسهم، يشعرون بأنهم غير مؤهلين للإنجاز، غير مؤهلين للتغيير، غير مؤهلين لأن يعيشوا حياة الالتزام الحقيقية.

التفكير في المشكلات

التفكير في المشكلات مظهر آخر: سيطرة التفكير في المشكلات: حينما ألتقي بعدد من الشباب وأستقبل أسألتهم أجد أسئلة كثيرة تدور حول مشكلات: إنني أعاني من كذا، كيف أتخلص من كذا؟ أنا لا أحس أنني صادق في التزامي، لا أحس أنني جاد في التزامي، أنا لست جاداً في طلب العلم، لست جاداً في الدعوة، أنا عندي مشكلة كذا، أنا عندي كذا، تجد دائماً اللغة التي تسيطر علينا هي شعورنا بالمشكلات وسيطرة هذا الشعور، والأمر نفسه أيضاً تجده عند الفتيات. لا شك -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى أن نشعر بالمشكلات، ومن الخطأ أن تغيب عنا مشكلاتنا، من الخطأ أن نتجاهل مشكلاتنا، والخطوة الأولى للتصحيح ولتجاوز المشكلات أن نعرفها وأن نعيها. لكن الجيل الذي لا يفكر إلا بالمشكلات، الجيل الذي تسيطر عليه المشكلات؛ أعتقد أنه جيل غير مؤهل للإنتاج والتغيير كما سيأتي.

ضعف الفاعلية

ضعف الفاعلية مشكلة أخرى ترتبط بهذه الظاهرة وهي ضعف الفاعلية: نحن نملك اليوم أعداد لا بأس بها من الشباب والفتيات الصالحين والذين نصطلح أن نصفهم بالملتزمين والملتزمات، والانتشار أفقي واسع، لا تكاد تدخل مدرسة من المدارس، بل فصلاً من الفصول في المدارس إلا وتجد فيه شاباً أو فتاة ملتزمة ومتدينة، أو تجد عدداً من المعلمين والمعلمات في هذه المدرسة أو تلك، لا تأتي حياً، لا تكاد ترى أسرة إلا وتجد هؤلاء. أعتقد أن هذه الطاقات لو فعلت بطريقة جيدة وصحيحة لكان النتاج هائلاً، أو افترضنا أننا أمام شركة تجارية تملك مندوبين مسوقين في مدن شتى في مناطق شتى، سنتوقع تسويقاً عالياً لمنتجات هذه الشركة، ونتوقع ترويجاً عالياً لها. إننا اليوم نملك طاقات كبيرة ومنتشرة في كافة المستويات، ولديها الرغبة في العمل والإنتاج، وأنا لست من المتشائمين، ولست من أولئك الذين يبالغون في النقد، فوافقوني أو خالفوني، وقولوا ما شئتم، لكنني أتفاءل وأقرأ في هذه الوجوه الخير، أقرأ فيها الإقبال على الخير، أقرأ فيها الإقبال على الصلاح، وأقرأ فيها ما لا يقرؤه الآخرون، لا أدري ألأني أسلط النظر على هذه الصفحة والآخرون يسلطون على تلك، أو لأني متفائل والآخرون متشائمون؟ لا أستطيع أن أفسر ذلك. لكنني أقول: إننا نملك اليوم طاقات هائلة، وأعداداً غفيرة من الشباب والفتيات، وهي تملك الرغبة والحماس، لو وظفت توظيفاً فاعلاً لأنتجت نتاجاً هائلاً أكثر مما نتصور. إذاً: هذا الجيل يعاني من ضعف في الفاعلية، وضعف في التأثير.

حالات الانتكاس

حالات الانتكاس أيضاً: من آثار ذلك الإخفاقات، نجد حالات من التراجع والتقهقر والتي اصطلحنا في أدبياتنا أن نسميها بالانتكاس: وهي حالات موجودة وكثيرة، جزء من هذه الحالات مصدره الشعور بالإحباط، أنا أرفض أن أفسر هذه الظاهرة بهذا العامل، لكن أقول: إن هذا العامل أحد العوامل التي تفسر لنا هذه الظاهرة، فهناك عدد من حالات التراجع والإخفاق مصدرها أن الشاب تمر به مواقف فيفشل فيها في السيطرة على نفسه، يفشل في التخلص من معصية يعاني منها، فيحاول ويحاول مرة أخرى فيشعر أنه غير جاد، يشعر أنه منافق، يشعر أنه غير مؤهل للالتزام فيحسم الموضوع ويتخذ قرار التراجع والتقهقر! أيها الإخوة والأخوات، هذه صور ونماذج تعكس حال هذا الجيل الذي يعاني من إحباط، ينظر إلى الالتزام نظرة واحدة، ينظر إلى الالتزام على أنه أعباء وتكاليف، وقيود صارمة، وأنه مرتقى صعب ليس من حق أي إنسان أن يدعيه ولا أن يسلكه، بل نسمع من الكثير بلسان الحال أو لسان المقال أننا لسنا أهلاً أن نوصف هذا الوصف. والمشكلة -أيها الإخوة والأخوات كما أشرت قبل قليل- تتجاوز الحكم الفردي، قد يكون الإنسان متواضعاً، قد ينظر إلى سيئاته وتقصيره، لكنك تراها على الجيل. لو ألقينا سؤالاً على الحاضرين والحاضرات: ما رأيكم اليوم في الشباب الملتزمين؟ ما رأيكن في الفتيات الملتزمات؟ سنجد معظم الإجابات تنظر نظرة فيها إحباط، تنظر نظرة متشائمة، ترى أن هذا الجيل جيل غير مؤهل، جيل غير جاد في التزامه، غير صادق في التزامه. قد نفترض -كما قلت- مقت النفس واحتقار النفس والنظر إلى قصورها في الحكم الفردي حين يحكم الإنسان على نفسه، أما حين نحكم على الجيل فأعتقد أن مثل هذا الحكم يحتاج إلى إعادة نظر ويحتاج إلى مراجعة.

الجيل الملتزم والتحديات

الجيل الملتزم والتحديات

التغيير والإصلاح

التغيير والإصلاح التحدي الثاني: التغيير والإصلاح: هذا الجيل المبارك من الجنسين هو الجيل الذي ننتظر منه بإذن الله أن يصلح، هو الجيل الذي ننتظر منه أن يرفع لواء الإصلاح والتغيير، من خلال المحيط الذي يتعامل معه ويتحرك من خلاله أو ما ننتظره في المستقبل، فنحن ننتظر أن يخرج من هؤلاء القادة والموجهين، وننتظر من هؤلاء الذين يقودون مشروع الإصلاح والتغيير الشامل. مشروع الإصلاح الذي نتطلع إليه وننتظره -أيها الإخوة والأخوات- مشروع ضخم، ليس مجرد إلقاء كلمات هنا وهناك، ليس مجرد إلقاء مواعظ، ليس مجرد استثارة عواطف، إننا بحاجة إلى تغيير في المجتمع، والتغيير في المجتمع يحتاج إلى تحد، يحتاج إلى طول نفس، يحتاج إلى جيل مؤهل للتغيير، جيل يملك إمكانات وقدرات، يستطيع أن يفكر بطريقة صحيحة، يستطيع أن يعمل بطريقة صحيحة، يستطيع أن يفهم واقعه بطريقة صحيحة، يستطيع أن يقود عملية التغيير في كافة مجالات الحياة؛ في المجال الاجتماعي، في المجال الاقتصادي، في تدين الناس، في كافة مجالات الأمة، فنحن بحاجة إلى تغيير شامل، وصناع هذا التغيير هم هذا الجيل. إذاً: هذا الجيل -أيها الإخوة والأخوات- يواجه تحديين: تحدي الثبات والاستقامة في ظل هذا الواقع وهذا العصر لصعوباته، وتحدي التغيير والتأهل للتغيير. دعوني أسأل سؤالاً: هل تعتقدون أن الجيل المحبط الذي يفقد الثقة في النفس وينظر إلى نفسه نظرة دونية مؤهل لمواجهة هذه التحديات؟ حين نربي جيلاً نلهب ظهره بسياط الإحباط ونجيد صناعة الفشل، ووأد الطموح والثقة، فهل تعتقدون أنا سنخرج جيلاً يتهيأ للثبات في ظل هذا العصر ليقود عملية التغيير؟ نحن -أيها الشباب والفتيات- ننتظر منكم مشروعات طموحة، ننتظر منكم جهوداً هائلة، لا يمكن أن تكونوا عند مستوى طموحنا وتطلعنا حين تكونوا مطأطئي الرءوس، فاقدي الثقة، فإن الذي لا يستطيع أن يقود نفسه كيف يقود الآخرين؟ الذي لا يثق في نفسه كيف يمكن أن يوجه عملية التغيير وإرادة التغيير. أعتقد أن الصورة واضحة أمامنا، ويشعر المربون والغيورون أن تحدي الثبات تحد ضخم أمامنا يواجهنا، ونشعر جميعاً أن تحدي التغيير هو الآخر تحد ضخم، وأننا بحاجة إلى أن نعد جيلاً يكون عند مستوى تطلعاتنا وعند مستوى طموحاتنا، لكن نحتاج أن نتساءل: هل ربينا هذا الجيل بالصورة التي تؤهله لأن يصل إلى هذا المستوى، بالصورة التي تؤهله أن يواجه هذه التحديات؟ أعتقد أننا بحاجة إلى مراجعة. الجيل الذي نراه اليوم ونلمسه يقبل على الخير، يقبل على اللقاءات، جيل واعد نستبشر به، لكننا قد نخطئ بحسن نية وقد تدعونا المبالغة في الحرص فنقسو قسوة أو نسلك طريقاً ربما أدى إلى هذه النتيجة التي نعاني منها.

عوامل سيطرة الإحباط على الشباب

عوامل سيطرة الإحباط على الشباب

سيطرة لغة الانتقاد

سيطرة لغة الانتقاد لماذا نرى اليوم الإحباط يسيطر على كثير من الشباب؟ لماذا نرى الشباب من الجنسين ينظر إلى الالتزام على أنه تكاليف وأعباء وقيود؟ لماذا يغفل النظرة إلى الجانب الآخر والصورة الأخرى؟ هناك عوامل ولدت هذه الظاهرة، لا يتسع الوقت لأن نستعرض كل هذه العوامل، لكني سأشير إشارات يسيرة إلى أبرزها؛ لأن موضوع الحديث ليس الحديث عن العوامل، إنما هو حديث حول هذا العنوان العريض، هي دعوة إلى أن نطرح هذا السؤال ونسعى للإجابة عليه، أن يطرحه الشباب والفتيات وأن يطرحه المربون والذين يتحدثون للشباب. من هذه العوامل: سيطرة لغة الانتقاد والحديث عن الأخطاء: الخطاب الموجه للشاب الملتزم والفتاة الملتزمة اليوم خطاب يسيطر عليه الانتقاد، يسيطر عليه التركيز على الأخطاء. حينما نتحدث مع الشباب نتحدث عن آفات الشباب الملتزم، أخطاء الشباب الملتزم، أخطاء يقع فيها الشباب الملتزم، آفات، صدق الالتزام، عناوين نسمعها كثيراً، ويأتي هؤلاء الشباب، تأتي هذه الزهور المتفتحة، هذه الوجوه المشرقة وتستمع لهذه السياط التي تلهب ظهورها، وتستمع وهي تحب هذا الحديث؛ لأنه حديث من مشفق ناصح. نعم، إن أولئك الذين يتحدثون هم يتحدثون من هذه المنابر، ويتحدثون مع هذا الجيل، ويتحدثون حديث المشفق الناصح، إنهم غيورون، إنهم حريصون على هذا الجيل، ولفرط حرصهم يحرصون أكثر على أن يبقى هذا الجيل نظيفاً، أن يبقى جيلاً طرياً فتزعجهم أي نقطة سوداء على هذا الثوب الناصع البياض. ومن هنا قد يتجاوزون لحرصهم، شأنهم شأن ذاك الإنسان الذي وجد جوهرة ثمينة فوضعها في جيبه، فصار يتحسس جيبه بين فترة وأخرى، يخشى أن تسقط هذه الجوهرة، وهذا السلوك أفضل رسالة لأولئك الذين يحترفون النشل، تشعرهم بأن ثمة صيداً ثميناً في جيب هذا الرجل الذي يدفعه ذلك الحرص، أو ذلك الذي اقتنى منزلاً فارهاً، أو سيارة جميلة، أنفق عليها مالاًَ كثيراً، فتراه يسعى للحفاظ عليها، يتجنب الطرق التي يخشى أن يسمع من خلالها ضجيجاً، الطرق التي تلوح هذا الجمال الناصع الذي تتمتع به هذه السيارة وهذا المركوب. نعم أيها الإخوة الكرام: إن هناك الغيورين الذين يتحدثون للشباب، أو الأخوات الداعيات اللاتي يتحدثن مع الفتيات، لكن أعتقد أن الانتقاد أخذ أكبر من حجمه الطبيعي وأخذ أكبر من حاجته، ونحن لسنا ضد الانتقاد، وأعتقد أن أياً منكم لو راجع شيئاً من مادتي المسموعة والمكتوبة سيجد نماذج من ذلك، ولابد أن ننتقد المظاهر الخاطئة، لكن أعتقد أن الانتقاد أخذ أكبر من حجمه، وأعتقد أننا تجاوزنا في الانتقاد، وصار حديثنا عن الأخطاء سمة بارزة؛ ولهذا فالشباب اعتادوا هذا الحديث، اعتادوا الحديث عن آفات الشاب الملتزم، عن أخطاء الشاب الملتزم، مشكلات الشاب الملتزم، هل نحن جادون في الالتزام، هل نحن ملتزمون حقاً؟ هل نحن صادقون؟ هذه عناوين نسمع بها كثيراً وعناوين براقة، وربما تعجبنا أكثر من العناوين الأخرى. اتصلت علي فتاة، وقالت: أريد أن تلقي محاضرة عن أخطاء الملتزمات وآفات الملتزمات، قلت: لماذا؟ قالت: إن هناك مادة قدمت للشباب عن آفات الملتزمين وأخطاؤهم. قلت: هل تعتقدين أن هناك أخطاء للملتزمات؟ قالت: نعم، وهي كثيرة. قلت: أنا سأعد للمحاضرة، وكان هذا قديماً، وكانت المحاضرة بعنوان: القابضون على الجمر، وتحدثت فيها عن الوجه المشرق لهؤلاء، ولو كنت أشعر أن هناك مادة أخرى يمكن أن تستقل بالحديث لقدمت حديثاً خاصاً بالفتيات أيضاً حول هذه الصورة، قلت: إننا بحاجة إلى أن نبرز الصورة المشرقة، بحاجة إلى أن نتوازن، لماذا يكون حديثنا دائماً حول النقد؟ لماذا حديثنا حول الأخطاء؟ أين نحن من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنشير إلى شيء من ذلك.

النظرة السلبية للنفس

النظرة السلبية للنفس عامل آخر: النظرة السلبية للنفس: حين ننظر إلى أنفسنا تسيطر علينا النظرة إلى العيوب والأخطاء وجوانب القصور. لست أدعو إلى أن نزكي أنفسنا، لست أدعو إلى أن نبالغ في الثناء على أنفسنا، لكن هناك فرق بين أمرين: بين امتناع الإنسان عن تزكية نفسه وبين مقت النفس الذي تحدث عنه السلف وبين الثقة بالنفس والتي نعني بها شعور الإنسان أنه يمكن أن ينتج شيئاً، يمكن أن يغير، يمكن أن يصنع الشيء الكثير. الثقة بالنفس تعني أن نشعر أننا نملك طاقات، نستطيع أن نصنع، نستطيع أن ندعو، نستطيع أن نغير في واقعنا، نملك الكثير، والإعجاب بالنفس هو رضا الإنسان عن نفسه، شعوره بأن له منزلة عند الله، شعوره هذا شيء وذاك شيء آخر، الخلط بينهما هو الذي يؤدي إلى أن نفهم هذه القضية فهماً خاطئاً فننظر نظرة سلبية إلى أنفسنا، إننا بحاجة -أيها الإخوة والأخوات- إلى نظرة متوازنة لأنفسنا، وإلى عيوبنا وأخطائنا، وأن ننظر إلى إمكاناتنا، وأن ننظر إلى ملكاتنا، أن ننظر إلى ما حبانا الله من قدرات ومهارات حتى نوظفها توظيفاً صحيحاً. قد أكون شخصاً لست سخياً بالمال والإنفاق، لكنني أجيد الحديث، فلماذا لا أنظر إلى هذا الجانب وأوظف هذه القدرة في الحديث مع الناس، قد لا أجيد الحديث والخطابة، لكني أجيد الكتابة، فلماذا لا أنظر إلى هذا الجانب في نفسي وأستثمره، قد أجيد العلاقات الاجتماعية. فما من إنسان إلا وعنده جوانب إيجابية هي جوانب نجاح، فلماذا نفرط في النظر إلى الجوانب السلبية في حياتنا؟ لماذا لا نبحث عن مجالات النجاح؟ الذي يريد أن يعمل وينتج لا ينظر إلى جوانب السلبية، بل يبحث عن جوانب النجاح، يبحث عن الجوانب التي يمكن أن ينجز من خلالها فيوظف هذه المجالات. واليوم اتسعت مجالات الدعوة وأصبحت تستوعب الجميع من الرجال والنساء، تستوعب الصغير والكبير، تستوعب المتميز والبليد، وما من إنسان إلا وعنده مجال يمكن أن ينجح فيه، وهذا المجال يمكن أن يوظف في مجال الخير والدعوة.

تعميم الصور المثالية

تعميم الصور المثالية عامل آخر: تعميم الصور المثالية: إذا تحدثنا -أيها الإخوة- عن قيام الليل أوردنا صوراً مثالية من سير السلف لم يصل إليها إلا آحاد منهم، إذا تحدثنا في الورع أوردنا أقوالاً ونماذج من هؤلاء، إذا تحدثنا في الاجتهاد في طلب العلم أوردنا نماذج من هؤلاء، إذا تحدثنا في الدعوة في الجهاد في أي ميدان أوردنا نماذج من هؤلاء، ولست أعترض أبداً على الاستشهاد بهذه المواقف ولا على هذه الأقوال، لكن المشكلة أن كثيراً من هذه الأقوال شاذة إنما لم تكن طبيعية، لم تكن صفة لكل الناس في ذلك المجتمع. فحينما نعمم هذه النماذج ونحاكم الناس إليها؛ حينما أحدثكم عن عبادة الحسن البصري رحمه الله، أو أحدثكم عن جهاد ابن المبارك، أو أحدثكم عن دأب الإمام أحمد في طلبه للعلم، وأقول: حاكموا أنفسكم إلى هذا النموذج، أعتقد أنها صورة خاطئة وغير صحيحة، نعم نحن بحاجة إلى أن نبرز القدوات والنماذج، لكن هذا شيء وأن نحاكم الناس إلى هذا النموذج شيء آخر، فمراتب الخير تتفاوت، الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه أعرابي فيقول: (ماذا فرض الله علي؟ قال: خمس صلوات، قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وصوم رمضان، هل علي غيره؟ لا، إلا أن تطوع. وحج البيت قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق). وفي موقف آخر يبايع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، فهذا نموذج وذاك نموذج، ينبغي أن نبرز الصور المشرقة من سير السلف ونماذجهم والقدوات، لكن أيضاً لا نحاكم الناس إليها، ولا نعمم هذه النماذج. ما الذي يحصل -أيها الإخوة والأخوات- حينما يأتي الشاب فيقرأ هذه النماذج ويقارن نفسه بها، فيقول: أين أنا من عبادة فلان مثلاً، أين أنا من اجتهاد فلان، أين أنا إذاً أنا لست شيئاً، النتيجة أنا غير مؤهل أن أغيره. حينئذ يتكرس هذا الإحباط عند الأفراد وعند هذا الجيل، فيخرج لنا جيل فاقد للثقة بنفسه، جيل يشعر أنه غير مؤهل للإنتاج. نحن لا نريد اليوم أن نخلق الغرور عند الجيل ونقول: إنكم ستدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لكننا أيضاً ينبغي أن نتوازن، وفرق بين أن نورد النماذج المتميزة ليقتدي بها الناس، وبين أن نحاكمهم إليها.

تضخيم الأخطاء

تضخيم الأخطاء صورة أخرى: تضخيم الأخطاء: نحن نضخم الأخطاء كثيراً ونبالغ في تصويرها، وهذا لا شك سيؤدي إلى هذا الشعور. وأعتقد أنني مضطر إلى أن أتجاوز هذه النقطة.

الالتزام تكاليف وهوية وانتماء

الالتزام تكاليف وهوية وانتماء نحن بحاجة إلى أن ننظر إلى الالتزام على أنه تكاليف، نعم، فيه تكاليف تحتاج إلى جهد وصبر، لكن أيضاً نحتاج إلى أن نبرز الصورة الأخرى الالتزام هوية انتماء اعتزاز، نحن نريد الجيل الذي يعتز بأنه متدين، الجيل الذي يمشي وهو يرفع رأسه بإسلامه لا فخراً ولا بغياً؛ لكن ذلك السلوك الذي أمرنا القرآن أن نتأسى به: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:139 - 140]. اليوم يتحدث الغرب عن توظيف السلاح النووي، يتآمر العالم بمؤسساته، بحكوماته، بدوله على حرب هذا الجيل وحرب هذه الظاهرة، ويبقى هذا الجيل منتصراً، صامداً، فماذا يملك هذا الجيل؟ شباب لا يملكون وسائل إعلام، لا يملكون أنظمة تتحدث باسمهم، لا يملكون منظمات ومؤتمرات، ومع ذلك يشعر العالم أن هذا يشكل الخطر الداهم. الشباب الأعزل اليوم في فلسطين يواجه الدبابات، يواجه المدفعية، يواجه دولة تملك ترسانة نووية هائلة، تملك جهاز مخابرات متفوق، ومع ذلك يواجهون بالحجارة هذا السلاح. الفتاة التي يسخر منها في التمثيليات، في برامج الفن، في وسائل الإعلام؛ تحارب لأنها متحجبة، تحارب لأنها ملتزمة، ومع ذلك تصر على التزامها وعلى حجابها، وانظروا مثلاً إلى الصور التي تنقلها وسائل الإعلام من الشارع الفلسطيني، كم ترى نسبة المحجبات في ذلك المجتمع الذي يحكمه إخوان القردة والخنازير، الشباب الذين ضربوا أروع الأمثلة في الشيشان وفي أفغانستان، همتهم متوقدة للجهاد، للذب عن الدين، للبذل للتضحية، الشباب الذي صمد أمام كل هذه المواجهات، ونوقن بإذن الله أنه مهما ووجه فإنه سيصمد بإذن الله. إننا بحاجة إلى الشاب الذي يعرف قيمته، يعرف منزلته، لا فخراً ولا بغياً، إنما يقول للناس: إننا الأعلون حين نكون مؤمنين، وحين يعيش الشباب هذا الشعور يثبت بإذن الله، في هذه الشدائد، ويستطيع أن يغير، ويقول: طال الزمن أم قصر فالأمر لله عز وجل، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. إذاً: -أيها الإخوة والأخوات- إننا بحاجة إلى هذا التوازن، وهو أن يشعر الشاب الملتزم والفتاة الملتزمة أن الالتزام كما أن فيه تكاليف وأعباء فهو هوية وانتماء، وأمر يعتزون ويفتخرون به، إننا بحاجة إلى أن نقول للشباب حين نراهم: مرحباً بهذه الوجوه المشرقة، الوجوه الواعدة، إنكم أمل الأمة، إننا نستبشر حين نراكم، إننا نؤمل بإذن الله فيكم خيراً، ونشعر أن هذه الأمة التي تملك هذه الطاقات أمة مقبلة على خير طال الزمن أو قصر، والتغيير لا يقاس بالسنوات، بل يقاس بأعمار الأمم والأجيال. فالتغيير قادم، رأيناه أو رآه الجيل الذي بعدنا أو الذي بعده، وهذه الصحوة بإذن الله عز وجل لن تنتهي إلا إلى تمكين ونصر ما دامت تملك هذه الطاقات. أعتقد أننا بحاجة إلى أن نسمع هذه اللغة بدلاً من تلك اللغة التي تقول: إنكم غير جادين، إنكم مقصرون في عبادتكم، مقصرون في طلب العلم، أنتم لا تستحقون نصراً، أنتم لا تستحقون أن تصفوا أنفسكم بأنكم ملتزمون، أعتقد بأننا بحاجة إلى توازن.

الاعتدال في النقد

الاعتدال في النقد حين نتحدث عن الأخطاء نحن بحاجة إلى أن ننقد مجتمعاتنا وبحاجة إلى أن ننقد جيل الصحوة؛ لأن النقد خطوة نحو التصحيح، لكنا بحاجة إلى اعتدال في النقد، فحينما نتحدث عن الأخطاء في صفوف الشباب والفتيات فإننا بحاجة إلى أن نعتدل في حديثنا عن هذه الأخطاء. أولاً: في الموقف الشرعي منها: قد نتحدث عن معصية من المعاصي هي صغيرة من الصغائر فنحولها إلى كبيرة، وهذا ليس هو المنهج الشرعي، إن المعاصي فيها صغائر وفيها كبائر، نعم، نحن لا ندعو الناس إلى أن يستخفوا بمعصية الله، ولا ندعو الناس أن يستهينوا بالمعصية، لكن لا يسوغ أن نجعل الصغيرة كبيرة، قد يقع الشاب في معصية من المعاصي وهي صغيرة من الصغائر فيتوب، فنبالغ نحن في حديثنا عن هذه المعصية، ونجعل وقوع الشاب في هذه المعصية دليلاً على نفاقه، وعدم جديته، فيضطر الشاب إلى أن يتخذ قراراً في النهاية أن يودع الالتزام والاستقامة؛ لأنه يشعر أنه فشل في هذه التجربة، لكن هذا بحاجة إلى أن نسمعه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، بحاجة أيضاً إلى أن نعتدل في إعطاء الظاهرة حجمها الطبيعي. اعتدنا أن نسمع كثيراً: هذه الظاهرة عمت وانتشرت، عمت وطمت، ويقع فيها الجميع إلا من رحم ربك، هذه الكلمات اعتدنا أن نسمعها كثيراً، وأعتقد أنه حديث مبالغ فيه، فمتى نتعلم الاعتدال؟ متى نستطيع أن نقول: إن هذه الظاهرة خطيرة لكن انتشارها اليوم في صفوف الصالحين محدود، انتشارها قليل، نعم لسنا بالضرورة ندعو إلى أن يقتصر حديثنا على الظواهر التي انتشرت بدرجة كبيرة، لكن حين نتحدث عن ظاهرة فلماذا نبالغ؟ لماذا نعطيها أكبر من حجمها؟ لماذا نعطيها أكبر من وزنها في ميزان الشرع؟ ولماذا أيضاً نضخم انتشارها وهي ليست كذلك؟ إذاً أيها الإخوة والأخوات، أيها المربون، أيها الغيورون، ليس من الغيرة أن نبالغ في تضخيم الأخطاء، فلنتحدث عن الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها الطبيعي، وكل شيء مهما كان مطلوباً وجميلاً إذا جاوز الاعتدال أدى إلى صورة سلبية، الماء لا يمكن أن نشربه إلا بارداً، لكن لو زادت درجة برودة هذا الماء وتجاوز في الاعتدال لأصبح ضاراً. التكييف نحتاج إليه ولا نستغني عنه، لكن لو زاد لأصبح ضاراً، مكبر الصوت الذي أتحدث من خلاله لا غنى لكم عنه، ولو زاد لأصبح مزعجاً مقلقاً. فأقول: الحديث عن الأخطاء مطلوب، والتصحيح مطلوب، لكن ينبغي أن نتحدث بقدر، ويجب أن نعلم أننا إذا بالغنا في ذلك سيكون هذا الحديث مزعجاً، وسيؤدي إلى نتائج عكسية وجزء منها ما أشرنا إليه.

إبراز الصورة الإيجابية

إبراز الصورة الإيجابية أيضاً نحن بحاجة إلى التوازن بين إبراز جانب التكليف وإبراز الصورة الإيجابية: حينما نتحدث عن الالتزام نحن أمام كفتين، نتحدث عن الالتزام باعتبار أنه تكليف وباعتبار أن الإنسان بحاجة إلى أن يأخذ الشرع بقوة، وهذا أمر لا شك فيه، لكن أيضاً نحتاج إلى أن نبرز عند الشباب وعند الفتيات أن الالتزام هوية، لماذا لا نجعل الشاب يعتز بالتزامه، يعتز بانتمائه للملتزمين، يفتخر بأنه ينتمي إلى هذا التيار، كما هو حال كثير من الشباب الذي يفتخر مثلاً بتشجيع فريق كروي يفتخر بانتمائه إلى شلة إلى عصابة في الحارة تلبي حاجة عند الشاب في هذه المرحلة، لماذا لا نجعل هذا الشعور عند الشاب الملتزم؟ ألسنا نرى اليوم بعض الشباب إذا قابل زملاءه أو أقرانه حاول أن يظهر بصورة أنه غير متدين، حاول يعدل في مظهره أحياناً، يحاول أن يترك بعض الأشياء التي يفعلها مع الصالحين حتى لا يوصم بأنه متدين؟ لماذا لا نجد الشاب الذي يرفع رأسه ويقول: نعم أنا متدين وأفتخر وأعتز بذلك، ويسعدني أن أرى مثل هذا النموذج. أذكر موقفاً قديماً لكني لم أنس تلك الصورة وإن كنت لم أفهمها كما أفهمها الآن، حين كنت في سن الشباب في المرحلة المتوسطة، كان أحد الشباب المتدينين يتحدث مع شاب آخر غير متدين، بغض النظر عن اللغة التي كان يتحدث بها والأسلوب، لكن كان يقول: أنت يرضيك الواقع الذي أنت عليه؟ يقول: أسألك ما هو هدفك في الحياة، ما هي رسالتك؟ هذا لا يعرف الهدف إلا في مصطلح الرياضة، فرفع رأسه قال: طيب وأنت لك هدف؟ قال: نعم أنا لي هدف، أنا أحمل رسالة، هل تعتقد أن مظهرك هذا مظهر لائق بإنسان فضلاً عن شخص ينتسب للعلم إلى آخره، وبدأ يلهب ظهره بهذا الحديث. وحين سأله الآخر عن هدفه ورسالته رفع رأسه معتزاً: أنا أحمل هدفاً، أنا صاحب رسالة وبغض النظر عن الموقف، لكن الشعور الذي يملكه ويحمله هذا الشاب نحن بحاجة إليه، أعتقد أن الشاب الذي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية إذا كان يعتز بالتزامه يعتز بتدينه سيكون أكثر ثباتاً، سيكون أكثر تأثيراً، فيمشي مرفوع الرأس، ويبلغ رسالته للناس. الصورة الأخرى رأيتها حين كنت معلماً قد بدأت أفهم الموقف بشكل أفضل من ذي قبل، كان هناك شاب متدين، ومجموعة من الشباب في ممر المدرسة، فمر هذا الشاب فلمزوه ببعض الأوصاف التي يوصف بها المتدينون، فوقف وعاد وسأل الشاب: ماذا تقول؟ صدم بهذا الموقف، هو اعتاد أنه إذا وصف هؤلاء يطأطئون رءوسهم وينصرفون، تلعثم وقال: يعني: أقول إنك مطوع باللهجة التي يرددها، قال: نعم أنا أفتخر بهذا وأعتز، وأنت فاسق؟ قال: لا، ما أنا فاسق، ما عليش يا أخي، المعذرة! قال: لا، أنا إنسان متدين وأعتز وأفتخر أن أوصف بهذه الصفة، يعني: أنت أولى أن تستحي! فكأنه قال له بلسان الحال: انصرف كما كنت جهولاً. المقصود: أن هذا الشعور الذي يملكه هذا الشاب نحن بحاجة إليه بغض النظر عن وسيلة التعبير عنه، بغض النظر عن الموقف، أتمنى أن نربي أبناءنا على هذا الاعتزاز، حينئذ سنكون أمام جيل واثق من نفسه، جيل يمكن أن يغير بإذن الله تبارك وتعالى.

تأصيل معنى الالتزام

تأصيل معنى الالتزام أيضاً: من الأمور المهمة تأصيل معنى الالتزام وبيان أنه هو الأصل: الصورة المترسخة عند الناس أن الالتزام طارئ، لا أنه هو الأصل، فإن الله تبارك وتعالى خلق هذا الكون كله خاضعاً له: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، فالكون كله يخضع ويسبح ويسجد لله تبارك وتعالى. فالشاب الملتزم المتدين يعيش في تناسق مع الكون كله، مع كل هذه المظاهر التي تراها خاضعة وم سلمة لله عز وجل، فمن هو الشاذ ولو كثر عدده؟ ماذا يساوي البشر اليوم على ظهر الأرض، والمعمورة كم فيها من البحار والأشجار لكن ماذا تساوي في ظل هذا العالم الفسيح الضخم، كل هذا العالم خاضع ساجد قانت لله تبارك وتعالى إلا أولئك الغافلين المعرضين! إذاًَ: فالتدين هو الأصل، الشاب حين يكون ملتزماً متديناً فهو يعيش في تناسق مع هذا الكون، يعيش حياة طبيعية، أما الآخر فهو الذي يسبح ضد التيار، فإن الله خلق الخلق ليعبدوه، فنحن حين نلتزم ونستقيم نحقق الغاية التي خلقنا من أجلها، ونسير عليها، أما أولئك فهم يتنكبون الطريق، شأنهم شأن إناء صنع لمهمة، ولو وضعته على النار لانكسر؛ لأنه لم يخلق لذلك ولم يصنع لذلك، كذلك هذا الإنسان الذي ينحرف عن طاعة الله عز وجل. إذاً: فالالتزام هو الأصل وليس أمراً طارئاً، هذا المعنى نحتاج أن نؤصله وأن نبسطه، وتأصيل هذه المعاني ليس بمجرد كلام نقوله، وإنما تبسط هذه المعاني من خلال وسائل عديدة يعيشها الشباب في مشاعرهم، فحينئذ سيعيشون صورة الاعتزاز والتسامي والارتقاء. الاعتناء بإبراز النماذج والصور الإيجابية، نبرز النماذج الصالحة أمام الشباب من السلف والخلف، فيتطلعون إليها ولا تكون القضية مجرد تركيز على نقد وأخطاء، وحينما نتناول النماذج والقدوات ينبغي أن نتناولها بطريقة لا تؤدي إلى الإحباط، إنما تؤدي إلى التطلع والاقتداء والرغبة في الارتقاء.

الاعتناء بالصور الإيجابية

الاعتناء بالصور الإيجابية الاعتناء بإبراز الصور الإيجابية، هناك صور إيجابية مشرقة، عند هذا الجيل المبارك نراها اليوم، نحن بحاجة إلى أن نبرزها، دعوني أشير إلى طائفة منها مرة أخرى، فهم جيل الغرباء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء)، فهم الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذه صورة إيجابية، صورة مشرقة. صورة أخرى: الثبات اليوم رغم الفتن التي تواجه الشباب، الواقع كله والتيار يدعو الشباب والفتيات إلى طريق آخر، ومع ذلك يثبتون ويثنون ركبهم عند أولئك الذين يضربون ويجلدون ظهورهم بسياط اللوم والحديث عن الأخطاء ويستأنسون بهذا الحديث؛ لأنهم يرون أنه وسيلة للإصلاح، وهؤلاء الشباب الذين يتسابقون إلى حلقات القرآن، إلى المحاضرات، يرمون زملاءهم في الشوارع والملاعب، ويأتون إلينا في المحاضرات ثم نلومهم ونقول لهم: أنتم غير جادين، أنتم غير ملتزمين. إذاً: ما الذي جاء بهؤلاء؟! ‍إنهم يستطيعون أن يمتعوا أنفسهم بالشهوات المحرمة، يستطيعون أن يلهوا، أن يلعبوا، أن يعبثوا، ولكن ثبتهم الله عز وجل. إن الثبات اليوم والالتزام في ظل هذا الواقع بحد ذاته إنجاز ونجاح وليس بجهد البشر، ليس بذكاء هؤلاء، لكن هذا الطريق من سار عليه ثبته الله وأعانه، ولولا تأييد الله وتوفيق الله عز وجل ودافع الفطرة لما استقام هؤلاء ولجرفهم هذا التيار الجارف. هؤلاء الشباب تحقق فيهم معنى يسير أهونهم حالاً من يحب الصالحين ويجالس الصالحين، والذين يحبون الصالحين ويجالسون الصالحين لهم شأن عظيم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيقول: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، ثم يقول الله عز وجل: ماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: مم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني أعطيتهم ما سألوا وأجره مما استجاروا، قالوا: يا رب فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). والثلاثة الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أعرض والآخر أقبل، والثالث استحيا، فالأول أعرض الله عنه، والثالث استحيا الله منه. هؤلاء الشباب أسوأهم حالاً من يحب الصالحين ولسان حاله كما يقول الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سوياً في البضاعة وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: (سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم. قال: أنت مع من أحببت)، وقال: (يحشر المرء يوم القيامة مع من أحب). إذاً: هذه نماذج من هذا الجيل المبارك نحتاج أن نبرزها، النجاح في أمور الحياة المادية، الهمة العالية، العمل الدعوي، المنجزات التي نراها كل هذا نتاج هذا التدين، وظاهرة التدين التي ظهرت أمامنا هي نتاج هذا الجهد، نتاج هؤلاء الشباب والفتيات، هؤلاء الصالحين مهما كان فيهم من عيوب وتقصير فهذا نتاجهم وهذا جهدهم، سواء أكان بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة.

غياب الاعتدال

غياب الاعتدال التوازن والاعتدال والوسطية سمة الشريعة الإسلامية، ومطلب ينشد في حياة المكلفين بها في عدة مجالات وميادين يصحبها في الغالب الغلو يمنة أو يسرة، كمجال العبادة والسلوك الشخصي وتقويم الأشخاص والهيئات، ومجال الظواهر الاجتماعية، والأحداث السياسية، والحياد عن هذا المطلب مصير إلى الغلو الذي ينشأ عن جملة من الأسباب والعوامل المؤدية إليه.

الاعتدال سنة الله في خلقه

الاعتدال سنة الله في خلقه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى في هذه الليلة المباركة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ويجعلنا وإياكم ممن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً؛ إنه سميع مجيب. أيها الإخوة الكرام! الاعتدال هو سنة الله تعالى في خلقه، إن هذا الخلق كله قائم على هذه السنة، على سنة الاعتدال، ولو تأملت هذه الظاهرة في مظاهر هذا الخلق وسعيت إلى أن تحصي أفرادها وأمثلتها لضاق بك المقام. إن هذه الشمس التي تضيء للناس لو اقتربت من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقت الناس، وأحرقت هذه الأرض، ولو ابتعدت لتحولت الأرض إلى جليد، والقمر الذي يضيء في الليالي المقمرة ويتغزل الشعراء به ويهتفون، ويشبهون به من يصفونه بالجمال، لو زاد ضوؤه وصار كضوء الشمس لتحول الليل إلى نهار، ولغابت هذه الحكمة، فالله تبارك وتعالى جعل الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، وهكذا لو تأملت في كل مظاهر خلق الله عز وجل لرأيت أن ذلك كله قائم على الاعتدال، حتى ما يحبه الناس ويسعون إليه ويفرحون به له قدر إذا جاوزه صار منفراً، إن الناس يحبون الجمال ويسعون إليه وربما أنفقوا عليه مبالغ باهضة، لكن هذا الجمال له قدر إذا جاوزه صار مذموماً، فاللوحة الجميلة التي يعتني بها الرسام لو زاد فيها في نسبة الألوان أو في بعض العناصر التي يعتبر الناس أنها منطلق الجمال لتحولت إلى منظر قبيح. وبياض البشرة يعده الناس جمالاً لمن أوتوا هذه الصفة، لكنه إذا زاد تحول إلى برص ولون منفر، ولا يصلح الناس طعامهم إلا بالملح أو بالسكر فيما اعتادوا أن يتناولوه حلواً، وبدونه لا يصلح الطعام، لكن هذا أيضاً حين يزيد عن قدره يصبح ممجوجاً. والناس في شدة الحر يلجئون إلى التبريد ويسعون إليه، وإذا زاد عن قدره أصبح مؤذياً، ويشربون الماء البارد، وإذا زاد عن قدره صار مؤذياً، وفي شدة البرد يلجئون إلى أجهزة التدفئة يغتسلون ويستحمون بالماء الدافئ، وحين يزيد عن قدره يصبح مؤذياً. وهكذا -أيها الإخوة- لو بقينا نتحدث عن مظاهر الاعتدال في هذا الخلق لضاق بنا المقام، فكل ما يحبه الناس ويسعون إليه ويريدونه، بل ربما يدفعون فيه المبالغ الباهضة ينبغي أن يبقى بقدر، فإذا جاوز هذا القدر تحول إلى أمر ينفر الناس منه، بل يسعون إلى الاستشفاء منه.

الوسطية والاعتدال سمة التشريع الإسلامي

الوسطية والاعتدال سمة التشريع الإسلامي وجاء شرع الله تبارك وتعالى على وفق سنة هذه الحياة؛ لأن هذا الشرع جاء ليصلح حياة الناس، والناس لا تصلح حياتهم إلا بالاعتدال، ولهذا كان من سمات هذا الشرع الوسطية والاعتدال، ولو تأملت ذلك في كافة أحكام الشريعة لرأيت هذه السمة ظاهرة واضحة بارزة، وامتن الله عز وجل على هذه الأمة بأنها أمة الوسط، وجمعت معاني الوسطية: الخيرية والاعتدال، فقد حماها الله عز وجل من الغلو الذي وقع فيه من سلف من الأمم السابقة، وحماها تبارك وتعالى من الغلو في الطرف الآخر، إن هذه الأمة تعظم نبيها صلى الله عليه وسلم وتجله وتحبه وتطيعه، بل لا يتم إيمان عبد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تغلوا فتفعل كما يفعل النصارى الذين ألهوا نبيهم وجعلوه رباً من دون الله، ولا تجفو كما يجفو إخوان القردة والخنازير الذين كانوا يؤذون الأنبياء، بل يقتلونهم بغير حق، وهكذا شأن هذه الأمة في الشرع والأخلاق والدين. فالاعتدال -أيها الإخوة- هو سنة الله في الحياة، وهو سمة هذا الشرع، وهو صفة هذه الأمة، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن نتصف بهذه الصفة، كنا بحاجة إلى أن نتجنب طرفي الأمور، فكلا الطرفين مجانبة للاعتدال.

مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة بعض الناس

مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة بعض الناس

الاعتقاد والتوحيد

الاعتقاد والتوحيد إن هناك مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة الناس، وحين يغيب قد يؤدي إلى غلو مذموم ممقوت يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعاً، وقد يؤدي إلى جفاء وإفراط. فالاعتقاد والتوحيد مبناه على الاعتدال، ولهذا أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77]، {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]. وأضرب لكم مثلاً في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أمور الإيمان، بل مما لا يتم الإيمان إلا به، فمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من الإيمان، لكن هذا التعظيم له قدره، فإذا جاوزه قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك بالله تبارك وتعالى، كما نرى ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر). كذلك في إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى، فمن الناس من غالى في إثبات الصفات والأسماء التي وصف الله عز وجل بها نفسه وسمى بها نفسه، فغالى في ذلك، فأدى به ذلك إلى التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يقع فيه هؤلاء الغلاة، ومنهم من غالى في الطرف الآخر ففر من أن يشبه الله عز وجل بخلقه فغالى في نفيها وإنكارها.

العبادة

العبادة وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة. إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم. ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص. إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟ إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.

السلوك الشخصي

السلوك الشخصي وهذان المجالان من أكثر ما يقع فيه الغلو في الدين، وليس حديثي عن هذا، ليس حديثي عن الغلو في العبادة وما يتعلق بها، فإن غالب حالنا اليوم هو التفريط والله المستعان، وإن وجدت حالات من الغلو والشطط -سواء في الاعتقاد أو في العمل والسلوك- فإنها حالات قليلة، لكن الظاهرة التي أعتقد أننا نشتكي منها كثيراً، هي أن الاعتدال يغيب كثيراً في تفكيرنا، يغيب كثيراً في حديثنا، في آرائنا، في مواقفنا، في وزننا للأمور، وهذا ما أريد أن أركز الحديث حوله. ولهذا أنتقل إلى المجال الثالث من مجالات الاعتدال: السلوك الشخصي. ثمة صفات محمودة يحبها الناس، لكنها بقدر، فالشجاعة إنما تطلب بقدر، وقد تنقلب تهوراً، ويعتقد الإنسان أنه كلما ازداد فيها أصبح الأمر محموداً، والحلم مطلوب، لكنه قد ينقلب عند بعض الناس إلى ضعف وخور، فلا يغضب لما ينبغي أن يغضب المسلم من أجله، وهكذا سائر الصفات. والغيرة على حرمات الله عز وجل قد تتحول عند البعض إلى جفاء في التعامل مع أهل المعصية، جفاء في التعامل مع الناس. وحسن الخلق واللطافة قد تتحول أحياناً بالإنسان إلى أن يترك الحزم في المواطن التي ينبغي أن يحزم فيها. السلوك الشخصي سلوك الإنسان في حياته، في تعامله مع وقته، في تعامله مع نفسه، في تعامله مع الآخرين، ينبغي أن يقوم على الاعتدال، والصفة المطلوبة أياً كانت، إنما تطلب بقدر كالملح في الطعام، كالبرودة في الماء الذي لا يستسيغه الناس إلا بارداً، إنما تطلب بقدر، فإذا جاوزت هذا القدر أصبحت قد جاوزت الاعتدال، سواء أكانت في هذا الطرف أو في الطرف الآخر.

تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات

تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات المجال الرابع: التقويم، في تقويم الأشخاص كثيراً ما نفتقد الاعتدال، فنحن في الغالب ندور بين مديح مبالغ فيه وثناء مفرط فيه، أو ذم مبالغ فيه، وقلما نعتدل في تقويمنا للأشخاص، فحين يعجبنا شخص نسعى إلى أن نبرر أخطاءه، ونسعى إلى أن نبرر مواقفه، قد يعجبنا إنسان في علمه وتقواه وورعه، قد تجد إنساناً عالماً تقياً ورعاً صالحاً، لكن هذا الإنسان لا يجيد التعامل مع الآخرين ويجفو مع الآخرين؛ بطبيعته وببشريته، فالناس بشر ولا يمكن أن تجد في كل إنسان كل ما تريده، والذي يعتدل في تقويمه لا يحول هذه السمة والسلوك الشخصي إلى حسنة، فيرى أن هذا الجفاء وهذه الغلظة أمر مطلوب حتى يأخذ الناس بالحزم والعزم والجد إلى آخره. وقد يوجد نموذج آخر، قد يوجد إنسان فيه نوع من الضعف البشري، وإن كان أعطاه الله عز وجل علماً ورأياً وحكمة، فيستسلم للناس ويغير الناس مواقفه وتتغير آراءه ويستجيب لكل من طلب منه موقفاً أو رأياً فيعده الناس وحسن الخلق، نعم هو حسن الخلق، لكنه قد جاوز الاعتدال. المقصود -أيها الإخوة- أن البشر مهما كانوا ستبقى فيهم سمات البشر، سيبقى في كل إنسان جانب من جوانب القصور، وإذا أخذنا الناس بهذا الأمر وافترضنا البشرية في الناس؛ فإننا لن ننتظر منهم الكمال ولن نحاسبهم على الكمال، وفي المقابل سنضع أخطاءهم في إطارها الطبيعي، وسنضع شخصياتهم في إطارها الطبيعي. إننا اليوم على مستوى الشخصيات الدعوية أصحبنا نعرف مصطلحاً واحداً هو مصطلح ما نسميه (الشيخ)، فمن يستطيع أن يتحدث أمام الناس، يستطيع أن يكتب للناس، هذا الإنسان نطلق عليه لقب (الشيخ)، وحين يستحق هذا اللقب وهذا الوصف؛ يصبح مؤهلاً لكل شيء، أن يتحدث في كل موضوع، أن يفتي، أن يستشار، أن يتحدث في كل قضية، أن يستشار في كل أمر يعرفه ولا يعرفه، يحسنه أو لا يحسنه، فهذا الأمر ليس صحيحاً، فقد ينبغ إنسان في جانب من الجوانب، قد ينبغ إنسان في ميدان الفقه والفتوى، قد ينبغ إنسان في ميدان الوعظ والتأثير على الناس، قد ينبغ إنسان في ميدان الإصلاح، قد ينبغ إنسان في ميدان الرأي والحكمة، فينبغي أن نضعه في إطاره، ولن يعيبه أن يفقد أمراً آخر مما يملكه الآخرون، وقل مثل ذلك في النقد، فإنك ستجد عند الناس عيوباً، لابد أن تجد عند الناس عيوباً، إما تلك العيوب التي هي من طبيعة البشر، فمن الناس من يكون متعجلاً، ومن الناس من يكون شديد الغضب، فالناس لهم صفات ولهم سمات، وهذه الصفات تترك أثراً على شخصياتهم، وإما تلك العيوب التي هي نتيجة خطأ أنسيه، نتيجة اجتهاد، نتيجة أمر لا يسلم منه البشر، فحين نجد خطأً أو أخطاء عند فلان من الناس فإن هذا لا يعني أن يصبح مثل الشيطان الرجيم لا نذكره إلا بالسوء ولا نتحدث عنه إلا بالسوء. المقصود -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى الاعتدال في تقويمنا للأشخاص. أيضاً: في تقويمنا للمشروعات والأعمال كثيراً ما يغيب الاعتدال عنا، فنحن إما أن نقف مع هذا المشروع وهذا العمل مائة في المائة وندافع عن كل جزئية فيه، وإما أن نقف ضده تماماً ونعتبره سوءاً وشراً وأمراً مخالفاً، سمعنا من يتحدث عن تفطير الصائمين في هذا الشهر الذي هو ظاهرة نراها من خير الظواهر في مثل هذا المجتمع، يتحدث عن هذا بأنه إضاعة للمال وأن هذا الأمر لا يجوز إلى غير ذلك، إنه صورة من صور المبالغة، نعم قد يكون للإنسان وجهة نظر في بعض أساليب هذه الأعمال، قد يكون له تحفظ على بعض ما يصاحبها، والناس سيختلفون في الرأي في مثل هذه الأعمال، لكن بهذه الصورة المتطرفة التي تجعلها إضاعة للمال مع أنها تفطير للصائم، والكبد الرطبة فيها أجر؟! والإسلام قد شرع أن يعطى الكفار من الزكاة تأليفاً لهم على الإسلام، فكيف بغيرهم من الناس؟! إنها صور من مجانبة الاعتدال. وكذلك تقويم الهيئات والجماعات والجهات الدعوية: فاليوم انتشر في الساحة الإسلامية هيئات إسلامية، جمعيات، جماعات، أحزاب، منظمات، ومعظمها يريد الخير، يريد الدعوة، معظمها يغلب عليه الخير، لكنها تتأثر بواقع مجتمعاتها، تتأثر بواقع أولئك الذين يقودونها، فيكون فيها من الضعف والقصور ما يكون فيها، تقويمنا لواقع هذه الهيئات والجماعات لا يكاد يخلو من الغلو، لا يكاد يخلو من المبالغة مدحاً أو قدحاً، وقلما تجد التقويم المعتدل الوسط، فإما أن تجد من يتصيد الأخطاء فيبحث عنها ويصور لك هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل على أنهم جيش من المفسدين الضالين التائهين، وإما أن تجد في الطرف الآخر من يبرر الخطأ ويفسره تفسيراً آخر، فلا هذا ولا ذاك. إن الاعتدال -أيها الإخوة- كثيراً ما يغيب في تقويمنا، تقويمنا للناس، تقويمنا للأعمال، للمشروعات، للهيئات، للجمعيات وغيرها، والتقويم يحتاج إلى أن يكون معتدلاً فينظر إلى الأمور من كافة جوانبها.

الأفكار والمشروعات

الأفكار والمشروعات المجال الخامس: الأفكار والمشروعات: نقدم أفكاراً ونطرح مشروعات قد نتبناها وقد نعمل بها وقد نقدمها للناس، وقد تكون أفكاراً فيها فرص للنجاح، فيها فرص لأن يتحقق منها فائدة، لكننا كثيراً ما نبالغ ونجاوز الاعتدال في حديثنا عن أفكارناً، في حديثنا عن مشروعاتنا، فحين يقدم الإنسان فكرة يعتقد أنها ستؤدي إلى حل مشكلة أو علاج ظاهرة، فإنه يبالغ في وصفها، يبالغ في فرص النجاح التي يتوقعها منها، بل ربما أدى به ذلك إلى أن يسفه أولئك الذين لا يشاركونه الغلو نفسه في الحماس لهذه الفكرة. أقول: قد يقدم أفكاراً جميلة ومشروعات، وليس من العيب أن نتحمس لمشروعاتنا، وأن نتحمس لأفكارنا، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، انظر إلى أولئك الذين يتحدثون عن أفكارهم، عن مشروعاتهم، عما يقترحون، تجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء، يبالغون في تصورهم للأثر الذي ستتركه هذه الأفكار والمشروعات، يندفعون بحماس لها، وأيضاً يزيدون على ذلك أن يتضايقوا من أولئك الذين لا يشاركونهم الغلو نفسه في الحماس لأفكارهم، إنك تجد من الناس من يريد الجميع في هذا القالب، يريد الجميع أن يتحمسوا لهذه الفكرة كما يتحمس لها وكما يعمل لها، لا نعيب على إنسان أن يتفرغ لمشروع، أن يهتم بأمر وأن يفرغ وقته وجهده له، لكن هذا شيء والغلو والمبالغة في وصفه والثناء عليه وافتراض النجاح فيه شيء آخر.

الآراء الشخصية

الآراء الشخصية الجانب السادس: الآراء الشخصية: قد تكون لنا آراء شخصية، وستكون لنا آراء في أمور كثيرة، خاصة أن هناك مساحة واسعة جداً تتسع للآراء من المشروعات الدعوية، والوسائل الإصلاحية، والأفكار التي يمكن أن يكون لها دور في إصلاح المجتمع وغير ذلك، جانب كبير منها هو رأي شخصي، حينما أقدم رأياً حول أسلوب دعوة النساء في الأسواق؛ إذ النساء اليوم ينتشر بينهن التبرج في الأسواق، حينما أقدم فكرة حول دعوة الطالبات في الجامعات والمدارس مثلاً، تبقى رأياً شخصياً يحتمل النجاح والفشل، يحتمل الخطأ والصواب، وكثير من الخلافات والمخترعات التي تدور هي في هذه الدائرة، فحديثنا عن هذه الآراء الشخصية يتجاوز القدر الطبيعي، فنبالغ في حديثنا عن الآراء الشخصية مدحاً وذماً وقدحاً وحماساً إلى غير ذلك.

الاختيارات الفقهية

الاختيارات الفقهية الجانب السابع: الاختيارات الفقهية: هناك مسائل جاءت فيها نصوص واضحة، ولهذا فإنك ترى الأمة لم تختلف فيه، أو ترى جمهور الأمة قد اتفقوا عليها، لكن هناك مسائل هي محل خلاف بين أهل الفقه، ولا يزال أهل العلم يختلفون فيها، وسيبقون مختلفين إلى أن تقوم الساعة، فإذا كان هذا الاختلاف وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن بعده؟! قد يترجح عند الإنسان رأي في مسألة فقهية فيغلو في ترجيح هذا الرأي له، ويأخذ الأدلة الكثيرة جداً على تحريم هذا الأمر أو على وجوبه أو على استحبابه أياً كان، ويخيل للناس أن هذا البحث الذي قام به أو هذا التقرير الذي قرره سيضع النقاط على الحروف وسيغلق الباب في مثل هذه المسألة إلى غير ذلك، ويتحدث في المسألة على أن هذا الحديث حق لا يقبل النقاش، وعلى أن أولئك الذين يرفضونه يرفضون الحق، يرفضون الدليل، نعم كثيراً ما يترجح رأي لطالب في مسألة اجتهادية، ويرى أنه قد لا يسوغه أن يقول بغيرها، لكن هذا شيء والقطع والمبالغة في الرأي فيها شيء آخر. دعوني أضرب على ذلك مثلاً: تعلمون أن حلي المرأة اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة فيه، فالجمهور على أنه لا تجب فيه الزكاة، ومعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنهم الفتوى بعدم وجوبه، وهناك رأي آخر -وله أدلته- أن الزكاة واجبة في الحلي، لا نريد أن نقرر هذه المسألة الفقهية، لكن هذا خطيب يخطب أمام الناس ويتحدث عن أولئك الذين لا يؤدون زكاة الحلي، ويقول: إن هؤلاء من حطب جهنم إلى غير ذلك، وهناك فرق بين من يمتنع عن الزكاة، ولا يؤدي الزكاة، وبين من يرى أنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة في هذا المال، وقد وسع هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يسع غيرهم؟! نعم كثيراً ما يشعر طالب العلم أنه لا يسعه إلا هذا، قد يشعر أنه لا يسعه إلا أن يخرج الزكاة في هذا، لا يسعه إلا أن يعمل بهذا القول وذاك، لكن هذا شيء وأن يلزم الناس به شيء آخر، وأن يرتب عليه الأحكام شيء آخر. وهاهنا نقطة مهمة ينبغي أن نشير إليها: ففي المسائل الاجتهادية كثيراً ما تجد رأياً يميل إلى الحزم والتشديد ورأياً يميل إلى التيسير، لا يعني ذلك أن الذي يختار رأياً فيه تشديد -كالذي يختار إيجاب الزكاة في هذا المال أو ذاك، وكالذي يختار بطلان الصلاة والوضوء بهذا العمل- لا يعني أنه غال، إذا تحقق فيه شرطان: إذا كان هذا الرأي عن اجتهاد وهو من أهل الاجتهاد أو قلد من هو أهل أن يقلد في ذلك، ولم يشدد على الناس في هذا الأمر، ولم يتجاوز هذا القدر، فإن اختياره لهذا الرأي الأحوط والأشد لا يعني الغلو، ولا ينبغي للطرف الآخر أن يتهم هذا الإنسان بالغلو؛ لأنه اختار هذا الرأي الأحوط والأشد، بل إن الناس يختلفون ويتفاوتون كما سيأتي في الحديث، فقد تجد من الناس من يغلب عليه أنه يأخذ بالعزيمة في آرائه وفتاواه حتى في حلفه للناس، وبعض الناس يغلب عليه الأخذ بالتيسير، وهذا الأمر منذ سلف الأمة وإلى قيام الساعة. المقصود: أن من يختار هذا الاجتهاد لا يعني ذلك أنه قد غلا، إنما الغلو هو أن يجاوز القدر، حين يقرر هذه المسألة يجعل من خالفها مبتدعاً، ويجعل من خالفها فاعلاً للمعصية، ويجعل من خالفها فيه كذا وكذا، إلى غير ذلك.

الظواهر الاجتماعية

الظواهر الاجتماعية الجانب الثامن: الظواهر الاجتماعية: حديثنا عن الظواهر الاجتماعية تكثر فيه المبالغة، في حديثنا عن حجم الظاهرة، حين نتحدث عن أي ظاهرة في المجتمع أياً كانت هذه الظاهرة، وكان المتحدث عنده حماس لهذا الموضوع أقلقه أزعجه، فإنه لا يفرق بين خطورة الشيء وبين حجمه في المجتمع، وبينهما فرق كبير. فنحن نعلم -مثلاً- أن المخدرات خطيرة، وانتشارها خطير، لكن هذا شيء، وحجم انتشارها في المجتمع شيء آخر، الفساد الخلقي خطير والفواحش، ويكفي أن الله عز وجل عاقب أقواماً وأمماً أعلنوا بهذه الفواحش وأظهروها، لكن هذا شيء وانتشارها في المجتمع شيء آخر، فقد يغلب علينا النظر إلى خطورة الظاهرة فنعممها في المجتمع، ونبالغ في الحديث عن حجمها ونكسيها أكبر من حجمها، وفرق بين أن تكون الظاهرة خطيرة وبين أن تكون الظاهرة منتشرة، نعم هناك من الظواهر ما لو لم توجد إلا بنسبة قليلة ينبغي أن نتحدث عنها ونحذر منها، لكن فرق بين أن نحذر منها ونتحدث عنها وبين أن نقول: إنها انتشرت وعمت وطمت، ولهذا تسمع هذه الكلمة كثيراً، فكثير من الذين يتحدثون عن المشكلات يقولون: عمت وطمت، إلا من رحم ربك، ودائماً تسمع هذه الكلمة في الحديث عن أي ظاهرة، فعلى أي أساس نقول هذا الكلام؟! وكذلك الحديث عن تفسير الظاهرة، تفسير الظاهرة قد يكون فيه نوع من الغلو، فنفسرها من خلال سبب واحد، نفسر هذه الظاهرة بهذا السبب، كالطلاق، فقد زادت نسبة الطلاق، وأعتقد أنكم توافقونني على أنه نسبة زائدة، نسبة أعلى من قبل، قد لا نملك أرقاماً دقيقة، لكن الظاهرة منتشرة وموجودة ومزعجة، بعض الناس يقول: إن السبب في هذه الظاهرة هو النظر الحرام، فإن الرجل إذا نظر إلى النساء زهد في زوجته وتطلع إلى الحرام، ثم نشأت المشاكل إلى غير ذلك، نعم النظر الحرام لا شك أنه قد يؤدي إلى مثل هذا الأمر، لكن هل يعني هذا أن هذه الظاهرة كلها تعود إلى هذا السبب؟ هل يعني أن معظم حالات الطلاق تعود إلى هذا السبب؟ فرق بين أن يكون الأمر محرماً ومخالفة، وبين أن نفسر الظاهرة من خلاله، فعندنا رغبة جامحة في محاولة تفسير كل ظاهرة من خلال عامل واحد، من خلال سبب واحد. كذلك اقتراح العلاج والحل، فالعلاج يتمثل في حل واحد دائماً عندنا، حينما نتحدث عن الطلاق، نقول: إن المشكلة تأتي من فساد دين الناس، إذا صلح الزوجان واتقيا الله عز وجل انحلت المشكلات، أعتقد أن هذا الكلام فيه اختزال، ألسنا نجد عدداً من الصالحين يطلقون ويحصل عندهم الطلاق؟! نعم، الله عز وجل أمر عباده بالتقوى وأكد على التقوى عند الحديث عن آيات الطلاق، ولها صلة بذلك، لكن الصلاح والتقوى كثير من الناس يفهمه فهماً خاطئاً، فمن الصالحين من يسيء العشرة، وأحياناً يكون هناك نوع من عدم التوافق بين الزوجين، وهناك عوامل كثيرة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار. المقصود -أيها الإخوة- أن حديثنا عن الظواهر الاجتماعية كثيراً ما يغيب فيه الاعتدال، إما في حجم ظاهرة أو في تفسيرها، أو في علاجها.

الظواهر والأحداث السياسية

الظواهر والأحداث السياسية المجال التاسع: الظواهر والأحداث السياسية: الأحداث السياسية نجنح إلى المبالغة في تفسيرها، وخذ على سبيل المثال الحديث عن المؤامرات، أي حدث يحصل نجنح إلى تفسيره بأنه مؤامرة، فنرى أن الحدث كله تمثيلية من أوله إلى آخره، نعم هناك مؤامرات، هناك أشياء لا تكتشف إلا بعد وقت، لكن لا يعني أن كل حدث يحصل هو -بالضرورة- مؤامرة، وهذا التبسيط المذهل للأحداث، التبسيط المذهل للقضايا لا يعني فطنة ووعياً، الوعي أن نعي الأسباب الحقيقة للظواهر، والأحداث والظواهر السياسية في الغالب ظواهر معقدة، تنشأ من خلال عوامل عديدة لا يمكن أن نفسرها من خلال موقف واحد وعامل واحد. قد أقول لكم مثالاً وإن كان متطرفاً، لكن يبين لنا الصورة في ذلك: إمام أحد المساجد انزعج من رنين الجوال أثناء صلاة التراويح، وهذا يحصل كثيراً؛ أن الإنسان ينسى أن يطفئ جواله، فقال: إن هذه الجوالات أتى بها الأعداء ليشغلونا، وبدأ يتحدث عن مكر الأعداء وكيدهم في هذا الجهات. قد تكون هذه الصورة شاذة، لكنها تمثل نمطاً من التفكير موجوداً، إنما الخلاف في قدر الشذوذ وفي مستوى التطرف، وإلا فالتطرف موجود، وقد كان يمكنه أن يقول: إن الجوال له فائدة يحسن بالإنسان أن يطفئه، قد ينسى الإنسان إطفاءه إذا أتى إلى المسجد، فليطفئه، والأمر لا يحتاج إلى مثل هذا الضجيج والإزعاج، والذي يحدثني يقول: كنت نسيت جهازي فلم أطفئه، فخشيت أن أطفئه أمام الناس، فوجدت حرجاً، خشيت أن يسيء الناس الظن بي، والناس بشر. فشخص يتحدث يقول: كنا نتحدث عن المشروبات الغازية، فقال أحدنا: إن هذه المشروبات الغازية يحرص أعداؤنا على تصديرها لنا؛ لأنها ضارة صحياً؛ لأنها غير نافعة، قلت: يا أخي! المشروبات الغازية تتناول في أمريكا وأوربا أكثر بكثير مما عندنا، قال: الكميات التي عندهم، تصنع بطريقة خاصة، والتي عندنا النسب فيها زائدة. المقصود: أن عندنا جنوحاً لأن نفسر كل شيء بأنه مؤامرة، والأحداث السياسية الضخمة نحاول أن نختزلها، هناك من يقول: إن سقوط الاتحاد السوفيتي سببه الجهاد الأفغاني، أعتقد أن هذا اختزال للقضية، هناك عوامل كثيرة، نعم قد يكون الجهاد الأفغاني له دور، لكن ليس هو وحده، ومن يقرأ ويعرف طبيعة النظام الشيوعي وآلياته، ويعرف العوامل التي أدت إليه يعتبر أنه لا يمكن أن نختزل مثل هذا الحدث بأن نفسره بأن السبب هو الجهاد، وإذا قلنا: إن الجهاد الأفغاني ليس هو السبب في سقوط الاتحاد السوفيتي لا يعني أننا نهمش دور الجهاد الأفغاني، لكن -أيضاً- لا نغلو ونبالغ، فالجهاد الأفغاني كان عمل بشر، هو جهاد دعمته الأمة وكان يستحق أن يدعم، لكنه عمل بشر لا يخلو من الضعف والقصور، وقد رأينا ما حصل بعده من الصراع والنزاع والشقاق، فعندنا جنوح إلى المبالغة في الحديث عن القضايا السياسية والأحداث السياسية، ونبالغ في الأرقام، نبالغ في المعلومات، نبالغ في التآمر، في تبسيط الأحداث.

التعامل مع المخالف

التعامل مع المخالف المجال العاشر: التعامل مع المخالف: فتعاملنا مع المخالف قد نفتقد معه الاعتدال، وأهل السنة يرحمون الخلق ويحبون الحق، ومهما كان المسلم يبقى له حق، المسلم الذي وقع في بدعة من البدع له حق الإسلام، والبدعة تسلب من الولاء بقدر ما تلبس يه، ليس صحيحاً أن نحول هذا الإنسان إلى رجل أشد من الكفار، ونلغي ونسقط حق الإسلام؛ لأنه لابس ووقع في هذه البدعة، وقد يكون وقع فيها عن اجتهاد وعن حسن نية، وقد يكون معذوراً فيها، وقع في هذا الأمر عن عذر، وقل مثل ذلك في أصحاب المعاصي، في أصحاب الفسوق، قل مثل ذلك فيمن يخالفنا في الرأي، كثيراً ما نغلو ونفتقد الاعتدال في حكمنا على المخالف، سواء أكان ممن يلابس بدعة، أو كان -وهذا هو الأكثر- ممن لا يصل إلى هذا الحد، إنما هو من إخواننا، فنضخم الأخطاء ونحاول أن نربطها بأصل البدعة، حين يقع في خطأ من الأخطاء نربطه بأصل من أصول البدع، ونسعى إلى إبراز صورة مشوهة عن هذا الشخص، كيف يتعامل اليوم المسلمون مع من يخالفهم في الرأي؟! أعتقد أن هناك غلواً واضحاً بارزاً في تعاملنا مع من يخالفنا. وعلى المستوى النظري نتحدث جميعاً عن حسن التعامل مع المخالف، وعن حسن التعامل مع من يخالفنا في الرأي، لكن في الواقع هناك ثغرات كبيرة، وكم تجد من الجفاء والغلظة وتفسير النوايا إلى آخره؛ لأن هذا الإنسان يخالف في الرأي فقط، وربما يتضح لهذا الإنسان بعد سنوات خطأ ما كان عليه، فيميل إلى ذاك الذي يعمله هذا الإنسان الذي يخالفه وكان يتهمه قبل بالتساهل، وكان يتهمه بالابتداع. أنتقل بعد الإشارة إلى هذه المجالات التي يغيب فيها الاعتدال، وأعتقد أنها كلها يمكن أن نردها إلى عامل واحد، فالمشكلة في الاعتدال في تفكيرنا وفي رؤيتنا للأمور، وما ذكرناه إنما هو أمثلة ومجالات لهذا الغلو، وهذا التطرف إن صحت العبارة، ما ذكرناه هو ألفٌ وباء، ونحن نعيش في حياتنا الفكرية، وحياتنا الاجتماعية، نعيش قدراً من الغلو وقدراً من المجاوزة، لا أقصد الغلو في الدين، والغلو في العقيدة. وفي العبادة، فهذا الأمر -كما قلت في المقدمة- آثرت ألا أتحدث عنه؛ لأنه قد لا يعنينا كثيراً، وأمره معروف، لكن الغلو والمبالغة في تفكيرنا وفي مواقفنا سمة نعاني منها كثيراً، ولعل ما ذكرناه من أمثلة يدل على ذلك.

عوامل وأسباب نشأة الغلو وفقد الاعتدال

عوامل وأسباب نشأة الغلو وفقد الاعتدال لماذا ينشأ هذا الغلو؟ لماذا نفتقد الاعتدال في مواقفنا؟ هناك عوامل كثيرة، من العوامل: ضعف ثقافة الإنسان، الإنسان كلما كان ضعيف الثقافة كان إدراكه محدوداً، والثقافة تجعل الإنسان يتسع إدراكه، تجعله يشعر أن للظاهرة أكثر من وجه، يشعر أن لهذه الظاهرة أكثر من سبب، يشعر أن لهذا الحدث أكثر من تفسير، كلما اتسعت ثقافة الإنسان زادت رؤيته للأمور، وإذا كانت هذه الثقافة محدودة، صار إنساناً صارماً، لا يستوعب أن يفهم فهماً شمولياً، لا يستوعب أن يفهم أن يخالفه الآخرون، يصبح لا يعرف إلا أسود وأبيض، وحقاً وباطلاً، كل الأمور عنده على هذا المقياس والميزان الصارم، وأحياناً يؤتى الإنسان من ضعف ثقافته على المستوى الأفقي، قد يكون الإنسان على المستوى الرأسي مطلعاً، يعني: قد يكون عنده اطلاع واسع، لكن اطلاع في إطار معين، وتخصص معين، وهذا قد يؤدي به إلى أن يكون شخصاً مبالغ في آرائه ومواقفه، والذي يجعل الإنسان أكثر اعتدالاً إذا اتسعت ثقافته على المستوى الرأسي، وتنوعت مصادر الثقافة، وتنوع اطلاعه، يجعله يشعر أن كثيراً من الأمور التي كان يعتقد أنها محسومة هي أمور نسبية، هي أمور تحتمل الرأي، تحتمل وجهات النظر.

الإيغال في التخصص

الإيغال في التخصص العامل الثاني: الإيغال في التخصص، سواء أكان تخصصاً علمياً أو عملياً، قد يؤدي بالإنسان إلى أن يبالغ ويغلو، فبعض الناس يهتم بتخصص أياً كان هذا التخصص؛ كتخصص علمي مثلاً، ويفرغ وقته له، وليس هذا عيباً أبداً، لكن ينبغي أن يوغل، فيؤدي به ذلك إلى الغلو في هذا التخصص، أو الغلو فيما يتعلق به، وقل مثل ذلك في التخصص العملي، وهو يقع أكثر من النوع الأول، فبعض الناس قد يتصدى لميدان من الميادين يعمل فيها أياً كان هذا الميدان، من الناس مثلاً من تصدى لدعوة غير المسلمين للإسلام، من الناس من تصدى لتعليم أهل البادية والعامة الجهلة، من الناس من تصدى لدعوة المرأة، وتخصص فيه واعتنى به، فكثيراً ما يصاب أمثال هؤلاء بالمبالغة والغلو، باعتبار أنه عاش هذا الأمر واهتم له، ليس عيباً أنه تخصص، بل نحن بحاجة إلى التخصص، ونحن بحاجة إلى تعميق هذا الأمر، لكن بحاجة مع التخصص إلى إن يتسع أفقنا، أن نستوعب ما يعمله الآخرون، أن نقدر ما يعمله الآخرون، أن نعلم أن المجالات العاملة ومجالات اليوم تستوعب أنواعاً كثيرة ومجالات كثيرة من العمل، وكونك تنجح في هذا العمل أو ترى مجالات النجاح في هذا العمل أكثر وأولى لا يعني أن ما عليه الآخرون هو إضاعة للوقت، وإهدار للجهود.

التكوين الشخصي

التكوين الشخصي السبب الثالث: التكوين الشخصي: بعض الناس -بطبيعته الشخصية- طبيعته النفسية متطرفة أصلاً، تكوينه الشخصي لا يجيد الاعتدال، ولهذا قد تجده في حال الانحراف والضلال متطرفاً، وحين يستقيم ويصلح قد تجده يسير على نفس الخط، وتجد أمثال هؤلاء في مواقفهم الشخصية دائماً متطرفين، إذا أحب إنساناً مثلاً بالغ في محبته وتجاوز القدر، ثم بعد ذلك تحصل مشكلة فيبالغ في كراهيته والنفور منه، تراه يسلك طريقاً فيغلو فيه ويبالغ فيه، ثم يتجه إلى الطرف الآخر، ونلحظ في الساحة الفكرية أشخاصاً يتقلبون بين اليمين واليسار، وجزء من هذا يعود إلى تكوينهم الشخصي، لا يجيدون الاعتدال، فإما أن يقع في هذا الطرف أو يقع في الطرف الآخر، فبعض الناس أحادي العقلية حاد في مواقفه، في تصرفاته، صارم دائماً، وهؤلاء يصعب عليهم أن يعتدلوا، وكثيراً ما ينتقلون من تطرف إلى تطرف آخر، وينتقلون من غلو إلى غلو آخر.

البيئة الاجتماعية

البيئة الاجتماعية العامل الرابع: البيئة الاجتماعية: هناك بيئات بطبيعتها فيها حدة ومبالغة، بعض البيئات -مثلاً- عنيفة نوعاً ما، وبعض البيئات رقيقة، البيئات تختلف، البيئات الاجتماعية لها أثر، ولهذا إذا قرأت تفسير العلماء السابقين وتراجمهم الشخصية تقرأ في نشأة أحدهم وأسرته وظروف نشأته، فتجد أن هذا ترك أثراً على شخصيته، فبعض البيئات بطبيعتها بيئات حادة، ولهذا تجد أصحابها آراؤهم حادة، آراؤهم تميل إلى مواقفهم، تفسيرهم يميل إلى نوع من الحدة ويصعب عليهم أن يعتدلوا، حتى في حياتهم الشخصية، حتى في علاقاتهم الاجتماعية، في حياتهم الزوجية، في علاقاتهم مع الآخرين، هو التطرف والغلو سمة تطبع تفكير الإنسان، تطبع سلوكه فتستطيع أن تجد أمثلتها ومظاهرها في كافة جوانب الحياة، حتى في رؤيته وفهمه للدين، الدين في حقيقته ليس فيه تطرف، الدين ليس فيه غلو، الدين وسط، لكن كيف يفهمه الناس؟ كيف يطبقونه؟ كيف ينظرون إليه؟ فالإنسان من تكوينه الشخصي يفهم النصوص بناءً على طبيعته الشخصية وعلى تكوينه الشخصي، ولهذا تجده يلجأ دائماً إلى النصوص والمواقف التي تتلاءم مع شخصيته، إذا كان شخصاً عنيفاً يلجأ إلى هذه النصوص دائماً يرددها، يعتقد أنها تدعم موقفه، والعكس، فإذا كان في الطرف الآخر تجده يلجأ إلى تلك النصوص التي يعتقد أنها تؤيد ما يسير عليه.

غياب منهج التفكير الموضوعي

غياب منهج التفكير الموضوعي الأمر الخامس: غياب منهج التفكير: غياب التفكير الموضوعي، التفكير الذي يسعى إلى إعادة الظواهر إلى أسباب وعوامل موضوعية، فنحن يصعب علينا أن نفرق في موقفنا من الشيء بين حبنا له وبين تفسيرنا له، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً سبق أن أشرت إليه في حديث سابق: في أحداث أمريكا التي حصلت قبل أحداث سبتمبر كان كثير من الناس يكره أن يكون وراء هذا الحدث المسلمون؛ لأنه يعلم ما سيترتب عليه، فيسعى في نظرته للحدث وفهم الحدث إلى أن يعلق الحدث بأشخاص آخرين، يتعلق بأي طرف في القضية، بأي دليل، بأي موقف يفسر فيه هذا الحدث تفسيراً يختلف عن رؤيته ويلغي هذه الرؤية، ولهذا تجد الإنسان في نظرته للأحداث أياً كانت يفرح دائماً إذا وجد أي دليل يؤيد الشيء الذي يحبه. وفرق -أيها الإخوة- بين أن يحب الشيء وبين ما حدث، فرق بين موقفنا من الشيء وبين الواقع، إن من مصلحتنا أن نعرف الواقع كما هو، بغض النظر عن موقفنا منه، مثل الأب الذي يذهب إلى المدرسة، استدعته المدرسة لضعف تحصيل ابنه الدراسي، فجاء وقابل مجموعة من المعلمين، أحد المعلمين أثنى على ولده، تجده يتمسك بهذا الموقف ويفرح به؛ لأنه يؤيد الخلفية التي في ذهنه، نفتقد نحن منهج التفكير العلمي، نفتقد التفسير الموضوعي الذي يفصل بين الآراء الذاتية والموضوعية، يفصل بين ما نحب وبين موقفنا، وبين حقيقة الأشياء، من مصلحتنا أن نرى الأشياء كما هي، أن نراها على حقيقتها، بغض النظر عن موقفنا منها، أن نفصل بين عاطفتنا الشخصية وبين رؤيتنا لها. ومن ذلك الغلو في الأخبار، الأخبار التي تتفق مع ما نحب نصدقها ولو كانت غير منطقية، والأخبار التي لا تتفق مع ما نحب نضع عليها علامة استفهام دائماً دون دليل علمي، فالصراع الذي دار في أفغانستان كلنا لا شك نتمنى أن يزيد فيه الضحايا من الصليبيين ونستبشر ونفرح بذلك، ولكنا نتضايق ونتألم حين يصاب إخواننا المسلمون، وأياً كانوا -حتى من يقع منهم في خطأ- فهم أحب إلينا وأقرب إلينا من أولئك الكفار المعتدين، لكن هذا شيء، وتصديقنا للأخبار شيء آخر، هذه العاطفة تؤثر علينا، كان بعض الناس يأتي بأخبار غير منطقية أصلاً، وإذا ناقشته في ذلك قال: أنت ضد الجهاد، أنت تشكك في قدرة الله! يا أخي! فرق بين القضيتين، هذا الخبر ليس فيه ما يدعونا إلى تصدقيه، فرق بين أن أحب ذلك وأتمنى ذلك، وبين أن يكون هذا الخبر صدقاً وحقيقة، نحن نعاني -أيها الإخوة- من غياب التفكير الموضوعي، التفكير العلمي، التفكير المنطقي، فنخلط بين عواطفنا وبين آرائنا، وتسهم عواطفنا ومواقفنا في صناعة آرائنا بدرجة كبيرة، ولهذا نجنح إلى الغلو، إذا كنا نملك منهج تفكير سليم، تفكير موضوعي؛ سننظر إلى الأمور نظرة شمولية، سننظر إليها من كافة جوانبها، سنعطي كل اعتبار قدره الطبيعي، سنصل إلى مواقف معتدلة، نقطع في مواقف القطع، ونضع احتمالاً في مواقف الاحتمال، وتزداد نسبة الاحتمال وتضعف حسب قوة وضعف الأدلة التي نستند إليها في موقفنا هذا.

الرؤية الجزئية

الرؤية الجزئية الأمر السادس والسبب السادس: الرؤية الجزئية: قد ننظر للأمر من زاوية جزئية، الأمر قد يكون له عدة زوايا، فإذا نظرت إليه نظرة جزئية لن ترى الصورة المتكاملة، الآن لو نظرتم من خلال هذه الدائرة في هذه الزجاجة، فكل من ينظر إليها سيقول: هذه ورقة أو منظر طبيعي حين ينظر إلى جزء منها، لكن حين ينظر إليه نظرة كاملة يعرف أنها زجاجة ماء عليها ورقة. فكثير من الأمور تختلط فيها المصالح والمفاسد، تختلط فيها الاعتبارات، فيأتي الإنسان ينظر إلى زاوية واحدة، إلى المصالح التي فيها، ويغفل عن المفاسد، أو العكس، قد ينظر الإنسان إلى المفاسد ويغفل عن المصالح التي فيها، مثل إنسان تقدم لخطبة امرأة يريد أن يتزوج بها، وهذه المرأة فيها صفة من الصفات التي يحبها، هب أنها جميلة، أو فيها دين، أو من أسرة يحب أن يرتبط بها، أو موظفة، أو تخصصها يوافق تخصصه، أياً كان هذه المرأة ففيها صفة يحبها، لكن فيها صفات أخرى، هذا الإنسان إذا نظر إلى هذه الصفة وحدها سيهمل الصفات الأخرى، وقد يقع في مشكلات كبيرة، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يفشل في حياته الزوجية، قد يجد امرأة ذات جمال، لكنها ليست ذات خلق، ليست ذات دين، لا تتواءم معه، لا تتفق معه، حين يريد الإنسان الزواج عليه أن يسأل أو ينظر نظرة كاملة في هذه المرأة، والمرأة حين يتقدم إليها من يخطبها تنظر إليه نظرة كاملة، لا تنظر إلى جانب واحد، أو مجال واحد، وفي النهاية تتخذ قراراً بناء على هذه الرؤية الكاملة. والذي ينظر برؤية كاملة يندر أن يتطرف؛ لماذا؟ لأن أي شيء غالباً تجد فيه جوانب إيجابية وجوانب سلبية، تجد فيه جوانب ضعف وجوانب قوة، فهذا الجهاز -جهاز التسجيل- فيه مزايا: خفيف الحمل، فيه مزية في تسجيله، لكن فيه عيوب، حينما أنظر إلى المزايا فقط سأبالغ فيه، وحينما أنظر إلى العيوب سأبالغ في ذمه، لكن إذا نظرت نظرة متكاملة سأنظر نظرة معتدلة، وهكذا قل مثل ذلك في الوسائل الدعوية، في البرامج الدعوية، في المشروعات، في الآراء، في الأفكار، حين ننظر برؤية متكاملة وننظر إلى الأمر من جميع جوانبه فالغالب أن تكون مواقفنا معتدلة، أن نقول: نتوق إلى النجاح في هذا المشروع بنسبة (80%)، نتوقع النجاح في هذا المشروع بنسبة (70%)، لكن هناك احتمالات فشل، هناك نقاط ضعف، هذا الشيء فيه من المزايا كذا وكذا، وفيه من العيوب كذا وكذا. إن أولئك الذين ينظرون نظرة جزئية قد يمارسون هذا السلوك في التعامل مع النصوص الشرعية، فالذي ينظر -مثلاً- إلى نصوص الوعيد وحدها يؤدي به الحال إلى أن يقنط ويقنط الناس، والذي ينظر إلى نصوص الرجاء وحدها، قد يؤدي به الحال إلى أن يؤمن الناس من مكر الله تبارك وتعالى.

التربية

التربية الأمر السابع، والسبب السابع: التربية: وأعتقد أنها من أكبر الأسباب، قد نكون تربينا على خطاب فيه مبالغة واعتدنا أن نسمع الحديث المبالغ فيه دائماً في كل شيء، في الوعظ نبالغ وقد نتجاوز القدر الشرعي، في ترجيح الأحكام الفقهية قد نبالغ ونتجاوز، في حديثنا عن الظواهر الاجتماعية، عن الأوضاع، ستكون هذه الطريقة في التفكير، هذه التربية التي تعودنا عليها من خلال حواراتنا ومن خلال حديثنا، ومن خلال الخطب، ومن خلال الحوار الذي نسمعه، والخطاب والحديث الدعوي فيه نفس من المبالغة نتيجة غيرة الإنسان وحماسته، فهو حينما يرى الحضور أمامه والناس حوله يتحمس ويؤدي به هذا إلى أن يتجاوز القدر الطبيعي، وحينما يتكرر عند الناس استماع هذه الآراء يتشكل تفكيرهم بهذه الطريقة التي دائماً تتعود على المبالغة، ولهذا حينما يبدأ الإنسان يتحدث يقول: وهذا الموضوع من الأهمية بمكان -أي موضع يتحدث عنه- وهذا من أهم ما يعنى به إلى آخره، وحينما يختم تجد المبالغة سمة، إن وعظ بالغ، إن رجح مسألة فقهية استطرد وذهب يسرد لك الأدلة الطويلة التي ترجح هذا القول، إن تحدث عن ظاهرة اجتماعية، تحدث عن قضية دعوية، هذا النوع له أثره، فيربي الناس على هذا النمط من التفكير.

طغيان العاطفة

طغيان العاطفة الأمر الثامن: طغيان العاطفة: الإنسان عنده عواطف، والعاطفة هي عدو المنطق والعقل، كثيراً ما تقود العاطفة الإنسان إلى مواقف يندم عليها، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً بالطلاق، فلو ذهبت تتساءل عن الحالات التي تحصل، سواء المرأة التي تطلب الطلاق، أو الزوج الذي يطلق زوجته، تجد كثيراً من هذه الحالات كانت نتيجة موقف عاطفي، تجد أنه غضب هذا الرجل لموقف تافه، فطلق زوجته، وقد يطلقها ثلاثاً، وقد يحرمها، والزوجة كذلك قد تغضب من موقف فتطلب الطلاق من زوجها فيطلقها، ثم حينما تهدأ الأمور يندمون، كم هم الذين يأتون إلى المحاكم، ويأتون إلى المشايخ يبحثون عن شيخ يترخص في فتاوى الطلاق حتى يفتيهم! انظر كيف أدت العاطفة أثرها. دعني أضرب على ذلك مثلاً قد يكون أقرب إلى الفهم: لو أخطأ أحد أولادك خطأً استفزك وأثارك، فكيف ستعمل في الموقفين الآتيين: الموقف الأول: إذا رأيته بعد الخطأ مباشرة؟ الموقف الثاني: أتيت إلى المنزل وقيل لك: إن فلاناً فعل كذا فغضبت، لكن لم تجده، ذهبت إلى الصلاة أو العمل، ثم أتيت بعد ساعة أو ساعتين، هل تعتقد أن تعاملك في الموقفين سيكون واحداً، كلا، لماذا؟ إن الموقف الأول كنت فيه في ثورة العاطفة، فالعاطفة تجعل الإنسان يصعب عليه أن يستقر، وأن يتوازن، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)؟! لماذا؟ إذا كان الإنسان غضبان فإنه لا يفكر بطريقة هادئة، لا يستطيع أن يتحرى الحق، فيأتيه الشهود فلا يستطيع أن يتبين صدقهم من عدم صدقهم، لا يتبين صدق البينة، ولهذا ألحق الفقهاء بذلك العطش الشديد، والجوع، والذي يدافعه الأخبثان إلى غير ذلك، ألحقوها بحالة الغضب، فقالوا: لا يقضي القاضي في هذه الحالات؛ لأن هذا يشغله عن أن يفكر بطريقة تعينه على الوصول إلى الحق، وهكذا حماس الإنسان لشيء ومحبته لشيء، العاطفة تقود الإنسان إلى المبالغة يمنة ويسرة. إن الخطاب العاطفي يسيطر علينا بدرجة كبيرة جداً، ويؤثر علينا كثيراً، وابحث عن مصداق ذلك: فلو قام رجلان بعد الصلاة يتحدثون أمام الناس والمسجد فيه جمع كثير، الشخص الأول يتحدث بصوت قوي وألفاظ جزلة، يذكر بعض القصص والشواهد المزعجة والمؤلمة، والشخص الثاني يتحدث بهدوء، يتحدث حديثاً منطقياً عقلانياً، فكم نسبة الذين يصغون للأول والذين يصغون للثاني؟! كم نسبة الذين يتأثرون بالأول والذين يتأثرون بالثاني؟ الناس كثيراً ما تؤثر عليهم المواقف العاطفية والحديث العاطفي، نعم لا نلغي ذلك، فالله عز وجل لم يخلق العاطفة عبثاً، لابد من استثارة العواطف في المواقف التي تحتاج إلى ذلك، والعواطف تعمل عملها في النفوس، وقد تقود الناس إلى الحق، خذوا على سبيل المثال غزوة مؤتة، كان المسلمون ثلاثة آلاف، وقابلوا الروم وهم يزيدون عن مائتي ألف، ثم ترددوا: هل نعود؟ فتحدث الناس، فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وحدث الناس، وكان حين خرج من بيته حينما ودعوه وقالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردنا الله إليكم: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فكان يتشوف للقاء الله، يتشوف للشهادة، وكان معه زيد بن أرقم رضي الله عنه، يقول: فكان ينشد يقول: إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء قال زيد بن أرقم: فبكيت، فنخزني وقال: لا عليك -يا لكع- أن يرزقنا الله الشهادة وتعود على ظهر الدابة. المقصود: حينما جلس الناس يناقشون ماذا يصنعون، قام عبد الله بن رواحة فقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، إنها الشهادة، والله لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الإيمان إلى آخره، قال الراوي: فحمس عبد الله الناس، فتحمس الناس، وقابلوا الروم، وكان ما كان من شأنهم رضوان الله عليهم. المقصود: أن الخطاب العاطفي ليس سلبياً وحده، لا يسوغ أن نلغيه، لكن ينبغي أن يكون بقدر، فالواقع أن الخطاب الدعوي تزيد فيه مساحة العاطفة بشكل كبير، الحديث الذي ينصت له الناس أكثر، الشريط الذي ينتشر، الحديث الذي يعجب الناس، هو الحديث الذي تزيد فيه الشحنة العاطفية، وهذا يزيد من مستوى تأثير العاطفة على الناس، والعاطفة إذا زادت لا تقود الناس إلى الاتزان، لا تقود الناس إلى الاعتدال، لا ينبغي أن نلغي العاطفة، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، وينبغي في مقابل استثارة عواطف الناس أن نخاطب الناس بخطاب عقلاني منطقي يحترم تفكير الناس، فيخاطب الناس بالأدلة الشرعية، بالأدلة المقنعة، بالحوار المقنع، هذا سيجعل مواقف الناس أكثر اعتدالاً وأكثر اتزاناً.

غياب الرأي الآخر

غياب الرأي الآخر الأمر التاسع: غياب الرأي الآخر: عدم وجود رأي آخر سيؤدي إلى المبالغة؛ لأن الرأي الآخر هو الذي يجعل الإنسان يتوازن، فإذا وجدت رأياً آخر في أي موقف، وصار صاحبه يعبر عنه ويتحدث عنه، ستعرف أن رأيك هناك من يخالفه، وأن الآخرين عندهم منطلقات وعندهم مسوغات، سيؤدي ذلك بك ولو لم تغير قناعتك إلى أن تغير من حماسك لرأيك، أن تغير من جزمك وقطعك بصواب ما أنت عليه، وترى أن القضية تحتمل الرأي وتحتمل النقاش.

غياب الحوار

غياب الحوار العاشر: غياب الحوار: الحوار يعود الناس على الاعتدال، الحوار العلمي، الحوار الموضوعي، إننا نتحدث كثيراً -أيها الإخوة- عن أدب الحوار، ولو ذهبت إلى المكتبات ستجد أشرطة كثيرة وستجد كتباً كثيرة تتكلم عن أدب الحوار، لكن في الواقع لا نمارس الحوار في واقعنا وحياتنا بشكل جيد، تجد أننا حينما نتناقش تعلو أصواتنا، ونتناقش نقاشاً غير موضوعي، ونتناقش نقاشاً فيه اتهام للنوايا إلى آخره، إنه إذا ساد الحوار سيجعلنا نتوازن في مواقفنا، سيجعلنا نعتدل في حماسنا لرأينا، حتى ولو لم نرجع عن هذا الرأي، الحوار سيهيئ بيئة تقلل من الاندفاع، تقلل من التطرف في الآراء والمواقف.

ردة الفعل

ردة الفعل الأمر الحادي عشر: ردة الفعل: ردة الفعل دائماً تؤدي إلى الغلو، وردة الفعل قد تكون من خطأ شخصي، بعض الناس الذين كانوا على معصية، كانوا في ضلال وانحراف، إذا تاب بعضهم قد يجنح إلى الغلو كردة فعل لواقعه السابق، بعض الناس الذين كانوا في أيام انحرافهم يقعون في فساد خلقي -مثلاً- تجده يبالغ في اتهام الناس في القضايا الخلقية، والذي كان في فساد مالي أياً كان التقصير الذي يقع فيه، قد يقع في ردة الفعل، إما أن يقسو على نفسه في هذا الأمر أو يتهم الآخرين به، كذلك من يقصر في شيء، كشاب يقصر في عنايته بطلب العلم واهتمامه به، ثم يفيق بعد ذلك ويشعر أنه ضعيف في هذا الأمر، قد تجده يبالغ ويغلو في هذا الأمر على حساب أمور أخرى مهمة وضرورية، وقل مثل ذلك في أي أمر وأي جانب من جوانب حياته وجوانب شخصيته، وكذلك ردة الفعل من سوء الواقع، الواقع السيئ يولد ردة فعل، حينما يرى الإنسان منكرات، يرى واقعاً سيئاً، يرى سوءاً، يرى فساداً، وليس كل الناس يجيدون التوازن في ردة فعلهم تجاه هذا الواقع، فقد يجنح الإنسان إلى نوع من الغلو كما نلحظ، قد يغلو في التكفير، قد يغلو في الحكم على المجتمع، قد يغلو في رؤيته للإصلاح إلى غير ذلك؛ نتيجة هذا الواقع السيئ الذي عايشه، وهي ردة الفعل تجاه الغلو السابق، ولهذا تجد من يغلو في مقابل هذا الغلو، قد يوجد -مثلاً- شخص يجتهد في تطبيق السنة ويحرص عليها فيبالغ في ذلك، فيسيء أو يغلو في هذا الأمر، فتجد بالطرف الآخر من يغلو في هذا الأمر ويسخر ممن يطبق السنة، ويجعل هذه الأمور أموراً هامشية، هذا الغلو والتطرف نشأ كردة فعل لذلك التطرف الآخر، ولو تأملت في الفرق الضالة التي نشأت لوجدت أن كثيراً منها نشأ ردة فعل لتلك الطائفة الأخرى. وكذلك اليوم حين يوجد من يتصرف تصرفات باسم أي موقف شرعي، باسم إنكار المنكر مثلاً، باسم الجهاد، قد يتصرف الإنسان تصرفاً غير مشروع، ويعتقد أن هذا العمل هو من الجهاد في سبيل الله، قد يقابله ردة فعل، ولمسنا شيئاً من هذا ممن يهمش موضوع الجهاد، ممن يكون عنده انقباض من إطلاق كلمة الجهاد أصلاً، مع أنك حينما تقرأ القرآن لا تكاد تجد سورة من سور القرآن تخلو من الحديث عن هذا الأمر العظيم الذي هو ذروة سنام الإسلام، تجد من يفسر الجهاد بأنه رد العدوان فقط، وأن الأمة أمة لا تبدأ بالعدوان إلى غير ذلك من تهميش هذه القضية، وهي ردة فعل لتصرف شخص قد يكون اجتهد اجتهاداً خاطئاً في أمر من الأمور، وهذا لا يعني أن نعالج هذا الخطأ -إذا كان خطأً- بخطأ في الطرف الآخر، وقل مثل ذلك في كثير مما تراه في الساحة من مواقف كثير منها يكون منشؤه ردة فعل من خطأ الآخرين، ومن هنا يجب حينما نعالج موقفاً أن نتوقف كثيراً، ففرق بين موقف ننشئه ابتداء في ظروف طبيعية، وبين موقف ننشئه كردة فعل من خطأ آخر، وكون الآخرين يخطئون لا يعني أن موقفنا صحيح، لا يعني أن موقفنا سليم، قد يخطئ الآخرون فنخطئ نحن في الطرف المقابل، ولهذا يجب أن يكون عندنا حذر من ردة الفعل في نقدنا للآخرين، وهذا كثيراً ما تلمسه في الردود، إذا رأيت من يرد بعضهم على بعض تجد أن كلاً منهم يجنح إلى التطرف في جانب ومجال آخر.

غياب النسبية

غياب النسبية الأمر الأخير: غياب النسبية: هناك أمور هي حق أو باطل، واضحة؛ ما جاء في الكتاب والسنة، فالأمور الظاهرة المشتهرة ليس فيها مجال لأن يناقشها الناس، لكن هناك أمور فيها نسبية، هناك مسائل اجتهادية ليس فيها نص، وهي محل اجتهاد، هناك أمور تتعلق بالتعامل مع الواقع؛ الأفكار الدعوية، المشروعات، تقويم الواقع، المشروعات الإصلاحية، كثير من القضايا التي هي محل حوار وجدل اليوم بين المصلحين والغيورين هي في ضمن هذه الدائرة، هذه الدائرة فيها نسبية كبيرة، فحينما أدعو إلى مشروع، حينما أدعو إلى برنامج، وأعتقد أن هذا الموقف صحيح، قد يكون موقفاً صحيحاً بنسبة معينة في مثل هذه الحالات، ليست القضية إما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة صراحة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، وفيما سوى ذلك هناك أمور كثيرة تبقى مجال رأي، مجال اجتهاد، وهي قضايا نسبية، فالنسبية غائبة في تفكيرنا في هذه الدائرة، ولهذا نحن نريد أن نحسم القضية، فإما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل. أذكر شخصاً كنت أتحدث معه حول موضوع عن تدريس القرآن الكريم ومشكلة ضعف الطلاب في دراسة القرآن، فيقول: غير صحيح أن تأتي وتضع استبانة وتسأل الناس: كم نحتاج من حصة للقرآن؟ هذا إن ساغ فلا يسوغ في العلوم الشرعية، العلوم الشرعية ما فيها إلا صواب أو خطأ، ما فيها إلا حق أو باطل! وهي قضية ليست قطعية، فحين نقول: كم ينبغي أن يدرس الطالب من حصة في القرآن الكريم؟ فليست هذه مسألة حق وباطل، يعني: حينما أقول أنا: يدرس حصة واحدة، وأنت تقول: يدرس حصتين، والآخر يقول: يدرس ثلاث حصص، هذه قضية نسبية ليست قضية حق وباطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، أما ماذا ندرس الطالب؟ وكيف ندرس الطالب؟ فهذه قضية من الطبيعي أن تختلف فيها الآراء، ومن الطبيعي أن تختلف فيها المواقف. كنا نتناقش مع بعض الإخوة حول مناهج العلوم الشرعية، فكان شخص يقول: إن العلوم الشرعية ثابتة مستندة إلى الكتاب والسنة، قلت: يا أخي الكريم! لسنا نتحدث عن المحتوى العلمي الشرعي، نحن نتحدث: كيف نسوغ المنهج، كيف ننظم المحتوى، كيف نعد المنهج؟ هذه قضية ليست ثابتة، هذه قضية نسبية وتختلف فيها الآراء، حتى مناهج العلوم الشرعية، يمكن أن نراجعها ونعيد فيها النظر، ليست القضية في محتوى هذا العلم، ليست القضية في موقفنا من الجهاد، في موقوفنا من الولاء والبراء، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كيف نقدم المادة للطالب باللغة التي يفهما؟ كيف ننظم محتوى المادة؟ هذا شيء والمحتوى شيء آخر. فغياب النسبية يؤدي إلى مبالغة ويؤدي إلى غلو، فيعتقد الإنسان أنه مادام يتحدث عن قضية شرعية بدافع شرعي، فإن موقفه صواب مائة في المائة وحق مائة في المائة، وحينئذ يرى أنه على الحق ومن يذمه يذم إنساناً يعمل بالحق ويدعو إلى الحق، مثل الإنسان الذي ينكر منكراً بطريقة غير صحيحة، حينما تنكر عليه، يقول لك: أنت ضد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أنت تقف مع أهل الفساد، وليس بالضرورة ذلك، لست أقف مع أهل الفساد ولست أقف ضدك، لكن هذه وجهة نظري أن هذا العمل الذي تقوم به لا يؤدي النتيجة، أن هذا الأمر لا يحقق المصلحة، فرق بين أن أعترض على أسلوبك أنت، بين أن أعترض على عملك، وبين أن أطرح رأياً آخر غير رأيك، ليس في ذات المنكر، إنما في طريقة تعاملنا معه، فموقفنا من المنكر وإنكاره قضية، وتلك قضية أخرى. أعتقد أن الوقت يضيق، ولعل هذا الحديث عن إبراز بعض مجالات وأسباب غياب الاعتدال لعله أن يفيدنا كثيراً في النزوع إلى الاعتدال والسعي دائماً إلى أن نراعي الاعتدال في مواقفنا وأن نعلم أن مجرد أن نعتقد أننا نقف موقف حق لا يسمح لنا أن نتجاوز إلى أقصى حد، وأننا حينما ننطلق من فهم لموقف شرعي لا يعني أن موقفنا كله صحيح وموقفنا كله سليم، فينبغي أن نتعامل دائماً بعلم وعدل، والأمور كلها بعدل حتى العبادة والطاعة كما قلنا، إذا جاوز فيها الإنسان القدر فإنها تتحول إلى غلو وتنطع مذموم. أعتقد أن الوقت يفرض علي أن أتوقف هنا، وإن كانت بقيت بعض القضايا والنقاط التي تحتاج إلى إشارة، لكن لعله أن يأتي في الأسئلة ما يمكن أن يجعلنا ننبه عليها.

الأسئلة

الأسئلة

الموقف من خطأ كثير الخير

الموقف من خطأ كثير الخير Q ما قولكم في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أليس هذا دلالة على تجاوز أخطاء من كثرت حسناته؟ A لا شك بأن خطأ من غلبت حسناته وخيره ليس كخطأ غيره، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما فعل ما فعل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

مكانة العلماء والموقف من زلاتهم

مكانة العلماء والموقف من زلاتهم Q بعض الناس قد يفهم من الاعتدال في التعامل مع أخطاء العلماء التجاوز في بيانها، وعدم احترامهم وقلة الأدب معهم، كما يحصل من بعض الشباب، فما رأي فضيلتكم؟ A وهذا من عدم الاعتدال، يعني: العلماء لهم مكانة وجلالة وقدر ومنزلة ينبغي أن نعرفها لهم، حينما يقف أحدهم موقفاً لا يعجبنا فلسنا بحاجة إلى الغلو فإما أن نقول كما قال أو أن نذمه ونعيبه، لا، بل لا يليق، يعني: ليس بالضرورة أن كل كلام لا نوافق عليه نتحدث عنه في المجالس يمنة ويسرة، هذا أمر. الأمر الثاني: حين يخالفنا إنسان في طريقة التفكير في نظرته للأمور فلا ينبغي أن نلغيه تماماً، ينبغي أن نفرق بين تحفظنا على كلام إنسان وموقفه، وبين شخصه، ولا شك أننا نجد ونسمع تطاولاً الآن من كثير من الشباب على أهل العلم؛ نتيجة مواقف وقفوها، أهل العلم بشر، نحن لا نقول: إنهم معصومون، لا نقول: إنهم لا يتكلمون إلا بالحق، لكن لو قال أحد من أهل العلم كلاماً نعتقد نحن أنه ليس حقاً، فينبغي ألا نتبعه في هذا، لكن نحفظ له مكانته وقدره وجلالته، ونبحث له عما نعذره به.

غاية التحذير لا تبرر وسيلة المبالغة

غاية التحذير لا تبرر وسيلة المبالغة Q هل يمكن استخدام المبالغة والتحجيم في تنفير الناس من أمر معين؟ A لا، حين تنهى الناس انه الناس باعتدال، لا أعتقد أن المبالغة تسوغ أبداً؛ لأن معنى مبالغة ما هو؟ ما معنى الغلو؟ أن نجاوز القدر الشرعي والقدر الطبيعي.

الوسطية المطلوبة في العلاقات الأخوية

الوسطية المطلوبة في العلاقات الأخوية Q هل لك أن توجهنا إلى كيفية الاعتدال في العلاقات الأخوية، حيث إنها بين إفراط يصل إلى حد التعلق، وتفريط يصل إلى حد الجفاء؟ A وصلت إلى الإجابة، يعني: الأخ عرض لنا نموذجين: نموج المبالغة الذي يصل إلى حد التعلق والوله ونحوه، فهذا تجاوز للاعتدال، أو الجفاء الذي يلغي حقوق الأخوة، فالحق وسط بينهما، وكل إنسان لا يخلو من أن يبالغ، لا يخلو من أن يقع في الغلو، فحينما نقول هذا لا يعني أننا نريد أن يكون إنسان منا متميزاً في كل شيء معتدلاً في كل شيء، فيبقى الإنسان بشراً، يمكن أن يغلو في موقف، ويمكن أن يصلح في موقف آخر، لكن ينبغي أن يسعى الإنسان بقدر الإمكان إلى أن يقترب من الكمال.

كيفية الاعتدال في جلب ما يحمل الخير والشر

كيفية الاعتدال في جلب ما يحمل الخير والشر Q هناك من الناس من يدخل في بيته الدش، وهناك من يمنع نفسه وأولاده من التلفزيون، فهل الاعتدال وضع التلفزيون دون إدخال الدش والإيريل؟ A لا، أعتقد أن الاعتدال أنه لا يضع تلفزيوناً ولا دشاً، يمكن أن يضع فيديو فيه أفلام إسلامية، هذا الاعتدال، ليس الاعتدال قضية مصطلح، أن أقف عند خمسة عشر من ثلاثين، ليس هذا هو الاعتدال، هذه كلها أمور محرمة، إنما هي دركات، فليس الاعتدال أن يقف الإنسان في نقطة وسط فيها، إنما الاعتدال هنا: ألا يمنع الرجل أهل بيته وسائل الترفيه المباحة، وألا يضع عندهم وسائل الترفيه المحرمة.

ضرر الحديث في مسائل الدين بغير علم

ضرر الحديث في مسائل الدين بغير علم Q ما رأي فضيلتكم فيمن يجلسون يتحدثون في كثير من مسائل الفقه رغم أنهم غير مؤهلين في هذا العلم، وتجدهم كثيري الاختلاف فيما بينهم، بحيث لا يخرجون بأي فائدة، أرجو النصح؟ A إذا تحدث الإنسان بشيء لا يعلمه لن يأتي بجديد، لو تحدثت الآن وإياكم عن قضية الكترونية، كنظام التكييف وما هو الأفضل للمسجد هذا التكييف المخفي أو غير المخفي؟ لن نصل إلى نتيجة؛ لأننا لسنا أهل علم بهذا الأمر، فالحديث دائماً ينبغي أن يكون بالعلم، الحديث في مسائل الدين، لا حرج في أن يتناقش الناس في مسائل الشرع دون أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فيرجعون إلى أهل العلم بالأدلة الشرعية، لكن يتناقشون بعلم وأدلة شرعية، أما الجدل واللجاج فلا، تجد بعض الناس -والله- لا يقرأ القرآن قراءة سليمة، يلحن حينما يقرأ القرآن، لا يجيد الصلاة، لو سألته عن أركان الصلاة أو مبطلات الوضوء فربما أخطأ فيها، ومع ذلك تجده يقول رأيه في قضايا كبار ويفتي وكأنه إمام من الأئمة، ويسفه الآخرين.

حكم الإسراع بالصلاة في المسجد خشية الرياء

حكم الإسراع بالصلاة في المسجد خشية الرياء Q أنا رجل أصلي صلاتي غير الصلاة التي أصليها في البيت، وهي صلاة خاشعة، أما في المسجد فأسرع حتى لا يقول الناس عني: إنني مراء، وأنا -والله- أبتغي بها وجه الله، فهل أخشع أم لا؟ A لا يجوز أن تسرع في صلاتك، إذا كنت أمام الناس فاعمل العمل الذي تعمله سواء كنت في المسجد أو في المنزل، فإذا أردت أن تصلي في المسجد فصل كما تصلي في المنزل، لا تتعمد أن تخل بهذه الصلاة بعداً عن الرياء.

الوسطية في تقويم آراء الأشخاص

الوسطية في تقويم آراء الأشخاص Q عند تقويم رأي أي شخص فإننا ننظر إلى الرأي وكأننا لا نعرف الشخص، مع أننا نعرف الشخص، فهل هذا القول صحيح، أم هناك وجهة أخرى نظر للتقويم؟ A هذا تطرف وذاك تطرف، أن نلغي الأشخاص تماماً هذا تطرف، وأن نسلم بآرائهم هذا تطرف، ولهذا تجد -مثلاً- أهل العلم يحتجون يقولون: وبهذا القول قال فلان وفلان، يحتجون بأقوالهم، ويرون أن هذا القول له قيمة، فإلغاء آراء الأشخاص غير صحيح، هناك ناس معروفون من أهل الرأي في أي أمر من الأمور؛ في الفقه في السياسة في الإعلام في الاقتصاد، في أي مجال هناك أهل رأي وكلامهم له وزن، بل أنت أحياناً حينما تريد أن تبحث في مسألة وتطمئن لقول من الأقوال، فحينما تجد قول شخص آخر من الأئمة المعتبرين يخالف هذا القول لا ترتاح لما تقرر عندك، فهذا طبيعي، فإلغاء آراء الأشخاص مطلقاً غير طبيعي، وأيضاً التقليد المطلق غير طبيعي، أنا كنت أتناقش مع بعض الشباب المفتونين باللوثة العقلية والمناقشة فما أدري ما الذي أثار عنده القضية، فقلت: الذي يحكمنا هو الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، فقال: لا، فهم السلف الصالح ما هو بملزم، ثم قال: يا أخي! إذا كان قول الصحابي ليس حجة، فكيف بفهم السلف الصالح؟! إلى هذا الحد من سوء الأدب مع السلف، ويتكلم بعضهم عن التابعين وعن الأئمة بكلام كأنه يتحدث عن أي إنسان عادي، هذا نوع من الغلو ونوع من سوء الأدب، وفي النهاية سيبقى الأئمة أئمة لهم وزنهم، لهم قيمتهم، آراؤهم لها قيمة، ولسنا مع العصمة والغلو، لكن هذا النموذج هو غلو، وقد نلمس هذه الظاهرة عند بعض الشباب الذين لا يقيمون وزناً لأحد، يعني: يتكلمون عن شيخ الإسلام، عن الإمام أحمد، عن محمد بن عبد الوهاب، عن أي إمام آخر فيقولون: الناس سواء، والمسألة محل رأي واجتهاد، والسلف أخطئوا في تعاملهم مع الخوارج، وأخطئوا في تعاملهم مع أهل البدع إلى آخره، فأحياناً تسمع حديثاً أستغربه وجرأة غريبة، وهذا هو غلو وردة فعل.

المراد بالاعتدال في المسائل الاجتهادية

المراد بالاعتدال في المسائل الاجتهادية Q هل الاعتدال معناه: التساهل في المسائل الخلافية؟ A أولاً: هناك فرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، هناك مسائل خلافية، لكن فيها نص واضح، أما المسائل الاجتهادية فليس فيها نص واضح، العلماء يجتهدون في فهم واحد، ليست القضية تساهلاً، أنا -مثلاً- قد يتقرر عندي وجوب هذا الأمر؛ قد يتقرر عندي وجوب زكاة الحلي فأخرجها وألزم أهلي بإخراجها، لكن حينما يأتي شخص يستقر عنده القول الآخر لا أذمه ولا أعيبه، لا أقول: إنه من حطب جهنم، بل هو لا يأثم عند الله مادام اقتنع بهذا الأمر ديانة، لا يأثم عند الله عز وجل، فهو بين أجر أو أجرين، هنا الاعتدال، يعني: نحن لا نلغي المسائل الاجتهادية، ونميعها، ليعمل الإنسان بما يحلو له، يقول: ما دامت المسألة محل اجتهاد فخذ ما يحلو لك، خذ بالأيسر، هذا غير صحيح، بل يأخذ بما يرى أنه يبرئه عند الله عز وجل، وقد يلزم نفسه بذلك، وقد يستقر عنده هذا القول، ويترجح عنده بنسبة عالية، لكنه يعذر الآخرين حين يخالفون هذا الرأي؛ لأن المسألة محل خلاف.

ميزان الاعتدال

ميزان الاعتدال Q ما هو الميزان الحقيقي للاعتدال، وهل يختلف من مجتمع إلى آخر؟ A عندنا ميزانان: ميزان الشرع، وميزان العقل الصحيح، فما وافق الشرع ليس فيه غلو، مع التفريق بين فهم الناس للشرع وبين نصوص الشرع؛ لأن بعض الناس -مثلاً- يستدل بقول الله عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فيطبق هذا على أهل المعاصي، بينما نجد النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الأمة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)، يعني: يجلدها الحد، لكن لا يلومها ولا يؤنبها، ولما قالوا في شارب الخمر: أخزاك الله، قال: (لا تعينوا الشيطان عليه)، فالشرع هو ميزان العدل، ما دل عليه الشرع فهو عدل وهو الوسط وهو الميزان، لكن أيضاً ينبغي أن نحذر أحياناً من فهمنا الخاطئ لنصوص الشرع، ثم ما سوى ذلك العقل والمنطق، هناك أمور كثيرة ليس فيها نص للشرع، إنما تركت للناس؛ كوسائل الدعوة، وتقويم واقع الناس، هناك أمور تركت لاجتهاد الناس وعمل الناس، أن يجتهدوا في البحث عما هو الأصلح في حياتهم في مثل هذا الأمر، فميزان الاعتدال في هذا العقل والمنطق، والرأي المبالغ فيه -حتى لو كان حقاً- قد تجاوز صاحبه في مبالغته في هذا الرأي.

الموقف من اشتغال الدعاة بإخوانهم وترك ما هو أهم

الموقف من اشتغال الدعاة بإخوانهم وترك ما هو أهم Q بماذا تفسر ظاهرة الردود على بعضنا من خلال اختلاف الآراء واختلاف المناهج، وتربص بعضنا ببعض وترك الساحة خالية للعلمانيين والحداثيين المفسدين يعيثون في الأرض فساداً ولا يجدون من يرد عليهم، ويفضح منهجهم الخبيث؟ A هذا نموذج من الاشتغال، لا أقول: بالمفضول عن الفاضل، إنما الاشتغال بالخطأ عما ينبغي أن نشتغل به ونعتني به، نعم ينبغي أن يبين الخطأ إذا حصل، لكن نبينه بحجمه، ثم لا يشغلنا مثل هذا الأمر عما هو أهم من ذلك.

الفرق بين الغلو والتطرف

الفرق بين الغلو والتطرف Q كيف يمكن لنا أن نفرق بين الغلو والتطرف في نظرك؟ A التطرف مصطلح جاء في لغة العرب، ولهذا يقولون: تطرفت الناقة: إذا رعت من أقصى المرعى، تطرفت الشمس: إذا قربت من الغروب، لكن الشرع جاء بمعنى الغلو، فأنا أفضل أن نستخدم الغلو، لكن التطرف يشمل طرفين، ولهذا آثرت أن أعبر بـ (غياب الاعتدال)؛ لأنه يعني الاتجاه ذات اليمين وذات الشمال، والغلو غالباً يطلق على الزيادة عن القدر المشروع.

صلة الاعتدال بالبحث عن النوايا حال تحليل المواقف

صلة الاعتدال بالبحث عن النوايا حال تحليل المواقف Q تحليل المواقف والبحث في النوايا للتثبت هل يعد من غياب الاعتدال؟ A من الاعتدال أن نتحدث نحن عن المواقف بعيداً عن النوايا، أن نفسر بناء على أدلة واضحة، يعني: حينما أقول: إن الدافع لهذا العمل هو كذا، ينبغي أن يكون عندي أدلة، حينما أصل إلى نتيجة يكون عندي أدلة، ثم -أيضاً- أن أنظر في الأدلة الأخرى، وتكون درجة جزمي بالنتيجة التي أصل إليها مبنية على الأدلة التي تؤدي إلى ذلك.

منزلة الجهاد

منزلة الجهاد Q هل الجهاد في الوقت الحالي أصبح ظاهرة اجتماعية قد تكون شبه انتقامية، ولذلك أنكرت في المجتمعات الإسلامية؟ A الجهاد فريضة إسلامية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والله عز وجل أخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، ولو قرأنا في القرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن الجهاد ومنزلته لعلمنا عظم منزلة هذه الشعيرة العظيمة، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة)، وقال: (الجهاد ماض إلى اليوم القيامة)، ولا شك أن الأمة إنما أصيبت بما أصيبت به لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا شك أن جزءاً مما أصاب الأمة من هوان وضعف وذلة هو بتركها هذه الفريضة العظيمة، ونحن نستبشر الآن بما نراه من مواطن الجهاد في فلسطين في أفغانستان في الشيشان في أندونيسيا في غيرها من المواطن التي رفع فيها إخواننا راية الجهاد، وأؤكد على ما قاله أخونا الفاضل، أنه من حقهم علينا أن ندعو لهم، أن نتبرع لهم، أن نعرف بقضيتهم، أن نقف معهم ولو بمشاعرنا إذا عجزنا أن نشاركهم في أبداننا، فلا أقل من أن نشاركهم بأموالنا، بدعائنا، بنصرتنا لهم، نعم قد يوجد بعض الشباب ممن يتصرف تصرفات تفسد أكثر مما تصلح، كما يحصل في بعض المجتمعات الإسلامية، يعني: بعض الشباب يرى واقعاً لا يصبر عليه، فيجر مجتمعات المسلمين إلى أعمال دافعه إليها خير ودافعه في ذلك الجهاد، لكن هذه الأعمال مفاسدها قد تكون أكثر من مصالحها، وتؤدي إلى مفاسد أكثر، والجهاد إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، وقد يكون بعضها إعاقة لإقامة دين الله، وقد يكون سبباً لتسلط المفسدين والأعداء على أهل الخير والصلاح، فينبغي أن ينظر في ذلك إلى المصلحة الشرعية والمفسدة، فالجهاد لم يشرع لمجرد أن يقاتل المسلمون الكفار، إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، فإذا كان في هذا إقامة لدين الله عز وجل ونصرة لدين الله فنعم، أما إذا كان فيه مفاسد أكثر من مصالحه؛ فالأولى أن تجنب بلاد المسلمين ومجتمعاتهم مثل هذه الفتن وهذه الأوضاع، أما القتال الواضح اليوم بين مسلمين وكفار -كما يحصل في فلسطين، أو يحصل في الشيشان أو أفغانستان أو غيرها من البلاد- فهذا لا شك أنه حق مهما قال عنه الأعداء: إنه إرهاب وعدوان، هذا حق، ومعظم المسلمين لا تجدهم يختلفون على مثل هذا النوع من العمل، فواجبنا أن نقف معه وندعمه، وإذا أخطأ أحد في تصرفاته لا ينبغي -كما قلت- أن نشكل موقفاً نحن من مثل هذا العمل، بل ينبغي أن نقف موقفاً معتدلاً ومتوازناً. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الرسالة التربوية للأسرة

الرسالة التربوية للأسرة إن الفرد حين ينطلق إلى العالم الواسع بكل ما يحويه من مؤثرات تنعكس على سلوكه وتكوين شخصيته، وما يشمله من متناقضات لا يجد لها تفسيراً، يحتاج خلال ذلك إلى موجه أمين ومرشد حكيم يرسم له طريقه، كما يحتاج قبل ذلك إلى من يمنحه الأمان النفسي والطمأنينة الاجتماعية التي تساعد في نموه وتكوين شخصيته بصورة سليمة، ولن يجد الفرد كل هذا إلا في إطار أسرة مسلمة مراعية للضوابط التربوية الصحيحة.

الأسرة هي المدرسة التربوية الأولى للطفل

الأسرة هي المدرسة التربوية الأولى للطفل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يكون هذا اللقاء لقاء طيباً مباركاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والتوفيق والسداد إنه سميع مجيب. أسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على دعوتهم، وأن يجعلني عند حسن ظنهم، وعند حسن ظن إخواني الذين قطعوا جزءاً من وقتهم لحضور هذا اللقاء، وأسأله تبارك وتعالى أن يجعلني خيراً مما يظن الناس بي، وأن يكتب لي ما لا يعلمون. كان الموضوع الذي اقترحه الإخوة موضوعاً مفتوحاً وهو حول حديث تربوي، لكن هذا الموضوع أو هذا العنوان عنوان واسع فضفاض، والإخوة لم يقصدوا ذلك، إنما قصدوا أن يتركوا الاختيار لي، وقد ترددت كثيراً في اختيار الجانب التربوي الذي يمكن أن نتحدث عنه في مثل هذا اللقاء، فرأيت أن الحديث عن مؤسسة تربوية مهمة ربما يكون له أولوية في مثل هذا الوقت، ألا وهي المؤسسة التربوية الأولى الأسرة. وحين نتحدث عن الأسرة فإن الحديث يطول، ولا يمكن أن نستوعب أطرافه ومضامينه في مثل هذا اللقاء العاجل المختصر، فرأيت أن أركز الحديث حول الرسالة التربوية للأسرة، ولئن كنا نحتاج إلى أن تؤدي الأسرة هذه الرسالة فنحن اليوم في هذا العصر وفي ظل هذه المتغيرات بل القفزات الهائلة التي تقفز إليها مجتمعات المسلمين اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى أن نعيد لهذه المؤسسة رسالتها، وأن نرتقي بها لتؤدي هذه الرسالة. إن أبناءنا وبناتنا اليوم لم يعودوا أبناء لنا، بل هم أبناء لوسائل التأثير، أبناء لوسائل الإعلام، أبناء للمؤثرات المتناثرة هنا وهناك في هذه المجتمعات، أليست هذه الوسائل اليوم تزاحمنا في أولادنا؟ أليست تسهم في تشكيل كثير من قيمهم ومفاهيمهم وموازينهم؟ أليست تؤثر على كثير من سلوكياتهم؟ إن الصور الشاذة التي نراها اليوم في الشوارع، وفي الأماكن العامة، وفي الأسواق بل وفي المدارس، إنما هي إفراز لتخلف الدور التربوي للأسرة، ربما يكون الزخم الهائل لهذه المؤثرات الوافدة أدى إلى أن تسرق الأوقات، وتسرق مساحات ومجالات التأثير من الأسرة، لكن هذا لا يعفينا من أن نسعى جادين إلى تعميق الرسالة والمهمة التربوية للأسرة. ومن هنا كان هذا الحديث المقتضب والمختصر الذي لا يمكن أن يأتي على أطراف مثل هذا الموضوع لسعته وشموله وأهميته في مثل هذا اللقاء، ولهذا سأسعى إلى الإجابة على سؤالين رئيسين: لماذا؟ وكيف؟ لماذا نحن بحاجة إلى أن نفعِّل الرسالة التربوية للأسرة اليوم؟ وكيف تحقق الأسرة هذه الرسالة التربوية؟ حينما نتساءل اليوم عن أهمية الوظيفة التربوية للأسرة والرسالة التربوية للأسرة، فليس دافعنا لذلك هو مجرد إقناع الناس بالأهمية التربوية للأسرة، فأظن أن هذا أمر يتفق فيه الجميع، يتفق فيه المسلم والكافر، والجاهل والمتعلم، الجميع يتفقون على أن التربية مطلب وضرورة، وعلى أن الأسرة ينبغي أن تتحمل مسئولياتها في التربية، لكني سأحاول أن أسلط الضوء على بعض الإجابات على هذا السؤال، أعني به Q لماذا الرسالة التربوية للأسرة؟ سأركز على الإجابات التي تفيدنا في الميدان العملي أكثر من أن تكون مجرد مزيد إضافة للاقتناع بهذا الجانب وهذا العمل، هناك جوانب كثيرة تبرز أهمية الرسالة التربوية للأسرة، لكني سأجتزئ منها ما أرى أننا ينبغي أن نوظفه عملياً للإجابة على السؤال الآخر وهو: كيف نرتقي بالأسرة لتؤدي رسالتها؟

خصائص الأسرة التي تكسبها الأهمية التربوية الأولى

خصائص الأسرة التي تكسبها الأهمية التربوية الأولى

الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية

الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية أولاً: الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي المؤسسة الأولى من المؤسسات التربوية، فالطفل الرضيع حين يخرج من بطن أمه أول مجتمع يلتقي به هو مجتمع الأسرة، بل إن التأثير التربوي لا يبدأ من مرحلة الولادة، بل هو من مرحلة الحمل، فالطفل وهو في بطن أمه يتأثر بانفعالات الأم، يتأثر بالحالة النفسية التي تعيشها الأم، يتأثر باتجاه الأم نحو حملها ونظرتها له، ولهذا يبدأ منذ أن يكون حملاً في بطن أمه، لا يشارك الأم في تأثيرها أحد في هذه المرحلة، ثم يخرج وهو رضيع فتوصل له الأسرة رسائل تربوية يفقهها هو وربما لا تفقهها الأسرة، فهو في رضاعه من والدته، وفي مداعبة أهله له، وفي حمل أمه له ووضعها له يتلقى مشاعر عطف ومشاعر حنان تعتبر مطلباً ضرورياً في نموه الاجتماعي والنفسي والعاطفي، وهذا الأمر تجهله كثير من الأمهات، ويجهله كثير من الآباء، ثم يتدرج به العمر إلى أن يصل إلى سن المدرسة وهو لا يتعامل مع أي مؤسسة أخرى. إذاً هذا الأمر حين تكون الأسرة هي المؤسسة الأولى، حين تكون الأسرة هي أول ما يفتح الطفل عينيه عليه، فهذا يؤكد لنا أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو في المقابل أيضاً يعيننا في الإجابة على كيف؟ فبقدر ما نواجه من تحديات نملك فرصاً في تربيتنا ربما لا نثمنها.

الأسرة هي الجماعة الأولى التي يرتبط بها الطفل وينتمي إليها

الأسرة هي الجماعة الأولى التي يرتبط بها الطفل وينتمي إليها ثانياً: الأسرة هي أول جماعة يعيش فيها الطفل ويشعر بالانتماء إليها، وهو بهذا يكتسب عضوية في جماعة، ويظهر نمط هذه الجماعة وعلاقاتها على علاقاته فيما بعد، إنه ينتمي بعد ذلك إلى جماعة للعب، أطفال يلعب معهم يشاركهم، وعندما يتقدم به العمر ويصل إلى سن المراهقة فإنه يرتبط بثلة الرفاق أو مجموعة الرفاق، وعندما يتقدم به العمر أكثر يرتبط بجماعات أخرى من خلال الزمالة المدرسية ومن خلال العمل، كل هذه الجماعات تتأثر بالجماعة الأولى التي انتمى إليها وارتبط بها الطفل، ويتشرب قيم ومفاهيم ومعايير يزن من خلالها الناس كما سيأتي بعد قليل.

الأسرة هي الجماعة التي يرتبط بها الفرد ارتباطا لا ينفصم

الأسرة هي الجماعة التي يرتبط بها الفرد ارتباطاً لا ينفصم ثالثاً: الأسرة ولنقل جماعة الأسرة هي الجماعة الوحيدة الذي يظل الإنسان مرتبطاً بها لا يتخلى عنها، ولو عدنا إلى تاريخنا نحن فسنرى أنه كانت لنا علاقات حين كنا أطفالاً وكنا ننتمي إلى مجموعة وفئة من أهل الحي أو الجيران أو الأقارب ونمارس معهم اللعب ونعيش معهم، وحين كنا في الدراسة كان لنا رفقة وزملاء في الدراسة، وفي العمل، وجماعات كثيرة تنشأ في حياتنا ثم تنقرض، أما الأسرة فهي الجماعة الوحيدة التي يبدأ بها المرء مع بدايته في الحياة وهي التي تودعه قبره وتودعه إلى باب البرزخ. نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.

الأسرة هي الكيان الذي يتميز بالتماسك رغم اختلاف شخصيات أفراده

الأسرة هي الكيان الذي يتميز بالتماسك رغم اختلاف شخصيات أفراده رابعاً: طبيعة العلاقة المتبادلة أيضاً بين أعضاء الأسرة تختلف بغض النظر عن نوعهم وعددهم، الأسرة هي الجماعة الوحيدة التي يلتقي فيها جيل الآباء بالأبناء، بل الآباء بالأحفاد، يتعامل فيها الرجل مع زوجته ومع بناته الكبار اللاتي تزوجن وأنجبن، ويتعامل مع بناته المراهقات، ويتعامل مع أبنائه المراهقين، ويتعامل مع الأطفال والرضع، ولهذا فإن لها طبيعة خاصة وسمة خاصة تختلف عن سائر الجماعات والسمات، بغض النظر عن نوع هذه العلاقة وحجم الأسرة وطبيعة أعضاء الأسرة من حيث الجنس والسن إلى آخره، بالرغم من كل ما سبق فإن هذه الجماعة وهذه المؤسسة تبقى مترابطة متماسكة، وهذا يؤكد كما قلت على أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو أيضاً يعطينا فرصة يمكن أن نستثمرها لنجيب على السائلين: كيف نرتقي في تربيتنا الأسرية؟

الأسرة هي النظام الاجتماعي الأكثر ثباتا على مدى التاريخ

الأسرة هي النظام الاجتماعي الأكثر ثباتاً على مدى التاريخ خامساً: مؤسسة الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية ثباتاً على مدى التاريخ، فمن يدرس التاريخ يعرف أن هناك أنظمة اجتماعية تحكم علاقات الناس وصلاتهم، كالقبيلة والعشيرة، وهذه العلاقات تطورت على مدى التاريخ، ومن يقرأ التاريخ يكتشف أن هذه العلاقات لم تثبت على وتيرة واحدة ولم تثبت على نظام واحد، وها نحن مثلاً اليوم نجد جماعات ومجموعات العمل والدراسة ناشئة مع ظروف الحياة الجديدة، وسينشأ في المستقبل نوع من المجموعات والعلاقات، وها نحن نرى مثلاً من خلال شبكة الإنترنت علاقات وصلات بين رجلين لو قابل أحدهما الآخر فلربما لا يعرفه، لكن تبقى هذه المؤسسة أكثر الأنظمة ثباتاً ورسوخاً على مدى التاريخ، وستبقى إلى ما شاء الله.

الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية استغراقا لوقت الطفل

الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية استغراقاً لوقت الطفل سادساً: الوقت الذي يقضيه الطفل مع أسرته من أطول الأوقات، سواء من خلال المرحلة الأولى من العمر وسيأتي الإشارة إليها، أو ما سوى ذلك، فالمرء يقضي مع أسرته أطول الأوقات، وهي حين تحسن التعامل مع هذا الوقت المتاح لها ستكسب فرصاً لا تكسبها المؤسسات التربوية الأخرى، وتقصر عنها عوامل التأثير الأخرى التي يمكن أن تزاحمها في تشكيل شخصية الطفل.

الأسرة تنفرد بالتأثير على الطفل في سنوات عمره الأولى

الأسرة تنفرد بالتأثير على الطفل في سنوات عمره الأولى سابعاً: أن الأسرة تنفرد بالطفل في المراحل الأولية من العمر، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك، وهذه المراحل لها تأثير كبير في تشكيل شخصية الطفل، وتشكيل قيمه وتصوراته وموازينه، والرجل كبير السن اليوم يرى أن هناك قيماً ومعايير ترسخت عنده منذ أن كان في طفولته ولا تزال مترسخة ثابتة. في هذه المرحلة المهمة والخطيرة الأسرة تنفرد بالطفل فلا يزاحمها عليه أحد، نعم وسائل الإعلام بدأت تزاحمنا على أطفالنا في هذا السن وهذه المرحلة، لكن لا زلنا في هذا السن وهذه المرحلة نستطيع أن نتحكم في الطفل إلى حد كبير، ونستطيع أن نقلل من فرص تعرضه لتلك المؤثرات التي يمكن أن تسير به في طريق يخالف الطريق الذي ترتئي الأسرة أن تسير عليه وتسلكه. ومن هنا فاستثمار هذه المرحلة المهمة يمكن أن يختصر علينا خطوات كبيرة، وحينما نتحدث اليوم ونطالب بأن تستثمر هذه المرحلة المهمة -مرحلة الطفولة- فلا ينبغي أن يقف الأمر عند التصور الساذج للتربية المطلوبة التي تقتصر على مجرد إعطاء توجيهات وإعطاء أوامر والتأكيد على أن هذا يسوغ وهذا لا يسوغ إلى آخره، بل ينبغي أن نتجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال البناء الصحيح لطريقة تفكير الطفل، والبناء الصحيح للقيم التي ينطلق من خلالها، وتنمية القدرات والمهارات التي يمكن من خلالها أن يتعامل مع ما يصل إليه بعد ذلك وما يواجهه من مؤثرات لا يمكن أن يتخلى عنها أو يتخلص منها فيما يستقبل من حياته.

الأسرة تستقبل التأثيرات التي يتعرض لها الطفل من محيطه الخارجي وتعيد تقويمها

الأسرة تستقبل التأثيرات التي يتعرض لها الطفل من محيطه الخارجي وتعيد تقويمها ثامناً: الأسرة تختار من البيئة ما تراه مهماً ثم بعد ذلك تقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه، فكل ما يتعرض له الطفل، سواء ما يهبط إليه في المنزل من خلال وسائل الإعلام ووسائل التأثير، أو ما يواجهه من خلال الدائرة الأوسع من أسرته القريبة من خلال الأقارب أو ما يواجهه من خلال المدرسة والمجتمع، كل هذا تتعامل معه الأسرة وتقوم باختيار ما تراه مناسباً، ثم تقوم بتفسيره وإصدار الأحكام عليه، ومن هنا تكون القيم التي يتشربها الطفل متأثرة بنظرة الأسرة إليها وبتعبيرها عنه، فتشكل هذه القيم معايير يتعامل من خلالها مع ما يواجهه في المستقبل من مؤثرات في المجتمع. فمثلاً: الطفل الذي يعيش في أسرة تحتقر المتدينين والتدين، سيتشرب هذه القيم من خلال ما يراه ويسمعه من والده ووالدته، وعندما تستقر عنده هذه القيم ويأتي إلى المدرسة ويجد معلماً متديناً فإن نظرته إلى هذا المعلم ستكون نظرة احتقار وانتقاص؛ لأنها نظرة تلقاها من خلال ما غرسته الأسرة عنده. خذوا نموذجاً آخر: الطفل الذي يعيش في أسرة متدينة، وليس فقط متدينة بل وتتقن التربية؛ لأنه ليست كل أسرة متدينة تحسن التربية وتربي بطريقة صحيحة، حين ينشأ الطفل في أسرة متدينة تحسن التربية يأتي إلى المدرسة التي تعتبر أول تجربة له مع عالم مفتوح، بغض النظر عن تجربته مع المجتمع قبل المدرسة فهي تبقى تجربة محدودة من خلال علاقاته العائلية، وتبقى غالباً لها صلة وثيقة بثقافة الأسرة وبتربية الأسرة؛ لأن هناك في الغالب قدراً من الانتماء الفكري والقيمي والثقافي بين الأسرة والمحيط المجاور، من خلال الأقارب ومن خلال أخواله وأعمامه، فيبقى التغيير محدوداً، حتى حينما يحتك بالشارع يبقى التغيير محدوداً من خلال نوعية الجيران الذين يحتك بهم، ولكن حين يأتي إلى المدرسة فيجد في فصله 35 طالباً ينتمون إلى أسر متفاوته، وتربية مختلفة، وأنماط اجتماعية مختلفة، وشرائح اقتصادية مختلفة، وثقافات مختلفة، فينتقل نقلة أخرى تصدمه، فهو سيبدأ باختيار أصدقاء، كيف سيختار الأصدقاء؟ هو تلقائياً من خلال تلك القيم التي غرستها عنده الأسرة سيجد أنه يتناغم مع هذا النوع دون ذاك، فيجد أن الأصدقاء المحافظين الذين لا يسمع منهم كلمة بذيئة، ولا يرى منهم سلوكاً بذيئاً يجدهم أقرب إليه، وأكثر تناغماً معه فيميل إليهم. أما الطفل الآخر الذي اعتاد على سلوك عدواني وسلوك متمرد فإنه يميل إلى تلك الفئة التي تناسبه، والطفل الآخر الذي لم يهذب سلوكه فاعتاد على اللغة غير المهذبة، وعلى الألفاظ السوقية، وعلى الأخلاق والسلوكيات الشاذة، يتجه تلقائياً إلى اختيار أصدقائه ممن يتناسب مع طريقته وتفكيره ونظرته للأمور. إذاً: فالأسرة هنا أسهمت في غرس هذه القيم في الطفل وصار يتصرف من خلالها من حيث لا يشعر، فيحكم على الناس من خلال ما تلقاه، نظرته إلى معلمه لا تنفك عن نظرة الأسرة إلى الآخرين وتقويم الأسرة للآخرين، القيم التي تغرسها الأسرة عنده للرجل الفاضل وكذلك بالنسبة للفتاة للمرأة الفاضلة المحافظة، والإنسان بطبيعته لا ينظر إلى الأمور نظرة محايدة، يعني: كل المواقف التي تراها وتنظر إليها تمر إليك من خلال قناة، هذه القناة تقوم بعملية فلترة لهذه المواقف، فلا تنظر أنت للمواقف نظرة محايدة، ولا تنظر للأشخاص نظرة موضوعية وتحكم عليهم بحكم موضوعي، وإنما هذه النظرة تمر من خلال تلك القناة التي تمثل إطارك المرجعي الذي تشكل من خلال التربية الأسرية، ثم بعد ذلك التربية المدرسية تعدل وتطور في هذا الإطار، هذا الإطار المرجعي الذي تشكل عندك يتحكم في محتوى ما تتلقاه، في أحكام ستصدرها على الناس، وفي نظرتك للأمور، ولهذا أنت لا تنظر إلى الأمور كما هي، بل تنظر إليها من خلال إطارك المرجعي، ومن خلال القيم والمفاهيم والموازين التي اكتسبتها، فحكمك على الناس وتقييمك لهم ونظرتك لهم، فضلاً عن حكمك على السلوكيات المقبولة أو الشاذة، كل هذا ليس حكماً موضوعياً وليس حكماً محايداً كما يقال، إنما هو حكم يمر من خلال هذه القناة التي تقوم بإعادة فلترة هذه المواقف بإصدار أحكام عليها ما بين شخص مقبول وغير مقبول، أو سلوك مقبول وغير مقبول. والسلوك بحد ذاته مجرداً من هذه القيم يبقى سلوكاً محايداً تتفاوت أحكام الناس بالنسبة له، فالذي يعده بعض الناس سلوكاً مقبولاً آخرون يعدونه سلوكاً شاذاً، وقس على ذلك الأشخاص الذين يعجب بهم فئة من الناس لا يعجب بهم آخرون، من أين نتلقى نحن هذه الأحكام؟ من خلال هذا الفلتر، ومن خلال هذا الإطار المرجعي الذي شكلته الأسرة، ثم لما جاء إلى المدرسة بدأت المدرسة تتحكم فيه بحيث تزيد وتنقص، وتعدل فيه وتقوم، المهم أن الأسرة شكلت هذه القيم التي ينظر من خلالها الطفل، وتنظر من خلالها الفتاة، وينظر من خلالها المراهق والمراهقة، بل والأب بعد ذلك إلى الأمور كلها، ومن ثم فهو لا ينظر إلى المجتمع ولا ينظر إلى الحوادث نظرة محايدة وإنما ينظر إليها من خلال إطاره المرجعي، بغض النظر عن كون هذا الإطار المرجعي يتفق مع ا

الأسرة هي الميدان الحقيقي لإشباع الطفل بحاجاته النفسية

الأسرة هي الميدان الحقيقي لإشباع الطفل بحاجاته النفسية تاسعاً: الأسرة ميدان لإشباع الحاجات النفسية والاجتماعية، هناك حاجات نفسية واجتماعية مهمة للطفل وحتى للمراهق، فهو يحتاج إلى الحب، يحتاج إلى التقدير، يحتاج إلى الانتماء، يحتاج إلى الهوية، يحتاج إلى المسئولية، هناك حاجات كثيرة، أين الميدان الحقيقي لإشباع هذه الحاجات؟ الميدان الأول هو ميدان الأسرة، وسنشير إن شاء الله حينما ننتقل إلى الإجابة على الشق الثاني كيف أن الأسر غير المستقرة تترك أثرها في تربية أولادها حين ذلك.

الأسرة أكثر حرصا على أفرادها

الأسرة أكثر حرصاً على أفرادها عاشراً: الأسرة أكثر حرصاً وانضباطاً في الغالب، مهما كانت الأسرة فإنها تحرص على أطفالها، حتى الآباء الذين عندهم نوع من الانحراف والتقصير كثير منهم لا يتمنى أن يكون أولاده مثله، والأمهات كذلك، فالأب دائماً يتمنى أن يكون ابنه خيراً منه، بل قد تراه يقول له بلسان المقال: إنني قد وقعت في هذه المشكلة، وقد وقعت في هذا السلوك السيئ، ولا أتمنى أن تكون مثلي، بل أتمنى أن تكون أفضل مني، بخلاف المؤسسات التربوية الأخرى. لهذا كله كنا بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار للأسرة ولرسالتها التربوية، والاهتمام بالأسرة ورسالتها التربوية ليس شأن المسلمين وحدهم اليوم، بل حتى المجتمعات الكافرة تدرك الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حين هدمت هذه المؤسسة، وأكتفي بهذه العبارة التي يقولها مفكر غربي مشهور: لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبدال تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالاً تاماً، ولهذا تترك الأمهات أطفالهن بدور الحضانة، نعم كانت غلطة عظيمة وشنيعة ينبغي أن يعيها المسلمون حتى لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون.

العوامل الأسرية التي تؤثر على الطفل

العوامل الأسرية التي تؤثر على الطفل ننتقل بعد ذلك إلى الإجابة على السؤال الثاني: كيف يمكن أن تفعِّل الأسرة وتؤدي رسالتها التربوية؟ وقبل أن أجيب على هذا التساؤل سأشير باختصار إلى بعض العوامل الأسرية التي تؤثر على الطفل وهي عوامل نستطيع أن نتحكم بقدر كبير منها، أول هذه العوامل: حجم الأسرة: فحجم الأسرة له أثر على تربية الطفل، مثلاً: الطفل الوحيد لأبويه غالباً ما يحاط برعاية تزيد عن الحاجة، ولهذا تصبح علاقات هذا الطفل بغيره على أساس أهمية مصالحه، وتظهر عنده الأنانية وحب السيطرة إلى آخره، بخلاف الطفل مثلاً الذي ينشأ في أسرة كثيرة الأطفال، فهذا غالباً يميل إلى النموذج السوي باعتبار أنه تعامل مع خليط وفئة عديدة من الأطفال، وباعتبار أن الحيز المتاح له من الاهتمام والديه به يبقى محدوداً باعتبار أنه توزع بين هذا العدد من الأطفال. تركيب الأسرة: من حيث وجود الأبوين، أو وجود الأب وحده، أو الأم وحدها، أو كونه يعيش مثلاً عند زوجة والده، أو يعيش عند زوج والدته، هذا له أثره، كذلك من حيث نسبة الذكور إلى الإناث، وترتيب الطفل بينهم، ولهذا نجد دائماً أن المرشد الاجتماعي يسأل عن معلومات عن الطفل أول ما يدخل المدرسة، وهذه المعلومات ليست من باب العبث، فهو يسأل عن حجم الأسرة، وترتيب الطفل بين أفراد أسرته، وترتيبه بين الذكور أو بين الإناث إلى آخره، هذا له أثر على الطفل وتنشئته وتربيته، كما أن انسجام أفراد الأسرة له أثر كبير على تنشئة الأطفال، فإذا وجد الأطفال في أسرة تعيش في جو تعاوني بعيد عن الخلافات والمشاحنات، فهذا يجعلهم أكثر استقراراً وأبعد من الانحراف والتأثر، ولهذا دلت بعض الدراسات على أن 75% من حالات الجنوح تحصل في أسر ضعيفة أو منعدمة التماسك.

كيف تؤدي الأسرة رسالتها؟

كيف تؤدي الأسرة رسالتها؟ أنتقل بعد ذلك إلى الإجابة على السؤال كيف، كيف تؤدي الأسرة رسالتها؟ ربما أشرنا إلى جزء من الإجابة على هذا السؤال حين أجبنا على السؤال الأول (لماذا؟)، فلم أحرص على أن يكون حديثنا عن أهمية الرسالة التربوية في الأسرة حديثاً مقتصراً على الإقناع بأهمية الرسالة فنحن ندركها جميعاً، وإنما حرصت على أن أختار من بين ما أشرت إليه ما يمكن أن نستثمره في تطوير أداء الرسالة التربوية للأسرة.

أهمية التعامل مع الأسرة على أنها مؤسسة اجتماعية

أهمية التعامل مع الأسرة على أنها مؤسسة اجتماعية أولاً: ينبغي أن نتعامل مع الأسرة على أنها مؤسسة اجتماعية، وينبغي أن يسهم المجتمع في تعزيز دور الأسرة، وأن ننظر على مستوى المجتمع على أن قضية الأسرة ليست قضية تعني الأب والأم وحدهما، لا، ليست تعني هذا الرجل وتلك المرأة، إنما هي قضية تعني المجتمع، إن المجتمع حين يهمل الاعتناء بالأسرة، فإنه لن يجلب المخاطر على ذرية رجل وامرأة، وإنما سيجلب المخاطر إلى المجتمع بأسره، فالمجتمع حين يعتني بالأسرة وحين يعزز دور الأسرة فإنه سيختصر كثيراً من الخطوات، وسيحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية، ولهذا فالحديث عن الأسرة ينبغي أن لا يكون مقتصراً على قطبي الأسرة وهما الأب والأم، فالأمر يعنيهما بدرجة مهمة ويعني بدرجة أهم المجتمع، المجتمع هو المسئول عن إتاحة الفرصة لبناء الأسر السليمة المستقيمة، المجتمع هو المسئول عن التحكم في العوامل والمؤثرات التي يمكن أن تقلص من دور الأسرة، ومن ثم فلترتقي أسرنا لتؤدي رسالتها التربوية لا بد أن نوسع نظرتنا إلى الأسرة، فننظر إليها على أنها مؤسسة تعني المجتمع، ومن ثم فأهل الرأي في المجتمع وأهل الفكر في المجتمع والمؤسسات التربوية والمؤسسات الاجتماعية اليوم ووسائل الإعلام ينبغي أن تضع هذا الأمر في الاعتبار: ماذا قدمت الأسرة على المستويين؛ على مستوى المطلب المحدود الذي يعني الأب والأم، وعلى مستوى مطلب المجتمع ككل؟ وحين تختار أسرة ما أن تسير على خلاف ثقافة المجتمع فإنها لا تجلب الضرر لها وحدها بل تجلب الضرر للمجتمع ككل، المجتمع الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل السفينة حين يخرق فيها خرق يغرق المجتمع كله. الأسرة التي تخرج شاباً منحرفاً طائشاً هل يقتصر العناء على هذه الأسرة وحدها، أم يتجاوز ذلك إلى المجتمع؟ الأسرة التي تخرج فتاة منحلة هل يقتصر أثر ذلك على الأسرة نفسها، أم أن ذلك يتجاوز إلى المجتمع؟ ومن ثم فالمجتمع ينبغي أن يطور نظرته، وأن يتعامل مع الأسرة ومع مؤسسات الأسرة على أنها قضية تعني أباً وأماً وتعني أيضاً المجتمع بأسره، ومن ثم فهو مسئول على أن يقدم للأسرة الإمكانات والخبرات التي تعينها على الارتقاء برسالتها، وهو مسئول عن تطوير أداء الأسرة، وهو مسئول عن حماية الأسرة من المؤثرات، ثم هو أيضاً بمؤسساته لا يسوغ له أن يتبنى أي اتجاه يهدم تأثير الأسرة، ولعله أن يأتي مزيد حديث بهذه القضية.

ضرورة أن تكون النظرة التربوية نظرة شمولية

ضرورة أن تكون النظرة التربوية نظرة شمولية ثانياً: لا بد من الشمول في النظرة التربوية، فالتربية حتى بمفهومنا الشرعي ليست مجرد أمر بالصلاة ونهي عن المنكر والفحشاء، وهذا أمر لا شك هو الأساس والأصل، لكنها أبعد من ذلك، إنها تبدأ أولاً بغرس الإيمان والتقوى في النفوس حتى تميل النفوس إلى حب الصلاة، وإلى حب الخير والطاعة، وإلى كره الفساد وأهله، ثم هي بعد ذلك تعلم ما يجب وما يحرم، وما يسوغ وما لا يسوغ، ثم هي بعد ذلك تربي على محاسن الأخلاق ومعالي الأمور، ثم هي تعتني بالجانب النفسي والاجتماعي والصحي، وترى أنها كلها منظومة واحدة يؤثر بعضها على بعض، ويتأثر بعضها ببعض، إن الحالة الدينية للشاب لا تنفك عن حالته النفسية، فالشاب الذي يعيش في أسرة لا تعطيه الإشباع النفسي والاجتماعي ولا تلبي حاجاته ربما يكون شاباً منحرفاً حتى إن نظرته للدين والمتدينين ستتأثر بهذا الحرمان النفسي والاجتماعي الذي عايشه، ولهذا نرى المربي الأول صلى الله عليه وسلم يرعى هذا الاعتبار، وأجتزئ هنا أمثلة يسيرة: ما هي قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم؟ الصلاة، قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، الوقت الذي يجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم السعادة والطمأنينة هو في الصلاة؛ ولهذا كان إذا حزبه أمر صلى الله عليه وسلم فزع إلى الصلاة، كان يصلي صلى الله عليه وسلم -وليس يصلي وحده وإنما كان يؤم أصحابه- فأتى أحد أولاده الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره صلى الله عليه وسلم فأطال السجود فاستبطأه أصحابه، ثم لما انصرف سألوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته)، النبي صلى الله عليه وسلم المعلم الواعظ البليغ المربي كان وهو يخطب في أصحابه وهم خيار الناس وخيار القوم يأتي الحسن ويتعثر، فيترك خطبته صلى الله عليه وسلم ثم ينزل من المنبر فيحمله ثم يعود إلى خطبته فيقول: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). إذاً: أولئك الذين عاشوا تربية تراعي هذا الجانب، وتلبي هذه الحاجات، وتنمي لديهم الثقة في النفس، وتنمي لديهم هذه القدرات والمهارات التي يحتاجون إليها، وتحقق عندهم الإشباع النفسي والعاطفي، خرجوا جيلاً قاد البشرية وأثر في البشرية. إذاً: فلا بد أن تتسع الدائرة التي ننظر من خلالها إلى مسئوليتنا التربوية، وألا تقتصر على مجرد الأمر والنهي، أو مجرد أن نعلمه الأحكام الشرعية وننهاه عما لا يسوغ له أن يفعله وإن كان هذا واجباً ومتحتماً ومتعيناً. يقول أحد التربويين الغربيين والحكمة ضالة المؤمن: لا تظنوا أنكم تربون الطفل عندما تتحدثون إليه فحسب أو ترشدونه أو توجهونه، بل إنكم تربونه في كل لحظة من حياتكم حتى وأنتم غير موجودين في البيت، ومما له أهمية: كيف تلبسون ثيابكم، وكيف تتحدثون مع الآخرين وعن الآخرين، وكيف تعاملون الأصدقاء والأعداء، وكيف تسرون وتضحكون.

ضرورة السعي في زيادة الخبرة التربوية لدى الآباء والأمهات

ضرورة السعي في زيادة الخبرة التربوية لدى الآباء والأمهات ثالثاً: لا بد من السعي لزيادة الخبرة التربوية من قبل الآباء والأمهات، وهذا يمكن أن يتم من خلال القراءة، وللأسف فإننا نكاد لا نقرأ كآباء وأمهات ما يتعلق بشئون التربية، إن المرأة ربما تقرأ في كتب الطبخ، والرجل يقرأ في قراءات كثيرة تهمه لكنه قلما يقرأ ما يعنيه في تربية أولاده ويعينه على ذلك. أيضاً: استشارة المختصين، والاستفادة منهم، ومجالستهم ومعاشرتهم، فإنهم يمكن أن يختصروا علينا خطوات كثيرة: كذلك استثمار اللقاءات العائلية التي كثيراً ما نلتقي فيها ونجتمع فيها، فعادة يلتقي الآباء بالآباء، والأمهات بالأمهات، لكن هذه اللقاءات كثيراً ما يدار فيها الحديث فارغ المضمون والحديث غير المفيد، ولو اجتزأنا جزءاً من وقت هذه اللقاءات لنتحدث فيه عن هموم أسرنا وعن تربيتنا لاستفدنا كثيراً، وكم ممن هو دونك في العلم يملك خبرات وعلوماً لا تملكها أنت، وما زال الأكابر يستفيدون من الأصاغر.

الاستفادة من تجارب الآخرين في مجال التربية

الاستفادة من تجارب الآخرين في مجال التربية رابعاً: الاستفادة من تجارب الآخرين، هناك تجارب كثيرة في التربية يمكن أن ترقى بخبراتنا ومهاراتنا، لكن مع الحذر من التعليم الخاطئ، قد تكون هناك تجربة نجح فيها فلان من الناس لا تنجح فيها أنت، وقد تكون تجربة نجحت فيها أنت لا أنجح فيها أنا؛ لأن التجربة لا يمكن أن تفصلها عن شخصية المربي، ولا عن البيئة التي يعيشها، ولا عن الشريحة التي يتعامل معها، وهذا لا يعني أن لا نستفيد منها، لكن يمكن أن نستفيد من كل هذه التجارب مع الحذر من التعميم، فحين نريد أن نعمم ينبغي أن نتأكد من مدى انطباق هذه التجارب على واقعنا. إذاً: القراءة، واستشارة المختصين، واستثمار اللقاءات العائلية، والاستفادة من تجارب الآخرين، كلها مما يمكن أن يزيد من خبرة الأسرة.

الاعتناء بالاستقرار الأسري

الاعتناء بالاستقرار الأسري خامساً: لا بد من الاعتناء بالاستقرار الأسري، وقد أشرنا قبل قليل إلى أثر الاستقرار الأسري على الانحراف وعلى الاستقامة، وأثره على سلوك الأطفال، وحينما نطالب بالاعتناء بالاستقرار الأسري فنحن نطالب بذلك على مستويين: المستوى الأول: على مستوى المجتمع، فالمجتمع ينبغي أن يسعى إلى تحقيق الاستقرار الأسري من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن خلال مراعاة ذلك في الأنظمة، فأنظمة العمل التي تحكم علاقات الناس لا ينبغي أن ينظر إليها نظرة مادية بحتة، بل ينبغي أن نتساءل ونحن نضع أنظمتنا، سواء النظام المقنن الذي يصبح قانوناً ونظاماً يلجأ الناس إليه، أو النظام العرفي الذي نتعارف عليه، ينبغي أن نضع في الاعتبار أثر هذه الأنظمة على الاستقرار الأسري، هناك بعض أنظمة العمل تعزل الأب عن أسرته، حيث تتعامل مع الأب على أنه آلة، إذا كان يصح في العالم الغربي أن يعمل الأب لساعات طويلة بعيداً عن أسرته فأظن أننا ينبغي أن نعيد النظر في هذا الأمر، وأرى أنه ينبغي أن نضع حداً أدنى لا نسمح لأحد بتجاوزه لما يقدمه من عمل ولو كان هذا يؤدي إلى مزيد من الإنتاج والثراء بالنسبة له أو بالنسبة للمجتمع، فإن العبرة ليست بالمادة ولا بالمقياس المادي، إن الخلل التربوي يكلف المجتمع مبالغ مالية باهظة حين ينحرف فرد من أفراد المجتمع، فالفرد حين يكون مدمناً يكلف المجتمع في علاجه الصحي، وفي علاجه النفسي والاجتماعي، بل المدمن حين يقع في جريمة يكلف المجتمع تكاليف مادية في سجنه وبعد سجنه، فلو حسبنا التكاليف المادية لرأينا أن التربية حتى بالمنظور المادي تختصر علينا خطوات كثيرة، وأننا لا ينبغي أن نتعامل مع الإنسان على أنه آلة. إذاً: فالمجتمع ينبغي أن يسعى إلى تعميق الاستقرار الأسري من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن خلال الأنظمة التي يضعها المجتمع، سواء أكانت أنظمة مقننة أو أنظمة عرفية يتعارف عليها المجتمع، ثم من خلال المؤثرات الإعلامية السيئة. ودعوني أضرب على ذلك مثالاً واحداً: المسرحيات التي تراها الأسر اليوم صباح مساء، ما هو أثرها على هدم استقرار الأسرة؟ المسرحية عبارة عن مجموعة ممثلين يقفون على خشبة المسرح، فيعيشون في صورة مثالية، المرأة تبدو أمام زوجها أولاً بمظهر لا تبدو عليه حتى وهي في بيتها في الواقع، والرجل كذلك، طريقة التعامل، الحوار، العلاقات إلى آخرها، ما أثر هذه المشاهد المتكررة على الأسرة؟ ثم المشاهد التي تتحدث عن الخلافات الزوجية والطلاق والمشكلات وكأنها وسيلة لتطبيع التفتت الأسري باعتباره ظاهرة طبيعية غير شاذة، ناهيك عن وسائل الإثارة التي تحدث أثراً غير مباشر، فالرجل الذي يرى صورة فاتنة في وسائل الإعلام ربما يقوده ذلك إلى مواقعة الفساد والبحث عن ما وراء ذلك، وكذلك المرأة، وهذا من أعظم ما يهدم ويؤثر على الأسرة. كذلك المسرحيات والتمثيليات التي تصور أم الزوجة على أنها أكبر عدو للزوج، وعلى أنها أكبر مشكلة تواجهه، وكيف يستطيع الزوج أن يتخلص ويتهرب من حماته، بل ربما ارتكب الجريمة للتخلص منها، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالمرأة، كل هذه تعطي رسالة وترسخ قيماً تؤثر على استقرار الأسرة، فمن مسئولية المجتمع أن يحد من هذه المؤثرات السيئة، وأن يقيم ما يراه من مؤثرات كمجلات المرأة والأسرة اليوم، والفقرات التي تقدمها وسائل الإعلام عبر القنوات الفضائية، وعبر شبكة الإنترنت من هنا وهناك، فكل هذه تهدم بنيان الأسرة وتزلزل استقرارها، والمجتمع مسئول عن الحد من هذه المؤثرات حتى يحمي الأسرة. إذاً: هذا المستوى مستوى محافظة المجتمع على استقرار الأسرة. المستوى الثاني متعلق بالأسرة نفسها، حيث ينبغي أن يشعر الآباء والأمهات أن الاستقرار الأسري لن تعود ثمرته عليهم هم وحدهم وإنما ستعود الثمرة بعد ذلك على الأبناء والبنات، بل وعلى المجتمع كله الذي سيجني ثمرة هؤلاء، ومن ثم لا بد من أن يسعى الزوجان إلى تقوية الاستقرار الأسري، والتضحية والتحمل في سبيل تحقيق مثل هذا الهدف.

ضرورة توفير الوقت الكافي للأسرة من قبل أفرادها

ضرورة توفير الوقت الكافي للأسرة من قبل أفرادها سادساً: لا بد من زيادة الوقت المتاح للأسرة، قلنا: إن الأسرة تملك وقتاً واسعاً وكبيراً تتعامل فيه مع أولادها، لكن اليوم ثمة عوامل كثيرة استغرقت جزءاً كبيراً من وقت الأسرة، ودعوني أضرب على ذلك ثلاثة أمثلة سريعة: التلفزيون: الأسرة تجتمع على طعام العشاء أو في جلسة الشاي أمام شاشة التلفزيون، وهذا يعني أنهم سيجتمعون صامتين ينظرون جميعاً إلى هذه الشاشة، هذا الوقت كان من الممكن أن يشغل بالحديث بين أفراد الأسرة، وهذا الحديث له أثره، فهذا الوقت الذي تعتقد فيه الأسرة أنها قضته مجتمعة في الحقيقة هي لم تقضه مجتمعة إنما قضته أمام ما يسميه بعض التربويين المجمع المفرق، جمعهم أبداناً وفرقهم عقولاً وأرواحاً. السائق: كم يأخذ من وقت الأسرة، اعتاد الأب أن يوصل أطفاله إلى المدرسة، وأن يوصلهم إلى هنا وهناك، ثم جاء السائق فصار يكفيه مئونة ذلك، وهذا ربما يوفر علينا وقتاً ويحل لنا مشكلة، لكن كم هو الوقت الذي يقضيه الولد مع السائق، هذا الوقت كان من الممكن أن يقضيه مع والده، ومثل هذا لا يخفى أثره النفسي والاجتماعي في تقوية الصلة بين الأب وأولاده، وأثره التربوي كذلك ففي الطريق يشاهد الأولاد مواقف وتمر بهم أمور تستحق التعليق، وتستحق التقويم، فماذا نتوقع من هذا السائق أن يغرسه في نفوس الأولاد؟! الخادمة التي تبقى مع الصغار وتأخذ منهم وقتاً طويلاً، بل ربما تقوم بإعداد الطعام لهم، وتقوم بتنظيفهم ومساعدتهم في ارتداء اللباس، وترعاهم في هذه المرحلة الخطيرة المهمة التي يحتاجون فيها إلى العطف، وإلى الحنان، وإلى الإشباع العاطفي الذي حرموه بسبب هذا الوافد الغريب، ولا أريد أن أستطرد في هذا، لكن أقول: هذه الثلاثة نماذج من الوقت الذي سرق من الأسرة وهي مع بعضها، يعني: الوقت الذي يأخذه السائق وتأخذه الخادمة ويأخذه التلفزيون، كان من الممكن أن يكون مع الأسرة جميعاً أو مع الأب أو مع الأم، فما بالك بما سوى ذلك. فهذا يدعونا إلى أن نزيد من الوقت المتاح للأسرة، فعلى الأب أن يعيد النظر في الفترة التي يغيبها عن منزله، سواء من حيث طول الوقت الذي يقضيه خارج المنزل، أو من حيث موقع هذا الوقت الذي يقضيه في المنزل من البرنامج اليومي، فالوقت الذي تقضيه في المنزل وأطفالك نائمين لا قيمة له، بعض الآباء يقضي وقتاً طويلاً في العمل، ثم يأخذ عملاً إضافياً أو ينشغل بارتباطات اجتماعية هنا وهناك فلا يرى أطفاله ولا يرى أسرته إلا نادراً، وقل مثل ذلك أيضاً في الأم، فالأم قد تعمل، وقد تنشغل، وقد ترى أن الخادمة تكفيها المئونة، فتتنازل عن جزء من وقتها للخادمة. أيضاً ينبغي ألا نسمح لأولادنا أن يقضوا معظم وقتهم خارج المنزل، لا بد من أن يكون هناك وقت يلتزم الأولاد بقضائه داخل المنزل مع الأسرة، لا بد إذاً من أن نزيد الوقت المتاح للأسرة، سواء الوقت الذي تكون الأسرة موجودة فيه فعلياً أو الوقت الذي نحسبه نحن على الأسرة وهو ليس محسوباً على الأسرة وقد أخذته العوامل الأخرى كما أشرنا قبل قليل.

إعطاء الأولوية للأسرة

إعطاء الأولوية للأسرة سابعاً: لا بد أن نعتبر الأسرة أولوية في أمور كثيرة، ولابد من أن نعيد تقويم عمل المرأة اليوم في ضوء مهمة الأم، ولا بد من أن نبتعد عن العقدة التي تجعل عمل المرأة مطلباً لذاتها. أظن أن قضية الموقف من عمل المرأة قضية واضحة وقضية لسنا بحاجة إلى تقريرها، لكن حديثنا اليوم عن عمل المرأة هل هو حديث موضوعي يمليه واقع المجتمع فعلاً أم هو حديث وافد من العالم الآخر؟ ألسنا نسمع كثيراً ونقرأ أن المرأة تقول: حصلت على شهادة ثم علقتها على الرف. إذاً: هل العمل غاية في حد ذاته للمرأة، أم أنه حين تكون هناك حاجة لعمل المرأة يصبح عملاً منتجاً؟ ثم لماذا نأتي إلى الخادمة التي تذهب إلى بيت وتعمل بأجر ونعتبرها امرأة عاملة، وتصنف في معيار العمل الذي تتبناه الأمم المتحدة على أنها امرأة عاملة، وأن المرأة التي ترعى أسرتها وتربيها وتقوم بأضعاف هذا الدور لا تعتبر عاملة؛ لأنها لا تتلقى على ذلك أجراً؟ أقول: ينبغي أن نتجاوز الحساسية التي نتعامل فيها مع هذه الأمور، وأن ننظر إلى عمل المرأة نظرة موضوعية، وأن تتساءل المرأة حين تعمل: ما أثر العمل على أسرتها وعلى أطفالها؟ لا اعتراض على عمل المرأة بشرطين: أن يكون له حاجة، وأن يكون في ظل الضوابط الشرعية، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، فهما ذكرتا أنهما محتاجتان إلى العمل لأن أباهما شيخ كبير، وأنهما التزمتا بالحشمة فلا تسقيان حتى يصدر الرعاء، فإذا تحقق هذان الشرطان لا اعتراض على العمل، لكن أيضاً ينبغي حينما تقوِّم المرأة رغبتها في العمل أن تنظر إلى هذا الأمر وهذا الاعتبار: ما أثر العمل على تربيتي لأطفالي وأسرتي؟ وينبغي أن تكون الأسرة أولوية، أن تكون أولوية في عندنا في اختيار السكن، وأن تكون أولوية في اختيار طبيعة العمل الذي يتجه إليه الأب، وهناك ارتباطات وقضايا أخرى كثيرة، المهم أن تكون الأسرة أولوية وليس كما هو الواقع اليوم أنها تأتي في آخر اهتماماتنا.

الاعتناء بالمشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة

الاعتناء بالمشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة ثامناً: لا بد من الاعتناء بالمشكلات الاجتماعية من خلال: أولاً: أن نحتوي المشكلات الاجتماعية قبل أن تقع ونقلل من أثرها. ثانياً: تهيئة البديل، فحين يوجد شباب أو فتيات يعانون من مشكلات اجتماعية يجب أن توجد لهم المدرسة بديلاً، وأن يوجد لهم الدعاة والمربون بديلاً يخفف على الأقل من أثر المشكلات الاجتماعية، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك قبل قليل.

أخذ الجانب التربوي بعين الاعتبار عند تعدد الزوجات

أخذ الجانب التربوي بعين الاعتبار عند تعدد الزوجات تاسعاً: لا بد من اعتبار الجانب التربوي عند التعدد، وتعدد الزوجات أمر مشروع لا نقاش فيه، لكن ينبغي للرجل حين يفكر في أن يعدد أن ينظر إلى أثر ذلك على التربية، وأن تتحقق فيه الشروط التالية: أولاً: لا بد من أن يعتبر ضمن القدرة على التعدد، فالذي لا يستطيع أن يربي أولاده يعتبر غير قادر على التعدد، وهذا أمر شرعي لا بد أن يضعه في الاعتبار، حين لا يستطيع أن يرعى أولاده ويربيهم ينبغي له أن يتوقف عن مثل هذا المشروع. ثانياً: لا بد أن يحسن التعامل مع التعدد، نحن أحياناً نمارس التعدد بطريقة خاطئة، فنحسن التعامل معه بما يتناسب مع التربية، من خلال مراعاة أول شرط وهو شرط العدل؛ لأنه حين يخل الزوج المعدد بالعدل فسيترك أثره ذلك على أولاده. ثالثاً: الوقت الذي يصرفه لأولاده، سواء الأولاد جميعاً أو هنا أو هناك. رابعاً: الزوج المعدد يختار السكن الذي يتناسب مع زوجته الأخرى فهذا مطلب ربما يكون منطقياً بالنسبة للزوجة، لكن بالنسبة لإشرافه هو على أولاده ورعايتهم ربما يكون مناسباً. خامساً: دور الزوجة وحكمتها، فالزوجة حين تبتلى بزوج معدد ينبغي لها أن تكون حكيمة في التعامل مع هذا الواقع، ألا تكوِّن عند أولادها نظرة سلبية تجاه والدهم، ألا تؤثر هذه النظرة، أن تجعل مشكلتها مع زوجها ومشكلتها مع هذه الضرة الوافدة قضية تخصها، فلا تظلم أولادها ولا تؤثر عليهم من خلال نقلهم إلى مثل هذا الواقع. أعرف أن هذه النقاط الثمان التي ذكرت غير كافية في الإجابة على هذا السؤال (كيف نرتقي بالأسرة لتؤدي هذه الرسالة؟) لكن هذا قدر ما يسمح به هذا الوقت، ولعلنا أن نكون من خلال هذا الحديث قد أجبنا على هذين السؤالين: لماذا الأسرة اليوم مدعوة إلى أن تسعى لتعزيز الرسالة التربوية؟ ثم كيف تحقق ذلك؟ وما ذكرناه لا يعدو أن يكون أمثلة ونماذج. أسأل الله عز وجل أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يجعلنا للمتقين إماماً، وأن يصلح ذرياتنا وأزواجنا إنه سميع مجيب، وأترك ما تبقى من وقت للإجابة على بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

بعض الكتب المختصة بتربية الأبناء

بعض الكتب المختصة بتربية الأبناء Q حبذا لو ذكرتم لنا بعض الكتب التربوية المتخصصة في الجانب الأسري، وكذلك المحتوية على بعض الحلول العملية لمشاكل الأطفال؟ A كتب التربية الأسرية كثيرة ومتنوعة في كافة المجالات، فهناك كتب تعتني بالأطفال، وهناك كتب تعتني بالمراهقين، وهناك كتب تعتني بتربية الفتاة، وهناك كتب تعتني بتربية الشاب والابن، فربما لا نستطيع في هذه العجالة أن نذكر نماذج لمثل هذه الكتب، وأظن أنك حينما تزور أي مكتبة فإنك ستجد العديد من هذه الكتب المناسبة. بعض الكتب التي تصف الحلول العملية لمشاكل الأطفال هناك كتب كثيرة ركزت على مشاكل الأطفال، أولاً: الكتب التي اهتمت بتربية الأطفال جزء منها يتناول هذا الجانب، وهناك بعض الكتب منها سلسلة حول المشكلات السلوكية للأطفال، عن الكذب والسرقة والجنوح. والتلفزيون، وغير غيرها من المشكلات التي يمكن أن يواجهها الأطفال فهي سلسلة جيدة وموجهة يمكن أن تفيدنا في مثل هذا الأمر.

كيفية التعامل مع الولد الناشئ بين بنات والعكس

كيفية التعامل مع الولد الناشئ بين بنات والعكس Q ما هي الوسائل التربوية المناسبة للتعامل مع الولد الذي ينشأ بين أخواته البنات؟ A هذه القضية لا نستطيع أن نتحكم فيها، ولا شك أنه إذا كان عدد الأطفال أقل سيتيح فرصة تربوية أكثر، لكن هذا لا نتحكم فيه بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكثرة النسل، وقال: (إني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، كذلك تربية الابن بين جماعة من البنات والعكس، فالابن حينما ينشأ وحيداً؛ ليس له إخوة يتأثر بجو البنات أو العكس، والحل لذلك أنه يمكن أن نوجد له علاقات مع بعض أقاربه من أبناء عمه أو أبناء خاله فيقضي معهم وقتاً أكثر حتى ينمو بطريقة اجتماعية صحيحة كونه يعيش بين البنات وحده فيتأثر والعكس كذلك بالنسبة للبنت.

أثر الزواج المتأخر في تربية الأولاد

أثر الزواج المتأخر في تربية الأولاد Q هل لكبر سن الأب أو الأم أو الزواج المتأخر أثر في تربية النشء؟ A نعم له أثر من حيث الحمل نفسه، وله أثر من حيث نضج الشخص، ولا شك يعني حين يأتيه الأطفال على كبر سن يختلف حين يأتيه الأطفال وهو في سن الشباب، ولهذا نجد مثلاً أحياناً بعض كبار السن الذي يأتيه آخر الأطفال وهو كبير السن لا يتعامل معه تعاملاً متزناً، فيعطيه قدراً من الاهتمام أكثر من غيره وهذا يترك أثراً سيئاً بالنسبة له.

كيفية التعامل مع الطفل الذي يصدر عنه سلوكيات خاطئة

كيفية التعامل مع الطفل الذي يصدر عنه سلوكيات خاطئة Q يقوم الطفل أحياناً بسلوكيات خاطئة فكيف يغير هذا السلوك، مع العلم أني أمنعه من أشياء لمدة يوم أو يومين ثم ما ألبث أن أتراجع عن ذلك؟ A أولاً: هناك قدر من سلوك الأطفال يجب أن نعده في إطار الطبيعي، فلا ننتظر منهم أن يكونوا نموذجاً مثالياً، هذه طبيعتهم، فينبغي أن نتقبل قدراً مما نرفضه، ثم أيضاً إتاحة البديل، ووضع الفرص، والاستفادة من اللعب وتوجيهه تربوياً يمكن أن يقلل كثيراً من مثل هذه المواقف التي تستدعينا إلى أن نغضب على أطفالنا.

الفرق بين الانترنت والبث المباشر من حيث الأثر في تربية الأولاد

الفرق بين الانترنت والبث المباشر من حيث الأثر في تربية الأولاد Q ما هو الفرق بين الإنترنت والبث المباشر وأثرهما في تربية النشء؟ A هناك جوانب لصالح الإنترنت والعكس، البث المباشر غالباً التحكم فيه محدود، يعني: الشخص أمام الشاشة لا يمكنه إلا أن يغير القنوات فقط، وغالباً يركز على الإثارة والإغراء أكثر من المادة الثقافية وهو اتصال من طرف واحد، أما الإنترنت فمجال الاختيار فيها واسع، ما بين سيئ وما بين صالح، فسيئها أسوأ مما في القنوات، وصالحها ربما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها تفاعل، فهي من جهة فيها فرص أفضل وفيها مخاطر أكثر.

دعوة المجتمع إلى رعاية الأسرة لا يعني أنها ليست جزءا من مكوناته

دعوة المجتمع إلى رعاية الأسرة لا يعني أنها ليست جزءاً من مكوناته Q أنت حملت المجتمع مسئولية الأسرة، أليست الأسرة هي أساس المجتمع، فلماذا لا تكون الأسرة مسئولة عن المجتمع بالقدر نفسه؟ A ليس هذا خروجاً عن هذا التوجيه، وأظن أن كل حديثنا هو جزء من محاولة أن نقوم بجزء من مسئولية الرعاية للأسرة، لكن لا ننظر إلى المجتمع على أنه مجموعة أسر فقط، إنما هو مجموعة أسر، ثم هناك قيم اجتماعية، وروابط اجتماعية، وهناك عوامل أخرى ليس فقط هو مجرد مجموعة أفراد، فالمجتمع عدة أفراد، لكن الأفراد كلهم أيضاً لا يشكلون المجتمع بل أضف إلى ذلك طبيعة العلاقات الاجتماعية، وأثرها، فهي تولد علاقات أخرى، وتولد طريقة تفكير، وتولد عوامل أخرى لها أثر، ثم إن المجتمع في علاقاته وصفاته يختلف عن الأسرة بهمومها التي غالباً تتمحور حول ذاتها.

اجلس بنا نؤمن ساعة

اجلس بنا نؤمن ساعة تعد التربية الإيمانية اليوم ضرورة ملحة؛ لجريان سيل بلاء هذا العصر المتحضر بجملة من المشكلات العظيمة التي لن يجد لها الناس حلاً في غير التربية الإيمانية، كما أن هناك جملة من الأسباب الأخرى تدعو إلى التربية الإيمانية لتحقيق الكمال البشري المنشود.

أهمية التربية الإيمانية للنفوس

أهمية التربية الإيمانية للنفوس الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان حديثنا: (اجلس بنا نؤمن ساعة). وهي مقولة لـ معاذ رضي الله عنه، كان يقولها لأصحابه، أو هي حديث عن التربية الإيمانية وحاجتنا إليها، وقد يشعر بعض الناس بادئ ذي بدء حينما يسمعون الحديث عن التربية بأن هذا الحديث يخص فئة من الناس هم أولئك المربون، سوء كانوا آباءً أو أساتذة أم كانوا مربين للجيل والناس الذين يستمعون لكلمتهم ويقتدون بأعمالهم. فالبعض حين يسمع الحديث حول هذا الموضوع يسقطه من ذهنه، ولسان حاله يقول: هذا ليس خطاباً لك. وهذا التصرف يعتمد على فهم قاصر للتربية؛ وهو أن التربية ما يتلقاه الإنسان ممن يربيه أياً كان هذا المربي، وهذا أمر -لاشك- له أهميته ودوره، والشرع قد اعتنى به، لكن هناك جانب مهم لا يقل أهمية عن هذا، ألا وهو أن الإنسان مسئول عن تربية نفسه، فعليه أن يسعى لتربية نفسه وتزكيتها وتهذيبها، والله تبارك وتعالى قرر في كتابه في غير ما آية المسئولية الفردية للإنسان، فقال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38 - 39]، وقال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80]، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. فهذه النصوص وغيرها تقرر المسئولية الفردية، وهي أن كل إنسان مسئول عن خاصة نفسه، في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو -نتيجة هذه المسئولية- سيحاسب وحده وسيلقى الله عز وجل وحده. فهذا مدخل بين يدي هذا الموضوع حتى لا نتصور أن الموضوع لا يعنينا بدرجة مهمة، أو أن الموضوع إنما يخص المربين. نعم، وإن كان المربون لهم نصيب من هذا الحديث ومن هذا الخطاب، إلا أننا كلنا -أيضاً- نحتاج لمثل هذا الخطاب وهذا الحديث؛ لأننا يجب علينا أن نقوم بتربية أنفسنا، وندرك مسئوليتنا تجاه أنفسنا، وينبغي أن يراجع كل منا نفسه، ويشعر بأنه إن رزقه الله بمن يحسن تربيته وتوجيهه، فصار قدوة له، لا يعفيه ذلك من المسئولية عن نفسه، بأن يجتهد في تربية نفسه وإصلاحها، وأن يتعرف على الأسباب والوسائل التي تعينه على التربية السليمة لنفسه.

تعدد جوانب التربية

تعدد جوانب التربية والتربية لها جوانب عدة، والتربية إنما تسعى لاكتمال شخصية الإنسان، وأن تكون الشخصية هي الشخصية المسلمة التي تمتثل بأمر الله عز وجل، وتنتهي عما نهى الله تبارك وتعالى عنه. ولا شك أن النفس لها جوانب متعددة، ومن هنا كانت التربية -أيضاً- لها جوانب متعددة؛ باعتبار أنها تسعى إلى تكميل النفس، وتسعى إلى الرقي بها؛ لذلك صارت لها جوانب عدة، فالإنسان -مثلاً- يحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان التعلم وطلب العلم وتحصيل العلم، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان الخلق والسلوك والتعامل مع الناس، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان العمل والبذل والعطاء، وفي ميادين كثيرة، ومن أهم هذه الجوانب وآكدها التربية الإيمانية، تربية الإيمان في النفس.

سبب استعمال مصطلح (التربية الإيمانية)

سبب استعمال مصطلح (التربية الإيمانية) وآثرنا استخدام هذا المصطلح؛ لأنه هو المصطلح الذي يربط الناس بالألفاظ الشرعية، بالإيمان الذي دلت عليه النصوص المتظافرة المتواترة، فحين تقرأ في كتاب الله عز وجل أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كم تصادفك كلمة الإيمان! حيث تجد وصف الناس بالإيمان أو وصفهم بارتفاع الإيمان عنهم، أو الدعوة للإيمان، أو بيان أثر الإيمان ونتيجته وقيمته، لا يكاد يخطئك ذلك في أي آية من كتاب الله عز وجل تقرؤها، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل ذلك إنما مداره على الإيمان؛ لأن الأمر الذي يؤمر به المرء أو الذي ينهى عنه من حكم، أو خلق، أو سلوك، والوعد والوعيد، والإخبار عن الهالكين والناجين، كل ذلك مرتبط بدائرة الإيمان، فحين يؤمر المرء بأمر فإنه يؤمر بمقتضى الإيمان ونتيجته، وحين ينهى عن أمر فانه ينهى عن ذلك بمقتضى إيمانه، وحين يأتي إخبار الله عز وجل عما أعد للصالحين الصادقين، فإن هذا إخبار عن جزاء أهل الإيمان ونتيجة الإيمان، وحين يخبر تبارك وتعالى عن عذاب المعرضين الغافلين، فهو إخبار عن عذاب أولئك الذين تنكبوا طريق الإيمان وضلوا عنه، وقصص الأولين والآخرين هي -أيضاً- قصص أولئك الذين أعرضوا عن الإيمان أو استجابوا للإيمان، كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]، فما قصه الله عز وجل إنما هو خير قرية آمنت فجازاها الله عز وجل بجزاء الدنيا والآخرة، أو قرية أعرضت عن الإيمان فعاقبها الله عز وجل وأخذها نكال الدنيا ونكال الآخرة. أقول: آثرنا أن نستعمل هذا المصطلح، وأن نتحدث حول هذا اللفظ؛ لأنه المصطلح الذي جاء الشرع به، ودل الشرع عليه في نصوص القرآن والسنة وتواترت نصوص السلف في الحديث حول هذا الأمر كما سيأتي. وقد يستعمل بعض الناس مصطلحات أخرى كالتربية الروحية أو غيرها، وهي مصطلحات بعضها إما موروث من أهل التصوف، وإما موروث من النصارى، وإما لفظ مستحدث، وكلما اقتربنا والتزمنا بالألفاظ الشرعية كان ذلك أولى.

أسباب الحاجة إلى التربية الإيمانية

أسباب الحاجة إلى التربية الإيمانية

كون الإيمان أفضل الأعمال

كون الإيمان أفضل الأعمال لماذا -معشر الإخوة- نحن نحتاج إلى التربية الإيمانية؟ ويكاد يكون حديثنا إجابة على هذا السؤال، فما سيأتي من حديثنا كله إجابة على هذا السؤال. أولاً: نحتاج نحن إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان هو أفضل الأعمال، وهو القضية الأساسية للمسلم في هذه الحياة، فالمسلم إنما يدعى للإيمان، ويسعى إلى تحقيق الإيمان، والإيمان هو أفضل الأعمال كما أخبر صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فحين سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله هو أفضل الأعمال، وفي حديث أبي ذر في الصحيحين أنه حين سئل قال: (إيمان بالله عز وجل). ولو استعرضت ما أجاب به صلى الله عليه وسلم أولئك الذين سألوه عن أفضل الأعمال لوجدت أن هذه الإجابات مع اختلافها، وتنوعها بحسب تنوع حال السائل، كلها مدارها على الإيمان، فيجعل صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأعمال الإيمان بالله عز وجل، وحين جاء وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! لقد حال بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فلا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا. قال صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟) ثم ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من شرائع الإيمان. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هذا الوفد أن يأمرهم بأمر فصل، وحين سأله هؤلاء أن يبين لهم أمراً يستغنون به، ويعلمون به من وراءهم؛ إذ هم لا يستطيعون أن يصلوا إليه إلا في الشهر الحرام؛ أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده.

حصول النجاة بالإيمان يوم القيامة

حصول النجاة بالإيمان يوم القيامة الأمر الثاني: أن الإيمان هو مناط النجاة يوم القيامة، فنجاة المرء يوم القيامة إنما هي بإيمانه، فلن ينجو إلا المؤمنون، ومن أعرض عن الإيمان وتنكب الطريق واختار الكفر بالله عز وجل؛ فلن يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)، ويقول: (والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة). فأساس النجاة يوم القيامة ومناط النجاة إنما هو مرتبط بهذا الإيمان بالله عز وجل، فمن حقق الإيمان استحق النجاة يوم القيامة، ومن كفر بالله عز وجل وأعرض عنه فإنه مستحق للهلاك والبوار، وعقوبة الدنيا التي يعاقب الله عز وجل بها المعرضين إنما مردها الإعراض عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، يقول تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].

دوران التفاضل يوم القيامة على أساس الإيمان

دوران التفاضل يوم القيامة على أساس الإيمان الأمر الثالث: أن الناس يتفاوتون يوم القيامة على أساس الإيمان بالله عز وجل، على أساس إيمانهم وصلتهم بالله تبارك وتعالى، فهم -أولاً- يتفاوتون في المرور على الصراط كما تعرفون في النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يؤتون نوراً على قدر إيمانهم، بل في كتاب الله عز وجل يقول تبارك وتعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]. إذاً: هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها أنهم يوم القيامة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهذا النور إنما يؤتونه على أساس الإيمان، ويتفاوت هذا النور، فمنهم من نوره مد البصر، ومنهم من نوره دون ذلك، ومنهم من نوره بين قدميه، ومنهم من ينطفئ تارة ويضيء تارة. إذاً: فالعبور على أساس الصراط إنما يتفاوت على حسب الإيمان، فهم -أولاً- يؤتون نوراً على هذا الصراط المظلم على أساس إيمانهم، فعلى قدر إيمان المرء يعطى النور على الصراط، وهي قضية متلازمة، فالله عز وجل أمر عباده في الدنيا أن يسيروا على صراطه المستقيم فقال تبارك وتعالى آمراً إياهم بسؤاله الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]، فأمر الله عز وجل الناس أن يسيروا على الصراط المستقيم في الدنيا، والمرء لا يستطيع أن يبصر الصراط إلا بالنور، فيبصر صراطاً مستقيماً في الدنيا بنور الإيمان، فكلما قوي إيمان المرء في الدنيا أعطاه الله عز وجل بصيرة يبصر بها الصراط أمامه حتى لا يضل ولا يزيغ، فيصبح يرى الطريق أمامه واضحاً جلياً، وإنما يلبس على المرء ويضل بسبب إعراضه كما قال تبارك وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:110 - 111] إلى آخر الآيات. فيخبر تبارك وتعالى أن هؤلاء -كما أنهم أعرضوا أول مرة- قلب الله أفئدتهم وأبصارهم، فصار الإيمان مستحيلاً لديهم، ولو أنزل الله عز وجل الملائكة، ولو كلمهم الموتى، والمقصود هنا: أن السبب في إضلالهم هو أنهم لم يؤمنوا أول مرة. وأيضاً في آية أخرى يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28]، وهذه الآية ذكرت في سورة الحديد، وفي السورة نفسها ذكر الحديث عن بعض ما يكون على الصراط، فأخبر الله عز وجل أن المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا أعطاهم نوراً يمشون به في الدنيا، فالإنسان يسير على صراط الدنيا يحتاج إلى أن يتضح له الطريق، فيحتاج إلى النور الذي يضيء له الطريق، وهو الإيمان الذي ينير له الطريق، فيجعل الله له في هذا الإيمان نوراً يبصر به، ويرى به الحق، ويوم القيامة يعطى نوراً على الصراط في الدار الآخرة كما أعطي هذا النور، فعلى قدر الإيمان على هذا الصراط، ووضوح الأمر لديه يؤتى نوراً يوم القيامة، وعلى قدر ثباته على صراط الدنيا يكون ثباته على الصراط يوم القيامة. فهم -إذاً- يتفاوتون على الصراط على أساس النور الذي يعطون إياه، وهم يتفاوتون في سرعة مرورهم على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح وهكذا، وكل هذا مداره على أساس الإيمان. قلنا: إنهم يتفاوتون في المرور على الصراط على أساس الإيمان، ويتفاضل -أيضاً- أهل الجنة فيما بينهم وإن دخلوا الجنة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم)، فهو ينظر إلى منازل من سبقه كما ينظر الإنسان إلى الكوكب من شدة التفاوت بينهم في هذه المنازل. (قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). هذا الحديث في الصحيحين يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في الجنة في الدرجات، وأن أولئك الذين رزقهم الله عز وجل هذه المنازل التي يتراءاها الناس كما يتراءون الغرف، أنهم هم أولئك الذين آمنوا بالآخرة وصدقوا المرسلين. إذاً: فعلى قدر إيمان المؤمنين تتفاوت منازلهم في الجنة، حتى لو دخلوا الجنة، فهم يتفاوتون في الجنة على أساس الإيمان. كما أن العصاة من الموحدين -كما تعلمون- يبقون في النار ثم يخرجون منها، فيقول الله عز وجل: (

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله بذلك

زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله بذلك رابعاً: من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، والأدلة على ذلك مشهورة، يقول الإمام البخاري في صحيحه: [كتاب الإيمان. باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس). وهو قول وفعل يزيد وينقص؛ قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقوله جل ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]]. ونقل القول بذلك أبو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وعن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وأيضاً قال رحمه الله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار كلهم على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وينبني على مسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة أخرى، وهي تفاضل أهل الإيمان فيه، فإذا كان يزيد وينقص فهذا يعني أن أهله يتفاضلون فيه، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب عليه قميص يجره. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين). وبوب على هذا الحديث الحافظ ابن مندة في كتابه الإيمان (باب: ذكر ما دل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه). وقال: هذا الحديث مجمع على صحته. فالمقصود إذاً أن هذه الأمور مقرة عند أهل السنة، أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله يتفاضلون فيه، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يحرص على زيادة إيمانه قدر الإمكان، ويحرص -إذا علم أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه- على أن يسعى إلى أن يصعد إلى المراتب العالية بهذا الإيمان، وفي المقابل أيضاً يحمي إيمانه من أن يصيبه النقص أو الضعف.

دعوة الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده

دعوة الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده خامساً: الدعوة في الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده. روى الحاكم والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). وروى ابن أبي شيبة في الإيمان، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (القلوب أربعه: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلق فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء خبيث وطيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلبه)، هذا روي عن حذيفة رضي الله عنه موقوفاً عليه، وقد رواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح. وروى ابن أبي شيبة في الإيمان عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيماناً. وروى -أيضاً- ابن أبي شيبة في الإيمان، والإمام أحمد وأبو عبيدة في الإيمان، والبخاري تعليقاً، وصحح ذلك الحافظ ابن حجر عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: اجلسوا بنا نؤمن ساعة. يعني: نذكر الله تعالى. وروي عن الأسود بن هلال قال: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه. وعلى كل حال فالنصوص كثيرة في الدعوة إلى تجديد الإيمان وتعهده في النفوس، وقد صنف السلف في ذلك كتباً خاصة في الإيمان، والمقصود أن ما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأمرهم به من أن يجددوا الإيمان في قلوبهم ويزدادوا إيماناً، وما ورد عن سلف الأمة، يدعونا إلى أن نسعى إلى تعاهد الإيمان في نفوسنا، وإلى تربية الإيمان في نفوسنا، وإلى السعي إلى زيادته في أنفسنا، وأيضاً يدفع ويدعو من يتولى التربية إلى أن يجعل هذه القضية من أهم القضايا، ومن الأولويات الذي يتربى عليها الجيل ويتربى عليها الناس، ولعلنا نتساءل، ونحن قد سمعنا هذه النصوص عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أحدهم يقول لصاحبه: اجلس بنا نؤمن ساعة، أو يقول: امشوا بنا نزدد إيماناً، فنتساءل: كم هي المجالس التي نجلسها مع إخواننا؟! أي: المجالس الخاصة، دع عنك الدروس والمواعظ وغيرها، إننا نجلس ساعات طوال في المجالس، أو ربما نسير في السيارة، أو نجلس هنا وهناك، فكم يستغرق حديثنا عن هذه القضايا من وقت؟! وهل حين نجلس مثل هذه المجالس يذكر بعضنا بعضاً بقضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، ونسعى إلى أن تكون هذه المجالس تزيدنا إيماناً؟! وبعبارة أخرى أن أحدنا كثيراً ما يلقى أخاه في الله، فهل هو يشعر أنه حين يلقاه ويتحدثان يزدادان إيماناً، ويشعر أن هذا اللقاء يزيده إيماناً وصلة بالله عز وجل؟! أو أنه يلقاه كما يلقى غيره، بل ربما كانت بعض المجالس مدعاة لقسوة القلب والبعد عن الله تبارك وتعالى. وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن يكون الحديث في قضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، والمجالس التي تزيد الإيمان، ليس بالضرورة أن يكون موعظة مثل التي يلقيها الإنسان بعد الصلاة، أو في مجلس علم يحضره، أو في حديث رسمي كما يقال، ليس بالضرورة هذا ولا ذاك. يا أخي! أنت تتحدث مع أخيك في المجلس أو في السيارة أو حتى في الهاتف أو هنا وهناك، فما الذي يمنع من وصيته أو تذكيره بالله عز وجل فيزداد بعضنا إيماناً بالله؟! إذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا تواصوا ليزدادوا إيماناً، وهم من هم في الإيمان والصلاح والتقوى؛ فغيرهم من باب أولى.

إعانة الإيمان صاحبه على الثبات في مواجهة الشهوات

إعانة الإيمان صاحبه على الثبات في مواجهة الشهوات الأمر السادس: أن الإيمان هو الزاد الذي يعين المرء على الثبات في مواجهة الشهوات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ويذكر منهم صلى الله عليه وسلم رجلاً دعته امرأة إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله عز وجل، فمنعه من مواقعة ما حرم الله تبارك وتعالى خوفه من الله عز وجل، وإيمانه بالله تبارك وتعالى، والله عز وجل يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. وأخبر تبارك وتعالى أن الشهوات قد زينت للناس، وهذا الكلام في عصر النبوة، فما بالكم بهذا العصر الذي نعيشه، وقد فتحت فيه الأبواب على مصاريعها، وصارت الشهوات تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة، وتلاحق الصغير والكبير في السوق، والشارع، بل حتى في المنزل، وصار الناس يشتكون من جحيم هذه الشهوات وآثارها، وكيف أنها تصرف الكثير عن طاعة الله عز وجل، وربما كانت سبباً في الانحراف وسبباً في الضلال والغواية عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك؟! ولو تأملت حال الكثير ممن ضلوا وتنكبوا الطريق، لوجدت أن الكثير من هؤلاء إنما أتي من هذا الباب. ويتساءل كثير من الناس ما العلاج وما الحل أمام هذا السيل الجارف من الشهوات الذي صار قضية لا يكاد الإنسان يستطيع أن يمنع أبناءه منها، ولا يستطيع الناس في المجتمع أن يمنعوا الناس من مقارفتها ولا من رؤيتها، وصارت مشاهدها تلاحق الناس في كل مكان، مما يشاهده الناس على الشاشة أو في المجلات أو في الصحف، حتى إذا عوفي الإنسان من هذا كله وعافاه الله عز وجل، فإنه قد لا يعدم أن يحدثه زميله مثلاً في الفصل عن شيء من ذلك أو يدله عليه. المهم أن هذه الشهوات أصبحت مشكلة الجميع، وأصبحت مشكلة الشاب نفسه الذي يخاف على نفسه، والذي يحمل بقلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، فلا شك أنه يخشى على نفسه من هذه الشهوات وآثارها، وأصبحت مشكلة الأب الذي يخاف على أبنائه، ومشكلة الأم التي تخاف على أولادها، ومشكلة الأستاذ والمربي الذي يخاف على هذا النشء الذي تعاهده بالتربية والإصلاح، يخاف أن تجترفه هذه السيول، فتفسد في لحظات ما بناه هو في دهور وسنوات. لقد صارت مشكله فعلاً يعاني منها المسلمون ويتساءلون: ما الحل؟ الحل -يا إخوة- هو في الإيمان، في تربية الإيمان في النفوس، الإيمان الذي يجعل الشاب ويجعل الفتاة ويجعل الإنسان يعرض أصلاً عن أبواب هذه الشهوات وطرقها، الذي يجعله بغض بصره ابتداءً، الذي يجعل في ذهنه قضية تشغله أكبر من قضية الشهوة، فبدلاً من أن يفكر في الشهوة وبدلاً من أن تسيطر عليه، صار يسيطر عليه هم أكبر من هذا كله، صار مشغولاً بالله والدار الآخرة، صار مشغولاً بزيادة الإيمان وتقوى الله عز وجل، صار مشغولاً بعيوب نفسه ومعاصيها وكيف يصلح نفسه، صار همه الشوق إلى لقاء الله عز وجل، والأنس بذكر الله تبارك وتعالى، وتلاوته الكتاب وعبادته ربه تبارك وتعالى، فصار لسان حاله يقول للناس، وهو يراهم صرعى الشهوات: يا قوم! أنتم في واد وأنا في واد، لكم هم ولي هم آخر. فحين يقوى الإيمان في النفس يصبح هذا حال الشهوة، وهذا لسان حاله، فيكون هذا بإذن الله عاصماً له وحامياً له، حتى لو أتته الشهوات تسعى إليه فإنه يعرض عنها، ويصبح -كما قال صلى الله عليه وسلم- يقول: (إني أخاف الله عز وجل)، وكما قال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. ولاشك -يا إخوة- في أن الوقت والمرحلة التي نعيشها الآن التي فتن الناس فيها بالشهوات مدعاة إلى أن نراجع برامجنا التربوية، أن يراجع المربون ما يربون عليه الناس، وما تتربى عليه الأمة، فالآن الملايين من المسلمين يرون أبواب الشهوات مفتوحة أمامهم، ويرون أبواب الفتن والضلال بكل ألوانها مشرعة أمامهم، فماذا يتلقون؟! ماذا يتلقى الطلاب في مدارسهم؟! وماذا تتلقى الطالبات في مدارسهن؟! هل يتلقون ويتعلمون ما يربي الإيمان في النفوس، وما يقوي الإيمان ويصل الإيمان بالله عز وجل؟! ماذا يسمع هؤلاء في وسائل الإعلام؟! وماذا يقرءون في الصحف التي يقرءونها صباحاً ومساء؟! ووسائل التوجيه التي تخاطب الناس والتي تحدث الملايين، ما مدى عنايتها بتربية الإيمان في النفوس، وغرس الإيمان في النفوس؟! إذا كانت الأمة جادة في التربية، وإذا كانت الأمة جادة في الإصلاح، وإذا كانت قضية الدين والعقيدة الإسلامية قضية تعني الأمة بجد، فيجب أن توجه وسائل التربية والتوجيه في الأمة إلى غرس الإيمان في القلوب، فتتعاهد الأمة بتربية الإيمان، وتوجه وسائل التربية والتوجيه كلها في المجتمع لتحقيق هذه القضية، وماذا تريد الأمة من إنسان متعلم ومثقف لكن قلبه خال من الإيمان بالله عز وجل وتقواه؟! وماذا تريد

إعانة الإيمان صاحبه على تجاوز ما يقع فيه من المعاصي حال ضعفه

إعانة الإيمان صاحبه على تجاوز ما يقع فيه من المعاصي حال ضعفه الأمر السابع: أنه حين يقع في المعصية فالإيمان هو الذي يعين على تجاوزها، فقد يوقع الإنسان نفسه في المعصية في حالة ضعف وجبن واستيلاء الشيطان عليه، فإذا كان الإنسان تربى على الإيمان وعلى التقوى لله عز وجل؛ فإنه سرعان ما يستقيم، يقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:133 - 135]. إذاً: هذه حال المتقين: إذا وقعوا في معصية ذكروا الله عز وجل، فتجاوزوا هذه المعصية. وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]، فالمتقون قد يصيبهم طائف من الشيطان، فقد يسول لهم الشيطان، فيوقعهم في أمر محرم أو تقصير في واجب شرعي، لكن هذا الإيمان والتقوى في نفوسهم سرعان ما يدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والازدياد من الحسنات فيزدادون إيماناً بعد ذلك، ويفعلون من الطاعات أضعاف ما عملوا من السيئات؛ حتى يكون ذلك مدعاة لتطهير أنفسهم من السيئات ورجسها، وزيادة إيمانهم بعد ذلك. إذاً: صاحب الإيمان -يا إخوة- لو واقع المعصية؛ فإنه هو أقرب الناس إلى المبادرة للتوبة والإقلاع والاستغفار منها.

إعانة الإيمان صاحبه على الثبات عند البلاء والإغراء

إعانة الإيمان صاحبه على الثبات عند البلاء والإغراء ثامناً: الإيمان بالله عز وجل هو المعين على الثبات عند الابتلاء والإغراء، فالمرء قد تصرفه الشهوات كما قلت، ويضل عن طريق الله عز وجل، لكنه أيضاً قد يبتلى، والله تبارك وتعالى أخبر أن من لوازم الإيمان أن يبتلى الإنسان، يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، ويقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، لاحظوا هنا التعبير: (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) فلم يقل: من يؤمن بالله؛ لأنه لو آمن بالله حق الإيمان لما حصل له هذا الأمر، كما قال هرقل لـ أبي سفيان حين سأله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل يرتد أحد من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- سخطة لدينه؟ قال أبو سفيان: لا. قال: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً. والذي يعين الإنسان على الثبات بإذن الله عند الابتلاء وعند الإغراء إنما هو الإيمان بالله عز وجل، وأولئك الذين يعبدون الله على حرف هم أسرع الناس استجابة لداعي الفتنة والإغراء، يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

إعانة الإيمان على الدعوة إلى الله تعالى

إعانة الإيمان على الدعوة إلى الله تعالى الأمر التاسع: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم هو أحوج الناس إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان بالله هو المعين على أمور الدعوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي كان يتحنث في غار حراء، ويتعبد صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد؛ لأنه كان أمام تحمل أمانة الدعوة ونشرها، فكان يحتاج إلى الصلة بالله عز وجل والإيمان به تبارك وتعالى؛ حتى يكون ذلك خير معين له على القيام بأعباء هذه الدعوة، ويقول الله عز وجل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]. فهذا الأمر بقيام الليل، والأمر بالاجتهاد في الطاعة، كل هذا لأنه تعالى سيلقي عليه قولاً ثقيلاً. قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ زاداً له من ناشئة الليل، أن يأخذ زاداً له من قيام الليل، ومن التسبيح في النهار وذكر الله عز وجل؛ لأنه سيلقي عليه قولاً ثقيلاً وهو القرآن، وسيتحمل صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة إلى هذا القرآن. الأمر الثاني: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم عرضة للآفات، عرضة للإعجاب بالنفس، عرضة للرياء، عرضة لأن يسير وراء بريق الشهرة، والذي يعينه ويحميه من ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، الذي يجعله يشعر أن ما قدم كله إنما هو لله تبارك وتعالى، والذي يجعله يشعر بذنوبه وتقصيره في جنب الله سبحانه وتعالى، والذي يجعله يشعر أن ما قدم لن ينجيه إلا برحمة الله تبارك وتعالى. الأمر الثالث: أن الداعية يدعو الناس للإيمان بالله عز وجل، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان المرء فاقداً للشيء فكيف يستطيع أن يعطيه؟! إذا كان يحتاج أن يربي الناس على الإيمان بالله عز وجل وتقوى الله، وهو فاقد الإيمان والتقوى، وإذا كان يريد أن ينهى الناس عن معاصي الله عز وجل، وإذا كان يريد أن يأمر الناس بطاعة الله عز وجل وهو يعاني من الجفاف في قلبه، يعاني من الضعف في إيمانه، يعاني من الخواء في هذا الجانب، فكيف يستطيع أن يحقق هذا الأمر؟! قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]، وقال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. الأمر الرابع: أن الذي يدعو إلى الله عز وجل هو من أكثر الناس عرضة للابتلاء والامتحان، والذي يعينه على الثبات على الابتلاء هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولهذا كلما ذكر الله عز وجل في كتابه ما يكيد الكفار به النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بالصبر، وعقب على ذلك بالوصية بالتسبيح أو الصلاة أو التوجه إلى الله عز وجل، ولا تكاد تجد أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يواجهه من أذى ومن ابتلاء إلا ويعقب بالأمر بالتسبيح والأمر بالصلاة وطاعة الله عز وجل؛ لأن هذا هو الزاد المعين على الصبر، يقول تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، ويقول: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40]، ويقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، ويقول: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:25 - 26]. والآيات في ذلك كثيرة، ومن استعرض الآيات في السور المكية في سورة هود، والإسراء، وطه، والإنسان، والمزمل وغيرها سيجد أنه يعقب الأمر بالصبر -إما الصبر على مشقة الدعوة، أو الصبر على محاولة الكافرين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم- يعقب بالأمر بالتسبيح، والأمر بالصلاة، والأمر بقيام الليل؛ لأن من يدعو إلى الله عز وجل عرضة للابتلاء، وعرضة لأن يواجه، والذي يعينه بعد توفيق الله عز وجل إنما هو إيمانه وصلته بالله تبارك وتعالى.

الإيمان هو الحل للمشاكل التربوية

الإيمان هو الحل للمشاكل التربوية الأمر العاشر: الإيمان والتربية الإيمانية هي الحل الأمثل للكثير من المشكلات التي نعاني منها في التربية، فكثيراً ما نشكو من قسوة القلب والفجور، والجرأة عن المعاصي، فما هو الحل لذلك؟ الحل لذلك -لا شك- هو التربية الإيمانية. وكثيراً ما نشكو ونتساءل عن الانحراف بعد الهدى، وهي ظاهرة بدأت تكثر وخاصة في هذا العصر في السنوات الأخيرة، وكثيراً ما تشاهدون أولئك الذين كانوا على خير واستقامة وصلاح ثم ضلوا وتنكبوا الطريق، ونتساءل كثيراً: ما السبب؟ ونتساءل كثيراً: ما العلاج لهذه الظاهرة؟ لا شك أن أعظم علاج وأهم علاج لمثل هذه المشكلة إنما هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، والتربية الإيمانية، أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل، وأن يربى الجيل ويربى الشباب على الإيمان بالله تبارك وتعالى، ويغرس الإيمان في النفوس، حينها سنجد أن هذه الظواهر تقل وتتلاشى، كما قال هرقل لـ أبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد من أصحابه سخطة لدينه؟ قال: لا. قال له: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً. ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد، كان الذين ارتدوا عامتهم من أولئك الذين قال الله عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أما السابقون الأولون أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، الذين دخل الإيمان في قلوبهم؛ فلم يرتد أحد منهم، أما الذين ارتدوا على أدبارهم فهم أولئك الذين لم يتربوا التربية الإيمانية، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. إذاً: هذه القضية والمشكلة التي نعاني منها إنما علاجها وحلها في التربية الإيمانية. ومن المشكلات التي يعاني منها الكثير من الشباب أنه أذا ابتعد عن إخوانه ضعف، وربما تجرأ على المعاصي، وربما تغيرت حاله وتبدلت. ومن المشكلات التي نشكو منها العلاقات العاطفية التي قد تكون بين الشباب أو بين الفتيات أو بين الشباب والفتيات، والتي بدأت تنتشر في المجتمع، حتى انتقلت العدوى إلى مجتمعات الصالحين والناس الأخيار. فالمقصود -يا إخوة- أننا نعاني الآن من مشكلات تربوية كثيرة، ويتردد السؤال ويتكرر: ما الحل لهذه المشكلة، وما العلاج لتلك؟ لا شك أن الحل لكثير من هذه المشكلات هو في تعميق التربية الإيمانية، وفي تعميق الإيمان في النفوس والصلة بالله عز وجل، وهو حين نجعل الهم هماً واحداً، فنختصر الطريق على أنفسنا بدلاً من أن نذهب نعالج كل مشكلة على حدة، وهذه المشكلة حتى لو عالجناها بأي علاج بعيداً عن التربية الإيمانية سيكون علاجها مؤقتاً، علاجاً لا يتوجه إلى مصدر الداء وأساس الداء؛ لأن الإيمان هو -بإذن الله- الذي يزيل كل هذه الأدواء، وهو الذي يجعل الإنسان يختار طريق الخير والصلاح ولو صعب عليه، ويبتعد عن طريق السوء والفساد ولو هان عليه، ولو دعته إليه النفس الأمارة بالسوء. أسأل الله عز وجل أن يزيدنا وإياكم إيماناً، وأن يحبب إلينا الإيمان في نفوسنا وقلوبنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

أسباب ضعف الإيمان

أسباب ضعف الإيمان Q ما هي أسباب ضعف الإيمان؟ A الحديث عن الإيمان حديث طويل، والسلف كتبوا كثيراً عن الإيمان، عن فضله وزيادته ونقصه وتفاضل أهله فيه، وعن أسباب زيادة الإيمان ونقصه، وأسباب ضعف الإيمان. ولا شك أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما ازداد المرء طاعة لله عز وجل زاد إيمانه بالله تبارك وتعالى، وكلما قصر في طاعة الله عز وجل ووقع في معصية ضعف إيمانه. فأسباب زيادة الإيمان التفريط فيها مدعاة لنقص الإيمان، كالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته تبارك وتعالى، تلاوة القران وتدبر معانيه، والتفكر في مخلوقات الله عز وجل، وذكر الله تبارك وتعالى، والأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والصدقة وسائر الأعمال، كل هذه الأعمال تزيد المرء إيماناً، ومن ذلك -أيضاً- صحبة أهل الإيمان والتقوى والصلاح. وفي المقابل نجد أن ضعف الإيمان -أيضاً- من أعظم أسبابه المعصية ومواقعتها، والبعد عن تلاوة كتاب الله عز وجل، والبعد عن ذكر الله عز وجل، ومصاحبة ضعفاء الإيمان، ومصاحبة المعرضين الغافلين، لا شك أن هذه من أعظم أسباب ضعف الإيمان، ويمكن أن نحيل الإخوة إلى كتاب للشيخ محمد المنجد حول ظاهرة ضعف الإيمان يتحدث فيه بالتفصيل عن أسباب هذه الظاهرة إلى آخره.

معوقات الاستقامة

معوقات الاستقامة Q البعض يسأل عن معوقات الاستقامة؟ A هذه المعوقات على كثرتها وتنوعها تعود إلى أصلين، إما إلى الشبهات وأما إلى الشهوات، فالشبهات ألا يتضح للإنسان الطريق، فمثلاً: قد يفهم الحق فهماً خاطئاً، وقد يلتبس عليه الحق بالباطل، ويتلبس عليه الأمر، وتأتيه هذه الشبهات والشكوك فتصرفه عن الحق، وأبواب اللبس في الشبهات كثيرة، فأهل البدع والضلال الذين يعبدون الله على جهل وضلال هم من أولئك الذين ضلوا باتباع الشبهات. أو يعود الأمر إلى الشهوات، والشهوات كثيرة، وجماع الشهوات وقاعدتها هو أن الإنسان يعرف أن هذا الأمر محرم ويأتيه؛ لأن نفسه تشتهيه وترنو إليه أياً كانت هذه الشهوة، ويترك هذا الأمر لأنه لا يوافق هواه، فمنشأ الضلال ومعوقات الاستقامة إنما تعود في النهاية إلى هذين الأمرين، وسائر الأمور إنما هي مدعاة لتأصيل الشبهات أو مدعاة لتأصيل الشهوات، وخذ مثلاً في جليس السوء، فهو من أعظم الأسباب التي تعوق الإنسان عن الاستقامة، وهو إنما يعوق الإنسان عن الاستقامة من خلال الشبهات أو الشهوات، ولهذا يأمرنا الله عز وجل أن نسأله الهداية دائماً بقولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فصراط الذين أنعم الله عليهم هو غير صراط الضالين وغير صراط المغضوب عليهم، والمغضوب عليهم -كما تعلمون- هم اليهود والضالون هم النصارى، وليس المقصود هاتين الطائفتين فقط، وإن كانت الأمة تشعر أنها على خط متواز مع هؤلاء، فلا يمكن أن تلتقي مع اليهود ولا النصارى؛ لأنهم أعداء، ففي كل يوم يقرأ المسلم مراراً ويستعيذ بالله من طريق الضالين وطريق المغضوب عليهم، لكن ليست القضية ضلال اليهود وحدهم أو النصارى، بل اليهود هم أئمة كل من ضل باتباع الشهوات، والنصارى هم أئمة كل من ضل باتباع الشبهات، فكل من ضل فله إمام، فإما أن يكون إمامه المغضوب عليهم، أو الضالون.

ضرورة مراجعة أداء المؤسسات في التربية الإيمانية

ضرورة مراجعة أداء المؤسسات في التربية الإيمانية Q ما هي الأسباب التي تؤدي إلى التربية الإيمانية المطلوبة؟ وهل المناهج الدراسية الدينية تؤدي إلى هذا؟ A سبق أن أشرت أن من مشكلة الأمة أن مؤسسات الأمة نفسها تحتاج إلى مراجعة، كل مؤسساتها، سواء المؤسسات الإعلامية أو التعليمية أو التربوية التي تربي الأمة على الإيمان والتقوى والصلاح، والقضية ليست مجرد معلومات جافة وأمور يعطاها الإنسان، لا, لهذا قالت أم سفيان الثوري لما أراد أن يطلب العلم: يا بني! إذا تعلمت عشر مسائل فانظر هل زاد ذلك في علمك وخشيتك وتقواك أم لا؟ أي: سيجعل هذا مقياساً لما يتعلمه. فهل هذا السؤال يرد في أذهاننا؟ وهل هذا السؤال يرد في ذهن من يربي ويعلم؟ وفي أي ميدان -حتى في طلبك للعلم- يجب أن تطرح هذا السؤال على نفسك، فأساس العلم هو الخشية، فإذا كان هذا العلم لا يزيدك إيماناً ولا خشية ولا زهداً ولا ورعاً؛ فيجب أن تعيد النظر في منهجك في التعلم. أما الأسباب التي تؤدي إلى التربية الإيمانية فهي العوامل التي أشرت إليها سابقاً، فهي من الأمور التي تعين الإنسان على أن يربي نفسه التربية الإيمانية.

بيان سبب تمادي العاصي في معصيته

بيان سبب تمادي العاصي في معصيته Q لماذا بعض الشباب ينحرف لمجرد كونه وقع في معصية، ثم يدعي أنه لن يستطيع العودة بعد ذلك؟ A ليس صحيحاً أنه لا يستطيع العودة، لكن السبب أن هذا عقوبة من الله له على أن وقع في هذه المعصية، فعاقبه الله عز وجل بالضلال، عافانا الله وإياكم، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، فأوقعهم الشيطان في المخالفة بسبب بعض ما كسبوا. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]، فهذه عقوبة. ثانياً: أن المعصية تقول: أختي أختي، وتدعو الإنسان إلى أختها، ثم إن المعصية تجعل بينه وبين الصالحين وحشة، وتجعل له أنساً بأولئك الذين يشاركونه في هذه المعصية، فيصاحبهم ويحلو له أن يجالسهم، ثم قد تدعوه المعصية إلى أن ييأس، وأن يشعر بأنه إنسان فاشل، وأنه إنسان لا يملك الإيمان، وإنسان غير مؤهل لأن يكون مع الصالحين، وهذا كله من وسائل الشيطان في إغوائه عافانا الله وإياكم.

علامات زيادة الإيمان

علامات زيادة الإيمان Q هل هناك علامات تدل على زيادة الإيمان؟ A نعم، كلما كان الإنسان أكثر حباً لله وتقوى لله عز وجل، وأكثر استجابة لأوامر الله وأكثر بعداً عن معصية الله عز وجل، فهذا -لا شك- علامة من علامات الإيمان.

الحج وبناء النفس

الحج وبناء النفس هذا الدين ليس مجرد شعائر يتعبد بها الإنسان لتلبي حاجة في نفسه، وليس أعمالاً يؤديها الإنسان وليس لها معنى، بل هي عبادات تصل الإنسان بربه عز وجل، وتربي المجتمع والأمة على السلوك المستقيم.

الدين الإسلامي والنفس الإنسانية

الدين الإسلامي والنفس الإنسانية بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا الدين وهذه الشريعة الخاتمة جعلها الله عز وجل خاتمة للشرائع، وختم تبارك وتعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالات، فلا رسول ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم. ولما كانت هذه الشريعة شريعة خاتمة، ولما كان هذا الكتاب كما قال الله عز وجل: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] كانت هذه الشريعة العظيمة شريعة صالحة لكل زمان ومكان، هذا الدين حينما نتحدث عن عظمته، حينما نتحدث عن إعجاز هذا الدين في تشريعه وأحكامه فإن الوقت يضيق بنا، إنك لو حدثت جاهلاً بهذا الدين، لو حدثته عن طبيعة هذا الدين وعن إعجازه وعن أحكامه العظيمة لكان ذلك كافياً في إقناعه بعظمة هذا الدين. أيها الإخوة الكرام! هذا الدين لم يكن مجرد شعائر يتعبد بها الإنسان لتلبي حاجة في نفسه، وليس مجرد أعمال يؤديها الإنسان لمجرد فقط أن يؤدي هذه الأعمال، إن هذا الدين عظيم، هذا الدين لم يشرع الله عز وجل لعباده أمراً وحكماً صغيراً أو كبيراً إلا وفيه حكمة، وحكمة بالغة، هذا الدين يصل الإنسان بربه عز وجل ويعبده لله تبارك وتعالى، وهو أيضاً في الوقت نفسه يربي الفرد المسلم ويربي المجتمع ويربي الأمة، فهو وسيلة للعبودية لله تبارك وتعالى ولتربية النفس وبنائها وتزكيتها. ومن هنا فإن هذه النفوس لن يصلحها إلا هذا الدين؛ لأن الله عز وجل قال -وهو تبارك وتعالى الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم- قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالجن والإنس إنما وجدوا لعبادة الله عز وجل، ليست هناك أي غاية ولا مصلحة ولا حكمة ولا فائدة من خلق الجن والإنس سوى هذه الغاية الوحيدة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وما دام هذا الإنسان قد خلق لعبادة الله عز وجل فإن هذا الإنسان قد ركب بطبيعته: بتكوينه الجسمي وبتكوينه النفسي والعقلي ركب بما يهيؤه لهذه الوظيفة وهذه المهمة، وهذا أمر نلحظه في حياتنا، نلحظه في حياتنا الخاصة في ما يصنعه الإنسان وينتجه في حياته، فإن ما يصنع ليؤدي وظيفة ما يصنع بالطريقة التي تجعله متلائماً مع هذه الوظيفة. فالأجهزة -على سبيل المثال- المحمولة التي صممت ليحملها الناس ويتنقلوا بها، هذه الأجهزة يراعى فيها هذه الوظيفة، فهي في الأغلب تكون صغيرة الحجم، خفيفة الحمل، تحتمل الصدمات، طاقتها الكهربائية تتحمل أكثر من نظام كهربائي؛ لأنها مهيئة لأن تنتقل، بخلاف الأجهزة الثابتة المستقرة التي تهيأ لتكون في مكان واحد، كذلك وسيلة النقل التي تصنع لتسير في الصحراء والطرق الوعرة تهيئ لهذه المهمة، وحينما يسير بها الإنسان في الطرق المعبدة يفقد فيها قدراً من الراحة يجده في وسائل النقل الأخرى، وحينما يسير في تلك السيارة التي جهزت بأدوات الراحة والرفاهية لتسير في المدينة حينما يسير بها في الطرق الوعرة، في طرق لم تخصص لها فإن هذا سيضر بها كثيراً، بل ربما لا يستطيع أن يسير بها في هذه الطرق، ولو استطردنا في ذكر الأمثلة لوجدنا أن المقام يضيق، فإذا كان هذا فيما صنع الإنسان وفيما أعده الإنسان فما بالكم بخلق الله عز وجل، وخذوا على سبيل المثال عالم الحيوان، وكيف أن الله تبارك وتعالى لو تفكرنا بطبيعة الحيوان كيف أن الله عز وجل هيأ في خلق الحيوان ما يلائمه لهذه الوظيفة، فالإبل على سبيل المثال التي من طبيعتها أن تعيش في الصحراء وتأكل أنواعاً من الأشجار الصحراوية هيأ الله عز وجل لها ما يلائمها لأن تعيش في هذه الأجواء، فهي تملك عنقاً طويلاً تستطيع أن تصل من خلاله إلى الأشجار دون مشقة وعناء، وتستطيع أن تحتمل الظمأ أكثر من غيرها من الحيوانات التي اعتاد الناس أن يربوها في المزارع أو في المنازل وغيرها. وما دامت قد هيئت للركوب فإنها تحتمل الركوب والسير عليها بخلاف غيرها؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من بني إسرائيل ركب بقرة فالتفتت إليه فقالت: إنا لم نخلق لهذا، رغم أن تركيب البقرة وحجمها لا يبتعد كثيراً عن الإبل، لكن حينما لم تهيأ للركوب ولم تخلق لذلك فإنها لا تحتمل ذلك، بينما نجد الخيل والبغال والحمير وغيرها مما ذكر الله عز وجل أنه خلقها لهذه المهمة نجدها تحتمل مثل هذا الدور وهذه المهمة. وهكذا من تأمل في الحيوانات التي تعيش في الصحراء، من تأمل في واقع الحيوانات المفترسة، من تأمل في واقع الطيور، في واقع الحشرات، في واقع الحيوانات التي تعيش في البر والتي تعيش في البحر في خلق الله عز وجل يرى عجباً، ويرى كيف أن هذا الكائن خلقه الله تبارك وتعالى بما يتلاءم مع طبيعته، وبما يتلاءم مع الحكمة التي خلق من أجلها، والظروف التي يعيش فيها. فإذا كان هذا في الحيوان، وإذا كان هذا في خلق الله عز وجل في الجمادات وفي أمور الحياة الطبيعية المادية فكيف بأعظم خلق الله عز و

الحج وصلته ببناء الإنسان

الحج وصلته ببناء الإنسان أيها الإخوة الكرام! هذا مدخل بين يدي حديثنا عن الحج وصلته ببناء الإنسان، هذا الإنسان خلقه الله عز وجل وهو أعلم به، وخلقه تبارك وتعالى للعبادة، وحينئذ لن يصلح هذا الإنسان إلا العبادة، وحين خلقه تبارك وتعالى للعبادة فإنه هيأ له من الأسباب ما يعينه على أن يرتقي ويهيئ هذه النفس بهذه العبادة. إن الذي يعد لوظيفة ما أو مهمة ما لا بد أن يهيأ لهذه الوظيفة، ولا بد أن يعد لها، حينما نريد خطيباً يعتلي المنبر، حينما نريد من يمارس عملاً إعلامياً أو صحفياً، حينما نريد من يمارس عملاً إدارياً فإننا نسلك في ذلك خطوتين مهمتين: الخطوة الأولى: أن نختار من يكون مهيئاً في الأصل، ويملك الاستعدادات. والخطوة الثانية: أن نعده وندربه ونهيئه لهذه المهمة، هذه المهام المحدود الصغيرة تحتاج إلى إعداد، وتحتاج إلى تهيئة حتى ذلك الذي يمارس هذه المهمة يحتاج بين وقت وآخر إلى تطوير أدائه، فالخطيب على سبيل المثال لا غنى له بين وقت وآخر أن يقرأ، أن يحضر البرامج والدورات، أن يسعى إلى تطوير نفسه وإذا لم يفعل ذلك فسوف يدرك الناس الذين يستمعون إليه ويتابعونه أن أداءه قد قل ولم يصل إلى المستوى الذي كانوا يعهدونه منه، وهكذا مثلاً من يعمل في أي مجال، في مجال إعلامي، في مجال فني، لا بد أن يعد لهذه المهمة، ولا بد أن يتتابع الإعداد لهذه المهمة، خذوا على سبيل المثال الذين يعيشون في الميادين الرياضية، لا بد أن يمارسوا التدريبات بين وقت وآخر، ومهما بلغ هذا الرياضي من تميز ومهما بلغ من إدراك لهذه المهارات فسيبقى محتاجاً إلى الإعداد ومحتاجاً إلى التدريب ومحتاجاً إلى التطوير، إذا كان هذا في مثل هذه المهام المحدودة فكيف بعبادة الله عز وجل، إذاً الإنسان بحاجة إلى ما يهيئه لهذه المهمة ابتداءً، وهذا تحقق في خلق الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان واصطفاه وركب فيه من الخصائص ما يهيئه لهذه العبادة، ثم الأمر الثاني: أنه يحتاج مع دوام الوقت إلى ما يربيه ليقوم بهذه المهمة، وهنا يأتي دور العبادة، فالعبادة تهيئ الإنسان وتربيه، ليكون أقرب إلى ربه تبارك وتعالى، تربيه ليمارس حياته في حياته الدنيا بصورة ترضي الله عز وجل، وهذا ما سنشير إلى جزء منه، وفي القرآن الكريم نجد الإشارة إلى هذه القضية الواضحة، نجد الحديث عن مقاصد العبادات، فإن الله عز وجل قال في شأن الطهارة لما ذكر الله عز وجل الوضوء ثم التيمم وما يتصل به من الحدث الأصغر والحدث الأكبر قال الله عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6]، فذكر الله عز وجل في ختام هذه الآية أن الله تبارك وتعالى حينما شرع لنا الطهارة إنما يريد أن يحقق لنا الطهارة: الطهارة الحسية والمعنوية التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه نزل من وجهه كل خطيئة نظرتها عيناه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه نزل من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) إلى آخر الحديث. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطهارة الحسية تحقق للإنسان الطهارة المعنوية، وأن العضو الذي يغسله الإنسان يكون ذلك سبباً في تكفير السيئات التي ارتكبها الإنسان بهذا العضو. الصلاة التي هي آكد شعائر الإسلام الظاهرة والتي بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها العهد بين المؤمنين وبين أهل الكفر، يقول الله عز وجل عنها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشرعت الصلاة من أجل أن تحقق هذا المعنى وهو النهي عن الفحشاء والمنكر؛ ولهذا نجد أن الصلاة إذا أداها الإنسان كما ينبغي تركت أثرها عليه، وإذا قصر بها الإنسان ضيع ما سواها كما قال الخليفة الراشد رضي الله عنه: واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والزكاة قال الله عز وجل عنها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. والصيام قال الله عز وجل عنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. وهكذا من تأمل في نصوص القرآن والسنة وجد أن هذه العبادات العظيمة إنما شرعت لمقاصد وآثار، هذه الآثار تربي النفوس وتربي المجتمعات.

أثر الحج في إصلاح النفوس

أثر الحج في إصلاح النفوس الحج واحد من هذه العبادات التي لها أثرها في إصلاح النفس وتربيتها وتزكيتها، ومن حكمة الله عز وجل أن تكرار العبادات يتفاوت، فمنها ما يفعله الإنسان كل يوم مرات عديدة، ومنها ما يتكرر في العام، ومنها ما يتكرر في الحول مرة واحدة، ومنها ما يكفي في العمر مرة واحدة، ولا شك أن الفرائض كافية لإصلاح النفس وبناء النفس إذا التزم بها الإنسان وأداها كما ينبغي، لكن يبقى بعد ذلك مجال واسع للاجتهاد بالنوافل والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل. الحج -أيها الإخوة الكرام- يصلح النفوس، ويبنيها، الحج لم يشرعه الله عز وجل من أجل أن نعيش النصب والتعب، يقول الله تبارك وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]،فالله عز وجل لن يناله تلك اللحوم أو الدماء التي نريقها في الحج إنما يناله تبارك وتعالى التقوى، شرع الله عز وجل هذه العبادة لهذه الحكم العظيمة، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. فشرع الله تبارك وتعالى هذه العبادة وهو عز وجل غني عنا، وهو تبارك وتعالى غني عن خلقه، شرع هذه العبادة لنا لأننا نحن نجني الثمرة، لكن لما سيطرت المظاهر على حياة المسلمين، وأصبحت المظاهر هي القاعدة في حياة الناس، ينظرون إلى المظاهر، ولا يعيشون الحقائق والجوهر، أصبحت العبادات في حس كثير من المسلمين مظهراً أكثر منها حقيقة، أصبح الناس يجتهدون - من يجتهد منهم في ذلك- في إصلاح مظهر العبادة، ويغفلون عن الأهم وهو مقاصد العبادة، يجتهدون في تعلم أحكام العبادة الظاهرة ويغفلون عن تعلم المقاصد، ولاحظوا -مثلاً- سلوك الحجاج، وهم يقومون بأعمال الحج، ويطوفون، ويرمون الجمرات، وهم يؤدون أي منسك، تأمل في الصورة العامة، أنت لا تستطيع أن تقرأ ما في القلوب فالقلوب لا يعلمها إلا علام القلوب، لكن حينما تنظر إلى الناس وتلقي نظرة عامة وترى سلوك الناس فإن سلوك الناس يعبر عن نظرتهم لهذه العبادة، وهم يرمون الجمار وهم يسعون وهم يطوفون وهم يقفون المواقف. القضية الأساسية عندهم هي مظهر هذه العبادة دون حقيقتها، ودون حكمها وجوهرها، والله عز وجل لم يخبرنا بمقاصد العبادات وأحكام العبادات في كتابه إلا لأجل أن نعيها ولأجل أن نراعيها ونحن نقوم بأداء هذه العبادات، ولأجل أن نتساءل -دائماً- ونحاسب أنفسنا: ماذا حققنا منها؟ ماذا تحقق منها لدى أنفسنا؟

مقاصد الحج وآثاره

مقاصد الحج وآثاره

تحقيق التقوى

تحقيق التقوى يبدو التقوى من أهم مقاصد وآثار الحج، وجاءت الإشارة إلى التقوى كثيراً في آيات القرآن التي تحدثت عن الحج، يقول الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحكام الحج، جاءت لتبين أن للحج صلة وثيقة بالتقوى، وصلة وثيقة بتحقيق التقوى، فالحج يعلم الإنسان أن يتقي ربه من خلال التزامه وانضباطه بالأحكام التي شرعها الله عز وجل في الحج، ثم هو يربي النفس على التقوى، فيعود الإنسان حينما يعود من الحج وهو أكثر تقوى لله تبارك وتعالى؛ ولهذا كان هذا الحج يستحق هذه النعمة العظيمة، (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويستحق تلك المنزلة العظيمة حين قال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، الحج يربي التقوى في النفوس، والنفوس تحتاج إلى التقوى، تحتاج إلى أن تتربى على تقوى الله عز وجل، ومخافة الله عز وجل، تحتاج إلى أن تعيش التقوى في نفسها، هذه التقوى التي تلزم الإنسان بطاعة الله عز وجل، والتي تحجز الإنسان عن معصية الله عز وجل، هذه التقوى التي تجعل الإنسان يعيش حياته كلها في إطار مرضاة الله عز وجل في سائر أموره، في صلته بربه تبارك وتعالى، في تعامله مع الناس فيما بينه وبينهم، في حياته الاجتماعية، في حياته الاقتصادية، التقوى في حياة الفرد والتقوى في واقع الأمة، أن تعيش الأمة شعار التقوى، أن نرى التقوى ظاهرة في واقع الأمة، حينما نتأمل اقتصاد الأمة، وحينما نتأمل في الواقع الاجتماعي للأمة، حينما نتأمل في واقعها السياسي، حينما نتأمل في المجتمع وطبيعته وعلاقته نرى التقوى ظاهرة وسمة بهذه الأمة، هذه العبادات -ومنها الحج- تحقق هذا المعنى وتبنيه، سواء في نفوس الأفراد أو في نفوس المجتمع ككل، وبالأخص حينما نتعامل مع الحج، فالحج عبادة جماعية، فالحج لا يؤديه الإنسان لوحده، بل تجتمع فيه الأمة، ويجتمع فيه المسلمون جميعاً فتتحقق هذه المعاني، تتحقق التقوى في حياة الفرد وشخصية الفرد، وتتحقق التقوى على مستوى الأمة والمجتمع.

تنوع العبادات في الحج

تنوع العبادات في الحج الحج يمارس فيه الإنسان العبادة بأنواعها العديدة، فهو يذكر الله عز وجل، ويدعو الله تبارك وتعالى، يطوف ويسعى ويرمي الجمرات، عبادة بدنية، عبادة قلبية، كل أنواع العبادات موجودة في الحج، وتتكرر. والعبادة كما قلنا: تصلح النفس وتصلح القلب، بتنوع هذه العبادات مجال لتنوع التأثير على شخصية الإنسان، فالناس يختلفون، والناس يتفاوتون؛ ولهذا راعت الشريعة هذا الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) هذا الأمر يعني أن مجالات التقرب إلى الله عز وجل ومجالات التميز في طاعة الله مجالات واسعة تستوعب جميع الناس وفئات الناس، من الناس من يجد أنسه وراحته في الصلاة، فهو من أهل الصلاة والاجتهاد فيها، ومن الناس من يجد ذلك في الصيام، ومنهم من يجده في الصدقة، وهذا في إطار التميز في النوافل والتقرب إلى الله عز وجل والاجتهاد فيها. أما أصل الفرائض فلا يعذر أحد فيها، ولا يمكن أن نرى مسلماً يوصف بأنه من أهل الصيام وليس من أهل الصلاة بمعنى أنه لا يؤدي الفريضة. وهكذا أيضاً حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه، صنف لنا أصحابه فقال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم بأمر الله عمر وأقضاهم علي) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه، فأخبر أن منهم من هو أقرأ للقرآن، ومنهم من هو أعلم بالحلال والحرام، منهم من هو أمين هذه الأمة، ومنهم من هو أميزهم قضاءً، وأشدهم في أمر الله، ومنهم من هو أرحم هذه الأمة، وهكذا نجد أن جانب التميز الذي كان يعيشه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينطلق من شخصياتهم، فعلى سبيل المثال لو تأملت في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وحياته تجد أن طبيعته وتكوينه فيه الرقة ولهذا كان تميزه من هذا المجال والميدان. ولو رأيت طبيعة عمر رضي الله عنه وتكوينه تجد فيه الحزم، والشدة رضي الله عنه، فصار تميزه منسجماً مع شخصيته، فصار أشدهم في أمر الله عز وجل، وهذا التنوع نلمسه في الحج، وهو يعني أن هذه العبادات تلائم فئات الناس كلها، وهذا من عظمة هذا الدين، وحينما نتأمل في الأديان التي اخترعها الناس أو التي حرفوها نجد أنها تركز على جانب معين وتعالج جانباً واحداً، منها ما يركز على إتعاب الجسد وإنهاك الجسد، ومنها ما يركز على التخلص من الرغبات والغرائز، أي أنها كلها جاءت وفق منحىً محدد، أما هذه الشريعة فقد جاءت واسعة، جاءت تستوعب حياة الناس كلها، فهي تلائم كل الناس، وكل إنسان يجد له مجالاً يلائمه، وهي أيضاً تصلح النفس؛ لأن النفس تحتاج إلى كل هذا، النفس تحتاج إلى جانب فيما يتصل بالمال فيما يتصل بالجهد فيما يتصل بكافة جوانب وأمور الحياة، وهي أيضاً تلائم الإنسان فيما يصلح دينه ودنياه، فإن الإنسان على سبيل المثال في أمور الدنيا يحتاج إلى تهذيب ويحتاج إلى ما يصلح حاله، فتأتي هذه العبادات المتنوعة -ومنها الحج الذي يحوي التنوع في هذه العبادات- تسهم في إصلاح دنيا الإنسان، وتهيئه لأداء هذه الوظيفة التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله عز وجل، وعبادة الله عز وجل متمثلة في صلته بربه تبارك وتعالى وفي قيامه بعمارة هذه الأرض وفق منهج الله عز وجل.

التخلي عن العوائد

التخلي عن العوائد أيضاً الحج فيه التخلي عن العوائد وهذا الأمر أمر مهم في سياسة النفس وإصلاح النفس، أن يتخلى الإنسان عن الأمور التي اعتادها وألفها، إن الناس يألفون أوضاعاً ويألفون سلوكاً معيناً فيسيطر عليهم. خذوا على سبيل المثال من يألف الكسل حتى يصبح سمة له، هذا الكسل يقعد به عن كثير من مصالحه ويفوت عليه فرصاً كثيرة، ويشعر هؤلاء الذين يفوتون فرصاً كثيرة عليهم في أمور دينهم وأمور دنياهم، أنهم ربما كانوا قادرين على أن يحققوا أهدافاً عديدة، لكن هذه الأهداف تلاشت دون مشكلة الكسل، فالإنسان الذي اعتاد الكسل، واعتاد الاستسلام له، واعتاد التسويف الإنسان الذي اعتاد عادة معينة أياً كانت هذه العادة هذه العادة تؤثر عليه فتعطل حياته، تؤثر عليه في عبادته، وفي حياته المالية والمادية وتعامله وتواصله مع الناس، ومن هنا يأتي الحج يربي في الإنسان التخلص من كل ما يعتاده، فمثلاً: يتخلص من لباسه، هذا اللباس الذي له شكل معين ووضع معين نتخلص منه، فلا نغطي رءوسنا، ونلبس لباساً معيناً له طبيعته الخاصة وله خصائصه التي لم نألف أن نلبسها، ومع تنوع الناس والبشر واختلاف عاداتهم في اللبس لا يمكن أن تجد مجتمعنا اليوم يلبس لبساً يتحقق فيه شروط لباس الإحرام، حتى المرأة، ولما كانت المرأة مبناها على الستر لم يشرع أن تلبس ما يلبسه الرجل، والمرأة في طبيعتها تميل إلى الزينة، فشرع لها في الإحرام أن تجتنب الزينة وأن تلبس لباساً يبعدها عن الزينة. منعت من النقاب -على سبيل المثال- رغم أنه مشروع في غير الحج، منعت من أن تلبس القفازين مع أنها مشروعة في غير الحج، كل هذا لكي يتخلص الإنسان من هذا الأمر الذي اعتاده، يخلع ملابسه تسليماً لله عز وجل، ومع الجهل الكبير الذي نراه عند الحاج والصور الغريبة والعجيبة مما يعمله الحجاج إلا أنك لا يمكن أن تجد حاجاً لا يلبس لباس الإحرام، فقد تجد -مثلاً- حاجاً يخطئ في ميقات الإحرام، أو يخطئ في بعض السنة المتعلقة بالإحرام، في وقت خلع الإحرام وتغييره قد تجد هذه الحالات، لكنك لا يمكن أن تجد حاجاً أو معتمراً لا يلبس لبس الإحرام. أيضاً يتخلى الإنسان عن المحظورات، وعن الترفه، ويمتنع عن أخذ شيء من شعره وأظافره، ويمتنع عن الطيب، والزينة، تغيير في سلوك الإنسان يقوده في النهاية إلى التخلي عن العوائد، وهذا أمر مهم جداً يحتاجه الإنسان في أمور دينه؛ لأن الإنسان قد يعتاد أموراً تؤثر عليه في دينه وتعوقه، ويحتاج إليه الإنسان في حياته، ولاحظوا -كما قلنا- الناس الذين يفشلون في حياتهم، الذين يفشلون في تحصيلهم الدراسي، يفشلون في فرص العمل، يفشلون جزء كبير من هذا الفشل مصدره عدم قدرة هؤلاء على إدارة أنفسهم، وجزء من هذا الفشل مصدره أن هؤلاء ألفوا أوضاعاً لم يستطيعوا أن يكسروها ويتجاوزوها، فالحج يربي الإنسان على تجاوز هذه الأوضاع وعلى التخلي عنها.

التربية على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة

التربية على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة أيضاً الحج يربي على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة، والدنيا والآخرة لا تنفصلان في حس المسلم؛ ولهذا رغم أن الحج عبادة عظيمة، ورغم أن الناس يأتون إليه من كل فج عميق، يسافر الإنسان، يتخلص من كل شيء، يأتي، يتقرب إلى الله عز وجل، يذكر الله عز وجل، ومع ذلك يأتي في القرآن قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، وهذه الآية نزلت في التجارة في موسم الحج، يأتي النص في القرآن على أنه ليس على الإنسان من جناح وهو حاج أن يمارس التجارة، هو حاج أن يبيع ويشتري، وهذا نلحظه عند بعض الشعوب المسلمة، حيث تجد من موسم الحج فرصة لتسويق بعض منتجاتها، وليس في هذا حرج، ما دام هذا في إطار المشروع، وهذا يؤصل قضية أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان في حياة المسلم، أن الإقبال على الآخرة لا يعني أن يطلق الدنيا تماماً ويتخلى عنها، وأن سعيه للدنيا لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرة. نعم الإسلام يحث على الزهد في الدنيا، يحث على أن لا يتعلق الإنسان بالدنيا، لكنه لا يحث أحداً على أن يترك الدنيا، ولهذا قدر الله عز وجل لأنبيائه رغم أن الله عز وجل اختارهم لمهمة عظيمة، قدر الله عز وجل لأنبيائه أن يبذلوا جهدهم بأن يكسبوا رزقهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلى رعى الغنم)، والله عز وجل كان قادراً على أن يجعل هؤلاء أغنياء، وأن يحقق لهم الغناء بما يكفيهم عن أن يبحثوا عن أسباب ووسائل جلب الرزق، لكن هذا فيه تربية لهم، وتربية للأمة أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان، وأن الإسلام دين لا يعارض سعي الناس لكسب الرزق، لا يعارض سعي الناس لتطوير حياتهم في المجال الاقتصادي، في المجال السياسي في المجال الاجتماعي، وهذا سيلزم منه أيضاً أن أحكام الإسلام وأن أحكام الدين سوف نجدها في كافة مرافق الحياة وتطبيقات الحياة، وهذا مما يتأصل من خلال مثل هذه العبادة التي هي عبادة عظيمة، وفيها جهاد، وتكفير سيئات، ومع ذلك لا حرج ولا جناح على الإنسان أن يبتغي فيها فضلاً من ربه، وأن يجعل أيضاً موسم الحج وسيلة لكسب الرزق المباح.

تربية النفوس على الانضباط

تربية النفوس على الانضباط الحج أيضاً يربي النفوس على الانضباط، والانضباط أمر مهم يحتاج إليه الإنسان في عبادته وصلته بربه تبارك وتعالى، ويحتاج إليه الإنسان في أمور دنياه، نجد مواقف عديدة في الحج، قد لا ندرك نحن حكمتها التفصيلية، فمثلاً حينما نأتي للمناسك نجد عرفة لها حدود واضحة لا يختلف الناس حولها، لو أن رجلين، الأول: وقف دخل داخل حدود عرفة، وبقي طوال وقته نائماً، ولم يذكر الله عز وجل بذكر واحد لكنه بقي داخل حدود عرفة، والآخر بقي خارج حدود عرفة وبقي يقرأ القرآن ويدعو ويتضرع فإن حج الأول صحيح وحج الثاني غير صحيح، لماذا؟ ما الفرق؟ هي أمتار، أمتار يترتب عليها أن يكون حج الإنسان باطلاً ويترتب عليها أن يكون حج الإنسان صحيحاً. الوقت على سبيل المثال، قبل أن تغرب الشمس لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة، ولو دفع قبل غروب الشمس فإن عليه دماً عند جمع من الفقهاء، وإذا غربت الشمس لا يجوز له أن يتعمد البقاء، يعني: لا يتعمد البقاء تعبداً؛ لأن هذا من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. في رمي الجمرات مثلاً هناك وقت للبداية، ووقت للنهاية، هناك عدد محدود لا يزيد عنه ولا ينقص، في يوم النحر يرمي جمرة العقبة وحدها، وفي الأيام الأخرى يرمي الثلاث، يرميها وفق ترتيب معين وعدد معين وزمان معين وهكذا سائر أحكام الحج. هذه تربي عند الإنسان أموراً عديدة: تربي عند الإنسان الانضباط، أولاً: الانضباط الشرعي، وتربيه على الانضباط في حياته، فإن حياة الناس الدنيوية لا تستقيم إلا بالانضباط، وهي تربي في النفس أمراً مهماً جداً وهو مسألة التسليم لله عز وجل والخضوع لله تبارك وتعالى، وأن الإنسان حتى لو لم يدرك الحكمة فإنه يجب أن يلتزم أمر الله عز وجل، والله عز وجل لم يشرع شيئاً إلا لحكمة، لكن لا يمكن أن كل الناس يدركوا تفاصيل الأحكام، والحكمة في الجملة ندركها، فنحن -مثلاً- ندرك الحكمة من مشروعية الصلاة، والحكمة من تعدد الصلوات في اليوم الواحد، ومن تنوع الصلاة بين الليل والنهار. لكن إذا أتينا إلى تفاصيل أحكام الصلاة لا ندرك الحكمة من ذلك، لماذا صلاة المغرب ثلاثاً -مثلاً- والعشاء أربعاً والفجر ركعتين؟ لماذا تلك يجهر فيها وهذه لا يجهر فيها؟ هذا الأمر لا ندرك حكمته، ولو أن إنساناً استنبط أمراً ما فإنه يبقى في النهاية استنباطاً لا يمكن أن يقطع أن هذا هو شرع الله عز وجل، فإذا دخلنا في تفاصيل الأحكام الشرعية سوف نجد أحكاماً عديدة لا ندرك حكمتها، وعدم إدراك الحكمة لا ينفي وجود الحكمة، لكن الله عز وجل تعبدنا بذلك، تعبدنا الله عز وجل أن شرع لنا عبادات ظاهرة واضحة ندرك حكمتها في الجملة، ثم تعبدنا الله عز وجل أن نعمل أعمالاً وعبادات لا ندرك تفاصيل أحكامها، حتى يتربى الإنسان على الخضوع لله، والتسليم له عز وجل، وهذا المعنى يحتاجه الناس، يحتاج الناس إلى أن يعوا مقاصد الشريعة، ليدركوا عظمة هذا الدين، ويزيدهم إيماناً ويقيناً، ويحتاج الناس أيضاً إلى أن يتربوا على التسليم؛ يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، مادام الله عز وجل قد قضى أمراً وحكم بأمر فليس لمؤمن ولا لمؤمنة الخيار، وليس هناك مجال للخيار، وليس هناك مجال للسؤال هل نمتثل أو لا نمتثل، حتى عندما نتساءل عن الحكمة وعن مقاصد التشريع فإنه لا يتوقف التزامنا بهذا الأمر على معرفة الحكمة، إنما معرفتنا للحكمة ومقاصد التشريع يزيدنا إيماناً ويزيدنا تقوى، يزيدنا يقيناً وإدراكاً لعظمة هذا التشريع، لكن لا يتوقف التزامنا بذلك على إدراك هذه الحكمة. فالناس اليوم -مثلاً- يدركون واضحاً وجلياً الحكمة من تحريم الربا، لكن لو أن إنساناً لم يدرك الحكمة أو لم تظهر له الحكمة من تحريم الربا فإن هذا لا يبيح له أن يأكل الربا بحجة أن يقول: لماذا؛ لأن هذا الأمر قد جاء تحريمه نصاً في القرآن والسنة وأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة، والخلاف إنما هو في بعض التفاصيل، لكن أصلاً التحريم أجمعت عليه الأمة، وحينئذٍ لا مجال لأن يتوقف امتثال الإنسان هذا الأمر على أن يتساءل: لماذا حرم الله عز وجل ذلك؟

تنمية القيم الجماعية

تنمية القيم الجماعية أيضاً مما يتحقق في الحج تنمية القيم الجماعية، الحج عبادة جماعية وليس عبادة فردية، وهذا من حكمة الشريعة، فإننا نجد التنوع في العبادات، نجد مثلاً الصيام عملاً فردياً بين الإنسان وبين ربه عز وجل، ولا يعني اجتماع الناس على الإفطار أن الصيام تحول إلى عبادة جماعية، ونجد عبادات فردية وجماعية مثل الصلاة، فالصلاة المكتوبة جماعة لكن الإنسان يصلي نافلة لوحده، فتحقق هذه المعاني، ونجد من العبادات ما لا يشرع إلا جماعة، ومثل ذلك الحج فإن الإنسان صحيح أنه يمارس عملاً فردياً لكنه في النهاية يعيش الحج مع الناس، فيجتمع الناس كلهم في يوم عرفة، ويجتمعون في مزدلفة في وقت محدد، فالطواف له وقت محدد ورمي الجمرات وهكذا سائر المناسك، وهذا الاجتماع مقصود ويحقق معاني عديدة، وأعتقد أنا لو تحدثنا عن القيم الجماعية في الحج لاستوعب هذا الحديث الوقت كله، لكن من أهم ما نحتاج إليه تنمية القيم الجماعية، كيف يعيش الإنسان مع الجماعة، كيف يعيش الإنسان مع الآخرين، كيف يتواصل مع الآخرين، يجتمع الناس في الحج، لا يجمعهم لغة، لا يجمعهم جنس، لا يجمعهم لون، لا يجمعهم إلا شيء واحد هو هذا الإسلام وهذا الدين، فيحقق معيار الانتماء للجماعة، يحقق هذه الوحدة الجماعية بين الأمة، وأن أهم ما يجمع الأمة هو هذا الدين الذي يجمعها على اختلاف لغاتها وألوانها وأجناسها وفئاتها، وهذا الأمر نلحظه واضحاً ونحن نعيش ونتفاعل مع موقف الحج. أيضاً مواقف اجتماع الناس ينشأ عنه تفاعلات وتواصل بين هؤلاء تعلم الناس قيم الجماعة، فيتطلب -مثلاً- قدراً من التضحية، حيث يشعر الإنسان أنه بحاجة أن يؤخر قضاء حاجته من أجل الآخرين، فهو -مثلاً- يريد أن يقبل الحجر، لا يمكن أن يجتمع اثنان على تقبيل الحجر، وهي يعني كما يقال: العبادة الوحيدة التي لا يمكن أن يعملها اثنان في وقت واحد على ظهر الأرض، فما دمت سأقبل الحجر يجب أن أنتظر أن ينتهي من جاء قبلي ثم آتي بعده، وحينما أقبل الحجر فإنني سوف أكون على حساب الآخرين. وهكذا حينما يصلي الإنسان وراء المقام، فقد لا يجد مكاناً فإنه بحاجة إلى أن ينتظر، كذلك حينما يريد رمي الجمرات، هذه المواقف تنمي عند الإنسان القيم الجماعية، تنمي عند الإنسان أن يعرف أن للآخرين حقوقاً، سواء في مجال وميدان التعبد أو في غيرها من المجالات والميادين، وهذه القيم لا يمكن أن تملى إملاء، ولا تعلم للناس تعليماً، ربما يسمع الناس كلاماً جميلاً حول الجماعة، حول الانضباط، حول الإرادة ويؤثر فيهم، لكن هذا لن يحقق هذا المعنى بصورة صحيحة في النفوس ما لم يعايشه الناس عملاً، يعايشه الناس من خلال البيئة والمواقف العملية.

التربية على التضحية

التربية على التضحية أيضاً الحج يربي على التضحية، يضحي الإنسان بماله، براحته، بوقته، في كافة الأوقات يعني: في الليل، في النهار، في الموطن هنا، في الموطن هناك، نجد أن الحجاج يعيشون ويضحون بكل هذه الأمور، يضحي بماله براحته، بوقته، بجهده، بأمور عديدة جداً يضحي بها لله عز وجل، ويتقرب بها إلى الله عز وجل، وهو ليس مكرهاً، يتقرب إلى الله عز وجل وهو فرح مستبشر، تجده يرتاح حينما يؤدي هذه العبادة، ويستبشر ويجد الأنس، وهو لا ينظر لهذه العبادة على أنها عبء، وعلى أنها أمر صعب بالنسبة له، إنما يجد الفرحة ويجد الأنس ويجد اللذة، حتى حينما يفرغ من العبادة وينتهي منها يجد الاطمئنان في نفسه. هذا الأمر أيها الإخوة الكرام! يربي النفوس على التضحية، والنفوس بحاجة إلى التضحية، فالبخل داء سيئ في النفوس وداء مذموم؛ ولهذا كانت العرب تسمي البخيل فاحشاً، يقول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد أي البخيل، ويقول الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]، والفحشاء هنا يقصد بها البخل، فالبخل صفة رذيلة، البخل ليس فقط في المال، البخل في أمور عديدة، أن يبخل الإنسان بجهد يبذله، أن يبخل الإنسان بوقته، أن يبخل الإنسان بطاقته، الحج يربي النفس على الجود، ويربي النفس على التضحية؛ ولهذا الحج جهاد لا قتال فيه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يربي النفوس على الجهاد؛ لأن الجهاد فيه تضحية، والجهاد فيه بذل، والذين يريدون أن يبرزوا في ساحات وميادين الجهاد هم بحاجة إلى أن يتهيئوا، أن تتهيأ نفوسهم بالبذل وتتهيأ نفوسهم بالتضحية، ومما يهيئ النفوس للتضحية والبذل هذه العبادات العظيمة ومنها الحج.

بناء التوحيد في النفوس

بناء التوحيد في النفوس أيضاً الحج يبني في النفوس أمراً عظيماً جداً، بل هو أعظم شيء ألا وهو توحيد الله عز وجل، فإن الحج يربي في النفوس التوحيد لله تبارك وتعالى، وهذا نلحظه في كل مواقف الحج، نلحظه في الدعاء، فإن (أفضل الدعاء دعاء عرفة)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، هو دعاء التوحيد، نلحظه مثلاً في التكبير، يكبر عند الحج، يكبر عندما يرمي الجمرات، يدعو بدعاء التوحيد حينما يصعد على الصفا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، نجد أيضاً هذا في التلبية، نجد مظاهر التوحيد في الجانب العملي، في عمل هو من أفضل أعمال الحج وهو نحر الهدي، وهو لا شك من أعظم شعائر التوحيد، قرنه الله عز وجل بالصلاة فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. وأخبر الله عز وجل أن من مقاصد الحج أن يتقرب الناس إلى الله عز وجل بنحر البدن، بهذا البيت العتيق: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، ثم قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]. أيضاً نجد فيما يتصل بالتوحيد في الحج نجد أيضاً الجهر، يجهر الإنسان بالتلبية، هو نوع من إظهار شعائر الإسلام، ونوع من إظهار التوحيد، وقال جابر رضي الله عنه: (فلبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك).

تأكيد هوية الأمة

تأكيد هوية الأمة نجد أيضاً في الحج تأكيد هوية الأمة، وهو مما يؤصل التوحيد، بتأكيد مفارقة المشركين، وقد تمثلت في أمور عديدة، تمثلت أولاً في التلبية، فإنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم. وتمثلت مفارقة المشركين في أداء الحج، بل قصد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن المشركين كانوا يخرجون من عرفة قبل أن تغرب الشمس، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خالف هدينا هدي المشركين) فبقي النبي صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس. كانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير وخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم في ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة قبل أن تشرق الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: (خالف هدينا هدي المشركين) مما يعني: أن هذا أمر مقصود. أمر مقصود أن تتميز الأمة، أمر مقصود أن تعيش الأمة هذا التميز وأن تشعر أنها أمة متميزة، أمة لها هويتها، ونحن أحوج ما نكون في هذا الوقت إلى هذه القيم وهذه المعاني أن تتربى عليها الأمة وأن تعيشها الأمة، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي أيضاً. الأمة اليوم تعيش انهزام، الأمة نظراً لتأخرها في ميدان الحضارة، وميدان العلم المادي، والواقع السياسي والواقع الاجتماعي أصبحت تعيش عقلية الهزيمة، ولتفوق الآخرين عليها أصبحت تعيش التقليد، وما نلحظه اليوم في واقعنا وسلوكنا من الهزيمة النفسية عند الأمة تجاه الآخرين، والشعور بالهوان والضعف والتقليد، هذه المظاهر التي تدل على خلل في هوية الأمة، تدل على خلل في اعتزاز الأمة بهويتها، هذه المظاهر تقودنا إلى إثارة هذا Q أين أثر هذه العبادات على الأمة؟ ولو أن الأمة تعي حقيقة هذه العبادات لتركت أثرها، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي.

تعظيم شعائر الله

تعظيم شعائر الله الحج يربي في النفوس تعظيم شعائر الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، هذه الآية كما نعلم جاءت في سياق آيات الحج، فأخبر الله عز وجل أن من مقاصد هذه العبادة العظيمة تعظيم شعائر الله عز وجل، وأن تعظيم شعائر الله عز وجل له أثره في تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، تعظيم شعائر الله عز وجل يتمثل في أمور عديدة، مثلاً الحاج لا يتجرأ على ارتكاب المحظور، فهو لا يتجرأ على أن يأخذ شيئاً من شعره، لا يتجرأ على أن يتطيب، على أن يقتل صيداً، على أن يعبد شجرة، لا يتجرأ على الإلحاد في بيت الله الحرام، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، لا يتجرأ على إيذاء إخوانه، تعظيم شعائر الله مجال وميدان واسع في الحج، فهو يربي في النفس تعظيم شعائر الله فيعود الإنسان وهو يعظم شعائر الله، يعظمها في قلبه وفي نفسه، ثم هذا التعظيم يظهر أثره على جوارحه، ويظهر أثره في تعامله مع شعائر الدين سواء فيما يتصل بالجانب المعرفي والوجداني الداخلي أو ما يتصل بالجانب الظاهر في تعامله مع أحكام الشريعة. ومن صور تعظيم شعائر الله عز وجل: حفاظ الإنسان على الطاعة، وتعظيم أمرها وشأنها، وبعد الإنسان عن معصية الله عز وجل، وعدم تجرئه على معصية الله تبارك وتعالى، كل هذه القيم وهذه الحقائق تتربى في النفوس من خلال الحج.

تربية جانب الأخلاق والسلوك

تربية جانب الأخلاق والسلوك والحج أيضاً يربي جانب الأخلاق والسلوك، يقول الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فجو الحج مع الزحام يقود إلى الجدال والخصومة، يقود الناس إلى تجاوز الحد الخلقي وحينئذٍ يوضع الناس أمام محك، والإنسان لا يتعلم حسن الخلق إذا عاش لوحده؛ لأن الخلق سلوك يمارسه الإنسان في تواصله مع الآخرين، فحينما يتواصل الإنسان مع الآخرين في مواقف تتطلب منه ذلك يتعلم حسن الخلق، وأنت لا تكتشف خلق الإنسان في الأجواء العادية، لكن هذا الإنسان حينما يغضب تقيس -مثلاً- تحكمه في انفعالاته، وحينما يعيش مواقف الحج والزحام مع الناس وهذا يخطئ على هذا وهذا يتعلم الإنسان كيف يصبر، ويتعلم كيف يحسن خلقه؛ ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية بالحج فقال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرفق واللين فكان يقول: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع) والإيضاع هو الإسراع، ومن تأمل سلوك الناس في الحج وهم يرمون الجمرات، وهم في الطواف، يجد أن هناك خللاً في الجانب الخلقي والسلوكي، وهم يعيشون في جو العبادة التي تربيهم على ذلك، وتنمي عندهم هذا الأمر.

التربية على الصبر

التربية على الصبر أيضاً نجد في الحج التربية على الصبر، وتحمل المشاق، فإن طبيعة الحج فيه جهد ونصب وتعب، فإذا كان في شدة الحر يعاني الناس من الحر والتعب، وإذا كان في الجو البارد أيضاً عانى الناس، ومع الزحام يعاني الناس، كذلك الأمراض التي تنشأ عند الحجاج كالتعب الإرهاق، فقد أصبح معتاداً أن الذي يأتي من الحج يبقى أياماً وهو يعيش أثر الإجهاد والتعب، هذا النصب وهذا التعب يربي الإنسان على الصبر والتحمل، كذلك طبيعة أعمال الحج وما فيها من زحام، وما تتطلبه من مشي، وإن ركب في سيارته عاش الزحام في السيارات كل هذه المواقف تربي عند الإنسان الصبر، والناس اليوم أحوج إلى هذه المعاني وهم يعيشون حياة ترف ورفاهية، هذه الرفاهية التي عاشها الناس في بيوتهم، في مراكبهم، في تنقلاتهم، في ذهابهم، في إيابهم، حينما يذهبون إلى الحج يتعلمون هذه القيم؛ ومن أثر الرفاهية في حياة الناس اليوم أن الناس يتسابقون على الحملات التي تقدم خدمات رفاهية وخدمات مريحة، وأيضاً الحملات في رعايتها دائماً تركز على هذا الجانب في حديثها مع الناس، لكن مع ذلك سيبقى الحج يحتاج صبراً وتحملاً، سيبقى الحج فيه معاناة، والله عز وجل قد قال في كتابه: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، وحيئذ يأتي الحج يربي عند النفوس الصبر، والصبر معنى جميل؛ فإنه عندما تكلم الناس عن الصبر كل الناس يحبون الصبر، ويثنون على الصبر، ولا يوجد أحد أبداً يذم الصبر، لكن التحدي كيف أتعلم الصبر، كما قلت قبل قليل: لن نتعلم هذه الأمور من خلال مجرد الحديث عن أهميتها ولا الوصاة بها ولا التأكيد عليها، لن نتعلم هذا إلا من خلال المواقف العملية التي تربي فينا هذه القيم وتربي فينا هذه المعاني.

التربية على تحمل المسئولية

التربية على تحمل المسئولية أيضاً مما يحققه الحج التربية على تحمل المسئولية. الإنسان بحاجة إلى أن يتربى على تحمل المسئولية، المسئولية بكافة جوانبها، أولاً المسئولية الدينية بينه وبين الله عز وجل، فالله عز وجل أخبر أن كل إنسان مسئول عن نفسه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) فهي مسئولية فردية بينه وبين ربه عز وجل، مسئولية تجاه المجتمع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وبعضهم أعلاها) فكل فرد مسئول عن هذا المجتمع، وكل فرد يتحمل هذه المسئولية. أيضاً مسئولية الإنسان في حياته المادية، في حياته الخاصة، هو مسئول عن أهله، مسئول عمن يعول، مسئول عن الإنفاق على نفسه، مسئول عن حماية نفسه من الضرر، مسئول عن حماية مجتمعه من الضرر، هذه المسئولية يتربى عليها الإنسان من خلال الحج، فهو في الحج مسئول عن أعماله، لو ارتكب محذوراً فإن عليه الجزاء في ذلك، لو قتل صيداً لا يحل له عليه الجزاء، حتى لو عمل بعض الأعمال عن جهل ومثله لا يعذر به فإنه يتحمل المسئولية، فيربي عند الإنسان تحمل المسئولية، وتحمل المسئولية هي قيمة يعيشها الإنسان، وليست مجرد وصايا وتأكيد كما ذكرنا قبل قليل.

ربط الإنسان بأمته

ربط الإنسان بأمته أخيراً: الحج يربط الإنسان بأمته من خلال أولاً القبلة، فنحن في الحج نتجه إلى هذه القبلة التي تجمع الأمة والتي نتجه إليها في صلاتنا، نتجه إليها في دعائنا، نتجه إليها في عبادات عظيمة، الأمة كلها تجتمع على قبلة واحدة، ويأتون إليها، وربما الذي اعتاد أن يرى بيت الله الحرام والكعبة قد لا يدرك عظم الشوق الذي يعيشه المسلم الذي قضى وقتاً طويلاً من عمره، وهو يستقبل هذه القبلة في صلاته، في دعائه، قد لا ندرك عظم الشوق الذي يختلج في نفوس هؤلاء أن يروا هذه القبلة ويعاينوها ويفدوا إليها. هذا يوحد الأمة، يوحد انتماء الإنسان لهذه الأمة الذي يمثل هذا البيت رمزاً لوحدتها؛ ولهذا يهدم هذا البيت في آخر الزمان حين لا يحج أحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وحدة الأمة في وقوفها، في مناسكها، في عبادتها يربي في النفوس الانتماء لهذه الأمة ووحدة هذه الأمة. أيها الإخوة الكرام! الحديث عن هذه العبادة العظيمة حديث يطول، ولو أردنا استقصاء ما في هذا الحج من منافع فإننا لن نستطيع، ويكفي أن الله عز وجل قد ذكر ذلك منكراً فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، والنكرة من صيغ العموم، منافع عديدة في كافة حياة الناس وأمورهم، وما ذكرناه هو جزء من أثر الحج على بناء النفس، وإلا لو أخذنا المنافع الأخرى فإن الوقت يضيق. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يعبده حق عبادته، ويتقيه حق تقواه إنه سميع مجيب، ونسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر لإخواننا حجاج بيت الله عز وجل سفرهم، وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً، ويتقبل منا ومنهم إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبناؤنا والتربية في بلاد الغرب

أبناؤنا والتربية في بلاد الغرب إن الاهتمام بتربية أبنائنا في بلادنا أمر ضروري وبالغ الأهمية، فما بالك إذا كانوا يعيشون في بلاد الغرب فعندها يكون الأمر أكثر أهمية؛ لأن حياة الغرب لها مظاهرها المخالفة لدين الله تعالى، والتي تهيئ لأبنائنا الأسباب لينجرفوا وراء تلك الحياة المادية الشهوانية الحيوانية، فحري بكل ولي أمر أن يهتم بأولاده، وأن يضع لهم البرامج التي تغنيهم عن مظاهر الحياة الجذابة هناك.

صعوبة التعامل مع الحياة في المجتمعات الغربية

صعوبة التعامل مع الحياة في المجتمعات الغربية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيسعدني ويشرفني أيها الإخوة والأخوات! أن أتحدث أمامكم وبين أيديكم، وكم أتمنى أن يكون هذا اللقاء مباشراً والحديث كفاحاً، لكن إذ لم يتيسر اللقاء المباشر فلا أقل من أن يكون مثل هذا الحديث، وإن كان لا يفي برغبتي وتطلعي، وأحسب أنكم كذلك. إخواني وأخواتي: إن التربية في كل المجتمعات لها مشاكلها، والتربية قضية شائكة؛ إنها تعامل مع الإنسان، ذلك الكائن المعقد، إنك حين تتعامل مع كائن مادي يمكن أن تدخله المختبر، ويمكن أن تجري عليه تجربة، ويمكن أن تتحكم في متغيراته، لإنك تتعامل مع متغيرات واضحة ومحددة، وإذا جهلت جانباً منها فبإمكانك أن تتعلمه، وبإمكانك أن تجرب، وأما الإنسان فهو كائن آخر يختلف عن سائر الكائنات، إنه كائن تؤثر فيه متغيرات عدة يصعب أن تستنبطها أو تحصرها. إن هذه المتغيرات تتفاعل مع بعضها، فيولد هذا المتغير تأثيراً، والآخر من طرف آخر تأثيراً مناقضاً، والثالث كذلك، وتفاعل هذا المتغير مع الآخر يولد تأثيراً آخر؛ بل إن الموقف والتجربة يصعب استنساخها ويصعب تعميمها، فالذي يلائم زيداً لا يلائم عمراً، والذي يصلح مع ابنك الأكبر قد لا يصلح مع الآخر، والذي يؤثر إيجاباً في موقف قد يؤثر سلباً في موقف آخر، بل إن الشخص نفسه قد يكون هذا الأسلوب مؤثراً عليه في موقف، وفي الموقف الآخر قد يؤدي تأثيراً من نوع آخر، وهو أمر نشهده في حياتنا، ونشهده مع أولادنا وبناتنا. إننا أمام كائن معقد تتداخل فيه العوامل والمؤثرات، أمام كائن تحكمه نفسية صعبة معقدة، الإنسان نفسه يصعب عليه أن يفهمها فضلاً عن أن يفهمها الآخرون. إننا إخواني وأخواتي مهما أوتينا من خبرة وتجربة، فإننا لا يمكن أن نصل إلى حد اليقين بتأثير تربيتنا وجهدنا، لكن حسبنا أن نبذل الجهد وأن نبذل ما نستطيع، وحسبنا أن نجتهد، والاجتهاد -إخواني وأخواتي- ليس في مجرد الدافع وحده، ليس في مجرد أن ننصح فقط، وأن نأمر وأن ننهى، لا، بل الاجتهاد يتطلب منا أن نبحث عن الوسائل التربوية المؤثرة الناجحة، ويتطلب منا أن نرتقي بخبراتنا ومعارفنا ومهاراتنا التربوية، ويتطلب منا أن نبحث عن حلول لمشكلاتنا. إن الله عز وجل أمرنا أن نتقيه ما استطعنا، وهذا من تقوى الله تبارك وتعالى ما استطعنا، فلئن كانت التربية -إخواني وأخواتي- مسألة صعبة ومعقدة، فهي في ظل الظروف التي تعيشون فيها أكثر صعوبة، وأكثر تعقيداً، وأكثر معاناة. فيجب أن نضع في ذهننا بادئ ذي بدء أننا نعيش في وضع غير طبيعي، فأنتم تربون أولادكم على قيم تخالف قيم المجتمع، وتسمعونهم غير ما يسمعهم المجتمع، وتأمرونهم بخلاف ما يأمرهم به المجتمع، إنكم تسيرون في اتجاه والمجتمع في اتجاه آخر؛ فأنتم تسيرون ضد التيار. فيجب أن نعي -إخواني وأخواتي- أنه يصعب أن نقضي على المشكلة نهائياً، ولا أعتقد أن هناك حلولاً يمكن أن تنقلنا إلى بر الأمان، وأن تجعل قضية التربية قضية محسومة مضمونة النتائج، لئن كان هذا الأمر صعباً على أولئك الذين يعيشون في بلاد الإسلام، فالذين يعيشون مثلكم الأمر لديهم أصعب. فلا بد أن نستوعب طبيعة المعاناة التي نعيشها، وهذا يدعونا إلى ألا نكون مثاليين، وهذا يدعونا إلى ألا نعلق على جهدنا البشري كل شيء، فما نقوله وما نعمله وما نسعى إليه في تربيتنا لأولادنا ونحن في هذه البلاد غاية ما فيه أننا نبذل جهداً، ونبذل سبباً، والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى.

لابد من التضحيات حتى نجنب أولادنا فتن البلاد الغربية

لابد من التضحيات حتى نجنب أولادنا فتن البلاد الغربية أقول إخواني وأخواتي: لا نتطلع إلى أن تحل المشكلة نهائياً، أعتقد أنكم تعيشون هذا الوضع غير الطبيعي الذي لا يمكن أن تنحل معه المشكلة بصورة قاطعة. أيضاً لا بد من التضحيات، إننا نطلب مطلباً صعباً، نطلب أن نحافظ على أولادنا وبناتنا، نطلب أن نحافظ عليهم في هذه المجتمعات التي نشعر فيها أن التيار يسير في اتجاه ونحن نسير في اتجاه آخر، حين نختار أن نربي أولادنا على قيم الإسلام، وأن نربي أولادنا تربية إسلامية حقيقية ونحن في هذه المجتمعات فيجب أن نعرف أننا اتخذنا قرارات يجب أن نضحي من أجلها، ويجب أن نبذل الثمن من أجلها، ومن هنا فأولئك الذين يجعلون قضية التربية آخر اهتماماتهم غير مصيبين، فهو على سبيل المثال حين يختار سكناً فإن العامل الأول الذي يدفعه لهذا السكن هو مدى قربه أو بعده من موقع عمله، أو من جامعته التي يدرس فيها. وهو حين يختار مدينة يسكن فيها، وحين يختار حياً، وحين يختار منزلاً فإنه يتخذ قراراً، وحينما تكون التربية آخر ما يرد في ذهنه فإنه بحاجة إلى أن يعيد النظر في جديته، أقول حينما نطلب أمراً غالياً فلا بد أن ندفع الثمن، وهذا يعني أننا لا بد أن نضحي بمكتسبات كثيرة، فقد يحتاج الأمر أن نتحمل مزيداً من المال، ومزيداً من الوقت، ومزيداً من الجهد، وقد نتنازل عن أمور نرغبها في سبيل تهيئة بيئة تربوية مناسبة لأولادنا، وما لم نحمل الاستعداد على التضحية فأعتقد أننا سنخسر كثيراً.

الاهتمام بتربية الأولاد في بلاد الغرب من أهم الأولويات

الاهتمام بتربية الأولاد في بلاد الغرب من أهم الأولويات ولا بد أيضاً من ترتيب الأولويات، وأعتقد أن صلاح أولادنا واستقامتهم من أهم الأولويات لدينا، ومن أعظم الأمور، إن الأب حين يمرض ولده فإنه يبذل كثيراً من ماله لأجل أن يعالجه، وحين لا يتاح له العلاج في بلده فإنه يسافر، ويستدين ويقترض، ويتحمل، ولا يستكثر شيئاً من ذلك؛ لأجل أن ينقذ ولده من هذا المرض؛ فكيف إذا كان المرض أشد؟ وكيف إذا كان المرض يتعلق بمرض القلب؟ وكيف إذا كان الأمر يتعلق بالهلاك الذي لا نجاة بعده؟ وكيف إذا كان الأمر يتعلق بهذا المصير المحتوم؟ عافانا الله وإياكم. فلئن كان الأب يضحي ويبذل الجهد من أجل أن ينقذ ولده من مرض البدن، فأعتقد أن غيره من الأمراض أولى بالتضحية، وأولى بأن يدفع الثمن من أجلها. فلا بد إذاً إخواني وأخواتي أن نضع هذه القضايا في الاعتبار، فنحن نعيش في وضع غير طبيعي، ولا يمكن أن نحل المشكلة نهائياً، إنما غاية ما نقدمه أن نقدم وسائل تعين على التعايش بصورة أفضل مع هذه المشكلة، ومع هذه المعاناة، ولا بد من أن نضحي؛ لأننا نطلب أمراً باهظ الثمن، ولا بد من ترتيب الأولويات. ما هو مكمن المشكلة؟ مكمن المشكلة باختصار أننا نعيش في بيئة مناقضة لما نريد، فنريد أن نربي أولادنا على خلاف ما تدعوهم إليه البيئة التي يعايشونها في الشارع، وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام، وفي السوق هنا وهناك. وأعتقد أننا يمكن أن نعمل من خلال مسارين: المسار الأول: إضعاف المؤثرات التي تؤثر سلباً على أولادنا، وحين أقول الأولاد، فإنني أعني بذلك البنين والبنات. المسار الثاني: أن نقوي المانع الذي يجعل أولادنا يكونون أكثر قدرة على مواجهة هذه المؤثرات التي تناقض ما نريد.

إضعاف المؤثرات التي تؤثر سلبا على الأبناء لتجنيبهم شرور بلاد الغرب

إضعاف المؤثرات التي تؤثر سلباً على الأبناء لتجنيبهم شرور بلاد الغرب المسار الأول: إضعاف المؤثرات. لا بد أن نعي إخواني وأخواتي طبيعة النفس البشرية، فالنفس فيها ميل للشهوة، فيها ميل للهوى، فيها الكسل، والنفس قد تقتنع بأن هذا الطريق لا يقودها إلى طريق الخير والسعادة، وقد تقتنع بأن هذا الطريق يقودها إلى الهلاك والبوار، ومع ذلك فهي تلتزم هذا الطريق. إن كثيراً من المسلمين الذين نراهم يتجرئون على الكبائر، ويتجرئون على المعاصي، يدركون ما هم عليه من خطأ، فلم يؤتوا من جهلهم، وإنما أتوا من ضعف إرادتهم، ومن ضعف سيطرتهم على أنفسهم. فإذا أدركنا إخواني وأخواتي طبيعة النفس البشرية، وأن النفس تضعف، وأن الاقتناع وحده ليس هو الباعث الوحيد للإنسان على سلوك الطريق، وأن الإنسان قد يسلك طريقاً بخلاف ما يقتنع به، ندرك عندها أن العلم وحده لا يكفي، وأن التوجيه وحده لا يكفي، وأن الإقناع وحده لا يكفي، وإن كان كل ذلك لا بد منه إلا أنه لا يكفي، فلا بد من إرادة، ولا بد من تضحية، ولا بد من تخل. وكم نرى في أنفسنا أننا تأتينا ظروف ومواقف تدعونا إلى أن نقع في المعصية، وإلى أن نتكاسل عن الطاعة، ليس جهلاً منا وإنما ضعف أمام هذه المؤثرات. إذاً: فإضعاف المؤثرات والتقليل منها يجنب أولادنا الوقوع في كثير من هذه المزالق. لقد جاء الشرع لسد الذرائع، فنهى عن الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، ونهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ونهى أن يخلو الرجل بالمرأة، وأمر المرأة بالحجاب، وحرم الغناء، وحرم السفور والتبرج. وجاءت أحكام كثيرة القصد منها تقليل فرص التأثير على الناس بما يقودهم ويدفعهم إلى المعصية، هذه الأمور لم تحرم لذاتها؛ وإنما حرمت لكونها وسيلة للوقوع في الحرام، وماذا يعني حين يحرم الشرع هذه الأمور؟ يعني: أن النفس بحاجة إلى أن تنقذ وأن يحال بينها وبين هذه المؤثرات، هذا الأمر لا بد أن نعيه؛ لأن من الناس من يلغي هذا الاعتبار، ويرى أن الاقتناع هو كل شيء، وأن أهم شيء هو الإقناع، فالإقناع أمر مهم وضروري وسنأتي إليه، لكن لا بد أن نضعف هذه المؤثرات قدر الإمكان، نضعف المؤثرات من خلال حجب ما نستطيع حجبه منها، أو التخفيف من شرها. وإضعاف هذه المؤثرات يتم بأمور عدة:

تقليل فرص التعرض لهذه المؤثرات

تقليل فرص التعرض لهذه المؤثرات الأمر الأول: تقليل فرص التعرض لها فنسعى قدر الإمكان إلى أن نقلل من فرص تعرض أولادنا للمظاهر والمواقف السيئة في هذا المجتمع، بحيث أن نقلل قدر الإمكان من الخروج إلى الأماكن العامة، وأن نقلل من اصطحابهم إلى الأسواق والأماكن العامة التي يظهر فيها هؤلاء على سجيتهم، ويمارسون سلوكيات وأخلاقاً وأموراً أنتم أعلم مني بها. وأيضاً من وسائل تقليل فرص التعرض لهذه المؤثرات: وسائل الإعلام. وهي من أكثر ما يؤثر على الناس، ومن وسائل ضبط ذلك أن نقلل قدر الإمكان من تعرض أولادنا لمتابعة ومشاهدة التلفزيون والإنترنت، وأن نسعى إذا ابتلينا بهذه الأدوات ولم نجد بديلاً للتخلص منها أن تكون في مكان عام في المنزل، ومكان متاح، وأن نحذر أن تكون في غرف الأولاد، نحرص أن تكون المشاهدة قدر الإمكان جماعية إذا اضطررنا لذلك، مصحوبة بالتعليق المناسب والمقنع على المواقف المخالفة، فلا نترك أولادنا يتابعون الشاشات لوحدهم، ويتابعون وسائل الإعلام لوحدهم. إذاً: فالأمر الأول أيها الإخوة والأخوات الذي يضعف هذه المؤثرات: أن نقلل من فرص تعرض أولادنا لها من خلال وسائل عديدة، وما ذكرته هو لمجرد التمثيل لا الحصر.

تشكيل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي

تشكيل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي الأمر الثاني أيضاً الذي يضعف هذه المؤثرات: أن نشكل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي، فأولادنا يبهرون بما يرونه خاصة من ولد منهم في مجتمعات المسلمين، وعاش فيها حتى بلغ سن الإدراك، ثم جاء إلى هذه المجتمعات فإنه يصدم بما يراه في واقع المجتمع الغربي، وهذه الصدمة قد تنتقل إلى تقبل القيم الغربية، وتقبل السلوك الغربي، وإلى إعادة مناقشة مسلمات موجودة عنده؛ لأنه رأى هذا الفارق الحضاري الهائل. فالسعي إلى تشكيل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي مما يقلل من تأثير هذه المؤثرات التي سيتعرض لها، ويكون ذلك من خلال نقد قيم الحضارة الغربية، فنتحدث نحن وإياه عنها وننقد هذه القيم نقداً علمياً موضوعياً، ليس مجرد الذم، وليس مجرد فقط الانتقاد، لا بد أن يكون النقد باللغة التي يفهمها، وباللغة التي يسمع لها، وأعتقد أننا نملك الوسائل الكثيرة التي نستطيع من خلالها أن نقنع أولادنا بذلك. فمثلاً: التفكك الأسري أمر من أهم ما يميز الواقع الغربي، والأمة الإسلامية تعيش بخلافه، فالعيش هناك هو للمصالح المادية، فالناس يخدمونك ويتعاملون معك إذا كانوا يرجون من ورائك مصلحة مادية، وغياب قيم الإيثار كالكرم والشجاعة وغيرها من القيم الأصيلة التي تميل إليها النفس قبل أن تخاطب بالدين، وتسر بها، وتثني على أهلها، فعلينا بإبراز هذه الفوارق، وإبراز هذه القيم التي فقدها العالم الغربي، واجعل أولادك ينظرون إلى الوجه الآخر للعالم الغربي. إذاً: إبراز الوجه الآخر: كالجريمة، والتفكك الأسري، والانحلال، كل ذلك يعطيه صورة أخرى غير صورة الواقع المادي الذي يبهره.

التثقيف تجاه الشهوات

التثقيف تجاه الشهوات الأمر الثالث الذي يضعف هذه المؤثرات: التثقيف تجاه الشهوات، فالشهوات تشكل سلطاناً على النفوس، والمجتمع الغربي اليوم مجتمع مأفون بهذه الشهوات، مجتمع تعرض فيه الرذيلة أمام الناس ويرونها تمارس في الشارع، ويرونها في التلفاز، وعلى شبكة الإنترنت، وعلى الصحف، فيتعرض لها أولادنا وهذا التعرض قد يؤثر عليهم. فنحن بحاجة إلى أن نثقف أولادنا عن الشهوات، وأن نحدثهم عن قيمة الإنسان، وأن الإنسان أسمى وأكرم من أن يكون عبداً لشهواته، وأن يعيش عيشة البهائم كما نرى من الممارسات التي نراها في الشوارع وفي القطارات وهنا وهناك، وأن هذا الإنسان كرمه الله عز وجل، وأن الإنسان هو الذي يتحكم في شهوته ولا تتحكم فيه، فيبرز هذا الجانب وهو تثقيف أولادنا تجاه الشهوات، وليس فقط من خلال الحكم الشرعي -وإن كان الحكم الشرعي مطلوباً- وإنما أيضاً من خلال إبراز أن الرجولة عند الشاب هي في سيطرته على نفسه، وأن الانتصار الحقيقي للفتاة هو في أن تشعر أن طريق الفساد متاح أمامها، ثم تمتنع عنه بإرادة وعزيمة وإصرار. هذه هي قوة الشخصية، وهي الوجود الحقيقي للإنسان، هي قيمة الإنسان الذي يمتاز به عن الحيوان الذي ليس بينه وبين أن يمتع نفسه بشهوته إلا أن تدعوه شهوته لذلك.

إبراز الوجه الحضاري للأمة الإسلامية

إبراز الوجه الحضاري للأمة الإسلامية الأمر الرابع: إبراز الوجه الحضاري للأمة. صحيح أن أمة الإسلام اليوم تعيش واقعاً سيئاً، وتعيش واقعاً لا يسر المسلم أن ينتسب إليه، خاصة في ظل المجتمع الغربي الذي يعتبر القيم المادية هي كل شيء، ويعلي شأن هذه القيم المادية، إننا نملك رصيداً هائلاً في تاريخنا وفي تاريخ أمتنا، وهذا التاريخ يغيب عن أولادنا خاصة أولئك الذين يعيشون في بلاد الغرب، فربما يدرس الذين يعيشون في بلاد الإسلام شيئاً من تاريخ الأمة وإن كان لا يكفي، لكن أولئك الذين عاشوا في بلاد الغرب يجهلون كثيراً من معالم تاريخ الأمة، ومن ثم فإن مواقف التاريخ الإسلامي المشرقة بدءاً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، والدولة الأموية، والعباسية، وغيرها في الحضارة الإسلامية التي حكمت مشرق الأرض ومغربها، فيبرز هذا التاريخ ليس لمجرد التاريخ السياسي: جاء خليفة ثم مضى وجاء آخر، وإنما إبراز الجانب الاجتماعي في تاريخ الأمة، وإبراز الجانب الحضاري في تاريخ الأمة، والجانب العلمي، إبراز هذه الجوانب المشرقة في تاريخنا الإسلامي، وأعتقد أنه يمثل حاجة ملحة لأولئك الذين يعيشون في بلاد الغرب أن نعطيهم البديل، فإنه يشعرهم بأنهم ينتمون إلى أمة عريقة، وينتمون إلى أمة قادرة على أن تبني حضارة لا تقارن بها هذه الحضارة المادية التافهة. إن التاريخ يبرز النموذج الواقعي أمام الناس، فيقنع الناس بإمكانية تحول المثل إلى نماذج واقعية يرونها ويعايشونها، فإبراز تاريخ الأمة يمثل ضرورة ملحة في خطابنا وتربيتنا لأولادنا وبناتنا، وأرى أن المدارس الإسلامية والمراكز الإسلامية لم تقدم أنشطة للأطفال والشباب، فيجب أن يأخذ التاريخ الإسلامي والتعريف به، خاصة الجوانب الحضارية، والجوانب المشرقة، أن يأخذ ذلك مكاناً مهماً في البرامج التي تقدم.

إبراز محاسن الإسلام

إبراز محاسن الإسلام الأمر الخامس: إبراز محاسن الإسلام. أن نبرز محاسن الإسلام لأبنائنا ولبناتنا، كيف أن الإسلام أنقذ الإنسان من الجاهلية، وأنقذه من الضلال والتيه والتخبط، وكيف أن الإسلام ارتفع بالإنسان، وكيف أن الإسلام جاء بهذا الدين العظيم الذي لا تتعارض فيه مطالب الدنيا مع مطالب الآخرة. إننا نبرز الإسلام والدين لأولادنا على أنه تكاليف، وعلى أنه واجبات، صحيح أنهم بحاجة إلى أن يتربوا على الامتثال، لكننا بحاجة إلى نبرز الجانب الآخر، فنبرز محاسن الإسلام للناس، ونبرز أثر هذا الدين في تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله عز وجل، وكمال هذا الدين وعظمته تؤكد على الانفصال بين حقائق الدين وبين واقع المسلمين اليوم، فواقع المسلمين اليوم لا يمثل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام. إذاً: إخواني وأخواتي هذا المحور الأول، وهو محور مهم: أن نضعف المؤثرات التي تؤثر على أولادنا وبناتنا من خلال تقليل فرص التعرض لها، ومن خلال تشكيل السلبية نحو الواقع الغربي، ومن خلال التثقيف تجاه الشهوات، ومن خلال إبراز الوجه الحضاري للأمة، ومن خلال إبراز محاسن الإسلام.

تقوية المانع الداخلي الذي يجعل أبناءنا يواجهون هذه المؤثرات

تقوية المانع الداخلي الذي يجعل أبناءنا يواجهون هذه المؤثرات المسار الثاني: أن نقوي المانع الذي يجعل هؤلاء من الداخل يواجهون هذه المؤثرات. ومن وسائل ذلك وأهمها:

البناء الإيماني للأبناء

البناء الإيماني للأبناء الأمر الأول: البناء الإيماني، أن نعنى بتربية الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا. إن كثيراً من أساليبنا التربوية تعتمد على الأمر والنهي وعلى التوجيه، ولا شك أن الأم المسلمة حين ترى ولدها، وحين يرى الأب ولده على منكر فإنه ينهاه، وحينما يراه يقصر في واجب شرعي فإنه يأمره به، لكن ما القدر الذي تبنيه هذه البيوت، هل فيها ما يقوي الإيمان؟ هل فيها ما يصل بالله تبارك وتعالى؟ إننا بحاجة إخواني وأخواتي إلى أن نراجع هذا الأمر؛ فإن كثيراً من بيوتنا تعاني من غياب هذا الأمر، تعاني من غياب البناء الإيماني، فحياتنا صارت حياة مادية، فنفكر بالمادة، ونتناقش في أمور المادة، ونتناقش في أمور الدنيا، وقلما أن يوجد في بيوتنا ما يعمر الإيمان ويقوي الإيمان.

تقوية الإرادة عند الأبناء

تقوية الإرادة عند الأبناء الأمر الثاني: تقوية الإرادة. فنحن بحاجة إلى أن نقوي الإرادة عند أبنائنا وبناتنا، وأن نجعلهم قادرين على أن يقولوا لأنفسهم: لا. حين يستوجب الموقف أن يقولوا: لا. وأن نجعلهم قادرين على أن يقولوا لأنفسهم: نعم. حين يستوجب الموقف ذلك، وتعويدهم على هذا يحتاج منا إلى جهد، إن الإنسان الذي يتعود على أن يضبط إرادته من خلال تأخير استجابته لدافع الطعام، أو الشراب، واسترساله في الراحة إلى غير ذلك، يستطيع أن يضبط إرادته لمواجهة ما هو أكبر من ذلك، فنحن بحاجة إلى أن نعنى بتدريب أولادنا من الصغر على أن يتحكموا في أنفسهم، على أن يضبطوا أنفسهم، على أن نقوي إرادتهم.

تهيئة الصحبة الصالحة

تهيئة الصحبة الصالحة الأمر الثالث: تهيئة الصحبة، والصحبة من أخطر الأشياء وخاصة عند أمثالكم الذين يعيشون في هذه البلاد، إن الشباب المسلم اليوم عرضة لأن يتعرفوا على شاب منحرف أو فتاة منحرفة داخل مجتمعهم، ولكن أولادكم هنا عرضة لأن يتعرفوا على شاب كافر أو فتاة كافرة، والقضية لا تحتمل المخاطرة، فالقضية قد تدعو إلى الكفر والخروج من الدين، وهذا يحتم علينا أن نعتني بهذا الأمر وهذا الجانب، فنحن بحاجة -إخواني وأخواتي- إلى أن نعتني بتهيئة الصحبة الصالحة لأبنائنا وبناتنا، والأمر لا يتم من خلال المزيد من الحديث معهم حول هذا الأمر، وعن أهمية هذا الأمر، فهذا وحده لا يكفي، بل لا بد من الخطوات العملية التي تهيئ لأبنائنا وبناتنا أن يصحبوا الصالحين، وذلك من خلال اختيار المكان المناسب للسكن، وليس صحيحاً أن يختار أحدكم سكنه في أقرب مكان إلى الجامعة، أو أن يختار السكن الأقرب إلى موطن عمله، بل نحتاج إلى أن نختار السكن المناسب، ولو أدى إلى أن نسير خطوات، ولو أدى إلى أن ندفع ثمناً أغلى؛ ففلذات أكبادنا وأولادنا أغلى من أموالنا، وأغلى من كل ما نبذل، فنحن بحاجة إلى أن نختار مكان السكن المناسب، من خلال المكان المناسب القريب من المسجد، من المركز، من سكن المسلمين، اختيار الجيران المسلمين، من خلال اللقاءات العائلية، فمن المهم أن نفعّل اللقاءات العائلية بيننا وبين زملائنا، وأن نصحب عائلاتنا، فإنني حينما ألتقي بزملائي بأسرنا فإن أولادنا يلتقون مع بعضهم، فتلتقي البنات مع بعضهن، بخلاف ما إذا لم نفعل ذلك فإنهم يرون النموذج الآخر، إنه لا يرى إلا الوجه الكالح، فقد يذهب إلى المدرسة، وقد يذهب إلى الشارع، فلا يرى إلا أولاد الكفار، لكن حينما يأتي ويقابل أبناء المسلمين ويجالسهم، فالهموم مشتركة ومتقاربة، فهذه اللقاءات تكثيفها والاعتناء بها أمر مهم، ولو أدى ذلك إلى أن نضحي، ويجب ألا يكون الدافع لهذه اللقاءات مجرد تقضية الوقت، ألا يكون الدافع لهذه اللقاءات مجرد إمتاع الأهل، بل يجب أن تكون هذه اللقاءات مستهدفة لتحقيق التربية، وليس بالضرورة أن يكون معيار نجاحها هو ما نقدم فيها من برامج وتوجيهات أبداً، إن مجرد اللقاء ومجرد التعارف ومجرد التآلف بين هذه الشريحة بحد ذاته له أثره الكبير على أولادنا وبناتنا. ومن خلال المدارس: اختيار المدارس الإسلامية والمدارس المناسبة التي تهيئ لهم أن يتعرفوا على هؤلاء. إخواني وأخواتي: أنتم أعلم بواقعكم مني، وصلتي بالحياة الغربية لا تعدو أن تكون زيارات عاجلة خاطفة، أو قراءة محدودة، وأنتم أعلم مني بالوسائل التي يمكن أن تعينكم على تهيئة الصحبة الصالحة لأولادكم. إن الصحبة الصالحة المسلمة ضرورة ولا بد أن نسعى إليها، ليس من خلال التوجيه وحده, وإن كان التوجيه مطلوباً ومهماً، لكن من خلال الوسائل العملية التي تعينهم على ذلك، والصداقة والصحبة لا تفرض فرضاً، إنك لا تستطيع أن تلزم ولدك أن يصاحب فلاناً وفلاناً، وإنك لا تستطيع أن تلزم ابنتك أن تصاحب فلانة أو فلانة، قد تستطيع أن تنهاهم وتجبرهم وتعاقبهم، لكنك لا تستطيع أن تخرج محبتهم من قلوبهم.

الاعتناء باختيار المدارس الإسلامية المناسبة للأبناء

الاعتناء باختيار المدارس الإسلامية المناسبة للأبناء الأمر الرابع: الاعتناء باختيار المدارس الإسلامية المناسبة وإلحاق الأولاد بها قدر الإمكان، وأتمنى -إخواني وأخواتي- أن ندرك الخطورة التي قد تودي بأولادنا وبناتنا حينما نحرص على أن نعلمهم نتاج العلم المادي على حساب دينهم، إنك تستطيع أن تلحق ابنك بمدارس متميزة في تعليمها، لكنك قد لا تضمن بعد ذلك لا أقول استقامته، بل لا تضمن دينه، إن الخطورة تتجاوز مجرد الانحراف، وتتجاوز مجرد وقوع الشاب في التدخين أو الوقوع في الفواحش أو الخمور، إنها قد تؤدي إلى الخروج من هذا الدين بالكلية، وقد تؤدي إلى إنكار هذا الدين. إن القضية -إخواني وأخواتي- صعبة، وأتمنى أن تكون تطلعاتنا لأولادنا في إطارها الطبيعي، وأن نشعر أن المحافظة على دينهم أسمى شيء، وهذا يدعونا إلى أن نعتني قدر الإمكان باختيار المدارس الإسلامية المناسبة، وإلحاق الأولاد بها، وإذا اضطررنا إلى المدارس الأخرى فلنسع إلى أن ننسق لهم صداقات في المدرسة، وأن ننسق لبناتنا صداقات، وأن نبحث عن المدارس غير المختلطة إذا أتيحت مثل هذه المدارس.

تقوية القدرة عند أبنائنا على التقويم

تقوية القدرة عند أبنائنا على التقويم الأمر الخامس الذي يقوي المانع: تقوية القدرة على التقويم. فنقوي قدرة الابن على أن يقوم الظواهر، وأن يقوم الأشخاص، وأن يقوم الأفكار، وأن تكون عنده الآلية التي تدعوه إلى إصدار الحكم الصحيح؛ لأنه ستواجهه أفكار جديدة، وستواجهه مواقف، وسيتعامل مع أشخاص وسيتعامل مع فئات، فلا بد من أن يملك القدرة على التقويم، وأن يملك القدرة على أن يعرف الشخص المناسب من غير المناسب، وأن يعرف الصواب من الخطأ، وأن يعرف المستقيم والمنحرف، والقضية ليست بمجرد معلومات وأحكام نلقنه إياها بل نحن بحاجة إلى أن نبني هذه المهارة والقدرة عنده، وأن نقوي قدرته على النقد، فيستطيع أن ينتقد ما يراه انتقاداً مبنياً على أسس موضوعية، ليس مجرد الرفض للرفض، بل يستطيع أن يقول: إن هذا الموقف غير صحيح؛ لكذا وكذا، وتستطيع الفتاة حين تخرج متحجبة أن تدافع عن نفسها، وتستطيع أن تنتقد الواقع الآخر، وأن تنتقد تلك الفتاة المتبرجة، والشاب الذي يرفض أن يقيم العلاقات المحرمة يستطيع أن يبرز موقفه، وأن ينتقد موقف الآخرين. أن نقوي القدرة على اتخاذ القرار وهو أمر مهم، إنه يحتاج إلى اتخاذ قرارات كثيرة في حياته، وستواجهه مشكلات يقدر أن يتعايش معها، وستواجهه صعوبات في تدينه، فهو بحاجة إلى أن يملك القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، فنحن بحاجة إخواني وأخواتي إلى أن نقوي هذه القدرات وهذه المهارات التي تعينهم على أن يكون لديهم المانع القوي الذي يحول بينهم وبين تلقي تأثيرات البيئة السيئة.

ربطهم بأنشطة وبرامج دعوية تناسبهم

ربطهم بأنشطة وبرامج دعوية تناسبهم الأمر السادس: ربطهم بأنشطة وبرامج دعوية تناسبهم؛ الأبناء في محيطهم والبنات في محيطهن، فحين يفكر الابن بالدعوة، ويسعى للمشاركة في الدعوة، فإن هذا يجعله ينظر إلى نفسه نظرة أخرى، وهذا من أكثر ما يعين المرء على المحافظة على نفسه، فلنسع إلى إتاحة المجالات الدعوية لأبنائنا وبناتنا من خلال وسائل عديدة؛ من خلال الإنترنت والتواصل فيها مع المسلمين، ومن خلال الحوار حول الإسلام، ودعوة الناس للإسلام إذا كان يجيد ذلك، ومن خلال العمل في المراكز الإسلامية، ومن خلال إعداد مواد دعوية، فهناك مجالات كثيرة يمكن من خلالها أن نوظف جهود أبنائنا وبناتنا في الأعمال الدعوية. أقول: إخواني وأخواتي إن ربطهم بالأنشطة والبرامج الدعوية التي تناسبهم وتثير عندهم الرغبة والحافز إن هذا مما يعينهم على الثبات، ونحن نلاحظ هذا في حياتنا، فأولئك الذين يمارسون الدعوة من أكثر الناس ثباتاً، والذين يقتصر تدينهم على أنفسهم من أكثر الناس عرضة للتغير.

التعجيل بالزواج للأبناء

التعجيل بالزواج للأبناء الأمر السابع: التعجيل بالزواج. لئن كان الشاب والفتاة اليوم في بلاد المسلمين يؤخرون الزواج، ونعتبر ذلك خطيئة؛ فإنه أشد حينما يكون ذلك في بلاد الغرب. أعرف -إخواني وأخواتي- أن هناك ظروفاً كثيرة تعوق المسلمين دون أن يبادروا في تزويج أبنائهم وبناتهم، وأعرف أن هناك مصاعب كثيرة، لكن حين تكون هذه القضية مهمة لدينا فإننا يمكن أن نتجاوز ذلك، فقد نلجأ إلى أن نبادر بالعقد بين الشاب والفتاة ولو لم ينتقلا إلى بيت الزوجية، ولو عاش كل منهما في بيته، فإذا أتيحت لهما فرص اللقاء فإنه حينئذ يمارس حقه الشرعي من خلال العلاقة والصلة، ويتاح له المصرف الشرعي الذي يحميه بإذن الله، ويحمي الفتاة من الانحراف والوقوع في الفساد، فلا يسوغ -إخواني وأخواتي- أن نقارن واقع أولادنا بواقعنا، وإن كنا نحن -ونحن رجال ونساء كبار- نشعر بأثر هذا الواقع السيئ علينا، فكيف بأبنائنا وبناتنا الذين يعيشون المراهقة، وكيف بأبنائنا وبناتنا الذين لا يجدون المصرف الشرعي، والذين لم تصقلهم التجارب، ولم يكتسبوا الخبرة. أقول: نحن بحاجة إلى أن نعيد النظر في أمور كثيرة، وأن نبادر بالتزويج ولو ضحينا التضحيات، ولو غيرنا في عادات كثيرة اعتدنا عليها، فهذه الأمور السبعة تقوي المانع لأولادنا وبناتنا، وتجعلهم أبعد بإذن الله عن التأثر بما يشاهدونه في هذه البيئة.

ضرورة اقتطاع جزء من الوقت للجلوس مع الأبناء

ضرورة اقتطاع جزء من الوقت للجلوس مع الأبناء وهناك أمور أخرى لا بد منها، فلا بد أن نعطي أولادنا نصيباً من أوقاتنا، وأدرك أنكم مشغولون في دراستكم، ومشغولون بإعمالكم، ومشغولون بمهامكم، لكن منح الأولاد وقتاً نجالسهم فيه، ونشاركهم ألعابهم، ونشاركهم طعامهم، يعد ضرورة؛ خاصة في مثل المجتمعات التي يعيشون فيها.

لابد من تعجيل العودة إلى بلاد المسلمين

لابد من تعجيل العودة إلى بلاد المسلمين الأمر الثاني: لا بد من أن نجعل العودة إلى بلاد المسلمين هي الخيار الأول، وأنا أدرك أن طائفة ممن يقيمون في هذه البلاد قد لا يستطيعون العودة إلى بلادهم، وأدرك أن طائفة ممن يقيمون في هذه البلاد هم ممن يقيمون إقامة مؤقتة لأغراض الدراسة، لكن هناك أعداداً ليست بالقليلة يستطيعون أن يعودوا إلى بلادهم، والأمر فقط مجرد أوضاع مادية أحسن من تلك الأوضاع التي يعيشون فيها في بلادهم، أو أنهم يضخمون الأمور الأخرى، لست أقول: إن كل من يقيم هنا كاذب في ادعائه، ولست أقول: إنه قادر على العودة، لكن أقول: اجعلوا العودة إلى بلاد المسلمين هي الخيار الأول ولو ضحيتم ببعض الفرص المادية التي قد لا تجدونها في بلاد المسلمين؛ فإن هذا أولى من أن تضحوا بأولادكم.

أهمية زيارة البلاد الإسلامية

أهمية زيارة البلاد الإسلامية الأمر الثالث: من المهم زيارة الدول الإسلامية -سواء دولكم أو الدول الأخرى- قدر الإمكان، وهذه الزيارة -مهما كانت أوضاع الدول الإسلامية غير مشجعة- تجعلهم يرون الصورة الأخرى: يرون المساجد، ويرون المصلين، ويرون البيئة الإسلامية، ويرون الفارق، وحينما ندير نحن التعامل مع ما يشاهدونه من واقع في هذه الدول من خلال إبراز الوجه الآخر، وأن نبرز التواصل الاجتماعي، والكرم، والسخاء، والصور الايجابية في كثير من بلاد المسلمين والتي يفتقدونها في واقعهم الآخر الغربي، وأن نبرز الصور السيئة في الواقع الغربي، فإن هذه تربطهم بأمتهم وتربطهم بواقعهم. لقد رأيت في بعض البلاد طائفة ممن هاجروا من الدول الإسلامية لا يفصل بين بلدهم الأصلي والبلد الذي يقيمون فيه إلا البحر، كنت أقول: لو ذهبت سباحة في هذا البحر لوصلت إلى بلدكم، ومع ذلك فإن الجيل الثاني لا يعرف لغة بلده لا يعرف اللغة العربية، ولم يزر بلده قط، وليس هناك ظروف تمنعه من ذلك. فهذا التزاور سيتيح اللقاء بأقرانهم من الصالحين، والمشاركة في بعض أنشطتهم، فحينما تذهب إلى بلاد المسلمين تحرص قدر الإمكان على أن يلتقوا بالشباب الصالحين، وبالفتيات الصالحات، ويشاركوهم بعض الأنشطة، وهذا سيكون بإذن الله عز وجل له دور في ربطهم بأمتهم، وفي ربطهم بدينهم، وفي إبراز الصورة الأخرى من الواقع المقابل للواقع الذي يعيشونه. أخيراً: قد نضطر إلى التعامل مع الواقع الذي يفرض نفسه، فقد لا يكون ولدك متديناً، وقد لا يكون صالحاً، وقد لا تكون بنتك كذلك، وسيبقى ولدك هو ولدك وتبقى بنتك هي بنتك، فحينما لا يكون أولادك على ما يسر فلا غنى لك عن التعامل معهم، ولا غنى لك عن تقبل هذا الوضع، صحيح أنت لا تسوغ الانحراف، ولا تقبل بالانحراف، ولا تقل: إن طريقك صحيح، لكن يجب أن تقف في نقطة وسط بين بيان الخطأ، وبيان عدم رضاك عما هو عليه، وبين تقبله، فسيبقى ولدك وستبقى ابنتك بعد ذلك. هذه بعض الخواطر التي في ذهني حول مثل هذا الموضوع، وأدرك أن تجربتكم ومعايشتكم لا شك أنها تقودكم إلى أن تدركوا في مثل هذا الأمر ما لا أدركه، لكني استجابة لطلب الإخوة ورغبة في الحديث معكم، والذي كنت أتمنى أن يكون حديثاً مباشراً، وأن يكون كفاحاً، وأن يتم اللقاء بيننا وبينكم، لكن ما دام أنه لم يتح لنا هذا اللقاء فلا أقل من مثل هذا اللقاء البعيد الذي لا يفي بما أريد وما تريدون. أسأل الله عز وجل أن يكون لقاء طيباً ومباركاً، ويهب لنا وإياكم من أزواجنا وذريتنا قرة أعين، ويجعلنا للمتقين إماماً؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مغالاة بعض الآباء في مهور بناتهم؛ لسداد تكاليف الحياة في الغرب

حكم مغالاة بعض الآباء في مهور بناتهم؛ لسداد تكاليف الحياة في الغرب Q بعض الآباء يغالي في مهر ابنته؛ لسداد جزء من التكاليف المادية التي يعاني منها في بلاد الغرب، ما رأيكم في ذلك؟ A لئن كان هذا الأمر ممقوتاً في بلاد المسلمين، ففي مثل هذه البلاد أعتقد أنه أكبر خطيئة، والمهر لماذا شرع؟ المهر ليس ثمناً للفتاة، والعاقل لا يتاجر ببناته، فالمهر حق لها، وأرى أنه من واجب الأب أن يبادر في تزويج ابنته إذا بلغت سن النكاح، خاصة في مثل هذا البلد، فينصح إذا وجد شاباً مسلماً محافظاً يمكن أن يقترن بابنته أن يبحث عنه ويرضى به، ولو أن المسلمين يشعرون بأن الله تعبدهم بالمهر لرأيت أن الرجل الغيور الحريص على ابنته يبذل المال هو لأجل أن يحصل على الزوج الصالح. فأقول إخواني وأخواتي: إن المال يذهب ويأتي، وهب أنك وجدت مالاً كبيراً، وهب أن ابنتك تزوجت بشاب ثري فماذا يكون؟ فالمال يزول ويذهب، والرصيد الحقيقي هو في الإيمان وفي التقوى وفي طاعة الله، وماذا يغني -لا سمح الله- إن بقي ولدي أو بقيت ابنتي لم تتزوج، ثم أدى بها ذلك إلى الضلال والانحراف، وصارت من حطب جهنم، ماذا يغني المال؟ وماذا يغني عرض الدنيا؟ ولو سئل أي إنسان: أيهما أهم عندك دينك أم دنياك؟ فلا أعتقد أن مسلماً سيجيب بالأخرى، لكن حينما نرى واقعنا وسلوكنا فإننا نرى خلاف ذلك، فيستغرب الإنسان حين يرى المسلم يجعل بناته تختلطن بالرجال ولو كانوا صالحين! وتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختلاط فقال: (إياكم والدخول على النساء، قالوا: فالحمو؟ قال: الحمو الموت). والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، فحرم الشرع الاختلاط والخلوة سداً للذريعة والفساد، فكيف إذا كانت الفتاة البالغة تختلط مع شباب غير مسلمين لا يردعهم دين، أي تربية تتربى عليها؟ وأي قيم تتلقاها؟! وأي فساد يمكن أن تصل إليه وهي تعيش في هذا الواقع، إذا كنا اليوم نعاني ونحن في بلاد المسلمين المحافظة، وبناتنا لا يدرسن في مدارس مختلطة؟! إننا نعاني من تأثير المجتمع هذا التأثير السيئ فكيف بما وراء ذلك، فإذا أتمت البنت الدراسة ولم نجد مدرسة منفصلة فأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أن نلحقها بهذه المدارس، فهناك فرص أخرى وبدائل أخرى، كأن نبادر بتزويجها لتكون ربة أسرة، ولا نبقيها في ظل هذا المجتمع المتعفن.

الفصل في مسألة التردد بين اختيار المدارس الإسلامية أو المدارس الإنجليزية

الفصل في مسألة التردد بين اختيار المدارس الإسلامية أو المدارس الإنجليزية Q نتردد كثيراً في الاختيار بين المدارس الإسلامية رغم ما فيها من ضعف، وبين المدارس الإنجليزية؟ A لقد ذكرت في بداية حديثي أننا بحاجة إلى تضحية، وأننا حينما نريد أن نربي أولادنا ونحن في هذه المجتمعات على قيم تخالف هذه القيم، فإننا بحاجة إلى تضحية، ولهذا قد نضطر إلى أن ندخلهم في مدارس إسلامية أضعف حالاً من المدارس الإنجليزية، قد يكون فيها رسوب، وقد تكون المدرسة بعيدة، لكن نحن لا نقارن بين الأمرين على أنهما فرصتان متساويتان، ولو قارنت بين إلحاقهم بمدرسة إنجليزية أو مدرسة إسلامية على أنهما فرصتان متساويتان فإن المقارنة لن تكون مجدية، وسأشعر بتميز هذه المدرسة الإنجليزية، لكن حينما أضيف إلى ذلك الأمر الآخر فأعتقد أنني لو ضحيت بقدر من التعليم الذي يكتسبه الولد ويمكن أن أعوضه أنا من خلال الخبرات، ويمكن أن نعوضه نحن من خلال ترتيب برامج مشتركة لأولاد المسلمين تكمل لهم ما يفتقدونه في تلك المدارس؛ فإن هذا خير لنا بكثير من أن يذهبوا إلى تلك المدارس، ولو قل مستوى تعليمهم عن أولئك الذين يلتحقون بتلك المدارس، فإن التعليم العالي المتميز بدون الدين لا قيمة له.

حكم إلحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية

حكم إلحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية Q ماذا ترون في إلحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية؟ A أرى قدر الإمكان أن يكون إلحاق أولادنا بالمدارس الإنجليزية هو في دائرة الضرورة، وكلما استغنينا عن ذلك فهو أولى، وأنا أعرف أنني حينما أدخل ولدي في مدرسة إنجليزية فإنه سيجيد اللغة، وسيتعلم مهارات كثيرة إلى آخره، لكن ستكون فرص تأثره أكثر، وستكون فرص تشربه لقيم هذا المجتمع أكثر، وأعتقد أن الأولى أن اختار خيار الدين، وخيار المحافظة عليه. مرة أخرى أقول: هناك فرص كثيرة يمكن من خلالها التعويض، يمكن أن نستأجر معلمين ومعلمات من المسلمين الإنجليز، يمكنهم أن يقدموا برامج جيدة، ويمكن أن تتعاون الجالية المسلمة على ترتيب برامج تعليمية، فهناك بدائل يمكن أن تعوض، وقد لا تصل إلى حد أن تكون مثل ما تقدمه المدارس الإنجليزية لكنها يمكن أن تعوض كثيراً مما يفتقدونه جراء عدم التحاقهم بهذه المدارس، وبخاصة أولئك الذين يقيمون إقامة مؤقتة، فهم بحاجة إلى إتقان اللغة العربية أكثر من غيرهم.

العلاقة بين الزوجين وتأثيرها على تربية الأولاد

العلاقة بين الزوجين وتأثيرها على تربية الأولاد Q ألا ترون أن من مشكلتنا في التربية تكمن في العلاقة بين الزوجين، وغياب القدوة داخل المنزل؟ A لا شك أن العلاقة بين الزوجين من أهم الأمور التي تعين على النجاح في التربية، إنها تجعل البيت أكثر استقراراً، وتجعل البيت بعيداً عن الاختلاف، وتجعل الأم تعيش في جو نفسي مريح، وتجعل الأب يعيش في جو نفسي مريح، وتجعل البيت أفضل مكان للزوج يجلس فيه، وتجعل الأم ترى أن بيتها هو أفضل مكان، والأولاد يرون صورة مثالية من التعامل، وهذا يترك أثره عليهم، وفي المقابل فإنهم حين يرون الصراع والخصومة والمشكلات بين الوالدين، فإنهم لا يمكن أن يتربوا على حسن الخلق، ولا أن يعيشوا جواً مستقراً، والأطفال يفهمون أكثر مما نتصور وأكثر مما نظنه فيهم. الأمر الثاني الذي أشار إليه السائل هو: القدوة، فالقدوة من أهم وسائل التربية، بل بدون القدوة لا يمكن أن نربي أولادنا تربية صحيحة، فأولئك الذين لا يفعلون ما يقولون هم في واقع حالهم يأمرون الناس بقولهم، لكنهم ينهونهم بفعلهم، فالأب الذي لا يتصف بالخلق الحسن لا يربي أولاده على حسن الخلق، والذي لا يحافظ على الصلاة لا يمكن أن يربي أولاده على المحافظة على الصلاة وهكذا سائر الأمور.

كيفية التعامل مع أسئلة الأطفال

كيفية التعامل مع أسئلة الأطفال Q كيف يمكن أن نتعامل مع أسئلة الأطفال؟ A هناك مراحل عند الأطفال يكثرون فيها من الأسئلة، وهذه أسئلة أحياناً قد لا يدرك ما وراءها، ولا يمكن حتى شرحها لهم، وهذا غير الأسئلة المحرجة، وقد يسأل عن أمور الإجابة عليها تتجاوز إدراكه العقلي، فالطفل مثلاً لا يدرك المعاني المجردة وإنما يدرك الأمور المحسوسة، فعندما يسأل عن شيء فهو يحتاج إلى أن تقرب له هذا المعنى مجرداً بصورة محسوسة، وقد لا تستطيع ذلك، فلا شك أن هناك أسئلة كثيرة ترد من الطفل ربما يصعب على الوالدين أن يجيبا عليه فيها، لكن الأمر يحتاج أولاً إلى ألا نتجاهل الإجابة على السؤال خاصة إذا كان ملحاً، وأن نجعل من السؤال فرصة لتنمية قدراته ومهاراته العقلية، وأن نجعل السؤال مدعاة إلى التفكير، فلا نقدم له الإجابة مباشرة، والأسئلة التي فيها نوع من الحرج يمكن أن تقرب له الصورة فيها، فهو مثلاً حينما يسأل عن الابن كيف يأتي؟ فنقول له: إنه ينبت في بطن الأم، ثم يكبر، ثم يخرجه الله عز وجل إلى الحياة، فبمثل هذه الصورة يمكن أن تقرب له.

تحمل نتيجة الزواج في بلاد الغرب ولو من مسلمة

تحمل نتيجة الزواج في بلاد الغرب ولو من مسلمة Q تزوجت بإنجليزية مسلمة ولي منها طفلة، فطلقتها، واستطاعت الحصول على حضانة الطفلة، فماذا أفعل وأنأ أريد العودة إلى بلادي؟ A أنت أعلم بالمداخل القانونية لمثل هذا الأمر، لكن إذا استطعت أن تأخذ ابنتك معك بأي طريقة، وبأي حق قانوني، فأولى بك أن تأخذها قدر الإمكان، وهذه المشكلة من مشكلات الزواج في هذه المجتمعات، فلا بد أن ندفع الثمن. فأقول: إذا كان تأخرك لمدة من الزمن قد يساعدك على أن تحصل على ابنتك وتذهب بها، فأولى بك أن تتأخر؛ حتى تنقذ ابنتك من أن تعيش في هذا المجتمع، وأنا أقترح على الأخ أن يفكر في مراجعة زوجته إن استطاع قدر الإمكان ولو تحمل شيئاً من المعاناة، وما دامت مسلمة فهناك قدر مشترك بينكما فتقتنعان على الأقل بحاجتكما إلى المحافظة على ابنتكما، فتسعى للحوار بصورة تجعل الحفاظ على الأولاد وعلى دينهم أهم من مجرد أن يصر كل منكما على موقفه.

الوسائل التي تقوي الإرادة في نفوس أبنائنا

الوسائل التي تقوي الإرادة في نفوس أبنائنا Q ما الوسائل التي ترون أنها تقوي الإرادة في نفوس أولادنا؟ A هناك وسائل عديدة يمكن أن تعين على تقوية الإرادة، منها: التعويد، فنعود أولادنا ألا يستجيبوا لكل ما تطلبه أنفسهم، والعبادات الشرعية فيها أثر كبير في تقوية الإرادة كالصيام والصلاة وغيرها، وتأخير الاستجابة، وليس تأخير الاستجابة للرغبات الذي يقوم على التحكم، وإنما به نوع من التعويد لهم، فيمكن أن يقوي الإرادة، وكذلك التعويد على التفكير في البدائل، فيعود الولد على أن يفكر ماذا سيدفع؟ أو ماذا سيأخذ وماذا سيجني إذا استجاب؟ وماذا سيجني إذا أخر الاستجابة؟ كل هذه الأمور مما يعين على تقوية الإرادة في نفوس أولادنا.

أهمية تعليم الأبناء اللغة العربية

أهمية تعليم الأبناء اللغة العربية Q كيف ترون أهمية تعليم الأولاد اللغة العربية؟ A اللغة العربية مهمة؛ لأنها أولاً: هي الوسيلة لفهم القرآن، ولفهم السنة، ولفهم الكتب الإسلامية، ولفهم كلام أهل العلم. ثانياً: أنها تعطيه شعوراً بالانتماء للأمة العربية والأمة المسلمة، فإذا قابل مسلماً فإنه يستطيع أن يتحدث معه، وتهيئ له فرص الحوار مع إخوانه المسلمين من العرب، فما يتاح من مواد دعوية، ومن مواد خيرة متنوعة في الإنترنت وغيرها هو باللغة العربية، فيمكن أن يتعامل معها، فيعيش الأبناء حينها هموم العالم الإسلامي، ويعيشون أخباره، ويعيشون واقعه، وأما حينما تكون اللغة مختلفة فإنهم يعيشون بصورة معزولة، فإذا عرف الابن اللغة العربية فإنه يفهم القرآن إذا قرأه، وتؤثر فيه السنة، ولا شك أن لهذا أثراً كبيراً في استقامة الأولاد على طاعة الله عز وجل وعلى دينه.

حكم تربية الأولاد على أن يقولوا لكل من وجدوه من الكفار يا كافر

حكم تربية الأولاد على أن يقولوا لكل من وجدوه من الكفار يا كافر Q ما رأيكم في تربية الأولاد على أن يقولوا لكل من يقابلونه من الكفار يا كافر؟ A لا اعتقد أن هذا مناسب، ولم يكن هذا من شأن المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم عايش اليهود في خيبر، وعاش أهل الذمة في بلاد المسلمين، صحيح أنه كان لهم أحكام خاصة، لكن لم يكن من شأنهم أنهم كل من يلقونه يقولون له: يا كافر، والصورة تختلف الآن، فالأبناء يعيشون في وضع هم فيه ضعفاء مستضعفون في هذه المجتمعات، فهذا الأمر لا يحقق المصلحة، وهذا الأمر يقودهم إلى أن يختلفوا معهم، ويقودهم إلى أن يتصارعوا معهم، وقد يقودهم إلى مواقف قد لا يستطيعون بعد ذلك الدفاع عنها والثبات عليها.

أثر المدارس الإنجليزية على أولاد المسلمين

أثر المدارس الإنجليزية على أولاد المسلمين Q ما تقييمكم لأثر المدارس الإنجليزية على أولاد المسلمين؟ A أعتقد أنكم أعلم مني بذلك، لكن من أهمها: أن الذين سيدرسونهم غير مسلمين وغير مسلمات، وأن الطلاب الذين يدرسون معهم غير مسلمين، فهي مدارس مختلطة، مدارس الدين لا يمثل شيئاً فيها، ولا قيمة له فيها، يدرس فيها كل شيء إلا الدين، بل يدرس العالم المادي، وهذه من أخطر الأشياء التي يمكن أن تؤثر على أولادنا، البيئة السائدة في المدرسة، المناهج، النظام، فلسفة الحياة، النظرة إلى الحياة، كل هذه الأمور هي من نتاج هذه المدارس. جزاكم الله خيراً، وبارك فيكم وأثابكم، وأسال الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التربية الجادة ضرورة

التربية الجادة ضرورة إن المجتمعات والمؤسسات التربوية، والتجمعات بل الأفراد جميعاً يمارسون التربية لأنفسهم، ولكن ليست هذه التربية هي التي نريد، فنحن نريد التربية التي تهيئ المرء ليكون عبداً حقاً لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلاً أن يحمل هذه الرسالة وأن يتحمل تكاليف هذا الدين، ومن ثم كان لابد من الحديث عن التربية الجادة.

التربية التي نريد

التربية التي نريد بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهذا هو الدرس السابع من الدروس التربوية أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة، وأن يعيننا على إتمامها والاستفادة منها. وهذا الموضوع إنما هو امتداد للموضوع السابق، فنحن كما أننا بحاجة إلى القناعة بأهمية التربية والحديث عن ضرورتها، والعناية بها نحن كذلك نحتاج إلى نوع من التربية، إن المجتمعات والمؤسسات التربوية، والتجمعات بل الأفراد جميعاً يمارسون التربية لأنفسهم، وليست كل تربية هي التربية التي نريد، فنحن نريد التربية التي تهيئ المرء ليكون عبداً حقاً لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلاً أن يتحمل هذه الرسالة وأن يحمل هذا الدين، ومن ثم كان لا بد من الحديث عن التربية الجادة. وقد نتساءل ماذا نعني بالتربية الجادة، لعل هذا التساؤل تزول الحاجة له عند الحديث عن جوانب هذا الموضوع، ولكننا يمكن أن نقول باختصار: إن التربية الجادة يمكن أن نعرفها من خلال برامجها، فهي تلك التربية التي تحتوي على برامج جادة وعلى برامج طموحة تهدف إلى الارتقاء بالمتربي إلى منازل عالية وإلى منازل الرجال. ويمكن أن نتعرف إليها من خلال الهدف التي تؤدي إليه، والنتيجة التي تصل إليها ألا وهي إعداد الرجل الجاد، الرجل الجاد ليس هو قليل الدعابة والهزل، الرجل الجاد هو صاحب الهدف، الذي يسري في أعماقه وروحه، الرجل الجاد هو من يتوجه بالعبادة الحقة لله سبحانه وتعالى، هو الجاد في طلبه للعلم الشرعي، هو الجاد في دعوته إلى الله عز وجل، هو الرجل القادر على اتخاد القرار الحاسم في الوقت المناسب، هو الرجل الشجاع، هو الرجل غير الهياب، إن مواصفات الرجل الجاد مواصفات أشمل وأتم من أن تكون ذاك الرجل قليل الضحك كما قد يتبادر للذهن، وماذا نريد من إنسان صموت قليل الضحك قليل الكلام وهو في مقابل ذلك قليل العمل وقليل الإنتاج، فلعل بعض الجمادات تكون أكثر هدوءاً وأقل كلاماً وحديثاً من الكثير من أولئك، وما تغني شيئاً، فنحن نريد بالرجل الجاد الرجل العامل الذي يقول الكلمة حين ينبغي أن تقال، يعمل العمل حين ينبغي، صاحب المبادرة في حياته كلها، ونحن بحاجة إلى أن نتخلص من وهم الجماهير والانخداع بها. إننا نرى الآن أفواجاً هائلة تفد إلى الله سبحانه وتعالى، ونرى هذه الصحوة المباركة تمتد على قنوات ومجالات شتى، وهي ظاهرة ولا شك تبشر بالخير وتسر كل مسلم، ولكننا ينبغي أن لا نفرط في التفاؤل وأن لا نعطي هذه الجماهير أكبر مما تستحق، وأن لا نعول عليها فقد تخذلنا حين نحتاج إليها، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، ونخشى أن تتحول هذه الغثائية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستصيب الأمة: (قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) نخشى أن تتحول هذه الغثائية إلى تيار الصحوة، فيصبح عندنا تياراً قوياً جارفاً فيما نتصور، ولكنه غثاء كغثاء السيل. إنني لست أتشاءم ولا أقلل من الإنجازات، ولست أنظر بنظرة سوداوية إلى إنجازات هذه الصحوة، ولكنني أيضاً أخشى أن يصيبنا داء غيرنا الذين يتحدثون عن الإنجازات ويتحدثون عن الأرقام ويهتمون بالعدد، وأن ترى الحديث كثيراً في القرآن في ذم الاغترار بالكثرة والاغترار بالعدد، إننا مع حرصنا على تكثير سواد الصحوة وعلى سواد المنتمين لهذا الطريق والخير ينبغي أن لا نخدع بهذه الجماهير، وينبغي أن نشعر ونوقن أن هذه الجماهير بحاجة إلى تربية، تربية جادة، تربية عميقة، تربية طويلة تحتاج إلى جهود يتظافر عليها الجميع، وما كنا نظن أنه سيأتي الوقت الذي نحتاج إلى أن نقنع الناس بالحاجة إلى التربية، أن نتحدث عن أهمية التربية والحاجة إليها، إنها قضية ينبغي أن تكون بدهية، ينبغي أن تكون مستقرة لدى الجميع، وقد كانت كذلك فترة من الزمن ولكن حين امتد الخير وانتشر رواقه، ودخل من دخل أصابنا ما أصابنا فأصبحنا بحاجة إلى أن نقرر البدهيات، وبحاجة إلى أن نتحدث عن أهمية التربية، إننا الآن بحاجة إلى أن نتحدث عن وسائل حديث في التربية، بحاجة إلى أن نتحدث عن مشكلات تربوية، بحاجة إلى أن نتحدث عن برامج التربية عن مضمون التربية وما يتعلق بها، وينبغي أن نتجاوز تلك المرحلة التي نقنع فيها الناس بضرورة التربية والحاجة إلى التربية، هذا مدخل بين يدي هذا الموضوع، والذي سيتضمن النقاط الآتية، مبررات المطالبة بالتربية الجادة، ثمار التربية الجادة، صور من نتائج التربية الجادة، حين تتخلف التربية الجادة، والمفاهيم المغلوطة، مقترحات للنقلة.

مبررات المطالبة بالتربية الجادة

مبررات المطالبة بالتربية الجادة إننا حين نطالب المربين جميعاً سواء كانوا آباءً أو أساتذة أو معلمين، سواء كانوا مشايخ في حلق العلم، أو كانوا طلبة للعلم في برامجهم مع إخوانهم، أياً كان أولئك المربين إننا حين نطالب هؤلاء بالتربية الجادة ننطلق من مسوغات ومبررات عدة أولها ما سبق الحديث عنه في الدرس السابق الذي أشرت إليه: حاجتنا إلى التربية. ولقد ذكرت هناك مسوغات عدة تبرر الحاجة الملحة للعناية بالتربية، لعلي أذكرها الآن إجمالاً، منها:

مسوغات سبق الحديث عنها

مسوغات سبق الحديث عنها ضخامة الدور المنوط بهذه الصحوة. كثرة الفتن والمغريات. أن هناك معان لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التربية، معاني الصبر والوفاء والكرم والشجاعة إلى غير ذلك. عمق الخلل التربوي في المجتمع، الخلل في واقع الصحوة، الفصام في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق، توسع مجالات الدعوة وجوانبها. تلك أمور سبق الحديث عنها بالتفصيل والإفاضة في ذلك الدرس. تحدثنا عنها وذكرنا أنها مسوغات للمطالبة بالتربية، وهي الأخرى أيضاً مسوغات للمطالبة بالتربية الجادة، ومن هنا فلست بحاجة إلى تكرار الحديث عنها، فمن لم يحضر الدرس عليه أن يرجع إليه ويستمع إليها حينئذ، أنتقل إلى مسوغات أخرى غير تلك المسوغات، منها:

نصوص الكتاب والسنة

نصوص الكتاب والسنة أننا حين نقرأ في نصوص الكتاب والسنة نجد أن هناك نصوصاً متضافرة في الكتاب والسنة تخاطب المسلمين على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى أن يؤخذ بجدية، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:2 - 5]. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل أمراً ثقيلاً، أمراً جاداً كان يحتاج معه إلى أن يفرض عليه صلى الله عليه وسلم قيام الليل هو وأصحابه، فقاموا شهراً حتى ورمت أقدامهم ثم نزل التخفيف بعد ذلك، واختلف هل بقي قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه نسخ وصار في حقه نافلة، هذا الموضوع لا يعنينا، لكن لماذا فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين قيام الليل في تلك الفترة؟ أخبر الله سبحانه وتعالى بالحكمة، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:2 - 6]. لقد كان هذا القول الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ثقيلاً، هل كان ثقيلاً بألفاظه وحروفه؟ أبداً فهو ميسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، لكنه كان ثقيلاً بتبعاته، كان ثقيلاً يحتاج إلى نفس جادة، إلى نفس تربت تربية تؤهلها لأن تحمل هذه الرسالة. من هذه النصوص قول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:142 - 143]. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. إن هذه النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى تعطينا دلالة واضحة على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى نفوس عالية، وإلى همم تربت تربية جادة عميقة تحتمل هذا الأمر وتحمل هذا الدين.

كيفية بداية الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم

كيفية بداية الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثالث: كيف بدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء ويتعبد فبينما هو كذلك أتاه الملك فغطه غطة قوية حتى بلغ منه الجهد فقال: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ، ثم أرسله ثم غطه ثم أرسله ثلاث مرات، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2] فعاد النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده إلى خديجة رضي الله عنها)، ما السر أن يأتي الوحي بهذه الطريقة وبهذه القوة؟ إنه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل قضية جادة، قضية تحتاج إلى همة وعزيمة قوية. إن الإجابة على هذا كله نقرأها في قوله سبحانه وتعالى، في هذه الآيات التي هي من أول ما نزل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6]. وحين نقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من النصوص التي تؤيد ما نقول، فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات) إن طريق الجنة طريق محفوف بالمكاره فلن يوصل إلى الجنة إلا من خلال سلوك هذا الطريق، الطريق المليء بالمكاره والأشواك، إذاً فلن يسلك هذا الطريق إلا الرجل الجاد، إذاً الرجل الذي سيتربى ليصل إلى هذه المنزلة وليحقق هذا الهدف بحاجة إلى أن يتربى تربية جادة ليتأهل لبلوغ وتجاوز هذه المكاره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (استعن بالله ولا تعجز) (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم في هذه الأرض أن يستعين بالله ولا يعجز، أن يكون رجلاً هماماً، رجلاً صاحب قرار يستعين بالله سبحانه وتعالى ولا يعجز ويدع الكسل. أيضاً من المؤيدات والمبررات دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو، بل كان يدعو كل صباح: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) إن العجز والكسل من أكبر معوقات الرجل الجاد، إن الرجل غير الجاد لا يمكن أن نصفه بأدق من هذا الوصف: إنه رجل عاجز وكسول، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله كل يوم من هذا الداء من العجز والكسل، إذاً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله رجلاً جاداً، رجلاً متخلصاً من هذه العوائق.

ينكأ لك عدوا أو يمشي إلى الصلاة

ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة رابعاً: ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة، حديث يحتاج إلى وقفة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عاد أحدكم أخاه فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة) والحديث رواه الحاكم من حديث ابن عمر، ورواه أيضاً الحاكم والإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. إن هذا الحديث يعطينا شعوراً بأن وظيفة المسلم وظيفة جادة، وظيفة عمل، فهو يدعى له بالشفاء لأجل أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، يدعى له بالشفاء لأجل أن يبادر فينكأ العدو ويهين العدو ويواجه العدو فيجاهد في الله سبحانه وتعالى، ويمشي إلى الصلاة وإلى عبادة الله عز وجل، إذاً فهو حين يسعى إلى الشفاء وحين يدعى له بالشفاء لا يدعى له بالشفاء لمجرد أن يكون صحيح البدن سليماً، إنما لأجل أن يعود إلى دوره الطبيعي في الحياة، وهو أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، وهذا يعطينا دلالة على أن الأصل في حياة المسلم حال الصحة أن ينكأ العدو ويمشي إلى الصلاة، وليست القضية مربوطة فقط بقضية الجهاد وحدها والمشي إلى الصلاة، إنما هي رمز فنكء العدو يتمثل في أن يكون المرء جاداً عاملاً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، يكون شوكة في حلوق أعداء الله عز وجل أياً كان هؤلاء الأعداء، ينكؤهم بالكلمة الصادقة، ينكؤهم بالعمل الجاد المثمر، ينكؤهم بالجهاد في سبيل الله حين يرفع لواء الجهاد، إنه رجل يحمل في قلبه العمل والحيوية والهم لهذا الدين، وهو أيضاً يمشي إلى الصلاة، فهذا رمز لاجتهاده وجده في عبادة الله سبحانه وتعالى.

الأصل في الحياة الجدية

الأصل في الحياة الجدية هذا هو المبرر الخامس، أن الحياة أصلاً لا يعيش فيها إلا الرجل الجاد، تأمل في تاريخ الدول والأمم ترى الأمة التي سادت وكونت حضارة لا بد أن تكون أمة جادة، لا بد أن يملك أفرادها قدراً من الجدية يؤهلهم إلى أن يصلوا إلى هذه المنزلة وإلا لن يصنعوا شيئاً، وإلا سيكونوا كبني قومنا من المسلمين الذين تتاح أمامهم الموارد الكثيرة: الموارد الاقتصادية، والموارد البشرية وكل الطاقات والإمكانات متاحة للمسلمين، لكنك تجد أنه يغلب عليهم الكسل والتواني ودنو الهمة، ومن ثم فاقهم وسبقهم غيرهم، أنت لا ترى شعباً حقق انتصاراً وحقق إنجازاً أياً كان هذا الإنجاز، إنجازاً مادياً، إنجازاً عسكرياً، إنجازاً في نظم الحياة إلا وترى وراء ذلك رجالاً جادين أياً كان أولئك الرجال، صاحب الدنيا والمال إنه رجل جاد لا يمكن أن يحصل المال ويكسب ويربح إلا ذاك الرجل الجاد الذي يفرغ حياته ووقته لكسب هذا المال والاحتيال عليه بأي وسيلة وأي طريقة بغض النظر عن سلامة طرقه وعن سلامة منهجه، لكنه رجل لم يحصل ما حصل إلا بالجد، إنك حين تتأمل في هذه الحياة ترى أنه لا يمكن أن يحقق امرؤ نجاحاً إلا من خلال الجد والعمل. فالمؤسسة التي تريد أن تحقق نجاحاً لا بد أن تكون مؤسسة جادة، الفرد الذي يريد أن يحقق النجاح في حياته الخاصة في دراسته، في تعلمه، في أي شأن من شئون الحياة لا بد أن يكون رجلاً جاداً. الأمة والدولة لا يمكن أن تنجح ولا يمكن أن تحقق الإنجازات إلا عندما تكون جادة، تعمل أكثر مما تتكلم، تحمل رجالاً صادقين جادين عاملين أكثر من مجرد مهرجين وأناس يجيدون فن النفاق والحديث، ومن هنا فعندما تتأمل في التاريخ القديم والحديث ترى أن هذا سر من أسرار نجاح الجميع.

جهاد وجهاد لا قتال فيه

جهاد وجهاد لا قتال فيه الأمر السادس: جهاد وجهاد لا قتال فيه، تقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) هنا عائشة تقول: نرى الجهاد أفضل الأعمال، هذا الجهاد هو أفضل الأعمال، وهو الذي لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله. قال: لا تطيقونه فعندما ألحوا عليه، قال: (هل تطيق إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام؟ قال: من يطيق ذلك؟ قال: لا يعدل الجهاد شيء)، هذا الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد يطيب لنا أن نسمع الحديث عن الجهاد وعن البطولات، نقرأ في الكتب، نسمع الروايات عن البطولات مع الجهاد، ويستلقي الإنسان على فراشه ويمني نفسه بالجهاد لكنه ينسى أن الجهاد يعني: قعقعة السلاح، الجهاد يعني: الخوف، يعني: الرعب، يعني: مواجهة العدو، يعني: مواجهة الأخطار كلها، يعني: أن يواجه الحرب والبرد والخوف والهلع والجوع والظمأ والعطش، يعني: أن يواجه كل ما يواجهه الإنسان من مصائب في هذه الحياة، هذا الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، أليس يعطينا دلالة أن الأصل في حياة المسلمين هي الحياة الجادة؟ أليس يعطينا دلالة أننا بحاجة إلى أن نربي الرجال الذين يتهيئون لهذه المواقف. أما الإنسان الذي يفزع بمجرد أي موقف، الذي يخاف ويذعر من مجرد أي صيحة، الإنسان الذي ليس لديه أي استعداد أن يتحمل الجوع والعطش والحر والبرد لا يتحمل هذه الأمور ليس مؤهلاً أن يعيش في الحياة فضلاً أن يكون مؤهلاً لأن يجاهد. ثم جهاد لا قتال فيه الحج، الحج الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم ليس الحج الذي يحصل الآن، والذي تتنافس فيه مؤسسات الحج في تقديم وسائل الراحة، يبعد مخيمنا عن الجمرات 100 متر فقط، أو 40 متر فقط، لدينا معجون أسنان، لدينا مشروبات على مدار الساعة إلى غير ذلك، ليس هذا هو الحج الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلكم جميعاً أدركتم الحج الذي فعلاً فيه المشقة والتعب والنصب، هذا الحج الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهاد لا قتال فيه، هذه صورة من الأعمال فعلاً والعبادات التي يجب أن يكون المسلم متهيئاً لها، فهذا الجهاد يجب على كل المسلمين أن يحدثوا أنفسهم به، الحج فرض على كل مسلم أن يؤديه مرة في العمر، هذا الحج الذي كان يركب فيه المسلم راحلته وكان يتعب وينصب إلى وقت قريب جداً أدركناه جميعاً، كنا نعرف أن الحج هو عنوان المشقة والتعب؛ ولهذا عندما يقال: فلان مريض فيسأل: ما به؟ يقال: قدم من الحج، لا يستغرب الناس؛ لأن الأصل أن الذي يقدم من الحج أن يصاب بالمرض أو على الأقل التعب والإرهاق.

الفتن

الفتن سابعاً: الفتن، فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن تحاصر المرء في مجتمعاتنا الإسلامية لا يصمد أمامها إلا الرجل الجاد، الرجل الذي تربى تربية جادة، وقد سبق الحديث عنها في الدرس الماضي.

كيف ساد الرجال

كيف ساد الرجال ثامناً: كيف ساد الرجال؟ حين نقرأ في سير السلف، نرى أمراً عجباً كيف كان أولئك يتربون التربية الجادة؟ كيف كان أولئك ينظرون إلى الحياة، يقول عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: سمعت أبي يقول: كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس أو يصبحوا، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي عياش وغيره، الإمام أحمد يريد أن يخرج إلى الدرس قبل أن يؤذن الفجر فتأخذ أمه بثيابه رحمة به وشفقة عليه حتى يؤذن الناس، والآن عندما تطلب من أحد الشباب موعداً بعد الفجر، أو الساعة السابعة يقول لك: يا أخي صعب. يعني: ما نستطيع نرتاح قليل، إلى غير ذلك من أساليب الاعتذار التي تنم فعلاً عن تخلف الجدية. ابن أبي حاتم يقول: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، أيك وجدوا فرصة ليأكلوا طعاماً دسماً، لما أتوا للشيخ ووجدوه مريضاً، قال: فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة، لم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. والآن عندما تقدم للشباب وجبة غير مناسبة لهم تسمع الحديث والكلام: وجبة جافة إلى غير ذلك من التمعر والحديث، فليس عنده استعداد أن يتحمل أن يجوع يوماً من الأيام أو على الأقل أن يشبع، لكنه من طعام لا يشتهيه، أولئك الرجال إذا كنا جادين نريد أن نتربى مثل أولئك الرجال، فلنقرأ في سيرهم ونعرف كيف كانوا؟

كيف انتصرت الدعوات

كيف انتصرت الدعوات تاسعاً: كيف انتصرت الدعوات، نحن نحلم أن نرفع راية الإسلام، نحلم أن نرفع الغشاوة عن هذه الأمة، أن ننصر الإسلام، ونتخيل أننا بهذه النفوس المريضة وهذه التربية الهزيلة نستطيع أن ننتصر، لعلنا قرأنا جميعاً غزوة أحد، قرأنا غزوة الخندق، جيش العسرة، قرأنا النماذج وقرأنا سير الدعاة والمصلحين والمجددين مما يضيق الوقت عن عرض الأمثلة منه فرأينا كيف انتصرت الدعوات، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، نحن بين خيارين إن كنا نريد أن نحقق النصر، إن كنا نريد أن ننصر هذه الدعوة فلنعلم أن الطريق شاق، طريق يحتاج إلى رجال، يتربون تربية جادة، تربية حازمة، وإن كنا نريد أن نسير الهوينا فعلينا أن نعلم أن الثريا أقرب إلينا مما نريد.

أول الأربعة

أول الأربعة عاشراً: أول الأربعة، استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم: (من علم لا ينفع) في أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس، وما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر، وما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة، وما رواه النسائي أيضاً عن أنس، كل هذه الأحاديث يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وفي بعضها يقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع). ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) رواه ابن ماجة وابن حبان من حديث جابر. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه) إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من العلم الذي لا ينفع، وعندما تقرأ في كتب آداب العالم والمتعلم تجد أن السلف يحذرون من الانشغال بالعلم الذي لا ينفع، ماذا يعني هذا؟ أليس يعني: الجدية؟ أليس يعني: أن يكون المرء جاداً، حتى طلب العلم، حتى تعلم العلم، لا يسأل ولا يتعلم إلا ما ينفعه، لقد عاتب الله سبحانه وتعالى عباده، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]. سأل الناس عن الهلال ما باله يبدو صغيراً ثم يكبر؟ فأجابهم الله بغير سؤالهم: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] بما ينفعهم، ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189]. قيل في تأويل هذه الآية: إن معنى هذه الآية أن سؤالكم عما لا ينفع إنما هو إتيان للبيوت من ظهورها، فأتوا البيوت من أبوابها، ائتوا العلم من الطرق الموصلة إليه، واسألوا عما ينفعكم.

ثمار التربية الجادة

ثمار التربية الجادة النقطة الثانية ثمار التربية الجادة: قد أكون أطلت كثيراً في النقطة الأولى واستغرقت وقتاً طويلاً؛ لأنها نقطة مهمة؛ لأنها تعطينا القناعة فعلاً بالحاجة والضرورة الملحة إلى التربية الجادة، ماذا تنتج التربية الجادة؟

العمل المستمر المثمر

العمل المستمر المثمر التربية الجادة تنتج أولاً العمل المستمر المثمر، إن الذي تربى تربية جادة هو ذاك الرجل الذي يعمل عملاً مستمراً مثمراً، قد تجد الكثير من الناس عنده استعداد أن يعمل ويضحي ويتعب ويعمل عملاً يتطلب منه تضحية، لكنه عمل متقطع، أما الإنسان الذي يتحمل عملاً يحتاج إلى برنامج طويل، ووقت طويل، ونفس طويل، هؤلاء عملة نافعة، ولا يتحمل هذا العمل إلا من تربى، ومن تربى تربية جادة، يسهل جداً أن الإنسان يتحمس فيكون عنده مبادرة ويعمل أعمالاً ضخمة وكبيرة جداً لكنها أعمال متقطعة سرعان ما يتركها. أما الإنسان الذي يتحمل عملاً يتطلب وقتاً طويلاً وبرنامجاً فهؤلاء قلة، هؤلاء الذين تربوا تربية جادة هم الذين عندهم استعداد ليتحملوا؛ فإنه تأتي عليه حالات ضعف وحالات قوة وحالات وتأتي صوارف وتأتي، فعندما يكون تربى تربية جادة صار أمامه طريق واضحة وهدف يسعى إليه، لكن إنسان ممكن يستجمع له حماس ويعمل له عمل ثم يفتر، لأنه لم يترب فعلاً تربية حقيقية وتربية جادة؛ فهو لا يشعر أن هذا الطريق أمامه إلى أن يموت.

الجدية في التعامل مع الوقت

الجدية في التعامل مع الوقت كذلك من ثمار التربية الجادة: الجدية في التعامل مع الوقت، أن يكون المرء جاداً في تعامله مع وقته، في تحكمه في وقته، في استغلاله لوقته، انضباطه في مواعيده، تنظيمه لأوقات الراحة، لا يمكن أن يكون الإنسان جاداً في ذلك إلا الرجل الذي أمامه هدف جاد، لكن الإنسان الذي أموره عنده سهلة، الذي أموره عنده هينة ليس بحاجة أصلاً إلى أن ينظم وقته ولا إلى أن يستغل وقته.

الجدية في الاهتمامات

الجدية في الاهتمامات الثمرة الثالثة: الجدية في الاهتمامات، الرجل الذي تربى تربية جادة اهتماماته عالية، واهتماماته طموحة، ومن ثم لا يجد وقتاً للأمور الدونية، حتى عندما تقرأ في تراجم بعض أهل الحديث يقول أحدهم: بقي شهراً لا يجد وقتاً يغسل ثوبه. أحدهم نصح أحد تلامذته نصيحة طريفة قال له: اطل ثوبك بطلاء أسود حتى لا تنظر بعد ذلك إلى ما يصيبه من قذر وأذى. وهذه الصورة لا نطلبها لكنها على الأقل صورة تعطينا من اهتمام أولئك الرجال الجادين الذين هم أصحاب اهتمامات عالية؛ ولهذا تجدون مثلاً أنا نحن نفوق في العناية بالكماليات، العناية بالمظاهر، فمثلاً عندما يأتي الإنسان يقرأ كتاباً يكلمك عن الإخراج والطباعة وشكل الإخراج وغيره، وعندما يقيم عملاً معيناً تجده يعتني بالمظاهر، نعتني بالأشياء هذه ونوليها جهداً وعناية وتستغرق علينا وقتاً. أنا أقول: هذا مظهر من مظاهر سذاجة الاهتمامات، ومن مظاهر عدم الجدية؛ لأن الرجل الجاد أصلاً منصرف إلى هدف أساس، يعني: القضايا هذه ما يهتم بها، إذا تحققت أهلاً وسهلاً، وإذا ما تحققت ما عنده وقت أصلاً أن يهتم بها، ومن ثم فالرجل الجاد تجده صاحب اهتمامات عالية واهتمامات جادة، وتستطيع أنت أن تقيس المرء من خلال اهتماماته.

الاقتصاد في المزاح والهزل

الاقتصاد في المزاح والهزل الثمرة الرابعة: الاقتصاد في المزاح والهزل؛ فإن كثرة المزاح والهزل مظهر أيضاً من مظاهر عدم الجدية.

تحمل البرامج الجادة

تحمل البرامج الجادة الثمرة الخامسة: تحمل البرامج الجادة، فمثلاً: عندما يكون هناك درس عملي يطول لمدة ساعة، أو ساعة ونصف تجد البعض يبدأ يغير جلسته، يبدأ يتنحنح وينظر للساعة، يريد أن يستأذن، كأن هناك جبلاً سوف يسقط عليه، فتجده يحاول إذا كان المتحدث معه رءوس أقلام أن ينظر ماذا بقي من الموضوع، المهم أنه قد أصبح هذا الموضوع ثقيلاً عليه وهماً عليه، وعندما يذهب في سفر أو في رحلة جادة يجد فيها شظف العيش، تجده ينتظر العودة، لكن الرجل الذي تربى تربية جادة لا يتحمل كل هذه الأمور، يتحمل البرامج الجادة كما سيأتي الآن بعد قليل من نماذج من سير السلف.

تحمل المسئوليات

تحمل المسئوليات الثمرة السادسة: تحمل المسئوليات، المسئوليات لا يتحملها إلا الرجل الجاد؛ لأنه يعرف تبعاته، ويعرف ما يترتب عليها ويعرف أنه لا بد أن يتحملها؛ لأن هذا عمل ومسئولية وأمر يجب أن نبادر جميعاً إلى تحمله وإلى التسابق عليه؛ لأن هذه قضية دين وقضية مستقبل أمة، ليست قضية مجرد التخلي عن المسئوليات والتبعات.

النقد العلمي الجاد

النقد العلمي الجاد الثمرة السابعة: النقد العملي الجاد: الرجل الذي يتربى تربية جادة عندما ينتقد انتقاداً جاداً، ما ينتقد انتقاداً هازلاً، فإنه يسهل أن يجلس الإنسان في المجلس وينتقد الناس، فيقول: فلان مشكلته أن أسلوبه ضعيف، فلان مشكلته أنه يتحمس في هذه القضية، فلان مشكلته كذا، وينتقد البرامج وينتقد الناس وينتقد الدعوات، وقد ينتقد انتقاداً صحيحاً، لكن هذا انتقاد غير عملي. أما الرجل الجاد فعندما ينتقد ينتقد انتقاداً عملياً مثمراً، فهو عندما ينتقد يبلغ هذا الانتقاد إلى من يراه، فمثلاً: أنا أعرف أن فلاناً قد لا يطيق إلا هذا المستوى، وأن هذا العمل غاية ما يصل إليه هذه المرحلة فقط، فلا داعي لكي أزعجه بالانتقاد والنقد؛ لأني إنسان عملي؛ وإنسان جاد، فعادة الإنسان كثير الانتقاد والذي ينتقد الناس جميعاً يكون غير عامل وغير جاد، أما الرجل الجاد فهو ينتقد، لكنه ينتقد انتقاداً عملياً، وهو يعرف كيف ينتقد.

المبادرة الذاتية

المبادرة الذاتية الثمرة الثامنة: المبادرة الذاتية: الرجل الجاد لا ينتظر التكليف، بل يبادر، ويفكر، ويعمل، يكون صاحب مبادرة ذاتية، لا يتنظر أن يكلف ويوجه.

صور من نتائج التربية الجادة

صور من نتائج التربية الجادة النقطة الثالثة: صور من نتائج التربية الجادة:

لا يتبعني أحد من هؤلاء

لا يتبعني أحد من هؤلاء لا يتبعني أحد من هؤلاء، يحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصة في الصحيحين: عن يوشع بن نون أنه عندما أراد أن يغزو ببني إسرائيل القوم الجبارين خطب فيهم فقال: (لا يتبعني منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها) يعني: إنسان خطب وتزوج وعقد ولم يدخل بامرأته، (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينظر ولادها) ثم ذكر الحديث، فلما وصل قريباً من العصر وسيصبح على يوم السبت قال للشمس: (أنت مأمورة وأنا مأمور) فحبس الله له الشمس حتى فتح الله له القرية. إنه رجل فعلاً ربى أصحابه تربية جادة، فليس لديه مجال للذي يذهب للغزو وهو يفكر في زوجته، أو يفكر في البيت والأغنام والإبل والماشية، في التجارة، في المؤسسات، فهذا ليس له مكان، فهو يريد رجلاً جاداً فعلاً، ولذلك فتح الله على أيديهم.

فمن شرب منه فليس مني

فمن شرب منه فليس مني صورة ثانية أيضاً من نتائج التربية الجادة: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249]. وهي القصة التي نقرأها جميعاً في سورة البقرة: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] جيش يسيرون ويصيبهم الضمأ ومع ذلك أمامهم النهر، من شرب منه فليس منه، إلا من اغترف غرفة بيده، لأنه لا يريد إلا رجلاً جاداً، فالإنسان الذي لا يصبر، ولا يتحمل، ليس له مكان معه.

لو سرت بنا إلى برك الغماد

لو سرت بنا إلى برك الغماد صورة أيضاً: لو سرت بنا إلى برك الغماد. وهي تلك الصورة التي نقرأها في غزوة بدر حين استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فتنوعت مقولاتهم، فمنهم من قال: لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وآخر: لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا وراءك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. إلى غير ذلك من تلك العبارات القوية التي نقرأها في سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تربوا التربية الجادة.

والله لا يخزيك الله أبدا

والله لا يخزيك الله أبداً والله لا يخزيك الله أبداً، تلك الكلمة العظيمة التي قالتها خديجة، المرأة الجادة فعلاً عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (دثروني دثروني) وقد ثقل عليه أمر الوحي وقال: (خشيت على نفسي)، واجه امرأة جادة، قالت: (والله لا يخزيك الله أبدا) فطمأنته ثم انتقلت إلى ورقة وسألت ورقة وحكت له ذلك، ثم أخذت النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقالت: اسمع من ابن أخي. وصارت معه صلى الله عليه وسلم، حتى قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (بشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، وقد ذكروا معنى لطيفاً في لا صخب ولا نصب فقالوا: لا صخب؛ لأنها لم ترفع صوتها يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نصب؛ لأنها تعبت في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم. من قصب؛ لأنها حازت قصب السبق في التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته، إنها صورة أيضاً من المرأة الجادة العاملة فعلاً.

لقد وجدناها حين فنيت

لقد وجدناها حين فنيت لقد وجدناها حين فنيت: قصة نقرأها جميعاً في السيرة وهي في الصحيحين من حديث جابر، سرية الخبط عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاًَ قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم 300، قال: فخرجنا وكنا ببعض الطريق ففني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمعت، ثم صار يقوتهم، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، ومع ذلك واجهوا عدوهم، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ قال: لقد وجدناها حين فنيت.

وعلى الثلاثة الذين خلفوا

وعلى الثلاثة الذين خلفوا نموذج آخر: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، لقد سار النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في جيش العسرة، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:117 - 118]، وماذا أصاب الثلاثة الذين خلفوا حين تخلفوا عن هذه الغزوة؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجروا، فلم يكلمهم المسلمون شهراً كاملاً، وبعد الشهر أمرهم أن يعتزلوا أزواجهم، إنها صورة من التربية الجادة، لماذا؟ لأنهم تخلفوا عن غزوة من الغزوات.

مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام

مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام صورة أخرى أيضاً: خالد بن الوليد رضي الله عنه كان في العراق واستنجد المسلمون الذين كانوا في الشام أبا بكر رضي الله عنه، فأمر خالداً أن يسير إليهم، فسار خالد رضي الله عنه بأصحابه مسرعاً في 9500، ودليله رافع بن عميرة الطائي، فأخذ به حتى انتهى إلى قراقر وسلك به أراض لم يسلكها قبله أحد، فاجتاب البراري والقفار وقطع الأودية وتصعد على الجبال، وسار في غير مهيع أي: في غير طريق بين، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عللاً بعد نهل يعني: شربة ثانية، والنهل أول الشراب، يعني: يسقيها تارة ويتركها تارة، وقطع مشافرها حتى لا تحتز رحل أدبارها واستاقها معه، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل وشربوا ما كانت تحمله من الماء وأكلوا لحومها، ووصل ولله الحمد والمنة في 5 أيام، وكانت طريقه في صحراء قاحلة، حتى أشار عليه كثير من الناس أن لا يقطعها. إنها صورة من تلك التربية الجادة التي تتخذ القرار الحاسم في ذاك الموقف، ولم يكن خالد وحده بل كان الجيش معه كلهم على هذا المستوى، وإلا لقالوا له كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

طلب أسد بن الفرات للعلم

طلب أسد بن الفرات للعلم ومن هذه النماذج أيضاً أسد بن الفرات حينما جاء إلى الإمام مالك فتعلم عنده ثم رحل إلى محمد بن الحسن فطلب أن يعطيه درساً خاصاً فكان يدرس مع الطلاب في النهار ثم يأتي إلى محمد بن الحسن في الليل فيدرس عنده، فكان إذا أتاه النوم وهو في الدرس أخذ محمد بن الحسن ماء فينضح في وجهه، فكان يجاهد ويكابد السهر حتى أصاب علماً كثيراً.

هل وجد لهم وقتا؟

هل وجد لهم وقتاً؟ هل وجد لهم وقتاً؟ قال أبو حاتم عن القعنبي: سألناه أن يقرأ علينا الموطأ. فقال: تعالوا بالغداة يعني: بعد الفجر. فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال. قال: فإذا فرغتم منه. قلنا: نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم. قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي. قال: فبعد العصر، قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان. قال: فبعد المغرب. فكان يأتينا بالليل فيخرج علينا وعليه كبل ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ. فكان هذا الوقت في الصيف، وما كان هناك مكيفات ولا أجهزة تبريد، وكانوا يجلسون في الضحى في شدة الحر، وبعد الفجر درس ثم بعده درس ثم بعده درس ثم يقيلون، ثم بعد العصر درس ثم بعد المغرب بعد ذلك درس في شدة الحر، كلها دروس متلاحقة ومتواصلة.

حين تتخلف التربية الجادة

حين تتخلف التربية الجادة

اذهب أنت وربك فقاتلا

اذهب أنت وربك فقاتلا والصورة المقابلة حين تتخلف التربية الجادة، (اذهب أنت وربك فقاتلا) كان موسى مع بني إسرائيل، بعد أن عانى ما عانى منهم قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، هذه الأرض المقدسة وقد كتب الله لكم، {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:21 - 22]، يعني: إذا خرج القوم الجبارون عندنا استعداد أن ندخل، لكن حتى هذه فيها شك، فقد لا يدخلوا، {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، يعني: القضية ما تحتاج شيء، مجرد أن تدخلوا الباب، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا} [المائدة:24]، ولن تفيد النفي التأبيدي عند الزمخشري، وهي عند بني إسرائيل تفيد التأبيد، وإذا كان هناك معنى آخر أقوى من التأبيد فهو عندهم، {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] هذا نموذج، وهذه النهاية التي يصل إليها من لم يترب التربية الجادة، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25 - 26]. ثم دخلوها لما عاشوا في الصحراء أربعين سنة وهلك هذا الجيل وجاء أبناؤهم بعد ذلك، وعاشوا على الشظف والمعيشة القاسية، وأتاهم يوشع بن نون وقال: (لا يتبعني أحد بنى داراً وينتظر أن يتم سقوفها)، فخرج إليه القوم الجادون فاستطاع أن ينتصر بهم.

تولوا إلا قليلا منهم

تولوا إلا قليلاً منهم يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] أولئك كانوا يقولون: لو كتب علينا القتال، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246]. إذاً فحين لا يتربى المرء تربية جادة قد يتمنى الجهاد، وقد يكون عنده تصور أنه يثبت عند المحن، لكن عندما تأتي المحن قد يكون ممن قال الله فيهم: {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246].

التواضع المصطنع

التواضع المصطنع نتيجة ثالثة لتخلف التربية الجادة: التواضع المصطنع: الكثير من الناس لما تطلب منه إلقاء محاضرة، أو كلمة، أو مساهمة في عمل، يقول لك: والله يا أخي الكريم أنا أشعر أني لست أهلاً لذلك، وهو يعرف أنه أكثر الناس أهلية لذلك، بعض الناس قد يقولها تواضعاً، لكن الكثير يقولها تهرباً من المسئولية، وأنا أعتبر الإنسان الذي يعرف أنه أكفأ هذه المجموعة ويترك عملاً يعرف أنه إذا تخلى عنه سيقوم به من هو دونه أن هذا رجل غير جاد في الواقع، وليس هذا هو التواضع أبداً، وإلا إذا كان رجلاً جاداً فيستعين بالله سبحانه وتعالى ويتحمل العمل ويعرف أن الله سبحانه وتعالى سيعينه حينما لا يسأل الإمارة.

اقتراح جميل

اقتراح جميل اقتراح جميل: تتحدث مع الناس، تطرح عليهم أفكار، مشاريع جبارة تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى جهد، فتجد بعضهم يقول لك: هذا اقتراح رائع ومشروع جميل جداً، طيب من عنده استعداد أن يتحمل العمل؟ من عنده استعداد أن يقوم بالعمل؟ فتجد A أنا مشغول، أنا لا أصلح، أنا غير مؤهل، فهذا نموذج من نماذج التربية غير الجادة، تجد عندنا استعداد لكي نؤيد ونقترح لكن العمل لا.

أوقات الراحة

أوقات الراحة كيف نتعامل مع أوقات الراحة؟ مثلاً طلبة العلم، يجلسون فيقرءون في كتاب أو في جلسة علمية أو درس علمي أو نقاش فكري جاد ثم بعد ذلك يأتي وقت الراحة فتجد وقت الراحة كله ضحك وهزل وكلام غير مفيد، يكونون في السيارة كذلك، صار وقتهم وقتاً غير جاد، الوقت الجاد عندهم فقط هو الوقت الذي يكون في محاضرة أو في درس أو في قراءة معينة، وسائر الأوقات أوقات غير جادة. مثل هذا التعامل مع أوقات الراحة صورة أيضاً من صور التربية غير الجادة، الإنسان الجاد يسيطر عليه هذا الهم، فتجده وهو يتحدث وهو يأكل، وهو يمشي، دائماً يتحدث في هذه الأمور الجادة.

التربية الجادة والمفاهيم المغلوطة

التربية الجادة والمفاهيم المغلوطة

ساعة وساعة

ساعة وساعة نقطة أخرى: التربية الجادة والمفاهيم المغلوطة: ساعة وساعة، عندما تتحدث عن التربية الجادة يقول لك: ساعة وساعة، لكن في الواقع أن منطقنا ليس ساعة وساعة، فلا تجد وقت الترفيه يوازي الوقت الذي يستفيد منه، أيضاً خارج هذا الوقت الوقت الذي يتحدث فيه الأوقات الأخرى كلها أيضاً داخلة في وقت الترفيه، فعندما تأخذ الوقت الذي تستفيد منه وتنسبه إلى ساعات اليوم أنه لا يساوي شيئاً، وحينما نحتج بهذا النص يجب أن نأخذ المناسبة التي قيل فيها هذا النص عندما جاء حنظلة يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه. أيضاً الذين رووا لنا حديث: (ساعة وساعة) كيف كانوا يعيشون؟ كانوا يعيشون كما حكينا لكم قبل قليل.

حدث الناس كل جمعة

حدث الناس كل جمعة صورة ثانية أو مفهوم ثاني أيضاً: حدث الناس كل جمعة، يحتجون مثلاً بما قاله ابن مسعود لـ مسروق: حدث الناس كل جمعة ولا تملهم، (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)، يجب أن نفرق بين الحديث لعامة الناس ووعظ عامة الناس وبين الجيل الذي يتربى، فالجيل الذي يتربى يجب أن يكون مثل أبي حاتم، عنده درس بعد الفجر ودرس في الضحى ودرس بعده ودرس بعده ودرس في العصر ودرس في المغرب، أو يكون مثل الذي لم يجد وقتاً ليشوي السمكة التي عنده، هذا هو الجيل الذي قد تربى، الجيل الذي يحمل الرسالة، الجيل الذي يحمل العلم ويحصل العلم. إذاً فتحديث الناس كل جمعة والتخول بموعظة هذا خطاب لعامة الناس، أما أن يكون الإنسان الذي يريد أن يربي نفسه ولا يتعلم فلا، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح نقرأ سيرهم في العلم والتحمل والرحلة فيه نرى أنها صورة أخرى غير تلك الصورة الخاطئة التي تصورت في أذهاننا.

لكن الناس لا يستحملون

لكن الناس لا يستحملون ثالثاً: لكن الناس لا يستحملون. يعني: بعض الناس يقول لك: الكلام الذي تقوله كله صحيح، لكن يا أخي الشباب ما يتحملون، وحرام عليك أن تنفر الناس إلى غير ذلك؛ ولهذا تبدأ برامجنا هزيلة هزيلة هزيلة، لماذا؟ حتى نجمع الناس، حتى نجمع الغثاء، هذه النهاية التي نصل إليها، يا أخي هذا شاب انتقل من الشارع إلى حياة الاستقامة والالتزام، كان في الشارع فوضوياً لا يعرف استئذاناً، ولا يعرف انضباطاً، ولا يعرف أدباً، لا يعرف إلا الكلمة القبيحة، رجل كان يعيش حياة تختلف كلياً، عندما استقام والتزم انتقل نقلة هائلة جداً في مظهره، في عبادته، في اهتماماته، في منطقه، طيب نحن نريد أن ننقله نقلة أخرى جادة، المسافة الآن أيهما أبعد: المسافة بين هذه النقلة بين واقعنا الذي هو عليه الآن والصورة الجادة التي نريد أو المسافة بين النقلة الذي كان عليها في الشارع وتلك الصورة؟ لقد انتقل نقلة هائلة من الشارع إلى حياة الاستقامة والخير والصلاح، إذاً فهو مؤهل، هذا الذي انتقل هذه النقلة عنده استعداد أن ينتقل، وأن يكون جاداً أيضاً، لكن متى؟ عندما يتربى. أعطيكم صورة: مصعب بن عمير كان شاباً مترفاً منعماً فتياً يشم العطر منه عندما يمر في السوق، ومع ذلك عندما أسلم وتابع النبي صلى الله عليه وسلم عاش حياة الشظف فهاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة وتغرب وصار به ما صار إلى أن قتل في غزوة أحد وما وجدوا عنده شيئاً إلا بردة واحدة فقط، إذا غطوا بها رأسه بدت قدماه، وإذا غطوا قدميه بدا رأسه. فمع احترامي لك ولأصحابك من الذي يكون أكثر ترفاً من مصعب بن عمير؟ وأيضاً لا نريدهم أن يصلوا إلى حالة مصعب بن عمير، فأقول: الذي جعل مصعب بن عمير وهو بشر ينتقل هذه النقلة الهائلة يمكن أيضاً أن يجعل هؤلاء ينتقلون نقلة دونها بكثير. أقول: لا يسوغ أن نجعل وضعنا مقياساً، ونقول: لابد أن نحفظ برامجنا حتى تكون هزيلة، ويتخرج لنا جيل هزيل، ليس عنده استعداد أن يتحمل أي شيء، ولا يمكن أن يطلب منه موقف، ولا يمكن أن يصمد أمام أي فتنة، سواء كانت من فتنة الشبهات أو فتنة الشهوات.

الرجل الطريف

الرجل الطريف من المفاهيم المغلوطة الرجل الطريف: فقد يكون الإنسان طريفاً وصاحب نكتة، وقد نتساءل كيف يكون هذا جاداً؟ فنقول: قد يكون إنسان طريفاً ومع ذلك يكون رجلاً جاداً، وسأضرب لكم صورة من صور بعض السلف فمن مشاهير السلف في الطرافة: الأعمش والشعبي، الأعمش كان عنده رجل فسأله وقال: كيف بت البارحة؟ فدخل منزله وأخذ وسادة فوضعها ثم استلقى وقال: بت هكذا. وذات يوم كان عنده ضيوف فأحضر لهم رغيفين فأكلوها كلها، فدخل المنزل وأحضر حزمة قت -يعني: برسيم- وقدمه لهم وقال: أكلتم طعامي وطعام أولادي وبقي طعام شاتي. وكان الأعمش واقفاً عند النهر فأتاه جندي متكبر مغرور يريد منه أن يعبر به النهر فصعد على ظهره وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، فما كان من الأعمش إلا أن سار به فلما توسط النهر رماه وقال: رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين. هذه صور الآن من ذاك الرجل الطريف الأعمش رحمه الله فكيف كان جاداً؟ كان يقال عنه رحمه الله: ما خلف الأعمش أعبد منه، وكان يعرض القرآن فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطئ في حرف واحد، إضافة إلى أنه إمام من الأئمة، فتلك الطرافة التي كانت لديه لم تكن تشغله عن أن يكون رجلاً جاداً عاملاً عالماً. وكذلك الشعبي أيضاً هو الآخر جاءه رجل مغفل وهو واقف هو وامرأته فقال: أيكم الشعبي؟ فقال: هذه، وسأله رجل: ما اسم زوجة الشيطان؟ قال: إني لم أحضر العرس. المهم أن الشعبي هو الآخر كان طريفاً، لكنه كان يقول عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي. ويقول هو عن نفسه: ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوة إلى شيء مما ينظر إليه الناس. وهو إمام من الأئمة في الحفظ، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء قط، وما حدثني رجل بحديث فاحتجت أن يعيده، وأقل ما أحفظ الشعر، ولو شئت أنشدكم شهراً دون أن أعيد بيتاً واحداً. إذاً قد يكون الرجل رجلاً طريفاً وصاحب دعابة لكنه أيضاً رجل عملي، ورجل جاد، فعلاً يعمل وينتج ويكون مثل أولئك، لكن يتخفف من مثل هذه الطرافة، أو تكون هذه الطرافة والدعابة في غير مواطن الجد.

مقترحات للنقلة إلى التربية الجادة

مقترحات للنقلة إلى التربية الجادة بعد كل ما عرضنا نعرض بعض المقترحات ووسائل العلاج التي نرى أننا بحاجة إليها حتى ننتقل إلى التربية الجادة.

الاقتناع والتخلص من العوائق

الاقتناع والتخلص من العوائق أولاً: الاقتناع والتخلص من العوائق، وهذا هو نصف الطريق، فعندما نقتنع بأننا بحاجة إلى التربية الجادة وأننا نستطيع أن نربي أنفسنا وأن نربي أبناءنا وأن نربي جيلنا تربية جادة، ونتخلص من تلك العوائق التي كثيراً ما نتعلل بها.

القدوة الحسنة

القدوة الحسنة الأمر الثاني: القدوة الحسنة، إن الأب الذي يطلب من ابنه أن يحافظ على وقته ثم يكون هو مفرطاً في وقته لا يمكن أبداً أن يربي ابنه تربية جادة، الأب الذي يحث ابنه على طلب العلم ثم يقصر هو لا يمكن أبداً أن يكون قدوة لابنه، الأستاذ الذي يضيع الوقت في الفصل في الأحاديث الجانبية وفي الأحاديث غير المفيدة ثم يطالب الطلاب أن يعتنوا بأوقاتهم لا يمكن أبداً أن يكون قدوة حسنة، الأستاذ غير الجاد، الأب غير الجاد، الموجه غير الجاد، المربي غير الجاد لن يخرج إلا أمثاله. إذاً فيجب أن نكون قدوة صالحة، يكون المربي قدوة صالحة فعلاً في الجدية في كل جوانبها، فيدعو بعمله أكثر مما يدعو بقوله.

الوسط الجاد

الوسط الجاد الأمر الثالثة: الوسط الجاد: أن نسعى إلى وسط جاد فعلاً؛ لأن الكثير من الناس عنده قابلية أن يتشكل حسب الظروف، تأتيه مع أناس أصحاب هزل تجده من الأوائل في الهزل والضحك، يأتي مع ناس جادين تجده يكون جاداً؛ فإذا ساقته الظروف إلى قوم هازلين صار هازلاً، وساقته الظروف إلى قوم جادين فصار جاداً، إذاً عندما نهيئ الوسط الجاد والبيئة الجادة نستطيع أن نهيئ للشاب المحضن الذي يربيه التربية الجادة بعد ذلك.

غير عتبة بابك

غير عتبة بابك الأمر الرابع: غير عتبة بابك، إبراهيم عليه السلام جاء يزور ابنه اسماعيل، فلما جاء وجد فسألها عنه ثم قال: كيف عيشكم؟ كيف طعامكم وشرابكم؟ فذكرت له سوءاً فقال: أبلغيه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، ثم لما جاء إسماعيل وسألها قال: أنت عتبة بابي وقد أمرني بطلاقك، فإبراهيم عليه السلام أحس أن هذه المرأة غير جادة، امرأة ما تتحمل الحياة هذه؛ ولهذا عندما سأل المرأة الثانية واكنت تعيش نفس المعيشة أثنت خيراً فقال: ثبت عتبة بابك. إذاً بعض العناصر أصلاً غير مؤهلة أن تصل إلى مستويات عالية؛ لهذا من العبث أن نحاول أن نرتفع بها، وكما كان يقول الأعمش رحمه الله لما قيل له: حدث أولئك، قال: لا يقلد الذهب الخنازير، أي: هناك أناس لا يستحقون العلم أصلاً، أي: غير جادين؛ فمثل هذا ينبغي أن لا يشغلنا ولا يكون عبئاً على غيره، فلا ينقل مثل هذا إلى الأوساط الجادة، يعني: هذا يمكن أن ننقله إلى مرحلة معينة لا يتجاوزها، أما الأوساط الجادة العالمة بالمراحل التي نريد فعلاً أن نعد فيها أناساً يتحملون مسئوليات يجب أن نبعد عنها أمثال هؤلاء وأن نغير عتبة الباب.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم سادساً: الأعمال بالخواتيم: أن ننظر إلى نتاج التربية لا ننظر إلى العدد، قد تقول لي: عندي درس في المسجد أو حلقة قرآن أو برنامج يجمع فئة من الشباب، فعندما يكون البرنامج جاداً وحازماً قد لا يبقى عندي إلا (10)، لكن إذا كان برنامجاً مبحبحاً -على ما يقول الناس- وواسعاً قد يكون عندي (30)، وبالحسابات المادية (30) أكثر من (10)، لكن لا تنظر إلى هذا المقياس، بل انظر إلى النتائج، فمثلاً خلال خمس سنوات ماذا حققت، وصاحب الـ30 خلال خمس سنوات كم حقق، من ناحية العدد تجد أن الثلاثين هؤلاء يتنافرون أصلاً؛ لأنهم لم يتربوا تربية جادة، وعندما تأتي إلى صاحب العشرة هذا الرجل الجاد تجد أنه مثلاً يمكن أن نقول: إنه استطاع أنه يخرج مثلاً خلال 5سنوات خرج لنا 50 شخصاً، لكن صاحب 30 ما خرج لنا إلا 10، و 10 المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلهم ضعاف، فأنا أجزم وأقول هذا الكلام عن قناعة: إن التربية الجادة على مدى أوسع تخرج حتى أكثر عدداً من التربية الهزيلة؛ لأن أصحاب التربية الهزيلة أصلاً لا يستمرون؛ لأنه لا يجد شيئاً مقنعاً بعد ذلك، ثم يتساقطون والعبرة بالخواتيم، وفكر وراجع التاريخ وتأمل ستجد هذه النتيجة، وعندما تكون عندنا هذه القناعة لا تأتينا هذه الإشكالات في الحسابات المادية والحسابات العددية.

الرجل الجاد لا ينظر إلا للأمام

الرجل الجاد لا ينظر إلا للأمام وأخيراً الرجل الجاد لا ينظر إلا للأمام، يعني: افترض أنك اقتنعت أن تربيتك تحتاج إلى عنف وجدية، سواء تربيتك لنفسك أو تربيتك لأبنائك أو لطلابك أياً كنت متربياً أو مربياً، فليس هناك داع أن تجلس تتحسر على الماضي، فالرجل الجاد ليس عنده وقت أصلاً أن يتحسر على الماضي، الماضي مضى بما فيه نحن أبناء اليوم، واعتبر الماضي مرحلة سواء كانت خطأ أو لم تكن خطأ، فأهم شيء أن ننظر إلى الأمام، فالرجل الجاد هو الذي ينظر إلى الأمام ويبحث عن العمل المنتج. ولهذا فأنا أقول: إن المراحل التي قطعناها وكونت لنا هذا الجيل الطيب من الصحوة لم تكن خطأً، وأيضاً كانت مرحلة من المراحل قطعناها لا نريد أن نستمر نحن على هذه المرحلة، بل نريد أن نرتقي إلى مرحلة أعلى، فأيضاً من الإجحاف أن نقول: أن هذا خطأ، وأنا كنا نعمل في السابق على خطأ، لا، أنا أقول: نحن قطعنا مرحلة نحتاج بعد ذلك لأن ننتقل إلى مرحلة ثانية أعلى.

الأسئلة

الأسئلة

صور من التربية غير الجادة

صور من التربية غير الجادة Q إننا في هذا الزمن نجد بعض شباب الصحوة ليس لهم هم سوى متابعة الأناشيد والمخيمات الترفيهية، وتجدهم لا يفكرون تفكيراً جاداً للعمل للإسلام، سواء كان بدعوة أو طلب علم، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء؟ A فعلاً كثير من الشباب تجده يحفظ من النشيد أكثر مما يحفظ من القرآن، ودائماً حياته سماع النشيد، هذه صورة من التربية الهزيلة، ولو كان هذا جاداً ما وجد وقتاً أصلاً أنه يسمع مثل هذا، وأنا لا أقول أنها محرمة، لكن الرجل الجاد عنده ما يشغله أصلاً. كذلك المخيمات التي تقدم للشباب طيبة وخيرة، لكن يجب أن نرتفع بها، فهي فرصة لأن يتربى هؤلاء الشباب من خلال هذه المحاضن، وهذه البرامج، فالمخيمات أو المراكز الصيفية أو الأنشطة المدرسية لا يكون الهدف منها الترفيه، ونغرق فيها في برامج ووسائل الترفيه حتى يخرج لنا هذا الجيل الغثاء.

نفرة الشباب بالتربية الجادة

نفرة الشباب بالتربية الجادة Q التربية الجادة ربما تنفر الشباب وتجعلهم يتركون العمل للدعوة إلى الله؟ A هذا سبق أن أجبنا عليه، ويمكن أن نقول الآن أن التربية الجادة مراحل، فنحن نريد أن يتربى المجتمع كله تربية جادة لكن على مستوى معين، فهناك ناس يصلون إلى مستوى معين، وهناك آخرون إلى مستوى آخر، وليس بالضرورة أن نطالب الجميع بمستوى معين من التربية، ومستوى معين من الجدية، لكن أقول أنا: أنه عندما نتأمل الواقع نجد أننا متأخرون كثيراً، وأننا نضع الكثير من الناس دون مراحلهم التي يجب أن يصلوا إليها.

التربية الجادة وحفظ القرآن

التربية الجادة وحفظ القرآن Q أليس من التربية الجادة اقتطاع شيء من البرنامج اليومي لحفظ كتاب الله والانتظام في حلقة لتحفيظ القرآن؟ A لا شك أن من التربية الجادة أن يعتني الشاب بنفسه، ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به حفظ القرآن الكريم، لكن كيف؟ يلتحق بحلقة يحفظ على شخص، هذا شأن آخر، المهم هو الهدف، أما الوسيلة فتختلف من شخص إلى آخر ومن ظرف إلى آخر.

من جوانب التربية الجادة

من جوانب التربية الجادة Q نجد بعض الشباب يتحمس فيربي نفسه تربية جادة، فينقطع لطلب العلم فترة من الزمن، وبعد مدة نجده يفتر ويكسل، وإن لم ينتكس عن الطريق المستقيم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ A سبق أن قلنا يا إخوان في الدرس السابق أن التربية ليست هي طلب العلم وحده، بل هو جانب من جوانب التربية فالإنسان يحتاج إلى جوانب عديدة لتربية نفسه، والجانب العلمي جزء منه، فالإنسان الذي يتفرغ ليتعلم وحده، وهو يرى المنكرات ويرى الواقع الذي يحتاج إلى تغيير ليس جاداً، والجدية لا تعني أن الإنسان يكون مقطب الجبين، ولا تعني أن الإنسان مجرد يقرأ، ولا تعني أن يستغل الإنسان وقته كيفما اتفق، بل الجدية أن يكون الإنسان فعلاً يختار العمل المناسب، ويكون عنده توازن، هذا هو الرجل الجاد، أما الإنسان الذي يتفرغ مثل هذا التفرغ ويهمل الواقع ويهمل الدعوة أصلاً فأنا أعتبره رجلاً غير جاد.

الخلطة والتربية الجادة

الخلطة والتربية الجادة Q نرى كثيراً من الشباب يبالغون في الخلطة، حتى إنها قد تصل إلى الخلطة الممرضة للقلب، وهم يعللون ذلك بالتربية، وهي في الحقيقة سبب من أسباب تعطيل التربية الجادة أرجو التعليق على ذلك. A هذا كلام صحيح، أنك تجد كثيراً من الشباب فعلاً يطيل في الخلطة، فتجده في ذهاب وإياب ليس له أي ثمرة ولا نتيجة، وهو يقول لك: تربية، تربية أن تتعرف على الشباب وتسلي عنهم إلى غير ذلك، وبهذا يخرج لنا فعلاً جيل هزيل، فنربي الشباب على إضاعة الأوقات، وعلى الأمور الهزيلة، والتعلق بالتوافه، وإن كان ولا شك أنا نحتاج إلى نوع من الترفيه، ونحتاج إلى نوع من الخلطة، لكن يجب أن تكون الأمور بقدرها. فيجب أن نتخفف من الخلطة غير المجدية، فإنها من الخلل التربوي، فعندما يقضي المربي مع من يربيه وقتاً طويلاً دون فائدة، هذا يهدر شخصية المربي ويجعل شخصيته شخصية غير مؤثرة، ويحول المربي إلى مجرد زميل وصديق، وما لم يكن هناك مسافة بين المربي والمتربي، ونوع من الهيبة لا يمكن أن تؤدي التربية ثمارها المطلوبة. كثرة الخلطة والبرامج الهازلة تؤدي إلى القضاء على هذا الشعور الموجود عند المتربي، ويمكن أن نتقلل نحن من الخلطة بأمرين: نتقلل أصلاً من الخلطة غير المفيدة، يعني: اللقاءات غير المفيد وغير العملية لا يوجد داعي إلى كثرتها. والأمر الثاني: أن نستغل أوقات الراحة كما قلنا، فما المانع عندما نكون في مناسبة أن نتناقش في موضوع جاد، ونتحدث عن موضوع جاد؟ بل هذا هو الواجب، وهذا من معايير ودلائل الجدية.

مقياس التربية الجادة

مقياس التربية الجادة Q تكلمت عن الرجل الجاد وعن بعض الصور من التربية الجادة، ولكن ما هو المقياس الذي يتضح منه أن التربية جادة جزاك الله خيرا؟ A المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالمقياس هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

التربية الجادة والشهوة

التربية الجادة والشهوة Q لا بد للإنسان أن يربي نفسه تربية جادة لكي يواجه الشهوة فكيف يتم ذلك؟ A الذي يربي تربية جادة سيكون صاحب عبادة، متخل عن الشهوات، ويكون جاداً مع نفسه وحازماً مع نفسه، فيغلق على نفسه أبواب الذرائع، وإذا وقع في المعصية فسيكون جاداً فيتوب، الرجل الجاد لا شك أنه سيكون أبعد الناس عن الشهوات، وإذا أصابه منها شيئاً سيكون أسرع الناس إلى التخلي عنها؛ لأنه رجل جاد وقليلاً ما يتعلق بهذه الشهوات.

ضابط النقد الجاد

ضابط النقد الجاد Q ما ضابط النقد الجاد وكيفية استثماره؟ A النقد الجاد الذي يكون له نتيجة عملية؛ فكل واحد يستطيع ينتقد، فلو نقول الآن: من أفصح شخص فيكم؟ فيقول شخص: أنا، ويقوم فيلقي خطبة عصماء، فواحد يقول لك: لحن في كذا وكذا، وواحد يقول لك: أخطأ في هذه الآية، وواحد يقول لك: مستوى العاطفة عنده مرتفع، وكل واحد ينتقد، سهل الانتقاد، لكن هذا انتقاد غير عملي، نريد نحن الانتقاد العملي الانتقاد الجاد فعلاً، تجد -مثلاً- الناس بعد خطبة الجمعة يتجمعون فينتقدوا خطيب الجمعة: بالغ في كذا، قال كذا، تحدث عن كذا، لكن ما هو نقد عملي؛ لأنه ولا واحد منهم يوماً من الأيام فكر أن يخاطب الخطيب بمثل هذه الملحوظة، فهذا نقد غير جاد، وأعتبره نقداً هازلاً. عندما نتحدث في المجالس ننتقد المؤسسات الدعوية، وننتقد البرامج ونتحدث عنها ونطيل الحديث فيها أيضاً أنا أعتبر هذا نقداً غير جاد، فالنقد الجاد هو الذي يوجه إلى أصحابه، للقنوات السليمة، ثم أيضاً النقد الجاد -ليكون نقداً موضوعياً- يأخذ في الاعتبار المحاسن والمساوئ، ويأخذ في الاعتبار أيضاًَ العناصر البشرية، وأن البشر لا بد أن يكونوا بشراً يقعون في الخطأ، وأتصور أن هذه بعض معالم النقد الجاد العملي.

علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة

علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة Q إذا كان الشخص مع مجموعة غير جادة فهل الأصلح أن يتركهم إلى مجموعة جادة أم يحاول الإصلاح؟ ثم كيف يصلح مجموعته؟ A لا شك أن الأولى أن يحاول الإصلاح ولا يترك المجموعة إلا إذا وصل إلى حد الإياس، لكن هذه قضايا أعيان، وقضايا الأعيان كما يقال: تحتاج إلى فتوى خاصة.

الرفق في الدعوة

الرفق في الدعوة Q الدعوة إلى الله -خصوصاً مع المدعوين- تحتاج إلى نوع من إرخاء الحبل قليلاً حتى يتم جذبهم ودعوتهم إلى الله عز وجل. A نحن نحتاج إلى الرفق بالمدعوين، والعناية بهم، وتلمس نفسياتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أرفق الناس، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، والله عز وجل قال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالرفق، والذي كانت هذه مواصفاته هو الذي جعل الصحابة يعملون في غزوة الخندق حتى كان أحدهم يربط على بطنه الحجارة من الجوع، ونزل فيهم ما نزل. النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الصحابة يسيرون إلى جيش العسرة بعد أن طابت الثمار، يعني: يغرسون ويتعبون، ولما طابت الثمار وجاء وقت أكلها رحلهم إلى الجيش في شدة الحر، فساروا في طريق طويل، إلى مواجهة الروم، وتركوا الثمار كلها بكل ما فيها؛ ولم يكن هناك ثلاجات ولا وسائل حفظ، ومع ذلك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وساروا، وحينما تخلف ثلاثة من أصحابه عاتبهم بما سبق أن أشرنا إليه. هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالرفق، فيجب أن يكون عندنا توازن، فلا نبالغ في الإثقال على الناس والحزم الذي نقضي معه على كل معاني الرفق، وأيضاً لا نبالغ في هذه المعاني فنميع تربيتنا، والذي ينظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة متكاملة يسلم من الأخطاء. وهناك نصيحة أود أن أقولها وقد سبق أن أشرت إليها مراراً، وهي أن المشكلة أحياناً تأتي من سوء الفهم، فالإنسان عندما يتحدث عن موضوع سيحشد الأدلة والمؤيدات والأمور التي تؤدي إلى إصلاح خلل معين وخطأ معين، فأنت لا تأتيه بالمقابل وتقول له: إن الذي يفهم من كلامك كذا وكذا. فمثلاً عندما يأتيك إنسان ويقول لك: لا بد أن نعتني بالعلم، ونوظف نفيس أوقاتنا في طلب العلم وإلى غير ذلك، يأتيك إنسان يقول لك: هذا يعني أن نترك الدعوة؟ لا، من قال لك ذلك؟ فنحن كذلك عندما نطالب بالتربية الجادة لا يعني أن نهمل الرفق، ولا يعني أن نهمل أخذ الناس بالتؤدة، لكن أيضاً الرفق وفق المنهج السليم، الرفق والتؤدة وفق التوازن، فنمسك العصا من الوسط ونتوسط، وكما قلت لكم: المقياس لذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أرحم الناس وأرفق الناس، ومع ذلك انظروا كيف كان يفعل مع أصحابه، النبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، قال: (بايعوني على أن لا تسألوا الناس شيئاً)، وبايعوه، أليس هذا من الحزم؟ أليس هذا من الجدية؟ فالجدية لها مستويات ولها منازل تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فنحن يجب أن ننظر إلى الأمر نظرة عامة، نظرة متوازنة، وعندما ننظر من خلال هذه النظرة لا يمكن أن نقع في مثل هذه الإشكالات.

كيفية وضع برنامج للسير عليه

كيفية وضع برنامج للسير عليه Q هل يمكن أن يضع الرجل جدولاً يسير عليه؟ وما هي أساسيات هذا الجدول؟ A ينبغي للإنسان أن يضع لنفسه جدولاً وبرنامجاً، لكن أنا أتحدث مع فئات مختلفة، مع طالب في المتوسط وطالب في الثانوي وطالب في الجامعة ومع موظف ومع أستاذ ومع متخصص في العلم الشرعي، فمن الغلط أن يقتطع لكل هؤلاء جدول واحد، لكن كل إنسان يعرف كيف يضع لنفسه جدولاً، وأهم شيء أن يكون جاداً في استغلال وقته واستثماره وفق ظروفه. فالتاجر -مثلاً- الذي يعمل في ميدان التجارة يحتاج إلى برنامج يتناسب مع عمله وموقعه، وكذلك الأستاذ، والطالب، والموظف، والرجل، والمرأة، فالناس يختلفون، فمن الخطأ أن نضع جدولاً واحداً نطالب الناس بالسير عليه، ونقول: هذا الجدول نموذجي ومثالي، والرجل الجاد لا يحتاج أن يوضع له جدول، هو نفسه يعرف كيف يحقق هدفه.

العمل الصالح وأيام العشر

العمل الصالح وأيام العشر Q ما رأيك لو ذكرت الحضور بقضية التكبير في أيام العشر، وكثرة العمل الصالح فيها. A النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، فالنبي صلى الله عليه وسلم صور لنا أجر المجاهد كمثل الصائم والقائم الذي لا يفتر من صيام ولا من صلاة، ومع ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله. وفي الحديث الآخر يقول: (فأكثروا فيهن من التحميد والتكبير والتسبيح) فينبغي أن نكثر في هذه الأيام من العمل الصالح، ولا شك أن أفضل عمل صالح يعمله المرء في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله؛ لأن هذه الأيام ما كانت فاضلة إلا لأنها كانت أيام الحج؛ لأن فيها يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، فأحث نفسي وأحث إخواني على اغتنام هذه الأيام وهذه الليالي. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ويتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

صور من التربية غير الجادة

صور من التربية غير الجادة Q إننا في هذا الزمن نجد بعض شباب الصحوة ليس لهم هم سوى متابعة الأناشيد والمخيمات الترفيهية، وتجدهم لا يفكرون تفكيراً جاداً للعمل للإسلام، سواء كان بدعوة أو طلب علم، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء؟ A فعلاً كثير من الشباب تجده يحفظ من النشيد أكثر مما يحفظ من القرآن، ودائماً حياته سماع النشيد، هذه صورة من التربية الهزيلة، ولو كان هذا جاداً ما وجد وقتاً أصلاً أنه يسمع مثل هذا، وأنا لا أقول أنها محرمة، لكن الرجل الجاد عنده ما يشغله أصلاً. كذلك المخيمات التي تقدم للشباب طيبة وخيرة، لكن يجب أن نرتفع بها، فهي فرصة لأن يتربى هؤلاء الشباب من خلال هذه المحاضن، وهذه البرامج، فالمخيمات أو المراكز الصيفية أو الأنشطة المدرسية لا يكون الهدف منها الترفيه، ونغرق فيها في برامج ووسائل الترفيه حتى يخرج لنا هذا الجيل الغثاء.

نفرة الشباب بالتربية الجادة

نفرة الشباب بالتربية الجادة Q التربية الجادة ربما تنفر الشباب وتجعلهم يتركون العمل للدعوة إلى الله؟ A هذا سبق أن أجبنا عليه، ويمكن أن نقول الآن أن التربية الجادة مراحل، فنحن نريد أن يتربى المجتمع كله تربية جادة لكن على مستوى معين، فهناك ناس يصلون إلى مستوى معين، وهناك آخرون إلى مستوى آخر، وليس بالضرورة أن نطالب الجميع بمستوى معين من التربية، ومستوى معين من الجدية، لكن أقول أنا: أنه عندما نتأمل الواقع نجد أننا متأخرون كثيراً، وأننا نضع الكثير من الناس دون مراحلهم التي يجب أن يصلوا إليها.

التربية الجادة وحفظ القرآن

التربية الجادة وحفظ القرآن Q أليس من التربية الجادة اقتطاع شيء من البرنامج اليومي لحفظ كتاب الله والانتظام في حلقة لتحفيظ القرآن؟ A لا شك أن من التربية الجادة أن يعتني الشاب بنفسه، ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به حفظ القرآن الكريم، لكن كيف؟ يلتحق بحلقة يحفظ على شخص، هذا شأن آخر، المهم هو الهدف، أما الوسيلة فتختلف من شخص إلى آخر ومن ظرف إلى آخر.

من جوانب التربية الجادة

من جوانب التربية الجادة Q نجد بعض الشباب يتحمس فيربي نفسه تربية جادة، فينقطع لطلب العلم فترة من الزمن، وبعد مدة نجده يفتر ويكسل، وإن لم ينتكس عن الطريق المستقيم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ A سبق أن قلنا يا إخوان في الدرس السابق أن التربية ليست هي طلب العلم وحده، بل هو جانب من جوانب التربية فالإنسان يحتاج إلى جوانب عديدة لتربية نفسه، والجانب العلمي جزء منه، فالإنسان الذي يتفرغ ليتعلم وحده، وهو يرى المنكرات ويرى الواقع الذي يحتاج إلى تغيير ليس جاداً، والجدية لا تعني أن الإنسان يكون مقطب الجبين، ولا تعني أن الإنسان مجرد يقرأ، ولا تعني أن يستغل الإنسان وقته كيفما اتفق، بل الجدية أن يكون الإنسان فعلاً يختار العمل المناسب، ويكون عنده توازن، هذا هو الرجل الجاد، أما الإنسان الذي يتفرغ مثل هذا التفرغ ويهمل الواقع ويهمل الدعوة أصلاً فأنا أعتبره رجلاً غير جاد.

الخلطة والتربية الجادة

الخلطة والتربية الجادة Q نرى كثيراً من الشباب يبالغون في الخلطة، حتى إنها قد تصل إلى الخلطة الممرضة للقلب، وهم يعللون ذلك بالتربية، وهي في الحقيقة سبب من أسباب تعطيل التربية الجادة أرجو التعليق على ذلك. A هذا كلام صحيح، أنك تجد كثيراً من الشباب فعلاً يطيل في الخلطة، فتجده في ذهاب وإياب ليس له أي ثمرة ولا نتيجة، وهو يقول لك: تربية، تربية أن تتعرف على الشباب وتسلي عنهم إلى غير ذلك، وبهذا يخرج لنا فعلاً جيل هزيل، فنربي الشباب على إضاعة الأوقات، وعلى الأمور الهزيلة، والتعلق بالتوافه، وإن كان ولا شك أنا نحتاج إلى نوع من الترفيه، ونحتاج إلى نوع من الخلطة، لكن يجب أن تكون الأمور بقدرها. فيجب أن نتخفف من الخلطة غير المجدية، فإنها من الخلل التربوي، فعندما يقضي المربي مع من يربيه وقتاً طويلاً دون فائدة، هذا يهدر شخصية المربي ويجعل شخصيته شخصية غير مؤثرة، ويحول المربي إلى مجرد زميل وصديق، وما لم يكن هناك مسافة بين المربي والمتربي، ونوع من الهيبة لا يمكن أن تؤدي التربية ثمارها المطلوبة. كثرة الخلطة والبرامج الهازلة تؤدي إلى القضاء على هذا الشعور الموجود عند المتربي، ويمكن أن نتقلل نحن من الخلطة بأمرين: نتقلل أصلاً من الخلطة غير المفيدة، يعني: اللقاءات غير المفيد وغير العملية لا يوجد داعي إلى كثرتها. والأمر الثاني: أن نستغل أوقات الراحة كما قلنا، فما المانع عندما نكون في مناسبة أن نتناقش في موضوع جاد، ونتحدث عن موضوع جاد؟ بل هذا هو الواجب، وهذا من معايير ودلائل الجدية.

مقياس التربية الجادة

مقياس التربية الجادة Q تكلمت عن الرجل الجاد وعن بعض الصور من التربية الجادة، ولكن ما هو المقياس الذي يتضح منه أن التربية جادة جزاك الله خيرا؟ A المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالمقياس هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

التربية الجادة والشهوة

التربية الجادة والشهوة Q لا بد للإنسان أن يربي نفسه تربية جادة لكي يواجه الشهوة فكيف يتم ذلك؟ A الذي يربي تربية جادة سيكون صاحب عبادة، متخل عن الشهوات، ويكون جاداً مع نفسه وحازماً مع نفسه، فيغلق على نفسه أبواب الذرائع، وإذا وقع في المعصية فسيكون جاداً فيتوب، الرجل الجاد لا شك أنه سيكون أبعد الناس عن الشهوات، وإذا أصابه منها شيئاً سيكون أسرع الناس إلى التخلي عنها؛ لأنه رجل جاد وقليلاً ما يتعلق بهذه الشهوات.

ضابط النقد الجاد

ضابط النقد الجاد Q ما ضابط النقد الجاد وكيفية استثماره؟ A النقد الجاد الذي يكون له نتيجة عملية؛ فكل واحد يستطيع ينتقد، فلو نقول الآن: من أفصح شخص فيكم؟ فيقول شخص: أنا، ويقوم فيلقي خطبة عصماء، فواحد يقول لك: لحن في كذا وكذا، وواحد يقول لك: أخطأ في هذه الآية، وواحد يقول لك: مستوى العاطفة عنده مرتفع، وكل واحد ينتقد، سهل الانتقاد، لكن هذا انتقاد غير عملي، نريد نحن الانتقاد العملي الانتقاد الجاد فعلاً، تجد -مثلاً- الناس بعد خطبة الجمعة يتجمعون فينتقدوا خطيب الجمعة: بالغ في كذا، قال كذا، تحدث عن كذا، لكن ما هو نقد عملي؛ لأنه ولا واحد منهم يوماً من الأيام فكر أن يخاطب الخطيب بمثل هذه الملحوظة، فهذا نقد غير جاد، وأعتبره نقداً هازلاً. عندما نتحدث في المجالس ننتقد المؤسسات الدعوية، وننتقد البرامج ونتحدث عنها ونطيل الحديث فيها أيضاً أنا أعتبر هذا نقداً غير جاد، فالنقد الجاد هو الذي يوجه إلى أصحابه، للقنوات السليمة، ثم أيضاً النقد الجاد -ليكون نقداً موضوعياً- يأخذ في الاعتبار المحاسن والمساوئ، ويأخذ في الاعتبار أيضاًَ العناصر البشرية، وأن البشر لا بد أن يكونوا بشراً يقعون في الخطأ، وأتصور أن هذه بعض معالم النقد الجاد العملي.

علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة

علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة Q إذا كان الشخص مع مجموعة غير جادة فهل الأصلح أن يتركهم إلى مجموعة جادة أم يحاول الإصلاح؟ ثم كيف يصلح مجموعته؟ A لا شك أن الأولى أن يحاول الإصلاح ولا يترك المجموعة إلا إذا وصل إلى حد الإياس، لكن هذه قضايا أعيان، وقضايا الأعيان كما يقال: تحتاج إلى فتوى خاصة.

الرفق في الدعوة

الرفق في الدعوة Q الدعوة إلى الله -خصوصاً مع المدعوين- تحتاج إلى نوع من إرخاء الحبل قليلاً حتى يتم جذبهم ودعوتهم إلى الله عز وجل. A نحن نحتاج إلى الرفق بالمدعوين، والعناية بهم، وتلمس نفسياتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أرفق الناس، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، والله عز وجل قال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالرفق، والذي كانت هذه مواصفاته هو الذي جعل الصحابة يعملون في غزوة الخندق حتى كان أحدهم يربط على بطنه الحجارة من الجوع، ونزل فيهم ما نزل. النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الصحابة يسيرون إلى جيش العسرة بعد أن طابت الثمار، يعني: يغرسون ويتعبون، ولما طابت الثمار وجاء وقت أكلها رحلهم إلى الجيش في شدة الحر، فساروا في طريق طويل، إلى مواجهة الروم، وتركوا الثمار كلها بكل ما فيها؛ ولم يكن هناك ثلاجات ولا وسائل حفظ، ومع ذلك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وساروا، وحينما تخلف ثلاثة من أصحابه عاتبهم بما سبق أن أشرنا إليه. هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالرفق، فيجب أن يكون عندنا توازن، فلا نبالغ في الإثقال على الناس والحزم الذي نقضي معه على كل معاني الرفق، وأيضاً لا نبالغ في هذه المعاني فنميع تربيتنا، والذي ينظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة متكاملة يسلم من الأخطاء. وهناك نصيحة أود أن أقولها وقد سبق أن أشرت إليها مراراً، وهي أن المشكلة أحياناً تأتي من سوء الفهم، فالإنسان عندما يتحدث عن موضوع سيحشد الأدلة والمؤيدات والأمور التي تؤدي إلى إصلاح خلل معين وخطأ معين، فأنت لا تأتيه بالمقابل وتقول له: إن الذي يفهم من كلامك كذا وكذا. فمثلاً عندما يأتيك إنسان ويقول لك: لا بد أن نعتني بالعلم، ونوظف نفيس أوقاتنا في طلب العلم وإلى غير ذلك، يأتيك إنسان يقول لك: هذا يعني أن نترك الدعوة؟ لا، من قال لك ذلك؟ فنحن كذلك عندما نطالب بالتربية الجادة لا يعني أن نهمل الرفق، ولا يعني أن نهمل أخذ الناس بالتؤدة، لكن أيضاً الرفق وفق المنهج السليم، الرفق والتؤدة وفق التوازن، فنمسك العصا من الوسط ونتوسط، وكما قلت لكم: المقياس لذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أرحم الناس وأرفق الناس، ومع ذلك انظروا كيف كان يفعل مع أصحابه، النبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، قال: (بايعوني على أن لا تسألوا الناس شيئاً)، وبايعوه، أليس هذا من الحزم؟ أليس هذا من الجدية؟ فالجدية لها مستويات ولها منازل تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فنحن يجب أن ننظر إلى الأمر نظرة عامة، نظرة متوازنة، وعندما ننظر من خلال هذه النظرة لا يمكن أن نقع في مثل هذه الإشكالات.

كيفية وضع برنامج للسير عليه

كيفية وضع برنامج للسير عليه Q هل يمكن أن يضع الرجل جدولاً يسير عليه؟ وما هي أساسيات هذا الجدول؟ A ينبغي للإنسان أن يضع لنفسه جدولاً وبرنامجاً، لكن أنا أتحدث مع فئات مختلفة، مع طالب في المتوسط وطالب في الثانوي وطالب في الجامعة ومع موظف ومع أستاذ ومع متخصص في العلم الشرعي، فمن الغلط أن يقتطع لكل هؤلاء جدول واحد، لكن كل إنسان يعرف كيف يضع لنفسه جدولاً، وأهم شيء أن يكون جاداً في استغلال وقته واستثماره وفق ظروفه. فالتاجر -مثلاً- الذي يعمل في ميدان التجارة يحتاج إلى برنامج يتناسب مع عمله وموقعه، وكذلك الأستاذ، والطالب، والموظف، والرجل، والمرأة، فالناس يختلفون، فمن الخطأ أن نضع جدولاً واحداً نطالب الناس بالسير عليه، ونقول: هذا الجدول نموذجي ومثالي، والرجل الجاد لا يحتاج أن يوضع له جدول، هو نفسه يعرف كيف يحقق هدفه.

العمل الصالح وأيام العشر

العمل الصالح وأيام العشر Q ما رأيك لو ذكرت الحضور بقضية التكبير في أيام العشر، وكثرة العمل الصالح فيها. A النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، فالنبي صلى الله عليه وسلم صور لنا أجر المجاهد كمثل الصائم والقائم الذي لا يفتر من صيام ولا من صلاة، ومع ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله. وفي الحديث الآخر يقول: (فأكثروا فيهن من التحميد والتكبير والتسبيح) فينبغي أن نكثر في هذه الأيام من العمل الصالح، ولا شك أن أفضل عمل صالح يعمله المرء في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله؛ لأن هذه الأيام ما كانت فاضلة إلا لأنها كانت أيام الحج؛ لأن فيها يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، فأحث نفسي وأحث إخواني على اغتنام هذه الأيام وهذه الليالي. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ويتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الطاقة المعطلة

الطاقة المعطلة تمتلك الأمة كثيراً من الطاقات البشرية، لكن للأسف أكثر هذه الطاقات معطلة لم تقم بدورها في رفعة الأمة، وقليلة تلك الطاقات التي تستثمر بالصورة الصحيحة. ولو وجهت طاقات الأمة التوجيه الصحيح، واستثمرت الاستثمار الأمثل لكان للأمة شأن آخر، ولرأيتها في وضع يسر.

أهمية دراسة المسائل الدعوية العامة دراسة جماعية متأنية

أهمية دراسة المسائل الدعوية العامة دراسة جماعية متأنية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة: الطاقات المعطلة، ولعلي أتمثل بقول الأميري رحمه الله: قم وجه اللاهين بالذكرى إلى النهج القويم فالمجد ليس ينال بالدعوى أو الصوت الرخيم عبء الرسالة ليس لهواً إنه عبء جسيم القول دون الفعل لا يهدي الصراط المستقيم هذا الموضوع أيها الإخوة! أحسب أنه يحتاج إلى غيري، وأرى أنني عندما أتجشم نقاش هذا الموضوع، ووضع الحلول له، أنني أرتقي مرتقى لست أهلاً له، ولذا فإني لن أتجاوز قدر إثارة الموضوع، وطرح أو اقتراح بعض الحلول، والتي ليست إلا حلولاً عاجلة وآنية، وأرى الموضوع يستحق أكثر من ذلك. وهنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى العمق والموضوعية في طرح قضايا الصحوة وقضايا الدعوة؟ ألا تدركون معي أن الكثير من الموضوعات الأساسية والجوهرية التي تهم الدعوة وتهم الصحوة إنما تطرق ارتجالاً، فهي خواطر يعدها محاضر استجابة للإلحاح عليه من فلان، أو هي خواطر عاجلة يسطرها أيضاً في صحيفة أو في كتيب. وقد يكون أيضاً الدافع وراء ذلك ليس هو القناعة بهذه الفكرة، أو الشعور بضرورة طرحها، وإنما نتيجة لإملاء أو ضغوط، فيحصل في الواقع كثير من حالات الإجهاض الفكري لكثير من قضايا الدعوة وقضايا الصحوة، فتطرح طرحاً آنياً، وطرحاً سطحياً لا يتناسب مع عمق وأهمية الموضوع. وهنا لست أقلل أيها الإخوة! من الجهود المبذولة، ولا مما يطرح سواء مما يطرحه الإخوة المحاضرون، أو الكتّاب أو غيرهم، بل هناك لا شك أطروحات فعلاً على مستوى ما نحتاج إليه، لكن أشعر أن هناك قضايا كثيرة هي أكبر أصلاً من مفكر واحد، وأكبر من رجل واحد، فيحتاج إلى أن يتنادى إليها عقلاء القوم، وأن يطرح كل ما عنده. ألا تستحق قضايا الصحوة أن تعقد لأجلها مؤتمرات وندوات وبحوث لعلاج مثل هذه القضايا التي تعنينا؟ ومن نريد أن يعنى بأمراضنا، ويعنى بتصحيح مسيراتنا إلا نحن؟! فليس من المنطق، ولا من المقبول لا شرعاً ولا عقلاً بأي مقياس أو بأي منطق؛ ليس من المقبول أن تكون حلولنا وأطروحاتنا وعلاجنا لقضايا الصحوة، والقضايا الجوهرية حلولاً سطحية. وأظن أن هذا الكلام مؤيداً لما قلته قبل قليل، مؤيداً لما قلته أن هذا الموضوع أشعر وأجزم أنه أكبر من حجمي بكثير، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو فقط إثارة هذا الموضوع، والعناية به.

الأسباب الداعية إلى تكاتف طاقات الأمة

الأسباب الداعية إلى تكاتف طاقات الأمة

أن الواجب الشرعي في الدعوة والتغيير الأمة كلها مخاطبة به

أن الواجب الشرعي في الدعوة والتغيير الأمة كلها مخاطبة به نحن في مسيرتنا لتصحيح الواقع، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى طاقات أكثر من الطاقات العاملة الآن بكثير، ونشعر أن هناك طاقات هائلة معطلة يجب أن تستثمر وأن تستغل. فنحن نحتاج إلى هذه الطاقات؛ نظراً لأن الواجب الشرعي أصلاً في الدعوة والتغيير مخاطبة به الأمة جمعاء، فكل النصوص التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله عز وجل هي خطاب للأمة كافة، وليست خطاباً لجيل الصحوة وحدهم، ولا للعلماء وحدهم، وللدعاة دون غيرهم. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الواجب -يعني: واجب الدعوة- واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقي. ولا أظن أن أحداً الآن يجادل أو يشك في أن واجب الدعوة لم تقم به الطائفة التي نذرت نفسها وبذلت جهدها له، لا لأجل التقصير منها، وإن كان البشر لا يخلو من التقصير، ولكن لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدرتها، فلا نقول: قام به من يكفي إلا عندما تصحح الأخطاء الموجودة في المجتمعات الإسلامية فعلاً، ويصل المسلمون إلى ما يسعون إليه من إقامة الحكم لله سبحانه وتعالى، وإقامة الدولة على شرع الله عز وجل، وإقامة واقع الناس على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فما دام لم يتحقق هذا الواجب، فلا زالت الأمة كلها جميعاً مخاطبة بهذا الواجب. إذاً: فالأصل شرعاً أن تعمل كل هذه الطاقات لخدمة هذا الدين، وللدفاع عن الأمة، ولإعادة واقع الأمة إلى الواقع الشرعي.

ضخامة الفساد والانحراف في الأمة يفرض ضرورة تكاتف جهود وطاقات الأمة

ضخامة الفساد والانحراف في الأمة يفرض ضرورة تكاتف جهود وطاقات الأمة الأمر الثاني: أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين بقدر من الضخامة فلا يمكن أن يقوم بإزالته الدعاة فقط وحدهم ما لم تسر الأمة وراءهم، ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا جماعة ولا فئة من الناس، فهو أكبر بكثير من طاقات هؤلاء. فالانحراف في العقيدة، والانحراف في المفاهيم والتصورات، والجهل بأحكام الدين، والانحراف في السلوك، وأبواب ومجالات الخلل في واقع الأمة وواقع المجتمع مجالات واسعة أكبر من أن يحيط بها، أو أن يسد هذه الأبواب وهذه الثغرات الداعية فلان أو فلان، أو حتى جماعة من الجماعات، أو فئة من الفئات، فما لم تتضافر الجهود، وتعمل كافة طاقات الأمة على درء هذا الفساد، فسنظل نسير سير السلحفاة.

اختلاف طاقات الناس وتخصصاتهم يوجب تكاتف جميع طاقات المجتمع

اختلاف طاقات الناس وتخصصاتهم يوجب تكاتف جميع طاقات المجتمع كذلك الأمر الثالث أيضاً الذي يدعونا إلى ضرورة تشغيل كافة الطاقات والعناية بها: اختلاف طاقات الناس، وتخصصاتهم، وقدراتهم، فالناس مثلاً منهم العالم ذو العقلية العلمية الفذة الذي يستطيع أن يؤصل المسائل الشرعية، ويستطيع أن يعلم الناس، ومنهم الواعظ الزاهد الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس، وقد يصل إلى قلوب الناس ما لا يصل إليه العالم، ومنهم الخطيب، ومنهم المفكر، ومنهم أصحاب المواهب والطاقات المتنوعة، وكل هذه الطاقات نحتاج إليها، والأمة كل الأمة، المفكرين، المثقفين، المتعلمين، الأميين، النساء، كل طبقات المجتمع بحاجة إلى من يخاطبها بهذا الدين. وطبقات المجتمع وشرائح المجتمع طبقات متفاوتة، فتحتاج إلى أنواع وألوان من الخطاب، وإلى أنواع من القدرات، ولذا فإن الأمة تحتاج إلى كل طاقة وكل قدرة، فكل إنسان يملك موهبة، وكل إنسان بارع في أي تخصص له مجال مفتقر إليه، وقد لا يقوم به غيره.

ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم

ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم الأمر الرابع: أن الدعاة وحدهم والقادة وحدهم لا يمكن أن يصنعوا شيئاً: وهذا ليس شأن هذه الأمة فقط بل الأمم السابقة كذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147]. فهذا النبي ما قام وحده، وهذا النبي ما قاتل وحده وإنما قاتل معه ربيون كثير، وعندما يتخلى هؤلاء عن النبي فقد لا يصنع شيئاً، أعني: أنه قد لا يتحقق له النصر والتمكين في دار الدنيا، ونجد مصداق ذلك في قصة موسى مع بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:20 - 21]. فدعا موسى بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة: ((ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)) يعني: الأرض المقدسة مكتوبة لهم فيحتاج الأمر إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة فقط، فرفض بنو إسرائيل أن يستجيبوا لدعوة موسى، فقام رجلان بواجب المناصرة والتأييد لموسى، {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فالقضية تحتاج فقط إلى مجرد الدخول على القوم الجبارين، وحينئذٍ إذا دخلتموه فإنكم غالبون، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. وحينئذٍ صرحوا بأنهم لا يملكون أي استعداد إطلاقاً لدخول الأرض المقدسة، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] فحتى ما قالوا: اذهب أنت وربنا، أو أنت والله سبحانه وتعالى، وإنما بلغ سوء أدبهم مع موسى أن قالوا: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)) فالقضية ما تعنيهم، القضية تعني موسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] يعني: نحن عندنا استعداد أن ننتظر الآن في هذا المكان، واذهب أنت وقاتل، وإذا فتحت المدينة حينئذٍ لدينا استعداد أن ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. فقال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]. وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26]. وحرمت عليهم أربعين سنة، وبقوا في التيه أربعين سنة، ثم ولدت ذرية تربت على القسوة، وعلى الجدية، وتركت حياة الذل والاستعباد، فلما جاء بهم يوشع بن نون خطب بهم فقال: لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يدخل بها وهو ينتظر أن يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى داراً وهو ينتظر أن يسكنها، ثم ذكر كل ما يقطع الناس ويعلقهم في الحياة الدنيا، فجاء بهذه الصفوة، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، وكانت الشمس ستغيب على ليلة السبت، وقد حرم عليهم القتال يوم السبت، ففتح الله عليهم. إذاً: مع وجود موسى، ومع وجود هارون، ومع وجود الرجلين اللذين يخافان الله سبحانه وتعالى، مع ذلك عندما تخلى الأقوام لم ينتصر موسى، ولم يدخل الأرض المقدسة. الشاهد هنا: أن الداعية وحده، أو القائد وحده لا يمكن أن يصنع شيئاً ما لم تسر الأمة وراءه، وما لم يكن معه ربيون كثير، يقاتلون في سبيل الله، ولا يهنون، ولا يستكينون، ولا يضعفون لما أصابهم في سبيل الله. ولذلك يقول الشافعي عن الليث بن سعد: كان الليث أفقه من مالك، ولكن لم يكن له أصحاب يقومون بفقهه، فـ الليث بن سعد على الأقل في رأي الإمام الشافعي أفقه من مالك، ومالك أخذ شهرة ومكانة وأتباع لم يأخذها الليث بن سعد، بل لعلك -للأسف- تجد بعض طلبة العلم قد لا يعرف من هو الليث بن سعد! فما الذي جعل مالكاً يقوم وينتشر مذهبه؟ أنه كان له أصحاب يقومون بمذهبه، فمع أن

تكاتف جميع طاقات الأمة لصد مكر الأعداء وعدوانهم

تكاتف جميع طاقات الأمة لصد مكر الأعداء وعدوانهم الأمر الخامس: أنه عندما تعمل كل الطاقات، وعندما يسير الجميع في ركاب الصحوة، فستفوت الفرصة على المتربصين بالأمة الدوائر وما أكثرهم، وهاأنتم الآن ترون مصارع إخوانكم في كافة أنحاء العالم الإسلامي، والقوم هم القوم، تشابهت قلوبهم، والقضية واحدة، فقد يختلف التوقيت، وقد يختلف الأسلوب، لكن يجب أن تعلموا حقيقة لا شك فيها أن الأعداء يكيدون لهذه الصحوة، ويتآمرون عليها. فعندما تكون الصحوة محصورة في إطار معين، وفي فئات معينة فإنه يسهل على الأعداء أن يضربوا هذه الصحوة، ويسهل على الأعداء أن يصنعوا ما يشاءون، لكن عندما تتحول الصحوة إلى تيار جارف، وعندما يكون على الأقل المتعاطفون مع الصحوة جزءاً منها وأناساً عاملين، عندما ننجح فعلاً في توظيف هؤلاء فإننا نفوت فرصة ثمينة على هؤلاء الأعداء فلن يستطيعوا أن يضربوا الصحوة؛ لأنهم حينئذٍ سيواجهون المجتمع، وسيواجهون الأمة بدلاً من أن يواجهوا مجموعة يخيلون للناس أنهم متطرفون، أو أصوليون، أو غلاة، أو غيرها من المصطلحات التي يطلقونها على هؤلاء. أقول: إذاً لهذه الأمور الخمسة ولغيرها كان لابد من أن تستثمر كافة هذه الطاقات، فالفساد واسع ولا يمكن أن يحيط به آحاد من الناس، والناس طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم تختلف، وكذلك القائد والداعية والموجه للأمة ما لم يسر وراءه أتباعه ويقفوا وراءه، ويشعروا أنهم جزء منه فلا يستطيع أن يصنع شيئاً. كذلك لا شك أن استغلال هذه الطاقات، وتشغيل هذه الطاقات فيه تفويت وقطع للطريق على الأعداء الذين يتربصون بالصحوة.

أصناف الطاقات المعطلة في الأمة

أصناف الطاقات المعطلة في الأمة بعد ذلك ننتقل إلى الحديث عن أصناف هذه الطاقات المعطلة، والمعذرة أيها الإخوة! فقد أتحدث عن أصناف من الخيرين، بل ومن الذين نتمنى أن نجالسهم، ونستفيد منهم، فلا يعني أني أتهم جميع الناس، بل أقول فئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف هم لا زالوا طاقة معطلة. الأمر الثاني: ليست القضية يا إخوة! التراشق بالتهم، ولا القضية اتهام بالتقصير، بل القضية قضيتنا جميعاً، القضية قضية تذكير، القضية أننا ندعو هؤلاء جميعاً إلى أن يقفوا في خندق واحد لمواجهة تيار الفساد، ولمواجهة الأعداء، والقيام بالمهمة. ثالثاً: إنني حين أقول ذلك أعرف أنني أول المقصرين، وأعرف أني أهمل كثيراً مما أملكه من طاقات ومواهب على ضآلتها، وعلى سذاجتها، وأني أبخل بكثير مما أستطيع أن أقدمه، ولكن القضية قضية تناصح، وتعاون على البر والتقوى قبل أن تكون تراشق بالتهم، أو اتهام للناس بالتقصير؛ لأني أخشى أن يقول أحدكم بعد ذلك: وماذا بقي من طبقات المجتمع عندما تتهم كل هذه الطبقات بأنها طاقات معطلة، أو أن هؤلاء مقصرون؟!

من الطاقات المعطلة المتفاعلون مع الدعوة والمحبون لها

من الطاقات المعطلة المتفاعلون مع الدعوة والمحبون لها أول هذه الطبقات وأهمها: هم ما يمكن أن نسميه -وهذا مصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح- الصف الثاني للصحوة، ونعني بهم الناس الذين يتفاعلون مع قضايا الصحوة، فتجده مثلاً يتابع ما يطرحه الدعاة إلى الله عز وجل، ويتضامن معهم، فهو مثلاً يحضر المحاضرات العامة، ويقرأ الكتب والإصدارات التي يصدرها هؤلاء، ويتحدث عن الصحوة مع غيره في المجالس، ويتابع ويتفاعل مع قضايا الصحوة داخل نفسه، ويبدو ذلك أيضاً في حديثه مع الناس. وهم قطاع كبير في المجتمع، لكن لا يصنع شيئاً وراء ذلك، ولا يقدم أي عمل، وغاية ما يقدمه هو -كما قلت- مجرد التفاعل مع قضايا الصحوة، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الكثير الآن من طبقات المجتمع يتفاعلون مع قضايا الصحوة، ومع رواد الصحوة، بدليل أنك تجد مثلاً رواج الشريط الإسلامي، وتجد أن الآلاف يسمعون الشريط الإسلامي، وتجد المحاضرات التي تقام لكبار قادة الصحوة مثلاً أن يحضرها الآلاف من الناس، وهي إنما تقام مثلاً في مدينة واحدة فقط، والآخرون لا يتيسر لهم الحضور، فهذا مظهر من مظاهر التفاعل مع قضايا الصحوة. والتفاعل مع كافة الأطروحات التي يطرحها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ورواد جيل الصحوة، ولكن القضية عند الكثير تقف عند هذا الحد، فهو يسمع الأشرطة، ويحضر المحاضرات، ويقرأ ما يكتب، ويتفاعل فقط داخل نفسه، لكن ما وراء ذلك لا يصنع شيئاً. أقول: للأسف أن الكثير ممن يتفاعلون مع قضايا الصحوة هم من هذه الفئة، ولو نجحنا فقط في توظيف هذه الطاقات، لو نجحنا في توظيف الذين يستمعون إلينا فعلاً النجاح التام لاستطعنا أن نصنع الشيء الكثير، لكن متى ننجح في ذلك؟ وهذا ما أدعو إليه. وهذا لا يعني أني أتهم المتحدثين، أو أتهم الدعاة، أو أتهم جيل الصحوة بأنهم قاصرون وعاجزون، كلا فكونهم يكسبون هذا التأييد هذا دليل على أنهم يملكون قدراً كبيراً من النجاح، لكن أقول: نريد أن ننتقل خطوة أكبر من ذلك، أكثر من مجرد أن يسمع حديثنا الناس، أكثر من مجرد أن يتفاعل مع حديثنا الناس، بل أن نستطيع أن نصنع جهود عملية من وراء ما تحدث به. أن نحرك هذا الجيل الذي يسمع لنا ويؤيدنا، بل أقول يا إخوة! وأنا واثق مما أقول: إن أكثر طبقات المجتمع يتضامن ويؤيد الصحوة، ويقف مع قضايا الصحوة، ولكن تبقى القضية قضية مشاعر قلبية، تبقى القضية تضامن وشعور داخلي قد يتجاوز إلى الحديث في المجالس، والدفاع وتبني قضايا الصحوة، لكن ما وراء ذلك هو ما نريده.

من الطاقات المعطلة في المجتمع كثير من طلاب العلم

من الطاقات المعطلة في المجتمع كثير من طلاب العلم ثم أنتقل إلى طبقات أخرى قد تكون طبعاً داخلة تحت هذه الطبقة التي أشرت إليها، ومن أهم هذه الطبقات طبقة من طلاب العلم، فطبقة كبيرة من طلاب العلم للأسف هم من الطاقات المعطلة، والأمة أحوج ما تكون إليهم، وهنا أذكر بما قلته قبل قليل، فلا يعني هذا أبداً أنني أتهم طلاب العلم أنهم مقصرون، بل إننا نأنس بحديثهم، والجلوس إليهم، والاستفادة منهم، ونحن جميعاً عالة عليهم. ولكن أقول: هناك فئة من طلاب العلم بقي الخير قاصراً عنده على نفسه، ويتعلل بأنه عاجز، وبأنه ما عنده قدرات، وبأن واقع المجتمع لا يتطلب ذلك إلى غير ذلك، فيتعلل بعلل وأصناف ووسائل شتى سبق أن تحدثت عنها في حديث سابق، وفي محاضرة سابقة؛ لذا لا أحتاج إلى العودة إليها، كنت تحدثت عنها في محاضرة بعنوان: فتن التهرب من المسئولية. وحتى نأخذ صورة فقط عن حجم هذه الطاقات فإنك عندما تنظر إحصائيات خريجي الدراسات الشرعية فإنك تصاب بذهول، هذه الأرقام الهائلة في مقابل الجهود المبذولة الآن، وفي مقابل فعلاً مدى انتفاع الناس بها. فمثلاً: خريجي الدراسات الشرعية في جامعة الإمام وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ (9656) طالباً، فهؤلاء لم يتخرجوا من هذه الجامعة في كافة الدراسات، وإنما من الدراسات الشرعية في المرحلة الجامعية وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ فقط، وانظر ما قبل عام 92هـ، وما بعد عام 1409هـ من أعوام، فهذه الأفواج الهائلة من خريجي الدراسات الشرعية أين هم؟ وجامعة أم القرى من عام 1401هـ - 1402هـ إلى عام 1409هـ بلغ أيضاً عدد خريجي الدراسات الشرعية (4027) طالباً، وخذ بعد ذلك سائر الخريجين من أقسام الدراسات الإسلامية والدراسات الشرعية في سائر الجامعات. وخذ بعد ذلك طلبة العلم وخريجي حلق المساجد الذين قد يكون الكثير منهم يفوق هؤلاء الخريجين، وقد تقول لي مثلاً: إن الكثير من خريجي الدراسات الشرعية ليسوا على المستوى المطلوب، وقد تقول: إنهم ضعاف، وقد تقول: فيهم كذا وكذا، لكن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون طالب الدراسات الشرعية خاصة في هذا العصر يشعر بدوره، ويرى أثر العلم عليه، ومهما كان فعلى الأقل قد أتيحت له فرصة لدراسة العلم الشرعي لم تتح لغيره، وأما كونه مهملاً، وكونه مقصراً، فهذا أصلاً مظهر من مظاهر تعطل الطاقات. فالمفترض أن صاحب الدراسات الشرعية سواء كان في المرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية، أو المراحل العليا، المفترض ألا يفارقه هذا الشعور: أن يرى أن الناس بحاجة ماسة إلى علمه. وعندما تنتقل مرحلة أخرى أيضاً إلى قطاع أكبر مثلاً فستجد أن خريجي مثلاً المعهد العالي للقضاء، والمعهد العالي للدعوة الإسلامية، وهو يمنح درجات عالية: الماجستير والدكتوراه، في الفترة نفسها (731) طالباً هؤلاء أصحاب تخصصات عليا في الدراسات الشرعية، ناهيك عمن يأخذ أو يحصل على الشهادات العليا من غيرها مثلاً من كليات الجامعة، أو من الجامعات الأخرى، أو ممن هم -كما قلت- رواد المساجد الذين الكثير منهم أفضل بكثير من حملة الشهادات العالية، فأين هذا الرقم الهائل؟ وأين أثرهم في الواقع؟ وأساتذة ثلاثة جامعات فقط: أساتذة الدراسات الشرعية في جامعة الإمام، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية من السعوديين وحدهم في عام 1409هـ بلغ عددهم (906)، وهؤلاء لا شك أنهم على مستوى أعلى منا جميعاً، أعلى منا نحن الذين نتحدث عنهم، فنحن -كما قلت- لا نوجه التهمة، ولا نؤيد هذا المنطق أن نوجه التهم للناس بالتقصير والإهمال، لكن أقول: عندما تنظر إلى هذه الأرقام وغيرها، وتنظر إلى الجهود المبذولة: الدروس العلمية في المساجد، والمحاضرات، والواجبات المنوطة بهؤلاء، تتساءل أين البقية؟ ولا أبالغ أيها الإخوة! إذا قلت: إنه لو عمل ربع هذه الطاقات فقط لتغير الأمر، فتجد الآن مثلاً عندما يكون لأحد الإخوة قدر ضئيل من العلم، ومستواه الفكري قدراته ضئيلة ومحدودة، فبمجرد أن تظهر له محاضرة أو محاضرتان في التسجيلات، وأصبحت أشرطته تتداول، إلا تنهال عليه الطلبات الهائلة التي لا يستطيع حتى أن يوفق بينها. وأقول أيها الإخوة: لو أن فقط هذا الصنف من المحاضرين تفرغ لنشاط المحاضرات وحدها، وتفرغ لتلبية الطلبات التي ترد عليه لم يستطع أن يلبي جميع هذه الطلبات، فكيف به وهو منوط به أعمال أخرى كثيرة، ناهيك عن ظروفه ومشاغله الخاصة. أين البقية؟ لو كان كل واحد من هؤلاء من طلبة العلم يشعر بدوره وواجبه، ويقوم بجهد ولو كان ضئيلاً لتغيرت الصورة، ولخف العبء على أولئك الذين -وأنا أولهم- يعرفون أنهم ليسوا أهلاً لترقي مثل هذه المراقي أو هذه المنابر التي نتحدث من خلالها، وأرى أنه لو قام بعض هؤلاء الأكفاء بواجبهم لما استطعنا أن نجد لنا مكاناً في مثل هذه المنابر، ولبحثنا عن مكان آخر نستطيع أن نقدم منه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، لكن الإنسان عندما يجد الساحة فارغة يرى أنه غير معذور إذا لم يدل بدلوه.

من الطاقات المعطلة بعض خطباء الجوامع

من الطاقات المعطلة بعض خطباء الجوامع طبقة أخرى أيضاً، وفئة أخرى من الطاقات المعطلة: بعض خطباء الجوامع: أقول: يا إخوة! خطبة الجمعة بحاجة إلى إعادة نظر، ولا شك أن هناك فئة من الخطباء لسنا نحن نتحدث عنهم ولا نقيمهم، بل أظن أن ثناءنا عليهم يعتبر غضاً من شأنهم، فهم أكبر من أن نثني عليهم، وأكبر من أن نشيد بدورهم، لكن البقية أين دورهم؟ فمثلاً هل هو وضع طبيعي أن يوجد في مدينة مثل مدينة الرياض عشرة خطباء أو خمسة عشر خطيب يجتمع الناس حولهم، والبقية الذين يتحدثون لسائر المسلمين ما شأنهم؟ وما دورهم؟ ولو نجحنا في توظيف خطباء الجوامع وحدهم فعلاً، وأصبح خطيب الجمعة يشعر بأن القضية أمانة مسئولية، وأن خطبة الجمعة تستمع إليها الملائكة، وأن خطبة الجمعة يجب على كل مسلم أن يسعى إليها، وأنه يجب عليه الإنصات، إنها أمر الله سبحانه وتعالى للمسلمين جميعاً بأن يسعوا إلى ذكر الله، وأن يسعوا ليسمعوا هذا الذكر. لو كان كل خطيب يشعر بهذا الشعور، ويشعر بثقل الأمانة والمسئولية ويعتني بما يقدمه للناس لتغيرت الصورة. ولمَ لم ينجح هؤلاء فعلاً في توظيف الناس في خدمة دين الله سبحانه وتعالى؟ لمَ لم ينجح هؤلاء في أن يتوب على أيديهم عدد كبير من العصاة؟ لما ترى الكثير مثلاً من هؤلاء الخطباء عندما يأتي لخطبته فكأن الخطبة جبل ثقيل يريد أن يتخلص منه، فيجمع النصوص من هنا وهناك، مجموعة أحاديث، وبعض الآيات، وقال فلان وقال فلان من الناس، ويقرأ الخطبة، والجميع ينظر إلى ساعته ينتظر أن تنتهي هذه الخطبة ليغادر المسجد. فمثلاً: هل هؤلاء الخطباء يعالجون قضايا الشباب وانحراف الشباب فعلاً بعمق؟ سبق أن أجريت دراسة لمجموعة من الشباب، فكان 75% منهم يرى أنه لا يستفيد من خطبة الجمعة، ويرى أن خطبة الجمعة لا تدعوه إلى الالتزام والاستقامة، يعني: أنها لا تعالج قضايا الشباب. وأنا أجزم أن خطيب الجمعة لو عالج مشكلة من مشاكل الشباب، لو عالج قضية مثلاً المعاكسات الهاتفية، وتحدث عنها فعلاً بعمق، وبعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن أساليب الإثارة، وبعيداً عن مجرد استثارة العواطف، وتحدث عنها حديثاً علمياً، وبذل جهد فعلاً، وأحضر وقائع، لاستطاع أن يقنع الكثير من الناس، وأن يقنع الآباء والفتيات والشباب. ولو تحدث للشباب بمنطق العقل، ومنطق الإقناع عن النهاية لطريق الشهوات والسير وراءها، وتحدث عن الضريبة التي يدفعها هؤلاء عندما يسيرون في طريق الغواية، ولو تحدث عن كثير من هذه الأمراض، وأنا لا أريد أن تكون خطب الخطيب بهذا الشكل، أنا أريد من خطيب الجمعة أن يخصص له خطبة في الشهر أو كل شهرين يهتم فيها بقضية من قضايا المجتمع، ومشكلة من مشاكل المجتمع فإن الناس جميعاً يخرجون وهم يشعرون أن القضية تعنيهم، ويشعرون أن الخطيب قدم لهم شيئاً جديداً. فيجتهد الخطيب ويقرأ، ويطلع، ويتابع الدراسات والإحصائيات، ويتابع ما يطرح في الصحف، ويستطلع آراء الناس ويستفيد، ويجمع من هنا وهناك، ثم يقدم مادة جيدة للناس، لو أن الخطباء سلكوا هذا الأسلوب وهذا المنهج، وصار عندهم عمق في طرح هذه القضايا لصنعوا الشيء الكثير. وليس عيباً أيها الإخوة! ليس عيباً أن يقول الشاب: أنا ما عندي قدرة على خطابة الجمعة، فليس المؤهل كي تكون إمام جامع أن تكون مجرد شاب ملتزم، ليس صحيحاً أن كل شاب ملتزم يكون خطيباً، بل أحياناً ليس كل طالب علم مؤهلاً لأن يكون خطيب جمعة. فالخطابة لها مواصفات معينة، فما الذي يمنع الإنسان أن يقول: والله هذا المكان ليس لي، وأنا غير مؤهل لأن أتولى خطابة الجمعة، ويتولاها من هو خير مني. ثم افترض أنك توليت الخطابة، فما الذي يمنعك أنك تستعين بأحد الناس الذين عندهم قدرات؟ فإذا كان هناك شخص مثلاً تعرف أنه ليس خطيب جمعة، فتطلب منه يوم من الأيام أن يقدم خطبة، وأنت مستهلك فحتى لو كنت أكثر منه طاقة فالناس قد سمعوا كل ما عندك، فعندما يأتي هذا الرجل فإنه يستطيع أن يقدم لهم شيئاً كثيراً بجهد قليل؛ نظراً لأنه لأول مرة يقف أمامهم. فما الذي يمنع خطيب الجمعة أن يدعو فلاناً من الناس ويقول: أريدك أن تقدم خطبة للناس؟ وما الذي يمنعه أن يتقدم إلى فلان أو فلان من الناس ويقول: أريد أن أخطب في هذا الموضوع، فأعطني بعض العناصر، وأعطني بعض الأفكار، ويسترشد بآراء الغير؟ وأنا لا أدعو الخطيب إلى أن يسلك هذا الأسلوب في كل خطبة؛ فهذا أمر يصعب عليه، لكن أقول مثلاً: ليجعل خطبة واحدة في الشهر، أو خطبة كل شهرين يعتني بها هذه العناية. والأصل يا إخوة! أن يكون خطباء الجوامع كلهم فعلاً يسيرون وراء هذا المنهج، لكن عندما يكون الخطباء المشهورون يأتي الناس إليهم، والذين لم يصلوا معهم سيسمعون الأشرطة التي تطرح في التسجيلات، لكن أريد من يخاطب الناس الذين لا يصلون إلا الجمعة، أريد من يخاطب الناس الذين لا يسمعون الخطب والمحاضرات وإنما يسمعون أشرطة الغناء الساقط، وإنما يتابعون الأفلام الساقطة، فأحدهم يأتي لصلاة الجمعة نظراً لأنه ملزم أن يحضر خطبة الجمعة، فأريد من يخاطب هؤلاء، فهذا لا يبحث عن فلان وفلان

من الطاقات المعطلة طلاب المدارس

من الطاقات المعطلة طلاب المدارس كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: طلاب المدارس: كثير من طلاب المرحلة الثانوية والمرحلة المتوسطة فعلاً أشعر أنهم طاقات معطلة، لماذا؟ نأتي مثلاً إلى ثانوية من الثانويات كم فيها من الشباب الملتزمين الذين تجدهم رهن الإشارة، هم -كما قلنا- من الطبقة التي تحدثنا عنها في البداية من الجيل الثاني للصحوة، فعنده استعداد يسمع أي توجيه، وعنده استعداد ينفذ أي برنامج يطرح عليه، فيستجيب لأي أمر ولأي توجيه، فكم ستجد مثلاً في هذه الثانوية؟ أفترض مثلاً أنا وجدنا ثلاثين شاباً، ففي بداية السنة كان عندنا ثلاثون شاباً، وانتهت السنة فما النتيجة؟ وما أثر هؤلاء الشباب؟ وكم شاب اهتدى على أيديهم؟ وكم زاد العدد؟ قد يزيد العدد خمسة ستة، بمقابل الخسائر التي نخسرها، وقد تكون هذه الزيادات أحياناً نتائج عفوية لم تكن وراءها جهود مبذولة. لكن لو كان هؤلاء الطلاب مثلاً فعلاً طاقات عاملة، وأنا ما أريد من الطالب أن يهتدي على يديه جميع الطلاب، لكن لو كان للطالب محاولة واحدة كل شهر، وأشهر الدراسة إذا حذفنا أيام الامتحانات والإجازات وغيرها ستكون ستة أشهر، سيكون عندك كم محاولة في السنة؟ ست محاولات، وإذا كان عندي ثلاثون طالباً، فكم سيكون عندي من المحاولات؟ ستكون مائة وثمانين محاولة. افترض يا أخي! أننا نجحنا بنسبة 10% فقط، 10% من جهودنا نجحت، 90% فاشلة فكم سيهتدي على يد هؤلاء الثلاثين شاباً؟ سيهتدي ثمانية عشر، أي: أكثر من النصف، يعني: عندما ننجح بنسبة 10% فسيزيد العدد بمقدار النصف، مع أن المفترض ألا تكون محاولة الشاب مجرد مرة واحدة في الشهر، والمفترض أن تكون النتائج أكثر من 10%، يعني: من كل عشر محاولات تنجح محاولة واحدة، فافترض أن نسبة النجاح 5%، وأن 95% من الجهود التي يبذلها هؤلاء الشباب في استصلاح الشباب الآخرين تفشل، فستكون النتيجة أن يهتدي على يد كل ثلاثين شاباً تسعة شباب، يعني: بمقدار الثلث. وتخيل معي بعد أربع سنوات أو خمس سنوات كم سيزيد الرقم؟ تخيل النتائج التي تحصل بعد ذلك لو أجدنا استغلال هذه الطاقات. وهؤلاء الشباب والطلاب الذين لديهم تقصير لا أحملهم المسئولية وإنما أحملها الأساتذة، وأحملها موجهيهم، فهؤلاء عندهم استعداد، بدليل أنك عندما تقترح عليهم أي اقتراح تجد أنهم يبادرون في تنفيذه، لكن يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم ويقول: هذا هو الطريق، وبحاجة إلى من يشير لهم وسيسيرون بمجرد الإشارة. ألا توافقون أيها الإخوة! أن هذا أيضاً هو الآخر قطاع كبير معطل فعلاً، ولو أن هؤلاء الشباب أدوا أدوارهم لتغيرت الصورة. إذاً: إذا استطعنا أن نوظف هؤلاء الشباب فسننجح كثيراً. وعلى كل حال هناك خواطر كثيرة حول هذا الموضوع: موضوع الطلاب سبق أن أشرت إليها في المحاضرة السابقة، ولعلي أيضاً أن أخصص لهذا الموضوع إن شاء الله محاضرة مستقلة.

من الطاقات المعطلة أصحاب المواهب

من الطاقات المعطلة أصحاب المواهب كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: أصحاب المواهب أو الموهوبون: وللأسف نحن أسوأ الأمم والمجتمعات برعاية الموهوبين، فالدول الأخرى عندها شيء اسمه رعاية الموهوبين، وهو غير موجود في مجتمعاتنا إطلاقاً، فهناك مدارس خاصة بالموهوبين، ودراسات خاصة، ومؤتمرات خاصة لتدريس الموهوبين ورعايتهم، وهناك دراسة أجراها مكتب التربية العربي لدول الخليج عن واقع الموهوبين في دول الخليج العربي فإذا قرأتها فستنصدم عندما ترى ما فيها من النتائج. فهناك سؤال وجه لوزارات التعليم في دول الخليج: هل توجد إدارة أو جهة مسئولة عن الموهوبين؟ فالجميع أجاب بلا ما عدا البحرين. وهناك أسئلة أخرى: هل توجد خطط تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد تشريعات تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد مناهج دراسية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد برامج تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل يوجد معلمون متخصصون في التعامل مع الموهوبين؟ وهل هناك متابعة للطلاب الموهوبين؟ فالجميع أجاب: بلا. فهذا واقع الموهوبين عندنا، لكن نحن لا نخاطب أولئك فلهم من يتحدث معهم، نخاطب الدعاة والأساتذة، فنقول: يجب أن نلتفت إلى هذا الجانب، أعني: الطاقات الموهوبة، وهذا أمر شرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، فالناس يختلفون: طاقات ومواهب. والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء) إلى آخر الحديث. ويقول: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). فعل كل حال ليس هذا وقت التأصيل لهذه القضية، لكن هذه القضية معروفة شرعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان فئة من الناس يعلم أن لإيمانهم ودخولهم في الإسلام أثراً في خدمة الإسلام والمسلمين. فما مدى عناية الأساتذة بهؤلاء الموهوبين؟ أنت أستاذ تدرس في مدرسة وعندك طالب شاعر، أو عندك طالب ذكي، أو عندك طالب يملك أي مواهب معينة وقدرات معينة، فما مدى عنايتك بتوجيهه ورعايته؟ وبعبارة أخرى: ما مدى عنايتك بتوظيف مثل هذه الطاقة لخدمة الأمة؟ فبدلاً من أن يكون هذا شاعراً شعبياً يكتب في صفحة الأدب الشعبي، وبدل من أن يمدح فلاناً وفلاناً من الناس نريده يا أخي أن يوظف هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى. وأنا أمامي مرحلتان مع هؤلاء الموهوبين: المرحلة الأولى: أن يكون هذا الموهوب أحد المتابعين، أو أحد العاملين فعلاً في جيل الصحوة، وحوله إلى إنسان مهتدي وإنسان عامل، إنسان فعلاً يشعر بأن الدعوة هي همه وهي كل شيء، إذا ما نجح في الأمر هذا، ولم أنجح في تربيته التربية الكاملة على الأقل يا أخي أوجد عنده قناعات، على الأقل أكسبه كمؤيد، وكرجل على الأقل محايد، وقد تكون كلامات محدودة أوجهها لمثل هذا الموهوب تجعله يوجه مساره إلى خدمة هذا الدين، وخدمة قضايا الأمة. ويجب أيضاً أن ينتبه إخواننا الكرام إلى أن الموهوب ليس هو الذكي فقط، لا، لا شك أن الأذكياء طبقة من طبقات الموهوبين، لكن غيرهم كل من يملك طاقة وقدرة وموهبة ليست عند الآخرين فهو رجل موهوب نحن بحاجة إلى توظيفه. ولذا فأنا هنا أدعو الأساتذة الذين يملكون الغيرة فعلاً على واقع الأمة أن يحرصوا على هؤلاء ويعتنوا بهم، سواء في استصلاحهم وهدايتهم لأن فيهم الخير الكثير، أو على الأقل في دعوتهم وتوجيههم بكافة الوسائل؛ لتوظيف طاقاتهم لخدمة قضايا الأمة.

من الطاقات المعطلة أصحاب المهن الحرة

من الطاقات المعطلة أصحاب المهن الحرة كذلك من الطاقات المعطلة: أصحاب المهن الحرة كالتجار مثلاً، فالآن الصحوة لها انتشار طيب في قطاع التعليم وقطاع الطلاب، لكن ما مدى انتشار الصحوة في قطاع التجار، وفي قطاع العمالة، فالقطاعات الأخرى تجدها قطاعات بعيدة فعلاً عن هذا الأمر. وسنعطيكم تصوراً بسيطاً جداً لذلك، فمثلاً هناك مشكلة نعاني منها كثيراً في المجتمع وهي مشكلة السفور، فتخيلوا لو وجد عندنا مثلاً في سوق من الأسواق خاصة أسواق الملابس الجاهزة، أو الأسواق التي تعرض منتجات تحتاج إليها المرأة، لو كان عندنا في هذا السوق أكثر من تاجر مستقيم ملتزم، أو على الأقل -بعبارة أوضح- أكثر من تاجر واستطعنا أن نوظفه لخدمة الدعوة فعلاً، فعندما تأتيه امرأة متبرجة يقول لها: أنا أرفض أن أبيع للمرأة المتبرجة. يرفض أن يبيع للمرأة المتبرجة، ويضع لافتة على المحل يكتب فيها آية أو حديثاً، ويقول: لذا نرفض أن نبيع للنساء المتبرجات. لا شك أنه سيساهم فعلاً بدور كبير في مواجهة الفساد، وستسخر منه المرأة المتبرجة قطعاً، وستعرض عنه، لكنها عندما تذهب إلى المنزل فإنها ستقول: لا أستغرب أنا أن أسمع هذه الكلمة مثلاً من رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خطيب المسجد، لكن لما أسمع هذه الكلمة من التاجر، ومن صاحب المحل، وأسمع الكلمة من الرجل الآخر، ومن فلان وفلان من الناس، فسيدعوها هذا إلى أن تعيد النظر في نفسها، وأن تعيد النظر في هذا التبرج والسفور التي قد وقعت فيه. والآن بدأنا نرى وجود محلات خياطة لا تفصل مثلاً ثياباً أسفل من الكعبين، وهذا مظهر طيب، وأنا لا أقول: إن القضية هذه ستحل مشاكل الأمة، لكن هذا مظهر طيب من مظاهر الصحوة، ومظهر يشعر الناس أن الصحوة بدأت تمتد في مجال أوسع، ومدى أوسع. وعندما يوجد عندنا أيضاً في وسط الأسواق الذي فيها تبرج وسفور محلات لا تبيع الأزياء المخالفة، وعندما يوجد صاحب المحل الذي يحمل عاطفة خيرة، والكثير من هؤلاء طيبون، فهل تتصورون مثلاً أن أصحاب المحلات كلهم أناس سيئون، لا، ولذلك أحياناً عندما تأتي صاحب المحل وتتحدث معه تجده يعاني من السفور الموجود في السوق، بل أحياناً بعضهم يترك المحل ويترك هذه التجارة؛ نظراً لأنه لا يطيق أن يبقى في هذا المكان. وأنا أعتبر هذا الموقف غير سليم، فإذا كان الإنسان متزوجاً، وعنده قدر من التحمل فيجب عليه أن يبقى في السوق، فإذا كان هؤلاء الخيرون سيتركون هذا الميدان فسيبقى الميدان لمن يتمنى أن يرى المرأة متبرجة لينظر إليها. فأقول مثلاً: لو استطعنا أن نوظف هذه الطاقات، أصحاب المهن الحرة: التجار، وأصحاب المحلات التجارية، وكافة طبقات المجتمع، أن نوظف هؤلاء لخدمة قضايا الدعوة لكان خيراً كثيراً، ولا يشترط أن يأتي مثل هذا الرجل ويسجل في المركز الصيفي، أو يجلس في حلقة من حلقات تحفيظ القرآن حتى يكون من جيل الصحوة، لا، لكن عندما نخاطب هؤلاء، ونشعر هؤلاء، ونقدم لهم برامج فعلاً للدعوة، فنقول: أنت تستطيع أن تقدم خدمة للدعوة عندما تصنع كذا وكذا، فأجزم أن هناك فئة كبيرة عندها استعداد أن تساهم.

من الطاقات المعطلة المرأة

من الطاقات المعطلة المرأة كذلك من الطاقات المعطلة: المرأة والحديث عن المرأة حديث ذو شجون، وأظن أننا قد أخذنا نصيب الأسد من الوقت ولم نأت على نصف ما أردنا أن نأتي عليه في هذه المحاضرة، فلعلي أن أختصر. فعندنا عدد من النساء متعلمات وعندهن قدرة على التعامل مع المراجع، وعلى التعامل مع الكتب، وعندهن قدرة على الاستفادة والإفادة، فالوقت الذي يضيع عليها وقت هام، فلو أن مثلاً المرأة استغلت جزءاً من وقت الفراغ وقامت مثلاً بإعداد عناصر لبعض الموضوعات، فتجمع بعض النصوص مثلاً، وبعض الشواهد، وتجمع بعض ما ينشر في الصحف، فتجمع مثل هذه القضايا وتوصلها إلى خطيب الجامع مثلاً عن طريق أحد محارمها، أو ترسلها مثلاً إلى أحد الدعاة، أو أحد المهتمين بهذه القضية، أو حتى لو استطاعت أن تخدم زوجها في مثل هذه القضايا، فإنها تقدم خيراً كثيراً، وتوفر لهؤلاء وقتاً يمكن أن يصرفوه لأمر آخر. وكذلك المرأة مثلاً تتعامل مع مجتمع لا نستطيع أن نتعامل معه نحن، فالخطباء والدعاة يستطيعون أن يتحدثون مع النساء اللاتي يأتين إلى المسجد عندما تكون محاضرة في المسجد، في مكان مخصص للنساء، أو فقط اللاتي يسمعن الشريط الإسلامي، لكن القطاع الكبير والواسع من يتعامل معه؟ ما يتعامل معه إلا المرأة. فما مدى أداء المرأة المدرسة لدورها؟ والمرأة التي تلتقي بالنساء في المجتمعات العامة كالأفراح والمناسبات، وإذا كان الآن الأستاذ مثلاً، وأتحدث أيضاً عن نفسي نحن جميعاً نحتاج إلى الخبرة، ونسأل المختصين كيف نستطيع أن نؤثر على الطلاب؟ وكيف نستطيع أن نوجه الطلاب؟ إذا كان الأستاذ وهو الذي يتعامل مع الناس الآن، ومفتوح على أبواب الصحوة على مصراعيها، فكيف بالمرأة التي لا تجد من يربيها، ولا تجد من يوجهها، غاية ما عندها من الثقافة ما تسمعه من الأشرطة، أو ما تقرأه في الكتب، فالمرأة أيضاً أحوج ما تكون إلى أن يرسم لها برامج، وأن تفتح لها آفاق تستطيع أن تعمل من خلالها.

الوسائل المقترحة لاستغلال الطاقات الموجودة في المجتمع

الوسائل المقترحة لاستغلال الطاقات الموجودة في المجتمع بعد ذلك ننتقل إلى وسائل مقترحة لاستغلال هذه الطاقات: ن أن لعلي أن أذكركم مرة أخرى بما قلته في المقدمة: أنني لا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولن أستطيع، وعندما أدعي ذلك، بل عندما أحاول أن أضع النقاط على الحروف في مثل هذا الموضوع، وأوجد الحلول لمثل هذه المشكلة أعرف أنني أرتقي مكانة ليست لي، وأعرف أنني أتشبع بما لم أعط، لكن على الأقل يكفي أن أثير الموضوع؛ ليتولى من هو أعلم مني ومن هو خير مني دراسة مثل هذا الموضوع، والعناية به، وإيجاد الحلول. لكن لعلي أشير باختصار إلى أهم ما أراه من وجهة نظري من بعض الوسائل والأساليب التي يمكن أن نستطيع من خلالها أن نوظف هذه الطاقات:

مخاطبة الناس بأهمية الدعوة، وتنبيههم على أنهم مخاطبون بها

مخاطبة الناس بأهمية الدعوة، وتنبيههم على أنهم مخاطبون بها أولاً: أن نركز في حديثنا في الخطب، وحديث الأستاذ في الفصل، والحديث مع الناس في مجتمعاتهم العامة على أهمية الدعوة، وعلى شمول الدعوة، وعلى أن الناس جميعاً مخاطبون بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست خاصة بفئة دون أخرى.

بيان مراتب فضائل الأعمال

بيان مراتب فضائل الأعمال كذلك من الوسائل: بيان مراتب فضائل الأعمال. فإنك تجد فئة كبيرة من الناس عندهم حرص على العبادة، وعندهم حرص على نوافل العبادات، وعلى نوافل الطاعات، وعندهم اجتهاد مثلاً في أمور من الخير نتمنى أن نملك قدراً من هذا الاجتهاد الذي لديهم. والكثير من هؤلاء إنما يؤتى من جهله بمراتب فضائل الأعمال، ولذا من وسائل الشيطان وأساليب الشيطان في إضلال الناس أن يشغل العابد بالمفضول عن الفاضل، ولا شك أنه كما قال ابن الجوزي: ألست تبغي القرب منه -يعني: من الله سبحانه وتعالى-؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم. والإمام ابن القيم رحمه الله يقول: الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالم الذي عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس، وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله، وتفريغ وقته للصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح. وقبل ذلك كله يقول الله سبحانه وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19]. فأنا أرى أنه من وسائل تشغيل هذه الطاقات: أن يعرف هؤلاء مراتب فضائل الأعمال، وأن من أفضل الأعمال الانشغال بنفع الناس، وأفضل نفع للناس هو إنقاذهم من الضلال، إنقاذهم من الظلمات إلى النور. أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]؟ فالله سبحانه وتعالى رتب الأجر العظيم على هذه الأعمال؛ لأنها أعمال متعدية للناس نفعها ليس قاصراً على صاحبها وحده.

اقتراح برامج للناس وطرحها

اقتراح برامج للناس وطرحها كذلك أيضاً من الوسائل: اقتراح برامج للناس وطرحها. فلا يكفي مثلاً أن نطالب الناس بالدعوة، وأن نطالب الناس بالمساهمة في أمور الخير، وأن نقول للناس: إنكم قادرون أن تبذلوا، وأن تصنعوا كذا وكذا، بل الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة). فلو تأتي إلى الإبل المائة مثلاً لو توجها ستسير في الطريق، والراحلة تنتفع بها أكثر من غيرها، لكن تبقى تسع وتسعون يمكن أن ينتفع بها، وإذا وجهتها توجهت. فالناس لا يكفي أن تقول لهم: اعملوا، اصنعوا، افعلوا كذا وكذا، ليس كل الناس قادرين على ذلك، القادرون هم طبقة معينة من الناس أو فئة من الناس الذي بمجرد أنه يستشعر المسئولية، ويدرك الأمانة هو من تلقاء نفسه فإنه يبتكر الأساليب والوسائل، فهو يدرك ماذا يصنع، هؤلاء فئة قليلة، لكن البقية ينتظرون أن يرسم لهم برنامج محدد، فمثلاً عندما يحصل منكر ونطالب الناس بتغييره ينبغي أن نرسم لهم برنامجاً واضحاً، فنقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك نفتح المجال للرواحل، نفتح المجال للطاقات أن تبدع بعد ذلك فيما وراء ذلك. وهكذا مثلاً عندما نخاطب التاجر ونطالبه أن يساهم في الدعوة، فنقول له: اصنع كذا وكذا وكذا، وعندما نخاطب الطالب، فالأستاذ مثلاً عندما يقول لطلابه، سواء طلابه في الفصل عموماً، أو الطلاب الذين هم أخص من ذلك الذين يتلقون منه التوجيه، ويثقون به، ويسمعون كل ما يقول، عندما يحثهم على الدعوة، ويشجعهم، ويثير حماستهم، فسيتحمس الجميع. لكن ماذا بعد ذلك؟ يجب أن ننتقل إلى خطوة أخرى، فنرسم لهم برامج واضحة محددة مقنعة يستطيع هؤلاء أن يصنعوها، ونحدد لهم الخطوات، ونرسم لهم البرامج، فحينئذٍ تجزم أن هؤلاء سيصنعون شيئاً. وأضرب لكم مثالاً: لو جاء أستاذ وتحدث مع الطلاب عموماً عن ضرورة الدعوة، والحاجة إليها، ولا تحتقرون أنفسكم، وافعلوا وافعلوا، فسينصرف الجميع وهو يحمل في نفسه قناعة، ويحمل في نفسه شعور وتوجه نحو الدعوة، لكن لا يدري بعد ذلك ماذا يصنع، بدليل مثلاً أنك تجد الأسئلة بعد ذلك: ماذا أصنع؟ وماذا علي؟ عرفت أن الدعوة مهمة فماذا أصنع؟ وما الحل لهذه المشكلة؟ لكن لو قال مثلاً لهم: من الحلول مثلاً أن تصنعوا كذا وكذا، والفصل فيه مثلاً ثلاثون طالباً، وفيه خمسة من الشباب الأخيار، لو يجتمع كل واحد منهم مثلاً ويدفع شهرياً مثلاً عشرين ريالاً فقط، فسيكون عندنا مائة ريال، وعندنا ثلاثون طالباً إذا نسخنا شريطاً بثلاثة ريالات فسنستطيع أن نعطي جميع طلاب الفصل نسخة من هذا الشريط. فأنا أجزم أن الأستاذ عندما يقترح مثل هذا البرنامج على الطلاب فإنه سيجد منهم المبادرة إلى تنفيذه، لكن لو كان يحدثهم عن الدعوة عموماً، وعن مجالات الدعوة الواسعة فقد لا يهتدوا إلى مثل هذه الفكرة أو تلك. فأقول يا إخوة: لا يكفي فقط أن ندعو الناس إلى الدعوة، ولا يكفي أيضاً أن نتهم الناس بالتقصير: أنتم مقصرون في الدعوة، وما عندكم غيرة، وما عندكم اهتمام، وقائمة من التهم التي نصف بها هؤلاء الناس، والمشكلة أننا لا نوجه هذا الكلام إلا إلى الناس الخيرين الذين يسمعون لنا. فأنا مثلاً عندما أتحدث وأقول: أنتم مقصرون في الدعوة، وأنتم ما عندكم غيرة، وما عندكم حمية، من يسمع لي؟ يسمع لي الناس الأخيار، يسمع لي رواد الصحوة، فما يكفي هذا الأسلوب، ولا شك أن بيان الأخطاء مطلوب، لكن بأسلوب، لكن خير من ذلك كله أن أرسم البرامج للناس يسيرون وراءها. الأسلوب الآخر: مثل هذا الأسلوب لكنه نقلة أخرى، وهو أن نقوم بإشراك هؤلاء في برامج عملية، يعني: نحن ننظم البرامج، ونجعل هؤلاء يشاركون فيها، فمثلاً بدلاً من أن أقوم أنا بالعبء لوحدي، أو يقوم بالعبء مثلاً خمسة من الشباب الذين يمكن أن يعملوا أعمالاً أخرى، ويستغلوا ميادين أخرى، ممكن يقوم واحد من هؤلاء الشباب ويستغل عشرة من الطاقات المعطلة، وسيجد فئة كبيرة من طبقات المجتمع عندها استعداد أن تتعاون معه. فيرسم البرنامج، ويقوم هو بنفسه على هذا البرنامج، فيقوم الجميع وراءه، ويسيرون معه، فنستطيع هنا أن نشغل هذه الطاقات، ونستطيع أن نشعر الناس أنهم قادرون على أن يعملوا، ونستطيع أن نوفر أوقات نحتاج إليها عندما تكون كل الأعمال والأعباء علينا. وانظروا مثلاً إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء قوم من مضر عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، مجتابي النمار، فرقّ النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، فدخل وخرج، وتغير وجهه، فصعد المنبر وقال: (تصدق رجل من بره، تصدق رجل من درهمه، من ديناره)، فما تصدق أحد، حتى جاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها، بل قد عجزت عنها، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس. يقول الراوي: حتى رأيت كومين من طعام وثياب عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة). فالنبي

أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة

أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة كذلك من وسائل أيضاً استغلال هذه الطاقات: أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة، فما يشعر الناس أن القضية أن هناك أعداء، هناك أناس مؤيدون أصحاب الصحوة، ونحن جمهور المتفرجين دورنا فقط هو التصفيق والتأييد. فهناك قطاع كبير من الناس يشعر بأن دوره هو التأييد، فيقف ويسمع وينظر من بعيد، لكن لما نشعر هؤلاء بأنهم جزء من الصحوة أصلاً، فنقول لأحدهم: أنت جزء من الصحوة، فيجب أن تشعر أنك إذا استهدف فلان أنك أنت مستهدف، الأعداء ما يستهدفون الدعاة وحدهم، وإنما أيضاً يستهدفونك أنت، فالدعاة فقط مجرد قادة، ومجرد أعلام، وأنت يجب أن تسير وراءهم. فعندما نشعر الناس بهذا، ونقضي على الحاجز هذا: أن القضية مجرد مجموعة من الناس هم جيل الصحوة، والمجتمع بمعزل، لا، لابد أن نكسر هذا الحاجز، ونشعر الناس بأنهم جميعاً أبناء الصحوة، فلا شك أن هذا يدعوهم إلى أن يساهموا أكثر، وأن يقدموا خدمات أكثر للصحوة.

تغيير لغة التخاطب مع الناس

تغيير لغة التخاطب مع الناس أسلوب سابع: تغيير لغة التخاطب مع الناس. أظن مثلاً يعني الحديث مع الناس: هذا حرام، والكثير من الناس يستهينون به، ولا يعبأون بحدود الله، وحرمات الله، هذا الهجوم الشرس على الناس أظن أنه ليس وحده أسلوب الموعظة الناجح، وكذلك الحديث العاطفي الذي يأخذ قدراً كبيراً من المبالغة، وإلهاب عواطف الناس وحماس الناس، مما يجعلهم يأخذون ردة فعل معاكسة ليس هو الأسلوب وحده أيضاً الذي يؤدي إلى إقناع الناس. أحد الخطباء الغيورين خطب وتحدث مع الناس عن مشكلة موجودة، وللأسف ليست حالات فردية، ولا حالات نادرة، بل حالات منتشرة، وهي أن بعض الفتيات يخرجن مثلاً في الليل دون أن يعلم عنهن أولياء الأمور، فهي ظاهرة موجودة ومشكلة موجودة في المجتمع، فالكثير من أولياء هؤلاء الفتيات لا يعلمون. فالخطيب يريد أن يتحدث عن هذه المشكلة، وعن مشكلة العلاقات السيئة بين الفتيات وبين الشباب، فبالغ في الموضوع، وضخم الأمر، وقال: يجب على كل أب أن يستيقظ الساعة الواحدة، ويذهب يتفقد ابنته هل هي في الفراش أم لا! وضخم الموضوع، حتى يقول لي أحد الحاضرين: خرجت وأنا أشك في والدتي، وأنا أشك بأمي أنها تستيقظ نصف الليل وتذهب مع بعض الشباب. فالخطيب يريد أن يعالج قضية فعلاً مهمة، وقضية حساسة، لكنه عندما يندفع بهذه العاطفة، ويتجاوز ويبالغ، فالنتيجة ستكون ردة فعل، أو النتيجة أن يقول الناس: هذا إنسان عاطفي، لكن لو كان يعالج المشكلة فعلاً بعقلانية وبمنطق، ويتحدث مع الناس بأسلوب مناسب، ويطرح حلولاً معقولة، ويتعامل مع الناس بالثقة، فأظن أن الصورة ستختلف كثيراً. كذلك مثلاً عندما أتحدث مع ناس يقعون في معصية معينة من المعاصي بدلاً من أن أقول: أنتم للأسف متهاونون بحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا تقيمون لشرع الله وزناً، ولا يبالي أحدكم بأمر الله عز وجل، ويعطي قائمة من التهم، لو كان يقول للناس: إننا مقصرون في طاعة الله، ونحن نتجاوز حرمات الله عز وجل، ونتجرأ على المعاصي، ويشرك نفسه مع الناس؛ لاختلفت نظرة الناس إلى هذا الحديث. ولو كان يتحدث للناس مثلاً عن أضرار المعاصي فقط وشؤم المعاصي، فالناس يدركون أنهم واقعون في المعصية، فعامة المسلمين الآن الذين يقعون في المعاصي يدركون أنهم واقعون في المعصية، لو كان يتحدث فقط عن أضرار المعصية، أو يتحدث عن ورع السلف عن المعاصي، ويتحدث عن حال الزهاد، وعن حال النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلك مثل هذه الأساليب والوسائل. فلنغير لغة التخاطب مع الناس، فأحياناً نتحدث عن جوانب الخير عند الناس: عندكم جوانب خير، وفيكم كذا وكذا، فمثلاً أحد الناس قام يتحدث بعد صلاة الفجر عن التأخر عن صلاة الفجر، فهؤلاء جاءوا يصلون الفجر، ففيهم خير، وبدأ ينزل على الناس: للأسف أنتم لا تبالون بصلاة الفجر، ولا تقيمون لها وزناً، فقال له أحد الحاضرين: خاطب الناس الذين في الفرش، وأما نحن فقد حضرنا، ولو ما كان عندنا خير، ولو كان ما عندنا شعور بأهمية صلاة الفجر لما جئنا أمامك، ولما سمعنا حديثك. فأقول: أيضاً من الوسائل: تغيير لغة التخاطب مع الناس، وأنا لا أدعو إلى أن نتنازل ونميع القضايا، ونقول للفساق: أنتم من الأتقياء، وأنتم من البررة، لا، لكن على الأقل نغير أسلوب التخاطب مع الناس. ولنا أسوة بأنبياء الله، وأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيوسف عليه السلام قال وهو يخاطب أناساً مشركين: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:37 - 39]، فبدأ يتدرج مع هؤلاء مع أنهم مشركون. وابن القيم رحمه الله له عبارة جميلة في (الفوائد) قريبة مما قلناه، يقول: العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة؟! فإن صعب عليهم ترك الذنوب، فاجتهد أن تحبب الله إليهم؛ بذكر آلائه، وإنعامه، وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها.

التنويع والتجديد في مجالات الدعوة

التنويع والتجديد في مجالات الدعوة وأخيراً من هذه الأساليب: التنويع والتجديد في مجالات الدعوة. إن قطاعات المجتمع تختلف، فمثلاً عندما نسير على برامج محددة، وعلى خطوات محددة، فهذه البرامج وهذه الخطوات قد لا تتناسب مع فئات أخرى من المجتمع، فيجب أن ننوع، والمجتمع يتحمل، وأظن أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين يحتمل كل ما عندنا من قدرات، وكل ما عندنا من مواهب، وكل ما عندنا من أساليب، فلو رمينا به في الساحة أجزم أن الواقع سيتحمل كل هذه الجهود. فينبغي أن نجدد، ونبتكر، ونطور في أساليب الدعوة التي من خلالها نستطيع أن نوظف كثير من هذه الطاقات المعطلة. مرة أخرى -أيها الإخوة- أكرر ما قلته في بداية هذه المحاضرة: أن هذا الموضوع أكبر مني، بل أرى أن مثل هذا الموضوع لا يمكن أن يعالجه مجرد شخص واحد، ولا حتى مفكر واحد، مثل هذه الأمور أعتبر أنها قضايا أساسية، وقضايا مهمة من قضايا الصحوة، يجب أن يتعاون ويتكاتف عليها الجميع، ويجب أن تقوم دراسات فعلاً حول مثل هذه القضايا، ولكن فقط ما أردت تحقيقه من خلال هذا العرض هو إثارة الاهتمام بمثل هذه القضية، وتوضيح هذه المشكلة التي أرى أننا بحاجة إلى أن نعتني بها. وما طرحت من الأساليب والوسائل أيضاً أجزم أنها ليست هي الأساليب المثلى، وليست هي الأساليب الكافية فعلاً لتشغيل مثل هذه الطاقات، ولكنها على الأقل مجرد أمور ومقترحات أقترحها للأخوة جميعاً أن يعملوا بها، وأن يساهموا في تطوير مثل هذه المقترحات، وأجزم أيضاً أنهم قادرون على اقتراح وصنع وإيجاد وسائل وأساليب أخرى. وأخيراً أيضاً: أنبه مرة أخرى أني لست أتهم هؤلاء الخيرين الذين قد أكون صنفت البعض منهم في مثل هذه الطاقات المعطلة، لست أتهمهم بالتقصير أو الإهمال، لا، إنما أقول -وأنا أول المقصرين-: يجب أن نوظف جميع طاقاتنا وقدراتنا في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، والقضية تناصح وتعاون على البر والتقوى. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى.

الأسئلة

الأسئلة

دور المسلم في خدمة هذا الدين

دور المسلم في خدمة هذا الدين Q قد يقول قائل: ما هو دوري كطاقة معطلة بعد سماعي للشريط، أو قراءتي للكتاب، أو طلبي للعلم الشرعي؟ وجزاكم الله خيراً. A أنت عندما تعترف بأنك طاقة معطلة فإنك تكون قد قطعت علينا ثلاثة أرباع الطريق. فاعترفت أولاً أنك طاقة، يعني: أنك قادر أن تصنع شيئاً. الأمر الثاني: اعترفت أنك معطل، أي: أنك لم تقم بالواجب الشرعي، فهذا الشعور بحد ذاته يكفي، فأحياناً نجد عناء في إقناع الناس به. ودورك بعد ذلك أن تقوم بواجبك، فمجالات الدعوة كثيرة وليست مجالاً واحداً، فأنت تسخر طاقتك وقدراتك لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، فمهما كان مجالك، ومهما كانت قدراتك، ومهما كان تخصصك أظن أنك ستجد مجالات واسعة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى. فأقول: دورك ما دمت أنك اعترفت أنك طاقة معطلة: أن تشغل هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.

الفرق بين الطاقة المعطلة والطاقة المتعطلة، والسبب في تعطيل هذه الطاقات

الفرق بين الطاقة المعطلة والطاقة المتعطلة، والسبب في تعطيل هذه الطاقات Q عنوان هذه الموضوع: الطاقات المعطلة، فلماذا لم يكن: الطاقات المتعطلة، وهل هذه الطاقات قد عطلت من أصحابها، أم أنها عطلت من غيرهم؟ A أظن أنه ليس هناك مشكلة، فكلها سواء: الطاقات المعطلة، الطاقات المهدرة، الطاقات المتعطلة، فأنتم إذا وافقتمونا على ما طرحناه، فيبقى العنوان ليس فيه إشكال، فسواء كان: الطاقات المتعطلة، أو الطاقات المعطلة، لكن أنا مع تقديري واحترامي لوجهت نظر الأخ وشكري له، أتصور أن الطاقات معطلة وليست متعطلة؛ لأني قلت يا إخوة: مع أننا نحمل هؤلاء المسئولية، لكن أرى أن أهل التوجيه يتحملون جزءاً كبيراً من المسئولية، فمثلاً عندما نقول: إن قطاعاً كبيراً من الطلاب هم من الطاقات المعطلة، فالذي يتحمل المسئولية هم الأساتذة؛ لأنهم هم القادرون على رسم برامج محددة لهؤلاء. وكذلك القطاع المتعامل مع الصحوة، فأقول: الموجهون الآن للصحوة من خلال كافة المنابر التي من خلالها يتعاملون مع قطاع عريض من قطاع الصحوة، أقول: هؤلاء هم أيضاً مسئولون عن تشغيل هذه الطاقات، وهم مسئولون عن رسم برامج معينة، ولذا قصدت إلى اختيار هذا العنوان نظراً لأني أرى من وجهة نظري الشخصية أن العبء الأكبر يقع على الدعاة، وإن كان في الواقع الناس الآخرين ليسوا معفيين من تحمل المسئولية، لكن هذه الطاقات التي نعنيها هي طاقات متجاوبة مع الصحوة، فكثير من طلبة العلم، ومن الطلاب، ومن خطباء الجوامع، ومن غيرهم، هم أناس يتفاعلون مع قضايا الصحوة، لكنهم يحتاجون أن يوجهوا، وأن يرسم لهم برامج معينة.

نصيحة لأئمة المساجد

نصيحة لأئمة المساجد Q فضيلة الشيخ! ألا ترى أن من الطاقات المعطلة بعض أئمة المساجد؟ فإن كان كذلك فما علاج هذه الطاقة المعطلة؟ وجزاكم الله خيراً. A أيضاً من الطاقات المعطلة ولا شك أئمة المساجد، وفي الدراسة السابقة التي أشرت إليها أيضاً للأسف أن نسبة أقل جداً 85% من الشباب غير الملتزمين يقولون: إن إمام المسجد دعاه إلى الالتزام والاستقامة، فما دور الإمام؟ فهو يصلي بهم وعلى الأقل هو موجود في الحي، فإذا كان 15% فقط من أئمة المساجد هم الذين يعتنون بهؤلاء الشباب الموجودين عندهم في الحي فأظن أن هناك تقصيراً واضحاً. فالإمام مثلاً لو دعا هذا إلى منزله، ولو تحدث معه حديثاً ودياً أخوياً؛ لتغيرت الصورة بمجرد لقاء واحد أحياناً مع إمام المسجد، لكن أنا تحدثت عن الخطيب نظراً لأن الخطيب يتعامل مع كافة الناس، فكل المسلمين يصلون مع خطيب الجمعة، والخطيب يستطيع أن يتحدث معهم، وينصتون إليه أكثر من الإمام، لكن الإمام أيضاً هو الآخر عليه مسؤوليات أخرى يجب أن يقوم بها. فأنا لا أود أن يطرح هذا السؤال مرة أخرى: كيف يعمل؟ ما دمت تشعر أنك طاقة معطلة يا أخي! فشغل هذه الطاقة، فينصح الناس الذين لا يصلون في المسجد، ويقوم بجمع التبرعات للمسلمين، ويقوم بجمع الزكاة، ويخدم أهل الحي، ويساهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحي، ويقوم بدعوة الشباب الموجودين في الحي، ويرتب برامج لهؤلاء، كل جهد وكل دعوة يمكن أن تقدم في الحي فإمام المسجد من مسئوليته أن يقوم بها.

كيفية تدريب الطاقات المعطلة

كيفية تدريب الطاقات المعطلة Q تعطيل الطاقات أمر صحيح، ولكن كيف تدرب هذه الطاقات؛ لكي تؤدي دورها الآن، لأن فاقد الشيء لا يعطيه؟ A نعم، هذا سؤال وجيه ويفرض نفسه، لكن هل تريدون أنه مثلاً نعقد دورات تدريبية لهؤلاء؟ إن التدريب هو في العمل، التدريب يكون على رأس العمل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فما عندنا فترة تدريبية، فإذا أسلمت ودخلت في الإسلام فابدأ، فعلى قدر ما تستطيع ساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا التزمت واستقمت وسلكت طريق الخير فابدأ ساهم في الدعوة بقدر ما تستطيع، والتدريب على رأس العمل، والقدرات والمواهب لن تملكها إلا من خلال العمل، فليس هناك تدريب إلا بالعمل نفسه. صحيح أنك ستستفيد من خبرات الآخرين، فمثلاً عندما تقرأ في سير الدعاة، وتطرح بعض التجارب المعينة، وبعض الأفكار، وبعض التوجيهات، فإن ذلك يفيد، لكن التدريب الحقيقي هو من خلال العمل، فالخطيب الذي يستطيع أن يؤثر في الناس ويشد الناس، كيف تعود؟ تعود من خلال المنبر، فمن خلال الخطابة استطاع أن يملك مهارة الخطابة، وهكذا كل إنسان. فأقول: إن تدريب هذه الطاقات، وإعداد هذه الطاقات، إنما يتم ذلك فعلياً من خلال العمل، فالعمل نفسه هو الذي يعد هذه الطاقات ويهيئها.

نصيحة لبعض الشباب العاطلين والذي لا يعترفون بأنهم طاقات معطلة

نصيحة لبعض الشباب العاطلين والذي لا يعترفون بأنهم طاقات معطلة Q بعض الشباب -للأسف- لا يقتنع بأنه طاقة معطلة، مع أنه لا يبذل إلا القليل للإسلام، فما علاج هذه المشكلة؟ A هذه القضية سبق أن تحدثت عنها في المحاضرات السابقة، وهي التهرب من المسئولية، يعني: إما أن يشعر أنه غير قادر، أو يشعر بعدة مشاعر يرى أنها تعفيه من المسئولية، فالطريق هو إقناعه أولاً بأنه طاقة، ثم إقناعه بأنه معطل، ثم بعد ذلك يرسم له البرنامج العملي الذي يساهم فيه. لكن أحياناً قد يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة) يعني: بعض الناس أصلاً هذه غاية ما يصل إليه، وهذه قدراته، فلن نحمل الناس إلا ما يطيقون.

نصيحة لمن كانت طاقته معطلة

نصيحة لمن كانت طاقته معطلة Q أنا شاب طاقاتي معطلة، فكيف أحركها؟ A الشاب الغالب عليه أن يكون طالباً، وأنا عرضت لكم نموذجاً، فنريد أن تستغل وقتك فعلاً في الدراسة، وأن تشعر أن عليك واجباً تجاه زملاء الدراسة، وتبذل الجهد في استصلاح هؤلاء وهدايتهم، وتقدم أنت خيراً كبيراً لهم، وهذا غاية ما تقدم، وغيرك قد لا يستطيع هذا الجهد. فأنت قادر على أن يهتدي على يديك الكثير من الشباب، وقادر أن تمنع مثلاً الكثير من المخالفات الموجودة في وسط المدرسة، وقادر على أن تصنع الشيء الكثير عندما تقتنع بأنك قادر. فنريد من الشباب هذا الجهد وحده، مع عنايتهم بإعداد أنفسهم، ولا يشغلنا يا إخوة! العناية بالدعوة، والشعور بخدمة الأمة، أن يشعر كل واحد منا أنه قد تخرج وانتهى، وأصبح يعطي ولا يأخذ، لا، يجب أن يكون نصيب الأسد الآن من اهتمامنا هو في إعداد أنفسنا، لكن أيضاً مع هذا الإعداد أن نقدم ونبذل الكثير. فالشاب يستطيع أن يصنع جهوداً لا يصنعها غيره، ويستطيع أن يؤثر على زملائه بقدر لا يمكن أن يصنعه غيره. ولعلي على كل حال أتحدث عن مثل هذه القضايا إن شاء الله فيما وعدت أن أتحدث عنه.

المراهقون الوجه الآخر

المراهقون الوجه الآخر المراهقة مرحلة زمنية يمر بها الشاب يُصاحبها نمو جسمي وعاطفي يشكل اليوم أزمة كبيرة، بحيث يتوجه الشاب خلالها نحو منحدر شديد من الانحراف والضياع، وقد أضفت التحليلات والدراسات النفسية الغربية عليها كثيراً من الأفكار التي جعلتها ملازمة للانحراف السلوكي والأخلاقي، لكن تعاليم الإسلام تقرر غير ذلك.

التعريف بالمراهقة

التعريف بالمراهقة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. حديثنا بعنوان: المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثاً حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام، لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ومن ثم لا يسوغ أن تكون حكراً على أهل الاختصاص. الحديث عن المراهقة والمراهقون يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح، وعند أهل التربية والتعليم، بل هو مع العصر الحاضر الذي نعيشه أصبح حديث الكثير من الناس، سواءً أكانوا شباباً يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عما يعانونه من أبنائهم وبناتهم أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل الذين عامتهم من أهل هذه المرحلة. سيطر على كثير من الناس -وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط. وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما تتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد الأستاذة، أو مع أحد ممن يتولى مسئوليته في بلاد المسلمين؛ تتحدث معه حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبدياً شكواك بما تراه عليه يجيبك: إنه مراهق! وهذا يعني أن مرحلة المراهقة عذرُ لارتكاب الجريمة، عذر للانحراف، عذر للصبوة، عذر للطيش والغفلة، أو بعبارة أخرى: إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة. وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو من يتولى تربيته مستوى أعلى ومرحلة غير تلك التي هو عليها يعتذر لك بأنه ما يزال شاباً مراهقاً. فما مدى صحة هذه النظرة؟ أليس ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الوجه الذي نراه؟ بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعاً على التعريف بالمراهقة: وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون رهق أي: غشي ولحق أو دنا منه، سواءً أخذه أم لم يأخذه، والرهق محركاً السفه والخفة، وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم. وراهق الغلام قارب الحلم، ودخل مكة مراهقاً أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، يعني الوقوف بعرفة. وقد ورد هذا اللفظ أيضاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26]. أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة. وأيضاً في قوله عن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. وهي تعني هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، فرهق يعني دنا واقترب. أما في علم النفس المعاصر: فهي المرحلة التي تلي البلوغ، وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين، فعلماء النفس يصنفون من كان في هذه السن مراهقاً تحكمه خصائص معينة وطبيعة معينة. ما الفرق بين المراهقة والبلوغ؟ هناك من يعتبر أنهما مترادفان، وأن البلوغ يعني المراهقة، وهناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة لبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم، فالبلوغ يختص بالنمو الجسمي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذاك. وعلى كل حال لا يهمنا كثيراً الوقوف حول المعاني اللغوية لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا، فحين يطلق علماء النفس مراهق فإنهم يعنون الشاب في هذه المرحلة. أقول: نتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة أنها تعني الصبوة والانحراف والطيش وأنه ليس فيها إلا هذا العبث.

الدوافع لإعادة النظر فيما صدر من الدراسات عن المراهقة

الدوافع لإعادة النظر فيما صدر من الدراسات عن المراهقة ثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة العاجلة للمراهق.

النشأة الغربية لعلم النفس

النشأة الغربية لعلم النفس أول هذه العوامل: نشأة علم النفس ونباته أصلاً، فهو قد نشأ نشأة غربية، ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة أول ما نشأ في بلاد الغرب، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي. الجامعات الإسلامية وجامعات بلاد المسلمين أكثرها فيها فروع مستقلة لعلم النفس، وسائر العلوم الإنسانية، لكن كيف تنظر هذه الجامعات وكيف تدرس علم النفس؟ وحينما تقلب الطرف في مكتبة من المكتبات العربية فإنك تجد قسماً خاصاً حول الكتب المؤلفة حول علم النفس باللغة العربية، وحول سائر العلوم لكن حينما تقلب الطرف في هذه الكتب ترى أنها لا تعدو أن تكون نقلاً حرفياً لما قرأه هؤلاء، ولا تعدو أن تكون ترجمة حرفية، والغالب أن تكون ركيكة لعلم النفس الغربي وما يطرحه الغرب، قد يكون مثلاً من المقبول أن نترجم علوماً مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة الإنسان، وحياة الإنسان لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلاً حرفياً. وللأسف كثيراً من المهتمين بهذه الدراسات لا يزالون متأخرين في عرض هذه العلوم عرضاً إسلامياً، وفي دراسة هذه العلوم من وجهة نظر إسلامية، ولا يزال المسلمون في جامعات العالم الإسلامي يدرسون هذه الدراسات وفق نظرة أولئك، فيدرسون علم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأدب وسائر العلوم من وجهة نظر الغربيين. وحين يكون علم النفس نشأ في البلاد الغربية فهذا يعني بالضرورة أنه سيعكس حياة الإنسان الغربي في تلك المجتمعات خاصة أنه من العلوم الإنسانية التي تعنى بدارسة الإنسان، وشتان بين الإنسان في هذه البيئة بين الإنسان كما خلقه الله وكما يريده الله وبين الإنسان في تلك المجتمعات.

تأثر هذه الدراسات بشخصية الباحثين الغربيين

تأثر هذه الدراسات بشخصية الباحثين الغربيين ثانياً: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث فالذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية فلا يمكن أن يتخلص من شخصيته كنظرته مثلاً للإنسان، نظرته للأديان، نظرته للأخلاق للسلوك، لكل هذه الاعتبارات. ولما كان هذا العلم وليد حياة أولئك فهو لا يعدو أن يكون انعكاساً لنظرتهم تجاه الإنسان وتجاه الدين والأخلاق، ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه استان ليبول ألف كتابه عام 1917م للميلاد، يقول فيه عن مرحلة المراهقة: والمراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق. ويرى آخر وهو قراندر والذي كتب كتابه عام 1969م للميلاد أن المراهقة مجموعة من التناقضات. ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تختطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج. ويصفها البعض بأنها مرحلة جلود. ويعتبر استان ليبول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية. إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها، فهم ممن نشئوا في تلك المجتمعات والبيئات. أمر آخر: أن هذه الدراسات الإنسانية تتم على تلك المجتمعات، فالذين خرجوا لنا بهذه النظريات قاموا بدراساتهم في بلاد الغرب، وفي المجتمعات الغربية، فهم أجروا هذه الدراسات على مجموعات من المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في تلك المجتمعات، وهل يسوغ مثلاً أن نعمم النتائج التي وصلنا إليها في تلك المجتمعات على واقع المسلمين؟ هل يسوغ مثلاً أن نقارن بين مراهق يعيش في بلاد المسلمين، ومراهق يعيش هناك في بلاد الغرب؟ إن العالم الغربي يعيش عالماً من الضياع والانهيار، خاصة في أوساط الشباب والشابات. ويوضح هذا تصريحٌ مشهور أطلقه الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1962م للميلاد مع أن الواقع قد تغير كثيراً الآن، يقول فيه: إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية. فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية، ثم هذا الواحد الصالح للجندية لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، لكن مستوى إقباله على الشهوات لم يصل إلى ذاك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية. وتعرفون أنتم أن الشواذ جنسياً لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية، وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف أيضاً تصريحاً شبيهاً بهذا فيقول: إن مستقبل روسيا في خطر، وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك الفوضى الجنسية والخيانة الزوجية. المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته بهذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات، وأن النتائج التي يصل إليها هؤلاء حينما يتحدثون مثلاً عن طبيعة المراهق عن طبيعة الإنسان في هذه المرحلة أو تلك فإنما يصلون إلى هذه النتائج بناء على دراسات يجرونها على مجموعة من المراهقين أو المراهقات الذين قال عنهم قادتهم ما قالوا، فهل يسوغ أن نعمم هذه النتائج على سائر المجتمعات؟ أيضاً من العوامل المهمة التي تؤثر في هذه النظرة سيطرة نظرية في علم النفس المعاصر تسمى نظرية التحليل النفسي، وهي نظرية العالم النفسي الشهير فرويد والتي تقوم على أساس التفسير الجنسي لسلوك الإنسان، يقول فرويد: إن حياة الإنسان هي حياة الجنس، وإن الجنس يبدأ مع الطفل وهو رضيع، فإن الرضيع يرضع ثدي أمه بشهوة جنسية، ويقضي حاجته بشهوة جنسية، وإن الرضيع يتعلق بأمه بشهوة جنسية. وكذلك أيضاً الفتاة تتعلق بأبيها بشهوة جنسية ثم ينشأ من ذلك ما يسمى بعقدة أوديب والتي تتولد عند الطفل حين يحس أن أباه قد استأثر بأمه. والأخلاق والدين والسلوك ليست إلا مظاهر لكبت الشهوات الجنسية، ومن ثم دعا إلى الإباحية المطلقة وصار يفسر سلوك الإنسان بتفسير جنسي وهو متأثر بنظرية دارون التي تقول بحيوانية الإنسان، وبالمناسبة فإن فرويد هذا كان أحد العلماء اليهود. نظرية التحليل النفسي ونظرية فرويد سيطرت على علم النفس المعاصر وصارت تدرس هذه النظرية حتى في جامعات المسلمين، ولهذا صار ينظر إلى عالم المراهقة وعالم المراهقين من خلال هذه الزاوية.

ارتباط مرحلة المراهقة بسن التكليف الشرعي

ارتباط مرحلة المراهقة بسن التكليف الشرعي وأهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر فيما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة، هو أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي. فالشاب حين يبلغ سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفاً شرعياً، فتجب عليه الواجبات الشرعية، ويجب عليه أن يمتنع عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل. وحينها نتساءل: من الذي خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى! أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل ما فيه، فهو أعلم بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته، ومع ذلك شرع سبحانه وتعالى تكليف الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي، فصار مؤتمناً على الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر التكاليف الشرعية. حينما حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم قائمة من الشهوات، وأوجب عليه سبحانه وتعالى الواجبات، ألا يعني بالضرورة أنه قادر ومؤهل، قادرٌ على أن يمتنع من كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، ومؤهل لأن يتحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى إياه؟ بلى ولا شك. بل إن اختيار هذه السن للتكليف فيه حكمة بالغة، فهو في هذه المرحلة وهذا السن أقرب ما يكون للعبادة، أقرب ما يكون للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لأن يتحمل أمانة التكليف، فهو سبحانه وتعالى أعلم من هؤلاء البشر، هو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق نوازعه، وهو الذي خلق شهوته، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، يعلم هذا الإنسان وما يحيط به، ومع ذلك كلف الله سبحانه وتعالى الناس كل الناس، الشباب والفتيات، في كل عصر وزمان ومكان اعتباراً من هذه السن، فما أن يصل الشاب أو تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ حتى يصبح مكلفاً بالتكاليف الشرعية، فلا يجوز له أن ينظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أن يمتع نفسه بشهوة محرمة، وفي المقابل يجب عليه أداء ما افترض عليه من الصلاة، والبر، والصدقة، وسائر الواجبات الشرعية، بل حتى الجهاد له ارتباط وثيق بهذه السن كما سيأتي بعد قليل. إذاً فالله سبحانه وتعالى حين كلف الشاب وكلف الفتاة في هذه السن فهذا يعني أنه مؤهل، وهذا يعني أنه عاقل مهما كان ومهما قال الناس ومهما تحججوا ومهما أظهرت الدراسات فهي أقوال بشر وآراء بشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، فهذا التكليف يعني أنه قادر على أن يكون عفيفاً، قادر على أن يمتنع عن الفواحش، وأن يمتنع عن أكل المال بالباطل، وعن إيذاء الناس وإزعاجهم، وعلى أن يحافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى. أمرٌ آخر: تقول معظم الدراسات المعاصرة في علم النفس: إن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهاً نحو التدين والعبادة، وهذا مما يكشف لنا السر والحكمة في كون التكليف الشرعي يبدأ من هذه المرحلة. ولهذا يبدأ المراهق طرح الأسئلة على نفسه: من أين أنا؟ وكيف جئت؟ فيبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ولعلنا نلحظ أن الكثير ممن نراهم من الشباب في هذه المرحلة حين ينشأ في بيئة صالحة متدينة يقبل على الطاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى إقبالاً جماً، وذلك كما أنه يعيش مرحلة من الشهوات والنوازع، فهو أيضاً يعيش إقبالاً على العبادة والتدين وطاعة الله سبحانه وتعالى، وحتى لو لم يدرك البشر ذلك، ما دام الله سبحانه وتعالى قد شرع التكليف في هذه المرحلة فهو مؤهل، واختيار هذه المرحلة وهذا السن لم يكن ليأتي عبثاً.

نماذج من التاريخ في الدور الإيجابي للمراهقين

نماذج من التاريخ في الدور الإيجابي للمراهقين حقيقة أخرى أيضاً: نماذج التاريخ، حين نقرأ في التاريخ، نرى نماذج ممن عاشوا في هذا السن، وهذه المرحلة تثبت لنا أن هناك وجهاً آخر لعالم المراهقة غير الوجه الذي يبديه علم النفس المعاصر، فتقرءون في القرآن الكريم قصة أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14]. ويحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قرية كاملة قد آمنوا ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد، وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء، وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى، فيؤمن الناس حين رأوه، وتبقى قصة محفوظة منقوشة في ذاكرة التاريخ، يتغنى بها الصغير والكبير، ويرددها الجميع. وهكذا لنرى أن أثر ذاك الشاب -المراهق في المصطلح المعاصر- لم يكن قاصراً على أهل قريته، بل امتد على مدى الزمان ما دامت هذه القصة تتلى ويتحدث عنها الناس. إنا حين نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونقرأ حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نرى نماذج عدة، ونرى عجباً من أولئك الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة؟ ولنستعرض أسماء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان لهم القدح المعلى، والذي نسمع دائماً ونقرأ في كتب السنة، عن فلان بن فلان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نتغنى بأمجادهم وبطولاتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم. من هؤلاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاماً، وكان أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يحضر هذه الغزوة، واستشهد فيها والده، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما قال الله لأبيك؟ لقد كلمه الله كفاحاً)، وهو ممن نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، ثم لم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم أيضاً عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه بايع بيعة الرضوان، وعمره سبع عشرة سنة، وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الموت، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة). وأيضاً من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو جحيفة وهب بن عبدالله السوائي رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان مراهقا. ومنهم أيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، فكانت عمره عندما بايع تحت الشجرة ستة عشر عاماً، فشهد بيعة الرضوان وهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وهم أيضاً الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد من بايع تحت الشجرة). ومنهم أيضاً سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ومواقفه مشهودة مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب غزوة ذي قرد، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير رجالتنا سلمة وخير فرساننا أبو قتادة). وهو الذي كان في غزوة حنين، فجاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجلس معهم ساعة ثم ولى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بلحاقه فلحقه على قدميه حتى أدركه وقتله، وكان عمره رضي الله عنه عند الهجرة ست عشر عاماً. وعبد الله بن عباس رضي الله عنه ولد في الشعب قبل عام الهجرة بثلاث سنين، قال في حديثه المشهور في الصحيحين: (أقبلت على أتان وقد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى). ومنهم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه كان عمره عند الهجرة عش

هل كان المسلمون يعانون أزمات المراهقة من قبل

هل كان المسلمون يعانون أزمات المراهقة من قبل قضية أخرى أيضاً: تدعونا إلى إعادة النظر فيما يقال حول عالم المراهقة، هل كان المسلمون على مدى التاريخ يعانون من أزمات المراهقة كما نعاني الآن في هذا العصر؟ هذا السؤال لو طرحته على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، حين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم، فإننا لا نلمس أثراً لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم مثلاً يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجدون الحديث المستفيض عن مشكلات الشباب، وعن أزماتهم، وعن عالم المراهقة الذين نعيشه الآن، هل تجدونه في تراث العلماء الأوائل؟ وهل تجدونه في كتاباتهم؟ إنك لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً في كتاباتهم وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا. إذاً: ما دامت غير موجودة فهذا يعني أن القضية ليست صفة ملازمة للإنسان، بل هناك عوامل أخرى وأمور أخرى تؤثر حتى ولدت هذه المشكلة التي تعاني. نحن الآن نعاني من أزمات مزعجة في عالم المراهقة، حتى في مجتمعات المسلمين، وتجد الحديث المستفيض عن الشباب، وعن عالم الشباب، وانحراف الشباب والخطورة والمشكلات التي تواجه الشباب، هذا الحديث لا تجده كثيراً ولا تجد الإفاضة عنه في الحديث عند السلف، بل أنك حين تقرأ لسلف الأمة تجد هؤلاء ما أن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع فيه شوطاً، ثم أصبح يثني ركبتيه في مجالس العلم مستمعاً ومقيداً لما يسمع. هكذا كان عالم الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن القضية ليست صفة ملازمة لعالم المراهقة أنه عالم الأزمات كما يقول علماء النفس المعاصرون، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الأزمة وهذه المشكلة. أيضاً قضية أخرى: ثمة نماذج من العصر الحاضر، فمع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين، ومشكلات المراهقين إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرية الظالمة المتجددة. من هم عمار المساجد؟ من هم حفاظ القرآن الكريم؟ لو أجريت الآن دراسة لمجتمعات المسلمين، وبحثت عن حفاظ القرآن الكريم ففي أي سن سوف تجد هذا العدد أكثر من غيره؟ قطعاً ستجد أن الكثير من حفاظ القرآن الكريم من هؤلاء المراهقين، ورواد مجالس العلم ودروس العلماء هم المراهقون، بل هم السبب أصلاً في قيامها؛ لأن هؤلاء لو لم يأتوا ولم يعمروا هذه المجالس لما استطاع الشيخ أن يلقي درسه آنذاك. لو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن عامة الحاضرين وأكثرهم من هذه السن. وفي عالم الجهاد لا ننسى جميعاً قضية أفغانستان، وكم هم الشباب من المراهقين الذين دفنوا هناك في بلاد العجم، في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة، إلى حيث قضاء الشهوات المحرمة، وحينذاك كان جمع من شبان المسلمين يعيشون عالم المراهقة أطهاراً أبرياء، ذهبوا وهم يتمنون ألا يعودوا، ولسان حال أحدهم يقول: أذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ولا نخل أسافلها رواء لسان حالهم لسان عبد الله بن رواحه رضي الله عنه وقد قال حين ودعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مؤتة قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا. قال: لا ردنا الله إليكم. ثم قال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة وضربة تنفث الأحشاء والكبدا هكذا كان شعارهم، وهكذا كان سؤالهم، كان أحدهم إذا سجد يبكي في سجوده وهو يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة، وأن لا يعيده إلى أهله وإلى بلاده. ورأينا نماذج فذة من أولئك الذين شاركوا وضربوا أصدق الأمثلة، وكنا وكان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن الاستبسال والشجاعة والشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبداً في ذاكرة التاريخ، فإذا بهم يرونها حية أمام ناظريهم، يرونها حية يفتحها ويعيدها أولئك الذين لا زالوا يعيشون عالم المراهقة. إذاً: هذا النموذج الذي نراه في هذا العصر مع أزماته ومشكلاته يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ظلم وجور أولئك الذين يصفون عالم المراهقة بأنه عالم الانحراف، وعالم الأزمة وعالم الفساد.

شواهد علم النفس

شواهد علم النفس وحقيقة أخرى نختم بها الحديث حول هذه الحقائق: شواهد علم النفس نفسه، فالكثير من علماء النفس وعلماء التربية يشككون في صحة هذه المقولة، وفي صحة هذه الدعوى، سواءً كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرهم. وقد سبق أن أشرت إلى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن الشاب يعيش في مرحلة المراهقة توجهاً نحو التدين والعبادة والبحث عن الدين. من علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية مارجريت ميت فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادية، وما دام هذا النمو يسير في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذا المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد مباشرة بعد احتفال تقليدي. ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي: وجدير بالذكر أن النمو الجسمي في مرحلة المراهقة لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات ولكن النظم الحديثة هي المسئولة عن أزمة المراهقة. والدكتور ماجد الكيلاني يقول: وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين تبريراً للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان، إنها مشكلة يمكن تجنبها كلياً في حياة الفرد، وأن لا يمر الإنسان بها أبداً، وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرضاً من أمراضهم الاجتماعية. ونحن لسنا بحاجة إلى الإفاضة في ذكر الشواهد من كلام هؤلاء، لكن أيضاً مع الحقائق الشرعية الثابتة ومع الحقائق التاريخية ومع ما نراه من واقعنا المعاصر؛ مع ذلك كله هاهم علماء النفس المعاصر ينطقون بهذه الحقيقة ويشهدون بها.

المسئول عن أزمة المراهقة

المسئول عن أزمة المراهقة إذاً: نخلص من هذه الحقائق السابقة إلى أن المقولة حول أزمة المرهقة وأن مرحلة المراهقة مرحلة متحكمة فيها الأزمات، والمشكلات، والصبوة والانحراف، مقولة خاطئة ولدها علم النفس المعاصر الذي نشأ نشأة غربية، فالباحثون هم أولئك الغربيون، والمجتمعات التي تجرى عليها الدراسات هي تلك المجتمعات الغربية، وهذا يعني أن يعيد الآباء النظر من جديد في تعاملهم مع أبنائهم، وأن يروا أن كون الابن شاباً لا يزال في ريعان الشباب ومرحلة المراهقة لا يعطيه مسوغاً بحال للانحراف والصبوة وأن يعب من الشهوات. وينبغي أن يعيد الأساتذة ورجال التربية النظر أيضاً من جديد في نظرتهم للجيل الذي يعلمونه ويدرسونه، ينبغي أن نعيد النظر في تطلعاتنا وما نرجوه من الشباب في هذه المرحلة، وأن نعيد النظر أيضاً لأنفسنا إذا كنا نحن نعيش هذه السن وهذه المرحلة. هذا كله لا يعني أبداً أن مرحلة المراهقة ليس فيها مشكلات، وليس فيها أزمات، وحينما ننفي ذلك نفياً قاطعاً فنحن قد نناقض الواقع الذي نعيشه، لكن فرق بين أن يكون هناك أزمات ومشكلات يعيشها المراهق، وبين أن تكون مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والمشكلة والانحراف والصبوة، فرق بين أن نلتمس له العذر من جراء هذا الانحراف وهذا الفساد لأنه مراهق، ولأنه لا يزال شاباً، ولأنه سيدرك بإذن الله أن يستقيم حين يكبر ويتقدم به السن؛ فرق بين هذا وذاك. ثم إن الواقع الذي نعيشه والمشكلات التي نعيشها هي نتاج للعصر الحاضر الذي نعيشه بكل ما فيه من فساد وسوء، فالعصر الحاضر هو المسئول عما يسمى بأزمة المراهقة، ولهذا رأينا عالم المراهقة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعند سلف الأمة عالماً آخر يختلف تماماً عن هذا العالم الذي نعيشه. إن المراهقين الذين أصبحنا نراهم الآن يلاحقون آخر الصرعات المعاصرة الهيبز والانحراف والأمراض الجنسية ونزلاء الدور الإصلاحية ودور الملاحظة، ونراهم يتزعمون عصابات الإجرام والفساد ولا يطيق ضبطهم آباؤهم ولا أمهاتهم ولا أساتذتهم ولا مجتمعاتهم ولا حتى أجهزة الأمن في هذه المجتمعات التي يعيشونها. إن الشباب الذين يعيشون في هذه السن قد عاش قبلهم أولئك في السن نفسها أولئك الذين كانوا يتسابقون على ميادين الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، ويتسابقون على حلق العلم وحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فلو كانت القضية قضية السن لرأينا هذا النموذج عند أولئك السابقين.

مؤثرات الحياة المعاصرة في مرحلة المراهقة

مؤثرات الحياة المعاصرة في مرحلة المراهقة إذاً: الحياة المعاصرة والمجتمع المعاصر هو المسئول عن أزمة المراهقة، من خلال أمور عدة:

سيطرة التحليل الغربي على علم النفس

سيطرة التحليل الغربي على علم النفس أولها: ما أشرنا إليه قبل قليل بسيطرة التحليل الغربي، فعلم النفس كغيره من العلوم الإنسانية تلقفه المسلمون تلقفاً غربياً، فصار دور المسلمين دور النقد والترجمة كما ذكرنا، ولهذا سيطرت هذه النظرة على علماء النفس والتربويين والآباء، ولهذا صار أهل التربية والمسئولون عن التربية والتوجيه يتعاملون مع الشاب في هذه المرحلة على أنه معذور، وأن هذا هو ما ينتظر منه وما يتوقع أن يصل إليه.

نظام التعليم المعاصر

نظام التعليم المعاصر المؤثر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات المعاصرة يساهم في طول مرحلة المراهقة، وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، فيعيش بعيداً عن الزواج، ونسبة ضئيلة جداً ممن يتزوج قبل أن ينتهي من الدراسة الجامعية، بل الكثير يحتاج إلى سنوات بعد إنهاء الدراسة الجامعية حتى تتيسر له أمور الزواج، ثم هو خلال هذه المرحلة وهذا السن يعتمد على أهله اعتماداً كلياً، ويعتمد على أبويه اعتماداً تاماً، بل حتى نظام التعليم يعيش فيه على التسول العلمي والفكري، ويعتمد على تلك المعلومات الجاهزة التي يقدمها له أستاذه والتي يقرؤها في الصفوف، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، غاية ما يقوم به هو أن يسمع ما يقول له الأستاذ سماعاً جيداً وأن يحفظ ما في الكتاب ثم يعبر عنه بعد ذلك برمته، وهذا يولد شخصية غير مستقلة تعتمد على غيرها وتعتمد على الآخرين، ولهذا أثبتت بعض الدراسات التي أجريت في بعض المجتمعات الأخرى أن عالم المراهقة عالم آخر كما في دراسة أجراها أحمد أبو زيد على قبائل الطوارق الليبية، وذلك أن قبائل الطوارق الليبية عندهم نظام خاص حينما يبلغ الشاب أو تبلغ الفتاة سن التكليف وسن البلوغ، يقومون باحتفال ويلبس ملابس خاصة ويعامل معاملة الرجال، فلاحظ أن أزمة المراهقة تختفي بذاك المجتمع، نظراً لأنه يعامل وينظر المجتمع إليه على أنه بلغ مبلغ الرجال، وأصبح يعتمد على نفسه. أما في مجتمعات المسلمين المعاصرة فمع نظام التعليم المعاصر ومع نظام الحياة المعاصرة صار الشاب كَلاًّ على المجتمع كلاًّ على والده لا يعتمد على نفسه ولا يتحمل مسئولية، أيضاً لا تتيسر له سبل الزواج وبناء الأسرة، لهذا تطول هذه الأزمة.

الإثارة والمغريات والترف

الإثارة والمغريات والترف المؤثر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وهي قضية لسنا بحاجة للحديث عنها، فقد صارت الأجهزة المعاصرة تصور غرف النوم تصويراً فاضحاً، تصور العملية الجنسية بكل وقاحة أمام المراهقين والمراهقات، وصارت الصور الفاتنة تعرض أمام شباب وفتيات المسلمين بكل ما فيها من إغراء وإثارة ويتفنن تجار الغرائز والمتاجرون بالفضيلة في الإثارة والإغراء حتى أصحاب السلع المادية وجدوا أن أفضل ترويج لها في استخدام صور المرأة وأساليب الإثارة الجسمية. فالشاب والفتاة تعيش في المجتمع المعاصر في جو مشحون بالإثارة الجنسية والمغريات التي تدعوه إلى عالم الشهوات وصار يفتح عينيه في هذه المجتمعات وهو لا يرى إلا الشهوات، وما يدعوه إلى الشهوات والتمتع بها، ومن ثم كان من نتيجة ذلك ما نراه الآن من أزمات ومن معاناة المراهقين. أما لو عاش الناس عيشة سوية بعيداً عن مظاهر الإثارة والإغراء لكان الأمر يختلف.

غياب التوجيه والمثل الأعلى

غياب التوجيه والمثل الأعلى العامل الرابع غياب التوجيه والقدوة والمثل الأعلى: من هم الذين يبرزون الآن أمام شباب المسلمين، وأمام فتيات المسلمين في مجتمعات المسلمين المعاصرة؟ هم أهل الفن، أهل الغناء والتمثيل والرقص، أهل الرياضة والمجون، هذه هي النجوم اللامعة، والأسماء المشتهرة بين شباب وفتيات المسلمين، فهل يرى هؤلاء القدوات الصالحة التي تضرب لهم المثل الأعلى؟ وهل يسمعون بكل وضوح وكل طمأنينة الكلمة الواعية العميقة الناصحة التي تحدثهم عن مشكلاتهم وعن معاناتهم، والتي تحدثهم عن الدين حديثاً يربطهم بعالمهم وواقعهم المعاصر؟ فحين تثار أمامهم الغرائز والشهوات، وحين يعولون الاعتماد على غيرهم، وحين تفتح أمامهم القدوات السيئة والساقطة حينها يعيشون فعلاً أزمة المراهقة. المقصود -أيها الإخوة- من هذا الحديث كله هو أن هذه النظرة السائدة عن المراهق بحاجة إلى مراجعة، فهذه النظرة -كما قلنا- ولدت شعوراً خاطئا عند الشباب والمراهقين أن مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والانحراف والشهوات التي ولدت النظرة عند الأب أن ابنه أو ابنته ما دام في مرحلة المراهقة فهو معذور ولا يرجى منه إلا ذاك، هذه النظرة التي ولدت عند المجتمع بأسره التماس العذر لهؤلاء نظرة خاطئة، لا تتفق مع النظرة الشرعية التي ترى أنه فرد مكلف وأنه إنسان مطالب بسائر التكاليف الشرعية. وهذا كما قلنا لا ينفي أنها مرحلة ذات صعوبة أو أنها مرحلة فيها أزمات ومشكلات؛ لكن هذه المشكلات ليست كلها عائدة إلى طبيعة الشاب أو طبيعة الفتاة أو طبيعة السن، بل هناك عوامل عدة تساهم في التأثير عليها. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب، ونترك بقية الوقت للإجابة على الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

كتب ينصح بقراءتها عن المراهقة

كتب ينصح بقراءتها عن المراهقة Q كتب تنصح بقراءتها عن المراهقة. الشيخ: طبعاً الذي يحتاج للقراءة عن المراهقة هو من يتعامل مع المراهق، وليس هو المراهق نفسه، فهناك كتب كثيرة ومن أفضلها كتاب (مراهقون) للدكتور عبد العزيز الرمش عميد كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة والأستاذ عبد العزيز يقول: إنه زاركم أمس في المخيم. كتاب كتب بلغة مبسطة ومناسبة فهو يناسب الأب والأستاذ الذي قد لا يكون بالضرورة متخصصاً، وكذلك سيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر. وأيضاً (تربية مراهق)، و (تربية الشاب في المدرسة والبيت) لـ خالد الشحتوت. فهذه بعض الكتب التي كتبت حول هذه المرحلة، وفي النية أن نقوم إن شاء الله بدراسة حال واقع الشاب ونذكر بعض النماذج من الصحابة ونماذج واقعية فعلاً لشباب المسلمين وقدوات حية لهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين على ذلك.

مشكلة النظر إلى المردان

مشكلة النظر إلى المردان Q يعاني بعض الشباب من مشكلة النظر إلى المردان؟ الشيخ: لا شك أن النظر إلى الحرام والشهوة المحرمة من أكبر المشكلات التي يواجهها الشاب في هذه السن، وذلك أنه حين يبلغ سن التكليف وتقوى عنده حدة هذه الغريزة يعيش في بداية هذه المرحلة وشهوته في حدتها وفورانها، ثم يواجه ما يواجه من مثيرات ومغريات في مجتمعات المسلمين والتي أصبحت للأسف تلاحق الشاب في كل مكان وكل مجتمع. وأيضاً ضعف قدرته على ضبط النفس وقلة خبرته في هذه الأمور قد تولد عنده هذه المشكلة. لكن علينا أن نجتهد في غض البصر، والبعد عن هذه المنكرات والمغريات قدر الإمكان، وأن نجاهد أنفسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]. ومن لطائف هذه الآية أن الله ختمها بقوله: (خبير بما يصنعون)، وذلك أن الإنسان قد ينظر نظرة حرام ومن حوله لا يدرك سر هذه النظرة، لكن الله سبحانه وتعالى خبير، وفرق بين التعبير بخبير وعليم، فهو هنا إدراك دقيق، فخائنة الأعين لا يدركها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إياكم والجلوس في الطرقات قالوا: يا رسول الله ما لنا منها بد وهي مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر ورد السلام) إلى آخر الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجلوس في الطريق ابتداء حتى لا يتعرضوا للنظر الحرام مع أن ذلك المجتمع كان مجتمعاً عفيفاً نزيهاً بعيداً عن السفور والفساد. فعليك أن تبتعد أصلاً عما يثير النظر الحرام، عليك أن تبتعد عن الأسواق وعن المواطن التي تدعوك إلى هذه الأمور، ثم تغض بصرك وتبعد نفسك عن التفكير بمثل هذه الأمور والانسياق وراءها.

خوف الأب من انحراف الابن

خوف الأب من انحراف الابن Q أنا شاب أجد كثيراً من المشاكل التي بدورها تدفعني إلى الانحراف، ومن أول ذلك الفراغ وتشدد أهلي في مصاحبة أي شخص خوفاً أن أنحرف وأخرج عن الجادة والطريق القويم. A الكثير من الآباء يعمد إلى منع ابنه من المشاركة مع الناس والذهاب والإياب معهم، وهذا لا شك نتيجة لما يراه من فساد وسوء في المجتمع، وصار لا يثق بأي شخص، ولا شك أن حرص الأب على منع ابنه عن أن يصحب أي شخص لا يثق فيه ولا يعرفه ناشئ عن دافع خير وحرص على استقامة الابن وصلاحه، لكن يجتهد الشاب في إقناع والده في أن يتعرف والده على أولئك الذين يريد أن يصاحبهم، وبعدها إن شاء الله يمكن أن يقتنع والده بصحبته لهؤلاء وأن هؤلاء لم يجد منهم إلا الخير والفائدة.

سبب الكلام في موضوع المراهقة

سبب الكلام في موضوع المراهقة Q ما هو السبب الذي استحثك على طرح هذا الموضوع مع أني أتوقع أن هذه جرأة منك لمخالفة الواقع والتصور الآن إلى آخره. A الواقع والتصور الآن إذا كان غير صحيح كان مرفوضاً غير شرعي ينبغي أن نناقش فيه. وأيضاً: فمن حق الإنسان في المجتمع أن يناقش الأفكار والقضايا المطروحة في المجتمع وخاصة إذا كانت قضايا شرعية وقضايا يسندها العلم الشرعي، ومن حق أي إنسان أن يعبر عما يرى، فما كان حقاً قبل وما كان باطلاً يرفض، وإذا كان فيه حق وباطل يقبل الحق ويرفض الباطل. ونحن ما تحدثنا مثلاً عن دراسات نفسية ولا قضايا نفسية، نحن نتحدث عن قضايا شرعية، وعلم الإنسان ليس حكراً على أولئك الغربيين أهل المجون والفساد والسوء؛ لأنه لا يحق لأحد أن يتكلم إلا من خلال ما يراه فرويد أو دوركايم أو دارون أو غيرهم، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بخلقه عز وجل.

علاج مشكلة الإعجاب والتعلق بين المراهقين

علاج مشكلة الإعجاب والتعلق بين المراهقين Q يعاني بعض الشباب من مشكلة التعلق والإعجاب بصور بعض رفقائهم مما يكون عائقاً أمام التزامهم وزيادة إيمانهم، فما نصيحتك لهؤلاء حفظك الله ووفقك لكل خير. A النفس إذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فإذا لم تشغلوا أنفسكم بطاعة الله سبحانه وتعالى، والحرص على العبادة، وتلاوة القرآن، والانشغال بحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي فإنكم لا بد أن تنشغلوا بهذه الأمور، وما رأيت أكثر شغلاً للشاب وملئاً لوقته وفراغه من تعلقه بالعلم الشرعي والقراءة، لأن مشكلة الشاب تأني غالباً من الفراغ، وإذا بقي في البيت بدأ يفكر أو جلس ينظر للتلفاز؛ لكن حينما يكون عنده عناية بالعلم الشرعي وولع بالقراءة والاطلاع فإنه يتمنى الفراغ، وإذا تيسرت له ساعة فراغ رأيته في مكتبته يقلب الكتب ويقرأ ويتصفح ويبحث فتمضي عليه الساعات الطوال وهو بين كتبه، ويعيش في عالم آخر. ولهذا كان السلف مشغولين بالعلم والتعلم وكانوا بعيدين عن هذه المشكلات، لكن عندما يعيش الشاب في فراغ من هذه الأمور فلا شك أنه يفكر ويبدأ الشيطان يدعوه ويستدرجه. أما الذي ينشغل بالعلم فهو يعيش في عالم آخر بعيداً عن كل هذه المشكلات، ويحرص على الاستزادة من الطاعة والعبادة وخاصة وقت السر، فإن هذا مما يزيده قرباً من الله سبحانه وتعالى، ويستعين بالله عز وجل في كل وقت، نسأل الله أن يعينه وأن يوفقه وأن يجنبه أسباب هذه الفتن وهذه الشهوات.

التوبة في حق من أسرف في المعاصي

التوبة في حق من أسرف في المعاصي Q هذا سؤال طويل يقول: إني أسرفت على نفسي بالمعاصي والكبائر وفعلت وفعلت مما لا أستطيع ذكره في مثل هذا المجلس، ولكن أنعم الله علي بالتوبة النصوح ثم يسأل عما وراء ذلك. A بالنسبة للمعاصي التي بينك وبين الله سبحانه وتعالى لا يلزمك إلا أن تتوب وتستغفر الله عز وجل وتقبل عليه، ولا يلزمك شيء بعد ذلك. أما ما يتعلق بالمخلوقين مثل أخذ مال أو هتك عرض، فإذا كنت قد أخذت مال أحد ظلماً أو غشاً أو سرقة فإن عرفته واستطعت أن تعيده إليه بأي وسيلة ولو بغير وسيلة مباشرة فحسن، وإلا فتصدق به عنه على أنك متى رأيته فإنك ستعطيه إياه، وحين تكون صادقاً مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقضي عنك، وييسر لك أن يعفو عنك هذا عن حقه يوم القيامة. ولا تقنط فالله عز وجل يقول: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71]. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54]. والآيات والنصوص في هذا كثيرة فينبغي لك أن لا تيئس مهما بلغت الذنوب: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).

علاج الشك والسؤال عن بدء الخلق

علاج الشك والسؤال عن بدء الخلق Q يقول: إنه يسأل نفسه: من أين أتى؟ وكيف؟ فما علاج ذلك جزاكم الله خيراً؟ A عند المراهق أفضل توجه نحو التدين، طبعاً في تلك المجتمعات التي لا يعرف فيها إله يبدأ يفكر كيف خلق ولماذا ومن أين؟ لكن في مثل مجتمعات المسلمين وفي مثل مجتمعاتكم يعيش الإنسان فيها بين أبوين مسلمين فلا يجد أصلاً مشكلة في هذا لأنه تعلم منذ الصغر أن الله هو الذين خلقه، وأن هناك جنة وناراً؛ لكنه قد تبدأ عنده مشكلة أخرى وهي التي يبدو دفعت الأخ للسؤال فيبدأ يتساءل ويشكك مع هذه السن والمرحلة؛ لأنه يبدأ المراهق مع النمو العقلي يناقش وما يسلم بكل ما يتلقاه، ويحتاج إلى أن يقتنع بكل شيء، فيبدأ يفكر في مثل هذه الأمور. وهذا أمر ذكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يخر به من السماء أحب له من أن يتكلم به! فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان). ليس صريح الإيمان هو الوسوسة إنما كونهم يخشون من ذلك، ويتمنى أحدهم أن يخر من السماء ولا يتكلم بذلك، فعليه أن يقول: آمنت بالله، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويبتعد عن مثل هذه الأفكار ويكثر من تلاوة القرآن، والتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه سرعان ما يزول عنه ذلك، وما دام لا يتحدث به وهو مجرد توارد أفكار فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).

حكم العادة السرية

حكم العادة السرية Q هناك أسئلة كثيرة حول عادة أقلقت كثيراً من المراهقين وهي العادة السرية، فما مضارها وما حكمها؟ A لا شك في تحريمها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31]. وسؤال الشخص دليل على أنه يشعر أن فيها مشكلة، فهو يقول: ما الحكم وما الدليل، ولو أنه يشعر أنه ليس فيها مشكلة لما سأل أصلاً حول هذه القضية. ثم إن لها أضراراً نفسية وأمراضاً على جسم الإنسان، وهي كما قلنا مما يعانيه المراهقون من جراء ما يرونه أمامهم من الشهوات والفتن، وهو لا يجد المصرف الشرعي، لذلك فأولاً يجب أن نقتنع أن شأنها شأن سائر المعاصي، ومادمت مكلفاً فأنت قادر أن تتركه، لأنك الله عز وجل أمرك ونهاك، ولم يأمرك إلا بما تستطيع فعله، ولم ينهك إلا عما تستطيع تركه، فما دام قد نهاك عن هذا الأمر فأنت تستطيع أن تتركه، وما دام قد أمرك بهذا الأمر فأنت تستطيع أن تفعل. فرق بين كون الشيء صعباً وشاقاً وبين كونه مستحيلاً، لأنه قد يكون الأمر فيه صعوبة في فعله أو صعوبة في تركه، ولكن لا يمكن أن يوجد أمر شرعي بشيء مستحيل، أو نهي عن شيء يستحيل تركه، لكن الإنسان عليه أن يجاهد نفسه بسد الطرق والأبواب ابتداء من نفسه، بحيث يبتعد عن التفكير والنظر للحرام والخلوة والمغريات التي تدعو إلى ذلك، ثم يقوي إيمانه بالصيام، وتقوى الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى. ثم لو وقع في شيء من ذلك فعليه أن يتوب ويقبل على الله عز وجل ويعمل عملاً صالح ولا ييئس، ولا يتصور أن هذا دليل على الانحراف والضلال والفساد، فهذه معصية شأنها شأن سائر المعاصي إذا وقع فيها المسلم عليه أن يبادر ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويستغفر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إذا تاب عبده فإنه يقبل توبته: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي). وأنا أنصح الأخ السائل أن يقرأ كتاب العادة السيئة للشيخ محمد المنجد، فهو كتاب طيب حول هذه القضية. وأيضاً كتاب آخر حول هذا الموضوع وحول النظر الحرام وهو كتاب سهم مسموم للأخ أحمد حفظه الله ووفقه وإيانا جميعاً.

تنمية التوجه للعبادة والتقوى

تنمية التوجه للعبادة والتقوى Q يقول: أريد إيضاح بعض السبل لتنمية التوجه للعبادة والتقوى في نفس الشاب المراهق مما يبعده عن الانحراف والشبهة. A من أهم الوسائل والطرق في ذلك الصحبة الصالحة التي تعين الإنسان؛ لأن الإنسان لوحده قد يتشجع ويقوم ببعض العبادات ويجتهد فيها لكن سرعان ما يدعوه داعي الشهوة، ويمل ويفتر، لكن حين يكون مع صحبة صالحة فإنه سيرى منهم مثلاً من هو أكثر منه طاعة وعبادة ومنهم من يفوقه في الميدان، ومنهم من يفوقه في الميدان الآخر، فيصبح الميدان ميدان تنافس على البر والتقوى، وميدان تسابق على العمل الصالح، ويرى أمامه قدوة صالحة حية تعينه بإذن الله عز وجل.

حكم من يمارس العادة السرية في نهار رمضان

حكم من يمارس العادة السرية في نهار رمضان Q أنا شاب أسترسل في المعاصي حتى أني قد فعلت العادة السرية في رمضان ثلاثة أيام، ولما أتى رمضان الثاني فعلتها سبعة أيام، فهل علي قضاء؟ الشيخ: نعم عليه قضاء؛ لأنه أفطر متعمداً. ثم إن العادة السرية معصية في حد ذاتها، وفعلها في رمضان في وقت يصوم فيه الإنسان معصية أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء). فالصوم علاج الشهوة، فإذا كان الإنسان يفعلها في رمضان فهذا دليل على مشكلة ينبغي أن يراجع فيها نفسه، وحتى الوقت الذي صام فيه لم يكفه ذلك عن هذه المعصية، ثم فعلها أيضاً في نهار رمضان، فهذا يجمع أموراً كثيرة، فعليه أولاً: أن يتوب إلى الله عز وجل، فالإفطار عمداً كبيرة من الكبائر. ففعل العادة السرية ليس بالضرورة أن يكون كبيرة، لكن الفطر في نهار رمضان وبهذه الصورة كبيرة من الكبائر، فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويكثر من الاستغفار، والندم على هذا العمل، بل إن بعض أهل العلم يقول: إنه من أفطر متعمداً في نهار رمضان لا يقضي، وإنه لو قضى لم يصح؛ لأنه لو صام الدهر كله لم يقضه؛ لأن هذا يوم كان يجب عليك أن تصومه فمضى، وكما هو القول أيضاً في من فاتته الصلاة، فمنهم من قال: إن من فاتته صلاة بأن أخرها متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يقضيها؛ لكن على كل حال عليه أن يقضي هذه الأيام، ثم الفقهاء يقولون: إنه إذا أتاه رمضان وعليه أيام من رمضان قبله فإنه يطعم عن كل يوم فاته من رمضان السابق.

حديث (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة)

حديث (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة) Q ماذا تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة) فما هو رأيك في هذا الحديث؟ وما هو تعليقك عليه؟ A الذي أعرف أن الحديث في المسند، وهو حديث ضعيف، لكن حتى لو صح الحديث فلا يعني أن المراهق يعيش أزمة، ونحن ما نفينا أن المراهقة فيها مشكلة، وأن المراهقة فيها صعوبة، لكن كلامي يتحدث عن أننا أردنا أن نبرز الوجه الآخر، لأنه يقال الآن إن المراهقة تعني الفساد والانحراف والصبوة، وأنه معذور على كل الأحوال، وهناك فرق بين أن يكون الشاب أكثر عرضة للانحراف، وأكثر إقبال على الشهوات، وبين أن نقول إن المراهق ليس له ذنب وإن الله عز وجل سيهديه عندما يكبر.

تربية النفس على الجهاد

تربية النفس على الجهاد Q يقول: لقد علمت ما أصاب إخواننا المسلمين من البلاء، فكيف استشعار المسئولية نحوهم؟ ثم كيف يربي الإنسان نفسه على الجهاد والقتال وهو يكره الجهاد والقتال؟ A كره القتال طبيعة جبلية، قال الله عز وجل في القرآن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. هذا شيء طبيعي أن يكره المسلم هذا الأمر، والله عز وجل قال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7]. هذه قالها الله عز وجل في أهل بدر، هذا وضع طبيعي أن يوجد هذا الأمر، لكن فرق بين الإنسان الذي يكرهه وبين أن ينظر للجهاد ولا يريده ولهذا: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة النفاق). فالمسلم يهيئ نفسه بالشجاعة يهيئ نفسه بالصبر والتعود على التخلي عن الملذات، ثم يهيئ نفسه بالإقبال على الله عز وجل، ويشعر ويسعى الشاب أن يخدم الأمة، ويخدم الإسلام والمسلمين بكل وسيلة، وأنت قادر بكل ميدان مثل الفصل الدراسي، ومع زملائك وأقاربك في الحي، وأن يقول كلمة، ينصح أحد يقدم هدية: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق). والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). فلا تحتقر أي شيء ولا أي عمل أو كلمة تقولها، فرب كلمة تقولها لشخص تكون سبباً في هدايته بعد توفيق الله عز وجل فأي عمل تقوم به ينبغي لك أن لا تحتقره. وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الطيب المبارك أن يجمعنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه سميع مجيب. هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

الورع يا رجال الصحوة

الورع يا رجال الصحوة الورع مصطلح يكثر ترداده في كتب التزكية والسلوك، وترد تحته قصص وحكايات عن السلف قد صارت عندنا أشبه بالأساطير وأقرب إلى الخيال، حتى إن البعض من المتدينين فضلاً عن غيرهم يسارع إلى التشكيك في مدى صحتها، ويصمها بالمبالغة إن لم يدخلها في عداد الأكاذيب، وقد أورث ذلك عندنا جفافاً وجفاءً، ولذا تجب مراجعة النفس والتخلي عن رعونتها، والاقتداء بالصالحين من السلف السابقين.

خير الدين الورع

خير الدين الورع الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: (الورع يا رجال الصحوة) عنوان حديثنا لهذه الليلة المتمة للنصف من شهر شوال، عام خمسة عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. الورع مصطلح، من منا لم يسمع عنه، إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم، أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على مسمعه كثيراً. ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حجر محجور. أصبحت قضية من قضايا التاريخ لا نكاد نراها، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق، فإننا تارة نتهم أسانيد تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم ما روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، لكننا نادراً ما نتهم أنفسنا، وأنها لم ترق إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تصح فعلاً حتى ترى بعين حقيقتها ما كان عليه أولئك من الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف السابقين. وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وأنا أريد الحديث حول هذا الموضوع، حتى إني وأنا أعد له وأقرأ عزمت على أن لا أتحدث حول هذا الموضوع، ليس تقليلاً من شأنه وأهميته، لكن ينبغي ألا يتحدث عن الورع إلا أهل الورع، وينبغي ألا يتحدث عن الصدق إلا الصادقون الخائفون المخبتون، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، لكن عزائي أن أقول لكم: اسمعوا مقالي، وإياكم وحالي! فالقضية أقوال وشذرات من سير سلف الأمة، نسعى إلى ربطها بواقعنا، نقولها لإخواننا ونحن جميعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الورعين المتقين الصالحين، وإن لم نرق إلى منازلهم فلنتشبه بهم: فإن من تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه بالكرام فلاح.

معنى الورع

معنى الورع الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ والوصية به فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في وصيته لـ أبي هريرة رضي الله عنه: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). وأيضاً روى البزار والطبراني في الأوسط والحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع). إذاً هذه النصوص الصحيحة أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذاً مصطلح شرعي نبوي، وليس أيضاً بالضرورة كما تعلمون في المصطلح أن يرد بنصه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح. أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمع من أهل العلم إحدى الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه). والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع كما سيأتي يأخذ مدى أبعد من هذا المدى، ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع. ومن الأدلة أيضاً على هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه. وأيضاً جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ فقال: نعم، قال له صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك). والحديث رواه الإمام أحمد والدارمي، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون، فصارت نفوسهم تطمئن للبر، وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاه الناس وأفتوه. ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع عما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وإلى حال قلوبهم، التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى. فتطمئن هذه القلوب للبر، والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، وحين يفتيها الناس ويفتونها ويبدئون ويعيدون، فإنها لا تطمئن. إن هذه إنما هي حال القلوب الصادقة، ولهذا هذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصالحين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا، فإن كانت قلوبنا تطمئن للبر والصلاح والتقوى، وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها، فهي قلوب صالحة بإذن الله. وإن كانت دون ذلك، فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح. وهو ليس خطاباً للمخلطين، ليس خطاباً للمعرضين، ليس خطاباً لأولئك الذين ران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم وقلوبهم مأسورة بهواها وشهواتها، فأصبح لا يرى إلا من خلال هذه الزاوية، كم من الناس من يطمئن قلبه ونفسه لمعصية الله سبحانه وتعالى، وإيذاء عباده المؤمنين والمتقين. بل كم من الناس من انقلبت الموازين لديه، فأصبحت السيئة حسنة، فصار يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بمعصيته وإيذاء عباده، أرأيتم أولئك الذين كانوا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، بإيذاء الصالحين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ويرون هذا ديناً وقربة لله سبحانه وتعالى، في حين كان يسلم من شرهم أهل الأوثان والطغيان والضلال. أترون أولئك أصبحت قلوبهم تملك هذا المقياس، لقد اطمأنت قلوبهم إلى إيذاء عباد الله المتقين، إلى إيذاء خيرة خلق الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، في حين أنهم كانوا يدعون أهل الطغيان والضلال والأوثان. إذاً هذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى، فأصبح القلب لا يحب إلا لله سبحانه وتعالى، ول

الورع عند السلف الصالح

الورع عند السلف الصالح ثم ننتقل بعد ذلك إلى بعض التعريفات للورع عن سلف الأمة، وتعرفون جميعاً أن السلف لم يكونوا يعنون بالتحرير المنطقي للتعاريف فتصبح جامعة مانعة، إنما كانوا يقصدون أن يعبروا عن الكلمة بما يقاربها، وبما يفهم السامع. قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع. وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعني هو ترك الفضلات. وقال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله. وقال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنهما يطلبان في طلب الرياسة. وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا. وقال يحيى بن معاذ: الورع الوقوف على حد العلم، من غير تأويل. وقال: الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن. فورع الظاهر: ألا يتحرك إلا لله. وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سواه. وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء. وقيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات. وقيل: من دق في الدنيا ورعه أو نظره، جل في القيامة خطره. وقال يونس بن عبيد: الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين. وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك تتركه. وقال سهل: الحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى فيه. وسأل الحسن غلاماً فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه! وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع، خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة. وقال أبو هريرة: جلساء الله غداً أهل الورع والزهد. وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ويروى مرفوعاً. وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام. هذه بعض الأقوال عن السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حين تحدث عن منزلة الورع. والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك. ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهم وهو المشهور عند المتأخرين، أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع: ترك ما يخشى ضرره. فالورع كما سيأتي أعم من الزهد.

قواعد وضوابط في الورع

قواعد وضوابط في الورع بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة وهي قواعد وضوابط في الورع، وهي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر، وفي الجزء العشرين.

الورع منه واجب ومنه مستحب

الورع منه واجب ومنه مستحب القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب، لأن الكثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات، أو الورع عما حاك في الصدر فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات، إنما هو مقام للخاصة، ومقام للصالحين، وليس واجباً على آحاد الناس. يقول شيخ الإسلام: فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام. وإن أدخلت فيه المكروهات قلت نخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب. وأما الورع الواجب، فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما -أي بين الورع الواجب والمستحب- فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه.

ما لا ريب في حله ليس فيه ورع

ما لا ريب في حله ليس فيه ورع القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع، بل الورع فيه من التنطع. قال رحمه الله: فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع.

لا ورع عند وجود المعارض الراجح

لا ورع عند وجود المعارض الراجح القاعدة الثالثة: لا ورع عند وجود المعارض الراجح. قال رحمه الله: وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة. مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو. وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه. إذاً: الورع ينبغي أن يكون عند عدم المعارض الراجح، فمثلاً قد يتورع شخص كما مثل شيخ الإسلام عن الصلاة خلف الإمام الفاسق، وهذا يعني أن يصلي وحده، فيترك الجماعة التي هي آكد في وجوبها. وهذا مدخل كما سيأتي في نهاية الحديث يدخل به الشيطان على الكثير فيصدهم عن الإصلاح، وعن الدعوة وعن إنكار المنكرات بحجة الورع من دخول بعض هذه الميادين أو تلك.

الورع في الفعل

الورع في الفعل القاعدة الرابعة: الورع يكون في الفعل كما هو في الترك، وذلك أن البعض من الناس يعتقد أن الورع لا يكون إلا في الترك. يقول شيخ الإسلام: لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات، إحداها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينين المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أهل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه، إما عيناً وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار ومسكين، وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.

الورع يحتاج إلى الدليل

الورع يحتاج إلى الدليل القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة. قال رحمه الله: الجهة الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه. أي أن المشتبه يأتي في الواجب ويأتي في المحرم، يأتي في الواجب باعتبار أنه مشتبه هل هل هو واجب أو سنة، وحينها ينبغي على الإنسان أن لا يتركه، حتى لا يتعرض للذم والعقوبة. والمشتبه في التحريم وهو الإطلاق الغالب والأعم ما يشتبه بتحريمه. يقول: أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]. ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواماً تنزهوا عنها فقال: (ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأزكاهم). وفي رواية: (أخشاهم وأعلمهم بحدوده له). وكذلك حديث صاحب القبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار، وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم. إذاً قد يكره الإنسان أمراً، وقد ينفر عن أمر فيتورع حينئذ عنه ومستنده ليس الكتاب والسنة، وضرب شيخ الإسلام أمثلة على ذلك، بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أن أقواماً تنزهوا في أمر ترخص فيه صلى الله عليه وسلم) ومثل الحديث المشهور عن الثلاثة الذين جاءوا فتورع أحدهم عن أكل اللحم فقال: لا أكل اللحم، وقال الآخر: لا أصوم ولا أفطر، وقال الأخر: أقوم ولا أنام. فتورع هؤلاء ليس من هذا الباب، التورع إنما يكون بأدلة الكتاب والسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له). يعني أنه لن يأتي أحدٌ أتقى لله وأخشى من النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا فمن تورع فيما لم يتورع فيه صلى الله عليه وسلم فكأن لسان حاله يقول: إنه أتقى لله عز وجل وأخشى له من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

لا ورع إلا بإخلاص

لا ورع إلا بإخلاص القاعدة السادسة: لا ورع إلا بالإخلاص، فلا بد من الإخلاص، لأنه قد تأتي الإنسان شوائب واعتبارات، فقد يكون له مقام واعتبار، ويرى أنه مما لا يليق بأمثاله أن يفعله أمام الناس، فيكون دافعه لذلك مراءاة الناس. وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس أو غيرها من الأمور، فالورع مثله مثل سائر الأعمال الصالحة التي يتقرب بها الإنسان عند الله عز وجل لا بد فيها من الإخلاص، قال: واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمول به من الإخلاص.

التدقيق في الورع للخاصة

التدقيق في الورع للخاصة القاعدة السابعة: ذكرها الحافظ ابن رجب وهي أن التدقيق في مسائل الورع إنما هو للخاصة، وليس لآحاد الناس، قال: وهاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع. فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه. وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك. كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هما ريحانتاي في الدنيا). ونقل بعض النقول عن بعض السلف، هي أمثله على هذا النوع، من ذلك والكلام لا يزال لـ ابن رجب: وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل. وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة، يعني التي تربط بها حزمة البقل -والمعنى أنه عندما يشتري البقل وهو مربوط بخوصة يشترط على البائع من تدقيقه في الورع أن الخوصة له لأنه في الأصل اشترى البقل ولم يشتر الخوصة- قال أحمد: أيش هذه المسائل، قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، قال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم، هذا يشبه ذاك. يعني أن إبراهيم مشهور بالورع والتقوى والصلاح فيحتمل منه هذا الأمر. أما الذين لا يتورعون عن الحرام فينكر عليه الإمام أحمد، والإمام أحمد من هو في الورع والتقوى والصلاح، فيأتينا نقل الآن عنه أنه يتورع عن أشياء ثم ينكر على غيره التورع عنها. قال: وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمناً فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع. وكان أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد منها. واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا. ولاحظ الآن الفرق فإنه أنكر على الذي يشترط الخوصة، بينما كان هو يعيد الورقة التي يشتري عليها السمن، وهو ينكر على الذي استأذن في استعمال المحبرة إنكاراً غليظاً ويخبره أن هذا ورع مظلم، في حين استأذنه آخر فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا. يقول ابن رجب: وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف. وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نورد بعض الروايات مثلاً عن السلف في ورعهم، حتى لا نقع في هذا اللغط، والذي له أحياناً آثار سلبية على نفوسنا، فإننا أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا. أولاً: تشعر أنفسنا بالزهو وهي لم ترق إلى هذا القدر أصلاً، وتشعر باحتقار الآخرين. وأيضاً: تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب، ومن الورع الواجب.

نماذج من ورع السلف

نماذج من ورع السلف ونسوق الآن نماذج من الورع، ولا شك أن أولى النماذج ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث المشهور في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: (وجد تمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها). معناه أنها تمرة في الطريق فهناك احتمال بعيد أن تكون من تمر الصدقة. وتضور صلى الله عليه وسلم ليلة فقيل له في ذلك فقال: (إني وجدت تمرة مسقوطة فأكلتها فأخشى أن تكون من تمر الصدقة). وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مشهورة ترويها عائشة رضي الله عنها حين كان له غلام يأتيه بالخراج، فكان يسأله عن الطعام الذي يأتي به فلم يسأله ذات يوم فقال: ما بالك لم تسألني؟ فسأله فأخبره أنه كان تكهن في الجاهلية ولم يحسن الكهانة فجاء وتقاضى هذا فتقيأ أبو بكر رضي الله عنه ما في بطنه، مع أن هذا الأمر لا يلزمه، والطعام ليس حراماً لأنه أكله وهو لم يعلم بتحريمه وهو معذور كل العذر في ذلك، لكن هذا من ورعه رضي الله عنه. ومر عبادة بن الصامت رضي الله عنه بقرية دمر فأمر غلاماً أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر بردى، فمضى ليفعل ثم قال له: ارجع، فإنه إلا يكن بثمن فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن. ونسوق بعض النقول عن السلف في الورع مع ملاحظة ومراعاة أن النقول عن آحاد السلف ليست حجة، فقد يتحفظ على بعض ما ينقل، لكن هذا الورع في الجملة مطلوب، وهذه النقول في الجملة تعطينا صورة عن حال السلف، لكن لا يعني أن كل ما يفعله آحاد السلف فهو حجة وأمر مطلوب من الناس، مع مراعاة القاعدة التي أشرنا إليها قبل قليل. كهمس سقط منه دينار ففتش عنه فلقيه ثم لم يأخذه قال: لعله غيره، لعله غير الدينار الذي سقط مني. ويروي الحسن بن عرفة عن ابن المبارك قال: استعرت قلماً بأرض الشام على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه. وكان لـ علي بن الفضيل بن عياض -والفضيل بن عياض من الورعين الزهاد وابنه علي كذلك من الورعين وكان توفي رحمه الله في حياة والده، وكان والده يتحدث عن ورعه وزهده- كان له شاة أكلت شيئاً يسيراً من علف أمير فما شرب لها لبناً بعده. وسقط من عقدة دنانير فجاء بنخال ليطلبها فقال عقدة: فوجدتها ثم فكرت فقلت: ليس في الدنيا غير دنانيري! فقلت للنخال: هي في ذمتك، وذهبت وتركته. وروى ابن أبي الدنيا في الورع أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين وقالت: هذا طعامٌ قد صار لنا فيه شريك. لأن هذا الطعام قد صار للورثة. وأخرى أتاها نعي زوجها والسراج يتقد، فأطفأت السراج وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شريك. هذه بعض النماذج من مواقف السلف والأمثلة على ذلك كثيرة، وحين تقرأ في أي كتاب من كتب التراجم لا تخطئك مثل هذه المواقف وغيرها عن سلف الأمة رضوان الله عليهم.

الصحوة والورع

الصحوة والورع

الورع في الجانب الشخصي

الورع في الجانب الشخصي أخيراً: ننتقل إلى الحديث المهم وهو الصحوة والورع، فتحدثنا حول قضايا لتأصيل الورع وبعض القواعد المهمة فيه، ثم نعود بعد ذلك إلى الحديث عن الصحوة وحاجتها إلى الورع. فنحن أولاً نحتاج إلى الورع في الجانب الشخصي، والسلوك عند الناس، بدءاً بالورع الواجب، وهو ما أوجبه الله سبحانه وتعالى من فعل الواجبات، وترك المحرمات. ولعلنا نتساءل بأسى وحزن: أين نماذج العباد الصالحين، الأخيار الأتقياء، التي كنا نسمع عنها في حياة السلف؟ أين صور العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والزهد والورع والخوف من الله عز وجل وصلاح القلوب؟ أين تلك الأحوال التي سقنا بعضها، والتي نسمع عنها من أخبار السلف، فما بالنا لا نرى نماذج منها؟ وما بالنا عندما نسمع هذه القضايا نشكك في صحتها، أو نشكك في نسبتها، أو نبحث عن المعاذير؟ لأننا لم ترق نفوسنا أصلاً لإدراك هذه المعاني؟ ها نحن نرى جيل الصحوة المبارك وقد ملأ الآفاق، وانتشر بحمد الله وعلا صوته، فهل نرى في جيلنا العباد والزهاد والورعين، نحن لسنا نحكم على الناس، ولا شك أن هذا الجيل فيه خير كثير والحمد لله، لكن أيضاً ألا ترون معي أننا نفتقد هذا الجانب كثيراً في سلوكنا، وأننا أحوج ما ندعو الناس بأعمالنا وسلوكنا. إن المقالة التي يقولها المرء قد تحرك القلوب، وتؤثر في النفوس، وقد تسطر وتتداولها الأجيال، لكنها لا يمكن أن ترقى بحال إلى موقف يقف، وحدث يروى فيترك أثراً عظيماً في النفوس أبعد بكثير من آثار هذه الكلمة المجردة. فلماذا لا نسعى إلى أن نتمثل هذه النماذج في أنفسنا، فنكون كما أننا ندعو الناس إلى ترك المنكرات بأقوالنا وأعمالنا ندعو الناس إلى الإقبال على العلم الشرعي، وعلى طاعة الله عز وجل بما نقول ونحدث الناس به، ونكون كذلك قدوة في أعمالنا، وفي سلوكنا، وفي صلاحنا واستقامتنا فندعو الناس بأعمالنا وأحوالنا قبل أن ندعوهم بأقوالنا، وأن نكون ممن إذا رءوا ذكر الله عز وجل.

تربية الناشئة على الورع

تربية الناشئة على الورع الأمر الثاني: تربية الناشئة وجيل الصحوة على ذلك، كما طرحنا السؤال السابق نطرحه مرة أخرى: ما مدى اعتبار هذا الجانب ضمن أهدافنا التربوية، هل نحن نسعى فعلاً جيل ورع، يتصف بصفات التقوى والصلاح والخوف من الله سبحانه وتعالى؟ ألسنا نعاني الآن من كثير من الأمراض التي يعاني منها الشباب ويبحث عن الحل والعلاج والمخرج؟ والعلاج والمخرج هو في الإيمان بالله سبحانه وتعالى والصلاح والتقوى. فكم يرى منا الجيل والناشئة من الحديث حول هذه القضايا في مجالسنا وفي دروسنا وفي منتدياتنا، فعلينا أن نحدث الناشئة وأن ندعوهم وأن نربيهم من خلال القول والتعليم والتدريس وأن نربيهم من خلال العمل، والسلوك فيرون فيما نقدمه لهم وفي سلوكنا التورع عما حرم الله. نعم لا شك كما قلت أننا نرى جيلاً من الشباب والناشئة قد أقبل على الخير، وأقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى، قد أخذ على نفسه أن يصلح ويغير في واقع أمتنا، وصار الناس يتطلعون إلى هذا الجيل، وينظرون إليه نظرة المحب، نظرة من وقع على كنز كان يبحث عنه. وينظرون إليه أيضاً نظرة المشفق عليه من الانحراف أو الضياع، والمشفق عليه من كيد أعدائه ومكرهم، وهذا دليل على أن الناس قد بدءوا يشعرون أن هؤلاء يمثلون بإذن الله عز وجل خيط النجاة لهم، وهذا أمر صحيح. لكن أيضاً ينبغي أن نربي هذا الجيل الذي يتطلع الناس إليه على الورع وتقوى الله عز وجل، والخوف منه، فإنه يحاط بفتن كثيرة، يحاط بفتن الشهوات، ويحاط بفتن الشبهات، ويحاط بوسائل تصده عن سبيل الله عز وجل وتفتنه عنه، فنخشى أن يكون من بينهم من يؤمن بالله سبحانه وتعالى ويتوجه له لكن تأتيه شهوة من شهوات النفس فتصرفه وتصده. أو يكون بينهم ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77]. إن هؤلاء وأولئك لو تربوا على الورع والإيمان والتقوى والصلاح لسمت نفوسهم، ولاستطاعوا بإذن الله عز وجل وتوفيقه أن يجتازوا هذا البلاء وهذا الامتحان. أقول: إن الشباب والفتيات وجيل الصحوة تواجهه فتن العصر الحاضر، فتن الشهوات وفتن الشبهات، وكم نرى ممن يتنكب الطريق، وممن يزيغ يمنة ويسرة، ولو عنينا بتربية الإيمان والتقوى والورع في النفوس لكان ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى حاجزاً وسداً مانعاً من مقارفة هذا الفساد والانحراف، ولكان مانعاً بإذن الله عز وجل من ضياع هذه النشأة.

الورع في ترك السكوت عن المنكرات والدعوة إلى الله

الورع في ترك السكوت عن المنكرات والدعوة إلى الله الأمر الثالث: الورع في ترك السكوت عن المنكرات وترك القعود عن الدعوة. ومن العجائب أن ترى من الناس من يقعد ويسكت ويتخاذل ويرى أن هذا ورع، أي أنه يتورع عن الحديث للناس، والتصدر لهم، ويتورع عن نشر علم آتاه الله إياه، ويتورع عن بيان علم قد علمه الله عز وجل إياه، لكنه لا يتورع أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160]. فمن يتورع عن أن تصيبه هذه الآية، ومن يتورع أن يكون من أهل هذه الآية! إنه قد يتورع أن يقول حقاً رآه أو علمه حتى لا يكون ممن يقول ما لا يفعل، أو حتى لا يعرفه الناس، لكنه ينسى أنه قد يكون ممن يلعنهم الله ويعلنهم اللاعنون، ممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، ولا يتورع أن يكون يوم القيامة ممن هو متوعد بأن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة: (من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار). إذاً: فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا، فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم، ولا يقول إلا ما يحسن، ولا يدعو إلا بعلم، وأن نؤكد على الناس ذلك، فكذلك يجب أن نتورع عن كتمان العلم، يجب أن نتورع عن كتمان حق نعلمه، ويجب أن نعلم أن ذلك مجلبة للعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأن ذلك مجلبة لأن يحق على المرء لعنة الله واللاعنين. وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل العلم أن يبينوا وأن يتحدثوا، وأن ينكروا إذا رأوا منكراً، وأن يأمروا بمعروف إذا رأوه معطلا. ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علماً في مسألة من المسائل، فمن علم أمراً من شرع الله عز وجل وتيقنه فهو من أهل العلم في هذا الميدان، ويصدق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وكان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كما في حديث عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله). وبقية الحديث: (وعلى أن نقول بالحق حيث كنا، لا تأخذنا في الله لومة لائم). فلماذا نجتزئ الحديث ونأخذ الشطر الأول منه ونترك بقيته التي تلزمنا المسلم أن يقول بالحق، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن ذلك مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه. إذاً: فالقعود عن المشاركة في الدعوة، والقعود عن إنكار المنكرات وعن تعليم ما يحتاجه الناس، وعن نشر العلم، والخير، وعن نشر كلمة الحق التي يحتاجها الناس، عن بيان ما يرى المرء أنه حق؛ القعود عنه هو أعظم إخلال بالورع، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله سبحانه وتعالى، ولعنة اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان لبعض المتدينين والعابدين؛ أن يروا أن من باب الورع والصلاح والتقوى أن يبتعدوا عن هذا الأمر، وينسون أن يتورعوا عن السكوت عن ما حرم الله عز وجل السكوت عنه.

تورع الداعية عن القول بغير علم

تورع الداعية عن القول بغير علم الأمر الرابع: في المقابل أن يتورع الداعية عن أن يقول ما لا يعرف: كما أنه يجب أن يتورع فلا يسكت عن حق يعلمه، ولا يتخاذل عن تعليم ما يعلمه، أو عن أمر بمعروف ونهي عن منكر، فكذلك أيضاً يجب أن يتورع فيما يقول، وأن يعلم أنه يوقع عن رب العالمين، وكما أنه يحذر أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة:159]، ويحذر أن ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه) كذلك ينبغي عليه أن يحذر من أن يكون ممن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. أو ينطبق عليه قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. فيتورع أيضاً عن أن يقول أمراً لا يرى أنه الحق، أو لا يوقن أنه حق، وعليه أن يعلم أنه مسئول أمام الله عز وجل عن كل كلمة يقولها. والمهم في ذلك أن يجتهد، وأن يبذل وسعه، ولو أخطأ في ذلك بعد أن بذل جهده ووسعه فالله سبحانه وتعالى يغفر له، بل هو مأجور على اجتهاده. لكن حين تريد أن تقول كلمك تنقل عنك وتسطر عنك، وحين تريد أن تنكر أمراً أو تأمر بأمر فعليك أن تسأل نفسك: هل هذا مما يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحق الذي لا مرية فيه؟ أم أن هناك مداخل، وهناك هوى، فقد يسأل الإنسان فيخشى ألا يجيب فيتهم بنقص العلم. أو قد يكون هناك مدخل هوى أو رغبة أو رهبة أو غير ذلك، فعليه أن يتورع أن يتحدث بغير علم، وميدان الدعوة ميدان فسيح يا معشر المسلمين، كثيرة هي الأمور التي نعلمها ونعلم أنها محرمة ولنا فيها ميدان فسيح وواسع، لم تضق الدائرة إلى تلك القضية التي لم تتضح فيها المعالم لنا حتى نتحدث فيها، من من المسلمين يجهل مثلاً أن محبة الكفار وموالاتهم وإعانتهم ونصرتهم ضلال قد توصل المرء إلى الكفر بالله عز وجل؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل أن تحكيم غير شرع الله عز وجل كفرٌ بالله سبحانه وتعالى؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل أن دعاء غير الله والتوجه له، وأن التوسل بالصالحين والتبرك بآثارهم أمرٌ محرم؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل تحريم البدع والسفور والربا والخمر والغناء والظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والكذب والغيبة والنميمة، وغيرها من المحرمات الظاهرة التي يعلمها الصغير والكبير؟ أقول: أمامنا ميدان فسيح من هذه الأمور وهذه المخالفات، فينبغي أن نتحدث في مثل هذه الأمور والمنكرات الظاهرة الواضحة. أما دقائق الأمور فحين يعلمها المرء ينبغي أن يتكلم، لكن حين لا يثبت الحكم لديه فله مندوحة، وحين يراجع نفسه ويشعر أن ثمة مأخذ عليه فإنه يتورع ويتركها.

أمور يخل بها كثير من الدعاة

أمور يخل بها كثير من الدعاة خامساً: وأخيراً وهي من الأمور المهمة والتي يخل بها الكثير من المنتسبين لجيل الصحوة، ونحن لا شك نحسن الظن أن الخطأ يقع فيها من باب الاجتهاد، والكلام هنا عن باب الورع في المسائل الدعوية والأمور الدعوية، ولنأخذ على ذلك مثالين مما يتسع لهما هذا الوقت. الأمر الأول: في الميادين التربوية. كثيراً ما نقع في مخالفات شرعية ظاهرة واضحة، وكثيراً ما ننسى الضوابط الشرعية المهمة لمثل هذه الميادين، ونتصور مثلاً أن المربي أو الأستاذ أو الداعية ينبغي أن يعلم وينبغي وينبغي إلى آخره، ونعطيه صلاحيات واسعة تتيح له تجاوز كثير من الضوابط الشرعية. فالأصل أن أعراض الناس محفوظة، فلا يجوز الحديث عن أعراض الناس ولا ذمهم ولا غيبتهم، وحين تأتي حاجة تبيح ذلك فإنها ينبغي أن تكون محصورة ضمن هذه الدائرة. فأحياناً يغفل المرء عن هذا الأمر فيتوسع في مثل هذه الميادين، وتتحول الحاجة إلى قاعدة عامة، وينسى أن أعراض المسلمين أعراض محفوظة لها حرمتها. ومن هؤلاء من يتربون على يديه، فليعلم أن أعراضهم محفوظة، وأنه ينبغي أن يحفظ أعراضهم، وأن يحفظ حقوقهم، وأنه لا يجوز أن يتحدث في أعراضهم إلا حين تكون هناك مصلحة شرعية ظاهرة تبيح له ذلك، وما سوى ذلك فالأصل أن يحفظ أعراضهم. والأصل أن ذلك داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12]. والتطلع على دقائق أمور الناس وخفاياهم أمر حرمه الله عز وجل، فقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]. ونهانا أن نتطلع إلى دواخل الناس، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مأمور بأن يعامل الناس على ظاهرهم، قال: (إني لم أومر أن أنقب عن بطون الناس). وتوعد صلى الله عليه وسلم من يتتبع عورات الناس أن يتتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته، فقال: (من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، حتى يفضحه الله ولو في جوف بيته). وهذا نص عام يخاطب كل الناس، يخاطب فيه الطالب والأستاذ والمربي والصغير والكبير، وكون الإنسان يتولى أمراً أو مسئولية لا يعفيه إطلاقاً من النصوص الشرعية، ولا يجيز له أبداً أن يعمل بقانون الطوارئ كما يقال، فيرى أن توليه لهذه المسئولية أو تلك يبيح له تسلق هذه الأسوار وتجاوز هذه الحدود، فهي حدود الله فلا يجوز أن يتعداها. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا المعنى في نهيه صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل المسافر أهله ليلاً، قال: (لئلا يتخونهم يطلب عثراتهم). يعني أن الرجل حينما يكون مسافراً فأحياناً قد يفكر أن يأتي لأهله فجأة حتى يكتشف حالهم، ويكتشف أنه لا يكون عندهم مشكلة أو معصية، أو ألا تدخل زوجه أحداً غريباً في البيت، فينهى صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النوع، وينهى عن طلب العثرات وعن تخون الناس، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في ريبة، والغيرة التي يبغضها الله الغيرة في غير ريبة). فالتطلع على دقائق أحوال هؤلاء لا ينبغي ولا يسوغ، بل لا يجوز، وهذا من باب التطلع على عورات الناس. وينبغي أن نراجع أنفسنا كثيراً في أعمالنا الدعوية، وفي جهودنا ووسائلنا وبرامجنا، هل هي تنضبط بالضوابط الشرعية أم لا؟ ويجب أن نعرف أن كون الإنسان داعية أو مربياً، وكون الإنسان مصلحاً لا يمكن أبداً أن يعفيه من نصوص الشريعة، وأن شأنه شأن سائر الناس، مخاطب بالنهي عن غيبة المسلمين، مخاطب بالنهي عن احتقارهم، مخاطب بالنهي عن التطلع على أسرارهم، وعما وراء ذلك مما قد يظن أن في هذا الأمر مصلحة شرعية، ولو كان به مصلحة لأجاز النبي صلى الله عليه وسلم للزوج أن يتطلع على زوجته. ولو كان فيه مصلحة لاستجازه صلى الله عليه وسلم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم من يخبره عن أصحابه، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئا). كان إذا أتاه أحد من أصحابه يخبره عن بعض أصحابه لا يرضى صلى الله عليه وسلم فنهى أن يخبر أحد عما في نفوس أصحابه، مع أنه قد يقال: إن المصلحة أن يعرف دقائق أمور أصحابه، حتى يصلحهم أو حتى يدعوهم، لكن المسلم والداعية شأنه شأن غيره يتعامل مع الظاهر، والغالب أن الظاهر مرآة للباطن، وأن ما يخفيه الإنسان لا بد أن يظهر على جوارحه، ولهذا لا يجوز له أن يتطلع ويبحث عما وراء ذلك. وقد أشرت إلى أمثلة ونماذج؛ لكن عموماً يجب أن لا يفارقنا الورع في أمورنا التربوية وأمورنا الدعوية، وأن نحسب ألف حساب لعملنا، وأن نشعر أن هذا عمل صالح نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى فيجب أن ينضبط بالضوابط الشرعية، وأننا مخاطبون كسائر الناس بالآداب الشرعية، وكون هذا العمل عمل دعوة وتربية وعمل إصلاح لا يعفي بحال من الالتزام بالضوابط والنصوص. وقل مثل ذلك في الأعمال والبرامج الد

الأسئلة

الأسئلة

البدء بالورع الواجب

البدء بالورع الواجب Q ما هي المرحلة والمنزلة التي تسبق الورع للأخذ بها؟ A أصل الورع قضية مبنية على وهم أشرنا إليه في المحاضرة، وهي شعور الناس أن الورع في ترك الشبهات، وقد قلنا في أول القواعد إن يكون واجباً ويكون مستحباً. إذاً: أول قضية الورع عن المحرمات والورع في فعل الواجبات، هذا ضمن دائرة الورع. وهذا لا يعذر فيه أحد من المسلمين؛ لكن كلام السلف عن الورع المستحب.

حكم إجابة دعوة الوليمة المشتملة على منكر ومصلحة

حكم إجابة دعوة الوليمة المشتملة على منكر ومصلحة Q إذا كان هناك من يتورع عن تلبية الدعوة إذا كانت من شخص لديه منكر في منزله، مع العلم أن ذهابه وإجابة الدعوة قد تكون من باب دعوته إلى الله، فما رأيكم في ذلك، علماً بأن صاحب المنكر قريب له؟ A إذا كان يترتب على ذلك دعوة وتأديب ورأى أن مصلحة ذهابه خير من بقائه، فينبغي عليه أن يذهب، وهذه الأمور توزن بالموازين الشرعية، فقضية أن عنده منكراً لكن سينكر عليه منكراً آخر، أو يتسبب هجره في وقوعه في منكر أكبر منه، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هجر الرجل الذي كان يشرب الخمر، لأن هجره قد يوقعه في ما هو أكبر منه.

التأثر بسير السلف والعجز عن التأسي بهم

التأثر بسير السلف والعجز عن التأسي بهم Q عندما نقرأ سيرة من سير السلف ونتدارسها فإننا نتأثر بما نسمع عنهم وبمواقفهم، وربما تأسينا بهم في مثل هذه المواقف، ولكن ما نلبث أن نرجع لحالنا السابقة، وغلب الواقع وتغيرنا، وسأضرب لك مثلاً. عندما نقرأ أن السلف كان بعضهم لا يسأل أحداً شيئاً، فيعاهد أحدنا نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، ولكن ما يلبث أن يشعر بالغربة فيرجع لسؤال الناس، فنرجو التوضيح. A هذا من منازل الناس العليا في الصلاح، ونحن ينبغي أن نأخذ منهجاً قبل هذا كله، فأقول: كونه لا يسأل الناس شيئاً هذه منزلة عالية، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها خاصة أصحابه، فأنت حينما تكون أنت عندك مشكلات أصلاً في الثقل عن الواجب والوقوع في الحرام، ينبغي أن تصرف الهمة لعلاج هذا الأمر.

الفرق بين الورع والغلو

الفرق بين الورع والغلو Q ما الفرق بين الورع والغلو؟ A الورع اتباع المشروع، سواء كان واجباً أو مستحباً، والغلو: أن يتكلف المرء ما لم يرد الشرع به.

العلاقة بين الورع والزهد

العلاقة بين الورع والزهد Q ما وجه الارتباط بين الورع والزهد؟ A سبق أن أشرنا إلى ذلك، وقلنا إن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره.

دقائق الورع التي ينهى المقصرون عنها

دقائق الورع التي ينهى المقصرون عنها Q عندما ذكرتم القاعدة السادسة، وهي أن دقائق الورع لا تكون إلا لخواص الناس الذين استكملوا الحسنات الظاهرة، وتركوا المحرمات عموماً، وذكرتم أنه على هذا فترك دقائق الورع لأمثالنا من المقصرين خير، فهذا صحيح؛ ولكن هذا يعني أن المقصر إذا كان يستطيعه لا يفعله، ولو كان حتى منفرداً مع محاولة هذا الشخص إكمال نفسه وإصلاحها؟ A إذا كان يستطيع فليتوجه للأمور الأهم، مثل السنن الشرعية المتأكدة في القرآن وقيام الليل والصدقة والإحسان للناس، وترك المحرمات والمكروهات ويبتعد هذا عن الكلام في الدقائق، لا عن ترك المشتبهات، وضربنا أمثلة بإنسان يستأذن في الأخذ من المحبرة أو يعيد الورقة التي اشترى عليها السمن للذي باعه، مثل أن يأتي إنسان فيأخذ (شوارما) يأكله وبعد أن ينتهي يعيد الورقة إلى صاحبها مثلاً، فهذه دقائق الورع. بعض الناس يتصور أن ترك النظر الحرام من دقائق الورع، أو يتصور أن ترك الأمر الذي فيه شبهة من دقائق الورع، وإنما المقصود بدقائق الورع الأمور التي يسوغ للإنسان أن يتركها بكل سهولة. ولهذا أنكر السلف على من فعل ذلك لأن الأمر واسع فيها. فقضية تحرير الدقائق أمر مهم، لأنه مقياس في أن هذه من الدقائق أم ليست من الدقائق.

التورع عن فعل الخير

التورع عن فعل الخير Q عندما يسأل الشيخ طلابه في مجلس ذكر ونحوه، يتحرز بعض الطلاب عن الإجابة مع كونهم يعرفونها، ويرون ذلك ورعاً، وكذلك إلقاء الدرس ودخول المسابقات وغيره يراه البعض ورعاً فما رأيك؟ A هذا ليس من باب الورع، ونحن صراحة بحاجة إلى إبراز الطاقات وإلى تربية النفوس الناشئة، وتعويد الشباب ورفع هممهم. ولو كنا نفكر بهذه العقلية فلن نجد الخطيب ولن نجد من ينكر المنكر، ولن نجد من يدرس ولا من يعلم، ولا من يقضي حوائج الناس، بحجة التورع، وهذه ليست تورعاً فإن ي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أصحابه وكانوا يجيبون.

الورع الواجب والورع المستحب

الورع الواجب والورع المستحب Q أرجو إعادة ذكر الورع الواجب والورع المستحب وأمثله لكل واحد منهم، وجزاكم الله خيراً. A الورع الواجب هو في ترك الحرام، مثل ترك النظر الحرام، وترك الذهاب إلى مكان يعرف أنه إذا ذهب إليه فإن فيه تبرجاً وسفوراً، فسيرى صوراً فاتنة ومواقف فاتنة وهو لا يملك نفسه، فهذا يجب عليه ألا يذهب، وهذا ورع واجب. وكذلك في فعل الواجبات الشرعية، مثل إنسان أمرته والدته بأمر وهو مشغول أو متعب، فيرى أنه من الورع أن يفعل هذا الأمر الذي أمر به، وألا يخل به لأن هذا واجب. والورع المستحب في ترك المكروهات، والأمور المشتبهة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهي مشتبهة بالنسبة للناس، وإلا فالشرع كله واضح، لكن بالنسبة للإنسان قد يشك: هل هي حرام أم حلال، وأضرب لذلك مثالاً: من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء مسألة الأنفحة في الجبن، فإن من المواد التي يصنع منها الجبن الأنفحة، وأنفحة الميتة هل هي نجسة أم طاهرة؟ هذه محل خلاف. فحين يتورع الإنسان عن هذا الأمر فهو من الورع المستحب، وخاصة قضية المطعم والمشرب فكل ما تورع فيه الإنسان فهو خير، لأن المطعم له أثر في إجابة الدعوة، لكن لو أن إنساناً استقر عنده أن هذه ظاهرة، وأنها لا تتأثر ولا تنجس بالموت، فقد اتضحت عنده الحقيقة، لكن هي شبهة بالنسبة لغيره. ونقول مثل ذلك في معاملاته، فهذه المعاملة قد تكون عندك واضحة أنها مباحة، لكن عند فلان من الناس شبهة، فلهذا قضية الشبهات قضية نسبية بالنسبة للناس، يعني أنه قد يشتبه الأمر على أحد الناس دون غيره، أما في الجملة فلا بد أن يكون الحق قد قال به أحد الناس: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).

حكم ترك المسئولية خوفا من المساءلة يوم القيامة

حكم ترك المسئولية خوفاً من المساءلة يوم القيامة Q هل ترك المسئولية في العمل والنزول إلى عمل ليس فيه مسئولية، والقصد من ذلك الخوف من الله في يوم العرض أن يسأله عن الغير؛ هل هذا نوع من الورع المذموم أو المرغوب؟ A يختلف هذا الأمر، إذا كان يوجد من أقرانه من يقوم به، فحينئذٍ ينبغي أن يتورع، وهذا الخوف من تحمل المسئولية. لكن حينما يكون الناس الآخرون سيئين، كما لو كان هناك متدينون وعلمانيون فلا ينبغي للصالحين التورع وترك الأمر لأولئك الفجار السيئين، بل حينما يكون البديل رجلاً فاجراً يجب أن نزاحمه، بل من الورع الدخول في هذا الميدان، والورع عدم ترك هذه الميادين لهؤلاء، وينبغي أن نتجاوز هذه العقلية. وأعمال السلف تختلف، وهناك قاعدة مهمة -واسمحوا لي ولو استطردت في هذه القضية- لأنه كثيراً ما يحتج الناس بأقوال السلف، وأقوال السلف تختلف: أولاً: أقوال آحاد السلف ليست حجة مطلقاً، بل يجب أن تعرض على الكتاب والسنة. ثم أقوال آحاد السلف ليست هي منهج السلف، أحياناً إنسان يقول: هذا منهج السلف، أو هذا خلاف منهج السلف، ثم يختار من أقوال السلف ما يؤيد الكلام الذي يقوله، ويترك بقية الأقوال. فمنهج السلف أن تجمع كل أقوالهم ثم تناقش القضية على ضوئها، لا أن تختار الأقوال التي تؤيدها ثم تقول هذا منهج السلف، فهذا غير صحيح. ثم القضية المهمة التي هي موضع الشاهد هنا: أن السلف عاشوا عصراً، له ظروف معينة، وأوضاع معينة، فحينما يقول أحدهم كلاماً، ويفعل عملاً فإنه ينطبق على عصره، وعلى موطنه، فلا نسوق الكلام الذي قاله ونطبقه على عصرنا، فمثلاً: من السلف من عاش في بلاد المغرب أو مصر تحت حكم العبيديين، وقد كانوا باطنيين وكفاراً، فهذا سيكون له قول فيهم غير قول الذي عاش عند هارون الرشيد، أو عند أبي جعفر المنصور، أو غير قول الذي عاش عند عمر بن عبد العزيز، هناك من عاش في المدينة بين الصحابة وبين أبناء الصحابة، وهناك من عاش في الأندلس، وهي بلاد بعيدة وحديثة عهد بالإسلام، فوضع هذا غير وضع ذاك، والأقوال التي يقولها هذا غير الأقوال التي يقولها ذاك. فالشاهد أن أقوال السلف مع أنها يجب أن نحفظها ونعنى بها، لكن يجب أيضاً أن نضع في الاعتبار العصر الذي قيلت فيه. فهذا حينما يتورع عن توليه المسئولية سيخلفه غيره ومن هو خيرٌ منه، وربما من هو من دونه لكنه فيه خير وعلم وفيه صلاح. لكن ما كان أحد من السلف في مسؤلية فيتخلى عنها وهو يعرف أنه سيتولاها علماني، أو رجل صاحب شهوات، لا، لأن القضية تصير كما قال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].

ترك العمل خشية الرياء

ترك العمل خشية الرياء Q عندما أعمل خيراً أحس أني أفعل الرياء، وعندما أحاول أن أتخلص منه لا أستطيع التخلص منه؟ A إحساسك بالرياء دليل إن شاء الله أنه من العمل الخالص لله، لأن المرائي أصلاً مرتاح من العمل، ويتمنى من الناس أن ينظروا إليه، هذا نوع من الرياء، ونحن نتهم أنفسنا ونراجع أنفسنا ونسأل الله الإخلاص، ولكن لا تترك العمل خوفاً من الرياء، بل اعمل وأخلص النية لله عز وجل. وقد قيل: من رأى إخلاصه في إخلاصه فهو غير مخلص. يعني: من رأى أنه مخلص فإخلاصه يحتاج إلى مراجعة، والسلف عندهم دقائق وعبارات جميلة حول هذا كما كانت تقول رابعة الشامية: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله. وكانوا يقولون: استغفار يحتاج إلى استغفار، أي: أننا يجب أن نستغفر لاستغفارنا، لأنا غير جادين في الاستغفار. فكذلك الشعور بالإخلاص لأن المخلص يجب ألا يشعر بهذا، فعلى السائل أن يجاهد نفسه، لكن لا يترك العمل لأجل خوف الرياء.

حكم الإنكار على الورع وتسميته تنطعا

حكم الإنكار على الورع وتسميته تنطعاً Q نظراً لاختلاف المقاييس بين جيلنا والسلف فإنه ينكر على الشاب كثيراً عندما يريد أن يتورع، ويكون هذا الإنكار من الشباب الملتزمين على أنه تنطع، فما رأي فضيلتكم؟ A أحياناً يقال لمن حافظ على صلاة الفجر: إنه متنطع ومتفرغ، الذي يطالب بتغطية وجه المرأة يقال له أيضاً هذا تنطع. وهذه مقاييس واسعة، لكن ميزان كل إنسان يكون على حسب دينه وتقواه وورعه، وهو يحس أنه في الوسط، وحس أن الذي أتقى منه غلاة ومتشددون ومتورعون، وكثيراً ما نسمع هذا الكلام. وللأسف أن بعض الصالحين الأخيار عندما يرى إنساناً يتورع عن شيء يقول هذا متشدد، ونحن نقول: على الأقل المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وهو قد اختار هذا القول. وكم سمعت من كثير من الشباب من يحكم على شخص بأنه متشدد، وهو اتبع مسألة فيها خلاف معتبر، فما دامت المسألة فيها خلاف ورأي معتبر، وهذا اتبع رأياً من آراء: هل العلم، وعنده دليل الكتاب والسنة، فيجب ألا تصفه بذلك، بل هو احتياطاً يا أخي تورع. وأما متى يكون الإنسان متشدداً، فذلك حينما يتورع عن حلال ليس فيه شبهة أصلاً، بل هو حلال واضح. حينها يكون الإنسان متشدداً فعلاً وغير متورع. أما حين يتورع عن أمر فيه إشكال وفيه شبهة فلا. ثم أيضاً هناك فرق بين السلوك الشخصي وبين التحريم والتحليل وإفتاء الناس، فأنا قد أتورع عن طعام في شبهة فأتركه؛ لكنني لا أعتقد تحريمه، ولا أنهى الناس عنه، لكن أتركه تورعاً مثلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التمرة التي رآها وخشي أن تكون تمر الصدقة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يعتقد أن هذه محرمة، ولم ينه من تحرم عليه الصدقة أن يأكل من مثل هذا التمر الذي يجده، بل هو حلال له لا شك فيه.

اعتزال الساحة الدعوية لما فيها من خلاف

اعتزال الساحة الدعوية لما فيها من خلاف Q هذا سؤال طويل حول قضية الخلافات في الساحة الدعوية، ثم يقول: رأيت أن أعتزل الجميع، فهل عملي هذا تورع مشروع؟ A لا، بل هذا من مداخل الشيطان، إذا وصل الإنسان إلى حالة اختلطت فيها الأمور عليه فصارت في ليل مدلهم لا إذا أخرج يده لم يكد يراها، حينها يمكن أن يعتزل. أما هذه فعليه أن يتبع أقرب الناس إلى الحق، ويسدد ويقارب، أما اعتزالك هذه الميادين الدعوية، واعتزالك من مشاركة أمور الخير، فهو مدعاة لأن تترك الصلاح، وتفوت عنك أبواب كثيرة من أبواب الخير. وقد ترى أموراً عند بعض الناس لا تقرهم عليها، مثلاً: يأتينا شخص يعيش في بلاد بعيدة عندهم مخالفات وعندهم بدع، ويسألنا عن عمله هناك في جماعة فيها خير وفيها صلاح لكن عندهم مخالفات وعندهم أخطاء، فنقول له: شاركهم واعمل معهم، واجتنب ما عندهم من الأخطاء، لأنه لا يوجد البديل، وعندما يبقى لوحده يمكن أن يضيع وتتخطفه الشهوات، ولذا يحتاج الإنسان إلى من يعينه حتى يجتنب ما يرى أنه مخالفة شرعية. وعملك مع هؤلاء ومشاركتك معهم لا يعني أن توافقهم في كل صغيرة وكبيرة. ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتورعين الصالحين المتقين، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

اليأس لا يصنع شيئا

اليأس لا يصنع شيئاً يتدفق هذا العصر بسيل جارف من وسائل الإعلام والتواصل، وأكثر ذلك مما يوظف في إفساد الأخلاق ونشر الرذيلة، مع ما تتمتع به دول الأعداء من السيطرة على الإعلام والمال، وهذا قد أدى ببعض دعاة الفضيلة وحملة الإسلام إلى أن يدب اليأس في قلوبهم، وهذه المادة تعالج ذلك وتبعث الأمل في نفوس اليائسين.

عوامل انتشار اليأس

عوامل انتشار اليأس

انتشار الفساد وغربة الدين

انتشار الفساد وغربة الدين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: تسيطر على حياة كثير من المسلمين اليوم سحابة قاتمة من اليأس، ويشعر طائفة منهم أن الواقع الذي يعيشونه اليوم واقع لا مناص لهم منه ولا خلاص، سواء كان هذا الأمر على مستوى الأفراد، أو على المستوى الأمة والمجتمعات، فكثير من المسلمين يشعر أن واقعه لا يمكن أن يتفق مع ما يقتنع به، وما يرى أنه يجب أن يكون عليه، ويصل به الأمر إلى اليأس من تغيير هذا الواقع الذي يعيشه. إنك حين تدعوه وتناصحه يخبرك أنه يعلم علم اليقين أن هذا الواقع الذي يعيشه لا يرضي الله تعالى، يعلم علم اليقين أنه على خطأ، لكن قد سيطر عليه اليأس من تغيير واقعه، إنه يقول لك بلسان حاله وربما بلسان مقاله: إنني أعرف أن الحق خلاف ما أنا عليه، لكنني لا أستطع أن أغير ما أنا عليه. والأمر يتجاوز ذلك إلى واقع الأمة وواقع المجتمع، واليوم لست بحاجة إلى أن تقنع أحداً من المسلمين بسوء واقع الأمة وسوء حالها، لكن هذا قد أدى بطائفة من المصلحين، بل طائفة من الغيورين الصادقين إلى أن سيطر عليهم اليأس، وأدركهم القنوط، وشعروا أن الأمر قد خرج عن طوقهم وإرادتهم. وهذا اليأس الذي سيطر على كثير من المسلمين اليوم أدت إليه عوامل عدة: أول هذه العوامل: انتشار الفساد وغربة الدين: من يتأمل واقع مجتمعات المسلمين اليوم يجد أن مظاهر الفساد قد انتشرت في حياة المسلمين، فالمنكرات الظاهرة أصبحت معلماً بارزاً وظاهراً في بلاد المسلمين، بل أصبح إنكارها تدخلاً في شئون الآخرين، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً في مجالات وجوانب كثيرة من حياة المسلمين، بل إن بعض المسلمين يستنكر ويستنكف ويعترض عليك حين تنكر عليه مخالفته لما شرع الله عز وجل، وامتد الأمر إلى المراجعة والمناقشة في مدى شرعية هذه الأمور، وبدأ الناس يعيدون قراءتهم للأحكام الشرعية والنصوص الشرعية؛ لأجل أن يشعروا أو يقنعوا أنفسهم أن هذا الواقع الذي يعيشونه واقع شرعي. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الدين بقوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء). انتشار هذا الفساد، واستمرار المنكرات، وظهورها في مجتمعات المسلمين وحياتهم أدت بفئة كثيرة من المسلمين إلى اليأس من تغير الأحوال، والشعور بأن هذا الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع المسلمين وحياتهم.

اتجاه التغير وحركته

اتجاه التغير وحركته العامل الثاني: اتجاه التغير وحركته: صحيح أن الواقع اليوم فيه فساد، لكن يزيد ذلك أن الاتجاه يسير إلى مزيد من الانفتاح على الفساد، ويسير إلى مزيد من الغربة، وحين يقارن المسلم واقع مجتمعه اليوم بما كان عليه قبل عشر سنوات يجد أن الاتجاه يتجه نحو الفساد، والأمة تسير نحو مزيد من التغريب، ولهذا فكأنه يقول: إنك تريد أن تعكس هذا الاتجاه، وتسبح ضد التيار، وهذا أمر مستحيل.

المتغيرات الجديدة

المتغيرات الجديدة أمر ثالث: المتغيرات الجديدة وهي تنذر بمستقبل لا يعلم حاله إلا الله عز وجل، في ظل عصر العولمة، وعصر الانفتاح على العالم الآخر، ستزول خصوصية المجتمعات المحافظة، المجتمعات المنغلقة، المجتمعات المتدينة، ستنفتح على العالم الآخر بكل ما فيه. إن مجتمعاتنا اليوم تعيش انفتاحاً على المجتمعات الأخر من خلال التواصل المباشر عن طريق السفر والاحتكاك بالمجتمعات الكافرة والمجتمعات الغربية، أو من خلال وسائل الاتصال والمواصلات، لكن هذا الاتصال سيصبح بالنسبة لما يستقبل سيصبح لا شيء، فسيصبح الإنسان وهو في غرفته في قرية منعزلة ليس بينه وبين أن ينفتح على العالم بكل ما فيه من ثقافة، أو ملة، أو نحلة، أو دين، ويخاطب أي رجل، ويتعامل مع أي مجال وباب من أبواب الشهوات أو الشبهات؛ ليس بينه وبين ذلك إلا مجرد ضغطة زر، فالحاسب الآلي سينفتح على هذا العالم. ومع اتجاه العولمة والانفتاح ستذوب هذه الفوارق، فتصبح سيطرة المجتمعات ومحافظتها أقل مما هي عليه من ذي قبل، بل ستصبح سيطرتها محدودة في ظل هذا السيل الجارف من الغزو العالمي، إن في البعد الثقافي للعولمة وخطورته، أو في البعد الاجتماعي والذي ينادي أول مبادئها بالتحرر من القيم والأخلاق والروابط الاجتماعية. مبدأ الأسرة مبدأ غير وارد في ثقافة العولمة، الأسرة يمكن أن تكون من ذكر وأنثى، الأسرة يمكن أن تكون من ذكرين، الأسرة يمكن أن تكون من أنثيين، أي إنسان حر في أن يختار نوع العلاقة ونوع الأسرة التي ينشئها، الإنسان حر في أن يتصرف ويفعل ما يشاء، هذه من أبسط المبادئ مبادئ العولمة الجديدة التي ستكتسح بلاد ومجتمعات المسلمين. أيضاً: الجانب الاقتصادي، وخلفياته وآثاره: الجانب الاقتصادي سيؤذن بمزيد من الانفتاح على الشركات الأجنبية، والشركات العالمية، وسيحتك المسلمون بالآخرين والمجتمعات الأخرى، لن تكون هناك قيود على حركة الأفراد، لن تكون هناك قيود على حركة السلع، وما يصاحب النشاط الاقتصادي من حركة الإعلان والدعاية، والتي لا تخلو من قيم، ولا تخلو من معان وافدة تعكس ثقافة وقيم المجتمعات التي نشأت فيها، أيضاً هي الأخرى سوف تغزو مجتمعات المسلمين المحافظة البعيدة عن هذا العالم. آثار الوضع الاقتصادي الجديد على واقع دول العالم الإسلامي وهي تعيش في منظومة دول العالم الثالث، وضعف الفرص التنافسية للمجتمعات والأفراد في ظل هذا الغزو الاقتصادي، هذه الآثار ستولد متغيرات اجتماعية ومتغيرات ثقافية جديدة. زوال القيود على حركة الثقافة والمطبوعات وما يتعلق بها، كل هذه الأمور تؤذن بتحول وتغير جديد، ولئن عاشت -مثلاً- بلاد الخليج تحولاً مع اكتشاف النفط، فإنها ستعيش تحولاً لا يقارن مع عصر العولمة العصر الجديد. أقول أيضاً: هذا مما يزيد اليأس عند طائفة من الناس، فالواقع فيه فساد، الاتجاه يسير نحو الفساد، المتغيرات المتوقعة في المستقبل تؤذن بفساد أوسع وأكبر.

مواقع قوى التغيير

مواقع قوى التغيير الأمر الرابع: مواقع قوى التغيير: هناك قوى تغيير في المجتمع، هناك قوى تقود المجتمع نحو الصلاح، قوى تتمثل في الاتجاهات التي تسعى لإصلاح المجتمعات والعودة بها إلى المنهج الشرعي، وهناك قوى تسير بها وتدفعها نحو التغريب، وهي قوى شتى متباينة ومختلفة في مدارسها، لكن نستطيع أن نصنفها في معسكرين: المعسكر الذي يريد أن يعيد المجتمعات إلى أصالتها وإلى منهجها الشرعي، والقوى التي تريد أن تقود المجتمعات إلى الفساد، حينما نقارن بين اتجاه وقوى الإصلاح واتجاه وقوى الفساد، ننظر ماذا يملك هؤلاء من الإمكانات والوسائل، وماذا يملك أولئك؟ وما هي الفرص المتاحة لهؤلاء والفرص المتاحة لأولئك؟ والقضية ليس فيها مجال للمقارنة، وليس فيها مجال أن توازن بين هذا وذاك، ولا أن تقول: إن هذا الاتجاه أو الاختيار أقوى وذاك أقوى، إن هذا الاتجاه لا يساوي شيئاً بالنسبة لهذا التيار الجارف، فرؤية مواقع قوى التغيير أيضاً تزيد هؤلاء يأساً، فالقوى التي تدفع المجتمع للفساد أقوى وأكبر وأكثر ضغطاً، بينما القوى التي تشدهم إلى الأصالة، وتريد أن تعود به إلى الأصالة قوى ضعيفة هزيلة.

إخفاقات الصحوة وأمراضها

إخفاقات الصحوة وأمراضها الأمر الخامس: إخفاقات الصحوة وأمراضها: قامت الصحوة الإسلامية في وقت كان لا يتوقع الأعداء أن تقوم، قامت هذه الصحوة وقدمت خيراً للأمة، وأعادت للأمة الاعتزاز بالإسلام، والشعور بأن الإسلام يمكن أن يحكم حياة الناس المعاصرة، وأحيت العلم الشرعي، ومظاهر التدين، حتى أصبحت ظاهرة لا ينكرها أحد، وقوى اجتماعية لا يستهان بها. لكن حين يتأمل هؤلاء في واقع الصحوة فإنهم سيجدون إخفاقات وأمراضاً ومشكلات، وهي أمراض لم تعد سراً اليوم، فمن أمراض العمل الإسلامي الخلاف والتفرق، وضآلة الوعي حيث إن كثيراً مما تتعامل به الصحوة ليس على مستوى الواقع، وليس على مستوى التغيير. أقول: هناك أمراض وضعف وإخفاقات مرت بها الصحوة، تزيد هؤلاء يأساً وإحباطاً. هذه العوامل الخمسة حين تضيف إليها طريقة تفكير هؤلاء، والتي دائماً تنظر إلى الجانب المظلم، والحديث الذي يتألم على واقع الأمة، وغالباً ما يكون حديثاً ناقداً متشائماً، هذه العوامل أدت إلى بروز ظاهرة اليأس وسيطرته، والأمر يهون حين يكون الشعور باليأس عند فئة محدودة من المسلمين، لكنك تجد أن هذا اليأس يتسرب إلى فئة ممن ينتظر منهم أن يشاركوا في التغيير والإصلاح، وتجد أن هذه اللغة تسيطر وتسود في كثير من مجالس الصالحين، فلا يكادون يتحدثون إلى عن الأمراض، الفساد، الانحراف، التغير الهائل المحدث. أقول: هذه العوامل والمتغيرات صحيحة ولا إشكال فيها، لكن النتيجة التي أدت إليها هي التي تحتاج إلى أن نناقشها في هذا اللقاء.

أضرار اليأس ومشكلاته

أضرار اليأس ومشكلاته

اليائس لا يصنع شيئا

اليائس لا يصنع شيئاً اليأس أيها الإخوة! يولد مشكلات عدة وآثار عدة: أولها: أن اليائس لا يمكن أن يصنع شيئاً. اليأس لا يدفع إلى العمل، اليأس لا يحرك ساكناً، اليأس لا يثير همة، بل غاية ما يتركه على صاحبه أن يجلس ينتظر النهاية التي تنتظره. لو أن إنساناً في هذا المكان فشب فيه حريق، وسيطر عليه شعور بأنه ليس هناك مخرج، فماذا يصنع؟ لن يصنع شيئاً، لن يفكر، لن يحتال، سيبقى ينتظر الموت، وهي النهاية التي تنتظره، وهكذا اليأس. إذاً: حين يسيطر علينا اليأس، وحين نسعى إلى غرس اليأس في نفوسنا وفي نفوس الآخرين، من حيث نشعر أو من حيث لا نشعر، فإننا لن نصنع شيئاً. أحياناً نتصور أن مزيد التألم على الواقع، وأن ارتفاع حدة السخط على الواقع والتضايق منه دليل على الغيرة، وأن هذا ربما يكون أكثر دفعاً للإصلاح. نعم، المسلم المؤمن يغار لحرمات الله، يتحرك قلبه إذا رأى المنكرات، إذا رأى الفساد، لكن هذا ينبغي أن يقف عند حد معين، فإذا تجاوز ذلك وزاد لا يمكن أن نحرك ساكناً، حتى في أبسط المواقف، خذ على سبيل المثال منكراً محدوداً عند شخص معين -فضلاً عن قضية تتعلق بالواقع- فحينما ترى شخصاً يقع في منكر، وتهم أن تناصحه وأنت يائس من استجابته فلن تندفع إلى العمل، ولن تعمل، ولو افترضنا أنك تجرأت وأتيت لتناصحه، أو تنكر عليه هذا المنكر، فإنك غاية ما تقوم به وغاية ما تفعله أن تسجل موقفاً فقط أنك اعترضت، أن تسجل أنك قلت كلمة، أما أن تعمل وأنت تنتظر التغيير فهذا لا يمكن أن يحصل مع حال اليأس. إذاً: فاليأس لا يصنع شيئاً، ولا يدفع إلى العمل.

اليأس يقضي على الاتجاه نحو الإصلاح

اليأس يقضي على الاتجاه نحو الإصلاح ثانياً: اليأس يقضي على أي اتجاه نحو الإصلاح والتغيير: حين يفكر الإنسان بالتغيير سواء في واقعه هو، أو في واقع أسرته، أو في واقع أكبر كواقع المجتمع والذي نأمل ونتمنى أن يحمل هذا الهم المسلمون جميعاً، وأن يشعروا أنهم مسئولون عن تغيير واقع مجتمعاتهم، وأنهم قادرون على هذا التغيير. أقول: حين يسيطر اليأس على الإنسان فإنه لا يمكن أن يفكر في التغيير، ولا يمكن أن ينطلق نحو التغيير.

اليائس يثبط من حوله

اليائس يثبط من حوله الأمر الثالث: اليائس يثبط من حوله: اليائس لا يقف ضرره على نفسه إنه يثبط الآخرين، فتراه دائماً يتحدث مع الآخرين أنه لا أمل، ويقول: أنت تتعامل مع واقع محدود والسيل جارف، والأمر أكبر مما تتصور، فلا تشغل نفسك بمثل هذا الأمر، فانشغل بخاصة نفسك، أو انتظر حتى تحصل تغيرات، أو أمور أخرى غير محسوبة. واليائس يئد المشاريع والأفكار الطموحة، فأحياناً تثار أفكار ومشروعات فيها نوع من الطموح، مشروعات فيها تميز، مشروعات يتوقع منها أصحابها أن تنتج وتثمر، وهذه المشروعات حين تثار في مجتمع اليائسين فإنها توأد، لأن هؤلاء ينظرون إلى جوانب الفشل في هذه المشروعات، ويتنبئون بفشل مثل هذه المشروعات وهذه الأعمال قبل أن يتنبئوا بنجاحها.

الفهم الخاطئ للأحداث

الفهم الخاطئ للأحداث الأمر الرابع: اليأس يولد نفسية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً، ويؤثر على تفكير صاحبه، فتراه يفترض مخاطر لم تقع أصلاً، ويتوهم أموراً لم تقع، وتتحول الأوهام عنده إلى حقائق، وتصبح الأحلام واقعاً ملموساً لدى هؤلاء، هذا على مستوى ما لم يقع. أما على مستوى الأحداث التي تقع فهو يفهمها فهماً آخر يتفق مع نفسيته اليائسة التي سيطر عليها الوهن، تسيطر عليه دائماً النظرة التآمرية، يشعر أن هذه الأحداث مؤامرة، وأنها مؤامرة ضخمة، وأنها قد حيكت خيوطها، ودبرت بليل. فكل حدث يتوقع ما لم يحدث، والحدث الذي يحصل ولو كان حدثاً عفوياً يفهمه بصورة تتفق مع طريقة تفكيره، لأن الإنسان في طريقة نظرته للأحداث لا يمكن أن يتخلص من طريقة تفكيره، لا ينظر إلى الأحداث كما هي، لا ينظر إليها نظرة موضوعية، أو نظرة محايدة، إنما ينظر إليها من خلال نفسيته وطريقة تفكيره، فالإنسان اليائس ينظر إليها نظرة يائس، والإنسان المتفائل ينظر إليها بروح التفاؤل، الإنسان سيئ الظن ينظر إليها بنظرة الريبة، والإنسان حسن الظن ينظر إليها بنظرة أخرى. يندر أن ينظر الإنسان وأن يتعامل مع الأحداث تعاملاً موضوعياً، وأن يتعامل معها كما هي، فاليائس يتخيل ما لم يحدث، والأحداث يفهمها على خلاف ما هي عليه، يبالغ في تصور المؤامرات، حتى تجد أنه يخرج لك بنتائج لا تتفق مع مستوى عقله وتفكيره. قبل أيام سمعت حديثاً من شخص درس في بلاد الغرب، يقول لي: إن الإنترنت كلها مؤامرة للتجسس على المسلمين، وكلها مؤامرة للدخول على خصوصيات المسلمين. فانظر هذا المستوى من التفكير، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يعملوا، ولو عملوا عملوا بروح الفشل والهزيمة، والشعور بأن كل صيحة يمكن أن تدور عليهم وتصبح عليهم. الأمر الخامس: أن هؤلاء اليائسين يفهمون الأحداث المبشرة فهماً يتفق مع نفسيتهم، فهو يشكك في صحة الأخبار السارة، فعندما يأتي خبر سار يشكك في صحته، أو يهون من شأنه. إنك مثلاً حين تحدثه عن الصحوة وانتشارها، فإنك تراه يهون من شأنها، ويقول لك: إن هذه الظاهرة محدودة وضعيفة وهزيلة وفيها أمراض، فهي من حيث الحجم أقل مما تصورون، ثم هي من حيث الكيف ومن حيث المحتوى ضعيفة وضئيلة، وأقل من أن تواجه وو إلى آخره. بل حينما تحصل مثلاً أخبار سارة تجد أنه يبحث لها عن تفسير يتفق مع طريقة تفكيره، فيشكك في الدوافع التي كانت وراء هذه الأحداث، تارة يتصور أن هذا استدراج من العدو حينما يعطي مثل هذه الفرص، ويقول: إن هذه مؤامرة يراد من خلالها الانقضاض أو كشف صفوف الأخيار إلى آخره. المهم أن هذه الروح تسيطر على أمثال هؤلاء، تسيطر عليهم فيما لم يقع من الأحداث، فيتوهمون ما لم يقع، تسيطر عليهم في الأحداث السيئة فيبعدون في تفسيرها، ويبالغون في تضخيمها. أيضاً اليائس في تقويمه ينظر في المشروعات والأعمال إلى السلبيات فقط، ويضخم السلبيات والأخطاء، وفي المقابل يتغاضى عن الإيجابيات والمشاكل، حين يقيِّم أي ظاهرة تجد أن نظره دائماً يتجه نحو السلبيات والأخطاء، والجهد البشري لا يمكن أن يسلم من الخطأ أبداً، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، فـ (كل بني آدم خطاء) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمرء لابد أن يذنب، ولابد أن يقصر، والقصور صفة ملازمة للبشر أياً كانوا. وهذا لابد أن يظهر أثره على مستوى المشروعات العامة، لأنها نتاج أعمال البشر، ونتاج تفكير البشر، ولهذا هي لا تسلم من أخطاء وقصور وضعف البشر. المجتمعات أيضاً حينما تحللها إلى وحداتها الأولية فهي مجموعة الأفراد الذين يبقى القصور والضعف أمراً ملازماً لهم، ولهذا فأي عمل بشري لا يخلو من قصور، ولا يخلو من الضعف، وتأمل هذا في واقعك أنت وحياتك حينما تقوم بمشروع ثم تنهيه، وعندما تعود إليه بعد فترة ستجد أنك وقعت في أخطاء، فأنت حينما تكتب مقالة أو كلمة أو تكتب كتاباً أو تلقي كلمة، وتعود مرة أخرى فتقرأ ما كتبت، أو تستمع إلى ما تحدثت عنه، ستجد فيه أخطاء، ستجد فيه قصوراً، ستجد أنك لو عدت من جديد لتكتب أو لتنفذ هذا المشروع، فإنك ستنفذه بصورة غير تلك التي قمت بها، وهذا من شأن البشر، وهو أمر ملازم لهم. إذاً: فأي عمل بشري وأي جهد بشري لابد أن يكون فيه قصور، ولابد أن يكون فيه سلبيات، واليائس ينظر إلى هذا الجانب المظلم السلبيات ويضخمها، ويتغاضى عن الإيجابيات ويهون من شأنها ويقلل من شأنها. إذاً: أيها الإخوة! سيطرة اليأس تخرج لنا في النهاية أفراد محبطين غير عاملين، أفراداً لا يمكن أن يصنعوا شيئاً، وحين يسيطر على المجتمع فإن المجتمع سيستلم ولن يسعى للتغيير، وإذا لم يقتنع الأفراد بأنهم يستطيعون أن يغيروا واقعهم، وإذا لم تقتنع المجتمعات بأنها تستطيع أن تغير واقعها، فإن التغيير الذي نريده وننتظره لا يمكن أن يحصل.

وسائل التخلص من اليأس

وسائل التخلص من اليأس كيف نتخلص من اليأس؟

العلم بأن اليأس مذموم

العلم بأن اليأس مذموم أولاً: ينبغي أن ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلا في مقام الذم عند الناس. الناس حين يتخلصون أحياناً من ضغط الواقع ومؤثراته، ويفكرون تفكيراً مجرداً؛ فإنهم يرون أن وجود جذوة من الأمل والتفاؤل أمر مطلوب ولابد منه، فأن يعمل المرء ولا ينجح خير من أن يكون يائساً لا يصنع شيئاً ولا يعمل شيئاً. واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب، بل حين يصل بالإنسان اليأس إلى يأسه من روح الله ورحمة الله، فإن هذا من صفات الكافرين، كما قال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وهذا حكاه الله عز وجل على لسان يعقوب، قاله عليه السلام حين أوصى بنيه أن يبحثوا عن يوسف بعد سنين طويلة مرت من يوم ألقوا فيها يوسف في الجب، وتخيلوا أنه قد هلك ومضى، فلما حصل ما حصل، وافتقد ابنه الآخر، قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]، حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:85 - 86]، وفعلاً كان الأمر كما كان يعلمه نبي الله يعقوب، وكما كان حسن ظنه بالله تبارك وتعالى. فمن هنا ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، جميل أن ندرك سوء واقعنا، سواءً واقعنا الشخصي أو واقع مجتمعاتنا، ومن المهم أن ندرك حجم التحديات والمخاطر التي تواجهنا، وحجم الانحراف الذي يصيب مجتمعاتنا، لكن ينبغي ألا يتجاوز هذا الإدراك حده؛ لأنه لا يمكن أن يدفعنا للعمل، بل سيدفعنا فيما بعد للقعود والاستسلام. حين ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلى في مقام الذم والعيب، ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، بل هو يدفع للقعود والتواني والكسل، وهذا الإدراك سيدفعنا هذا إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.

الاعتدال في النقد

الاعتدال في النقد أيضاً من الأمور المهمة: الاعتدال في النقد: أحياناً يكون تفكيرنا تفكيراً متطرفاً، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد والعيب المبالغ فيه، وهذا نراه مثلاً في أقرب صورة محسوسة حينما نتعامل مع الجانب المادي أو الواقع المادي، حينما تقوم سلعة من السلع، وتبحث عن آراء الناس فيها، تجد أنهم يتفاوتون بين من يقول لك: هذه سلعة متميزة، ولا يعلى عليها، ولا يقاس غيرها بها إلى آخره، وبين من يذمها ذماً مطلقاً. فما بالك بما هو فوق مستوى الماديات فيما يتعلق بإصدار الأحكام على الظواهر الاجتماعية، إصدار الأحكام على الظواهر التربوية، إصدار الأحكام على الأفراد، على المجتمعات؛ في هذه الحالة تجد أن الاعتدال تقل مساحته ويزداد التطرف، سواء في هذه الزاوية أو في تلك الزاوية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. النقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد، وحتى نصحح واقع مجتمعاتنا لابد من النقد، ولابد أن نمارس النقد الذاتي؛ حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا، أو ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أيضاً أن يكون بموضوعية واتزان، فحين نبالغ في النقد، ويتجاوز النقد حده، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس. جيء برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فسبوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان عليه)، العقوبة الشرعية التي يستحقها أخذها وهي الجلد، حينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليها أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)، يعني: لا يجمع عليها بين العقوبة الشرعية وعقوبة أخرى، فليقم عليها العقوبة الشرعية التي شرعها الله عز وجل وهي الحد، لكن لا يؤنبها ويلومها ويثرب عليها. وكذلك نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يلعنوا هذا الرجل الذي شرب الخمر، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا فيه إعانة للشيطان على أخيهم. هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المبالغة في ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم)، فأهلك الناس هو الذي يصل به الحد إلى اليأس من واقع الناس، فيتهمهم بالهلاك. يقول الإمام الخطابي رحمه الله: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم، بما يلحقه من الإثم في عيبه، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم.

النظر في السنن الربانية

النظر في السنن الربانية من الأمور المهمة أيها الإخوة! التي تجعلنا نتخلص من اليأس: النظر في السنن الربانية، وهذا الأمر أمر مهم، من ذلك مثلاً أن ننظر أن هذا الدين جاء من عند الله تبارك وتعالى الذي له الخلق وله الأمر، فهو الذي خلق الناس، وهو عز وجل أعلم بهم، بل هو تبارك وتعالى أعلم بالناس من أنفسهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. وشرع الله تبارك وتعالى لهم هذا الدين، والله عز وجل لم يشرع للناس إلا ما يطيقون. وهذا يقودنا إلى نتيجة بدهية أن كل ما أمرنا به الله عز وجل فهو مما نطيق فعله، وأن كل ما نهانا الله تبارك وتعالى عنه فهو مما نطيق تركه والتخلي عنه، ولو عشنا فترة فأنسنا واقعاً سيئاً في ذوات أنفسنا، أو أنسنا منكراً أو معصية داومنا عليها وتخيلنا أنها أصبحت جزءاً منا، فهذا من كيد الشيطان وتلبسيه. وإلا فمادام الله عز وجل قد نهانا عنها، وحرمها علينا، وكلفنا بالتخلي عنها، فهذا يعني أننا نطيق أن نتجنبها ابتداءً، ونطيق أن نتخلى عنها حينما نقع فيها، وحينما نواقعها، وقد فتح تبارك وتعالى لنا باب التوبة، وباب التوبة لا يغلق. هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات هناك حقيقة مهمة في هذا الدين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى الثقلين الجن والإنس، بعث إلى الناس عامة، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبي ولا رسالة ولا شريعة للناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم. ومن منزلة هذه الأمة وكرامتها على الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، أما هذه الأمة فليس فيها إلا نبي واحد، لكن فيها طائفة منصورة إلى قيام الساعة. جاء هذا الدين من عند الله خير الأديان، جاءت هذه الشريعة خير الشرائع، اختص الله عز وجل بها خير رسله صلى الله عليه وسلم، واختار الله تبارك وتعالى لها خير الأمم هذه الأمة، وجعل هذا الدين رسالة وشريعة للأمة إلى أن تقوم الساعة. وهذا يعني أن البشرية تستطيع في كل الظروف والمتغيرات منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أن تقيم حياتها على أساس هذا الدين، وأن تستوعب كل المتغيرات الجديدة وتقيم حياتها على هذا الدين، وإلا لما كان هذا الدين ديناً خاتماً، ولما كانت هذه الرسالة رسالة خاتمة، لما كان هذا النبي خاتماً للأنبياء لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم. هذا يعني أن المسلمين قادرون على أن يلتزموا بدينهم، أن يقوموا بهذه الرسالة التي حملهم الله إياها، فهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقودون البشرية للهداية، والأمم الأخرى هي مخاطبة أيضاً بهذه الرسالة. أقول: إدراك هذه القضية البدهية يقودنا إلى هذه النتيجة: أن هذه الأمة، بل البشرية كلها يمكن أن تستقيم على هذا الدين في ظل أي متغير، وفي ظل أي عصر، وفي ظل أي ظروف تأتيها، وأنه لا يمكن أبداً أن يتعارض هذا مع التقدم العلمي والتقني، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى يقاتل آخرهم الدجال). صحيح أنه تمر بهم حالات مد وجزر، وحالات ضعف وهوان، لكن ستبقى هذه الطائفة إلى أن يقاتل آخرهم الدجال في آخر الزمان.

النظر في النصوص التي تبشر بتمكين الدين

النظر في النصوص التي تبشر بتمكين الدين أيضاً مما يزيل اليأس من النفوس النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام، ومنها ما جاء في كتاب الله عز وجل من وعد الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. فهذا وعد من الله تبارك وتعالى لابد أن يتحقق، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع قد تغيب عنهم هذه الحقائق من وعد الله تبارك وتعالى وما أخبر به عز وجل، فالله تبارك وتعالى قد وعد بني إسرائيل، وحقق لهم ما وعد تبارك وتعالى، يقول عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، ثم قال تبارك وتعالى في الآية التي تليها: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. وانظر كيف صارت الأحداث، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، بدأ الأمر من هنا منذ أن ولد هذا الرضيع الذي سيحطم الله عز وجل على يديه عرش فرعون، وسيمكن على يديه لبني إسرائيل، ولم تذكر قصة موسى بهذا التفصيل في مرحلة ما قبل الرسالة أكثر مما ذكرت في هذه السورة؛ لأنها تتحدث عن قضية التمكين وطغيان فرعون وعلوه. ثم بعد ذلك ختمت هذه السورة بطغيان قارون وعلوه، ثم كيف أهلكه الله عز وجل، ومكن لبني إسرائيل. إذاً: فقد وعد الله تبارك وتعالى بني إسرائيل هذا الوعد، ومتى كان هذا الوعد؟ هذه الآية أتت بعد وصف الله عز وجل لحال طغيان فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. هذا الواقع لا يوصف وصفاً مبالغاً فيه، إنه كلام الله تبارك وتعالى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، ثم يأتي هذا الوعد ويتحقق. إذاً: الوعد الذي تحقق لبني إسرائيل في ظل ذاك الواقع المظلم البائس، لابد أن يتحقق لهذه الأمة، وهذه الأمة قد اصطفاها الله عز وجل، فهي أبر وأتقى وخير من بني إسرائيل، وأعلى منزلة عند الله تبارك وتعالى، وهي خير الأمم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. في نصوص السنة أيضاً نجد شواهد كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب). وأيضاً ما في المسند من حديث تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكان تميم يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية. في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يكون بيت في الأرض إلا ودخله هذا الدين، ولن يكون هناك مكان يصله الليل والنهار إلا وسيصله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل. والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة ليس هذا مقام الإفاضة في الحديث عنها، لكن الشاهد -كما قلت- أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس.

إن مع العسر يسرا

إن مع العسر يسراً أيضاً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج، فالفرج عادة ما يأتي بعد شدة اليأس في عالم المادة وعالم المحسوس، ويأتي بعد أحلك المواقف والصعوبات: إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما بها الصدر الرحيب وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غيث يمن به اللطيف المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب وقال آخر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم

عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أيضاً الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً، قد يكون حدثاً لا يرى منه الناس إلا الوجه السيئ، فيصبح خيراً والناس لا يعلمون، والله تبارك وتعالى يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]. ودعوني أضرب على ذلك مثالاً أو أمثلة: في قصة الإفك حين قذفت عائشة رضي الله عنها بالزنا، واتهمت بذلك، هل كان يدور في بالها حين سمعت هذه المقولة أن هذا الحدث سيكون خيراً لها؟ أو هل كان يدور في ذهن أحد ممن عاش الحدث ذاك الوقت أن هذا خير لها؟ ثم نزل قول الله تبارك وتعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]. وفعلاً حصل هذا الأمر، فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وهي كانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآناً يتلى. وكان غاية ما تؤمله رضي الله عنها أن يري الله نبيه رؤيا يبرئها فيها. إذا: هذه الحادثة التي كانت تظنها شراً صارت خيراً لها، ومثل ذلك ما حصل لمريم حين حملت بعيسى، حتى تمنت أنها لم تولد قبل هذا الموطن فكان خيراً لها، وحملت بنبي من أولي العزم من الرسل. وفي حادثة الهجرة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادية، واختبأ وصاحبه في الغار، ثم انصرفا، فجاء رجل يتحدث وسراقة مع طائفة من قومه، فقال: رأيت هاهنا سواداً أظنه محمداً وصاحبه، ففطن سراقة لذلك وعلم أنه قوام النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه فلان وفلان، يريد أن يصرف الناس عن ذلك، وأمر أهله أن يجهزوا فرسه من خلف الدار وانصرف، وركب فرسه، ثم لحق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اقترب، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا سراقة قد رهقنا. فحصل ما حصل، وخارت قوائم فرسه، والقصة معروفة. الشاهد أن الذي يقرأ الحدث الآن ويعيشه يفترض محمداً صلى الله عليه وسلم وصاحبه رجلين أعزلين من السلاح، خرجا فراراً من قومهما، وقد جعل قومهما لمن يأتي بأحد هذين الرجلين حياً أو ميتاً جائزة عظيمة، وهذا الرجل على وشك أن يظفر بها. والمتبادر إلى الذهن أنه خطر محقق، ولهذا أصاب أبا بكر رضي الله عنه القلق والخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وحق له ذلك، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينظر بنور الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أعلى منزلة من أبي بكر رضي الله عنه، فخارت قوائم فرس سراقة، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم ييئس مرة ثانية وثالثة، حتى عرف سراقة أنه ممنوع. فلما انصرف سراقة كان كل من لقيه يقول: قد كفيتم ما هاهنا، فأي إنسان يرى سراقة قد جاء من هذا المكان ولم يجد أحداً يعلم أن هذا المكان لا يمكن أن يجد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه. فانظر كيف تحولت الصورة وانقلبت، ولهذا قال الراوي: فكان في أول النهار طالباً لهما، وفي آخر النهار صاداً عنهما، يعني: هذا الحدث الذي يبدو في أوله حدثاً سيئاً لا يتمنى أن يحصل صار فيه الخير، فصار سراقة هو الذي يصد الناس عنهما. إذاً: أيها الإخوة! الأحداث التي تحصل قد يكون ظاهرها سيئاً، بل قد يكون فيها سوء، لكنها تنقلب بعد ذلك إلى خير، تنقلب إلى صلاح، مثلاً: بعض الناس قد يكون مسلماً مقصراً مفرطاً، لكن على الأقل محافظ على العبادات الظاهرة، ثم يهوي ويقع في معصية أو كبيرة من الكبائر، لا شك أن هذا شر للإنسان، لكن وقوعه في هذه المعصية قد يكون سبباً في توبته، وإذا تاب تغيرت حاله، وصار على حال الصالحين المتقين، فصار وقوعه في هذا الذنب خيراً له، فقد وقع في هذا الذنب فتاب منه، فقبل الله عز وجل توبته، وتغيرت حاله من فساد إلى صلاح. الشاهد والخلاصة: أن الأحداث السيئة قد تكون خيراً، والمتفائلون هم أولئك الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، ليسوا هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط، حينما نأتي رجلان إلى قرية فيها فقر مدقع وجهل وتخلف، ويأتينا رجلان رجل متشائم ورجل متفائل، فالرجل المتشائم كل ما يراه في هذه القرية يزيده إحباطاً، يشعر أن الأمية منتشرة فيها، فمستوى التعليم فيها لا يشجع، فيها فقر، ليس فيها بنية اقتصادية، ليس فيها طرق، ليس فيها إمكانات، ليس فيها بيئة يمكن أن تهيئ استثمارات تحرك النشاط الاقتصادي في البلد، الناس يعانون من بطالة، يعانون من أمراض، هذه نظرة، فكل ما يراه في البلد يؤيد عنده هذه الحقيقة. يأتينا شخص آخر متفائل فيرى أن هذه القرية تعيش في وضع سيئ، لكن هو يتلمس الجوانب التي يمكن أن ننطلق منها، يقول: البلد فيها بطالة، لكن هذه البطالة يمكن أن أستفيد منها، يمكن أن نشغل هؤلاء ولو بأجور محدودة، وهؤلاء يمكن أن يكونوا نواة لإقامة مشروعات يمكن أن تحيي البلد مثلاً، يمكن أن يكون فيها بيئة جيدة للتعليم. المهم أن الموقف الواحد ينظر إل

نماذج تاريخية على الفرج بعد الشدة

نماذج تاريخية على الفرج بعد الشدة

من قصص موسى وبني إسرائيل

من قصص موسى وبني إسرائيل من الأمور المهمة قراءة التاريخ، فحين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة، ويأتي بعد الضيق، ولنضرب على ذلك نماذج سريعة: في قصة موسى مع بني إسرائيل، جاء موسى وقد تسلط فرعون كما قلنا قبل قليل على بني إسرائيل، واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج ببني إسرائيل فخرج، فلحقه فرعون وقومه، حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم، بالمنطق المادي قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. قمة الخطر على بني إسرائيل، قمة سوء الأوضاع هنا، في السابق كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فهو وضع فيه استعباد، لكن كان يمكن الناس أن يعيش بعضهم، لأنه فرعون وقومه ما أرادوا أن يهلكوا بني إسرائيل، لكن الآن بنو إسرائيل محصورون هنا، وليس أمامهم هنا إلا البحر وراءهم فرعون، فليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم انتهت، فحصل لهم الفرج، {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:63 - 65]، وأهلك الله فرعون، فانظر كيف أتى الفرج بعد هذه الشدة!

من أحداث الردة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم

من أحداث الردة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم مات النبي صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم، وارتدت قبائل العرب، حتى ما بقي إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولهم من المؤمنين الصادقين، حتى كاد طائفة من المؤمنين أن يشعروا باليأس والإحباط، ثم فرج الله لهم، حتى أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت سنتين وأشهراً، وما انتهت خلافة أبي بكر إلا وقد أخضعت الجزيرة كلها، وعاد المرتدون إلى دولة الإسلام، وبدأت الفتوحات في بلاد فارس وفي بلاد الروم، بعد أن كاد أن يصل بهم اليأس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وحين ارتدت طوائف العرب. استقرت دولة الإسلام، وحصلت أحداث، ولعلنا نشير إلى حدثين:

غزو الصليبيين لبيت المقدس

غزو الصليبيين لبيت المقدس حدث غزو الصليبين لبيت المقدس: يقول ابن كثير رحمه الله: ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وفيها أخذت الفرنج بيت المقدس، قال: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار. فنقل الحافظ ابن كثير قصيده لـ أبي المظفر الأبيوردي يقول فيها: مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراحم وشر سلاح المرء دمع يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم فأيها بني الإسلام إن وراءكم وقائع يلحقن الذرى بالمناسم وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض فعل المسالم وفيها: وبين اختلاف الطعن والضرب وقفة تظل لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ليسلم يقرع بعدها سن نادم فللن بأيدي المشركين قواضباً ستغمد منهم في الكلى والجماجم يكاد لهن المستجير بطيبة ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم أرى أمتي لا يسرعون إلى العدا رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم أيرضي صناديد الأعاريب بالأذى ويغضي على ذل كماة الأعاجم فليتهم إذ لم يذودوا حمية عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهلا أتوه رغبة في المغانم هذا الشاعر كأنه يحكي واقعنا اليوم، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وبقي في أيدهم تسعين سنة، ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة وأعيد لهم.

دخول التتار واجتياح بغداد

دخول التتار واجتياح بغداد ثم حصلت كارثة أخرى كارثة التتار، وأنقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير لعلي اختصر فيها اختصاراً للوقت فقد أطلنا في الحديث. يقول: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها. يقول: ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله. يقول: ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة. قال: وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:4 - 5]. قال: وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً. يقول: وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد. ثم قال: ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد؛ حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام؛ فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى. هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو التتار. هذه المآسي وقعت للأمة في بغداد، حتى سيطر على المسلمين اليأس، وشعروا أن التتار قوة لا تقهر، ثم استفاقت الأمة بعد ذلك، وقاتلوا التتار وهزموهم، وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها. إذاً هذه النماذج أيها الإخوة! الأمة التي استفاقت بعد أحداث الردة، الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين، الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر. وقراءة التاريخ يعطينا الدرس والعبرة، لكن اليائسين لا ينجحون، والنصر لا يكتب لليائسين، والتغيير لا يمكن أن يتم على اليائسين. اللهم إنا نعوذ بك أن نيئس من روحك ورحمتك، إنك

تحقيق التوحيد

تحقيق التوحيد العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الحياة وتبنى عليه أعمال الإنسان، ولذلك فهو أول ما يجب على الإنسان أن يتعلمه ويفهمه، ولا يكفي فيه التعلم النظري حتى يعمل المرء على تحقيقه في جميع أموره، والحذر مما ينافيه أو يقدح فيه.

دواعي الكلام عن تحقيق التوحيد

دواعي الكلام عن تحقيق التوحيد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أيها الإخوة في الله هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد، هو موضوع خطير ومهم جداً في حياة المسلم وفي حياة الأمة كلها، ومن ثم فإننا حينما نطرق هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى فإنما نطرقه لأسباب منها: أولاً: أن العقيدة هي الأساس الذي تُبنى عليه الحياة وتبنى عليه أعمال الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العبد أي عمل وأي أمر قدّمه في هذه الدنيا يبتغي به وجه الله، لا يقبل منه ذلك إلا إذا كان مبنياً على هذا الأساس المتين، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ولما كان الأمر كذلك كان الحرص من جانب المؤمن ومن جانب الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان على هذا الأمر لا بد منه، ولا بد أن يراقب الإنسان نفسه دائماً لخطورة هذا الموضوع. ثانياً: ولأن مجتمعاتنا بدأت تظهر فيها ظواهر خطيرة يجب على الدعاة أن يقفوا عندها ليعالجوها، ومن ذلك: تعلق النفوس بغير الله سبحانه وتعالى توكلاً ومحبة وغير ذلك، وهذا أمر خطير جداً، ولقد شاهدنا أمثلة لذلك من خلال ما يضر بمجتمعات المسلمين من أزمات. ومنها أيضاً: كثرة السحرة والكهنة وتعلق النفوس بهم، وكون بعض الناس يظن أن هؤلاء لهم سيطرة ولهم قدرات، وأن هؤلاء أيضاً بيدهم الشفاء ولا شفاء إلا بأيديهم! وهذا أمر خطير يجب أن يُنتبه له. ومن ذلك أيضاً التوسع في أبواب الرقى لتشمل رقىً غير مشروعة، وتلك الرقى غير المشروعة حينما تكثر ربما تؤدي إلى أنواع من السحر والكهانة والشعوذة، وذلك كله مما يصادم أصل العقيدة أو كمالها؛ لهذه الأسباب أيها الإخوة في الله كان لا بد من طرق هذا الموضوع تحقيق التوحيد وأهميته ووجوبه.

معنى تحقيق التوحيد

معنى تحقيق التوحيد ومن هنا فإننا نعرض أولاً لقضية مهمة جداً ألا وهي: ما معنى تحقيق التوحيد؟ وتحقيق التوحيد الذي يعلمه الجميع والحمد لله مقتضاه أن يحقق الإنسان شهادة أن لا إله إلا الله بأركانها وشروطها، فكون الإنسان ينطق بهذه الكلمة ويقول: لا إله إلا الله، وكون هذا الإنسان يعود من كفر ومن شرك ومن انحراف وإلحاد ومن جاهلية بمجرد أن يعلن إسلامه وينطق بكلمة التوحيد، نقول إن هذه النقلة لها مقتضى عظيم جداً، وليست مجرد كلمة تقال باللسان. ولا إله إلا الله تقتضي أول ما تقتضي أمرين متلازمين لا بد منهما:

عدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل

عدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل الأمر الأول: أن ينفي الإنسان أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادة سواء كان صلاة أو نذراً أو حباً أو خوفاً أو توكلاً أو دعاء أو استغاثة أو استعاذة أو توسلاً أو غير ذلك، لأي شيء من المخلوقات، سواء كان ذلك المخلوق ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو رجلاً صالحاً، أو نجماً، أو حجراً، أو شجراً، أو غير ذلك، وهذا الأمر لا يتم إلا بالأمر الثاني ألا وهو

صرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له

صرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له الأمر الثاني: أن يصرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له، فهما ركنان دلت عليهما هذه الكلمة لا إله إلا الله، فلا إله: نفي، إلا الله: إثبات، فهي تنفي صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، ثم تثبت تلك الأنواع كلها لله وحده لا شريك له. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:104 - 107] أقم وجهك للدين حنيفاً بعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة والبعد من الشرك وأهله. ومن هنا فإن هذه الكلمة يالتي تقتضي ما ذكرناه سابقاً، وذلك بهذين الركنين العظيمين مع شروط لا إله إلا الله المعروفة: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها هذه الشروط السبعة إذا تكاملت عند المؤمن علماً وعملاً فإنه والحالة هذه يكون قد حقق هذا التوحيد العظيم، ولكن ينبغي أن نعلم أيها الإخوة في الله أن مقتضي التوحيد الذي ذكرناه سابقاً يلزم منه أمر مهم جداً، ألا وهو البعد عن الشرك بجميع أنواعه، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واجتنبوا الطاغوت بجميع أشكاله وصوره، وهذا يشمل اجتناب الإنسان الشرك الأكبر والشرك الأصغر.

الشرك

الشرك

الشرك أعظم الذنوب

الشرك أعظم الذنوب ومن هنا فإننا نفرد للكلام عن الشرك فقرة خاصة فنقول: إن هذا الشرك ينبغي أن يُعلم أنه أعظم الذنوب، كما ذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الشرك أعظم الذنوب لأسباب منها: أن الله سبحانه وتعالى لا يغفره إذا مات عليه الإنسان، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] فمن كان عاصياً وتاب فالله يتوب عليه، ومن كان مشركاً ثم تاب من شركه فالله سبحانه وتعالى أيضاً يتوب عليه، لكن إذا مات الإنسان على هذا الشرك انقطع الأمر كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فمغفرته تبارك وتعالى للشرك إنما تكون إذا وقعت التوبة منه في الدنيا، أما في الآخرة فلا يُغفر لصاحبه أبداً.

الشرك الأكبر صاحبه مخلد في نار جهنم

الشرك الأكبر صاحبه مخلد في نار جهنم ثانياً: أن صاحبه مخلد في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، ونحن نعلم أن من الأمور القاطعة في عقيدتنا والتي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يشك فيها مؤمن أبداً هذه الحقيقة تقول: إن الناس في يوم القيامة لا بد أن يفترقوا إلى فريقين لا ثالث لهما أبداً: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كان من أهل التوحيد فهو في الجنة، ومن كان من أهل الكفر فهو في النار خالداً مخلداً فيها أبداً، ولهذا فإن من أعظم عقوبات الشرك بالله أن صاحبه مخلد في نار جهنم نسأل الله السلامة والعافية.

الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة

الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة الأمر الثالث: أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة، فالكافر إذا عمل أعمالاً صالحة في الدنيا يجازى عليها في الدنيا، لكن إذا جاء يوم القيامة بتلك الأعمال الصالحة لا تُقبل منه قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] لكن المؤمن الموحد يأتي يوم القيامة بالأعمال الصالحة التي أخلص فيها لربه سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى يثيبه عليها. من هنا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لهذا التوحيد وحماية له حذّر من أنواع الشرك الأكبر والأصغر.

أنواع الشرك الأكبر

أنواع الشرك الأكبر لا نريد أن نطيل في الكلام حول هذا الموضوع ولكن أشير إشارات سريعة فأقول: الشرك الأكبر أنواعه كثيرة، وأهمها أربعة أنواع:

شرك الدعوة

شرك الدعوة النوع الأول من الشرك الأكبر: شرك الدعوة، وذلك بأن يدعو الإنسان غير الله سبحانه وتعالى، وهذا ولا حول ولا قوة إلا بالله منتشر في كثير من بلاد المسلمين، حيث تتعلق القلوب بولي أو تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو تتعلق بقبر من القبور فيؤدي هذا التعلق إلى دعائها من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا دعاها من دون الله تبارك وتعالى وقع هذا الداعي في الشرك الأكبر.

شرك الإرادة والقصد

شرك الإرادة والقصد ومن أنواع الشرك الأكبر: شرك الإرادة والقصد، وذلك بأن يقصد غير الله سبحانه وتعالى بنوع من أنواع العبادة، كالمحبة، أو التوكل، أو الاستغاثة، أو غير ذلك، فإذا وجّه هذا النوع من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى فقد أشرك مع الله غيره.

شرك الطاعة

شرك الطاعة ومنها: شرك الطاعة، وذلك بأن يطيع غير الله سبحانه وتعالى في معصية الله سبحانه وتعالى. وهذا باب خطير جداً، حينما يأتي المشرّعون وواضعوا القوانين المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى فيشرّعون هذه الشرائع، ويضعون هذه النظم والقوانين، ثم يأتي هؤلاء الأتباع ويطيعونهم فيها من دون الله تعالى، ويتّبعونهم عليها، مع علمهم أنهم مغيّرون للشريعة، فهذا سمّاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى شركاً أكبر حين علّق على حديث عدي بن حاتم حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فقال عدي وكان يعرف أحبار النصارى، قال: (يا رسول الله إنهم لا يعبدونهم، يعني لا يعبدون الأحبار والرهبان، لا يسجدون لهم ولا يركعون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أليسوا يحلون الحرام فيحلونه، ويحرمون الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) وهذا حديث حسن. ومن ثم فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: وهؤلاء الأتباع نوعان: نوع منهم اتبعوهم على تبديلهم، يعني علموا أنهم مغيرون لشرع الله واتبعوهم على ذلك، فهؤلاء مثلهم. والنوع الثاني: أناس علموا شرع الله الحق ولكنهم اتبعوا أولئك معصية، أي أنهم فعلوا ما يخالف الشرع من باب المعصية، فهؤلاء فسّاق عصاة وليسوا بكفار، أما بالنسبة للأحبار والرهبان أنفسهم المغيرين لشرع الله تعالى فهؤلاء لا شك في أنهم واقعون في الشرك الأكبر الذي هو شرك الطاعات.

شرك المحبة

شرك المحبة ومن أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وذلك بأن يحب غير الله كمحبة الله سبحانه وتعالى، وهذا يقع فيه بعض الناس حينما تتعلق قلوبهم بغير الله، فيجعلون محبة أولئك مقدمة على محبة الله أو مساوية لمحبة الله، وهذا يختلف عن المحبة الطبيعية والمحبة في الله، التي هي جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

أنواع الشرك الأصغر

أنواع الشرك الأصغر القسم الثاني من أنواع الشرك: الشرك الأصغر، والشرك الأصغر قسمان:

شرك الأعمال

شرك الأعمال القسم الأول منه: شرك في الأعمال، وهذا الشرك هو الشرك الخفي، وهو الرياء الذي حذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر وهو الرياء) وهذا الرياء شرك أصغر لا يخرج صاحبه من الملة، لكنه ولا حول ولا قوة إلا بالله قد يمتد خطره فيؤدي إما إلى أن يرقى بصاحبه إلى الشرك الأكبر، وإما أن يحبط عمله فليحذر المسلم وهو في عباداته، وهو في أعماله الخيرية، وهو في صلاته، وهو في صيامه، وهو في أمره بالمعروف وفي نهيه عن المنكر، وفي دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليحذر من هذا المدخل الشيطاني الخفي.

شرك الأقوال

شرك الأقوال النوع الثاني من الشرك الأصغر: هو شرك الأقوال، كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا فلان ما حدث كذا، وغير ذلك من الألفاظ التي يتساهل فيها بعض الناس وهي من الأمور التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية للتوحيد وتحقيقاً له، (ولما جاءه رجل فقال: يا رسول الله! ما شاء الله وشئت، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) ونهى عن الحلف بغير الله، وغير ذلك.

أمور تنافي التوحيد أو كماله

أمور تنافي التوحيد أو كماله وبعد هذه الفقرات المتعلقة بمعنى تحقيق التوحيد ومعنى لا إله إلا الله، ومعنى الشرك وأنواعه ننتقل إلى الموضوع الثالث المتعلق بموضوعنا، ألا وهو أمور تنافي حقيقة التوحيد أو كماله ابتلي فيها كثير من الناس.

التمائم

التمائم من ذلك: التمائم، فإن مما اشتهر عند بعض الناس في بعض البلاد الإسلامية تعليق التمائم التي يُظن أن تعليقها يحمي الإنسان أو الطفل من العين أو من الجن أو من المرض أو غير ذلك. ولهذا ورد عن عقبة بن عامر الجهني: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت التسعة وتركت هذا، قال عليه الصلاة والسلام: إن عليه تميمة، فهجره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه، فأدخل يده فقطعها فبايعه، فقال عليه الصلاة والسلام: من علّق تميمة فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، والحديث صحيح. والتمائم خرزات أو نحوها تُعلق على صدور الأولاد أو في أكتافهم أو في أيديهم يتقون بها العين، ويدخل في هذه التمائم بعض الخرزات التي يضعها بعض السائقين يعلقونها على المرآة في السيارة ونحوها، ويظنون أنها تقيهم الصدام أو الحوادث أو غير ذلك، وبعضهم قد يضع نعلاً في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها لهذا السبب، وبعضهم كما أخبرني بعض الإخوة يعلّق شيئاً من ذلك في دكانه يطلب به الرزق أو يتقي به عين من يمر عليه. ومن ذلك أيضاً اعتقاد بعض الناس حينما يظن أنه إذا أمسك عنده ذئباً أو قطعة من جلده أو نحو ذلك أن هذا يمنع الجن عنه، فهذه من الأمور التي اشتهرت عند كثير من الناس، وبعضهم يتساهل فيها وهي إما أن تكون من الشرك الأكبر إن اعتقد فيها أنها هي التي تنفع وتضر من دون الله تبارك وتعالى، أو أنها تكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أنها سبب، ولهذا انتشر هذا الأمر حتى عند كثير من الصوفية وما أكثر الشركيات عند كثير من الصوفية! حتى يقول صاحب دلائل الخيرات وهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم فكأن قضية نفع التمائم تنفع كل يوم، وكل دقيقة مثلما تسرح البهائم أو مثلما تسجع الحمائم، وغير ذلك، وكأن هذا الأمر مُسلّم عندهم.

حكم تعليق تمائم من القرآن

حكم تعليق تمائم من القرآن وهنا قد يقول قائل: وإذا عُلّقت تميمة من القرآن كما يفعل البعض حينما يكتبون آيات من القرآن ويخيطونها بقطعة قماش أو نحو ذلك ويعلقوها على صدر الطفل أو في كتفه أو غير ذلك، والذي يظهر وإن كانت المسألة فيها خلاف أن مثل هذا الأمر لا يجوز لعدة أمور: الأمر الأول: أنه بدعة لم يفعله السلف رحمهم الله تعالى. الأمر الثاني: أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم؛ لأن تعلق النفس بهذا الأمر يُضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى ولربما لو حدث لهذا الطفل مرض لقيل ما نفعت ائتونا بتميمة أخرى! وهكذا، وما أضعف نفوس الوالدين أمام مرض ابنهم وخاصة الأم، فلربما أدى بهم إلى أن يقعوا فيما هو محرم صُراح. الأمر الثالث: أن وجود الآيات القرآنية على كتف الصبي أو في صدره أو نحو ذلك يؤدي إلى امتهان القرآن، فإنه يدخل به دورات المياه، وإذا تعلقت النفوس بهذه التميمة فإن الأم لا تستطيع أن تفكها ولو لحظات، وظنت أنها لو أزالت هذه التميمة التي هي من القرآن عن ابنها وهو داخل الحمام فلربما أدى به إلى أن يصاب بأذى، فتضطر إلى أن تدخل مثل هذا الأمر الذي فيه كلام الله سبحانه وتعالى إلى الأماكن التي يجب أن ينزه القرآن منها؛ لهذه الأسباب فإن مثل هذا الأمر لا يجوز.

الرقى

الرقى الأمر الثاني: الرقى، وينبغي أن نعلم أن هذه المسألة كثر في هذه الأيام الحديث عنها، ما هي الرقية الشرعية؟ وما الرأي في هؤلاء القراء الذين صاروا ينتشرون في كل مكان؟ وهذا الأمر أيها الإخوة في الله يحتاج منا إلى وقفة فأقول: يجب أن نعلم أولاً أن الرقية الشرعية لا تصح إلا بشروط منها: الشرط الأول: أن تكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته. الشرط الثاني: أن تكون باللسان العربي. الشرط الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل هي سبب من الأسباب، والنافع الشافي هو الله سبحانه وتعالى. ومن هنا فإن من المهم جداً أن أذكر بعدة أمور. الأمر الأول: كثير من الناس يغفل عن الرقية الشرعية التي يقوم بها الإنسان نفسه حين يرقي نفسه أو أحداً من أهل بيته، وهذا يجب أن يتنبه له الجميع، إذا الإنسان عنده مريض فعليه أن يرقى هو، وأن يُخلص في رقيته وفي دعائه فإن الله سبحانه وتعالى ربما جعل مثل هذه الرقية سبباً للشفاء. أما ما يفعله كثير من الناس وهو أنه إذا وجد عندهم المريض تعلقت النفوس بغير الله سبحانه وتعالى سواء كانوا قراء أو أطباء! فلا، بل يجب على الأسرة أن تكون صابرة محتسبة، ويجب عليها أن تبذل الوسائل الشرعية ولا مانع من فعل الأسباب. الأمر الثاني: ليس كل من قيل عنه إنه يقرأ يذهب إليه الإنسان، بل يجب عليك أن تبحث عن القارئ الذي تعرف عنه الصلاح والتقوى، فإذا عرفت من حال القارئ أنه من أهل الصلاة وأنه من أهل الصلاح، فحينئذ لا مانع من أن تذهب إليه، لكن ما نجده اليوم من انتشار كثير من القراء وبعضهم لا يُعرف حاله، وبعضهم يستراب في أمره، ومع ذلك فإن الناس يتوافدون عليهم زرافات ووحداناً؛ نقول: إن مثل هذا الأمر مما يجب أن يُحتاط له وأن ينتبه له الناس، لقد تعلقت النفوس بغير الله سبحانه وتعالى، وأصاب الناس كثير من الوهن والضعف، فلنحذر من هذا الأمر، وإذا ما احتجنا وأردنا أن نطلب من أحد أن يقرأ فعلينا أن نبحث عن القارئ الذي نعرف صلاحه وتقواه، ويجب أن نتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر العظيم.

السحر والكهانة

السحر والكهانة الأمر الثالث وهو متعلق بالفقرة السابقة: انتشار السحر والكهانة في كثير من بلاد المسلمين، وهؤلاء السحرة والكهنة والعرّافون الذين يدعون علم الغيب، ويقولون إنهم يعالجون الناس بأنواع من العلاجات، هؤلاء كثروا لا كثّرهم الله تعالى. وينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] هذه الآية جاءت خبراً عن الناس في الجاهلية، فإن العرب كانوا في الجاهلية يخافون من الجن خوفاً شديداً، حتى أن الواحد منهم إذا نزل وادياً وهو في سفر خاف من الجن في هذا الوادي، فماذا يصنع؟ يتعوذ من سفهاء هذا الوادي بسيد هذا الوادي من الجن، فإذا نزل قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فماذا فعلت الشياطين؟ لما رأت الشياطين أن هؤلاء يخافون منهم هذا الخوف تسلطوا عليهم فزادوهم رهقاً وتعباً وطغياناً. تعالوا إلى الحالة اليوم لما أن الناس ضعف إيمانهم تعلقت نفوسهم بغير الله سبحانه وتعالى، وصاروا يخافون من غير الله تبارك وتعالى، فماذا حدث؟ تسلطت الشياطين، وتسلط السحرة وكثروا، وصاروا يفتنون الناس، وزادوهم تعباً ومشقة ورهقاً. وهذا أيها الإخوة في الله أمر خطير جداً يجب أن ينتبه له الجميع، والواجب في مثل هؤلاء السحرة أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى وهو كفر على القول الراجح؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إلى آخر الآية، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نعلم أن هؤلاء يجب أن يُحذر منهم الحذر الشديد، فهؤلاء السحرة يدّعون علم الغيب، وادعاؤهم لعلم الغيب هو ادعاء كاذب؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فلا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له. إذاً: كيف يدّعون؟ عن طريق الشياطين، حينما يأتي ضعيف من ضعفاء النفوس عنده مريض فيقال له: هناك رجل يعالج في المكان الفلاني فاذهب إليه، وهذا الرجل ساحر، فتأتي الشياطين إلى ذلك الساحر وتخبره، وتقول له: سيأتيك فلان اسمه فلان ابن فلان، وأمه اسمها فلانة، وخالته اسمها فلانة، وجرى له قبل عشرة أيام كذا، وقبل سنة كذا؛ فيدخل هذا المسكين على هذا الساحر، فإذا دخل عليه وجلس بين يديه، قال: أنت اسمك فلان ابن فلان؟ جرى لك كذا وكذا؟ جدك اسمه كذا؟ جرى لكم كذا؟ فإذا بهذا الإنسان يُدهش ويسقط بين يديه، ويظن أن هذا الساحر قد امتلك قدرة عظيمة منها علم هذه المغيبات؛ لأنه قد يخبره بأشياء لا يعلمها أقرب الناس إليه، بل حتى جيرانه وبعض أقاربه لا يعلم هذا، فكيف علمها هذا الرجل الذي يعيش في تلك البلدة النائية؟ ولقد حدثني أحدهم وكان مريضاً قال: ذُكر لي طبيب في إيطاليا، فذهبت إليه للعلاج في إيطاليا، فلما دخلت عليه أخبرني من أسرار أسرتنا ما لا يعلمه أحد، أقول: فمن الذي أخبر هذا الساحر الكاهن في روما؟ إن الذي أخبره هي الشياطين. فهؤلاء السحرة يدّعون علم الغيب، ويستعينون بالشياطين، ولا يستعينون بهم إلا حينما يقعون في الشرك ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن ثم فإنك تجدهم أحياناً يطلبون من الشخص أن يذبح ذبيحة ولا يذكر اسم الله عليها؛ لتكون ذبيحة لغير الله، وهذا هو الشرك. فينبغي أيها الإخوة أن ننتبه لهذه القضية، وأن هؤلاء السحرة الذين انتشروا وبلي الناس بهم يجب أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فيجب أولاً أن يحذّر منهم، ثم يجب ثانياً أن يردعوا عملياً وأن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم فيهم حكم الله وهو القتل فإن هؤلاء يرتدعون ويسلم الناس من شرهم، أما إذا تُركوا يعبثون بعقائد الناس فهذا ما لا يجوز السكوت عليه أبداً، ومن المحزن حقاً أن مثل هؤلاء السحرة لهم نفوذ حتى يقال إن كثيراً من زعماء العالم لكل واحد منهم كاهن وساحر يخبره عمّا يجري عليه وعمّا يمكن أن يجري ويقع، وتتعلق نفوس هؤلاء الكبراء بهؤلاء السحرة ويؤدي هذا إلى حمايتهم. والواجب أيها الإخوة أن نحذر من ذلك حذراً شديداً، وكثير من الناس يقع في شيء من هذا، ومن ذلك أن بعض الناس يذبح للجن خوفاً منهم أو تقرباً إليهم، حتى أنني سمعت من ذلك نماذج غريبة جداً حتى أخبرني أحد الإخوة أنه سمع إحدى الإذاعات العربية تقول: ذهب أمير المنطقة الفلانية إلى مزار سيدي فلان، وكان معه الأبقار وذبحوها عند قبر السيد وكأنه خبر إسلامي، وكأن هذا الخبر من الأمور المسلّمة عندهم، وهذا أمر خطير جداً. ومن ذلك أيضاً أنني أُخبرت أن بعض الناس إذا أراد أن ينزل منزلاً جديداً يذبح ذبيحة وينثر دمها على أسوار البيت، وأحياناً ينثر دمها على أسوار البيت أيضاً من الداخل ويظن أنه إذا سكن البيت دون أن يذبح هذه الذبيحة ربما أُصيب هو أو أولاده بما يمكن

الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم

الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأمور التي تتعلق بهذا الموضوع، أقصد موضوع تحقيق التوحيد ووجوبه: الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر في هذه الأيام، لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، بل يجب على الإنسان أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من محبته لنفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فجاء بعض الناس ليقولوا إن هذه المحبة لا تتحقق إلا بأن تتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع كثير من هؤلاء في الشرك، وهذا أمر خطير يحتاج إلى تفصيل مستقل، لكنني أذكر به في معرض هذه الفتنة التي وجدت عند بعض المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تعليق التماثيل والنصب التذكارية

تعليق التماثيل والنصب التذكارية ومن ذلك أيضاً: تعظيم التماثيل والنصب التذكارية وغيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصوير؛ لأنه من وسائل الشرك، فالتصوير الذي يؤدي إلى وجود تماثيل أو غيرها وسيلة من وسائل الشرك كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح، وكيف وقع فيهم الشرك كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وتعظيم التماثيل من الأمور التي يجب أن يُنتبه لها؛ لأن كثيراً من الناس يدخلها في باب الآثار، وباب الآثار باب عريض، قد يدخل فيه الآثار التي يكون الاهتمام بها أمراً مباحاً، لكن كثيراً ما يدخل فيها بعض الآثار التي تُعظَّم وتُقدّس ويؤدي تعظيمها إلى أنواع من التعلق بها، وتعلمون أنتم ما يجري فقد يأتون بلوحة عبث فيها ملحد أو نصراني فخطها قبل ثلاثين سنة أو مائة سنة أو مائة وخمسين سنة فتباع بالملايين من الدولارات، ولو عُثر على صنم هبل الذي قد كسر لبيع بملايين، فتعظيم الآثار وخاصة آثار الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي أحياناً إلى أنواع من التعلق بها والشرك بها، وهذا مدخل خطير يجب أن نحذر منه جميعاً. أيها الإخوة في الله! ينبغي أن نعلم أن تحقيق التوحيد ضروري لبناء الإيمان، وأن من أعظم الأمور التي لا بد منها في تحقيق هذا التوحيد هو الحذر من الشرك الأكبر والأصغر بجميع أشكاله وصوره، ولنعلم أن الأمر خطير وأنه مدخل من المداخل الخطيرة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيني وإياكم شرها، وأن يرزقني وإياكم تحقيق التوحيد، وأن يجعلنا ممن يموت على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، غير واقع في شرك ولا في غيره مما يضاد هذا التوحيد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

التركيز على التوحيد والجهل بأمور الدين الأخرى

التركيز على التوحيد والجهل بأمور الدين الأخرى Q يوجد أناس يقولون: التوحيد قبل كل شيء، فلا تطلب العلم إلا بعد التوحيد وبعد ذلك تعلم ما بدا لك، فتجده جاهلاً في كثير من أمور دينه؛ لأنه أهملها وركز على التوحيد، فما رأيك يا شيخ في هذه الحالة؟ A الحقيقة هذه الحالة وغيرها ينبغي أن يُنظر فيها من خلال ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ما هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما هي سيرته في هذا الأمر فنقول: لا شك أن تحقيق التوحيد وبناءه والتركيز عليه لا بد منه، لكن من قال إنك وأنت تركز على التوحيد تُهمل غيره؟ ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات والدين كامل، يعني بعد فرض الصلاة هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل وأسلم قال علموه التوحيد والبعد عن الشرك، ثم قال بعد شهرين أو ثلاثة ائتوا به نعلمه الصلاة؟ لا، وإنما كان صلى الله عليه وسلم إذا شهد شهادة الحق علمه الوضوء والصلاة؛ لأن الوضوء والصلاة توحيد، فالانفكاك بين هذه الأمور خطأ. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما أن ارتدت الجزيرة العربية وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وتولى الخلافة من بعده، ماذا فعل المرتدون؟ قسم من المرتدين اتبعوا المتنبئين الكذابين، فهؤلاء منكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو مقرون معها بنبوة غيرهم فهم مرتدون، لكن قسم آخر منهم قال: نحن على الإسلام ونؤدي الصلاة، لكن هذه الزكاة لا نؤديها، فهل قال أبو بكر أهم شيء عندنا التوحيد؟ فما داموا يقرون بنبوة محمد فهذا الذي نركز عليه؟ ولهذا قال عمر واحتج على أبي بكر كما هو معروف، في حديث: (أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). ورأى بعض الصحابة أن يُترك هؤلاء الذين منعوا الزكاة، لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة) وقاتلهم على ذلك، فهل فِعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هنا هذا إلا سنة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ويقول: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). لهذا فإنني أقول: إن مثل هذه القضية وهي قضية التركيز أو غير التركيز يخطئ البعض في فهمها وفي تطبيقها أحياناً، وإلا فلا أظن أن هناك خلافاً بين من يفقهون دين الله أن أي أمر لا بد أن يبنى على العقيدة، وأنك حينما تجد مجتمعاً ضعفت فيه العقيدة أو كثرت فيه الشركيات يجب عليك أن تركز على هذه الشركيات، لكن مع ذلك تدعوهم إلى الله وإلى غيرها فشعيب دعا قومه إلى لا إله إلا الله ودعاهم إلى: {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] والأمر إن شاء الله واضح.

حكم من أتى كاهنا يسأله من باب حب الاستطلاع

حكم من أتى كاهناً يسأله من باب حب الاستطلاع Q لو ذهب شخص إلى أحد الكهنة لكي يخبره عن المولود القادم له، هل هو ذكر أم أنثى، وما ذهب لذلك إلا حباً للاستطلاع لكنه لا يصدّق ما يخبر به، فما حكم ذلك؟ A ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمد)، وفي بعض الروايات: (من أتى كاهناً) بدون (فصدّقه)، فإتيانه حرام لا يجوز؛ أولاً لأن فيه تكثيراً لسواده وتعظيماً له؛ وثانياً وهو الأخطر: أن فيه جانب اعتقاد أنه يعلم الغيب، وإلا لما ذهبت إليه، لماذا لم تذهب إلى غيره وتقول: هل مولودي ذكر أو أنثى؟ إذاً: ما ذهب إلى هذا الكاهن إلا وهو يظن أنه ربما يصدق في قوله، ونحن نعلم أن الكهنة في الجاهلية كانوا يسترقون السمع، يركب الجن فوق بعض حتى يصلون إلى السماء فيسمعون الوحي، فإذا سمعوا به ربما قيل يؤمر السحاب بأن يُمطر بلد بني فلان في يوم الثلاثاء، فأحياناً يُدركه الشهاب فيحرقه، وأحياناً يبلّغه قبل أن يُدركه فتصل إلى الكاهن فيقول الكاهن: يوم الثلاثاء يأتي مطر لبني فلان، قال صلى الله عليه وسلم: (فيضيف إليها تسعة وتسعين كذبة) وكل الكذبات يتبين كذبه فيها؛ لكن لأنه صدق في تلك المرة تتعلق النفوس به، فيقال: ألا ترون أنه صدقنا في يوم كذا؟ لكن بعد ذلك حُرست السماء، فلا مجال لاستراق السمع أبداً، أي أنه لا مجال لأي إنسان مهما بلغت قدرته أن يطّلع على الغيب، لكن أن يطّلع على ما يمكن أن يُطلّع عليه بالأسباب هذا أمر لا شيء فيه، لكن أن يطّلع على الغيب فلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فمن أتى كاهناً فهو ضعيف الإيمان في هذا الجانب.

حكم اتباع الهوى

حكم اتباع الهوى Q هل كل من اتبع هواه يُعد مشركاً؟ A اتباع الهوى درجات، فاتباع الهوى إذا أدى بالإنسان إلى الكفر بالله أو الوقوع في أنواع من الشرك فهذا يقال اتبع هواه وأدى به إلى الكفر، وما نزل عن ذلك فهو بحسبه، فمن اتبع هواه مثلاً وقصّر في العبادة فنقول: هذا متّبع لهواه، أي أنه مقصّر في هذه العبادة، وهكذا فالأمر في هذه المسألة على درجات، وينبغي أن يُنتبه لذلك؛ لأن بعض الناس يعمم، ويقول: من اتبع هواه فقد اتخذه إلهاً من دون الله فهو كافر، فيدخل فيه مثلاً من اتبعه هواه في مسألة أو في أمر دنيوي أدى به إلى كسل عن صلاة أو كسل عن واجب، فهذا الاتباع لا يقال عنه إنه شرك، وبعض الناس على العكس من ذلك فنقول: الأمر فيه تفصيل.

حكم الاستغاثة بمن يقدر على إنقاذه لكنه لا يسمعه

حكم الاستغاثة بمن يقدر على إنقاذه لكنه لا يسمعه Q لو استغاث شخص برجل قادر ولكنه لا يسمعه حالة استغاثته، فما حكم ذلك؟ A إذا كان نطقه بهذا الكلام عند من سيبلّغ ذلك الرجل القادر فهذا مثلما لو كان حاضراً، فهذه من الأسباب المعروفة في حياة الناس ولا شيء فيها، أما إذا استغاث به وهو يعلم أنه لا يسمعه وليس هناك أحد يبلّغه فهو في هذه الحالة بحسب اعتقاده في هذه المقالة، وأقل أحوالها أن تكون من الشرك الأصغر.

حكم علاج السحر بالسحر

حكم علاج السحر بالسحر Q كثير من الناس يُصاب بسحر أو يتوهم أنه مصاب بسحر فتضيق عليه الأرض وكذا على أهله، فيضطر هو وأهله إلى الذهاب إلى السحرة والكهنة ليحلوا ذلك السحر، وإذا قيل لهم إن هذا كفر أو شرك قالوا: إذا رجعنا تبنا إلى الله عز وجل، وما الطريقة المثلى أو الطريقة الشرعية لحل السحر؟ A هذا السؤال مهم وينبغي أن نعلم أنه كما أخبر الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] السبب هو ضعف الإيمان، وضعف الإيمان يؤدي بالإنسان أحياناً إلى الوهم، لو قيل لإنسان أصيب مثلاً في ليلة أو ليلتين بالأرق: أكيد أنه أصابتك عين أو أصابك سحر! فصدّق فتوهم فإنه لا يمكن أن يبيت لا يمكن أن ينام، يصبح هاجسه ليلاً ونهاراً هذا المرض، بينما الرجل ليس فيه مرض، لكن لما قيل له ذلك ربما صدّق فأدى به إلى هذا، ولهذا تجد كثيراً من الأمراض في بدايتها سهلة عادية، لكن تتعقد بالوهم، وهذا معروف حتى في المرض العضوي الإنسان إذا أُصيب بمغص في بطنه، أو بجرح معين أو شيء من ذلك! إذا أعطاه قدره المناسب له، تشجع الرجل وصار يأكل ويأخذ بالأسباب ونفسيته طيبة، لكن لو قيل له: لا، هذا فيه مرض خطير، بدأ الوهم عنده، وتعلمون أنتم أن الوهم يهد الإنسان خلال ساعات، بل خلال وقت قصير، فإذا هُد هذا المريض وصار لا يأكل وصار مهموماً ومغموماً مرض واشتد مرضه وضاق صدره وصدر أهله، بل إنك تجد الإنسان وهو في أشد حالات المرض في المستشفى لأنه واهم وخائف، فإذا جاءه الطبيب وقال له: الحمد لله، لقط أظهرت التقارير أنه لا شيء فيك، فكأنما ينشط من عقال، فإذا به يجلس ويحدث من حوله، ويبتسم، ويشتهي ويأكل وتتحسن حالته، والعكس بالعكس، فهذه واحدة. الأمر الثاني: أن من وقع عليه ابتلاء في مثل هذه الأمور مما ذكره السائل، يجب على العبد أن يتقي الله سبحانه وتعالى: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم) وما من داء إلا وله دواء، وليس هناك مرض إلا وله دواء إلا السام وهو الموت، أما ما عدا ذلك فله دواء، وهذا الدواء شرعي، وحينئذ فإنني أقول: إن من ابتلي بمثل هذا المرض فعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى. أولاً: لا يجوز له أن يذهب إلى هؤلاء السحرة، وخداعه لنفسه أنه يقول: إذا رجعنا نتوب! هذا كلام خطير يُخشى على صاحبه، مثل ذلك الشخص الذي يقول: أقع في المعصية وأتوب، سبحان الله! وإذا جاءك الأجل وأنت على المعصية فماذا ستقول لربك سبحانه وتعالى؟ كذلك أيضاً نقول لهؤلاء لو وقع حادث سيارة وأنتم راجعون ومتم لم تدرككم التوبة، فاتقوا الله سبحانه وتعالى. ثانياً: يجب على هؤلاء أن يبحثوا عن الرقية الشرعية، ومثل السحر وغيره توجد رقى شرعية، هذه الرقى تنفع مع الإخلاص والتعلق بالله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يشفي صاحبه، وقد تكون إرادة الله أن يُبتلى هذا الرجل وأن يستمر عليه البلاء زمناً، فلا ييئس الإنسان. فينبغي يا أيها الإخوة أن ننتبه لهذه القضية، فلا يجوز الذهاب إلى هؤلاء، ولا يجوز علاج السحر بسحر مثله على القول الراجح وخاصة في هذه الأيام التي انتشر فيها هؤلاء السحرة.

حكم من يعلم بمشعوذ ولا يقدر على إزالته

حكم من يعلم بمشعوذ ولا يقدر على إزالته Q ما حكم من يعلم عن حال مشعوذ يفد الناس إليه جماعات لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً، فما الواجب عليه؟ A القول بأنه لا يستطيع غير صحيح، فعليه أن يبذل، أن يأتي إلى أهل الخير والعلم من أبناء هذه المدينة الذي هو فيها أو القريبة منها ويشرح حاله ويحذّر منه، وكما أشرت في أثناء هذا الدرس فإن من المهم أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى ضرورة حتى لا يستفحل شرهم وقد استفحل.

حكم الرقية بغير اللغة العربية

حكم الرقية بغير اللغة العربية Q إذا كان من يرقي لا يجيد اللغة العربية، فهل يرقي بغير اللغة؟ A لا يجوز، وقد ذكرنا أنه من شرطها أن تكون باللغة العربية.

المعاصي والرياء بريد الكفر

المعاصي والرياء بريد الكفر Q نود منك أن تبين صوراً للرياء تقود فاعلها إلى الشرك الأكبر؟ A كل المعاصي قد تقود إلى الشرك الأكبر، كم من شاب قادته الشهوة إلى ذلك، بمعنى أنه أتاه صديق له وقال: تعال، فوقع في الزنا، والزنا معصية من المعاصي وكبيرة من الكبائر، إذا تاب منها الإنسان فالله يتوب عليه ولا يكفر صاحبها، لكن قد تأتي هذه المعصية حين يبدأ بها من خلال أصدقائه، فيؤدي به الأمر أحياناً إلى ترك الصلاة، وهذا يقع، ومن وقع في شرب الخمرة أو وقع في الزنا ونحو ذلك غالباً ما يؤدي به نعوذ بالله إلى ترك الصلاة، وهذا بحد ذاته كفر، بل قد يكون ما هو أشد من ذلك، قد يؤدي به إلى الاستهتار بالدين والاستهزاء بالدين، وهذا أيضاً ردة، قد يؤدي به أحياناً إلى أنه لا يستطيع أن يتحلل هذا التحلل إلا من خلال الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا واقع، بل كثير من دعاة الإلحاد والكفر بالله سبحانه وتعالى يدخلون إلى الشباب عن طريق الشهوات، فبدأه بمعصية وانتهى إلى كفر بالله سبحانه وتعالى السائل سأل عن الرياء؟ نقول: نعم، قد يبدأ الرياء خفيفاً مع الإنسان فيبطل صلاته أو عبادته أو جزءاً منها، لكن قد يستحكم عليه، ثم يبدأ هذا الإنسان لا يعمل لله، ربما كثر الأتباع له ونظر الناس إليه فصار في الخفاء يجاهر ربه بالمعاصي، وأمام الناس يتظاهر أنه من الأتقياء، فتأتيه النفس وتقول: إنك تضحك على الناس فاضحك على ربك أيضاً! فيبدأ ولا حول ولا قوة إلا بالله يتظاهر بهذا الرياء، وهو في الحقيقة إذا كان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى ربما لا يؤدي الصلاة أو لا يؤدي بعض العبادات الواجبة.

علاج الرياء

علاج الرياء Q شخص ابتلي بالرياء فما العلاج لذلك؟ A العلاج لذلك الرقابة الشديدة على القلب وأنت تعمل هذه الأعمال التي تخشى من الرياء فيها، ومقتضى ذلك أن توقن يقيناً تاماً أن هؤلاء الناس لا يستطيعون أن ينفعوك بشيء، ومن ثم فإنك إذا راءيتهم خسرت الآخرة فلا ثواب لك، وخسرت الدنيا أنك لم تعمل هذا العمل لوجه الله تعالى، فلم ينفعك عملك في زيادة إيمانك وفي تقوية قلبك، ومن هنا فإنني أقول: يا أيها الأخ العزيز إذا خشيت من هذا فعليك أن تعالج نفسك بنفسك من خلال أمور: الأول: أن تحرص كثيراً على أن تكون عباداتك الخاصة لوحدك، كالعبادات التي هي نوافل. الأمر الثاني: أن تجاهد نفسك عند عمل الطاعة إذا كان لا بد من عملها أمام الناس، فتجاهد نفسك ولا تستتر للشيطان، فإن الشيطان قد يأتيك ويقول لك: إنك ترائي، فعليك أن تراغمه وأن تستمر في عبادتك. الأمر الثالث: أن تدعو ربك سبحانه وتعالى أن يعصمك من مثل هذا الأمر، وأنا أخشى أن يكون مثل هذا وهماً، أعني أن الشيطان يريد أن يفسد عليك عباداتك فيقول لك: إنك ترائي، ويريد أن يُفسد عليك العبادة حتى تتركها أو حتى تتخلى عن الصالحين ولا تجالسهم فالأولى مراغمة الشيطان وأن تحرص كل الحرص على أن تُحضر قلبك ليكون مخلصاً لله تعالى في هذه العبادة، والله تبارك وتعالى يتولاك.

حكم تعليق القرآن أو الأذكار في السيارات

حكم تعليق القرآن أو الأذكار في السيارات Q انتشر في هذه الأيام عند بعض الناس وضع المصحف في السيارة أو تعليق بعض الآيات أو الأحاديث، أو وضع بعض الملصقات التي فيها آيات قرآنية، فهل هذه تُعتبر من التمائم؟ وهل ما يوضع من الأدلة الواردة في السنة كدعاء الركوب من ذلك؟ A أظن أن بعض هذه الأمور يدخل في هذا، مثل الذي يضع المصحف في مقدمة السيارة أظنه يقصد أنه تميمة، فإذا كان قصده ذلك فيدخل في الحكم الذي رجّحنا أنه لا يجوز، أما ما عدا ذلك من الأشياء المعلقة فهي بحسب مقصدها، إن كان قصده أن يتذكرها، بمعنى أنه إذا ركب السيارة تذكر الدعاء فمثل هذا إن شاء الله لا بأس به خاصة إذا لم يكن آية قرآنية، أما إذا كانت آية قرآنية مثل آية الكرسي وغيرها فحكمها حكم اللوحات التي تعلق أحياناً في البيوت وغيرها، وهذه الأمور مما اختلفت فيها الفتوى بالنسبة للمشايخ حفظهم الله تعالى، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أن مثل هذه اللوحات تتحول إلى نوع امتهان لها، وهذا الامتهان إما أن يكون من خلال أن توضع كأواني، وأحياناً يمتهنها الأطفال، وأقل أحوالها أنها تتحول إلى زينة فقط، فلا تُقرأ ولا أحد يلتفت إليها، وإنما تحولت إلى مجرد زينة، وهذا مما ينبغي أن ينزه عنه كلام الله تعالى.

حكم تعليق الأدوية العشبية على الطفل

حكم تعليق الأدوية العشبية على الطفل Q هل ما يعلق على الطفل من الأدوية العشبية خشية من الأمراض يعتبر من التمائم المحرمة؟ A نعم، بل هو من أشدها، ولا شك أنها لا يجوز؛ لأن مثل هذه الأمور يظنون أنها تحمي، فالاعتقاد بأنها تحمي كتعليق الخرزات، أو سلسلة مغناطيسية، أو غير ذلك يظن أنها تحمي، فهذا كله مما لا يجوز.

حكم الحلف بآيات الله

حكم الحلف بآيات الله Q هل الحلف بآيات الله عز وجل يعتبر من الشرك، وخاصة إذا كان يقصد الآيات الكونية؟ A إذا كان يقصد آيات كونية، وقصده مثلاً كأنه يحلف بالسماء أو يحلف بالشمس، فهذا لا شك أنه حلف بغير الله، أما إذا كان يحلف بآيات الله أي القرآن فهذا جائز.

حكم الحلي التي على شكل كتاب

حكم الحلي التي على شكل كتاب Q انتشر في الآونة الأخيرة بعض حلي النساء يُعلّق على رقابها على شكل كُتيب صغير، فهل هذا من الرقى والتمائم؟ A حسب مقصدها، إذا كان هذا الكتيب الصغير لا يقصد بأنه مصحف أو لا يقصد به أنه يحمي فهذا من الأمور التي هي زينة جائزة؛ لأنه أحياناً تأتي على شكل من الأشكال المصورة من كتاب وغيره فهذا لا بأس به، أما إذا قُصد التميمة فالأمور بحسب مقاصدها؛ لأنه حتى الحلي التي ليس فيها شكل كتاب ولا غيره لو قصدت به صاحبتها أنها تحميها لتحولت إلى تميمة، ومن ثم فلا تجوز.

حكم من يرمي بعض الطعام عن العين إذا مر عليه شخص وهو يأكل

حكم من يرمي بعض الطعام عن العين إذا مر عليه شخص وهو يأكل Q بعض الناس إذا مر عليه شخص وهو يأكل رمى بعض الطعام ويقول: عن العين، فما حكم ذلك؟ A لا دليل عليه، وهذا من ضعف الإيمان.

أنواع المحبة ودرجاتها

أنواع المحبة ودرجاتها Q بعض الناس يُفرط في الحب في الله عز وجل بحيث يتعدى الحدود الشرعية كأن يقدم محبة الشخص على الوالدين، أو أن تكون النتيجة ترك بعض السنن أو عمل بعض المكروهات؟ A ينبغي أن يفرق بين أنواع ثلاثة من المحبة: النوع الأول: محبة العبادة، فهذه يجب أن تكون خالصة لله، فالله تعالى هو وحده يُحب لذاته، ومن ثم فالطاعة له وحده لا شريك له، وكذلك أيضاً مقتضيات المحبة الأخرى. النوع الثاني: المحبة في الله، وهذه المحبة على درجات، أعلاها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن يُقدم على محبة النفس والولد والوالد، ثم يأتي على إثرها كل محبة في الناس، محبة الطاعات، محبة أخيك المؤمن، محبة الصحابة، محبة كل من عمل صالحاً من المؤمنين؛ هذا كله مما يقوي الإيمان، فهذه الأنواع من المحبة هي إيمان؛ لأنها في الله. النوع الثالث من المحبة: المحبة الطبيعية، مثل محبة الولد، ومحبة الوالد، ومحبة الوالدة فهذه محبة ركّبها الله سبحانه وتعالى في طبيعة البشر، بل إنها موجودة في البهائم والطير وغير ذلك، فهذه المحبة لا يأتي قائل ليقول: إن هذه المحبة تخالف تلك المحبة، وإنما ننظر إليها من خلال درجاتها، فمن قدّم مثلاً محبة الولد على محبة الله يُشبه من قدّم محبة المال أو محبة الزوجة على محبة الله تعالى بحيث يؤدي به إلى ترك عبادة الله وحده لا شريك له فنقول: إن هذا التقديم لهذه المحبة خطر على صاحبه قد يؤدي به إلى كفر وقد يؤدي به إلى أنواع من الفسق أو المعاصي، فهي على درجات كما سبق أن بيّنا.

قواعد وضوابط في الشرك

قواعد وضوابط في الشرك Q لو ذكرت لنا بعض القواعد والضوابط في تمييز الشرك عن غيره، وفي تمييز الشرك الأكبر عن الأصغر؟ A ليس هناك قواعد وضوابط بحيث توضع هذه القاعدة وتأتي عليها الأنواع كلها، وإنما الأمر يحتاج إلى شيء من الاستقصاء؛ لأننا مربوطون بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن بعض هذه الأمور قد تكون شركاً في شريعة ولا تكون شركاً في شريعة أخرى، فالسجود مثلاً للاحترام والتقدير كان جائزاً كما في قصة يوسف مع أخوته، لكنه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم شرك أكبر، ولهذا كما في الصحيح: لما قدم معاذ من الشام وأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة هيبته وفرحه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله إنني كنت في الشام فرأيتهم يسجدون لرهبانهم وقساوستهم فأنت يا رسول الله أحق بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، فلو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فصار السجود لغير الله من العالم به شركاً وكفراً أكبر. صحيح أن هذا يدخل في المعاني وتمييز الأمور وضبطها، لكن أيضاً لا بد من النظر فيه إلى الأدلة، عندما نقول: عبادة غير الله شرك القصد بأي نوع من أنواع العبادة، فما يأتينا أحد ليقول لا بد أن تستقصي كل هذه الأمور بحيث يكون هذا الأمر شاملاً شمولاً كلياً، وإنما يُذكر من ذلك الأمثلة ويميز بين ما كان أكبر وما كان أصغر أيضاً بالدليل، ولهذا تجد مثلاً إرادة الإنسان بعمله الدنيا، أو ما ذكرناه قبل قليل مثل اتباع الهوى على درجات، أو المحبة، أو الخوف من غير الله الإنسان يخاف من السبع ويخاف من النار، هل نقول هذا وقع في الشرك الأكبر؟ لا، وإنما نقول: الخوف من غير الله سبحانه وتعالى على درجات، فإن كان هذا الخوف من غير الله سبحانه وتعالى في أمر لا يقدر عليه ولا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى! فهذا قد يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر، وإن كان في أمر يخاف منه الإنسان عادة فهذا من الأمور العادية، وإن كان في أمر مما بين ذلك فهذا دال على ضعف إيمانه وقد لا يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر، وهكذا بقية الأمور.

ضعف التوحيد عمليا

ضعف التوحيد عملياً Q كثير من الناس يعرف التوحيد علمياً ولكن قل من يعرفه عملياً، كيف العلاج لذلك؟ A هذا مرض عضال؛ لأن بعض الناس التنظير الذهني عنده جيد، لكن إذا جاء إلى الأمور العملية اختلطت عليه الأمور. كثير من الناس فيما مر من أزمة سابقة قيل: هؤلاء تربوا على التوحيد، بل يحفظون كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويستطيع الواحد أن يشرح لك لمدة نصف ساعة أو أكثر، ثم لما جاء الأمر إلى تطبيق عملي وقع بعض الناس في أنواع من المخالفات، فتعلقت النفوس بغير الله، حيث ظن أن هذا الشخص أو هذه الجهة أو هذه الدولة ربما تحميه من النار، ظن أنه حينما يهرب من هذا المكان أنه ينجو من الموت، وهذا كله دليل على ضعف الإيمان، فعند التنفيذ العملي ضعف إيمانه، ولهذا نحن نقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التوحيد، وأن يعيذنا من الفتن؛ لأن الإنسان قد يبتلى، وعند الابتلاء قد يقوى الإنسان على المواجهة وقد لا يقوى.

حكم استخدام الذئب في علاج الجن وحكم أخذ الأجرة على الرقية

حكم استخدام الذئب في علاج الجن وحكم أخذ الأجرة على الرقية Q بعض الناس الذين يقرءون يستخدمون الذئاب في علاج بعض الأشخاص لإخراج مس الجن، وما حكم أخذ الأموال على ذلك؟ A أما الرقية الشرعية فالصحيح جواز أخذ المال للحديث الصحيح الذي فيه أن الصحابة رقوا الرجل الذي لُدغ فأعطوهم مقابل ذلك أغناماً، لكن العلماء يتكلمون في الاشتراط المسبق، أما إذا أُعطي فلا شيء فيه إن شاء الله تعالى، ولكن ينبغي للقارئ المخلص أن يتجنب هذا الأمر وأن يجعل قراءته خالصة لوجهه تعالى؛ لأنه مدخل لهوى النفس والتعلق بالدنيا والتعلق بالمال كما يحدث للبعض، نسأل الله لنا ولهم العافية. أما ذلك الذي يقرأ ويستخدم بعض هذه الأشياء فنحن نقول: إن هذا الأمر يترك للتجربة، إذا كان يظن أن الجن تنفر من هذا الشيء فهذا متروك للتجربة، لكن على ألا يُعتقد فيه؛ لأن بعض الناس سمع ما ذكره السائل فاقتنى ذئباً، وبعضهم اشترى ذئباً وقطع رأسه وحنّطه وأبقاه في بيته، وبعضهم بحث عن جلد الذئب ليجعله في بيته وهذا كله من الأمور التي هي مضعفة لتحقيق التوحيد.

حكم قول القائل في ذمتك ونحوه

حكم قول القائل في ذمتك ونحوه Q ما حكم قول القائل: في ذمتك أو أمانتك، أو قول بعضهم: في ذمته ليفعلن كذا؟ A هذا حلف بغير الله، بل هو أخطر من الحلف بغير الله، فينبغي أن يتجنب.

حكم قول القائل إنه ما صدق على الله

حكم قول القائل إنه ما صدق على الله Q ما حكم قول القائل: أنه ما صدّق على الله، من الناحية الشرعية؟ A الذي يظهر أن مثل هذه العبارة وإن كان التعبير عنها عامية فيه شيء من الغموض، لكن الذي يظهر أنه لا شيء فيها؛ لأن قصد صاحبها أنني ما كنت أتوقع هذا، ثم تبيّن لي أن هذا قد كتب وقدر، ما كنت أتوقع أن فلاناً يأتي فإذا بي أراه في هذا المكان إلى آخره، فأقول: لو اجتنبت هذه العبارة لكان أولى، لكن من قالها فالذي يظهر أن قصده فيها لا شيء فيه.

حكم النظر إلى المسلسلات في التلفاز

حكم النظر إلى المسلسلات في التلفاز Q ما حكم النظر إلى المسلسلات التي تظهر في التلفاز، وخاصة أن في بعضها بعض الأمور التي تخالف الشريعة، أو الإشراك بالله عز وجل؟ A إذا كان فيها محرمات فلا تجوز، وإذا كان فيها شرك فلا تجوز، إذا كان فيها نساء فلا يجوز النظر إليهن، هذه كلها واضحة الدلالة.

حكم الأجرة على تعليم القرآن

حكم الأجرة على تعليم القرآن Q ما حكم أخذ الأجرة على الرقية استناداً على حديث: (إن خير ما أخذتم عليه أجراً هذا القرآن) وأنه إنما يكون في الرقية فقط كما يراه المحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني؟ A أخذ الأجرة على الرقية مسألة خلافية، وكذلك هل تجوز أخذ الأجرة على تعليم كلام الله؟ أما أخذ الأجرة لأجل أن يقرأ، مثل لو جاء إنسان وقال: يا فلان اقرأ لي سورة البقرة بمائة ريال، فيأتي هذا فيقرأ له سورة البقرة لأجل المائة، فالذي يظهر أنه لا يجوز، لكن أخذ الأجرة على التعليم مسألة خلافية بين العلماء، والذي يظهر والله أعلم جوازها، لكن ينبغي أن يكون معلوماً لدى المؤمنين الأخيار أنه لا ينبغي أن يلجأ معلم القرآن إلى مثل هذا، إذا كان هناك معلم للقرآن فالأولى له أن لا يُلجأ إلى أن يطلب هذا الأمر وتكون أجرة ومفاصلة وغير ذلك، وإنما يُعلِّم ويُعطى ما يكفيه من رزقه، هذا الذي ذكره العلماء، وهو الأمر الطيب الذي يجب أن يُسلك.

أفضل شروح الطحاوية

أفضل شروح الطحاوية Q ما أفضل الشروح للعقيدة الطحاوية، خاصة من ناحية التصحيح والتعليق والتخريج؟ A أفضل الشروح هو شرح ابن أبي العز الحنفي، وأما عن التعليق فأقول: هما طبعتان من أفضل الطبعات: فالطبعة الأولى هي الطبعة المشهورة طبعة المكتب الإسلامي، وعليها تعليقات المحدث الشيخ الألباني، والطبعة الثانية هي الطبعة الأخيرة التي بتحقيق الشيخ تركي وشعيب الارنؤوط، وهذه الطبعة ظهرت منها الآن طبعة جديدة في مجلد واحد، فلعله استدرك فيها ما كانت عليها من ملحوظات.

حاجتنا إلى التربية

حاجتنا إلى التربية تكثر الشهوات وتتوالى الفتن والمغريات، ويتكالب أعداء الدين على إتاحة الفساد والعمل المؤسسي لإضلال الشباب، ومن هنا تأتي الحاجة للعمل من أجل هذا الدين بصورة جماعية، وذلك بأن يجمع الشمل وتتكاتف الجهود على تربية الشباب وتزويدهم بالمعاني الإسلامية والقيم الأخلاقية العليا.

الحاجة إلى التربية

الحاجة إلى التربية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله الله منقذاً للبشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومعلماً ومربياً للبشرية ومزكياً لها، وما عرفت البشرية معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً ولا تربية منه صلى الله عليه وسلم. أما بعد: أيها الإخوة! إن الحديث عن التربية حديث ملح، ومطلب له أهميته، ذلك أننا نشهد -ولله الحمد- في عالمنا الإسلامي صحوة إسلامية طيبة مباركة، هذه الصحوة التي تنوعت مظاهرها ومجالاتها، وعمت العالم بأسره، لا العالم الإسلامي وحده، إنها صحوة تعلن لكل متأمل وناظر لها أن الإسلام قادم؛ ليحكم حياة الناس، وأن الإسلام قادم ليتبوأ المكانة التي اختار الله سبحانه وتعالى هذه الأمة لها. وإننا ينبغي أن نقف وقفات طويلة مع أنفسنا، وأن نتمعن في مسيرة هذه الصحوة، وأن نراجع الحسابات بين الفينة والأخرى. إن العاطفة وحدها لا يمكن أن تكون مقياساً لمسيرتنا، ولا يمكن أن تكون قائداً لدعوتنا، إنها إذا لم تربط بالمنهج، والعلم الشرعي، والتربية، والاستقامة، قد تقودنا إلى مهالك. ومن هنا كان لزاماً علينا أن نتحدث عن التربية التي نحتاج إليها جميعاً، نحتاج إليها لأنفسنا، سواء كنا شباباً أو شيباً، رجالاً أو نساءً، يحتاج إليها المربي ليربي من ولاه الله أمانته ومسئوليته، أخاً كان أو تلميذاً أو ابناً، أو حتى هذا المجتمع العريض، إنه يتلقى تربيته من قادة هذا المجتمع خطيباً، أو متحدثاً، أو كاتباً، أو محاضراً. وعناصر هذه المحاضرة هي: مقدمة لا بد منها. ماذا نعني بالتربية؟ من يمارس التربية؟ سؤال يفرض نفسه. مسوغات مطالبتنا بالتربية. لم يكن أسلافنا بمعزل. نريد باختصار. مقدمة بين يدي هذا الموضوع: إنني حين أتحدث عن التربية هنا لست أتحدث حديث مختص، فلست أتحدث عن تلك التربية التي أصبحت علماً خاصاً له أصوله ونظرياته، وله قواعده ومنهجه في البحث، إنما نعني بالتربية هنا أن يسلك المرء بنفسه المنهج الشرعي، ويربيها على أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أخلاقيات هذا الدين. وما أطرحه هنا أيضاً ليس نظرية تربوية متكاملة، وليس حديثاً عن أبعاد التربية، وأهدافها، ومجالاتها، وجوانبها، إنني أريد أن أصل إلى نتيجة واحدة باختصار هي: أن يخرج السامع وهو على قناعة بأننا بحاجة إلى التربية. هذا ما أريد أن أتحدث عنه، ومن هنا فليس هذا وقت الحديث عن أهداف التربية، أو جوانبها، ومجالاتها، والأخطاء التربوية إلى غير ذلك، غاية ما نريد أن نصل إليه أن نقنع أنفسنا أننا بحاجة إلى التربية.

ماذا نعني بالتربية

ماذا نعني بالتربية إن التربية التي نتحدث عنها والتي ترد في مصطلحات الدعاة إلى الله عز وجل، ومصطلحات من يتخاطب مع جيل الصحوة هي أبعد من أن تكون نظريات فلسفية، أو مفاهيم سلوكية مجردة. إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءاً بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيماً وفق شرع الله سبحانه وتعالى.

من يمارس التربية

من يمارس التربية إن الإنسان أياً كان لا بد أن يتعرض للتربية، والتربية ليست بالضرورة تربية إيجابية، فقد تكون تربية سلبية، وقد تكون تربية على مفاهيم خاطئة، وقد تكون تربية منحرفة، لكن الناس كل الناس لا بد أن يتعرضوا للتربية، إما تربية ذات منهج وخطا واضحة، أياً كان هذا المنهج، قد يكون منهجاً للإصلاح والخير والاستقامة، وقد يكون منهجاً يراد به الإفساد، ويراد به الانحراف، كما نلمس الآن في المناهج التي تخاطب بها الأمة، حيث نشروا الفساد والرذيلة، وعملوا على محاصرة أبواب الخير، وهي -لاشك- جهود منظمة لإحداث إخلال تربوي في وسط هذه الأمة. ولعل جزءاً من الأمراض التي تعاني منها الأمة كان نتيجة لتلك التربية السلبية، أو تلك التربية السيئة المتعمدة، أقول: قد تكون التربية تربية مقصودة ذات أهداف وخطا واضحة، سواء كانت تربية إيجابية أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أموراً ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى. هذه التربية تمارسها طوائف شتى في المجتمع، وليس صحيحاً أن التربية منحصرة في إطار المؤسسات التربوية، فالمؤسسات التربوية جزء -ولاشك- ممن يمارس التربية، ولكننا حين نتأمل نجد أن الذين يمارسون التربية أصناف، الأب والأم في المنزل يمارسان التربية، أياً كانت هذه التربية، مقصودة أو غير مقصودة، فالأب أحياناً يساهم في تربية ابنه على الانحراف، وعلى عدم القيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، وعلى أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه، من خلال تلك القدوة السيئة التي يراها الابن من أبيه، أو من خلال ما ييسره الأب ويسخره لابنه من وسائل الإفساد، فهو هنا يمارس تربية سيئة. وقد يمارس الأب أيضاً تربية سيئة من جانب آخر، فيقتل شخصية الابن؛ فيخرج الابن مسحوق الشخصية، لا يمكن أن يستقل في تفكير ولا رأي ولا قرار، ويتعود الابن أن يكون مقلداً للآخرين، محاكياً للآخرين، ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار في حياته. وقد يربي الأب أو الأم الولد على الجبن والخوف والهلع، فيحسب ألف حساب لكلمة يريد أن يقولها، أو موقف يريد أن يعمله، وحين نعود إلى حياة السلف نرى كيف كان السلف يربون أبناءهم على الشجاعة والتضحية، وكيف كان الجبن والهلع صفة ذم ينتقص بها الإنسان عندما يذم ويهجى. وأحياناً يربي الأب ابنه على معاني الفضيلة، والحياء، والخلق الفاضل، والعفة، وعلى طلب العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي، المهم أن الأب يمارس تربية لابنه، سواء كان مثقفاً، أو كان غير مثقف، وسواء كانت تربية مدروسة ذات أهداف وخطط وبرامج واضحة، أو كانت تربية ارتجالية. والشيخ الذي يدرس العلم الشرعي هو الآخر يربي، وليس صحيحاً أن الشيخ في حلقته وفي درسه العلمي لا يزيد على أن يلقي جوانب علمية مجردة، بعيدة عن المفاهيم التربوية والسلوكية، بعيدة عن تربية المنهج العلمي عند الطالب. ولهذا عندما تتأمل وتقرأ في سيرة عالم من العلماء، ترى بصمات شيخه واضحة عليه، من خلال عباراته، ومن خلال ترجيحاته واختياره، ومن خلال جوانب الضعف العلمي لديه، ترى بصمات ذاك الشيخ الذي لازمه طويلاً ظاهرة عليه، سواء كانت سلباً أو إيجاباً؛ لأن الشيخ يمارس تربية مع التعليم. كذلك المؤسسات التربوية: المدارس، ودور الرعاية، والدور الاجتماعية، كل هذه المؤسسات التربوية أيضاً هي الأخرى تمارس التربية. وكذلك تجمعات الشباب، سواء كانت هذه التجمعات تجمعات خيرة، كفئة من الشباب يجتمعون على حفظ القرآن، أو على تدارس العلم الشرعي، ويكون بينهم تجمعات ولقاءات داخل المدرسة وخارجها، أو داخل الحي وخارجه، أم كانت من التجمعات الفوضوية، فتجمعات الأحياء والشوارع والسوقة هي الأخرى أيضاً تمارس تربية، فهي تربي المنتمي لهذه المجموعة على معانٍ سائدة داخل هذا الوسط الاجتماعي المصغر الذي تعيشه هذه المجموعة، وعادة ما تكون تربية مثل هذه المجتمعات -أعني مجتمعات الشوارع- تربية سلبية. المهم أن التجمعات أياً كانت تمارس تربية، وتصبغ الفرد من خلال هذا الجو العام السائد على هذه المجموعة، سواء كانت سلبية أو إيجابية. كذلك الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، فتصبح جزءاً مستقراً في كيان هذا الشخص، فأنت ترى مثلاً مجتمعاً ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعاً تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك. وبالعكس، ترى مجتمعاً تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضاً هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه. وكذلك وسائل الإعلام: التلفاز، الفيديو، الإذاعة، أياً كانت هذه الوسائل، فهي الأخرى تمارس تربية. والفرد نفسه يمارس تربية لنفسه، من خلال عبادته، وتعامله مع الناس، ومحاسبته لنفسه، ومن خلال تلك المعاني التي يغرسها في نفسه أياً كانت هذه المعاني. إذاً: فالتربية -كما قلنا- ليس صحيحاً أنه لا يمارسها إلا المؤسسات التربوية، أو الأساتذة،

القناعة بأهمية التربية

القناعة بأهمية التربية سؤال يفرض نفسه: إن الحديث عن التربية ووضع أسسها وأهدافها وبرامجها، كل ذلك فرع عن القناعة بجدواها، فما مدى قناعتنا بجدوى التربية؟ وما مدى شعورنا بأهمية التربية؟ إننا بحاجة إلى التربية، وإن جيلنا مهما ارتقى ومهما بلغ من مستوى فهو بحاجة إلى التربية. أقول: إننا يجب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، والقضية لا يمكن أن نجيب عليها بـ (نعم) أو (لا)، فمستوى القناعة يتفاوت عند الناس، فما لم يكن لدينا قناعة تامة بأهمية التربية، وحاجتنا إليها وضرورتها؛ فإن الحديث عن أهدافها وعن أسسها وبرامجها، والحديث عن الجوانب التربوية يعتبر من فضول الحديث؛ لأن هذا -كما قلنا- إنما هو فرع عن شعورنا وقناعتنا بأهمية التربية.

مسوغات المطالبة بالتربية

مسوغات المطالبة بالتربية

كثرة الفتن والمغريات

كثرة الفتن والمغريات بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمقصودة من خلال عرض هذا الموضوع، ألا وهي: مسوغات مطالبتنا بالتربية. نحن حينما نطالب بالتربية، ونرى أننا بحاجة إليها، فما المسوغات التي تدفعنا لذلك؟ عندما نقول: إن جيل الصحوة يجب أن يعتني بالتربية، وأن توجه له التربية، وأن تقوم مؤسسات ودراسات وبحوث وجهود لتأصيل النظرية التربوية المتكاملة، ومن خلال برنامج عملي أيضاً، وألا تكون القضية مجرد كلام وطرح نظري معرفي فقط، أقول: عندما نطالب بذلك فإن لنا حججاً ومسوغات: أولها: كثرة الفتن والمغريات: إن الشاب الآن يتعرض لفتن كثيرة خاصة في مرحلة المراهقة وما يعقبها، ومن هنا فتراه يعيش صراعاً مع نفسه، وصراعاً مع شهواته، وصراعاً مع هذه الفتن والمغريات التي تؤزه أزاً للفساد وتدفعه دفعاً، ويرى أن هناك عوامل عدة تدفعه دفعاً إلى الرذيلة والفساد، فيرى وسائل الإثارة والإغراء، بدءاً بالأفلام والتلفاز. وها نحن أقبلنا على خطر داهم يدركه الجميع ألا وهو البث المباشر، فأصبح الشاب الذي قد لا يكون خرج من مدينته، بل قد لا يكون جاوز قريته يدير التلفاز ومحطات الاستقبال، فينقله إلى أوروبا وأمريكا ودول الكفر والإلحاد؛ ليرى الإباحية والتفسخ والانحلال. وهو خطر قادم أشعر أننا لم ندرك حقاً حجم خطورته، وأشعر أن تعاملنا مع هذا الخطر دون مستوى خطورته، وأخشى أيها الإخوة! أن نحصد النتيجة مرة، من خلال خسارتنا لعفاف بناتنا، وعفاف أبنائنا، وهي قضايا لسنا نتحدث عنها من خلال مبالغة، وها نحن نرى نماذج مرة من الانحلال والفساد والتفسخ والجريمة إنما تحصل من خلال هذه المغريات وهذه المثيرات التي يراها الشاب أو تراها الفتاة. كم جنينا وعانينا من جراء أفلام الفيديو، والتي تتعرض لمراقبة أياً كانت هذه المراقبة، لكنها تتعرض لمراقبة، وقد يصعب على الشاب الحصول على الفلم الذي يريد، ولكن الآن أصبح العالم كله يعرض بين يديه دون مراقبة، ودون استثناء، في الطعن في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وتعليمه أساليب الجريمة، وسائل الإثارة والإغراء والفتن تعرض أمام ناظريه، فماذا يفعل هذا الشاب؟! وحينما يذهب إلى أي محل تجاري يرى تلك المجلات الساقطة التي زينت أغلفتها بصور النساء تعرض أمامه، حينما يذهب يمنة ويسرة يرى هذه الفتن تدعوه وتؤزه أزاً. إن الشاب الملتزم المستقيم يعيش معاناة لا يعلمها ولا يدركها إلا هو، واسمحوا لي أيها الإخوة! لأقول: إن الكثير من الآباء، بل الكثير من الأساتذة، بل الكثير من أهل التوجيه يعيشون بمعزل عن عمق المعاناة التي يعاني منها الشاب، والجحيم الذي يعيشه، ومن هنا فأنت ترى أسئلة الشباب كثيرة، تدور حول الثبات، ومعاني الثبات، والخشية من الانحراف, إلى غير ذلك. لا شك أن هذا سؤال يبعث على الفهم، ونحن حينما نرى الشاب يشعر بعمق الخطر، لا شك أن هذه بداية لمواجهة هذا الخطر، ولكن مثل هذا التساؤل الذي يطرحه الشاب كثيراً، إنه نتيجة إفراز معين عن شعور من تلك المعاناة العميقة التي يعاني منها الشاب، والتي للأسف لا يجد الشاب من يشاركه هذه المعاناة، فيتحدث مع أبيه، ويطرح على أبيه مطالب، فيرى أنه يعيش في وادٍ ووالده يعيش في وادٍ آخر. إن الأب يحاكم هذا الشاب المراهق التي تتوقد الشهوة لديه، وقد أشرعت الفتن ناظريها أمام عينيه، يحاكم هذا الشاب إلى نفسه، وإلى عقليته، وإلى ظروفه، وإلى مرحلته التي عاشها، وقد تكون هذه المرحلة مضت بكل مشاعرها ومغرياتها وبكل الفتن وكأنها حلم أو رؤيا رآها، غير أنه عاش مرحلة ومجتمعاً يختلف عن هذا المجتمع، وهذه المعاناة التي يعاني منها الشاب. أقول أيها الإخوة: إن هذه المعاناة، وهذه الفتن والمغريات التي أصبحت تعصف بالشباب يمنة ويسرة من أهم المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بالتربية الجادة والعميقة، إن هذا الشاب يواجه ألواناً من الفتن والمغريات والضغوط التي تدعوه وتؤزه إلى الفساد، فحينئذٍ يحتاج إلى الثبات، ويحتاج إلى ما يعينه، ليس ثم إلا تلك التربية القوية التي تربي عند الشاب الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتضحية لله عز وجل، والصبر، والتحمل، وضبط النفس، والإرادة، كل هذه المعاني بحاجة إلى أن تغرس عند الشاب؛ حتى تكون سلاحاً له بعد توفيق الله سبحانه وتعالى وتثبيته، حتى يقف أمام هذه المغريات وهذه الشهوات. ولعل قراءتنا وتأملنا السريع في السيرة تعطينا القناعة بذلك، حينما تتأمل مثلاً في حادثة الردة، ترى أن الذين ارتدوا عن الإسلام هم أولئك الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت قبائل من العرب، ولكن أهل المدينة ومكة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ

ضخامة الدور المنوط بالصحوة

ضخامة الدور المنوط بالصحوة الجانب الثاني أو المسوغ الثاني من مسوغات مطالبتنا بالتربية: ضخامة الدور المنوط بالصحوة: إن إعداد الشاب المسلم أبعد من مجرد تخريج فرد ملتزم بالإسلام بحد ذاته، إننا حينما نعد الشاب فإننا نعد الصف الأول على مستوى الأمة الذي يطلب منه أن يساهم في إنقاذ الأمة، وأن يساهم في إعادة صياغة مجتمعات المسلمين، وأن يساهم في إعادة بناء مجتمعات الأمة، وهو هدف ضخم وبعيد لا يمكن أبداً أن يقوم إلا من خلال تربية، وإعداد متكامل، لا يمكن أن يقوم به مجرد شخص يحمل عواطف جياشة، وحماسة ثائرة. إن ذاك التفكير الذي كنا نفكر به سابقاً، وتلك النظرية التي كنا نطرحها أحياناً كنوع من التخدير، والتي تعني أن القضية ببساطة أن يصلح الفرد، وتصلح الأسرة، ويصلح المجتمع، وتصلح الأمة، إنه تفكير ساذج، وتفكير غير واقعي، ولماذا لا تتحول النظرة إلى أسلوب آخر، إننا حين نفكر بهذه العقلية نحتاج إلى مدى وإلى قرون متطاولة؛ لأنك أنت تعمل وتملك وسائل محدودة في حين إن تيارات الفساد تملك وسائل وأبواب لا تملك أنت واحداً، أو جهدك ووسائلك ومجالاتك لا توازي واحداً فقط من تلك الأبواب التي يملكها دعاة الفساد وأهل الفساد. فماذا تصنع مع هذا الزخم الهائل؟ إذاً: لماذا لا نفكر بعقلية أخرى؟! ولماذا لا يكون هدفنا هدفاً آخر؟! لا أن نعد مجرد الفرد الملتزم بالإسلام، بل نعد الفرد العامل للإسلام، نعد الفرد الذي يرى أنه ينبغي أن يصلح، فبدلاً من أن نعد فرداً يتخلى عن تقصيره وإهماله ومعصيته، ويقتصر على التزامه الشخصي، ينبغي أن يتحول هدفنا إلى أن نعد فرداً يدعو إلى الله عز وجل، أن نعد فرداً عاملاً، فرداً مصلحاً يساهم معنا في دفع العجلة، وأن الجهد المنوط بالدعوة والصحوة جهد ضخم، لا يمكن أبداً أن يقتصر على فئة من الناس وفئة من البشر. مع عدم إهمالنا للإصلاح المجرد، لا شك أن إنقاذ مسلم واحد من الضلال والانحراف يعتبر إنجازاً، ويعتبر هدفاً بحد ذاته، وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه أبي طالب وهو عند الموت، فيدعوه إلى الإسلام ويلح، وماذا سيحصل الإسلام وتحصل الأمة من إسلام أبي طالب مثلاً في تلك اللحظة، إنه رجل على فراش الموت، ولكن إنقاذ فرد من النار يعتبر مكسباً وهدفاً. جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يهودي يحتضر فعاده صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وأسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار). لا شك -كما قلت- أن إنقاذ الفرد المسلم أياً كان من النار، بل إنقاذه من معصية واحدة عمل وإنجاز، ولكن ينبغي ألا يكون هذا هو الهدف الوحيد، وأن نتجاوزه إلى هدف أبعد مدى، فبدلاً من أن يكون الهدف مجرد تخريج إنسان ملتزم بالإسلام بسلوكياته وأخلاقه أن نهدف إلى أن نخرج رجلاً عاملاً للإسلام، داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، أن نخرج الصف الأول الذي يقود الأمة.

المعاني الكبيرة التي يحتاج المسلم إلى أن يتربى عليها

المعاني الكبيرة التي يحتاج المسلم إلى أن يتربى عليها المسوغ الثالث: هناك معانٍ كبيرة يحتاج إليها الإنسان في حياته العادية، فضلاً عن مسلم، فضلاً عمن يراد منه أن يساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويساهم في قيادة الأمة. الصبر: يسهل أن تتحدث عن الصبر في خطبة، في درس، في كتاب، في مقالة، في أي مكان يمكن أن تتحدث عن الصبر، ولكن أيها الإخوة! الصبر معنىً عميق يجب أن تتربى عليه النفوس، الصبر الذي نريد يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى جهد وتربية، وليست قضية تقف عند مجرد طرح معان معرفية، يقول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. فالصبر إذاً معنىً يحتاج إلى أن يتواصى على تحقيقه والوصول إليه. التأني والروية، وعدم الاستعجال، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، أدب الحوار، معانٍ كثيرة يمكن أن نطرحها طرحاً نظرياً مجرداً، ونتحدث عن هذه المعاني، ونتذكر الصور من التاريخ من القديم والحديث، ولكن لا تتصور أن هذا وحده كافٍ بأن تغرس هذه المعاني عند النفوس أبداً، إن هذه المعاني بحاجة إلى تربية من الفرد نفسه، ومن الأستاذ، ومن الأب، ومن الجميع أن يتربى الفرد على الصبر، ويتربى على الكرم، ويتربى على الشجاعة، ويتربى على المبادرة والثقة في النفس. هذه المعاني -كما قلت- يحتاجها الإنسان العادي؛ حتى يعيش حياة سوية، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن نريد منه دوراً أعظم من ذلك كله، نريد منه أن يساهم في قيادة الأمة. من السذاجة أيها الإخوة! أن نتصور أننا يمكن أن نصل إلى هذه المعاني وأن نحققها من خلال الطرح النظري المجرد، ومن خلال الحديث العاطفي، الجميع يجيد الحديث عن ذلك، ولو طلبت من أحد الإخوة الحضور أن يتحدث عن جانب من هذه الجوانب لأشبعه حديثاً، ولكن هذا شيء والتربية عليه شيء آخر، مع عدم إهمالنا أيضاً للطرح المعرفي والنظري، فهو خطوة أولى في طريق التربية. هذه المعاني -كما قلت- لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التربية. تأمل مثلاً في السيرة النبوية مرة أخرى، فهناك معانٍ تربى عليها الجيل الأول من خلال الميدان، من خلال العمل والواقع، ولم تكن تعرض هكذا عرضاً أجوف، اقرأ في القرآن مثلاً لترى أن القرآن يربي الأمة من خلال الأحداث والمواقف. كانت حادثة الإفك حدثاً هز المجتمع كله، وصار حديث الناس كلهم، فانظر كيف تربت الأمة من خلال هذا الحدث على معاني التثبت، والتأني، وحسن الظن بالمؤمنين، إلى غير ذلك من تلك المعاني العميقة التي لو طرحت طرحاً مجرداً لم يكن أثرها في النفوس مثلما كان من خلال التربية بالحدث. معاني النصر والهزيمة التي تراها تطرح مثلاً في سورة الأنفال بعد أحداث غزوة بدر، ولا يزال رنين السيوف في آذان المسلمين، في ذلك الوقت سمعوا الحديث عن معاني النصر والهزيمة، وحقيقة الحياة الدنيا، وسمعوها بعد غزوة أحد، وجراحهم لا تزال تنزف، وقتلاهم لم يدفنوا بعد، تنزلت تلك الآيات التي تتحدث عن معاني النصر والهزيمة، والتمحيص، والحياة الدنيا، والتعلق بها إلى غير ذلك. تلك المعاني التي تربى عليها الجيل الأول من خلال الحدث، من خلال الميدان، لم تكن معاني مجردة تطرح على الناس وهم في بيوتهم، أو في المساجد أو في المدارس.

عمق الخلل التربوي في المجتمع

عمق الخلل التربوي في المجتمع المسوغ الرابع لمطالبتنا بالتربية: عمق الخلل التربوي في المجتمع: لو نحينا جانباً الانحرافات والخلل الشرعي الموجود في المجتمع من خلال التقصير في الأوامر الشرعية، ومن خلال ارتكاب المعاصي، وحرمات الله عز وجل، مع أننا نعتبر أن هذا أكبر خلل، لكن نريد جانباً آخر نغفل عنه له أهميته، وهو جانب المعاني التربوية التي يحتاج إليها الإنسان. مثلاً: مجتمعاتنا تربي الفرد على الاتكال على الآخرين، وغياب الروح الجماعية، فأنت ترى مثلاً مؤسسة أياً كانت هذه المؤسسة أهلية أو حكومية تفكر بعقلية الرجل الواحد، فالمدير هو كل شيء في هذه المؤسسة، هو الذي يفكر، وهو الذي يتخذ القرار، وهو الذي يعمل، وكل عامل في هذه المؤسسة لا يرى أن عليه أي مسئولية تجاه مثل هذه المؤسسة. حتى داخل قطاع الصحوة عندما تأتي مثلاً إلى الجهود الدعوية، وترى المؤسسات الدعوية، تراها أيضاً هي تقاد من خلال الرجل الواحد. فالفرد يشعر باتكالية، ولا يشعر بأي مسئولية، يرى أن المسئولية تقع على فلان. عندما تأتي إلى الأسرة ترى أن كل شيء على الأب، ولا تكاد ترى من يشعر بالمسئولية المشتركة والمسئولية الجماعية. ونتج عن ذلك خلل في معان شرعية مهمة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح، فهذا الآخر كنتيجة من نتائج هذه التربية، حيث يشعر كل إنسان أنه غير مسئول عن هذا المنكر فينهى عنه، ولا عن هذا المعروف والأمر به، إنما المسئول فلان. الفردية: فلا نحسن العمل الجماعي مطلقاً، قد ترى عملاً جباراً من خلال فرد وشخص نشيط وقوي ومفكر وعامل، أما عمل جماعي فعلاً فتكاد تراه، وإذا رأيت عملاً جماعياً منتجاً ترى وراءه فرداً واحداً. أما أن تكون هناك جهود متكاتفة ومجتمعة فهذه حالات نادرة، هذا مرض من الأمراض التي تعاني منها مجتمعات المسلمين. التعصب: التعصب مرض ترثه الأمة، التعصب لإقليم، لقطر، لبلد، لحزب، وأياً كان هذا التعصب فهو مرض من أمراض الأمة، ونادراً ما ترى أحداً يخلو منه. النظرة العاطفية المجردة: أي: أن تقييمنا للأمور تقييم عاطفي، فعندما يحصل حدث من الأحداث التي تمر بها الأمة فإننا نحلل الحدث تحليلاً عاطفياً، ونطرح حلولاً عاطفية، ويكون تعاملنا مع الأحداث بعاطفة، فليس عندنا عمق للتفكير، ولا عمق في الحلول، ولا في العمل، كل أمورنا دائماً تسير وراء العاطفة. الثقة بالنفس، المبادرة، الكرم، الشجاعة، معانٍ كثيرة نرى أن هناك خللاً تربوياً في المجتمع، وأن هذه المعاني بحاجة إلى تصحيح، وبحاجة إلى تربية أيضاً هي الأخرى، فكلما ازداد هذا الخلل في المجتمع ازدادت ضرورة المطالبة بالتربية والحاجة إليها.

الخلل في واقع الصحوة

الخلل في واقع الصحوة المسوغ الخامس: الخلل في واقع الصحوة: إن الصحوة قطعت خطوات طيبة مباركة، ولكنها لا تزال تعاني من أمراض، وتعاني من مشاكل كثيرة، فحدث واحد يمكن أن يهز قطاع الصحوة، كأن يأتي إنسان ويطرح كلمة تشكك الكثير بقناعات تربو عليها فترة طويلة، يمكن أن يأتي إنسان يشكك في قيادات الصحوة، ويشكك في منطلقات، ويشكك في بدهيات، وفي قضايا كثيرة، ويجب أن يستجيب له، ويسمع له، فهذه الاستجابة والسماع مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الصحوة. أمراض كثيرة تعاني منها الصحوة لست بحاجة إلى الحديث عنها، ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، نعم نحن نرى آثار الصحوة طيبة وظاهرة، ولا ينكرها إلا مكابر، ولكن هناك أمراض، وهناك خلل يجب أن نعترف به، ويجب أن نكون صرحاء، وألا ننتظر الحديث من أعدائنا، ولا ننتظر النقد من الآخرين. هذا المرض وهذا الخلل الموجود داخل الصحوة لا يمكن أن نصححه إلا من خلال التربية العميقة والتربية التي تكون عن قناعة تامة، أما إذا كانت الأمور مجرد عاطفة ومجرد حماسة ثائرة، وأعمال مرتجلة فلا يمكن أبداً أن نعالج مثل هذا الخلل وهذا الخطأ، بل سيزيد الخلل عمقاً، بل هذا الخلل إنما هو نتيجة إهمال التربية ابتداءً.

الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق

الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق ومن المسوغات الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين الأهداف النظرية والتطبيق العملي، فأنت مثلاً عندما تأتي إلى المؤسسات التربوية، وتقيم المنهج والخطة النظرية ترى أنها خطة عالية وأهداف عالية. خذ على سبيل المثال أهداف التعليم في المرحلة الثانوية، أو في المرحلة المتوسطة، تراها أهدافاً عالية، وهي تربية الشاب على الجهاد، وعلى المعاني الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، وارجعوا إلى سياسة التعليم وخطة التعليم؛ لتروا كيف أنها أهداف متميزة؛ لكن عندما تأتي إلى الواقع العملي ترى أن هناك مسافة شاسعة بين تلك الأهداف النظرية وبين الواقع العملي. مثلاً: قد لا أبالغ إذا قلت: إنك يمكن أن تجد أستاذاً يدرس منهجاً من المناهج سنوات عديدة وهو لا يعرف أهداف المنهج، ولم يطلع على أهداف المنهج وخططه. قد ترى مثلاً موجهاً تربوياً، أو ترى شخصاً يقوم بالتخطيط التربوي، فتجد أنه يعيش في واقع نظري بحت بعيداً عن الواقع العملي، وترى العزلة بين الأستاذ والموجه، وبين من يقوم بالتخطيط، ترى أن الأستاذ أصبح يتصور أن عمله مجرد مهنة يتقاضى عليها راتباً، والموجه هو الآخر كذلك، ومن يقوم بالتخطيط التربوي، ومن يتولى المؤسسات التربوية أياً كانت فإن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يتعامل مع هذا العمل على أنه مهنة مجردة يتقاضى عليها راتباً، فلا تسأل بعد ذلك عن نتيجة تربية مثل هذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة التربوية. أقول: إن هناك خللاً في المؤسسات التربوية من خلال جوانب عدة، من خلال المسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، فقد يكون التأصيل النظري جيداً ورائعاً، ولكن الخلل في العمل والتطبيق، بل قد ترى أستاذاً له سنوات طويلة في المرحلة الثانوية لو تسأله عن أهداف التعليم في المرحلة الثانوية لا يعرف الأهداف. إذاً: لماذا نضع نحن هذه الأهداف حبراً على ورق، تسأله عن أهداف المنهج لا يعرف أهداف المنهج، فضلاً عن تطبيقه لها وسعيه إليها.

توسع مجالات الدعوة

توسع مجالات الدعوة المسوغ الأخير: توسع مجالات الدعوة وجوانبها: هذا التوسع أدى إلى نتائج منها: النتيجة الأولى: التوسع الأفقي لجيل الصحوة، وازدياد قوافل التائبين، الذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، فهذا رجل كان مدمن مخدرات، هذا رجل كان صاحب فساد أخلاقي، هذا رجل جاء من الشارع. المهم أننا نرى أفواجاً من التائبين والعائدين والمنخرطين في سلك الصحوة، والذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، هذا الجيل وهذه الأفواج أليست بحاجة إلى التربية؟ أليست بحاجة إلى جهد يغسل عنها غبار الماضي؟ لا ينبغي أن نفْرط في السذاجة، ونتصور أن هذا الشاب الذي عاش سنوات طويلة في الفساد وفي تلك التربية السيئة أنه من خلال قناعة عاجلة وقناعة سريعة تحول إلى إنسان مصلح، وإلى شاب مستقيم لمجرد ذلك التغير في مظهره، لا. أقول: ازدياد قوافل التائبين، وازدياد التوسع الأفقي لجيل الصحوة، مع أنه أمر يبعث على الفأل، فإنني أشعر أننا لا نتعامل معه إلا من خلال نظرة واحدة فقط، وهي نظرة التفاؤل، ونظرة الحديث بإفراط عن هذه القوافل العائدة إلى الله، وهذه نظرة سليمة وإن كانت تحتاج إلى نوع من التوازن، أعني: هل فكرنا تفكيراً آخر، وهل طرأ يوم من الأيام على ذهننا أن هذه الأفواج المتقاطرة والوافدة بحاجة إلى تربية، بحاجة إلى غسل أوضار الماضي، بحاجة إلى إعداد؛ حتى لا تكوِّن بعد ذلك خللاً من الداخل، وحتى لا تمارس بعد ذلك الفساد وتمارس الخلل في الصحوة من الداخل، فتضرب الصحوة من خلال هؤلاء الذين لا يملكون إلا مجرد العاطفة فقط؟ كذلك النتيجة الثانية لسعة مجالات الدعوة وجوانبها: كثير من الطاقات الدعوية والعاملة انشغلت في هذه البرامج العامة التي تخاطب الجماهير، وتتحدث مع الجماهير، مما أدى إلى فقدان جهودها التربوية، كانت هناك طاقات كثيرة موظفة في الميدان التربوي والعمل التربوي، وكانت تمارس التربية للشباب أياً كان ميدان هؤلاء، ولكن مع سعة مجالات الدعوة انفتحت أبواب، فتفرغت وانشغلت كثير من هذه الطاقات لملء ذاك الجانب وذاك الجانب العام، ونحن لا نهمل هذا الجانب، ولكن نحن الآن فقدنا طاقات. والمفترض مع زيادة قوافل التائبين والعائدين، ومع التوسع الأفقي للصحوة أنا نحتاج إلى عدد أكثر ممن يمارس التربية، فأصبحنا نجد أننا نعاني من النقص والقصور في هذه الطاقات، ونعاني أيضاً من ازدياد الحاجة التي لا تفي بها تلك الطاقات السابقة. كذلك الكثير من الجوانب والمجالات العامة لها نتائج مغرية وبريق عاجل يغري الشباب، مثلاً قد ترى بعض جوانب الدعوة الجماهيرية التي تتم عن طريق مخاطبة الجماهير، وتحريك عواطف الناس، لها نتائج عاجلة، ولها بريق عاجل قد يغري، فيتوجه الكثير إلى مثل هذه المجالات. إنها مجالات مهمة لا ينبغي أن تهمل، ولكن لا ينبغي أن تكون هي المجال الوحيد، ولا ينبغي أن ننخدع بها ونترك المواقع المهمة، ونهمل التربية والعناية بالإعداد؛ لأجل الانخداع والسير وراء مثل هذا البريق العاجل، والبريق اللامع. وذلك أن الجهد التربوي يحتاج إلى عمل طويل وبعيد ونتائج، ثم نتائجه مع ذلك غير منظورة، فمثلاً: أستطيع أن أصور لك التربية مثل الطفل في البيت، كل يوم ينمو، لكنك لا تشعر بهذا النمو ولا تقيسه، لكن الإنسان البعيد عندما يرى ابنك بعد سنة يقول: لقد تغير ابنك. الآن لو قلت لإنسان: نريدك أن تحمل بقرة من الدور الأسفل إلى الدور العلوي لم يقدر؛ لكن لو كان يحملها كل يوم منذ أن ولدت، يحملها اليوم، وعندما يأتي من الغد سيحملها وهكذا، فسيجد أنه بعد فترة يحمل تلك البقرة الكبيرة. أقول: التربية تمتاز بميزتين: أولاً: أنها تحتاج إلى عمل طويل، وجهد مضن، ثم نتائجها غير منظورة ولا قريبة، فليست مثل العمل العام والجماهيري الذي نتائجه واضحة وسريعة، ومن هنا فإذا كانت التربية تحتاج إلى جهد، وعمل طويل، ونتائجها غير سريعة ولا مغرية فإن الإنسان الذي تربى على الاستعجال، ويريد الثمرة عاجلة، تغريه النتائج العاجلة، ومن هنا فسينصرف الكثير عن الميدان التربوي؛ نظراً لأنهم يخدعون ببريق العمل الجماهيري، والأعمال العامة التي يجد أن الآلاف والجميع يهتدون ويصيرون وراء هذا العمل، فيهمل ذاك الجانب المهم. مرة أخرى: أنا لا أهمل هذه الأعمال، وأرى أنها كلها مهمة، لكن أن تكون هي النظرة التي ننظر إليها، وألا ننظر إلا بهذه العين، وأن نحتقر العمل التربوي من خلال الانخداع ببريق العمل الجماهيري أيضاً، فهذا خطأ. كذلك أيضاً النتيجة الرابعة من نتائج توسع مجالات الدعوة: قيادات المستقبل لابد أن تكون من قواعد وجيل الحاضر: فنحن نحتاج إلى قيادات تقود الدعوة على كافة المستويات، قيادات علمية، قيادات دعوية، قيادات فكرية، قيادات على المستويات العليا، قيادات وسيطة، لابد أن تقود هذه الصحوة قيادات، وليس صحيحاً أن القيادات هي القيادات العليا من شخص أو شخصين فقط قيادة علمية وقيادة فكرية، لا، فإننا سنحتاج إلى قيادات على مستويات أقل، إلى أن نصل إلى آخر حد. هذه القيادات لابد لها من تربية، والجيل الذي

لم يكن أسلافنا بمعزل

لم يكن أسلافنا بمعزل ننتقل بعد ذلك إلى عنصر آخر بعنوان: لم يكن أسلافنا بمعزل: أتصور أن قضية الحديث عن التربية والحاجة إليها والضرورة إليها قضية بدهية وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولسنا بحاجة إلى الاستشهاد والاستدلال، لكننا أصبحنا نجد من يشغب علينا كثيراً عندما نطرح مثل هذه القضايا، ويفاجئك بأن هذه قضية فيها نظر، وهذه قضية فيها كذا، وهذه قضية فيها كذا، فنحتاج إلى التأصيل والاستشهاد العلمي للقضايا البدهية التي لا تحتاج إلى استدلال، فنقول مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل عنه: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، هذه التزكية هي تربية النبي صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم له وظائف: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، مناقشة التعليم والكتاب والحكمة وتلاوة القرآن معروفة، لكن التزكية ما معناها وما المقصود بالتزكية؟ المقصود بها التربية. فإذاً: وظيفة من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تربية الأمة، وإلا كان يمكن أن ينزل بالقرآن ملك، ولكن أنزل الله عز وجل رسولاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حتى يربي الناس، ويعيش مع الناس في عواطفهم ومشاعرهم، وأنت عندما ترى تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية على سبيل المثال، تراه صلى الله عليه وسلم ما كان مجرد إنسان يعطي معلومات علمية مجردة، بل كان صلى الله عليه وسلم يربي عند أصحابه الاستنباط، يربي عند أصحابه منهج التلقي، عند أصحابه المنهج العلمي، منهج السؤال، أدب السؤال. ما نريد أن نستطرد، لكن أعطيكم أمثلة سريعة على تربيته العلمية صلى الله عليه وسلم، فهو مثلاً كان يربي التفكير عند أصحابه والاستنباط، فيسأل يوماً من الأيام يقول: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فأخبروني ما هي؟)، يقول ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي. يعني: كل إنسان يقول: الشجرة الفلانية، فذهب وهلي إلى أنها النخلة، وكنت أصغر القوم فاستحيت. الآن هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن أن يقول: مثل المسلم مثل النخلة، لكنه يضرب لهم مثلاً ما هي هذه الشجرة؛ حتى يتربون على التفكير، على الاستنباط، على الاستدلال، وهكذا يربي أصحابه على منهج التلقي، على منهج السؤال، على أدب السؤال. المهم أن تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية هذه بحد ذاتها بحاجة إلى حديث مستقل، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذاً لم يكن مجرد إنسان وبشر مجرد يعطي معلومات جافة ومجردة، بل كان رسولاً معصوماً، وكان بشراً يعيش مشاعر البشر، ويربي الناس كما قال الله عز وجل: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. مجالس العلماء: كانوا يقولون ويوصون طالب العلم: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد فهو يقول: اكتسب علماً وحلماً، القضية ليست العلم وحده. ويقول ابن سيرين رحمه الله: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. ويقول الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين. وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني! اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث. وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن أنه قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث. والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، كان أحدهم يقول: صحبت فلاناً لا لأتعلم منه، ولكن لأعرف سمته وهديه ودله. فما كانت مجالس العلماء مجالس مجردة تعطي معلومات جافة، إنما كانت تعلم وتؤدب وتربي. ولعل أيضاً مما يدلنا على ذلك الكتب التي صنفها العلماء في أدب العالم والمتعلم، وهي كتب كثيرة، منها مثلاً ما صنفه الخطيب، منها كتاب ابن جماعة تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهي كتب كثيرة ترى أن علماء السنة وعلماء الحديث دائماً إما أن يضمنوها باباً من أبواب كتبهم التي تتحدث عن العلم وفضله، أو أن يفردوا لها تصنيفاً مستقلاً وكتاباً مستقلاً في أدب العالم والمتعلم، ويعلمون طالب العلم أدب الطلب، وترى أن هذه الآداب تحمل أبواباً شتى، من العبادة، وحسن الخلق، والتعامل مع الشيخ، وليست حتى مجرد آداب تقتصر على آداب التلقي العلمي المجرد، بل هي آداب سلوكية، آداب في عبادة الإنسان، وهذا جزء من التربية، وعناية السلف بالتربية. كذلك الكتب التي تعنى بالمدارس، وآداب معلم الأطفال، وما يحتاج إليه معلم الأطفال، وأهل المدارس وآدابها، وهي كتب كثيرة أيضاً يعرفها أهل الشأن في ذلك. المهم أن السلف لم

متطلبات في طريق التربية

متطلبات في طريق التربية

العناية بموضوع التربية

العناية بموضوع التربية بعد ذلك أقول: نريد باختصار. وبعد هذا العرض المختصر والمقتضب لهذا الموضوع نريد العناية بموضوع التربية، دراسة وحديثاً وتأصيلاً وعملاً، فنريد أن نعتني بهذا الموضوع، وأن نتحدث كثيراً عن التربية، ونحرص على أن نتعرف على أهداف التربية، وعلى خطط التربية، وعلى برامجها ووسائلها.

وضع أهداف تربوية واضحة

وضع أهداف تربوية واضحة الجانب الثاني: ضرورة وضع أهداف تربوية واضحة محددة يسير عليها جيل الصحوة: ترى الكثير يتساءل: علام يتربى الشباب؟ للأسف أتصور أنه مع هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي قطعناها الآن ليست هناك أهداف واضحة محددة أمام الشباب ليعرفوا على ماذا يتربون. ولهذا تجد الأستاذ المربي يتساءل: ما هي الأولويات التربوية؟ وما هي الأهداف التي أريد أن أحققها؟ إن هذا التساؤل إنما هو إفراز لإهمال هذا الجانب وعدم العناية به، ونحن نرى الآن المكتبة الإسلامية تزخر بالكثير من الكتب التي تنم عن الترف والتكرار، وترى الموضوع الواحد يؤلف فيه أكثر من كتاب، أحياناً تجد عشرين كتاباً في قضية. لماذا نهمل الجوانب المهمة التي نحتاج إليها؟ سوهناك تساؤلات تربوية كثيرة يحتاج إليها الشباب، وبالذات عن الأهداف التربوية التي تعتبر حجر الأساس وحجر الزاوية في العملية التربوية، فالتربية إنما هي عبارة عن الأهداف. نستطيع أن نقول: إننا إذا رسمنا الأهداف التربوية قطعنا الخطوة المهمة والأساس في التربية، ومع ذلك أشعر أنه ليس هناك أهداف متفق عليها، وليس هناك أهداف على الأقل ذات وضوح ظاهر عند الكثير من الشباب، ولهذا تراهم يتساءلون عن ذلك. فلابد من السعي إلى رسم أهداف واضحة، والمناقشة فيها، والحديث عن مثل هذه الأمور، وأن نملأ مدارسنا بالحديث عن مثل هذه الجوانب.

سلوك طريق التربية الجادة

سلوك طريق التربية الجادة الجانب الثالث: ضرورة التربية الجادة، والتربية العميقة، ولا مكان اليوم للضعفاء، ولا مكان لأصحاب العواطف، ولا مكان للإنسان صاحب القناعة الهشة، هذا لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يسير، فنحن بحاجة إلى تربية جادة، تربية عميقة تخرج لنا رجال يحملون الرسالة، يحملون هذا الدين، يحملون هذا الحق، لا لمجتمعهم بل للأمة كلها جمعاء، بل للبشرية أجمع.

بذل الجهود في التربية

بذل الجهود في التربية الجانب الرابع: التربية تستحق منا أن تبذل لها الجهود، وأن تفرغ لها الطاقات، وألا يشغلنا بريق الدعوة العامة والخطاب الجماهيري عن العناية بالتربية، مع عدم إهمالنا -كما قلت- لخطاب الجماهير، والدعوة العامة، والأمور العامة، لابد أن تتفرغ طاقات للعناية بالتربية، تأصيلاً وبحثاً وكتابة وحديثاً وعملاً وترتيباً وتطبيقاً. ولابد أن تضحي هذه الطاقات بكثير مما يفوتها، والقضية ليست ميادين نتسابق عليها، بقدر ما هي ثغور بحاجة إلى أن نسدها، وفضيلة العمل والجهد الذي نريده ليس بكثرة الأتباع، وليس بكثرة من يسمع لك، بل نرى أننا بحاجة إلى أن نتفحص المواقع التي نحتاج إليها، ونوزع الطاقات توزيعاً متوازناً، ونريد الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة). الإنسان الذي تضعه في موضع فيبقى في هذا الموضع، ويحرص على هذا الموضع، ولو كان يرى أن نتائجه محدودة وقليلة؛ لأنه يرى أنه موضع لابد أن يملأ، وميدان لابد أن يسد، وثغر لابد أن يقام به، وليس صحيحاً أن يكون هناك ميدان واحد، ومجال واحد هو الذي يسعى إليه الجميع. بعد الحديث عن هذا الموضوع المهم -كما قلت- نخرج بعد بالنتيجة التي نريد أن نصل إليها، وهي أننا نحتاج لأن نربي أنفسنا، وإلى أن نربي جيلاً، وإلى أن نعتني بالتربية ونوليها عناية وأهمية. ولك الحق بعدما سمعت هذه بضاعتي وهذه حججي وهذه مسوغاتي، فإذا كنت قد وصلت إلى قناعة تامة، وشاركتنا القناعة بضرورة التربية والحاجة إليها، فبعد ذلك ننتقل إلى الخطوة الأخرى، وإذا كان لك قناعة أخرى فأنت وشأنك، فهذا ما أريد أن أقوله في هذا الميدان. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ونترك بقية الوقت للإجابة على ما ورد من أسئلة الإخوة.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة تربوية لمن في سن المراهقة

نصيحة تربوية لمن في سن المراهقة Q ما هي نصيحتك إلى الشباب في سن المراهقة من الناحية التربوية؟ A يعتبر سن المراهقة من أخطر المراحل التي يعاني منها الشاب، ومن هنا فهو بحاجة ماسة إلى أن يعتني بتربية نفسه، وأن يسير من خلال جهدين متوازيين: التربية الفردية لنفسه والعناية بنفسه، ومن خلال وسط ومجموعة مستقيمة يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى. فهو لا يستطيع أن يعيش وحده، وأيضاً حتى إذا كان معه إخوة ورفقة ينبغي أن لا يوكل إلى هؤلاء أمر تربيته ويهمل نفسه، فأنت ترى بعض الشباب مثلاً يسير مع الشباب ويذهب معهم، ويشاركهم في برامجهم، ولكنه لا يعتني بتربية نفسه وإعداد نفسه. وأستطيع أن أقول باختصار: إن من أهم الأشياء التي يحتاج إليها الشاب المراهق أن يقوي في نفسه الصلة بالله سبحانه وتعالى، فيحرص على عبادة الله عز وجل، ورعاية الفرائض، واجتناب المعاصي، وأن يستكثر من عبادة السر، والنوافل، وتلاوة القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى، والصيام، وقيام الليل، إلى غير ذلك من العبادات. كذلك يملأ وقته فهو يعاني من فراغ، بحيث يعتني بالعلم الشرعي، والقراءة، والمطالعة، والأعمال النافعة التي تحفظ عليه وقته وجهده.

نصيحة لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب وكيف يربي من هو حديث الاستقامة

نصيحة لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب وكيف يربي من هو حديث الاستقامة Q ما هي نصيحتك التربوية لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب، وما هي أهم الدروس التي ينبغي للجديد في طريق الاستقامة أن يتربى عليها جزاك الله خيراً؟ A هنا يختلف الحديث، والشباب يختلفون، فهم في المرحلة المتوسطة مثلاً بحاجة إلى التركيز على الجوانب الإيمانية، وتربية الصلة بالله سبحانه وتعالى، وتقوى الله عز وجل، وتربية الجوانب الأخلاقية والسلوكية، وتربية المبادرة عندهم، والقدرة على الكلام والحديث مع الناس، ثم التزود بجوانب علمية محدودة على قدر مستواهم العلمي. لكن في المرحلة الثانوية قد انتقل نقلة أخرى، وعاش أمام فتن وشهوات أكثر، فهو بحاجة إلى أن نركز فيه الجوانب الأخرى، مع إعطائه دفعة للجوانب العلمية، ومفاهيم قد لا يمكن أن يتحملها في المراحل المتوسطة. وإذا انتقل إلى المرحلة الجامعية فهو بحاجة إلى مفاهيم دعوية أوسع، وبحاجة إلى جوانب علمية أدق، وهكذا نرى أنه من كلما ارتفع مستواه العلمي والعقلي والدراسي كلما تغير مستوى التربية. لكن أقول باختصار: إن الشاب الذي يتولى مسئولية تربوية يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن هؤلاء أمانة في عنقه، ويشعر أنه سيعد قيادات المستقبل، وسيعد قيادات الأمة، وإذا وقع في خلل في تربية هذا الشخص؛ فإن هذا الخلل سينعكس على غيره، عندما يكون هذا الإنسان مربياً، عندما يكون مفكراً، عندما يكون عالماً ومتحدثاً، سينعكس هذا الخلل التربوي بعد ذلك على عمله وجهده، ومن هنا يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويحرص على أن يراقب نفسه، ويحرص على أن يستفيد من أخطائه، ويراجع نفسه فترة بعد أخرى. أما الشاب الجديد في طريق الاستقامة، فينبغي أن يركز على الجوانب الإيمانية والتوبة وما يتعلق بها، ويحرص أن يبتعد عن الماضي وما يتعلق به، ويحرص على ألا يتذكر الماضي كثيراً، كذلك يُملأ فراغه الذهني؛ لأنه يعيش نقلة جديدة، فيحاول أن يعطى بعض الأعمال التي تشغله والتي تعيد له الأمل، فهو مع أنه تاب يشعر بمعاناة وضغط الوضع والانحراف الذي كان يعيشه في الماضي، فيحتاج إلى مثل هذه الجوانب.

كيفية التعامل مع الضعف الموجود عند القادة المربين

كيفية التعامل مع الضعف الموجود عند القادة المربين Q نرى أن بعض القيادات الإسلامية في الوقت الحاضر ينقصها الكثير من التحصيل العلمي أو التربية الإسلامية، ونجد أنفسنا محرجين في انتقادهم أو تصحيح بعض مواقفهم، وذلك لكبر سنهم، أو حداثة عهدهم بالعلم الإسلامي، فما توجيهكم في ذلك؟ A القضية تحتاج إلى توازن، فنحن بين إنسان يكون همه الانتقاد أصلاً، فهو يسمع لينتقد، ويقرأ لينتقد، هذا إنسان يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته). هذه عقلية لا يجوز أن نفكر بها، كذلك أيضاً الاحتقار أن فلاناً ما عنده علم شرعي، فلان ما عنده كذا وكذا، قد يكون فعلاً عنده نوع من الضعف في العلم الشرعي، لكن عنده جوانب أخرى يمكن أن نستفيد منها، كذلك أن تكون هذه الأخطاء ميداناً للتندر والحديث بها في المجالس، وأنه عندما يأتي فيرى اسمه على كتاب يذكر هذا الخطأ، يرى شريط له يذكر هذا الخطأ، هذه الأخطاء يجب أن تذكر في موقعها الذي تحتاج إليه. أقول: يجب أن نتوازن في النقد، فلا نفرط فيتحول النقد إلى هدف، أو إلى مادة للتسلية، أو تجد أحياناً شاباً -مع الاعتذار الشديد- لا يزال في المرحلة المتوسطة أو المرحلة الثانوية، أو حتى في المرحلة الجامعية تراه يقيم العمل الإسلامي كله، فيقيم الجماعات الإسلامية، والدعاة، والعلماء، والناس كلهم، وينصب نفسه إماماً في الجرح والتعديل، وحكماً على الناس. وعادة عندما ترى الشاب في مثل هذه المرحلة يحكم على أمثال هؤلاء فاحكم عليه بالتلف العاجل، والانتهاء العاجل؛ لأنه عندما يتحول الإنسان إلى حاكم على الآخرين، سيغفل عن عيوب نفسه، وينشغل عن عيوب نفسه، وهذا مظهر من مظاهر الغرور والإعجاب بالنفس. أيضاً الجانب الآخر: عندما يكون فلان له قيمته ومجاله وشهرته لا ينبغي أن نعتقد فيه العصمة، فالإنسان أياً كان يخطئ، ويقع في الخطأ، وقد يكون خطأً كبيراً، وقد تكون زلة، ولا تكاد ترى أحداً لا يقع منه خطأ، والعصمة ليست لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نتوازن. ثم إذا وقع فلان في خطأ أو خطأين أو ثلاثة فهذا لا يعني أن نلغيه، ولا يعني أن نقضي عليه، ولا يعني ألا نحكم عليه إلا من خلال هذا الخطأ، وأنت ترى هذا الإنسان عنده جوانب كثيرة من الخير، وعنده خطأ أو خلل أو ضعف في هذا الجانب فترى أن الكثير لا ينظر إلا من خلال هذه الزاوية، ولا ينظر إلا بعين واحدة، فأقول: يجب أن نتوازن في مثل هذا النقد.

كيفية التعامل تربويا مع القوافل الكثيرة من التائبين

كيفية التعامل تربوياً مع القوافل الكثيرة من التائبين Q لقد أشرت في حديثك إلى وجود الأعداد الكبيرة من التائبين، وأن هؤلاء بحاجة إلى التربية، فما هو الحل لإعداد التربية الكافية لهذه القوافل، مع قلة عدد المربين، ألا ترون أن هذا بحاجة إلى توحيد جهود العلماء والدعاة وطلبة العلم والمربين لإعداد هذه التربية؟ A نعم، أقول: إنها مشكلة يجب أن نعتني بها، لكن هنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى الآن شعورنا بهذه المشكلة والحديث عنها؟ نحن نتحدث كثيراً عن التائبين والمقبلين على الله عز وجل، لكن هل نسمع الحديث عن كيف نتعامل مع هؤلاء؟ كيف نربي هؤلاء؟ قلما نسمع الحديث عن ذلك، ولو اعتنينا به وتحدثنا عنه، وبحثنا مثل هذه القضايا؛ لوصلنا إلى بعض النتائج. أستطيع أن أقول باختصار: أولاً: لابد من إيجاد محاضن تربوية للشباب، من خلال المدارس، ومن خلال الأحياء، ومن خلال حلقات القرآن، ومكتبات المساجد، وحلقات العلم، محاضن تربوية تأخذ وقتاً طويلاً من الشاب وتربيه من كافة الجوانب، فتحتضن عدداً من هؤلاء. أيضاً لابد من الارتقاء في المستوى التربوي من خلال خطبة الجمعة، فلابد أن تكون خطبة الجمعة خطبة مدروسة، ويسعى فيها الخطيب إلى أن يربي المجتمع، فلا تكون مجرد خطبة مرتجلة، ومن خلال الفصل والأستاذ في الفصل أيضاً يجب أن يمارس التربية، ومن خلال المحاضرات والدروس، فلا يسوغ أن يكون خطابنا للناس في هذه القنوات من المحاضرات والدروس والخطب مجرد خطاب عاطفي، أو تكراراً لقضايا معينة، بل يجب أن نرتقي بمستوى أسلوبنا، فعلى الأقل هذه تختصر لنا بعض الخطوات، ويمكن أن تسد قدر من الخلل الذي نعاني منه مع مثل هذا التيار. وأقول: إن القضية تحتاج إلى دراسة، وتحتاج إلى عناية، وتحتاج إلى أن يتحدث عنها الكثير، ولا يمكن أن يكون مثلي يضع الحل الناجع لمثل هذه القضية في مثل هذه العجالة.

التوفيق بين القيم الدينية والتعليم المؤسسي المنحل

التوفيق بين القيم الدينية والتعليم المؤسسي المنحل Q توجد كثير من المؤسسات العلمية مثل الجامعات في كثير من الدول الإسلامية بعيدة كل البعد عن القيم الدينية والتربية الإسلامية، فكيف توفق الأسرة المسلمة في التربية بينها وبين هذه المؤسسات العلمية؟ A أنت ترى للأسف أن المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي تمارس الهدم للمعاني التربوية، من خلال الاختلاط، والتبرج، ومحاربة الحجاب، بل ترى أنه في كثير من الدول الإسلامية يمنع على الفتاة أن تدخل وهي متحجبة، ناهيك عن المناهج وما فيها، ناهيك عن أخلاق الأساتذة وأساليبهم. أقول: إن هذا مما يزيد في صعوبة دور المربي، سواء كان أستاذاً في وسط هذا العفن، أو كان أباً، أو كان أخاً، أو غيره؛ وهذا مما يزيدنا مسئولية، لأنه كما ذكر أحد المربين يصف هذا الوضع يقول: إن الذي يربي في خلال هذا المجتمع مثل الذي يسبح ضد التيار. فأقول: هذا مما يزيد الصعوبة، لكن ليس مستحيلاً، فقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الفترة المكية في وسط المجتمع الجاهلي بكل مؤسساته وكل ضغوطه، ومع ذلك استطاعوا أن يتجاوزوا كثيراً من السلبيات والضغوط التي كانوا يجدونها من خلال ذاك المجتمع.

أهمية الثقافة التربوية لمن يمارس التربية

أهمية الثقافة التربوية لمن يمارس التربية Q يذكر البعض أن التربية لا يستطيع العمل بها إلا الذين درسوا التخصصات التربوية، وأنها صعبة، ويعملون أعمالاً كثيرة مستغربة، ويقولون: أنتم لا تفهمون، وفي اعتقادي أن أي إنسان يقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده فهم يستطيع أن يؤدي التربية، أي أنها ليست محصورة، فما رأيك؟ A القضية تحتاج إلى توازن، فأن نقول: إن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً في التربية هذا مستحيل، وهذا خطأ، وأيضاً أن نهمل هذا الجانب هذا هو الآخر خطأ، فنحتاج نحن إلى من يتخصص بالتربية كعلم مستقل، ليؤصل لنا، ويحل لنا مشاكل تربوية، ويطرح لنا نظريات تربوية. ونحتاج إلى من يمارس التربية وأن يكون عنده على الأقل وعي تربوي، وعنده ما يمكن أن نسميه بالثقافة التربوية أو القراءة التربوية، فلا يسوغ أن نهمل أيضاً العلم التربوي الذي قام وله أصوله فنقول: لسنا بحاجة إليه مطلقاً، وكذلك أيضاً لا يسوغ أن نبالغ ونرى أن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً بالتربية، فالتوسط في ذلك مطلوب. لكن أنا أؤكد أن الذين يمارسون التربية يجب أن يكون عندهم على الأقل ثقافة تربوية، أن يكون عندهم قراءة في بعض كتب علم النفس، وبعض كتب التربية، ويكون عندهم تصور لبعض النظريات التربوية التي تساعدهم على تحقيق هذه الأهداف، وعلى الاستفادة المثلى من قراءة السيرة النبوية وسير السلف، حتى قراءة السيرة وسير السلف إذا لم يكن عندك عقلية تربوية قد لا تستطيع أن تستنبط منها المعاني التربوية التي تحتاج إليها.

مشكلة قلة المربين

مشكلة قلة المربين Q ألا ترى بارك الله فيك أنه بسبب قلة المربين في المجتمع يساهم في سلبية هذه الصحوة، فما البديل؟ A البديل أن نعتني بالتربية، ونخرج المربين، ولا نجلس لنشتكي، ومشكلتنا أننا نجيد الحديث عن المشاكل والشكوى، فهذه مشكلة أمامنا من سيحلها؟ يحلها الغرب، المؤسسات التربوية الغربية، أو المعاهد التربوية الغربية؟ لا، لا يحلها إلا نحن، فمشاكلنا يجب أن نفكر فيها، ونحل هذه المشاكل ولو على مدى أبعد. فما دمنا الآن نشتكي من قلة المربين فيجب أن نعد المربين من الآن، ونربي الشاب من الصغر؛ حتى يكون مربياً ناجحاً يحل لنا هذا النقص وهذا الخلل.

إهمال تربية الأبناء

إهمال تربية الأبناء Q أب لم يحسن تربيتي منذ صغري، ومنذ طفولتي أهملني، وتركني حتى بلوغي إلى السن المتميز والإدراك الواضح، وبدأت أعمل الحرام والسرقة، وجلب المصائب لبيت أهلي وغيرهم، هل يأثم والدي ووالدتي على هذا الشيء، إذا كان الجواب نعم، فما نصيحتكم إليهم؟ A لا شك أنه يأثم، لكن أيضاً هذا ليس إهمال والدك عذراً لك، بل لو تعمد والدك أنه يربيك التربية السيئة لم يكن ذلك عذراً لك، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].

وسائل التربية ليست توقيفية

وسائل التربية ليست توقيفية Q هل وسائل التربية توقيفية، أم أنها خاضعة للجهد البشري، واختيار الوسيلة المناسبة؟ A وسائل التربية والدعوة ليست توقيفية، وسبق أن عرض هذا السؤال في المحاضرة الماضية التي كانت بعنوان: همسة إلى شاب، وذكرت لكم أن الكثير من العلماء والمشايخ أفتوا بأنها ليست توقيفية، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقد سألته بنفسي، وأجابني بذلك، وأيضاً الشيخ ابن عثيمين والشيخ عبد الله بن قعود وغيرهم قرروا أن وسائل الدعوة ليست توقيفية. وما معنى أنها ليست توقيفية؟ يعني: إذا قلنا إنها توقيفية فمعناه أنه لا يجوز أن ندعو بأي أسلوب أو وسيلة إلا إذا كانت واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا قلنا: إنها ليست توقيفية، فيعني هذا أن عندنا حرية أن ندعو بأي أسلوب بشرط أن يكون جائزاً شرعاً، وألا يكون فيه مخالفة شرعية. وأنت ترى الذي يقولون: إن وسائل الدعوة توقيفية يضطرون إلى نوع من خرق القاعدة، فمثلاً طلب العلم مثل الدعوة فما الفرق بينه وبين الدعوة؟ إذا قلنا: إن وسائل الدعوة توقيفية، إذاً وسائل تلقي العلم يجب أن تكون توقيفية، فالمدارس النظامية الآن ما كانت موجودة في السابق، الكتب بطريقتها الآن والتصنيف وطريقة التبويب لم تكن موجودة في السابق، الوسائل المعاصرة أجهزة الحاسب الآلي، وأجهزة الناسوخ والاتصال، أجهزة الاتصالات الحديثة، ومراكز المعلومات وكل هذه ما كانت موجودة. إذاً هذه بدعة، والتعليم الرسمي بدعة لأنه ما كان موجوداً، وخذ كل الوسائل الموجودة في التعليم هي الأخرى بدعة إذا قررنا أن وسائل الدعوة توقيفية. فعلى كل حال ليس ذلك صحيحاً، فوسائل التربية ووسائل الدعوة وسائل اجتهادية، ولو تمعنا في التاريخ لوجدنا أن الأمة ابتكرت وسائل في الجهاد، ووسائل في العلم، ووسائل في الدعوة، ووسائل في إدارة شئون حياة الأمة كلها ابتكرت واستفادت من العصر الذي تعيشه. فالميدان مفتوح والمجال مفتوح لأي وسيلة بشرط ألا يكون فيها مخالفة شرعية، وأن نرى أنها تحقق المصلحة الشرعية.

الاكتفاء بالخطب والمحاضرات في التربية

الاكتفاء بالخطب والمحاضرات في التربية Q هل الخطب والمحاضرات كافية للتربية؟ A لا، التربية تحتاج إلى عمل، وهي تربية من خلال العمل، والخطب والمحاضرات لا شك أنها تقدم خطوات تربوية، وتعطي دفعات لكنها وحدها ليست كافية.

الجوانب التربوية المطلوبة

الجوانب التربوية المطلوبة Q لا يخفى عليكم أن المكتبات الخيرية الموجودة في المساجد تعتبر من المحاضن التربوية لإخراج شباب يؤهل فيه أن يخدم هذا الدين؟ هل هناك أسس تربوية أو بمعنى آخر مفاهيم أساسية تغرس في نفوس رواد مثل هذه المحاضن؟ A هي الأسس التي نريدها من المسلم، نريد أن نربي الإنسان على الإسلام، على أن ينضبط أولاً بالضوابط الشرعية، فنربيه على أن يلتزم أوامر الله سبحانه وتعالى، على أن يتجنب المعاصي، على أن يكون عنده ورع وخوف من الله سبحانه وتعالى، نربيه على أن يكون قلبه متوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى. جانب آخر: العلم الشرعي، فنعطيه المنهج العلمي، وأن نربي ونغرس عنده حب العلم والتوجه إليه. جانب آخر: السلوك والتعامل مع الناس. جانب آخر: أن نربيه على الدعوة من خلال العمل ومن خلال الميدان. أقول باختصار: هذه الجوانب التربوية هي الجوانب المطلوبة من المسلم، تصور أنت ما هي الصورة التي تتطلع إليها، وترى أن يكون المسلم عليها، هي التي نريد أن نصل بالإنسان إليها من خلال هذه المحاضن التربوية، سواء كانت من خلال مدارس، من خلال مؤسسات تربوية، من خلال مكتبات مساجد، أياً كانت هذه المؤسسات، أو هذه المحاضن التربوية.

أهمية رفع مستوى التربية عند المربين

أهمية رفع مستوى التربية عند المربين Q هناك مقولة تقول: حتى تصل التربية إلى الحد المقبول يجب أولاً النظر في تربية المربين، هل من تعليق على هذه العبارة أو توضيح؟ A نعم، لابد من رفع مستوى المربي، قد يكون عند المربين قصور تبعاً للتربية التي تلقوها هم، فيسعى المربي إلى أن يرفع مستواه، ويسعى إلى أن يزيد من تحصيله، سواءً العلم الشرعي أو صلته بالله سبحانه وتعالى، أو القدرات والمفاهيم التربوية.

التكامل بين الجوانب التربوية والجهادية والدعوية

التكامل بين الجوانب التربوية والجهادية والدعوية Q في ظل واقع هذه الصحوة، هناك من يدعو إلى التربية الجهادية والذهاب إلى ساحة الجهاد، وهناك من يدعو إلى التربية على العلم الشرعي وغيرها من أمور التربية التي نحن بحاجة إليها، فما هي الأولويات التي يتربى عليها في ظل هذه الظروف، وجزاك الله خيراً؟ A هذا سؤال مهم، وكثيراً ما يرد السؤال والنقاش والجدل حوله، فنقول: أولاً: هناك أشياء لا بد منها للمسلمين جميعاً، كقدر من العلم الشرعي، وقدر من إنكار المنكر، وقدر من الصلة بالله سبحانه وتعالى. ثم يبقى جانب التخصص المهم، فمن الخطأ أن نتصور أن الأمة كلها يجب أن تذهب إلى ساحات الجهاد، فمن سيبقى هنا؟ ومن سيحمي الجيل؟ وتخيلوا مثلاً أن كل الناس ذهبوا إلى الجهاد، فمن سينكر المنكرات كلها؟ من سيربي؟ من سيبقى لأهل الفساد في مجتمعات المسلمين كله على مستوى الأمة؟ جانب آخر: جانب العلم الشرعي، فليس كل الناس مؤهلين أن يتوسعوا ويتبحروا في العلم الشرعي، وكذلك جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكافة الجوانب التي نريدها، فلماذا نحن نفترض التناقض، ونتصور أنه ليس هناك إلا ميدان واحد؟ أقول: هناك قدر مشترك مطلوب من الجميع، ثم بعد ذلك يبقى جانب التخصص، ولا ينبغي أن يشغب أحد على أحد، فنحن نحتاج إلى من يشارك الأمة في ميادين الجهاد، نحتاج إلى من يتبنى أمور الأمة الاجتماعية، إنقاذ أصحاب الفقر وقضاء حوائجهم، وأن يوفر وقته وجهده لمثل هذه المشاكل الاجتماعية. نحتاج إلى إنسان يتفرغ للعلم الشرعي وتعليمه، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لدعوة الشباب المعرضين، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لتربية الشباب المستقيمين، نحتاج إلى جوانب كثيرة وجهود كثيرة ليس واحداً منها هو المطلوب دون غيره، وليس واحداً منها هو الأولى دون غيره، بل كل هذه الأمور مطلوبة، ويجب أن تسير معاً في خط متوازٍ. ومن الخطأ أن نفترض أولويات أو تناقضاً أو تضارباً، وأنه ما دام هذا الميدان مهماً فالآخر غير مهم، ولا يجوز أن يسخر صاحب ميدان من الميدان الآخر، بل يجب أن نشعر أننا جميعاً في خندق واحد، مثال: مثل الجيش الذي يحارب، فهو يحتاج إلى قائد، إلى رجل متفرغ في غرفة عمليات يدير الاتصال وينظمه، يحتاج إلى إنسان يشارك في القتال، إلى إنسان يحمي الخلف ويحرس، إلى إنسان يعد الطعام، يحتاج إلى فني عمله فقط إصلاح السيارات والمعدات، يحتاج إلى معالجة الجرحى وإخلاء طبي، نحتاج إلى أدوار كثيرة. لو جاءنا الإنسان الذي يعد الطعام للجيش، وقال: والله أنا أحتاج للقتال، فإن الناس يقاتلون ويتعرضون للاستشهاد، وأنا جالس أعد الطعام! إذاً: من سيعد الطعام للجيش؟ ومن سيقوم بهذا الدور؟ فهي أدوار قد تتصور أن هذا أهم، وهذا أولى، وهذا ثانوي، لكنها هي كلها مهمة ومطلوبة، ولابد منها جميعاً، ولا يجوز أن نفترض التناقض وأن يشغب بعضنا على بعض في مثل ذلك.

التربية والتأديب بالضرب

التربية والتأديب بالضرب Q ما رأيك في الضرب أثناء التربية لتعليم الطفل والشاب أو حرمانه من شيء يحبه؟ A الضرب ورد أنه وسيلة تربوية قال الله عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فأمر بضرب المرأة إذا احتاجت إلى الضرب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح). لكن هذا لا يعني أن يتحول الزوج إلى جلاد، بل النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب وقال: (أولئك ليسوا بخياركم)، وقال: (خيركم خيركم لأهله). وكذلك أيضاً شرع ضرب الصغير للصلاة: (واضربوهم عليها لعشر). وشرع التعزير عموماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، واختلف العلماء في معنى حد من حدود الله، ومن أقوى الأقوال أن المقصود أي أمر محرم، يعني أن عشرة أسواط في قضية غير محرمة مما يحتاج الأب والمربي إلى أن يؤدب ابنه عليه، أما حدود الله فالمقصود بها المعاصي، فالمعاصي من حدود الله، ولذلك يقول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. لكن أيضاً لا ينبغي أن يكون هذا الضرب هدفاً ووسيلة، وأن يتحول الإنسان إلى رجل باطش وجلاد، ولنا قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه). نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما قلنا الخير والبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك وأتوب إليك.

رسالة إلى شاب

رسالة إلى شاب الشباب التائه من أبناء المسلمين كثيرون، فهم غارقون في بحار الفتن والشهوات، وهم على كل حال لا تزال فيهم جوانب كثيرة من الخير، فهم بحاجة منا إلى نصح ومساعدة حتى نأخذ بأيديهم إلى طريق الخير والصلاح.

دواعي الرسالة

دواعي الرسالة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى على أن جمعنا وإياكم في هذا المكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوقفنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجمعنا في مستقر رحمته، ودار كرامته، ويجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله يوم يناديهم سبحانه وتعالى: (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي؟!). أيها الإخوة! حديثنا هذه الليلة (رسالة إلى شاب)، وهي رسالة من نوع معين إلى أولئك الشباب الذين ولدوا من آباء مسلمين، وأمهات مسلمات، وعاشوا في هذا المجتمع المسلم، وهم يحملون الفطرة الإيمانية، ويحملون بذور الخير في قلوبهم، بل ويحافظون على كثير من أحكام الله وشعائره، ولكنهم يمارسون ألواناً من الانحراف عن دين الله سبحانه وتعالى، وألواناً من الضياع، تتفاوت هذه الألوان وهذه الصور؛ لكننا نجزم أن غالبهم وعامتهم ينتظرون اليوم الذي يسيرون فيه في طريق المستقيمين، والذي يسلكون فيه درب الاستقامة والسعادة. ولذا كان لزاماً علينا أن نعتني بإخواننا هؤلاء، وأن نقدم لهم الكلمة الصادقة؛ لعلها أن تجد آذاناً صاغية، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يفتح أبواب قلوب بعض المعرضين من كلمة قد لا يلقي لها صاحبها بالاً. أيها الإخوة! هؤلاء الشباب مع ما يقعون فيه من الانحراف والضياع الذي قد يصل ببعضهم إلى ترك الصلاة وترك الواجبات، فعامتهم ينتظر ويتمنى اليوم الذي يسلك فيه الطريق المستقيم. ولكن هناك عقبات وعوائق وموانع، ولذا فقد قمت بإجراء بحث حول هذا الموضوع، وأعددت استمارة وزعت على بعض هؤلاء الشباب في مدينة الرياض، ثم بعد ذلك خرجت لنا نتائج أعلنا بعضاً منها في المحاضرة السابقة، والتي كانت بعنوان: عوائق الاستقامة، وكان في النية أن أتحدث في تلك المحاضرة عن هذه العوائق ومناقشتها، وأن تكون موجهة إلى هؤلاء الذين تحجزهم هذه العوائق؛ ولكن ضاق الوقت فأحببنا أن نرسل لهم هذه الرسالة الخاصة. أيها الإخوة! قد تطول صفحات هذه الرسالة، ولكن المعذرة فلعلها تكون صادرة من قلب يحترق ويتألم على ما يرى من ضياع الكثير من الشباب الذين تؤمل فيهم الأمة آمالها، والذين تعدهم الأمة لغدها المشرق، قد تطول صفحات هذه الرسالة فتبلغ عشرين صفحة، وهي: لماذا هذه الرسالة؟ من محاسنكم. هل رأيت الأخيار؟ هل هؤلاء خير منك؟ هلا قرأت التاريخ. ألا تعرف أحداً منهم؟ أسمعت عن هؤلاء؟ تأمل في واقع أمتك. ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟ قبل أن تذبل الزهرة. ماذا يريدون منك؟ حتى لا تدفع ضريبة الغفلة. اعلن البراءة اليوم قبل الغد. وإليك البديل. أيهما تختار؟ كن سابع سبعة. استعد للامتحان. لا تنتظر الموعد الموهوم. فقد تكون النهاية. لا تقطع الحبل الموصول. لا تيأس، واتخذ القرار الحاسم. فهو العائق الوحيد.

لماذا هذه الرسالة

لماذا هذه الرسالة الصفحة الأولى: لماذا هذه الرسالة؟ أيها الشباب! لماذا نوجه لكم هذه الرسالة؟ ونتوجه لكم بهذا الحديث الخاص؟ إن هذا ما يدفعنا إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وإنه مهما بدر منكم من التقصير والإعراض والغفلة، فإنكم مع ذلك كله تبقون إخواناً لنا، فلكم إخوة الإسلام، وولاء الإسلام، وحق الإسلام، فمن حقكم علينا أن نحب لكم ما نحب لأنفسنا، وأعظم ما نحب لأنفسنا ونتمنى لأنفسنا هو سلوك طريق الهداية. وهذه الهداية التي وفق الله لها الصالحين، ونسأله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم ممن وفق لها، هذه الهداية والله ما حصلها من حصلها بكد أمه ولا كد أبيه، ولا بجهده وطاقته، إنما هو توفيق من الله سبحانه وتعالى، ومنة ونعمة من الله عز وجل القائل سبحانه وتعالى: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم). ومن حق هذه النعمة وواجب شكرها أن نحرص على أن ننقل هذه النعمة إلى الآخرين، وأن نقول للناس الذين لم يسلكوا الطريق: هانحن قد سلكنا هذا الطريق، فهلموا وبادروا معنا وسيروا؛ علكم تجدوا ما وجدنا فيه من السعادة والطمأنينة، ولذة عبادة الله سبحانه وتعالى، والتي نرجو أن تكون بعد ذلك طريقاً إلى السعادة الأبدية والسرمدية، ولذة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى. أخي الشاب! إذا لم نرسل لك هذه الرسالة، فممن تنتظرها؟! أتنتظرها من شركائك في الفساد؟ أتنتظرها من قرناء السوء الذين أنت بنفسك قلت لنا فيما كتبته لنا وحدثتنا به: إن هؤلاء هم العائق الأول عن سلوك طريق الاستقامة، فهل تنتظر من هؤلاء أن يرسلوا لك هذه الرسالة؟ أم تنتظر هذه الرسالة من أولئك المفسدين الذين يتربصون بك الدوائر، والذين صدروا لك الأفلام الساقطة، والصور الخليعة، وتفننوا في صدك عن سبيل الله عز وجل؟ أتنتظر منهم بعد ذلك أن يرسلوا لك هذه الرسالة، ويوجهوا لك هذه النصيحة؟ أم تنتظرها من أعدائك من الكفار وغيرهم؟ أجزم أنك لن تسمع هذه الرسالة إلا من قلب يملؤه شعوران: شعور بالعطف والشفقة والمحبة لك، وشعور بالخوف والقلق أن تصير إلى النهاية الخطيرة إلى الهلاك الذي لا نجاة بعده.

من محاسنكم

من محاسنكم وأما الصفحة الثانية فهي بعنوان: من محاسنكم: إن هؤلاء الشباب مع ما عندهم من الإعراض والغفلة، ومع ما عندهم من الفساد الذي لا نقلل من خطورته، إلا أن الدراسة أثبتت لنا أن هناك جوانب خيرة، وهناك جوانب مضيئة في سيرة هؤلاء، فإليكم تلك الجوانب التي قد يكون قالها وأجاب عنها بعضكم ممن يستمع إلى حديثنا الآن، فمن ذلك:

التفكير بالالتزام

التفكير بالالتزام أن أكثر هؤلاء قد فكروا بالالتزام، فـ (93%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (92%) من طلاب المرحلة المتوسطة قد فكروا في الالتزام، و (32%) منهم فكروا تفكيراً جاداً في سلوك هذا الطريق، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة، و (71%) قد فكروا بذلك أكثر من ثلاث مرات. إذاً: فالغالبية من هؤلاء لا يدركون خطأ الطريق فقط، ولا يدركون خطورة الأمر فقط، بل إنهم يفكرون تفكيراً قد يكون جاداً، وقد يكون دون ذلك، المهم أن لديهم الرغبة، وأن لديهم الدافع في توديع حياة الغفلة والإعراض، والسير في ركاب الصالحين. أيضاً: أكثر هؤلاء يشعر بأن الالتزام هو طريق السعادة، فـ (79%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (81%) من طلاب المرحلة المتوسطة أجابوا بأنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة. أما (21%) و (18%) فأجابوا بلا أدري، أما الذين أجابوا بـ (لا) فهم (1%) من كلا المرحلتين. إذاً: فأكثر هؤلاء أيضاً يدرك تمام الإدراك أن الالتزام هو طريق السعادة. فإذا كنت -يا أخي- قد أدركت أن هذا الطريق هو الذي يحقق لك السعادة، فما الذي يمنعك من سلوكه، والمصير إليه.

الاستماع للنصيحة

الاستماع للنصيحة أيضاً: من الجوانب المضيئة عند هؤلاء أن أكثرهم يستمع للنصيحة ويستجيب لها: فقريب من (70%) من هؤلاء استفادوا استفادة إيجابية من النصيحة التي وجهت لهم، فمنهم من استقام مدة محددة، ومنهم من تأثر، المهم أن النصيحة والكلمة الصادقة لها أثر على هؤلاء. لا أريد أن أطيل في هذه النتائج، فلدي الكثير من ذلك، ولكني أرى أن الصفحات بعضها يدفع بعضاً؛ حتى لا يضيق الوقت عنها.

هل رأيت الأخيار

هل رأيت الأخيار الصفحة الثالثة: هل رأيت الشباب الأخيار؟ لابد أنك قد رأيت ذاك الشاب المستقيم السائر على طاعة الله سبحانه وتعالى، رأيته يوماً من الأيام يمد يده ليعطي لك شريطاً، أو يعطيك كتيباً، أو يتحرك لسانه بلغة تدرك منها الإشفاق والنصح ليوجه لك نصيحة صادقة وخالصة. إنه أيضاً قبل أن تمتد يده بهذا الشريط وهذا الكتاب قد امتدت إلى جيبه لتخرج تلك النقود يدفعها ليشتري لك هذه الهدية يدفعها لك وهو يدعو لك بدعاء صالح، ودعاء صادق أن يهديك الله سبحانه وتعالى. أرأيت هؤلاء؟ ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ ما الذي يدعوهم لهذا؟ ما الذي يدعوه إلى أن يكثر لك النصيحة؟ بل الذي دعاك لحضور هذه المحاضرة، وحضور هذا المجلس، والذي يدعوك من وقت لآخر إلى أن تحضر مجالس العلم، ولقاءات الخير، ما الذي يدفعه لذلك؟ أرأيت أولئك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الذين تتفطر قلوبهم حزناً وألماً على واقعك وواقع إخوانك، الذين يسهرون ليلهم، ويصرفون أقواتهم في بذل الجهد لإنقاذك من هذه الغفلة، ماذا يريد كل أولئك؟ أليس هذا -يا أخي- وحده كافياً أن يشعرك فعلاً بأنك تسير على طريق نهايته أليمة؟ أليس هذا كافياً بأن يهزك هزاً ليوجهك إلى أن تسلك الصراط المستقيم؟ كل هذه الجهود -أخي الكريم- وكل ما تراه إنما هو من أجلك، من أجل إنقاذك من الخطر الداهم، ومن أن تتعرض لسخط الله وعذابه سبحانه وتعالى، من أجل أن ينقلوك إلى سعادة الحياة الدنيا التي قلت أنت بنفسك وبقلمك: أنك تدرك أن الالتزام وأن الاستقامة هي طريق السعادة. فلا تظن -أخي الكريم- أن ما أنت عليه من التمتع بالشهوات المحرمة هي غاية الحياة الدنيا، وهي النعيم، ولكن النعيم هو ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. إن هؤلاء الشباب الأخيار، وأولئك الدعاة، وغيرهم الكثير الكثير الذين يسهرون ويؤرقهم همك، كل هؤلاء يسعون إلى أن ينقلوك إلى هذه السعادة وهذا النعيم، وإن هذا النعيم -أخي الكريم- هو الطريق والخطوة الأولى بعد ذلك للسعادة الأبدية، والسعادة السرمدية، يوم يؤتى بالموت على هيئة كبش، فيقال لأهل الجنة: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت. ويقال لأهل النار: أتعرون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت. فيذبح حينئذٍ بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، حينئذٍ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. ولتعلم -أخي الكريم- أن السعادة، ولذة الإيمان، وجنة الدنيا التي يجدها المطيع لله سبحانه وتعالى في هذه الحياة هي الخطوة الأولى في طريق السعادة الأبدية السرمدية، وهي البوابة التي لابد أن يلجها من شاء أن يسلك وأن يصير إلى طريق السعادة الأبدية، التي لا شقاء ولا خسارة بعدها.

هل هؤلاء خير منك

هل هؤلاء خير منك الصفحة الرابعة: هل هؤلاء خير منك؟ عندما ندعوك إلى أن تسلك طريق الالتزام تعتذر بأنك لا تستطيع ذلك، وأنك مقتنع تمام القناعة بخطأ الطريق الذي أنت عليه، وأنك تتمنى أن تسير في ركب الصالحين، وتدرك هذا الأمر؛ لكنك تعتذر أنك لا تطيق، فأمامك الفتن، وأمامك الشهوات، وأمامك العوائق. فهل رأيت هؤلاء الشباب الذين يفيضون عفة وطهارة؟ ألم ينتصروا على شهواتهم؟ أرأيت هؤلاء الشباب يتسابقون على مجالس العلم ولقاءات الخير، في حين كنت تسابق على مدرجات الكرة وملاعب الكرة؟ أرأيت هؤلاء الشباب يقضون ليلهم ركعاً سجداً حين ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أرأيت هؤلاء الشباب الذين يقضون ليلهم بكاءً وتضرعاً وخضوعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى، في حين تقضي ليلك أنت بما لا يخفى عليك؟ أرأيت هؤلاء الشباب الذين يعيشون هذه الحالة؟ أهم ملائكة؟ أهم معصومون؟ أليس لهم شهوات؟ أليس أمامهم فتن؟ بل قد تكون أبواب الفتن مشرعة أمامهم أكثر منك، وما يدريك عن حالهم؟! قد يكونون أكثر شهوة منك، وقد تكون أنت أقوى منهم شخصية، وأقدر منهم على الثبات، فلماذا انتصر هؤلاء وانهزمت أنت؟ لماذا استطاع هؤلاء أن يسلكوا طريق العفة وخضت أنت في بحر الرذيلة؟ أليسوا بشراً مثلك؟ أليسوا يعيشون الفتن كما تعيشها؟ ألست تواجههم الشهوات؟ فلماذا استطاعوا أن يشقوا الطريق وأنت لم تستطع ذلك؟

هلا قرأت التاريخ

هلا قرأت التاريخ الصفحة الخامسة: هلا قرأت التاريخ: أسماء أظنك لا تجهلها، وأظنك وإن تعلقت بالرياضة والفن والساقطين والغناء، فأظن بل أجزم أن هؤلاء أحب إلى قلبك من أولئك الساقطين، لعلك قد سمعت عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب ومعاذ ومعوذ ابني عفراء، وغيرهم من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. إنهم أيضاً بشر مثلك، لكنهم انتصروا على أنفسهم أولاً قبل أن ينتصروا على أعدائهم، فسطروا للأمة تلك الصفحات البيضاء الناصعة؟ أرأيت أسامة بن زيد رضي الله عنه يقود جيشاً يواجه به أعتى قوة دولية في ذاك الوقت وعمره دون عمرك، عمره لم يتجاوز العشرين عاماً؟ أظن أنك تسمع عن بلاد السند والهند، وما وراء النهر، أتدري من الذي نقل الإسلام إلى أولئك؟ أتدري من الذي حطم الوثنية التي كانت جاثمة هناك؟ إنهم شباب بعضهم في سنك، أو دونك، أو أكبر منك، المهم أنهم يعيشون المرحلة التي تعيشها. لعلك -يا أخي- قد سمعت بشاب كان دون العشرين من عمره، عاش في بيئة تغص بالشرك والوثنية ليس فيها من يقول: ربي الله إلا راهب واحد مستخفٍ في رأس جبل، وحين دخل هذا الدين قلب هذا الشاب؛ جاء ليقوم بهذا الدين، ويواجه به الناس، ويقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى؛ حتى يمن الله عز وجل عليه بعد ذلك بأن تهتدي على يديه قرية كاملة ثم يذهبون شهداء، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]. إنه شاب مثلك، لم يصحب نبياً، إنه عاش واقعاً أجزم أنه أسوأ من الواقع الذي تعيشه، عاش في بيئة ليست مليئة بالشهوات فقط، بل تغص بالشرك والعبودية لغير الله، ومع ذلك قام وحده دون معين ودون ناصح؛ ليعلن كلمة الحق، ليعلن أن لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ثم بعد ذلك منّ الله عز وجل عليه بالشهادة في سبيله، ومنّ الله عليه بأن تدخل الأفواج من الناس في دين الله على يديه، قائلين: آمنا بالله رب الغلام. فما الفرق بينك وبينه؟ أليس شاباً مثلك؟ أليست هذه النماذج كافية بأن تجعلك تودع حالة الغفلة والإعراض إلى غير رجعة، وأن تطلقها ثلاثاً؟

ألا تعرف أحدا منهم

ألا تعرف أحداً منهم الصفحة السادسة: ألا تعرف أحداً منهم؟ كثير هم الشباب الذين منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بالهداية وسلوك الطريق المستقيم بعد أن انغمسوا إلى رءوسهم في الشهوات، وأوحال الفتن والضلال، وأظن أنك ولابد تعرف بعضاً منهم، قد يكون أحدهم شقيقك، وقد يكون جارك، وقد يكون زميلك في فصلك، وقد يكون صديقك الذي كان يعينك على المعصية، بل كان يشرع أمامك الأبواب، وكان معيناً لك، وقد يكون أسوأ منك يوم أن كان على الضلال، فما الذي جعله ينتصر على نفسه وتخفق أنت؟! إنه مثلك ذاق الشهوات المحرمة، وقد غاص في أوحال الفتن، وها أنت تراه وقد سلك طريق الاستقامة وطريق السعادة، وهو يقول لك بلسان حالة قبل أن يقول لك بلسان مقاله: ها أنا الآن وجدت طريق السعادة، وودعت طريق الشقاوة والضلال إلى غير رجعة. أليس في هذه النماذج عبرة لك ومقنعاً بأنك مهما بلغت من الفساد قادر على أن تكون خيراً منه، وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟

أسمعت عن هؤلاء

أسمعت عن هؤلاء الصفحة السابعة: أسمعت عن هؤلاء؟ إنهم فئة من شباب الأمة منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بمحبة دينه، والتضحية من أجله، فسافروا وسافرت، وخاطروا وخاطرت، ولكن إلى أين وبم خاطروا؟! لقد سافروا إلى بلاد العجم وقاتلوا في سبيل الله؛ حتى ذهبوا شهداء في سبيل الله عز وجل، ينهانا الله سبحانه وتعالى أن نقول إنهم أموات، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. أرأيت أولئك الشهداء الأبرار الذين قد تكون تعرف واحداً منهم، بل قد يكون أحدهم شريكاً لك في الضلالة والانحراف، ثم منّ الله سبحانه وتعالى عليه، فلم يجد أغلى من نفسه فجاد بها في سبيل الله سبحانه وتعالى، وسافر للجهاد في سبيل الله يوم أن سافرت أنت لتحقق الشهوات واللذات المحرمة، وشتان بين الأمرين، خاطر بنفسه في سبيل الله وهو يستلذ تلك الخطورة، وأكثر ما يواجهه الموت، وهذا ما يتمناه ويريده، بل هذا ما ارتكب المشاق من أجله. ولكنك أنت خاطرت لارتكاب الجريمة والفاحشة، وللوقوع فريسة الأمراض الجنسية والإدمان على المخدرات التي تقضي على حياتك. إن هذه هي المخاطر التي ارتكبتها، وهذا هو الطريق الذي وضعت قدمك في أوله، ومن وضع قدمه في أول الطريق، فلابد أن يصل إلى آخره، ما لم يمن الله عليه بالرجعة والأوبة إليه سبحانه وتعالى. أخي الكريم! هل تتصور أنه من المستحيل أن تكون مثل أولئك؟ ومن هم أولئك؟ ليسوا صحابة ولا تابعين، ولم يعيشوا في عصر السلف، بل عاشوا في العصر الذي عشت فيه، عاشوا في عصر الفتن والشهوات، وتعرضوا لما تعرضت له، وبعضهم قد مارس مثلما مارست، بل قد يكون أسوأ من الحال التي أنت عليها، وبعد ذلك منّ الله عليهم بالهداية؛ حتى قضوا نحبهم في سبيل الله، وهم يقولون للأجيال من بعدهم: هانحن نضيء الطريق لكم بدمائنا وبأرواحنا، فسيروا فإن الجنة تنتظر الشهداء.

تأمل في واقع أمتك

تأمل في واقع أمتك الصفحة الثامنة: تأمل في واقع أمتك: استمع الآن لنشرة الأخبار، لابد أن يواجهك ما يقال عن إخوانك المسلمين في يوغسلافيا، القتلى بالآلاف، والمشردون بالملايين، والمساجد تهدم وتدمر على المصلين، إخوانك المسلمون هناك يذبحون، وتراق دماؤهم، بل ترتكب معهم أبشع الجرائم، وأبشع انتهاك لحقوق الإنسان إذا عبرنا بالمصطلح المعاصر، ها هم يعيشون آلاماً يتمنون أن تشاركهم فيها. ومن قبلهم تعرض إخوانك المسلمون في بورما لما تعرضوا له، ومن قبلهم أريقت دماء عشرين ألفاً من المسلمين في حلبجة، ومن قبلهم أريقت دماء ربع مليون من أهل السنة في الأرض التي بارك الله حولها على يد الباطنيين الذين يحقدون على أهل السنة، ويتمنون اليوم الذي يعيدون فيه أمجاد العبيديين والقرامطة. أما الذين يئنون في السجون تحت وطآت السياط، فإنك لا تسمع أناتهم، وكيف لك أن تسمع أناتهم وأنت منشغل بسماع أمر آخر، أما صرخات أخواتك اللاتي تنتهك أعراضهن في كل مكان، بل وفي بلاد المسلمين وللأسف، فلن تسمع هذه الصرخات؛ لأنك تسمع صرخات من نوع آخر. أخي الكريم! أيليق بك وأنت ترى المسلمين يقادون لمجازرهم كما تقاد الشياه، وترى أنهار الدماء تجري من إخوانك المسلمين، أيليق بك بعد ذلك أن يكون غاية همك شهوة محرمة، ونزوة عاجلة، ولهواً ولعباً، ومزاحمة على مدرجات الكرة، وإخوانك يستصرخون ويستغيثون؛ ماذا يقولون عنك لو رأوا حالك؟! ماذا يقولون عنك وأنت على أقل الأحوال لم تتابع أخبارهم؛ لأنك شغلت بمتابعة أخبار الرياضيين والساقطين، ولم يؤلمك ما يحصل لأخواتك المؤمنات من انتهاك للأعراض وإهانة؛ لأنك مشغول بمتابعة نساء من لون آخر ومتابعة أخرى. ماذا تقول عنك أختك التي ينتهك عرضها وتصرخ وتستغيث؟ كيف لو تراك وأنت تطارد النساء في الأسواق وعند المدارس؟ أرجو أن تعذرني على هذه الصراحة، ولكنه الواقع الأليم! أليس إدراكك لهذا الواقع، وإدراكك لهذا التآمر الذي يمارس ضد أمتك، وضد إخوانك، بل ضدك أنت، وقد تقول يوماً من الأيام: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وإن كان اليوم ليس يومك، فقد يكون غداً هو يومك، وقد يأتي عليك اليوم الذي تستصرخ فيه كما يستصرخ إخوانك، فلا تجد من يغيثك، لماذا؟ لأنك سمعت أناتهم، وسمعت صرخاتهم، ورأيت واقعهم، وأنت في وادٍ آخر، والجزاء من جنس العمل؟

ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟

ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟ الصفحة التاسعة: ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟ مع هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة أخي الشاب، والذي يدمي حديثه القلوب، والذي يسيل الدموع فتح بعض صفحاته، فعن ماذا نتحدث، عن التآمر الدولي على المسلمين، وعن تكالب الأعداء وتداعي الأمم، أم عن الفساد والانحلال السائد في مجتمعات المسلمين وواقعهم؟ مع ذلك كله -أخي الكريم- ومع هذه الصفحة الكالحة بدأنا نرى الفجر الصادق تلوح أنواره في الأفق، وبدأنا نرى الصفحة البيضاء تنصع، وبدأنا نرى الصحوة الإسلامية المباركة، ولقد سارت -أخي الكريم- هذه الصحوة وحققت إنجازات رائعة، لعل هذه المظاهر التي تراها، وهذا الشباب الغض المقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى إنما هو جزء من النجاح الذي حققته هذه الصحوة المباركة، وهذه المظاهر للنشاط الإسلامي التي تملأ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وهذا الشعور الذي أصبح يوجد عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، جاهلهم ومتعلمهم، إنما هو جزء وثمرة من ثمرات هذه الصحوة المباركة. أخي الكريم! لقد دخل إخوانك أحفاد عقبة، وتلاميذ ابن باديس الحياة السياسية والبرلمانية؛ فأسمعوا العالم كله أن الشعب المسلم يسير وراءهم، ويريد تطبيق الإسلام، ويريد الحكم للإسلام، فلم تعد القضية مطالب فئة من الدعاة، ولا مطالب جماعة من الجماعات، إنما عبر المسلمون جميعاً الفاسق منهم والمعرض قبل التقي والصالح أنهم لا يريدون إلا الإسلام. أرأيت الصفحة البيضاء والإنجاز الرائع الذي حققه إخوانك هناك في أفغانستان عندما مرغوا أنوف الروس الذين كانوا في ذاك الوقت أعتى قوة دولية، والذين كان يحسب الغرب لهم ألف حساب؟ أرأيت إخوانك هناك بالبنادق، والسلاح اليدوي، وبالجهود المتواضعة، ومع الجوع والفقر والبرد، لكنهم استطاعوا أن يرغموا أنوف الروس، وأن يخرجوهم صاغرين من أفغانستان، ثم توجوا هذا النصر بإسقاط الحكم الشيوعي، وإقامة حكم الله، وإقامة دولة الإسلام، أرأيت هذا النصر وهذا الإنجاز؟ لن أسترسل معك -أخي الكريم- في الحديث عن إنجازات الصحوة ونتائجها، ولكنها إنجازات أجزم أنك تشاركني أنها رائعة، ولا تظن أنها هي الوحيدة، بل هي البداية، وهي الطليعة. إننا نعتبر النصر الذي تحقق في أفغانستان طليعة الانتصارات الرائعة التي لابد أن تتحقق لهذه الأمة، ولن يدع الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر. بعد ذلك أقول لك: ألا تتمنى -أخي الكريم- أن تشارك في هذه الإنجازات؟ ألا تتمنى أن تخط اسمك بين الذين يسطرون هذه الصفحات؟ وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟ مرة أخرى أقول: إن الذين حققوا هذه الإنجازات هم بشر مثلك، يعيشون في الوقت الذي تعيش فيه، ويتعرضون للشهوات التي تتعرض لها، ويتعرضون للعوائق التي تتعرض لها، ومع ذلك استطاعوا أن يخطوا هذه الصفحات، ويحققوا هذه الإنجازات. ألم تحدثك نفسك يوماً من الأيام أن تشارك في تحقيق هذه الإنجازات، وأن تضرب بسهم مع أولئك المتسابقين في رفع راية لا إله إلا الله؟ وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟ مرة أخرى أقول: ليست هذه الإنجازات الوحيدة، بل هي الطليعة، وهي البوابة، وهي البداية للمد الكاسح الذي لابد أن يحقق أهدافه بمشيئة الله وتوفيقه، (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)، فهو وعد صادق من النبي صلى الله عليه وسلم. أخي الكريم! أيهما أحب لك: أن تحقق إنجازاً كروياً، وإنجازاً رياضياً، فتسطر اسمك بين ألمع أصحاب الكرة، أو تحقق إنجازاً فنياً، فتصير فناناً صاعداً، يسمع لك الجميع، أو ممثلاً، أو غير ذلك من الأماني الساقطة التي يسعى إليها الكثير، أو أن تكون مشاركاً في تحقيق هذا النصر، فتقر عينك بما حققته في الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى؟ أخي الكريم! مرة أخرى أقول: مهما بلغ بك الإعراض، ومهما بلغت من الغفلة والانغماس في أوحال الفتن والشهوات، فلا تتصور أبداً أن هذا الأمر مستحيل، إنك قادر على أن تتوب إلى الله، وتحقق أكثر مما حقق إخوانك، فقد فتحوا لك الطريق، وأضاءوا أمامك السبيل. أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كانوا حفاة رعاة، وكانوا يأكلون الخنافس، ويأتون الفواحش، وكان أحدهم يقتل ابنته خشية أن يلحقه العار، ويقتل وليده خشية أن يطعم معه، وبعد ذلك منّ الله عليهم بهذا الدين، فماذا صنعوا؟ لقد بنوا لهذه الأمة مجداً لا يخفى عليكم، فخرجوا من تلك الجزيرة فقراء معدمين؛ حتى استطاعوا أن يدكوا عروش أقوى قوتين في العالم، فدكوا عروش كسرى وقيصر. أولئك الصحابة: عمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد، وغيرهم، ألم يكونوا يوماً من الأيام معرضين؟ بل ألم يكونوا عبدة للأوثان؟ بل قد كانوا فوق ذلك كله في يوم من الأيام يحملون السلاح ويخاطرون بأنفسهم؟ ليئدوا هذا الدين وهذه

قبل أن تذبل الزهرة

قبل أن تذبل الزهرة الصفحة العاشرة: قبل أن تذبل الزهرة: ها أنت شاب تتدفق حيوية ونشاطاً وقوة وفتوة، ولكن هل تتخيل -أخي الكريم- أن هذه الزهرة اليانعة التي تتمتع بها الآن ستبقى معك أبد الآبدين؟ أرأيت ذاك الشيخ الطاعن في السن وقد شاب شعره، واحدودب ظهره، وأصبح يمشي على ثلاث، بعد أن كان يمشي على اثنتين، وأصبح لا يخطو إلا خطوات وئيدة، ثقل سمعه وبصره، أرأيت ذاك الشيخ؟ إنك لابد لك من أحد مصيرين: إما أن تصير إلى ما صار إليه، أو أن تهلك وتموت وأنت في شبابك، وبعد ذلك تتحسر على هذه الزهرة اليانعة، وعلى هذه الأيام التي أضعتها في غير طاعة الله سبحانه وتعالى. فهل تتخيل -يا أخي الكريم- أن هذا الشباب سيستمر معك، وهذه الفتوة ستبقى معك؟ بل قد تكون النتيجة قبل ذلك كله مرضاً مزمناً يجعلك تعيش في عداد المعوقين، حينئذٍ تقول: ليتني فعلت قبل ذلك. اسمع ما يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه حينما شدد على نفسه في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالقسط والاعتدال، فماذا قال عبد الله رضي الله عنه الذي كان يصوم كل يوم، ويختم القرآن كل يوم، ويقوم الليل كله قال: يا رسول الله! دعني أستمتع بقوتي وشبابي. نعم، لقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة، لكنه لم ينهه عن الاستمتاع بالقوة والشباب، وكيف كان يستمتع بقوته وشبابه؟ لقد كان يستمتع بها في طاعة الله عز وجل. ألم تنظر إلى أولئك الشباب الذين حينما يردهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المعركة وهم لم يبلغوا الحلم بعد، ينصرفون وهم يبكون؛ لأنه حيل بينهم وبين أن تراق دماؤهم في سبيل الله عز وجل، فقارن -أخي الكريم- بين أمنيتك وأمنية أولئك، وبين تطلعاتك وتطلعات أولئك.

ماذا يريد منك أولئك

ماذا يريد منك أولئك الصفحة الحادية عشرة: ماذا يريد منك أولئك؟ هذا العصر يمتاز بأنه عصر التقنية، وعصر التقدم العلمي والتطور، ولقد استغل الأعداء هذا التقدم وهذا التطور، فوفروا هذه الطاقة والتقنية ووظفوها في التفنن في استخراج الصور الخالعة والفاتنة، وفي استخراج وتصنيع أجهزة الفيديو التي تعرض لك الأفلام الساقطة التي أنت أعلم مني بما يدور فيها. من الذي وراء ذلك؟ ومن الذي يساهم في إدخال هذه المصائب إلى بلادنا؟ ومن الذي يقودك بصورة أو بأخرى إليها؟ ومن الذي يقودك إلى المخدرات؟ ومن الذي يسعى إلى ترويجها؟ أجزم أنك تعرف أنهم أعداؤك، إنهم وإن ساعدوك في تحقيق شهوة من شهواتك، فهل تظن -أخي الكريم- أنهم يريدون بك خيراً. إنهم يريدون القضاء على آخر ما تملكه من مقومات العفة والحياء والديانة والطهارة، فهل تستجيب لهم، وتكون لهم بوقاً بعد ذلك؟

حتى لا تدفع ضريبة الغفلة

حتى لا تدفع ضريبة الغفلة الصفحة الثانية عشرة: حتى لا تدفع ضريبة الغفلة: تسمع عن شيء اسمه الأمراض الجنسية، وهي أمراض قد تصيب كل من يمارس ممارسة محرمة، فتخيل معي موقف الشاب الذي يقف بين يدي الطبيب، فتخرج نتيجة التحليل بعد ذلك، فيقول له الطبيب: أنت مصاب بمرض جنسي! تخيل معي الحالة النفسية، والجحيم النفسي الذي لا يطاق، والذي سيعاني منه هذا الشاب، قبل الألم الجسدي الذي لا يستطيع أن يتحمله بعد ذلك! وحين يودع غرفة خاصة فيعوده الناس، من يا ترى سيعوده؟! ومن سيسأل عن حاله؟! قد يعوده بعض شركائه في المعصية، وإن كانوا أول من يتخلى عنه، ولكن تخيل معي أي لعنة وسب وشتم سيسمعونه منه حينما يأتون إليه يعودونه؛ لأنهم هم الذين أوقعوه في هذا الوحل. فهل يليق بك أن تشتري لذة وشهوة عاجلة، وتعرض نفسك لهذه العقوبة الشنيعة: (وما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها؛ إلا ابتلاهم الله عز وجل بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم). وتخيل معي بعد ذلك حاله عندما يموت، كيف سيكون مجلس عزائه؟! أي كلمة ثناء ستقال عنه؟! أي شيء من محاسنه سيذكر؟! عافانا الله وإياك من سوء الخاتمة. إنها -أخي الكريم- ليست هي العقوبة الوحيدة، وليست هي العقوبة الكبرى، بل هي عقوبة عاجلة، وما بعد ذلك عند الله عز وجل أشد وأطغى. فهل يليق بك أن تمتع نفسك بلذة عاجلة سرعان ما تزول، مقابل أن تتعرض لهذا الجحيم، وهذا الألم الذي لا يطاق؟ مصيبة أخرى وكارثة أخرى: قد تقع يوماً من الأيام بصورة أو بأخرى في قبضة رجل الأمن، أو رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتودع السجن، وحينئذٍ ماذا سيقول الناس عنك؟! ومن سيثق فيك؟ ومن سيثني عليك؟ وحين تخرج من السجن بعد ذلك كيف سينظر الناس إليك؟ تخرج من السجن فقدت وظيفتك، وفقدت دراستك، وفقدت سمعتك، وفقدت كل ما تملك أمام الناس، فأصبح الناس ينظرون إليك بنظرة خاصة، بل حتى الذي ينظر إليك بنظرة الإشفاق ستتخيل أنه ينظر إليك بنظرة المقت؛ لتلك النفسية والجحيم الذي تعيشه. وبعد ذلك تبحث عن الزواج، ثم تتقدم لعائلة عفيفة كريمة، فيسأل عنك، فيقال: قد دخل السجن، فتخيل من ذا الذي سيوافق على أن يضع ابنته عندك؟! حينئذٍ تضطر إلى أن تتزوج إحدى اثنتين: إما فتاة لم تجد من يتقدم لها، ووجد والدها أن أهون الشرين أن تكون أنت زوجها، أو أن تجد فتاة شاركتك الحياة، وكانت قد دخلت السجن قبلك، أي حياة تعيشها بعد ذلك مع هذه الفتاة؟ أخي الكريم! والله إني لا أتمنى لك هذا المصير، ولكن أقول: إن طريق المعصية وطريق الفساد بوابة لهذا المصير الذي قد تصير إليه.

أعلن البراءة اليوم قبل الغد

أعلن البراءة اليوم قبل الغد الصفحة الثالثة عشرة: أعلن البراءة اليوم قبل الغد: عندما وجهت السؤال لبعض الشباب: ما الذي يمنعك عن الاستقامة؟ وما الذي يحول بينك وبينها؟ فأجابوا جميعاً بالحرف الواحد: إنه صديق السوء، وزميلي وجليسي، ويشير إلى صاحبه الذي يجلس بجواره، وأيضاً الكثير من الشباب الذين أجابوا في الأوراق التي أرسلت إليهم أفادوا أن جليس السوء وزميل السوء من أكبر العوائق عن سلوك طريق الاستقامة والهداية. وتقول بعد ذلك: لا أستطيع أن أتخلى عنه، يجب أن تعلم أنه لابد من الفراق، ولابد من البراءة منه شئت أم أبيت، الآن أو غداً، فقد تتبرأ منه يوم القيامة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29]. فتبرأ منه الآن قبل أن تقول يوم القيامة يوم لا ينفع الندم: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]. تبرأ قبل أن يقول قرينك: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]. وقبل أن يقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]. فلابد أن تعلن البراءة، ولابد أن تقول هذه الكلمة، فإن لم تقلها الآن فستقولها غداً، فأيهما تختار؟ وأي الأمرين أهون عليك؟ أن تقولها الآن فتسلك طريق السعادة، وتحمد الله على الهداية، أو أن تقولها يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم تعض على أصابع الندم، يوم أن تتمنى الرجوع وهيهات هيهات ذلك!

وإليك البديل

وإليك البديل الصفحة الرابعة عشرة: وإليك البديل: حينما نطلب منك أن تتخلى عن جلساء السوء، فإننا لا ندعوك إلى أن تعيش وحيداً، ولا ندعوك إلى أن تعيش حبيس حوائط أربعة، ولا ندعوك إلى أن تكون كأختك، بل ندعوك إلى بديل آخر، إلى رفقة يقول الله عز وجل عنهم يوم القيامة: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. قارن -أخي- بين الحالتين، بين من يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، ويقول: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]، ويقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، وبين أولئك الذين قال الله عنهم: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، نعم، إنهم الصحبة الصالحة، والرفقة الصالحة. ليس هذا فقط، فهناك نعيم آخر، يقول الله عز وجل يوم القيامة: (أين المتحابون بجلالي؛ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). ليس هذا فقط، بل هناك نعيم آخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتحابون بجلال الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء). أما بعد دخول الجنة فيزول كل ما في القلوب، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. أما أولئك فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، أولئك يدعون على قرنائهم، ويلعنونهم، ويتبرءون منهم، أما هؤلاء فقد نزع الله ما كان في قلوبهم من غل. إنه بديل فعلاً خير لك من هذا الجحيم الذي تعيشه، والذي عبرت أنت عنه بأنه رفيق السوء وزميل السوء.

أيهما تختار

أيهما تختار الصفحة الخامسة عشرة: لقد أفاد الكثير من الشباب أن الذي يعوقهم عن سلوك طريق الاستقامة هو الشهوة المحرمة، واسمع ما قاله أحد الشباب، يقول: هناك كلمة أخيرة أحب أن ألقيها، وهي مشكلة حياتي وعمري، ألا وهي شهوة الجنس، فأنا أعتبرها كأنها أشد من إدمان الهروين والعياذ بالله، فماذا أفعل عندما أرى بنتاً في الشارع مثلاً، أو امرأة تشتد الشهوة على الرغم من أنني لا أسمع الأغاني، ولا أشاهد التلفزيون إلا في الأخبار فقط، ولا أشاهد المجلات، فكيف بمن يشاهد ما هو أسوأ من ذلك؟! يقول: ولكن هذه المشكلة لم أجد لها حلاً، وهي المشكلة الوحيدة التي تؤثر على قلبي، وعلى دراستي، وعلى مستقبلي، فماذا أفعل. ليست هذه الكلمة الوحيدة، إنها مجرد نموذج واحد اخترته مما كتبه وسطره الكثير من أولئك الشباب. أي البدائل تختار أن تمتع نفسك بالشهوة واللذة العاجلة، والتي تكون نتيجتها مرضاً جنسياً، أو سجناً مظلماً، أو نهاية مؤلمة، أو عقوبة عاجلة من الله عز وجل، أو أن تختار ما يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)، ثم يقول بعد ذلك: (ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها). ويقول في الحديث الآخر، وهو في الصحيحين: (أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب). فأيهما خير لك الشهوة العاجلة، أم ذاك النعيم المقيم الذي يصفه لك النبي صلى الله عليه وسلم؟! هناك تحقق ما تريد، ولكن مع الرضا والطمأنينة، ومع السعادة واللذة التي لا تزول ولا تحول، أما هذه الدنيا فوالله لو اجتمعت لك كل الشهوات واللذات، فإنها سرعان ما تزول بغمسة واحدة في العذاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من أهل النار فيغمس غمسة في العذاب، فيقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك خير قط؟ فيقول: لا، يا رب). فأي البديلين خير لك؟ واسمع ما يقول ابن القيم رحمه الله في وصف تلك التي تنتظرك حينما تنتصر على نفسك وعلى شهواتك، والجزاء من جنس العمل، يقول: ولله كم من خيرة لو تبسمت أضاء لها نور من الفجر أعظم فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ويا لذة الأسماع حين تكلم ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت ويا خجلة البحرين حين تبسم فإن كنت ذا قلب عليل بحبها فلم يبق إلا وصلها لك مرهم يراها إذا أبدت له حسن وجهها يلذ بها قبل الوصال وينعم تفكه منها العين عند اجتلائها فواكه شتى طلعها ليس يعدم وللورد ما قد ألبسته خدودها وللخمر ما قد ضمه الريق والفم تقسم منها الحسن في جمع واحد فيا عجبا من واحد يتقسم تذكر بالرحمن من هو ناظر بجملتها أن السلو محرم لها فرق شتى من الحسن أجمعت فينطق بالتسبيح لا يتلعثم إذا قابلت جيش الهموم بوجهها تولى على أعقابه الجيش يهزم ولما جرى ماء الشباب بغصنها تيقن حقاً أنه ليس يهزم فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدم وكن مبغضاً للخائنات لحبها فتحظى بها من دونهن وتنعم وكن أيماً ممن سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم وصم يومك الأدنى لعلك في غد تفوز بعيد الفطر والناس صوم

كن سابع السبعة

كن سابع السبعة الصفحة السادسة عشرة: كن سابع السبعة: يقول صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق، حتى تصير منهم قدر ميل، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً). وفي الحديث الآخر: (يعرقون فيذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعاً). فانظر هذا الهول، وهذه الشدة، وهذا الكرب، وانظر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -ومن هؤلاء السبعة- شاب نشأ في طاعة الله عز وجل). هاهي الفرصة أمامك قبل أن يذهب وقت الشباب، فانشأ في طاعة الله، وأقبل على الله، ومهما مضى منك من الصبوة والغفلة، فإنك حين تعود وتقبل على الله عز وجل، وأنت لا زلت في مرحلة الشباب، فأنت أهل لأن تنال هذا النعيم، وما الذي يحول بينك وبين هذا النعيم؟ ولم لا تكون سابع هؤلاء السبعة؟ لم لا تكون صاحب همة عالية، وتتطلع إلى أن تكون من أولئك السبعة؟ أخي الكريم! أليس خيراً لك أن تتطلع إلى هذا النعيم، وأن تسخر زهرة شبابك في طاعة الله عز وجل؟ والله إنه خير لك من كل ما يسعى إليه الكثير من الشهوات واللذات العاجلة.

استعد للامتحان

استعد للامتحان الصفحة السابعة عشرة: استعد للامتحان: يقول صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه). سيسأل كل إنسان عن عمره، ولكنه أيضاً يسأل سؤالاً آخر عن هذه المرحلة من حياته، وعن هذه الفترة من عمره، ألا وهي مرحلة الشباب، فستسأل -يا أخي الكريم- عن هذا الشباب فيما أفنيته، فما أنت قائل؟ أأفنيته في السفر، أو في التعلق بالشهوات، أو باللهو واللعب؟ فأنت خصيم نفسك، فأعد الإجابة للسؤال، وخير لك أن تراجع نفسك الآن قبل أن تواجه بهذا السؤال، فحينئذٍ قد تجد ما لا طاقة لك على تحمله.

لا تنتظر الموعد الموهوم

لا تنتظر الموعد الموهوم الصفحة الثامنة عشرة: لا تنتظر الموعد الموهوم فقد تكون النهاية: ذكر الكثير من الشباب الذين قابلناهم شخصياً، أو الذين أجابوا على الاستمارة أنه ينتظر أن يأتيه حادث مثلاً، أو يموت له قريب، أو يأتيه أي شيء؛ حتى يدعوه إلى التوبة، فيتخيل أنه مع رغبته في الاستقامة لابد أن يأتيه هذا الموعد الموهوم، ينتظر هذا الوهم أن يتحقق، نعم قد يتحقق، ولكن قد تموت قبل أن يتحقق لك هذا الأمر، وقد يكون هذا الشخص الذي تتمنى أن تتعظ به هو أنت، ويتعظ بك غيرك، وقد يكون هذا الحادث الذي تنتظر أن يصيبك فيهزك هزاً ويوقظك من غفلتك هو النهاية لك. فلم تخادع نفسك؟ ولم التسويف؟

لا تقطع الحبل الموصول

لا تقطع الحبل الموصول الصفحة التاسعة عشرة: لا تقطع الحبل الموصول: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]. ويقول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه: (ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها). ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا). فإن الله سبحانه وتعالى يسمع دعاءك حينما تتوجه له بقلب صادق، وحينما تقطع الحبل والثقة من غير الله عز وجل، وتتوجه إلى الله، فتسأله التوبة والهداية والثبات، فثق -يا أخي الكريم- أن الله سبحانه وتعالى سيجيب دعاءك، وسيسمع دعاءك، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].

عبارات كتبها بعض هؤلاء الشباب

عبارات كتبها بعض هؤلاء الشباب قبل أن أصل إلى الصفحة الأخيرة اقرأ بعض العبارات التي كتبها بعض هؤلاء الشباب: كان من الأسئلة الموجهة لهم: كلمة تقولها لكل من: الدعاة، الأساتذة، الآباء، الشباب الملتزمين، الشباب غير الملتزمين. وكان السؤال الأخير: كلمة أخيرة تود أن تقولها. وفي الواقع أنه قد وردت علي كلمات عديدة تستحق أن تقرأ، ولكن الوقت يضيق، وعلى الأقل من حق هؤلاء الذين كتبوا هذه الكلمات أن نقرأ نماذج منها، وليعلم هؤلاء أن عباراتهم وصلت، وأن ما أبدوه قد وصل إلينا. من عباراتهم للدعاة: يقول أحدهم: أكثروا المحاضرات خاصة في المدرسة. والآخر يقول: الدعاة قليلون هذه الأيام. وأما رسائلهم للأساتذة: فيقول أحدهم: تهيئة ظروف الالتزام، وإعطاء الفكرة الصحيحة عنه. والآخر يقول: إن الأمانة التي في عنقك كبيرة، وأنت مسئول عنها. وأما رسائلهم للشاب الملتزم: فمنهم من يقول: أن يحمد الله على الهداية. والآخر يقول: تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة. والآخر يقول: أن ينظر أمامه، ولا يبالي بمن يسخر به، فهو أفضل منهم. والآخر يقول: أتمنى أن أكون مثلهم. والآخر يقول: هم قدوتنا نحو الصلاح. وآخر يقول: عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه. وأخيراً: يقول أحدهم: كم أسر عند رؤيتكم يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. إن هذه عبارات الشباب الذين يعيشون حالة الغفلة والإعراض، ولا شك أنها تعطي دلالة على ما قلناه في الصفحة الثانية: أن هؤلاء لديهم جوانب كثيرة من الخير. أما وصيتهم لرفاق الدرب غير الملتزمين، فهي وصايا كثيرة منها: الالتحاق بركب الملتزمين، والتأمل هل هم على طريق مستقيم أم لا؟ وسوف يجد أنه على غير الطريق المستقيم، والالتزام والبحث عن أسباب الهداية، والتفكير في وماذا بعد، والجنة تنتظر المسلمين، وأقول لكم: إنكم لستم سعداء، فالسعادة في الدين، والابتعاد عني، وأخذ العبرة ممن سبقوا، واستحقار هذه الدنيا. ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد هذا بعض ما قاله هؤلاء لرفاق دربهم وزملائهم. أما الكلمة الأخيرة: فهناك كلمات كثيرة تعبر عما في نفوس هؤلاء الشباب، ولنقرأ بعضها: أحدهم يقول: كنت أتمنى منذ الصغر أن أكون شيخاً وخطيباً، فكيف يكون ذلك؟ والآخر يقول: لو سمحت -يا أخي- أن تدعو لي بالهداية، وجزاكم الله خيراً. والآخر يقول: أحيي فيك الروح الطيبة لإخوانك المسلمين. والآخر يقول: أرجو الإفادة منه -يعني البحث- والإكثار من هذه الوسائل؛ لأن الإنسان يقول ما بداخله دون خوف من أحد، ويصبح قادراً على إبداء رأيه في أي ساعة وأي مكان. والآخر يقول: إن السعادة الحقيقية حقاً في الالتزام. والآخر يقول: هل من مزيد؟ وآخر يقول: وإن شاء الله مهما بعد الزمن فسوف أعود إلى الله، وأعمل الأعمال الصالحة إن شاء الله تعالى. والآخر يقول: كلمتي الأخيرة أقولها للدعاة والشباب أن يتقوا الله فينا، فيجب العمل والمبادرة إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى. وآخر يقول: أتمنى أن تدعو لي بظهر الغيب، وأن أكون ملتزماً، وأدخل الجنة. وآخر يقول: لا يسعني إلا أن أشكركم على حسن تلطفكم معنا، ووالله إني أحب الإيمان والالتزام، ويشهد الله على ما أقول؛ لأنه لا أحد يدري عما تكن الأنفس، يحفظكم الله ذخراً لنا. والآخر يقول: أود أن أشكر الأستاذ على هذا الاستبيان، وإن شاء الله في الاستبيان الثاني يكون ردي على سؤالك هل أنت ملتزم أم غير ذلك؟ أقولها بكل سرور: إنني ملتزم بما أمرني الله، وجزاكم الله خيراً. والآخر يقول: لا أقول إلا جزاكم الله خيراً، والله ولي التوفيق، هذا ما قلته عن نفسي، وهو الحقيقة، ويشهد على ذلك رب العزة والجلال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والآخر يقول: أنا قلبي يتقطع من داخلي، وأريد أن أرجع إلى الله، ولكن أحس بشيء في داخلي يحاول إبعادي وتكريهي في ذلك، وكلما أحاول البعد عن العادات الخبيثة، وأنا أريد أن أرجع، ولكن ما العمل؟ والله يعلم ما في قلبي، أنا أحب الله ورسوله والطاعة، ولكن ما العمل؟ أعتذر للإطالة، ولكن هذا بعض حق إخواننا علينا أن نقرأ ما قالوه، وما عبروا به، بعبارات يغلب على ظننا جميعاً أنها عبارات صادقة، صادرة من قلوب صادقة، وهذا يؤكد لنا ما قلناه أن الكثير من هؤلاء يتطلع لسلوك طريق الاستقامة والالتزام.

لا تيأس واتخذ القرار الحاسم

لا تيأس واتخذ القرار الحاسم وأخيراً: نفتح الصفحة الأخيرة: لا تيأس واتخذ القرار الحاسم، فهو العائق الوحيد: الكثير من هؤلاء الشباب يقول: قد فعلت وفعلت، وارتكبت الفواحش، وفعلت المعاصي، وارتكبت من الكبائر والموبقات ما أظن أنه لن يبقى بعد ذلك أمل لي في التوبة والإقلاع، فإلى هؤلاء نسوق قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:53 - 54]. وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71]. واعلم -أخي الكريم- (أن الله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل). واعلم (أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟). واعلم -أخي الكريم- أن الله سبحانه وتعالى يقول لك: (ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ غفرت لك ما كان منك ولا أبالي). الأمر -أخي الكريم- لا يقف فقط عند قبول التوبة، بل إن الله سبحانه وتعالى وهو الغني عن عباده يفرح بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح من أضل دابته في أرض فلاة ثم وجدها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا ذلك المثل: (رجل كان في صحراء مع دابته عليها طعامه وشرابه، فأضلها في أرض فلاة، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده أشد من فرح هذا الرجل بدابته). فاتخذ القرار الحاسم، وقرر أن تودع الغفلة والضلال إلى غير رجعة، وقرر من هذه الساعة التي تندم فيها على ماضيك، قرر قراراً حاسماً، وتخل عن كل دواعي المعصية، وعن قرناء السوء، وعن ذرائع المعصية، وعن كل ما يدعوك إليها. واعلم -أخي الكريم- أنك عندما تتوب إلى الله توبة صادقة، وتقبل على الله عز وجل، فإن الله سيستجيب لك، وستجد صعوبة في أول الطريق، لكنها الضريبة للسعادة، وستجد عقبات نعم، لكنها البوابة لأن تذوق بعد ذلك لذة الإيمان، وطعم الإيمان. أختم بعد ذلك هذه الصفحات بهذه الوصية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون قد صدرت من قلب صادق، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يرزقنا وإياكم استماع القول واتباع أحسنه. بعد ذلك لعلي أن أجيب باختصار على هذه الأسئلة التي وردت.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة بتعجيل التوبة

نصيحة بتعجيل التوبة Q يوجد بعض الشباب من يضع في مخيلته أن التوبة لا تكون إلا بعد فاحشة يقوم بها الإنسان، أو بعد حادثة شنيعة تحدث له، أرجو منكم تصحيح هذا الشعور عند بعض الشباب؟ A أما ما يتعلق بالحادثة فقد أجبت عليها فيما مضى، وأما قضية أن يتخيل أنه سيفعل فاحشة ثم يتوب بعد ذلك، أو يفعل معصية، فقد تكون هذه المعصية سبباً في سوء خاتمته، وقد يموت وهو على هذه المعصية، وقد تكون هذه المعصية سبباً في أن تكون عائقاً بينه وبين التوبة، فلا يليق أبداً بالذي يؤمل في التوبة أن يسوف أو يؤخر.

لا بد للتوبة من فعل الأمر واجتناب النهي

لا بد للتوبة من فعل الأمر واجتناب النهي Q قد يقف عقبة أمامي في الالتزام صعوبة تطبيق الأوامر واجتناب النواهي، فهل من وسيلة أو حل؟ A ليس هناك وسيلة غير ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (حجبت الجنة بالمكاره). لابد من صعوبات، ولابد من عقبات، خاصة في أول الطريق، ولكن هذه الضريبة، أتريد السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة هكذا؟! ما قيمة أولياء الله إذاً، وما قيمة المتقين إذا لم يكن هناك صعوبات ومشاق.

التخلص من قرناء السوء

التخلص من قرناء السوء Q كيف يتخلص الشاب من الأصحاب السيئين، مع العلم أنه لا يجد غيرهم، فمن الصعب أن يجلس بدون أصحاب؟ A أما كونه لا يجد غيرهم فهذه مغالطة، وإن لم يجد غيرهم فالوحدة خير له من جليس السوء، أما كيف يتخلص منهم؟ فعندما يعلم أنه لابد أن يتبرأ منهم، وإن لم يتبرأ منهم الآن، فسيتبرأ منهم يوم القيامة، فليخسر أهون الطريقين عليه.

الحل لاضطهاد الوالدين بسبب الالتزام

الحل لاضطهاد الوالدين بسبب الالتزام Q إنني أعاني من اضطهاد في البيت بسبب التزامي من جهة الوالد والوالدة، فما هو الحل في وجهة نظرك جزيت خيراً؟ A الحل ليس إلا المجاهدة، والصبر، والتحمل، ليس غير ذلك أبداً، وكما قلت: أتريد طريق الجنة بسهولة، لا يمكن، ليس إلا المجاهدة، وقد تعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأشد مما تعرضت إليه، فجاهد، وتوجه إلى الله بالدعاء الخالص واصبر، واعلم أن الفرج مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.

كسر الحواجز الحائلة دون مصاحبة الأخيار

كسر الحواجز الحائلة دون مصاحبة الأخيار Q أنا شاب ملتزم إن شاء الله، ولكن أجد في نفسي شيئاً من مخالطة الشباب الملتزم، مع علمي ما لفائدة الشباب الصالح، فما السبيل إلى كسر تلك الحواجز، وجزاكم الله خيراً؟ A لابد أن تتحمل، وخير لك أن تجالس الأصدقاء الأخيار، ولو وجدت منهم ما تجد، ولو أصابك ما أصابك، فهم خير لك من أن تجالس الآخرين، وتندم وتتبرأ منهم يوم القيامة، والبشر لابد أن يكونوا كذلك، ولا تتخيل أنك عندما تجالس الأخيار والصالحين ستعيش في جنة، وستعيش في نعيم، فلابد أن يحصل ما يكدر، أليس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل بينهم ما حصل؟ أليس الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر:47]؟ فهذا الوضع الذي تتطلع إليه لن يكون إلا في الجنة، فلن ينتهي الغل، ولن تنتهي الأمور كلها إلا في الجنة، لابد من وجود شيء في النفوس، وأنا لا أدعو الإنسان إلى أن يحمل على إخوانه، لكن أقول: لابد أن يحصل ما يحصل، أما السعاة الأبدية فهي في الجنة.

مجاهدة النفس على ترك الحرام

مجاهدة النفس على ترك الحرام Q أنا شاب في الثامنة عشرة من عمري، أستعمل بعض المحرمات مثل الدخان، وأشياء أخرى مثل العادة السرية، وقد سقطت في اللواط وتبت إلى الله، وتركت الدخان، ولكن العادة السرية لم أستطع تركها، فأرجو نصحي بتركها، والله أعلم، وجزاكم الله خيراً، أرجو قراءتها لأنني في حيرة من أمري؟ A هذا الأمر يشتكي منه الكثير من الشباب، ولا حل له إلا المجاهدة، أنت تعلم -يا أخي- أن هذا أمر محرم، ولا يجوز لك، وتعلم أن هذه لذة عاجلة تجدها الآن ثم تزول، ويعقبها بعد ذلك ما يعقبها من الأمراض التي قد تنشأ عنها، من الآلام، ومن الهم النفسي، ومن حسرة فقد اللذة إن كنت لازلت مصراً عليها، أو من التألم لفعل المعصية إن كان في قلبك خير، فلماذا تشتري كل تلك الآلام مقابل تحصيل هذه اللذة العاجلة؟ كم تبقى معك هذه اللذة؟ ثواني ولحظات عاجلة، ولكن انظر البديل عندما تجاهد نفسك، وتنتصر على نفسك، صحيح أنك ستجد صعوبة وآلاماً في البداية، ولكن بعد ذلك تشعر بلذة الإيمان، ولذة الانتصار على النفس، وما هو أعظم من ذلك ثواب الله عز وجل. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، وأن يمنّ على إخواننا الشباب بالهداية والتوفيق. هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

سوء الفهم آفة

سوء الفهم آفة تحدث في مجتمعاتنا كثير من المشاكل والأزمات بسبب سوء الفهم المرتكز على خلفيات سابقة أو الناتج عن سوء نية أو سوء ظن أو غير ذلك، وهذا بدوره يزيد التفكك في المجتمع ويزرع الأحقاد، ولكن يمكن تداركه بعلاج المشكلة من أساسها وقطع الشر من جذوره.

مقدمات بين يدي الموضوع

مقدمات بين يدي الموضوع الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فسيكون عنوان حديثنا هو: (سوء الفهم آفة). مقدمة سريعة بين يدي الموضوع. ثم سوء الفهم متى يكون آفة ومتى لا يكون آفة؟ وأخيراً: أسباب سوء الفهم. وبعد ذلك مقترحات للعلاج. نسمع كثيراً أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فيه كذا، وذلك في الحكم على الأشخاص، والحكم على الكتب، والحكم على الجماعات، والحكم على المجتمعات، والحكم على الأعمال والجهود. نسمع أحكاماً متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول: إن فلاناً يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته: إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له: كذبت، بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك! إن هذا لسان حال كثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، وإلى نظراتهم وقناعتهم. ثمة ظاهرة عادية تحصل بيننا كثيراً في الاتفاق على موعد أو مناسبة، أو في نقاش قضية من القضايا، فنفترق وكل منا في ذهنه أن الاتفاق قد تم على كذا وكذا، ونختلف في الموعد، ثم يحصل النقاش والجدل، يقول أحدهما: اتفقنا على كذا، والآخر يقول: لا. إنها مظهر من مظاهر سوء الفهم، فأحدنا قد أساء الفهم إما أنا وإما أنت، المهم أنه مظهر تقف فيه أنت أمام الشخص، فتقول له: كان الموعد في الوقت الفلاني، فيقول: لا، الموعد قبله أو بعده، ولا يوجد احتمال للكذب ولا الروغان، فهو زميلك وصديقك، وقد تكون هناك مصلحة مشتركة، فليس هناك إلا احتمال واحد هو سوء الفهم. وحينئذٍ نحكم العقل أحياناً، ونحكم المنطق؛ لأننا نحتاج إليه، وتنتهي هذه المشكلة. لكن سوء الفهم قد يمتد إلى ذلك، وأحياناً تنتج عنه مواقف ونتائج سلوكية أخرى، ومن ثم كان لابد من الحديث عن سوء الفهم.

متى يكون سوء الفهم آفة؟

متى يكون سوء الفهم آفة؟

أمثلة لسوء فهم النصوص الشرعية

أمثلة لسوء فهم النصوص الشرعية النقطة الأولى: متى يكون سوء الفهم آفة؟ أولاً: أمر عادي أن يسيء المرء الفهم، أو أن يخطئ في الفهم، وهذا يحصل في حياتنا كثيراً، كما ذكرت في المثال السابق، فأنت مثلاً تسمع كلاماً من فلان من الناس، فتفهم منه أنه يقصد كذا، وتكتشف خلاف ذلك، فأحياناً يأتي الموظف إلى المدير، فيفهم منه أنه موافق على مشروع معين، أو على برنامج يقترحه، ويبدأ بالتنفيذ، فيساءل من قبل المدير نفسه، فيقول: إنك قد وافقت، فيقول: لا. أي أنه حصل سوء فهم. بل إن الخطأ في الفهم حصل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة أشير إلى بعضها إشارة عاجلة. قال النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة بني قريظة في قصة مشهورة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أخر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة بعد خروج الوقت، ومنهم من فهم النص فهماً آخر، ففهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير إلى بني قريظة، ومن ثم أدوا الصلاة في الطريق. لا يهمنا الآن أن نقرر ماذا كان يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن على كل حال منهم من أخطأ فهم نص النبي صلى الله عليه وسلم. صورة أخرى ومثال آخر: يقول الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فجاء عدي رضي الله عنه، فوضع خيطين عند وساده أبيض وأسود، وأصبح ينظر إليهما، فلما استبان له الأبيض من الأسود أمسك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مداعباً: (إن وسادك لعريض -أي: كأنك قد توسدت الأفق- إنما هو سواد الليل وبياض النهار). نحن الآن أمام خطأ في الفهم وقع من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخطأ في فهم هذه الآية، فظن أن المقصود هو أن يتبين له الخيط الحقيقي الأبيض من الأسود. يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها، أي بعبارة أخرى: إنكم تخطئون في فهم المقصود من هذه الآية. إذاً: فكان هناك من يخطئ في فهم هذه الآية ممن كان يخاطبهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، فهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فهماً آخر، فمنهم من شرب الخمر متأولاً هذه الآية في عصر عمر رضي الله عنه، ثم دعاهم وقررهم بالحكم، لا يهمنا الآن بقية القصة وما يتعلق بها. الشاهد: أن هناك من فهم من هذه الآية أن المؤمن ليس عليه جناح في أي أمر يطعمه أو يشربه إذا آمن بالله عز وجل، وعمل صالحاً. يقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، عروة بن الزبير رحمه الله سأل عائشة رضي الله عنها فقال: أرأيت قوله تعالى، ثم ذكر الآية، ففهم عروة رحمه الله من هذه الآية أنها تدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس واجباً، فصححت له عائشة رضي الله عنها هذا الفهم، وأخبرته بسبب نزول هذه الآية الكريمة. لعلي أقتصر على هذه الأمثلة، وقصدت أن أمثل بالخطأ في فهم النصوص الشرعية، لما كان للجيل الأول من الاحتراز والتعامل مع النصوص الشرعية بعقلية كبيرة، ومع ذلك يقع بعضهم في هذا الفهم الخاطئ.

آفة سوء الفهم الإلزام به

آفة سوء الفهم الإلزام به سوء الفهم أمر لابد أن يقع المرء فيه لأنه بشر، ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه أحياناً ملتبساً، أو مدعاة لسوء الفهم. فأن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو نحاكم الجميع على سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100%، أتصور أنه مطلب غير معقول. فلابد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟ ونحن لن نتحدث عن هذه القضية جملة، فلن نتحدث عن سوء الفهم وما يتعلق به، ولكن عن جانب من الجوانب، وعن مرض يحصل كثيراً في الساحة، وسببه سوء الفهم، ومن ثم سيتركز حديثنا حول هذه الظاهرة. يكون آفة حينما يكون قاعدة يحكم بها على الآخرين، أي: أن أحكم على الآخرين من خلال فهمي لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، وتسمع هذه الكلمات التي تعبر عن أعمال القلوب: هو يقصد كذا، يريد كذا، يظهر خلاف ما يريد، يتظاهر بكذا، وكلها أمور تدور حول قضية قلبية، يعني: أننا قد تجاوزنا الظاهر إلى ما يخفيه ويعتقده صاحبنا، فقد أصبحنا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم على نوايا الآخرين، وأن نطلع على نوايا الآخرين. إذاً: فحينما يكون قاعدة تجعلني أحاكم الآخرين دائماً إلى ما أفهمه من مواقفهم وأعمالهم وجهودهم، وما يقومون به، فهذه آفة، وحينئذٍ نقول لمن يكون كذلك: لا يسوغ لك أن تحاكم الآخرين إلى فهمك، قد تقول: ها أنت عرضت لي قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطئوا الفهم مع نص شرعي، فكيف لا أخطئ في الفهم أنا. أقول: نعم، من حقك أن تخطئ الفهم، وبعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم، لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر. حين أنقل عن الآخرين بناء على فهمي أيضاً هذا خطأ، وحينما أنقل يجب أن أكون دقيقاً في النقل، فأقول: قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، أو أنه يريد كذا، فمن حقك أن تقول هذا الكلام، لكن لا تنقل عن الآخرين شيئاً فتقول: إن فلان يقول كذا، أو إن فلان يعتقد كذا، أو يريد كذا، وتقتصر على هذا الكلام، ومعيار النقل وأساس النقل هو فهمك أنت. وبعض الناس عنده منطق عجيب، مرة كان يناقشني شاب في مقال كتبته، فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا، فقلت له: يا أخي! أنا لا أقصد أحداً بعينه، وهذا وهم في ذهنك، فيقول: بل أنت تقصد! يعني: أنت الآن تخبرني بما أقصد وبما لا أقصد وبما أريد، إذا كنت أنا متهماً عندك بالكذب فليس هناك داع أن تناقشني، لأنني أصبحت كذاباً! فأنت من حقك أن تفهم أني أقصد شخصاً، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به، لأنه حينما يكون سوء الفهم وسيلة للإلزام يصبح آفة، وسنأتي إلى الحديث عن الإلزام.

أسباب ظاهرة سوء الفهم

أسباب ظاهرة سوء الفهم ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب هذه الظاهرة، وقد نتحدث عنها بالتفصيل:

فساد النية

فساد النية السبب الأول: سوء النية: أحياناً يكون الرجل صاحب نية سيئة أصلاً، فهو مثلاً يسمع لفلان، لا لأجل أن يسمع له، ويقرأ لفلان وينظر إلى عمل فلان ويسأل، كل هذه الأمور لا لأجل أن يستفيد، وليس عنده استعداد أن يستفيد، إنما يبحث عن مدخل للطعن. فهو إذاً سيئ النية ابتداءً، لكنه يقول لك: أنا لست بسيئ النية، أنا أعتقد أن هذا عدو للإسلام والمسلمين، أنا أعتقد أن هذا رجل سيئ، فمن باب الدفاع عن الدين سأقرأ له وسأسمع حتى أكتشف أخطاءه وأحذر منه الناس. أحياناً يأتي شخص من المسلمين عالم أو طالب غيور، فيريد أن يقرأ لكاتب من الكتاب، ولنفترض أنه كاتب سيئ أو عنده انحراف، فيبدأ يقرأ بالمناقيش، وهنا لابد أن يقع أحياناً في سوء الفهم؛ لأنه يبحث عن الخطأ، بغض النظر عن موقفه هنا هل هو سليم أم لا. لكن لماذا وقع في سوء الفهم هنا؟ لأنه يقرأ لأجل أن يبحث عن الخطأ، كما لو كنت تريد أن تقرأ ورقة مثلاً، فتبحث عن خطأ نحوي فيها، أو خطأ إملائي، فأنت لا يهمك الصواب ولا يهمك أي شيء، إنما تقرأ لتبحث عن الخطأ، وأن تصحح. المهم أنك أصبحت تريد الخطأ وتبحث عنه، ومن ثم فستقع على الخطأ قطعاً، لكنك قد تقع على ما ليس خطأ، فمثلاً: لو كان الأخ مدرساً للغة العربية، فعندما أعطيه هذه الكلمة وأقول له: قيمها، فيمكن أن يقرأ الآن ويقول لك: هذه الكلمة فيها خلاف بين النحويين، وهذه لا تجوز، وهناك رأي يمنع هذا الشيء، أو هذه فيها احتمال، لماذا؟ لأنه يبحث عن خطأ. لكن لو كان يقرؤها قراءة عادية متجردة قد يجد أنها لا إشكال فيها، وأن استعمالها سائغ، لكن عندما يقرأ ليبحث عن خطأ، سيجد أشياء هي أصلاً محتملة، لكنه سيحملها على المحمل الخاطئ لغة، أو الخاطئ في أي باب نبحث فيه ونناقش. فيأتينا الآن مثلاً هذا الشخص فيقرأ، أو يسمع، أو يقيم عملاً معيناً، وهو يبحث عن الأخطاء، فسيقع على أخطاء، ويجب ألا نكون عاطفيين، فنقول: إن كل ما يتحدث عنه ليس أخطاء، بل سيقع على أخطاء، لكن هذا سيقع على كلمة تحتمل وجهين. أنت عندما تسمع أو تقرأ ستجد الكلام يحتمل وجهين، ويحتمل عدة احتمالات، فعندما تقرأ وأنت تبحث عن الخطأ، فستحمل الكلام على الوجه الخاطئ وربما لا يحتمل. وكم نجد من الناس من يقول كلاماً في كتاب، أو في مجلس، أو في مناسبة، ثم في مجال آخر يأتينا كلام يحتمل أنه يريد هذا الشيء، ثم في مجال آخر يصرح تصريحاً قاطعاً بخلاف هذا، ومع ذلك نرفض هذا الكلام، فنسلط الضوء على هذه العبارة الصغيرة، أو على هذا الموقف الصغير، وما سواه نرفضه. وقد يقول: أنا لا أقصد كذا، وأنا لا أريد كذا، فيقال: لا، أنت تقصد كذا، وتريد كذا، يعني: بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد، وأعلم منك بما تقول، وإذا شككت في نيتك فعليك أن تسألنا، فنحن قد أصبحنا على مستوى من الاطلاع على النوايا. إن هناك فئة ممن يأتي بسوء نية، قد لا يكون سوء النية قصد القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد لا يكون الحرب على الدين، فقد يكون دفعه إلى ذلك حسده لفلان من الناس، وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الغني المقدسي وغيرهم من أئمة أهل السنة من مضايقات، ومن تحميل كلامهم ما لا يحتمل، وقالوا: خالف الإجماع في هذه القضية، وفعل كذا، وفعل كذا، حتى عندما ناظروا شيخ الإسلام في الواسطية قالوا له: لماذا قلت: من غير تكييف ولا تمثيل، ولم تقل: ولا تشبيه؟ يعني: لك مقصد في هذه العبارة! فأولئك منهم من كان صاحب علم، لكنه يحمله الحسد، ويحمله البغي، فصار عنده هذا الشعور، وكون نظرة معينة فصار يبحث لأجل هذه القضية. ومن هذا القبيل النتائج التي يصل إليها المستشرقون في أبحاثهم، فالمستشرقون مثلاً يقرءون نصوص الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي، ويخرجون لنا بأقوال مضحكة، ويدعون تناقضات وأخطاء، إلى غير ذلك. هناك عدة أسباب تحول بين المستشرقين وبين الفهم الصحيح، من هذه الأسباب: سوء النية، لأنه يقرأ ويبحث بنية معينة، فصار تلقائياً يفهم هذا الفهم، وينصرف إلى ذهنه مباشرة هذا الفهم السيئ، لأنه صاحب نية سيئة.

سوء الظن

سوء الظن السبب الثاني: سوء الظن: صاحبنا الأول يقصد النقد، ويسعى إلى النقد، ويهدف إلى النقد، ويهدف إلى سوء الفهم، لكن صاحبنا الآخر قد لا يكون كذلك، لكنه إنسان سيئ الظن، ولهذا سيسيء الفهم. فبعض الناس الحساسين يقول زميله كلمة، فيقول: يقصد كذا وكذا، يريد كذا، ويحلل الكلمة ألف تحليل، فيسيء الفهم. والله عز وجل ينهانا ويأمرنا باجتناب الكثير من الظن؛ حتى لا نقع في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فليس كل الظن إثماً، وإنما بعض الظن إثم، لكن يجب أن نجتنب كثيراً من الظن حتى لا نقع في هذا البعض من الظن الذي هو الإثم. فعندما يسيء الإنسان الظن في شخص فلابد أن يسيء الفهم تلقائياً. أنا أذكر شخصاً حساساً كان يناقشني في مشكلة، فقلت له: أسألك سؤالاً هل تعرف أنك حساس؟ قال: لا، لكن أنا عندي ظن وظن وظن وظن، فصارت يقيناً، قلت: عندك وهم ووهم ووهم ووهم فصارت يقيناً، والقضية كلها أوهام. وتأتي إلى صاحبك فتقول له: أنت تسيء الظن، يقول لك: لا، فلا أحد يعترف أنه يسيء الظن أبداً، يقول لك: لا، هذا أصلاً إنسان سيئ. فلماذا دائماً نحمل الكلمة على المحمل السيئ؟ ولماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ وأعمال الناس على المحمل السيئ. إن المنطق العقلي البحت، ومنطق العدل المجرد مع الناس، يجعلني أتجرد من كل هذه القضايا، وأنظر إلى الكلام مجرداً عن كل الأوهام والتحليلات التي عندي، ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى، وإلى أعماله الأخرى، فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعاً. أما عندما يكون عندي صورة متخيلة في الذهن عن فلان أنه يقصد كذا ويريد كذا، فلا بد أن أصل إلى هذه النتيجة السيئة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث). كيف يكون الظن أكذب الحديث؟ يكون الظن أكذب الحديث لأنك تتوهم أن هذا صدق لا شك فيه ولا نقاش، وهو كذب، ويتجاوز الكذب إلى إخبار عن النوايا، فصار أكذب الحديث فعلاً.

وجود خلفية سابقة

وجود خلفية سابقة السبب الثالث: وجود خلفية سابقة سواء كانت حقيقية أو متوهمة: فمثلاً: أنت تأتي تريد أن تصلي الجمعة مع شخص، أو شخص يأتي إلى المجلس، أو مدرس يأتي إلى الفصل، أو إنسان يتحدث مع مجموعة في مناسبة، فيأتيك شخص قبل ذلك يقول: إن هذا عنده كذا وكذا وكذا، ويعطيك خلفية معينة عنه، فإنك عندما تسمع تنتظر الشواهد لهذه الخلفية التي وجدت عندك، فعندما يقول كلاماً، تقول: نعم، هذا أولاً ثانياً ثالثاً، إذاً صدق، وتصبح القضية مجزوماً بها، وهي مجرد خلفية كانت عندك، وقد تصل الخلفية عندك إلى حد اليقين، وليس لها أصل ولا مصدر في الواقع. عندك نظرة عن فلان من الناس مثلاً أنه إنسان سيئ، أو إنسان مغرض، فعندما يتكلم، أو عندما تقرأ له، ستسمع وتقرأ بروح النقد. أنا أجزم أني الآن لو آخذ كتاباً واحداً فيه أخطاء، وأعطيه لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، فأعطيه للشخص الأول فأقول: خذ هذا الكتاب واقرأه، وأعطيه للشخص الثاني وأقول له: اقرأ هذا الكتاب لكن احذر، فالكاتب عليه ملاحظات؛ فأنا أجزم أن الشخص الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لا يصل إليها الأول الذي أتى بدون خلفية مسبقة. ثم إن الثاني قد يتكلف أخطاء ليست أخطاء في الحقيقة، ويصل إلى نتائج متوهمة أصلاً، لأنه كان عنده خلفية سابقة مبنية على أوهام. إذاً: فيجب أن أتعامل مع الناس تعاملاً مجرداً، فأزيل هذه الخلفية، لأن الأوهام تتطور أحياناً حتى تصل إلى يقين لا نناقش فيه، وهو أصلاً ليس عنده استعداد أن يناقش في هذه الخلفية المسبقة أن هذا الكاتب -مثلاً- ينتمي إلى جماعة معينة، ويتبنى فكر هذه الجماعة وما تدعو إليه، وأن هذه الجماعة من الجماعات تقصد كذا، وأن هذا الرجل عنده كذا، وأن هذا الرجل له هذا الاتجاه الفكري، أو هذا الاتجاه العلمي، أو المذهبي، وإلى غير ذلك. فلماذا هذه الخلفية تعشعش في ذهني، وتكون قاعدة انطلق منها في الحكم على الآخرين؟

إهمال الظروف المتعلقة بالشخص

إهمال الظروف المتعلقة بالشخص السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص: فبعض الناس حاد الطبع، ولهذا قد يقول كلاماً لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، ما في قلبه يخرج على لسانه، وقد يغضب فيغلظ عليك الكلام، وحتى كأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، وليس في قلبه أي شيء. أنا أذكر أستاذاً لنا لا أدري ما أخباره غفر الله له وجزاه عنا خيراً، وهو رجل فاضل، لكن كان شديد الغضب بشكل عجيب، وأحياناً يغضب عليك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتتخيل أنه سيهم بالبطش بك، وفي نفس المحاضرة تخرج معه وتسلم عليه، فيحدثك ويبتسم لك، وما في القلب أي شيء، وتذهب أنت وهو إلى القسم وليس في قلبه أي شيء إطلاقاً. نحن ما عندنا مشكلة عندما يتكلم معنا، وعندما يقول لنا هذا الكلام، لأننا نعرف أن طبيعة الشخص حادة، والإنسان الحاد يقول كلاماً غير مدروس ولا موزون، فطبيعته أنه يتعجل، ويغضب، والمهم أننا يجب أن نعرف شخصيته؛ حتى نزن كلامه. الشخص الآخر: إنسان بارد، وهادئ الانفعال، هذا الآخر أيضاً قد يكون في خاطره شيء، لكنه لن يقوله لي؛ لأن الرجل غير صريح، فطبائع الناس تختلف. وهنا لا بد أن أضع في الذهن أن طبيعة الشخص نفسه تؤثر على كلامه، وعلى حديثه، وعلى أعماله، وعلى قراراته، وعلى مواقفه، وعلى نظراته، فالحكم المتزن هو الذي يأخذ في الذهن طبيعة الشخص. أيضاً ظروف الزمان والمكان: فمثلاً قد يقول كلاماً في مكان معين فيه ملابسات معينة، وفيه أوضاع معينة، فيدعوه إلى أن يتحمس لهذه القضية أكثر، أو العكس، فقد يتجنب بعض الأمور مراعاة لعامل المكان، أو عامل زمان معين. المهم أنه يجب ألا تأخذ الكلام مجرداً عن هذه الظروف التي قد تؤثر على كلام الرجل، وعلى ما يريده. كذلك نقطة ثالثة وهي الموضوع الذي يتحدث عنه، فمثلاً: الآن أنا لو أتحدث معكم عن القراءة، وأهمية القراءة لطالب العلم، فسأتحدث بالتفصيل عن أهمية القراءة، وأنك يجب أن تقضي وقتاً طويلاً في القراءة، وسيدور الكلام كله حول هذا الموضوع. أنا أجزم أنه في نهاية المحاضرة سيأتيني سؤال يقول: نفهم من كلامك أنك تقلل من شأن مجالس العلم، وماذا عن دروس العلماء؟ يا أخي! أنا لا أتكلم عن منهج طالب العلم، أنا أتكلم عن موضوع معين. مثلاً: عندما أتحدث عن الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة، والحاجة إليها، وأحث الناس عليها، ويجب أن نوظف طاقاتنا وجهدنا في الدعوة، إلى غير ذلك. أجزم أنه سيأتيني سؤال آخر، هذا السؤال الذي يأتيني عبر عن فهمه، لكن يوجد ناس ما عبروا عن فهمهم، وهو أن معنى المحاضرة أنك تقلل من العلم الشرعي. أنا لم أتحدث الآن عما يجب على الشاب أن يعمله، ولم أتحدث عما يجب على المسلم، فأنا أتحدث عن موضوع وعن جزئية من الجزئيات. عندما أتحدث مثلاً عن أهمية طلب العلم والحرص عليه، فيأتيني شخص آخر يقول: أين الحقوق الخاصة للإنسان؟ هل نفهم من كلامك أن الإنسان يعطل مصالح أهله لأجل طلب العلم؟ ونفهم من كلامك أن الإنسان يترك الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتفرغ للعلم؟ إلى غير ذلك. قد أتكلم عن أهمية رعاية الموهوبين والتركيز عليهم، وأن الطلبة الأذكياء الذي يجب أن نعتني بهم، وننظم لهم برامج خاصة، وأتكلم كل كلامي حول الموضوع هذا، فيمكن أن يأتيني سؤال يقول: وهل يعني هذا أن الناس الذين هم أقل كفاءة غير مكلفين شرعاً؟ وهل يعني أن الدعوة خاصة بهؤلاء، فالإسلام عام للجميع، والدعوة عامة للجميع؟ يا أخي أنا لم أتكلم عن الدعوة أصلاً، أنا أتكلم عن جزئية وعن قضية من القضايا، فيجب أن تفهم بالضبط ما أريد، وهذه كثيراً ما نقع فيها. ومن الطبيعي أن الذي يتكلم عن موضع يبالغ فيه نوعاً ما. فمثلاً: نفترض أنني أتحدث عن موضوع رعاية الموهوبين، والعناية بالأذكياء، والحرص على استصلاحهم وتربيتهم، فأنا أنزل بثقلي حول هذا الموضوع؛ لأجل أن أقنعكم بالقضية. فقد يكون عندي مبالغة في الألفاظ، وقد أعطي الموضوع زخماً؛ لأجل أن أقنعك به؛ لكن عندما أجلس معك ونتناقش بهدوء، أقول لك: أنا لا أقصد هذا، ولا أريد هذا، فأنت يجب أن تضع في الذهن أنني أتحدث عن موضوع معين. إذاً: الحديث عن موضوع معين لا يعني بالضرورة أنني أهمل ما سواه، أو أنني أخطئ ما سواه، ثم أيضاً طبيعي جداً أن الإنسان الذي يتحدث عن موضوع معين ينزل فيه بزخم، ويتحدث فيه بقوة، وقد يأتي أحياناً بعبارات فيها مبالغة، أو يأتي بكلام فيه نوع من المبالغة التي لا ينجو منها بشر، فالبشر من الطبيعي أن يقعوا في الخطأ.

تنزيل الكلام على معين

تنزيل الكلام على معين السبب الخامس: تنزيل الكلام على معين: فأنا أتحدث عن قضية من القضايا فأقول: إن بعض الكتاب، أو بعض الدعاة، أو بعض الخطباء -فأتكلم كلاماً عاماً- يريد كذا، أو يفعل كذا، ويقول كذا، ويقع في هذا الخطأ، والخطأ الفلاني، فمباشرة بعض الناس يبدأ يقول: يقصد فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً. وقد قلت لكم: إني بذلت جهداً حتى أقنع شخصاً أني لا أقصد أناساً بعينهم، فقلت له: ليس عندي أشخاص، فأنا أتحدث عن ظاهرة من الظواهر، فقال: لا، الناس الذين تقصدهم فيهم كذا، ولا يقعون في هذا الخطأ، فقلت له: يا أخي! أنا ليس عندي أشخاص أقصدهم، وقلت له: يا أخي الكريم! مشكلتك معي مشكلة واحدة أنك تنزل الكلام الذي أقوله على أشخاص معينين، فلو أزلت هذه القضية لما صارت بيني وبينك مشكلة، فالنتائج نحن متفقون عليها كلنا، لكن المشكلة هي أنك نزلت هذا الكلام على شخص معين، أو على جهة معينة. فأنت حين يكون عندك شعور بهذه القضية، فعندما آتي أتكلم تقول: إذاً من يقصد هو الآن؟ احتمال أنه يقصد رقم (أ) ننظر هو وارد أو غير وارد؟ احتمال أنه يقصد (ب)، واحتمال أنه يقصد (ج)، وأخيراً بعد البحث والتحليل والمناقشة وصلنا إلى نتيجة أنه يقصد فلاناً رقم (ج) مثلاً، ومن ثم خذ ما يترتب على ذلك. فعندما ننزل الكلام على معين لابد أن نسيء الفهم، أما عندما نأخذ الكلام ككلام عام ولا ننزله فإن الأمر يكون سهلاً. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فكان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام نستعمل أحدهم على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي)، وكان صلى الله عليه وسلم يقصد شخصاً معيناً ومعروفاً. ولما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) كان يقصد أقواماً معينين. لكن هذا شيء، وأن تكون القاعدة عندنا أن ننزل الكلام على معينين، وبناءً عليه نسيء الفهم؛ فهذا شيء آخر لا يصح.

القول باللازم

القول باللازم السبب السادس: القول باللازم: يعني أن أقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، فعندما أقول مثلاً: إن الأساتذة في المدارس هم البوابة لهذا المجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل، ويتحملون المسئولية عن صياغة الجيل، وإلى غير ذلك، فيأتيني إنسان يقول: يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة، وأن خطباء الجوامع ليس لهم قيمة، وأن القضاة ليس لهم قيمة، وهكذا يرتب على كلامك لوازم معينة. وتعرفون أنتم القاعدة الشرعية عند أهل العلم في التعامل مع اللازم، فيقولون: لازم الكتاب والسنة حق، أما لازم المذهب فمسألة يبحثها العلماء، فلازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ يعني: لازم قولي أنا هل هو قول لي أم لا، حتى أفترض أنه فعلاً يلزمني. فباختصار: ليس هذا وقت تقرير هذه المسألة، لكن نقول: هذا اللازم له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تلزمني به فألتزم، أي: أن تقول لي مثلاً: إنه يلزم من كلامك كذا وكذا، أقول: نعم، أنا أعتقد كذا وكذا، الآن صار هذا قولاً لي بلا إشكال. الحالة الثانية: أن تلزمني به فلا ألتزم، بأن تقول مثلاً: إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول لك: لا يلزم من كلامي كذا وكذا، أو أنا لا أقصد كذا، فالآن لا إشكال أنه ليس قولاً لي. لكن هناك شخص ليس عنده قاعدة، تقول له: أنا لا أريد كذا، أنا أعتقد كذا، فيقول لك: بل أنت تعتقد كذا، وتريد كذا، فهؤلاء ليس لنا معهم حديث، هذا إنسان سيئ النية، أو إنسان مغرض، أو عنده مشكلة ثقة، وأزمة ثقة، وليست القضية قضية فهم. الحالة الثالثة: وهي التي يقع فيها النقاش الآن، وهي أن يفتي فلان بفتوى، أو يذكر في كتاب رأياً أو قولاً فيلزم منه كذا، فهل يمكن أن نقول: إنه يعتقد كذا، أو يرى كذا، فأفتى في مسألة فقهية معينة، كأن قال مثلاً: من فعل كذا فإن طهارته باطلة، فنقول: إنه يلزم منه مثلاً أن صلاته باطلة، ويلزم منه كذا وكذا، فهل نلزمه بهذه الفتوى؟ فنقول مثلاً: عندما يفتي الإمام أحمد بفتوى، فيلزم منها فتوى أخرى أو رأي آخر، هل نقول: إن الإمام أحمد يرى هذا اللازم فنجعله مذهباً له أم لا، وذلك بدون أن يلتزمه أو ينفيه؟ الصحيح أن لازم القول ولازم المذهب ليس مذهباً؛ لأن الإنسان بشر، قد تقول: إن كلامك يلزم منه كذا، فأقول: أنا أعترف لك أن كلامي يلزم منه كذا، لكني لا أعتقد هذا، فنتيجة حماس إنسان، أو نتيجة موقف مناظرة، أو نقاش مثلاً قد يقول كلاماً غير موزون، فيغيب عنه اللازم؛ لأن الإنسان بشر، أو قد لا يسلم لك، فيقول: لا أسلم لك أصلاً أن هذا يلزم منه كذا وكذا. على كل حال ليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية، المقصود منها: أن لازم المذهب ليس مذهباً، وأن لازم القول ليس قولاً، خاصة أننا نفرط في اللوازم.

عدم إدراك أطراف الموضوع

عدم إدراك أطراف الموضوع السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع: إنسان يتكلم في موضوع لم يدرك أطرافه إدراكاً كاملاً، فمثلاً: شخص كتب كتاباً عن مشكلة من المشاكل، فأتيت أنت وقرأت مقطعاً منه، وانتزعت المقطع، ففصلته عما قبله وما بعده فتعطيني إياه، فأقول لك: نعم، ما في شك أن هذا يحتمل كذا وكذا، لكن لو كنت أعرف الموضوع الذي يتحدث عنه، وأدركت أطراف الموضوع كله، سأفهم القضية فهماً آخر. دعونا نضرب مثالاً في هذه المحاضرة: واحد ما حضر معنا الجزء الأول، عندما يأتي يقول: أنت الآن تشن حملة على من يسيء الفهم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في خطأ في الفهم، وكلامك يلزم منه أنك تنتقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أنك سيئ المعتقد لأن قلبك ليس سليماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا لو أدرك أطراف الموضوع كله؛ لعلم أني تحدثت عن هذه القضية، وإذا كان يلزم من كلامي هذا فأنا لا ألتزم، فهو أحياناً لا يعرف ما هي المشكلة، فكم يثار نقاش حول قضية من القضايا بين عالمين فيدخل فيها أفواج لا يعرفون ما هي القضية أصلاً، ولا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب القضية موضع الخلاف.

الربط المتكلف

الربط المتكلف السبب الثامن: الربط المتكلف: أن يقول كلاماً هنا وكلاماً هناك، فيربط بينها برابط، فيقول مثلاً: أنا عندما آخذ كلامك في هذه المحاضرة، وكلامك الآخر الذي قلته في خطبة الجمعة، والكلام الذي قلته في الفصل، والكلام الذي قلته في المجلس، سأحصل على نتيجة معينة. أو أنت قلت كلاماً، وفلان قال هذا الكلام، إذاً: هذا دليل على أن بينكما ارتباطاً وتنسيقاً، وهذا يعني أنك توافق فلاناً على هذا الاتجاه. بعض الناس عنده استعداد أنه يربط مباشرة افترض أني أقول: قال فلان من الناس، فعندما تقول: قال فلان، فهذا يعني أنك لك به علاقة، أو أنك تقول بأخطائه، ففلان يقول كذا وكذا، وحين تستشهد بكلامه فهذا يعني أنك تقره، أو أن بينك وبينه علاقة. وكم نرى أحياناً من اتهامات ليس لها أساس، مثل أن فلاناً له علاقة مع فلان، أو أن فلاناً ينتمي إلى مدرسة فكرية أو مذهبية، أو إلى توجه معين، وفي النهاية كلها أوهام مع أوهام حتى تصل إلى قناعة عندنا.

التصحيف وركاكة الفهم

التصحيف وركاكة الفهم السبب التاسع والأخير: التصحيف، وركاكة الفهم: فالتصحيف مثلاً أن يقرأ كلمة قراءة خاطئة، أو يسمعها سماعاً خاطئاً، وهو مشهور عند أهل الحديث، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم احتجر موضعاً في المسجد، فرواه أحد الرواة: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) فجعل بدل الراء ميماً. ومن التصحيف في اللفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)، رواه أحد الرواة فصحفت عليه فرواه: وأتبعه شيئاً من شوال. وهذا مبحث مشهور عند المحدثين. ومن التصحيف التصحيف في المعنى، فمثلاً: أبو موسى العنزي قال: صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قبيلة عنز، وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة، فتوهم أنه صلى إلى قبيلة عنزة، بينما العنزة معروفة وهي العصا، فهذا الآن ما تصحف عنده اللفظ، لكن تصحف عنده الفهم والمعنى، وهذا مشهور في كتب مصطلح الحديث. بل هناك كتب خاصة في التصحيف وأغلاط المحدثين، تجد فيها نماذج وأمثلة حول هذا، ومنها أمثلة طريفة، وأنا أذكر مثلاً أننا كنا مرة في مناسبة فقرأ واحد في مجلس ورقة فيها خبر، وفي النهاية قال: حرر في بيت فلان وفلان، فأدخل الورقة، وجلسنا نتناقش، فقال واحد: إن بيت فلان حرق، فتناقشنا كيف حرق؟! ونحن جازمين بالنتيجة، قال: قرأها الأخ في الورقة، سمع (حرر)، فرأى أنها (حرق). وأحياناً ركاكة الفهم، بعض الناس كما يقال: تقول له زيد فيكتب خالداً ويقرؤه عمراً ويفهمه بكراً وفهمه ثقيل، وهذا ليس له حل، لكن نقول له: إذا كان فهمك ثقيلاً، فلا تحاكم الآخرين إلى فهمك. فبعض الناس بليد لا يفهم؛ ولهذا يلزم الآخرين بفهمه، وهو حسن النية، وليس عنده أصلاً سوء ظن، ولا تصحيف ولا تحريف، لكن فهمه لا يمكن أن يصل به إلا إلى هذا الحد. ولهذا أيضاً ينهون عن أن يحدث الناس بما لا يعرفون: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟! ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). فهناك طبقات من الفهم والاستيعاب، فيجب أن نراعي هذه القضية، فأنا عندما أتحدث مع عامة، أو طلاب صغار، قد يكون الكلام حقاً، لكن قد لا يسوغ أن أقوله أمام العامة؛ لأن عقولهم لا تبلغه، فهناك من عقله لا يبلغ فهم هذا الأمر، فيفهم فهماً سيئاً.

مقترحات للعلاج

مقترحات للعلاج بعد ذكر هذه الأسباب ننتقل إلى بعض المقترحات للعلاج، ونحن عندما ندرك الأسباب سندرك العلاج مباشرة، لكنني سأشير إشارة عاجلة إلى بعض الأسباب المهمة التي يمكن أن تعيننا على التخلص من نتائج سوء الفهم:

حسن الظن بالمسلمين

حسن الظن بالمسلمين أولها: حسن الظن بالمسلمين: أي: أن تكون القاعدة عندنا حسن الظن بإخواننا، وكم ترى ممن يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يجد لهم ألف تأويل، أما إخوانه فلا يمكن أن يجدوا تأويلاً لديه، فضلاً عن أن يكون الأصل عنده حسن الظن. فأين القواعد الشرعية يا إخوة؟! فكم تغيب عنا هذه المعاني، فالأصل أن يحسن المرء الظن بإخوانه المسلمين، فعندما يقول المسلم كلاماً يحتمل (أ) ويحتمل (ب) فيجب أن أحمله على أحسن محمل، فأقول مثلاً: فلان قال هذا، لكن هذا القول لا يليق به، فلا أتصور أنه يقصد كذا، أو لا أتصور أنه يريد كذا، إنما أتصور أنه يريد الأمر الآخر. وأحياناً يكون الاحتمال (أ) بنسبة (80%)، لكن الاحتمال (ب) بنسبة (20%)، ويكون الاحتمال (ب) هو الأولى ظناً؛ فينبغي أن أحمله على هذا المحمل. ثم ما المشكلة عندما أحسن الظن بفلان، وأكتشف أنه على خلاف ذلك؟! لا توجد مشكلة. وكم نرى ممن يقيم معارك داخل الصف لأجل قضايا تافهة كلها كانت ناتجة عن إهماله لهذا الأدب الشرعي، ألا وهو حسن الظن بإخوانه المسلمين. فنحن يجب أن نحسن الظن بالمسلمين ابتداءً، فضلاً عن طلبة العلم، فضلاً عن أهل العلم والدعاة، والناس الذين يتصدون لخدمة دين الله عز وجل، ولا يسوغ أن يقرأ المسلم الخير العادي في الصحف، أو يسمع تقارير سياسية عن الدعاة، فيحملهم على هذا المحمل وهو قد جرب على هذه الصحف كذباً، فكم نقرأ في صحف أو وسائل إعلام نعرف أنها سيئة عن بعض المشاكل التي تحصل في الخارج، فنحكم على إخواننا من خلال ما قاله هؤلاء، ولا نحسن الظن بإخواننا. فأقول: يجب أن تكون عندنا قاعدة أن نحسن الظن بإخواننا المسلمين عموماً، فضلاً عن الناس الذين يتصدون للخير، والذين ظاهرهم الخير والصلاح. نعم، هناك من يتستر، وهناك أناس سيئون، لكن لا يمكن أن تقودنا الغيرة على الدين والإسلام إلى أن نفتش عن الأخطاء والعيوب.

عدم تتبع الزلات

عدم تتبع الزلات خطوة أخرى أيضاً: ألا نعمد إلى تتبع عورات الناس وزلاتهم، ومن تتبع عورات إخوانه المسلمين تتبع الله عورته؛ حتى يكشفه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب، عافانا الله وإياكم. والبشر لابد أن يقعوا في الخطأ أياً كان، لكن حين لا نسأل إلا عن الزلات، ولا نبحث إلا عن الأخطاء، فلابد أن نصل إلى مثل هذه النتائج، وهب أن فلاناً أخطأ، أو قال ما لا يليق، أو فعل ما لا يليق، فإن هذا لا يصح أن يكون مدعاة إلى أن تبحث عن مرادف لهذا الخطأ، ثم تبحث عن ثالث، ثم عن رابع؛ حتى تصل إلى نتيجة وقناعة تريدها نفسك.

الدقة في النقل

الدقة في النقل ثالثاً: الدقة في النقل: فأنت عندما تنقل يجب أن تنقل الكلام بلفظه وحروفه، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك، وليس هذا هو ما يقصده. وأيضاً يجب أن نفرق، فقد يحدثني شخص صالح موثوق، لكنه يحدث عن فهمه هو، وعن تقييمه هو للقضية. فمثلاً: رجل صالح لا أشك فيه، ولا يمكن أن يتعمد الكذب، لكنه ينخدع بالظواهر، فجاء إلى بلد والتقى بمجموعة من الناس، فحدثوه عن فلان، فجاءنا فقال: رأيت أهل البلد يقولون كذا وكذا، أو جاء فرأى موقفاً وحكم عليه هو، فأنا عندما يقول لي: قال فلان كذا وكذا، لا أتهمه، لكن عندما يأتيني بفهمه هو، ففهمه ليس ثقة، فيبقى مجال للنقاش، عندما يروي لي رواية للحدث فيقيم هذا الحدث، يجب أن نفرق بين روايته هو وبين حكمه وتقييمه للنتيجة التي وصل إليها.

الجمع بين المتفرق

الجمع بين المتفرق رابعاً: الجمع بين المتفرق: من العجب أن تجد شخصاً يلزم بمسألة وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، أضرب لكم مثالاً عن سيد قطب رحمه الله فقد كان أديباً، والأديب يستطرد، فقال في سورة (قل هو الله أحد): إن المسلم يشعر بأن هذا الوجود صادر عن واحد، فلا يرى إلا الله سبحانه وتعالى. فهذه عبارة توهم منها أنه يرى وحدة الوجود، فجاء البعض وقال: إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو قد صرح في موطن آخر أنه لا يرى وحدة الوجود، وصرح بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم، وانتقد ما هم عليه، فهذا الكلام يعطيك قناعة أن الرجل ما يعتقد هذا، وإلا لما صرح به. الرجل كان له مواقف مع جمال عبد الناصر ومع حمزة البسيوني، ومع غيرهما من الطغاة؛ فهل كان يعتقد أن جمال عبد الناصر هو الله مثلاً؟ لأن أصحاب وحدة الوجود يرون أن كل شيء هو الله، لو كان يعتقد أنه الله لما حدثت بينهما مشكلة. عندما نكون منصفين فسنصل بداهة إلى هذه النتيجة. صورة أخرى أيضاً من الشخص نفسه، عندما تحدث عن الكون وخلق الله عز وجل، يقول: إن المسلم يرى أن هذا الكون من خلق الله عز وجل، فهو يحب كل ما في هذا الكون؛ لأنه يرى أن هذا الكون صادر عن الله عز وجل، هذه عبارة شخص أديب، فجاء رجل فاضل، فقال: هذا يترتب عليه أنه يحب الشياطين، ويحب الكفار! مع أن له مواقف واضحة من اليهود والنصارى والكفار إلى غير ذلك. شخص يقول كلاماً فيفهم منه أنه يرى رأياً ما، بينما تراه قد ألف كتاباً كاملاً في تفنيد هذا الرأي ومناقشته، فهل يمكن أن نتهمه بعد ذلك بأنه يقول هذا الرأي؟! هذا منطق غير مقبول، ولهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان عندما نريد أن نحكم عليه، فننظر ما عنده، وما هي منطلقاته، فأنا مثلاً أقول هذا الكلام عن سيد قطب رحمه الله، فيأتيني شخص ويقول: إنه ما وقع في خطأ؟ فأقول له: بل وقع في خطأ، فهو يخطئ مثلما يخطئ غيره، لكن لا يدعونا هذا إلى أن يكون الخطأ عندنا هو القاعدة، وأن نحاكم الرجل على كل موقف قاله، فنبدأ نقيم ونراجع، وأنه يقصد كذا ويقصد كذا، وكذا غيره من علماء الإسلام السابقين، الذين ألزموا بلوازم لا يقولون بها أصلاً. هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع، وأرجو ألا أكون أنا وقعت في سوء الفهم حين تحدثت عن سوء الفهم، وأيضاً ألا يساء فهم ما قلته وأنا أتحدث عن سوء الفهم. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل، ونترك بقية الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على شخص بأنه سيئ الظن

الحكم على شخص بأنه سيئ الظن Q كيف أرد على من يسيء الظن أو الفهم بحجة مقنعة، مراعياً في ذلك أصناف الناس من سمح ومتكبر ومعاند؟ A أولاً: هذا حكمك على الناس، أنت عندما تقول: فلان متكبر، وفلان معاند، هذا حكم، وليس بالضرورة أن أقبله، فهو حكمك أنت، ونتيجة وصلت إليها أنت، قد لا نوافق عليه. ثم سوء الظن قد نهى عنه الشرع، وقلت لكم قاعدة: سيئ الظن لا يعترف لك أنه سيئ الظن، يقول: أنا لا أسيئ الظن، ولو اعترف أنه سيئ الظن لانتهينا. فمثلاً: الرجل المسرف لا يعترف لك أنه مسرف، يقول: هذا وضع طبيعي، البخيل لا يعترف أنه بخيل، كل صاحب مشكلة لا يعترف، لأن هذه ألفاظ مباشرة مرفوضة يتعلق بها المدح أو الذم، فسيئ الظن لا يعترف لك أصلاً بأنه سيئ الظن، حتى تقول له: اجتنب هذا السوء.

الفرق بين سوء الفهم وسوء الظن

الفرق بين سوء الفهم وسوء الظن Q هل هناك فرق بين سوء الفهم وسوء الظن؟ A نعم، سوء الظن قد ينتج عنه سوء الفهم، فسوء الظن شيء في القلب، فأنا عندي عدم ثقة بالناس عموماً، أو بشخص معين لسبب أو لآخر، فسوء الظن قضية داخلية، وسوء الفهم هو فهمي لتصرف أو لعمل، أو لكلام. وقد يكون بينهما ارتباط وثيق، لكن هذا لا يعني أنهما شيء واحد، فقد يكون هناك سوء ظن وليس سوء فهم، وقد يكون سوء فهم ناتجاً عن عدم سوء الظن. يعني: أنا أحسن الظن بفلان، لكن أسأت الفهم لأن فهمي غير دقيق، أو ما تصورت أطراف الموضوع، وقد يكون سوء الفهم من رجل خير، فلا يعني هذا أن سوء الفهم دلالة على سوء الإنسان، وسوء قصده، وسوء ظنه.

إساءة الفهم في الدعاة

إساءة الفهم في الدعاة Q قضية من يسيئون الفهم في الدعاة، وفيما يقولون وما يكتبون، ويتخذون هذا مجالاً للتكلم في أعراضهم، والوقوع في نياتهم ومقاصدهم. A أولاً: هؤلاء لا يستحقون أن نجعل منهم قضية ومشكلة نتحدث عنها، لكني فقط ألفت أنظاركم إلى قضية لتتأملوا فيها، وهي واقع هؤلاء، ماذا يعملون؟ وماذا يقدم مثل هذا الرجل؟ لا يعمل شيئاً؛ هناك ارتباط عكسي بين كثرة الانتقاد وبين العمل، فأكثر الناس انتقاداً لهؤلاء الدعاة والعلماء لا يعمل شيئاً. أنت ترى بعض الدعاة والعلماء وقته كله مليء، وتحتاج منه موعداً فلا تستطيع أن تحصل منه على وقت، لأنه رجل عامل يجاهد، وهذا إنسان فارغ، مرة في بيت فلان، ومرة في بيت فلان، ومرة في المناسبة الفلانية، فأنا أقول: يكفيك من شؤم هذا المسلك أن أصحابه غير عاملين، لا يقدمون شيئاً، ولا يعملون شيئاً، العمل الوحيد الذي يقدمونه هو تفكيك الصف. نحن بحاجة إلى عمل، أنا أسألكم: نحن الآن في مجتمعاتنا الإسلامية جملة نعاني من أزمات، ومن الحكم بغير ما أنزل الله، ومن تنصير وتغريب للأمة، وانتشار للفساد الأخلاقي، وحرب على الإسلام، وحرب على الصحوة الإسلامية، وجهل بالعقيدة، وخطأ في الأخلاق والسلوك، وجهل بالعبادة، وأمراض كثيرة، فماذا قدمت أنت تجاه هذه القضايا؟ إنه لا يقدم شيئاً، فجهده كله مصروف لهذه القضايا. أما الشباب الذين يسهرون على الفساد والسوء، فلا يمكن أن يذهب ولينصحهم، وليس عنده استعداد، لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة في مواجهة المنصرين ودعاة التغريب، بل ربما تراه يدافع عن هؤلاء، وربما ينفذ مخططات لهم من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. فأنا أقول: القضية لا تستحق أن نتحدث عنها، لكن عندما تنظر إلى هذا الجانب الوحيد ترى أن هؤلاء أقل الناس عملاً، وهذا طبيعي، فالرجل الجاد لا تشغله هذه القضايا، ثم هذا لا شك أنه ناتج عن سوء ظن، أو عن سوء قصد. أنا أعرف كثيراً منهم خيرين ليسوا سيئي النية أصلاً، وبعضهم يرى أن هذا من الدين، لكن هذا مبلغه من العلم، وهناك من يدفعه الحسد، وهناك من يدفعه أمر آخر، وهناك من له مقاصد أخرى.

سوء الفهم وثواب الاجتهاد

سوء الفهم وثواب الاجتهاد Q هل هناك حالات لسوء الفهم يثاب عليه، وإذا لم يكن فالصحابة الذين اختلفوا في القصة المعروفة في قصة بني قريظة، هل بعضهم يثاب وبعضهم يعاقب؟ A سبق أن أشرت في البداية إلى أنه قد يحصل، ويجب أن نتأدب مع الصحابة ولا نقول: سوء فهم، نقول: خطأ في الفهم، أو خطأ في الاجتهاد، فقلت: إن هناك قدراً طبيعياً لابد أن يقع فيه الإنسان، والأخ نبهنا إلى أنه قد يأتي مجتهد إلى نص من النصوص فيخطئ في الفهم فيه، فيثاب ثواباً واحداً على الاجتهاد، لكنه لو أصاب فسيثاب ثوابين على الاجتهاد والصواب، لكن نحن لا نتحدث أصلاً عن سوء الفهم كله جملة، إنما نتحدث عن جانب من الجوانب التي ينتج عنها سلوكيات خاطئة، ومواقف خاطئة.

كيفية تربية الشباب مع اختلاف استعداداتهم

كيفية تربية الشباب مع اختلاف استعداداتهم Q قد يكون هناك مجموعة من الشباب فيهم الجديد على الالتزام، وفيهم من قطع شوطاً في هذا الطريق، فلو وضع برنامجاً مكثفاً فسوف ينفر الجديد، ولو وضع برنامجاً خفيفاً فلن تتحقق التربية الجادة القديمة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟ A يمكن ألا نسير الناس في وتيرة واحدة، وأن نضع مثلاً خطاً عاماً يسير عليه الجميع، ثم نضع نقاطاً أخرى، ومجالات أخرى، وبرامج أخرى لمن هو طموح ومتطلع. فأضرب لكم مثلاً: أنا عندي مجموعة من الطلاب في حلقة قرآن يحفظون، فعندما أقول: كل يوم تحفظون صفحة، وهم خمسة عشر طالباً، فالنتيجة أن اثنين أو ثلاثة ليس عندهم قدرة على أن يحفظوا صفحة كاملة أصلاً، واثنين أو ثلاثة عندهم قدرة أكثر، فعندما نضع خطاً واحداً وبرنامجاً واحداً للجميع، سنقع في هذه الإشكالية. فكذلك البرامج يجب أن يكون فيها تنويع، بحيث تخدم الجميع، فهذه المشكلة تحصل كثيراً في المراكز الصيفية؛ لأن المركز يكون فيه عدد كبير من الشباب، فيهم طلبة علم، وفيهم ناس حديثو عهد بالالتزام، وفيهم مستويات مختلفة، فعندما أضع برنامجاً واحداً للجميع يحصل إشكال، إذا راعيت هؤلاء نزل البرنامج، وإذا راعيت هؤلاء تأثر أولئك، لكن عندما أضع خطاً عاماً، ثم أضع مجالات أخرى لغيرهم، أظن أنه بهذه الصورة أستطيع أن أوازن بين الشريحتين.

متى تجوز إساءة الظن

متى تجوز إساءة الظن Q إذا كان هناك إنسان موضع لسوء الظن، فرأيته في موطن ريبة، فوقع في نفسي بعض الشيء، وأخبرت بعض الناس، فهل علي ذنب في ظني فيه؟ وهل علي ذنب في الإخبار بما وقع؟ A أنا أفهم من سؤال الأخ أنه يتحدث عن حالة لإنسان سيئ أصلاً، صاحب فجور، ورأيته في السوق، أو رأيته يدور حول بيت، أو رأيته مع شخص من الناس، فأسأت به الظن، فهل ينبغي له أن يخبر أم لا؟ هذه هي القضايا المتقررة عند العقلاء، يعني رجل مشهور بالفحش والسوء، ثم أراه مع شخص صغير مثلاً، فمن حقي أني أخبر والده، ومن حقي أن أنهاه، فهذا مجال لسوء الظن، لكن عندما تكون القاعدة أنك كلما رأيت شخصاً كبيراً مع شخص صغير أسأت الظن، فهاتان صورتان يجب أن نفرق بينهما. إنسان شاب مثلاً أراه يدور في السوق، ويذهب ويأتي، فأنا أعرف الآن من خلال رصد الموقف وشخصيته فسأصل إلى نتيجة أن هذا الرجل صاحب نية سيئة مثلاً، أو شخص واقف عند مدرسة بنات بطريقة معينة، فالنظرة العامة أدت إلى نتيجة، قد تكون نتيجة خاطئة أحياناً، وقد تكون مصيبة، لكنها غالب الظن، فلا يمنع من أن أتخذ موقفاً معه، لكني أيضاً لن أعاقب هذا الشخص وأتخذ معه موقفاً حاسماً وعقوبة، لكن قد يناقش، وقد يعاقب؛ لأنه أوقع نفسه في موطن التهمة، وحتى يؤدب غيره ولا يجترئ، فهذه صورة غير التي تحدثنا عنها في قضية سوء الظن.

حد الغيبة

حد الغيبة Q هناك موضوع درسناه وحفظناه منذ الصغر في المساجد والمدارس وفي البيوت ألا وهو موضوع الغيبة، يعرفها الصغار والكبار، إلا أنه في هذا الزمان توسع الموضوع حتى ضاقت حدوده، حتى عند أهل الخير والصلاح، فما هي هذه الحدود التي نلتزم بها؟ A الحدود التي نلتزم بها أن الغيبة حرام كلها حرام، إلا ما ترتب عليه مصلحة شرعية مثل: التظلم، أو الاستفتاء، أو التحذير من رجل ضال ومبتدع، أو استشارة في زواج أو غيره، فأنا أريد أن أشارك شخصاً، فأستشير شخصاً يعرفه، فيقول لي: لا، يعرف أنه خائن مثلاً، الآن استشرته وهو مؤتمن، فيجب أن يشير عليك، أو إنسان يريد أن يخطب مني، فسألت عنه، فيجب أن أقول كل ما أعرف عنه، ولا يعتبر هذا غيبة. فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، خطبها فلان وفلان، فقال: (أما فلان فصعلوك لا مال له، وأما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه، وانكحي فلانً). فالحدود واضحة، أنا أتصور أن ليس عندنا مشكلة مع الحدود، لكن أن نستهين بالأمر ونتساهل، ثم إذا وقعنا نحاول أن ندخلها في الحدود، أو نوسع الحدود قليلاً من أجل أن تدخل هي، فلا.

علاج الخوف من النقد

علاج الخوف من النقد Q أنا شخص أخاف النقد بدرجة كبيرة، مما أثر ذلك على شخصيتي، وأصبحت أبتعد عن المناقشات والاختلاط، وأجلس وحيداً، وأخشى على نفسي من ذلك، فما رأيكم وما هو العلاج؟ A أولاً: نحن عندنا مشكلة أننا نقرن بين الخطأ والفشل، فالإنسان الذي يخطئ في تجربه هذا رجل فاشل، وبين الخطأ والانحراف، فإنسان وقع في خطأ علمي فهذا منحرف، وهذا سيئ. وهذا ليس بصحيح، فالرجل الناجح قد يفشل، فالتاجر الناجح قد يدخل في صفقة ويفشل فيها، وأي شخص بارع في أي ميدان يمكن أن يدخل فيه ويفشل، في أي تجربة، ففشلي في التجربة أصلاً لا يعني أنني إنسان فاشل. ثم هب أنك إنسان فاشل، فيمكن من خلال النقد مرة ومرتين أن تنجح في المرة الأولى، والمرة الثانية؛ حتى تزيد حالات النجاح، ثم تصل بعد ذلك إلى نتيجة نهائية. وكل إنسان عنده هدف جاد يريد أن يحققه يصل إليه، مادام هذا الهدف موضوعياً يستطيعه، ويجب أن يعرف الإنسان أن عنده قدرات، حتى الحيوان عندما تعوده على شيء يتقنه، فكيف بالإنسان؟! مثلاً: الكلب يدرب على قضايا معينة -كلب حراسة أو كلب بوليس- ويتقنها، والببغاء يردد عليه الصوت ومن ثم يحفظه ويردده، وخذ أمثلة كثيرة، فأنت لن تكون أسوأ حالاً من هذه الكائنات الحية، ولست أغبى الناس، ولا أكثر الناس فشلاً، فينبغي ألا يصير لدينا إحباط، فمثلاً: فشلت هذه المرة أو أخطأت، فيمكن أن تنجح مرة أخرى، ولا إشكال، فعندما أفشل فهناك غيري فشل، وعندما أخطأت فهناك غيري أخطأ.

خطأ الحكم على الملتزمين من خلال أشخاص

خطأ الحكم على الملتزمين من خلال أشخاص Q بعض الشباب يسيئون الفهم في الالتزام بصفة عامة؛ بسبب سوء فهمهم لشاب ملتزم، نرجو من فضيلتكم إيضاح ذلك؟ A أنا أقول: افترض أنك تسمع عن بلد ولتكن نيجيريا مثلاً، وقابلت واحداً أو خمسة من نيجيريا، ووجدتهم بخلاء، فهل تحكم على أهل البلد كلهم بأنهم بخلاء؟ أو شخص مثلاً مر من عند مدرسة وطفل من أطفال المدرسة ألقى عليه حجارة، فحكم بأن طلاب المدرسة كلهم أشقياء، هل القاعدة عندك أن الإنسان يحكم من خلال شخص واحد؟ فلا يسوغ لي أن أحكم على الشباب الملتزمين من خلال شخص، أو شخصين، أو ثلاثة، أو مجموعة، أو حتى أهل هذه البلد، فمثلاً: افترض أننا نعيش في هذه البلاد، فلا يسوغ لي أن أحكم على الملتزمين كلهم. وأنا أذكر أن شخصاً أرسل لي رسالة أنه يعاني من مشكلة، ثم قال لي: لا تقل لي: صاحب الأخيار، فإني جربتهم، فهم منافقون، وغير جادين، وغير صادقين، فقلت له: قد أوافقك أن الأخيار الذين قابلتهم غير جادين، ومنافقين، وغير صادقين، لكن هل قابلت كل الأخيار؟ هذا ليس بصحيح. مع أنه أحياناً يكون عنده وهم مفترض، فلا يسوغ أن تحكم على الناس من خلال شخص واحد، فأنت لو أتينا إليك وقلنا لك إن هناك واحداً من أقاربك مثلاً أمسكوا به في قضية مخدرات، إذاً: فهل عائلتك كلها أصحاب مخدرات؟ أو تقول: أنا قابلت قريباً لك بخيلاً، إذاً: أنت بخيل، هذا كلام ليس بصحيح، حتى أخي الشقيق لا تلزمني أنت بما هو عليه، فكيف تلزم الآخرين بشخصية فلان؟! فالملتزمون شريحة من المجتمع فيهم الذكي والغبي، وفيهم البخيل والكريم، وفيهم الجبان والشجاع، فهو رجل من الناس هداه الله عز وجل، والناس معادن، هداه الله عز وجل، فستبقى عنده قضايا في نفسه قد لا تزول مع الالتزام، فلماذا أطالب أن يكون هو كل شيء؟!

كلمة للنساء

كلمة للنساء Q بعض الإخوة يطلبون كلمة للنساء. A في الواقع أن النساء لهن حق علينا، فهن أمهاتنا، ونشعر أنهن راعيات الأجيال، فأنا أقول أولاً: إن الأصل في الخطاب الذي يوجه للرجال أن تدخل فيه النساء، وجاءتني طلبات كثيرة تطالب بالحديث عن قضايا تخص المرأة، وأنك كثيراً ما تتحدث عن الرجال والشباب، والمرأة لها حق، وأشعر فعلاً بأن لها حقاً، وقد وعدت أن أتحدث عن هذا الموضوع وعداً مفتوحاً، وإن شاء الله قد عزمت الآن على الإعداد لهذا الموضوع والحديث عنه، فسألقي محاضرة بعنوان: رسالة إلى فتاة، ولا أستغني عن مشاركة الإخوة وجهودهم، وقد تلقيت بعض الرسائل من بعض الفتيات عن طريق أقاربهن، أو عن طريق البريد، أفادتني كثيراً حول هذا الموضوع. فأقول: المرأة لها حق علينا، وأن نتحدث لها مع الرجال هذا جانب، والجانب الثاني أن نخصها بحديث خاص، لكن السبب الذي يجعلنا لا نشير إليها؛ أننا لا نرى أمامنا إلا الرجال، فالمتحدث لا يتحدث إلا مع من أمامه، وينسى أن هناك من يسمع صوته ولا يراه. فأقول باختصار: إن المرأة الآن تواجه حملة شنيعة، والأعداء يستعملون المرأة للتغرير، وإفساد الشباب، وجعل المرأة مجرد وسيلة لإثارة الشهوات والغرائز، وتحولت المرأة عند هؤلاء إلى تجارة، فما معنى أن يقوم تاجر بدعاية لسلعة معينة، فيضع عليها صورة المرأة؟! أنا أعتبر أن المرأة العاقلة ولو كانت فاجرة أو كافرة لا ترضى بهذا الأسلوب؛ لأن هذا يعني أنها صارت وسيلة للمال وللابتزاز، وللدعوة إلى تحصيل المال فقط لا غير. فإلى هذا الحد تصل المرأة! هل هذا تكريم للمرأة مثلاً؟! عندما تنتخب المرأة ملكة جمال، وتؤخذ صورتها، وعندما يأتي محرر مجلة فيضع صورة فتاة على الغلاف؛ لأجل أن تروج المجلة لا غير، فهذه تجارة بالمرأة. أسأل الله أن يكتب لبناتنا وأخواتنا الخير والصلاح والعفاف والستر والفضيلة، وأن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع.

علم لا ينفع

علم لا ينفع العلم فضيلة عظيمة جاء الثناء عليها في الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك العقلاء، ولكن هذا العلم لا يكون فضيلة إلا إذا كان علماً نافعاً، أما العلم الذي لا ينفع فهو مشغلة عما ينفع وقاطع من القواطع التي تصد عن الخير، وهو أنواع ينبغي معرفتها حتى تجتنب.

فضل العلم والتعلم

فضل العلم والتعلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد. فهذه فرصة طيبة أن يتم هذا اللقاء، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن يستمع القول ويتبع أحسنه إنه سميع مجيب، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. ولعله من المناسب أن يكون مثل هذا الحديث في مثل هذا الوقت بالذات، مع بداية العام الدراسي، فهو بداية عام للعلم والتعلم سواء ما كان منه على مقاعد الدراسة ممن كان يدرس علوماً تنفع الأمة، أو ما كان حتى خارج هذا الوقت، فإن الغالب أن يكون وقت الإجازة وقت انشغال وسفر وذهاب وإياب، والأنشطة العلمية التي يسلكها الشباب غالباً يبتدئ بها الأخ مع بداية العام الدراسي. ولهذا أحببنا أن نقول: كما أننا نحتاج إلى الحث على طلب العلم، والتعرف على فضله وثمرته وقيمته، نحتاج أيضاً إلى أن نتساءل كثيراً حول هذا العلم الذي نطلبه ونسعى إليه. وقضية فضل العلم والدعوة إليه مثلكم ليس بحاجة إلى أن يُذكَّر بها، لكن يكفي أن نعلم دائماً أنه ما نُسب أحد إلى العلم إلا فرح بهذه النسبة، وما نُسب أحد إلى الجهل إلا واعتبر ذلك ذماً، حتى الجاهل الذي لا يفقه شيئاً حينما تقول له إنك جاهل، يعتبر هذه النسبة ذماً له وعيباً له، وهذا يكفي في الدلالة على أن العقلاء كلهم أجمعوا على قيمة العلم ومكانته، فلم يعد مجالاً للنقاش. والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغّبنا فيه بفضائل عدة يكفينا منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) هنا يأتي هذا الوعد النبوي أن من سلك طريقاً، و (طريقاً) نكرة فأي طريق يلتمس به الإنسان علماً سيسهل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة، ما دام هذا الطريق مشروعاً، فالذي يحضر حلقات العلم في المساجد يلتمس العلم بذلك يسهّل الله به طريقاً إلى الجنة، والذي يلتحق بدراسة نظامية يلتمس بذلك علماً يسهّل الله له بذلك طريقاً إلى الجنة، والذي يشتري كتاباً من كتب العلم ليقرأ فيها أو يذهب إلى المكتبة ليقلب الكتب ويبحث عن كتاب يقتنيه، والذي يقرأ ويتناقش مع أحد زملائه، حتى ما قد يأتي به العلم المعاصر مما قد لا يكون في أذهاننا الآن مما يأتي في المستقبل من وسائل، فما دام هذا الطريق ليس فيه محذور شرعي؛ فكل من التمس طريقاً من هذه الطرق يلتمس به علماً سهّل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة وعلى هذا فالعلم بطرقه وأبوابه ووسائله طريق إلى الجنة.

العلم الذي لا ينفع

العلم الذي لا ينفع لا أريد أن أتحدث عن فضل طلب العلم كما قلت لكم، وليس أمثالكم بحاجة إلى أن يُحدثوا عن ذلك، لكن من باب الإشارة والتذكير، أما موضوعنا فهو الحديث عن العلم الذي لا ينفع، وذلك قد جاء بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في كتاب الله عز وجل الإشارة إلى أنواع من هذا العلم الذي لا ينفع. ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: (لا أقول إلا كما كان صلى الله عليه وسلم يقوله: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) ثم قال: (وأعوذ بك من علم لا ينفع). وورد هذا المعنى أيضاً في أحاديث أخرى، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وورد من حديث أنس، وورد من حديث أبي هريرة وكل هذه النصوص يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع. وفي حديث جابر (سلوا الله علماً نافعاً واستعيذوا به من علم لا ينفع). وقد ورد أيضاً الاستعاذة من العلم الذي لا ينفع في حديث عبد الله بن أبي أوفى. هذه النصوص في المسند والسنن تعطينا دلالة على أن هناك من العلم ما يصبح شراً يُستعاذ بالله منه، وأن تحصيل العلم بأي وسيلة، مما ينطبق عليه أنه العلم الذي يسهل الله عز وجل به للعبد طريقاً إلى الجنة، وهذا يجعل الإنسان يتفاءل حينما يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من هذا العلم الذي لا ينفع، ويحذر ويعرف أن العلم قد يكون أحياناً غير نافع لصاحبه، بل قد يكون أحياناً وبالاً وشراً على صاحبه عافانا الله وإياكم. وهذا أيضاً يعطينا دلالة على أن طلب العلم وجمع المعلومات ليست غاية في حد ذاتها، نعم الإنسان يستهدف العلم ويسعى في تحصيل العلم وتحصيل العلم عبادة، لكن مجرد تحصيل العلم للعلم في حد ذاته ليس غاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وهذا يعني أن هناك علماً ينفع وعلماً لا ينفع؛ ولهذا فالعلم وسيلة إلى تحقيق خيري الدنيا والآخرة، وما لم يترتب عليه هذا النفع فإنه شر يستعاذ بالله عز وجل منه، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله مراراً من العلم الذي لا ينفع، ولم يبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما هو العلم الذي لا ينفع، لكنه جاء بعبارة واضحة محددة يفهمها كل الناس: أنه علم لكنه لا ينفع، فلا يعود بالنفع على صاحبه، والنفع ما كان نفعاً للمرء في دينه وآخرته، ثم ما كان ينفع الناس في دنياهم مما لا يكون على حساب الآخرة لأن الآخرة هي الأصل، فقد يحصل الإنسان علماً ينفعه في الدنيا لكنه يضره في آخرته، أرأيت مثلاً الساحر الذي يتعلم السحر، والسحر علم لكن الله عز وجل يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، والذي يتعلم السحر ينتفع بذلك في دنياه، وأهل الشعوذة والسحر والكهانة من أكثر الناس ثراء وتحصيلاً للمال، فهو ينتفع بذلك في دنياه لكن هذا النفع على حساب آخرته، ويجر عليها الوبال وخسران الآخرة فأصبح في النهاية علماً لا ينفع، بل هو من أشد العلوم ضرراً على صاحبه. إذاً: فنحن أمام عبارة واضحة، أي علم لا يترتب فيه نفع في الآخرة، أو في دنيا العبد فإن هذا العلم من العلم الذي يستعاذ بالله عز وجل منه، وقد تتفاوت مراتب هذا العلم، فقد يُصبح وبالاً على الإنسان، ويُصبح هذا العلم شراً بذاته، ويجلب الشر والفساد كما في تعلم العلوم التي تصد الإنسان عن دين الله أصلاً، أن يتعلم الإنسان علوماً فيها شبه وفيها إشكالات، فيكون العلم سبباً لصرفه عن الهداية إلى الضلال، فهذا في قمة ما يستعاذ بالله منه، وقد يكون العلم الذي يتعلمه الإنسان من الفضول فقد لا يترتب عليه ضرر مباشر وشر مباشر، لكنه من فضول العلم، ولا شك أن هذا لا ينفع، بل مآله إلى أن يضر الإنسان؛ لأنه أنفق فيه جزءاً نفيساً من وقته كان ينبغي أن ينفقه فيما ينفع فصرفه عن العلم النافع. ثم أيضاً هذا العلم الذي تعلمه أخذ جزءاً من تطلع الإنسان للعلم، فالإنسان عنده تطلع للعلم وعنده رغبة في المعرفة والتعلم، فحينما يحصّل هذا العلم فإنه يسد هذه الرغبة، فتنصرف رغبته في العلم النافع. على كل حال العلم الذي لا ينفع يتفاوت فقد يجلب ضرراً للإنسان، وقد يصل به إلى حرمان الفلاح في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي أنه ليس له في الآخرة من نصيب، وهذا الجزء من الآية يستدل به على أن السحر كفر صراح؛ لأنه حينما يكون ليس له أي نصيب في الآخرة فهذا معناه أنه لن يدخل الجنة، ومعناه أنه سيخلد في النار وهذا ليس إلا للكفار، فهذا العلم تسبب في حرمانه كل نصيب من الثواب والخير في الآخرة، وتسبب لخروجه من دائرة الإسلام ودخوله في الكفر، وقد يكون دون ذلك كما في شأن الذي يتعلم بعض

أصناف العلم الذي لا ينفع

أصناف العلم الذي لا ينفع العلم الذي لا ينفع ليس بالضرورة شيئاً واحداً، إنما هو أصناف كثيرة:

العلم الخالي عن الإخلاص لله

العلم الخالي عن الإخلاص لله من أول مجالات العلم الذي لا ينفع: العلم الذي لا يُخلص فيه العبد لله عز وجل: حينما لا يخلص النية لله تبارك وتعالى فإنه سيفقد نفع هذا العلم، وهذا الأمر واضح بأن العلم عبادة شرعية يتعبد بها الإنسان لله تبارك وتعالى، والعبادات لا يثاب عليها الإنسان ولا تحمد إلا حين يبتغي بها وجه الله عز وجل، بل حقيقة العبادة أصلاً هي التقرب إلى الله وابتغاء وجه الله عز وجل، هذه العبادة أن يتقرب الإنسان إلى الله في أي عمل، سواء كان عملاً قلبياً، أو بلسانه، أو بجوارحه العمل الخالص الذي يرضى الله تبارك وتعالى أن يتقرب العبد به إليه، فإذا كان هذا الإنسان لا يخلص فمعناه أنه لا يتقرب إلى الله قط، فقد بطل أصلاً مقصود العبادة. والله تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فهو القائل عز وجل: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) كما حدثنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. بل قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على وعيد لأولئك الذين يفتقدون الإخلاص في طلبهم للعلم، فمن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، فمن تعلم العلم الشرعي لغير الله فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد، وهو ألا يجد ريح الجنة عافانا الله وإياكم. إذاً: فهذا الرجل الذي لم يخلص النية في طلب العلم متوعد على تعلمه، بل هو يوم القيامة من أول من تسعر بهم النار، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: (قارئ تعلم العلم فيأتي به الله عز وجل فيعرّفه نعمه فيعرفها فيقول: ما عملت؟ قال: تعلمت وقرأت، فيقال: كذبت تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) عافانا الله وإياكم. إن الله عز وجل قد أعطاه نعمة؛ ولهذا عرّفه بهذه النعمة فعرفها وتعرّف عليها وأدركها لكنه تعلم ليقال عالم، وقرأ ليقال قارئ، ولهذا صار من أول من تسعر بهم النار، ولا شك أن هذا أعظم فوات لنفع العلم؛ لأن أهم مطلوب وأعلى مطلوب الإنسان في حياته هو نجاته من هذه النار. ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى استحضار النية والإخلاص في أي وسيلة، أي باب، أي طريق من طرق العلم، واستحضار النية يجعل الإنسان يشعر أن عمله عبادة. يخرج من أول النهار، ويذهب إلى المدرسة أو إلى الجامعة، ويبقى فيها إلى ما بعد صلاة الظهر ثم يعود، وقد يبذل جهداً خارقاً وقت الدراسة لمتابعة بعض التكاليف، هذا الإنسان حينما تكون نيته خالصة لله عز وجل يكون هذا الوقت والجهد الذي صرفه عبادة لله تبارك وتعالى، فيثاب عليه عند الله عز وجل لأنه قد صرفه لله تبارك وتعالى، وقل مثل ذلك في سائر أبواب وطرق تحصيل العلم الأخرى. ثم أيضاً تحقق الإخلاص أمان بإذن الله وضمانة من الانحراف والزيغ إلى مقاصد أخرى، فإن طالب العلم كلما تذكر أنه يطلب العلم لله عز وجل، ويتعلم العلم لله تبارك وتعالى، دعاه ذلك إلى أن يراجع نفسه ويتفاءل دائماً؛ لأن طالب العلم عرضة للهوى، وعرضة للانحراف، وعرضة لأن يكون العلم نفسه سبباً في انحرافه وضلاله كما سيأتي في بعض أنواع العلم الذي لا ينفع. يمكن أن أضيف هنا نقطة مهمة حول قضية الإخلاص، وهي أن هذا الأمر واضح بالنسبة لمن يتعلم العلوم الشرعية، لكن من يتعلم علوماً غير شرعية، أي لا تتعلق بأحكام الشرع، وليس مصدرها النقل، إنما هي من علوم الناس في دنياهم، كمن يدرس الطب أو الهندسة أو الإدارة، فهذا أيضاً يصدق عليه هذا الأمر، ولكن كيف يخلص نيته؟ حينما يكون قصده أن ينفع المسلمين بما يتعلم، وأن يسد ثغرة يحتاجها المسلمون، فحينما يكون فعلاً صادق النية، يثاب على ذلك، أي أن القضية ليست قضية وجاهة اجتماعية، فإن بعض العلوم تعطي الإنسان وجاهة اجتماعية وقيمة اجتماعية، فهو يتعلم لأجل الوصول إلى هذه القيمة الاجتماعية، أو إلى النفع المادي، ثم إذا دار بينك وبينه حديث قال: إنك لم تنفع المسلمين، صحيح لكن أنت هل أنت تتعلم هذا الأمر لتنفع به المسلمين أو لا؟ فحينما يكون قصد المسلم في تعلم هذه العلوم أن ينفع المسلمين، وأن تتخلص الأمة من الاعتماد على أعدائها، فلا شك أن هذا الأمر الذي يقوم به عبادة لله تبارك وتعالى، أليس قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم والإصلاح بينهم في أمور دنياهم أمراً مطلوباً؟ فحينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الخير قال: (يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) أي أن كل عضو ينبغي أن يقوم الإنسان بحقه ونعمته فيتصدق، فقيل له: (ليس كلنا يجد ما يتصدق به، قال: كل تسبيحة صدقة) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل على دابته تحمله أو ترفع له عليها متاعه صدق). إذاً: أنت إذا وجدت إنساناً تعثّر في الطريق ووقفت وساعدته، فعملك هذا صدقة، فلو أن إنساناً اخترع آلة وطورها للمسلمين وتنفعهم في ذلك، فلا شك أن هذا الأمر صدقة. وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، الآن حينما تقود السيارة وتنزل وتزيل الأذ

العلم الذي لا يعمل به الإنسان

العلم الذي لا يعمل به الإنسان النوع الثاني من العلم الذي لا ينفع: الذي لا يعمل به الإنسان: وليس المقصود العلماء ولا حتى طلاب العلم فحسب، بل المقصود به أي مسلم يعلم علماً لا يعمل به فإن هذا العلم لا ينفعه، فمن علم مثلاً أن شرب الخمر حرام ولم ينته ولم يرتدع عن ذلك فهو لم ينتفع بعلمه، من علم أن الكذب حرام، وأن الغيبة حرام، وإسبال الثياب، وأن إيذاء المسلمين إلى آخره، فمن لم يعمل بهذه الأمور فهو داخل تحت من لم يعمل بعلمه. إذاً: قضية العمل بالعلم ليس أمراً خاصاً بالعلماء، وليس أمراً خاصاً بطلاب العلم، بل كل من علم علماً في دين الله عز وجل ولم يعمل به فهو داخل تحت هذه الدائرة. ولهذا قال أحد السلف: والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر سيان عندي علم من لم ينتفع في علمه وصلاة من لم يطهر يقول: إنه يستوي عندي من تعلم العلم فلم يعمل به، ومن صلى صلاة بغير طهارة؛ ولهذا جاء الوعيد في كتاب الله عز وجل لأولئك الذين لا يعملون بما يتعلمون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2 - 4] فالعبرة والجزاء إنما هو بالعمل الذي يقوم به صاحبه. وقد اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل نزلت في أولئك الذين يقولون: وددنا لو علمنا أفضل الأعمال فنعمله، أو في أولئك الذين يقولون فعلنا ولم يفعلوا؟ المقصود أن هذه الآية جاء فيها الدعوة إلى العمل، وأن المخالفة بين القول والعمل مما يوجب المقت، ثم أتبعها الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فهو تبارك وتعالى يحب العاملين بما علموا.

العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه

العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه الأمر الثالث من العلم الذي لا ينفع، وإن كان هذا قريب من النوع السابق، ولكن ننص عليه لأهميته وإلا فهو جزء مما سبق، العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه في خشوعه وهديه وسمته: واليوم تجد عزلة بين التقوى والورع والخشوع والسمت وبين العلم، وما عرفت الأمة هذه العزلة من قبل، بل هما أمران يجب أن يتلازما: فحين يكون عند المرء علم لا يقوده إلى ذلك، فقد أوتي علماً لا ينفعه، وحين يكون عنده خشوع وتخشّع وخشية بعيدة عن العلم فهو أشبه بحال الضالين من النصارى وأهل التصوف {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]. ولهذا جاء وصف أهل العلم في كتاب الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. فالله عز وجل هنا قد وصف الذين يعلمون بأنهم قانتون ساجدون، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم، إذاً فالعلم كان مدعاة لأن يتحقق لديهم ذلك رجاء رحمة الله ورغبته، والخشية من عذابه والقنوت والعبادة والخشوع لله سبحانه وتعالى. وفي سورة الإسراء قوله تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]. ولهذا قال أحد السلف: من أوتي من العلم ما لم يبكيه فحري ألا يكون أوتي علماً، ثم قرأ هذه الآيات. نعم لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109] فهذه حالهم، وهذا أثر العلم عليهم وما جلبه لهم؛ ولهذا كان الشأن في عهد سلف الأمة ألا يلبث الرجل يطلب العلم حتى يُرى أثر ذلك في تخشعه وصلاته وعبادته. وكانوا كما قال جندب رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا به علماً). وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لشأن مجالس الذكر التي تشهدها الملائكة كما أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله ملائكة سيارة يتبّعون حلق الذكر، فإذا جاءوا إلى هذا المسجد قالوا: هلمّوا إلى حاجتكم، ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيسألهم عز وجل فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبّحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، قال: فماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: فمم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قالوا: فيهم فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وهذا الحديث من أعظم الأدلة على هذا الأمر؛ لأنه وصف هؤلاء بأنهم يسبحون الله ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه، فهذا شأن طلبة العلم، وهذا شأن الذين يحضرون مجالس العلم، ثم هم يسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار، حتى حينما قال الله: قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا به كأنهم تساءلوا فقالوا: فيهم فلان خطاء، يعني أن الأصل في هؤلاء أنهم بعيدون عن المعصية والخطيئة، ولهذا لما رأوا ذاك الرجل جلس معهم كأنهم رأوا أن هذا ليس متصفاً بصفاتهم وليس مثلهم، فكأنهم رأوا أنه لا يستحق هذا الجزاء الذي وُعد به هؤلاء، وهذا الرجل ما استحق هذا الأمر إلا بصحبته هؤلاء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فإذا كان هذا الجليس قد غُفر له لأنه جالسهم وصاحبهم، فما بالكم بحالهم هم؟ فأنت لا تطمع وتطمح أن تكون مثل هذا الرجل لأن هذا الرجل كما جاء في هذا الحديث قد غُفر له، لأنه صاحبهم ولأنه جالسهم، وهذا يعني أن منزلة هؤلاء وأن ثواب هؤلاء أعظم مما يصل إليه هذا الإنسان الذي ما غُفر له إلا لأنه جالسهم، فكيف إذا كان مثلهم وعمل مثل عملهم؟ إذاً يجب علينا أيها الإخوة أن نتفقد أنفسنا، وأن نتساءل: أين أثر العلم على هدينا وعلى سلوكنا وسمتنا وخشوعنا؟ ولماذا نرى أن قضية الورع وقضية الهدي والخشوع والعبادة باب آخر غير باب العلم؟ لا. فهما قرينان لا يفترقان؛ ولهذا حين قيل للحسن وهو من أورع الناس: يا عالم، قال: هل رأيت عالماً قط؟ إنما العالم من يخشى الله عز وجل. وكما كان قول السلف:

العلوم التي لا تنفع في أصلها

العلوم التي لا تنفع في أصلها الأمر الرابع: العلوم التي في أصلها لا تنفع: هناك علوم قد يشتغل بها الإنسان فلا تنفعه، وقد يهتم الإنسان أحياناً بمطالعات وقراءات وتعلم علوم، وتراه فقيهاً في هذه العلوم وهي لا تجلب له مصلحة لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] نفى عنهم العلم فقال: {لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] ثم قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] أثبت لهم العلم بعد أن نفاه عنهم، فهو هنا قد نفى عنهم العلم المعتبر في اصطلاح الشرع، أو أنهم لا يتعلمون علماً ينفعهم، فبركة هذا العلم وأثره قد نفيت عنهم، ثم أثبت لهم العلم فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وأي علم لا ينفع الإنسان في دينه ولا في دنياه هو داخل تحت هذه الدائرة وهذا الصنف، وما أكثر الناس اليوم ممن يتعلمون ويقرءون، ويبذلون جهوداً ومع ذلك لا ينتفعون بما تعلموا، بل قد ينتفع الناس بما تعلموا من هؤلاء وعلموهم به وهم حطب جهنم عافانا الله وإياكم. أضرب لكم مثالاً حتى تعرفوا الفرق بين قضية تصحيح وسلامة نية الإنسان ودينه وبين ظلامه. مثلاً: الذي اخترع الكهرباء كم ينتفع به الناس اليوم، فماذا حقق هؤلاء؟ تاه الأنام بقولهم فاليوم صاحي القوم عربد والله لا موسى ولا عيسى الكليم ولا محمد عرفوا ولا جبريل وهو إلى مقام القدس يصعد من كنه ذاتك غير أنك واحد في الذات سرمد فليخسأ الحكماء عن ذات له الأفلاك سجد من أنت يا رسطو ومن أفلاط مثلك يا مبلد؟ ومن ابن سينا حين قرر ما هذيت به وشيد؟ أي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وجبريل وغيرهم لم يعرفوا عن الله تبارك وتعالى إلا أنه واحد تبارك وتعالى في الذات فقط، فهل أنتم يا أفلاطون وابن سيناء وفلان وفلان علمتم علماً لم يعلمه هؤلاء؟ فما قيمة ما تعلمه هؤلاء؟ وكما يقول أحدهم حين يحكي عن نفسه: لقد طفت في تلك المعاهد كلها وجولت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم يعني طاف وذهب وفعل وتعلم، ثم بعد ذلك لم ير علماً ولهذا أبو المعالي الجويني والرازي وغيرهم، أوصوا من بعدهم ألا يخوضوا في هذا العلم ولا يتعلمونه؛ لأنه علم عرف هؤلاء أنه لا ينفع كما قال الرازي: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وتعلم مثل ما تعلمت.

استخدام العلم للصد عن حدود الله

استخدام العلم للصد عن حدود الله النوع السادس وهو من أخطرها: حينما يستخدم الإنسان هذا العلم للصد عن حدود الله: وما أخطر ذلك أيها الإخوة، ما أخطر أن يوظف العلم للصد عن سبيل الله، والقمة في ذلك هم ضُلّال أهل الكتاب، حكى الله تبارك وتعالى عنهم فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:51 - 54]. جاء كفار قريش إلى أهل الكتاب فسألوهم أهم خير وأهدى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أنتم فنزلت هذه الآيات. مع أن أهل الكتاب يعلمون تمام العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فكانوا قد جعلوا هذا العلم الذي تعلموه مجرد صد، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران:99] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71] فهؤلاء قد جعلوا هذا العلم وسيلة للبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، فيأتي الإنسان وقد أوتي بياناً وحجة، وأوتي علماً، وحفظ من المتون والأقوال والمسائل، فيأتي ينزل هذه النصوص وينزل هذه الأقوال، وينزل هذا العلم على وقائع ليست على ما جاءت عليه، فيكون سبباً للصد عن سبيل الله، وسبباً لفتنة الناس عن دين الله عز وجل، وما أكثر هذا الصنف!

كتم العلم

كتم العلم سابعاً من العلم الذي لا ينفع: حينما يكتم المرء العلم: قد لا يلبس الحق بالباطل، وقد لا يصد عن سبيل الله، لكنه قد يكتم العلم الذي يجب عليه بيانه كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160]. حينما يجب على الإنسان أن يبين العلم فيكتمه يتعرض لهذا الوعيد، فيصبح هذا العلم غير نافع لصاحبه، ما قيمة العلم الذي تعلمه؟ وهب أنه حصّل ما حصّل لقد كان هذا العلم سبباً لأن تحيق عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين عافانا الله وإياكم، ولهذا يخبرنا تبارك وتعالى أنه أخذ الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:187 - 188]. ولهذا من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار عافانا الله وإياكم. إذاً فحين يكتم المرء العلم في موقف يجب عليه أن يبينه فإنه لا ينتفع بعلمه، وأشد من ذلك الصنف الذي قبله الذين يلبسون الحق بالباطل ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا شك أن الذي يوظف العلم للفتنة والصد عن سبيل الله ويأخذ مقابل ذلك أجراً أنه ممن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]. صورة أخرى نراها كثيراً في واقعنا، وهي من صور العلم الذي لا ينفع، هذه الصورة تتمثل في نماذج من الناس، ممن تعلم العلم الشرعي، وحصل على شهادات وعلى مناصب، كم هم الآن في العالم الإسلامي خريجو الكليات الشرعية والدراسات الشرعية؟ ثم بعد ذلك بقي هذا الإنسان في عمل لأجل أن يأخذ على ذلك أجراً ومرتباً ولم تستفد الأمة ولم يستفد أحد من هذا العلم الذي تعلمه، بل صار من أبعد الناس عنه، فهذه صورة من العلم الذي لا ينفع، والذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم. هذه بعض الصور أيها الإخوة من العلم الذي لا ينفع، ولا نستطيع أن نحصره في دائرة واحدة فكل علم لم يحقق للمرء مصلحة في الآخرة وهي المقصود الأعلى والأهم من تحصيل العلم، أو مصلحة في دنياه فهو داخل تحت هذا العلم الذي يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله منه في دعاءه. فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، ونستعيذ به تبارك وتعالى من العلم الذي لا ينفع، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

استخدام الآخرين للعلم النافع استخداما سيئا

استخدام الآخرين للعلم النافع استخداماً سيئاً Q إنسان تعلم علماً ينفع الناس، ولكن هناك من استغل هذا العلم لمضرة الناس، فهل يلحق صاحبه إثم إذا كان هو مخلصاً لله، أي أن مخترع الكهرباء لو كان مخلصاً لله وهناك من استعمل الكهرباء للسينما فهل يناله إثم؟ A المسلم عليه أن يخلص لله دائماً وليس مسئولاً عن سوء استخدام الناس لثمرة علمه، يا أخي حتى العلم فبعض المرجفين إذا أراد أن يضع فتنة ويثير فتنة ذهب ليراجع ويقرأ القرآن ويقرأ صحيح البخاري ويقرأ المغني وكتب السلف وفي إعلام الموقعين، ويأخذ نصوصاً يستدل بها! هذه صورة من صور الاستخدام السيئ للعلم، حتى العلم الشرعي قد يستخدم أحياناً استخداماً سيئاً، وليست مسئولية هؤلاء الذين علّموا هذا العلم ونشروه للناس.

مجالسة أصحاب الشر

مجالسة أصحاب الشر Q ما رأيك بالذي يجالس أصحاب الشر من غير داعي ممن يكثرون من الضحك والغيبة. A هذا ليس بعلم ولا ينفع، إذا كان العلم الذي لا ينفع مذموماً فما بالك بما هو وراء ذلك من مجالس اللهو، والله تبارك وتعالى وصف عباده وأضافهم إلى عبوديته فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] فمجالس الزور لا ينبغي للمسلمين أن يشهدوها ولا يحضروها، وإذا مروا بهذه المجالس أن يمروا بها كراماً.

الامتناع عن الخطابة خوف الخطأ

الامتناع عن الخطابة خوف الخطأ Q أنا أريد أن أتكلم وأريد أن يكون عندي القدرة على الخطابة، لكني أخاف من الخطأ فأسكت، فهل هذا يعتبر من كتمان العلم؟ A يختلف الخطأ يا أخي، فهناك خطأ في حديث الإنسان وإلقائه، يعني أن يتحدث الإنسان فيرتبك أو يتردد، وهذا أمر طبيعي لا بد منه، ولا يصل الإنسان إلى الإتقان إلا على قنطرة وجسر هذه الأخطاء، أو الخطأ من النوع الآخر الذي يكون في العلم الذي يبلغه، فالأول الحل في المران والتدرب وتحمل أن يقع في الأخطاء حتى تقل ثم تضمحل. أما النوع الثاني فالحل ألا يتكلم الإنسان إلا بما يعرف، وإذا كان الإنسان يشك في أمر فلا يتكلم فيه بغير علم، أو يقول: ما أعلمه هو هذا وقد يكون الأمر بخلاف ذلك. المهم ألا يتكلم الإنسان إلا عما يعرف، ويضبط ألفاظه حين يتكلم به، هذا هو الحل للسلامة من الخطأ، لكن لو اجتهد الإنسان وتكلم بأمر يظنه حقاً ولم يكن كذلك، فإذا اجتهد وبذل وسعه وأخطأ، فإنه يؤجر على ذلك أجراً واحداً.

معنى آية: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو)

معنى آية: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) Q ما معنى {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]؟ A هذا فيه إخبار من الله تبارك وتعالى عن حال أهل الصداقة والخلة يوم القيامة، وهذه الآية جاءت في سورة الزخرف، فقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38] وهذه في نفس السورة التي ذكر الله عز وجل فيها هذه الآية الأولى. فالذي أعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى يقيض الله له شيطاناً فهو له قرين، والشيطان قد يكون من شياطين الإنس أو الجن، {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38] أي: ليتك كنت في المشرق وأنا في المغرب حتى لم نلتق ولم نصل إلى هذه المدينة. والطائفة الأخرى هم الذين حكى الله عز وجل عنهم بأنهم {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فهذا حال أولئك، وهذا حال هؤلاء، وحال هؤلاء يتمنى أحدهم أن يكون بينه وبين صاحبه بعد المشرقين، ويتبرأ لله عز وجل منه يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29]. بل يقولون لله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يسألون الله أن يزيد أصحابهم من العذاب، وأن يضاعف عليهم العذاب لأنهم كانوا سبباً في إضلالهم. أما هؤلاء فلهم شأن آخر، حتى حين يدخلون الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحد أشد مبالغة منهم حين يسألون الله فيقولون: يا رب إخواننا كانوا يصلون معنا ويقومون معنا، فيقول الله عز وجل لهم: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم من النار وقد حرم الله عز وجل صورهم على النار؛ لأنهم يسجدون لله تبارك وتعالى، فيخرجون من النار ثم يدخلونهم الجنة) يعني حتى الذين كانوا يصلون معهم ويقومون معهم من أهل المعاصي، بعد أن دخل هؤلاء الجنة وأرضاهم الله تبارك وتعالى، لم ينسوا أولئك وصاروا يطالبون الله تبارك وتعالى أن يخلّص إخوانهم من النار، أما أولئك فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] عافانا الله وإياكم.

معاودة الغيبة والعلم النافع

معاودة الغيبة والعلم النافع Q أعلم علماً يقيناً بتحريم الغيبة والكذب وبعض الأمور، ولكن كثيراً ما أرتكبها ثم أستغفر الله، ثم أمسك، فهل يكون علماً لا ينفع، وما الحل للبعد عنها جزاك الله خير؟ A النفع ليست قضية واحدة، يعني إما أن توجد أو لا توجد! بل هي درجات، لو أخذنا ثلاثة أشخاص وأعطينا كل واحد مبلغاً من المال قدره مائة ريال، فالأول أحرقها بالنار، والثاني استفاد منها فتصدق بها جميعها، والثالث تصدق بشيء منها وصرف جزءاً في بعض حاجاته، فالأول لم ينتفع بها إطلاقاً، والثاني انتفع بها كلها، والثالث حصّل بعض النفع منها، فهكذا شأن العلم، فبعض الناس قد يتعلم علماً فيعمل به في نفسه ويكتفي بذلك، وبعض الناس يعمل به ويدعو الناس إليه ويعلم غيره، وبعض الناس يتعلم هذا العلم فيعمل به لكنه يقصر، والبعض لا يعمل به، فهناك من لم ينتفع به أصلاً، وهناك من انتفع به بعض الانتفاع، فأفضل الناس الذي تعلم هذا العلم وعمل به وعلمه ودعا الناس إليه، فالانتفاع يتفاوت بقدر ما تعمل بهذا العلم الذي تعلمته تكون انتفعت به، فليست كتلة واحدة إما أن توجد أو لا توجد.

السؤال عن الأمور التي لا تقع

السؤال عن الأمور التي لا تقع Q ذكرت حديث اختيار الجليس، هل العكس ينطبق على الإنسان الملتزم الذي يجلس مع الفسقة، بمعنى أنه يفتن دون الرفقاء والأصحاب؟ A الشق الثاني ينبغي ألا يرد أصلاً؛ لأن قضية الاستجابة إلى الفسقة هذه قضية غير واردة، ولا بد دائماً أن يكون الرائد في العلم الذي ينفع، ولهذا من الصور التي لا تنفع وما أشرنا إليها اختصاراً، أن كثيراً من السلف كان إذا سأله أحد عن مسألة قال: وقعت أم لا؟ قال: لا، قال: انتظر حتى تقع، نحن نعلم علماً نحفظه يترتب عليه يقين، التفريع في المسائل التي ليس وراءها عمل مذموم، أحياناً الذي يطالع في التفريعات التي لا يترتب عليها عمل ولا فيها فائدة في الدنيا ولا في الآخرة، فهذه صورة من الصور التي لا تنتفع بها، الأصل أنه غير وارد أن يجالس الشاب المسلم الفسقة وهو ملتزم ويبقى معهم، ولهذا فهذا السؤال غير عملي، افترض أنا نقول إنه ينطبق عليه أو لا ينطبق، لكن المفترض ألا تجالسهم أصلاً؛ لأنك قد نُهيت عن صحبة هؤلاء وعن مجالستهم سواء كان ينطبق هذا أو لا ينطبق، ولا يترتب عليه شيء عملي بالنسبة لك. لكن إذا كان الإنسان يحب أهل الفسق ويرتاح إليهم فليراجع نفسه وليراجع إيمانه فإن في إيمانه ضعفاً، وإلا فالإنسان الذي عنده قوة إيمان وتقوى ينفر من أهل الفسق والفجور، ويحب أهل الصلاح والتقوى.

دراسة المواد العلمية كالرياضيات هل هي من العلم النافع

دراسة المواد العلمية كالرياضيات هل هي من العلم النافع Q ما رأيك في المواد العلمية كالرياضيات والكيمياء وغيرها، هل تعتبر علماً لا ينفع، خاصة وأن حصصها أكثر من حصص القرآن؟ A نحن لسنا في مجال نقاش، ما هي المناهج التي ينبغي أن نعلمها، وكيف، والمقدار، وكم؟ ليس هذا مجال نقاش، لكن أنت لا بد أن تتعلم هذه شئت أم أبيت اقتنعت أم لا، فدع القضية فيما ينفع، واضبط هذا العلم الذي تتعلمه فيما ينفع، حتى القضية التي قلتها، فالعلم علمان: علم شرعي لدين الله عز وجل، وأحكام الحلال والحرام، فهذا العلم لا إشكال في أنه علم نافع يرضي الله ورسوله ويجب أن تخلص به النية لله تبارك وتعالى، والعلوم الأخرى تنفع إن أردت بها نفع المسلمين وتحقيق الخير لهم وإفادتهم، ولا شك أن الأمة تحتاج إليها فأصبح ذلك علماً نافعاً، وإن أردت بها مجرد وجاهة اجتماعية أو مجرد تحصيل وظيفة فقط صار بالنسبة لك علماً غير نافع.

المخلص لا يحب المدح

المخلص لا يحب المدح Q حينما يعمل عملاً وهو مخلص لله، ولكن يحب أن يمدحه الناس؟ A هذا غير مخلص، فالمخلص لا يحب أن يمدحه الناس، لكن إذا شابته شائبة من شوائب الرياء على حسب هذه الشائبة، وقد فصّل أهل العلم في ذلك، فإذا كان أصل العمل لغير الله فهذا خطير، لكن إذا كان عملاً لله ثم دخلته شائبة! والإخلاص درجات ويتفاوت الناس فيها.

أثر المعاصي على الطلب والتحصيل

أثر المعاصي على الطلب والتحصيل Q ما هو أثر المعاصي على الطلب والتحصيل، وما هي أفضل الوسائل لحفظ القرآن الكريم وإتقانه؟ A المعاصي قد تكون سبباً لحرمان العلم أصلاً، فيقع الإنسان في النسيان أو قد تشغله عن العلم وتصرفه عن العلم، وقد تكون سبباً لحرمان بركة العلم؛ لأنه قد يحصّل الإنسان العلم لكن يُحرم البركة فيصبح علماً لا ينفع.

الحلف بالطلاق

الحلف بالطلاق Q في يوم من الأيام في العطلة قلت لأبي: سوف أذهب إلى مدينة كذا وقت صلاة المغرب والعشاء، أو إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولكن أبي رفض قال: لن تذهب إلا بعد الفجر، فقلت له: عليّ الطلاق إني سوف أذهب قبل الساعة الثانية عشرة، ولكنني أطعت والدي وذهبت في الوقت الذي حدده لي، فهل يقع عليّ الطلاق إذا تزوجت أو أكفّر أم ماذا أفعل؟ A هذا الذي بدأ من الآن يطلق عنده مشكلة، أصلاً حلفه بالطلاق أمر غير مشروع أصلاً، وإذا حلف الإنسان فليحلف بالله عز وجل، وهذه اليمين شاعت عند الناس لقلة تعظيمهم لله تبارك وتعالى، ولماذا صار الحلف باباً من أبواب التوحيد؟ لأنه يرتبط بتعظيم الله، وهذا حلف بالطلاق لأن الطلاق أصعب شيء عنده، حيث يجعله يفارق أهله ويهدم أسرة، وهذا من قلة تعظيم الله تبارك وتعالى، وهو من اتخاذ آيات الله هزواً؛ لأن الطلاق حكم شرعي شُرع لحل المشكلات. ثم إن من الدليل على سخافة عقل الإنسان أن يحلف بالطلاق! فعندما يدعو الناس للغداء يؤكد ذلك بالطلاق وهكذا! فما هي علاقة الزوجة بفلان؟ سواء استجبت لدعوتك أو ما استجبت فما علاقة هذه القضية بمسألة الطلاق؟ فهذه عادة يعملها أحياناً السفهاء والناس الذين لا يقومون بالواجب؛ لا برعاية الأهل ولا بمراعاة الحياة الاجتماعية، بل هذا من هوان قيمة المرأة شريكة الإنسان في حياته، والله عز وجل أخبر أنه أخذ بذلك ميثاقاً غليظاً، أي في هذا العقد والنكاح. أنا ذهبت إلى مجال أبعد من القضية فأقول: إن هذا دليل على مشكلة في تعظيمنا لله أصلاً؛ لأننا نعدل عن الحلف بالله إلى هذا الأمر، ودليل على تفكك العرى وقيمة الحياة الاجتماعية، ولهذا نشأت مشكلات الطلاق ونشأت مشكلات كثيرة في مجتمعات المسلمين بسبب عدله في الحلف، وأقول للسائل أن يرجع لأقوال الفقهاء في الطلاق، وأنه إذا طلق ولم يتزوج إذا قال إذا تزوجت فأنت طالق، أو كل من تزوجت فزوجتي طالق! إلى آخر التفريعات.

لا يعذر بالجهل من يقدر على التعلم

لا يعذر بالجهل من يقدر على التعلم Q هل يعذر الإنسان بجهله إذا كان بإمكانه التعلم ولكنه شُغل بالدنيا؟ A لا، إذا كان يستطيع أن يتعلم وانشغل فلا يُعذر.

عدم التبكير لصلاة الفجر خوف الحسد

عدم التبكير لصلاة الفجر خوف الحسد Q أنا أريد الإخلاص ولكن كيف تفسر لي هذه الحالة: الذي يريد أن يصلي الفجر ولكن يقول إذا ذهبت إلى المسجد أول مرة أخاف أن يحسدوني من التبكير للمسجد؟ A لن يحسدك أحد إن شاء الله، هذا من المسابقة في الخيرات، وما يشرع للإنسان أن يتأخر عن العمل الصالح لأجل هذا أبداً.

العلم الذي لا ينفع لا يورث الخشية

العلم الذي لا ينفع لا يورث الخشية Q الله سبحانه وتعالى بين في كتابه أن الذين يخشونه من عباده هم العلماء، ولكن نجد علماء اليهود والنصارى وأهل الفسق والعلمانيين لا يخشون الله، فكيف توجه هذه الآية؟ A نعم هؤلاء عندهم علم لكنه لن ينفعهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].

تعلم العلم بنية الفساد

تعلم العلم بنية الفساد Q إنسان كانت نيته وتخطيطه من بداية علمه أن يفسد في الأرض، وبعد تخرجه غيّر نهجه وبدأ بالتعليم، فهل المدة التي كانت نيته فيها فاسدة يتحمل عليها الإثم؟ A لا تشغل نفسك بما مضى، العلم هو كما قال بعض السلف: تعلم العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، مثلاً إنسان يتعلم لأجل تحصيل الدنيا، ثم تحسن نيته فيبقى العلم الذي تعلمه موجوداً عنده فيستفيد منه، فأنت إذا صلحت نيتك وخلصت فلا تربط نفسك بما مضى من دهرك، والزم الذي بقي عليك، وقضية النية التي نويتها والعمل الذي عملته فتب إلى الله عز وجل وكفّر عن ذلك بنشر الخير والعلم.

الدراسة النظامية وتأثيرها على الإخلاص

الدراسة النظامية وتأثيرها على الإخلاص Q ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن الدراسة النظامية تنقص قدراً من الإخلاص؟ A هذا غير صحيح، صحيح أنه تُفتح للإنسان فرص قد تؤثر على الإخلاص، لكن الإنسان إذا أخلص نيته واتقى الله وراجع نيته دائماً تصبح خيراً وكم من المسلمين اليوم من استفاد من هذه الفرص، وسلك مجال الكتابة فيما ينفع المسلمين سواء في علوم الدين أو علوم الدنيا.

صلاة الاستخارة

صلاة الاستخارة Q أرجو أن تبين لنا كيفية أداء صلاة الاستخارة، وهل تكون صلاة الاستخارة في الأمور الخيرية مثل الجهاد وغيره؟ A صلاة الاستخارة ركعتان من غير الفريضة، ثم يدعو بالدعاء الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم.

إماطة الخبز ونحوه عن الطريق

إماطة الخبز ونحوه عن الطريق Q ذكرت أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، فهل إماطة ما كان من نعم الله كالخبز وغيرها تدخل في هذا وتعتبر أذى؟ A الفرق بين أن يكون العمل عملاً مشروعاً، وبين أن يكون داخلاً ضمن هذا النوع مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت تؤذي الناس في طريقهم فإزالتها تعتبر من إماطة الأذى، لكن قد يزيلها الإنسان تقديراً لنعم الله عز وجل فيؤجر على ذلك، مثلما لو وجدت أوراقاً فيها اسم الله تبارك وتعالى مرمية وأزلتها، أنت أزلت هذه الأوراق عن الطريق لكن احتراماً وتعظيماً لاسم الله عز وجل فعلت ذلك.

ما يبدأ به من العلم

ما يبدأ به من العلم Q لقد ذكرت في كتاب الشباب والصحابة أن أول علم يتعلمونه بعد القرآن هو العقيدة والتوحيد، فما رأيك بمن بدأ بالحديث قبل العقيدة، وهل من اللازم ما ذكرته؟ A العلوم متلازمة، فالقرآن يتعلم منه الإنسان مسائل الإيمان ومسائل الأحكام التي هي العقيدة والفقه، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يتعلم منها هذا وذاك، فالقضية متلازمة لا نفصل بينها، وما لم يكن أحد العلوم ليؤدي إلى هذه الثمرة فلا خير فيه، إذا كان الإنسان يتعلم ويحفظ لمجرد أن يتسلى، ويقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يحفظ فقط؟ لا، إذا قرأها فهي داخلة تحت هذا الأمر، إما أمر من أمور الإيمان والاعتقاد، أو أمر من أمور الأحكام والسلوك يلتزم به ويعمل به في حياته.

معنى الفقه في الدين

معنى الفقه في الدين Q قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) هل المراد هنا بالعلم علم الفقه؟ A من الأخطاء الربط بين اصطلاحات الفقهاء والاصطلاحات الشرعية، فالفقهاء قد يصطلحون على مصطلح لكنه ليس هو المصطلح الذي جاء في الكتاب والسنة فيقع خلط، فمثلاً كتب الرجعة، عند الفقهاء هي الرجوع للزوجة بعد الطلاق، لكن في الشرع قد لا يكون كذلك، القضاء والأداء مصطلحات كثيرة قد يصطلح عليها الفقهاء وهي تعني عندهم اصطلاحاً معيناً لكنها في لفظ الكتاب والسنة ليست كذلك، ولهذا يقع الإنسان في لبس، فيقصر المصطلح الشرعي على هذا المصطلح الفقهي، والفقه في الدين جاء في آيات كثيرة بغير هذا المعنى {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] هل المقصود بها أنهم لا يعرفون أحكام الفقه والحلال والحرام، أم أنهم لا يعرفون العزة لله ولرسوله، فجعل الله في ذلك فقهاً، هذا جاء بنص القرآن، فالفقه المقصود به إذا جاءت بنصوص الكتاب، والسنة المقصود به العلم بدين الله عز وجل أياً كان.

الدعاء على أعداء الدين بالموت

الدعاء على أعداء الدين بالموت Q هل يجوز في دعاء النوازل أن يدعو على اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الدين؟ A عند دخول المنزل لا يُشرع للإنسان أن يدعو على اليهود والنصارى، أما إذا كان في دعاء النوازل فهذا مشروع للمسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم منزل الكتاب هازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.

الذنوب تمنع العلم

الذنوب تمنع العلم Q ما رأيكم بمن يجعل الذنوب التي يرتكبها مانعاً وحاجزاً عن التوبة، كذلك يجعلها مانعاً له عن تعلم العلم الشرعي؟ A من عقوبة الإنسان على ذنبه أن يحول بينه وبين ذلك، لكن المفترض للمسلم ألا تحول الذنوب بينه وبين التوبة، وحتى لو وقع في ذنب فلا يمنع ذلك عن تعلم العلم ولا يمنع ذلك عن التوبة والالتزام ومجالسة الأخيار، بل ذلك يكون بإذن الله سبباً لتخليه عن هذه الذنوب وتراجعه عنها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

ماذا بعد الالتزام؟

ماذا بعد الالتزام؟ الإنسان عرضة للغفلة والعصيان، والانهماك في مستنقعات الشهوة ورعونات النفس، خاصة الشباب، ثم يمن الله تعالى بالتوبة على من يشاء من عباده، فإذا تاب الإنسان والتزم فعليه أن يأخذ نفسه بالمجاهدة والابتعاد عن دواعي الشهوات، والحذر من الانتكاس بعد الهدى.

الهداية عودة إلى الأصل

الهداية عودة إلى الأصل الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بإخواننا الشباب هذا اللقاء المبارك في هذه البلدة التي تشرفنا بزيارتها، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله. معشر الشباب! عنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: ماذا بعد الهداية؟ ظاهرة نشهدها كثيراً ونراها، وربما نكون نحن أيضاً من نتاج هذه الظاهرة، ترى صورة ذاك الشاب الذي عاش فترة من الغفلة والإعراض والجرأة على ما حرم الله سبحانه وتعالى، وعاش مرحلة من التيه والضياع، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية، فهداه الله عز وجل، وسلك طريق الخير والاستقامة. أو ذاك الشاب الذي قد لا يكون كصاحبنا، قد لا تكون له تجربة في الفساد والإغراق فيه والانحراف، لكنه هو الآخر له تجربة قريبة من هذه التجربة، قد يكون عاش شخصاً عادياً لا اهتمام له، وغاية ما يشكل عنده أهمية فوز فريق رياضي أو تقدمه، أو قضية صغيرة أو كبيرة، أما قضية الاستقامة وقضية الدين فلا تقدم عنده ولا تؤخر كثيراً، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه هو الآخر بالهداية، ونعتبرها في الواقع نقلة مهمة، فسلك مع الشباب الأخيار طريق الخير والاستقامة، فصار مع هذا الرأي. ومن ثم كان لابد لهؤلاء وأولئك ولجميع الذين سلكوا هذا الطريق من حديث خاص حول هذه المرحلة التي انتقلوا إليها وسلكوها، ولئن كان الحديث فيما قد يبدو لنا خاصاً بأولئك الذين هم حدثاء عهد بهذه المرحلة إلا أني أتصور أنه قد يعنينا جميعاً، وسنجد جوانب من هذا الحديث تعنينا ونشترك فيها جميعاً. الجانب الأول: هذه الهداية إنما هي عودة إلى الأصل: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:30 - 31]. أي: أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس منيبين إليه، ومسلمين له، ومتوجهين له، فالبعض قد يتصور أنه ما دام هو قد تحول إلى هذا الطريق، أو ما دام فلان من الناس أياً كان هذا الشخص قد تحول إلى هذا الطريق، فإن هذا يعني أنه قد سلك طريقاً آخر، ومسلكاً آخر، ودرباً آخر. ولكن نحن نقول: إن هذا الشخص إنما عاد إلى الأصل، وعاد إلى المسار الطبيعي الذي كان ينبغي أن يسير فيه، والذي كان هو عليه أصلاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه فطر الناس منيبين إليه، ومتوجهين له، ومسلمين له. ونلمس هذا المعنى أيضاً واضحاً، بل قد يكون بصورة أدل وأقوى في الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول: (خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ذكر الله عز وجل، فحرمت عليهم ما أحللت لهم). إذاً: الجميع خلق أصلاً على هذا الطريق، وخلق في هذا المسار، ثم جاءته الشياطين فاجتالته، فأخذ المسار الآخر، فعندما يهتدي فإنه يعود إلى الأصل الذي كان هو عليه وخلق عليه. وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، حتى يعجم عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). هذا جانب من الجوانب التي تعطينا دلالة على أن هذا الشاب الذي سلك هذا الطريق لم يسلك طريقاً جديداً أصلاً، ولم يسلك مساراً مبتدعاً، إنما عاد إلى الأصل وإلى الوضع الطبيعي والمسار الذي كان عليه. جانب آخر أيضاً: اخرج خارج المدينة وتأمل فيما أمامك تجد الجبال والأشجار، ومظاهر هذا الكون، وارفع نظرك إلى السماء تر السماء والنجوم وتر ما فيها، وحينئذٍ ستتذكر قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]. إذاً: فترى هذا الكون أمامك بكل ما فيه يسجد لله سبحانه وتعالى، يسجد له عز وجل من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، حتى كثير ممن حق عليه العذاب هو في حقيقة أمره في بعض جوانب حياته يخضع ويسجد ويسلم لله سبحانه وتعالى. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، لعلك تبحث عن الظل لتجلس تحته، أو لتوقف سيارتك في مكان تستظل به، ثم تتذكر فعلاً هذا الظل الذي يمتد ويعود مرة أخرى ويرجع، فتراه في الصباح يبدأ يتناقص، ثم ف

الفضل لله وحده

الفضل لله وحده ثانياً: الفضل لله وحده: قد تتساءل بعد فترة فتقول: وفقت لسلوك هذا الطريق نتيجة قدراتي العقلية، لأني إنسان عاقل ومتزن، أملك قدرة على التفكير، و، و، وغير ذلك، فتبدأ تحلل بعض الأسباب التي أدت بك إلى العودة إلى الطريق الصحيح، وتنسى السبب الأساس والأهم وهو فضل الله سبحانه وتعالى وحده. وهي قضية يجب أن تتصورها، وألا تغيب عن بالك، فهي من باب الاعتراف بالفضل لأهله، فالله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً إلى فضل الله، وإلى رحمة الله، وإلى توفيق الله؛ ليصرف الله سبحانه وتعالى عنه كيد أولئك الذين هموا أن يضلوه. وأبونا إبراهيم الذي سمانا المسلمين كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه، يقول وهو يدعو ربه: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]، فإبراهيم غير مستغن عن هداية الله سبحانه وتعالى، وتوفيق الله عز وجل له. والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم). إذاً: فأنت ما لم تستمد الهداية والتوفيق من الله سبحانه وتعالى فأنت في ضلال وفي خسران. والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يصور لنا حقيقة هذا الإنسان، ومدى قدرته على التحكم في نفسه، أو مدى قدرته على الاستغناء عن مولاه سبحانه وتعالى، فيقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، ومفهوم تقليبها ليس مفهوماً ضيقاً، فنحن نفهم مثلاً أن هذا الحديث خطاب لمن كان مستقيماً على الخير والطاعة أنه قد ينحرف. لكن أيضاً حتى الإنسان الفاجر العاصي يمكن أن يقلب الله سبحانه وتعالى قلبه ليتحول إلى خير رجالات هذا الدين، بعد أن كان من أفسق الناس وأشقاهم. ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا). إذاً: الذي يقلب هو الله سبحانه وتعالى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. فالشاهد إذاً: أننا يجب أن ننسب الفضل لأهله، وأن نعرف أن المتفضل الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى، بدءاً بالهداية الأولى حين بين لنا هذا الحق، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسل للناس الرسل، وأنزل لهم الكتب هداية، فقد قال سبحانه وتعالى عن ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، مع أن ثمود لم يسلموا كما تعلمون، ولكن هذه الهداية التي هدى الله بها ثمود هي أن أرسل إليها الرسول. فنحن يجب أن نعترف لله سبحانه وتعالى بالفضل أولاً: أن أرسل إلينا الرسل، وأنزل إلينا الكتب، وأبلغنا هذا الدين وهذه الدعوة. لقد كان يمكن أن تكون أنت يهودياً، أو نصرانياً، أو وثنياً تعكف على وثن، أو تكون من الطوائف الضالة البعيدة عن الإسلام، فتكون رافضياً تتعبد إلى الله عز وجل بالخرافات والخزعبلات، أو تكون قاديانياً تدين بنبوة ذلك الطاغوت، أو تكون صاحب نحلة أياً كانت. فلقد منَّ الله عليك بأن اتضح لك الطريق، بالهداية والدلالة والبيان والإرشاد، فكم من إنسان يلتبس عليه الحق بالباطل، ثم الفضل الآخر أن وفقك الله لسلوك هذا الطريق، ولو شاء الله عز وجل لكنت ممن قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا عندما قال هذه الأبيات ومات وهو يردد هذه الأبيات؛ مات على ملة عبد المطلب، وقائل هذه الأبيات هو أبو طالب، عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عنده قناعة تامة، وأيقن بهذا الحق، لكنه لم يسلك هذا الحق، مع كل ما بذله من جهد في حماية النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه، صحيح أنه خفف عنه عذاب الله عز وجل، لكنه بقي في النار خالداً، ولا يمكن لأمثال هؤلاء أن يدخلوا الجنة حتى يسلموا لله سبحانه وتعالى. أقول: حتى مع وضوح الحق يبقى التوفيق في سلوك الحق -أيضاً- هي منة أخرى لله سبحانه وتعالى. فيجب أن نستحضر هذه القضية دائماً، وأن تستحضر أنك إذا وفقت لأداء عبادة من العبادات، أو وفقت لتوبة صادقة، أو وفقت لعمل صالح، أن تعرف أن صاحب الفضل أولاً وأخيراً هو الله سبح

الهداية بداية حياة جديدة

الهداية بداية حياة جديدة الجانب الثالث: هذه المرحلة بداية حياة جديدة: صحيح أنك عدت إلى الطريق، لكنك عدت بعد أن تشعبت بك الطرق والوديان، ومن ثم ستبدأ حياة جديدة بكل ما تعنيه هذه الحياة، فتجد الشاب تغير عندما هداه الله سبحانه وتعالى، وأول ما تبدو مظاهر التغير في مظهره، فأزال المخالفات التي كانت موجودة عليه في المظهر، ولهذا عندما ترى مظهر الإنسان تأخذ انطباعاً معيناً عن هذا الشخص. ثم الأمور والمظاهر العامة في عبادته وفي قضاياه أصبح القريب والبعيد من حوله يعرف أن فلاناً هداه الله سبحانه وتعالى وأنه قد تغير. هذا صحيح، لكن يجب ألا نقف عند هذا الحد، وأن نتصور أنها نقلة بعيدة، وإذا أحسست أنك ما انتقلت إلى هذه النقلة فلابد أن تعيد حساباتك مرة أخرى، فقد تبقى عندك بقايا، فيجب أن تبدأ حياة جديدة، أولاً: في المظهر، وهذه قضية واضحة، والدليل على هذا أنك مجرد أن ترى الإنسان يمكن أن تأخذ تصوراً عنه، تقول: هذا فلان مستقيم أو هذا فلان لا أرتاح له من خلال المظهر، صحيح أن المظهر ليس كل شيء، لكنه يعطي دلالة واضحة نلمسها جميعاً، ونجدها في أنفسنا ضرورة. لكن أيضاً مع ذلك هناك تغيرات يجب أن تحصل لديك، وإذا لم تحصل لابد أن تعيد النظر فيها: فأولاً: يجب أن تتغير اهتماماتك، فأنت في السابق مثلاً كنت إنساناً ساذجاً، تعيش اهتمامات تافهة، فأهم قضية عندك قضية الكرة والرياضة، قضايا تافهة إذا تطورت في الأمر صارت قضايا دنيوية بحتة، يعني: إذا صرت جاداً إلى آخر حد تكون أهم شيء عندك دراستك، أن تنجح وتتفوق وتتخرج، هذه هي قضية القضايا عندك، وهي كل شيء، وهي التي تسيطر على تفكيرك. وقد تكون الاهتمامات بجوانب هي مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد تكون تسيطر عليك الشهوة، وقد يسيطر عليك أمر محرم فصار هو بؤرة اهتماماتك. المهم: أياً كانت اهتماماتك ستبقى في محيط تافه، أما الآن فلا، فعندما هداك الله يجب أن تتغير اهتماماتك، وتفكيرك وخواطرك، فلا يليق بك الآن أن تهتم بالرياضة واللهو واللعب، صحيح أنك ستستمر في ممارسة هذه الأمور باعتبار أنها قضايا ليس فيها محذور شرعي، وقضايا لا يستغني عنها الشاب في مجال للترويح، لكن هناك فرق بين من يمارس ذلك، ومن تشكل هذه القضية في ذهنه قضية أساسية، فيمكن أن تجد اثنين من الشباب هذا الشاب رقم (أ) يمارس الرياضة بنسبة كبيرة، والآخر يمارسها بنسبة أقل، لكنك تجد الشخص الآخر قد استولت عليه، وصارت هي تفكيره. وكما يقال: من كانت الدنيا في قلبه، ومن كانت الدنيا في يده، فقد تجد صعلوك ومع ذلك الدنيا هي عنده كل شيء، وهي حساباته، وقد تجد إنساناً قد وسع الله عليه، ومع ذلك الدنيا لا تساوي عنده شيء. إذاً: فيجب أن تتغير اهتماماتك، وتصوراتك للحياة وتصوراتك للناس، ومقاييسك للناس، فأنت كنت في السابق تقيس الناس بمقاييس معينة وموازين معينة، يجب أن تكون الصورة تختلف، فأنت في السابق مثلاً كنت ترى شاباً يمر عليك وأنت واقف عند البيت فأخذت نظرة معينة عنه وصورة معينة تنظر إليه من خلالها، أو تراه في الفصل عندك، أو في المدرسة، وقد تكون هذه النظرة هذه سيئة مربوطة بالخطيئة، وتتحكم أحياناً في هذه القضية بنظراتك للناس، وقياسك لهم، لكنك الآن، أصبحت لك نظرة أخرى، وقياس آخر لهذا الإنسان. في السابق كنت ترتاح لفلان من الناس؛ لأنه إنسان طريف، وإنسان واسع الصدر، عنده طرافة وعنده متعة الحديث، أما الآن فأصبحت تحب في الله وتبغض في الله، وأصبح المعيار الذي يجعلك تختار فلاناً وتجلس معه وتتخذه خلاً لك وصديقاً مصافياً هو طاعة لله سبحانه وتعالى، وعبادته لله عز وجل، وتقواه لله سبحانه وتعالى، والمعيار الذي يجعلك تضع على فلان علامة استفهام هو كون فلان عاصياً لله سبحانه وتعالى. إذاً: تغيرت مقاييسك التي من خلالها تحكم على الناس وتتعامل معهم على أساسها. أيضاً من التغيرات: تغيرك في النظرة إلى وقتك، فأنت مثلاً في السابق كنت تعتبر أن هذا وقت فراغ تريد أن تتخلص منه بأي صورة، وتريد أن تعطل وقت الفراغ الذي عندك في أي مجال، في محاضرة أمس أرسل لي أحد الشباب سؤالاً، وكانت المحاضرة عن الاهتمامات، فيقول: كيف تطلب منا هذا الأمر ونحن الآن نعيش في عطلة وفراغ، ونعاني من فراغ، فلابد لنا من الانشغال بالرياضة والانشغال بمثل هذه القضايا التي تراها اهتمامات غير لائقة بنا. أنا أقول: يجب أن تصبح لك نظرة أخرى للوقت، فالرجل الجاد يبحث عن فراغ، ولا يشتكي من فراغ! ففي السابق كنت تقول هذه اللغة التي يقولها: كيف تطالبني ألا أتابع الرياضة، أو لا أتابع القضايا التي تسميها قضايا تافهة، وأنا أشتكي من الفراغ، وأعاني من الفراغ خاصة في هذه الإجازة، فلابد لي من مثل هذه الأساليب. بينما الآن، أصبحت تفكر تفكيراً آخر، تقول: أنا أبحث عن الفراغ لأحفظ كلام الله عز وجل، أبحث عن الفراغ لأعبد الله سبحانه وتعالى، أبحث عن الفراغ لأستغل وقتي في بناء نفسي علمياً، وبناء نفسي تربوياً. المهم أن أستغل هذا الفراغ في طاعة الله عز وجل، وأعتبر أن أثمن ما أملكه في

لا بد من التربية

لا بد من التربية الجانب الرابع: لابد من التربية: فليست القضية الآن قراراً اتخذته وانتهيت، الآن هي بداية لمراحل أخرى، فالبعض يتصور أنه ألقى العبء الآن بعدما تاب، وأقبل على الله عز وجل، وترك الماضي، صحيح أنه خطا الخطوة التي تسهل عليه ما بعده، لكن أيضاً سيبقى يحتاج إلى التربية؛ ليزيل عنه رواسب الماضي، فستبقى رواسب عالقة من الماضي. وأضرب لك مثالاً بسيطاً: تجد الشاب الذي في الشارع يتكلم الكلام البذيء الساقط وغير اللائق، ثم هداه الله، وصار مع الناس الطيبين، فهو متعود أن يلعب الكرة في الشارع، وميدان الكرة ميدان يبعث على الحماس، ويستنفر منا حماساً أكثر من اللازم، فمع الحماس يتفاعل الإنسان فلا يملك نفسه، فتجده تبدو منه أحياناً بعض العبارات التي يزل فيها وهو لا زال حديث عهد بالالتزام. وهذا وضع طبيعي، يقول أبو واقد الليثي: (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر)، يعني: أنهم مسلمون جدد، وبناءً عليه بقيت عندهم رواسب، قال: (وللمشركين شجرة ينوطون بها أسلحتهم ويعلقونها عليها، فتنادينا من جنبات الوادي، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، لا يزال عندهم هذا الراسب. يأتي مثل هذا الشاب الذي هو حديث عهد بالهداية فتبدو منه فلتات في اللسان، وعندما يغضب يبدو منه ذلك؛ لأنه لا تزال عنده بعض الرواسب لم يتخلص منها، ثم هذه القضايا قد يتخلص منها سريعاً، لكن تبقى قضايا في الداخل تحتاج إلى مرحلة. يعني: في السابق مثلاً قد يكون يتابع أفلام الفيديو، أو يتابع برامج التلفاز، أو صور المجلات، المهم أنه يتابع هذه القضايا لتؤجج عنده نار الشهوة في قلبه، وعندما يتوب وأقبل على الله عز وجل، وسلك هذا الطريق ستبقى بعض رواسب الماضي وصور الماضي تتحرك أمامه، ومن ثم يحتاج إلى التربية ليزيل كل هذه الرواسب التي جاء بها من خلال الطريق السابق أو المسار الذي كان قد انحرف إليه. وأيضاً تحتاج إلى التربية لتكون معينة لك -بعد توفيق الله عز وجل- على الثبات على هذا الطريق، فإن القضية -كما قلنا في البداية- فضل وهداية من الله سبحانه وتعالى، فكما أنها توفيق من الله عز وجل يمكن أن يسلب عنك هذا التوفيق، فقد تضل عافانا الله وإياك. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يدعو بدعاء يدل على هذا المعنى، فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، ومن الحور بعد الكور)، ومعنى (الحور بعد الكور) الضلالة بعد الهدى، والتحول من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى. إذاً: عنايتك بالتربية تكون -بعد توفيق الله عز وجل- وسيلة لأن تجعلك تستمر وتثبت، وسنأتي لهذه القضية بمزيد من التوضيح في نقطة لاحقة. ثالثاً: أنت تحتاج إلى التربية لترتقي ويزيد إيمانك، وترتقي في مراتب الخير والصلاح، فتحتاج إلى التربية لتزيد إيمانك بالله عز وجل، فالإيمان يزيد وينقص كما تعلمون، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتعطيك رصيداً علمياً جديداً فيزيد علمك وتحصيلك، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتضبط سلوكك وأخلاقك مع الناس، وتحتاج إلى التربية لتتخلص من أخلاق وجوانب القصور التي كانت في نفسك. المهم أنك تحتاج إلى التربية لترتقي بنفسك، ولا يزال المرء محتاجاً إلى التربية حتى ولو تحول إلى أنه هو الذي يؤدي دور المربي. إذاً باختصار: لابد من التربية، وسلوكك هذا الطريق يعني أنك ستبدأ -أيضاً- قضية أخرى وهمّاً آخر هو هم التربية؛ حتى تعلو وترتفع، وستستمر وتربي نفسك حتى تنتهي من هذه الحياة.

كيف أتعامل مع الماضي

كيف أتعامل مع الماضي الجانب الخامس: سؤال يطرح كثيراً: كيف أتعامل مع الماضي؟ كان لك ماض سابق، فكيف تتعامل مع هذا الماضي؟ هناك عدة نقاط حول الماضي:

عدم الحديث عن المعاصي السابقة

عدم الحديث عن المعاصي السابقة أولاً: أن بعض الشباب تكون له تجارب سيئة، كان يفعل معاصي وخطايا، فيتحدث بها مع زملائه ومع الناس، وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله سبحانه وتعالى، فيصبح فيقول: يا فلان! عملت كذا وكذا، بات يستره الله عز وجل ويكشف ستر الله عليه). فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يخبر أن الأمة معافاة إلا المجاهرين؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهر أدعى للتوبة أصلاً، والناس لا يدرون ما عنده، فيتوب ويقبل على الله عز وجل، لكن الإنسان الذي يجاهر بالمعصية يعتبر مستخفاً بها، فقد يعاقبه الله فيصرفه عن التوبة، ثم -أيضاً- هذا الإنسان المجاهر صار تاريخه مكشوفاً أمام الناس، فصعب عليه أن يتخذ قرار التوبة والعودة إلى الله عز وجل. فأقول: بعض الشباب يتحدث عن الماضي بما فيه أنه كان يفعل كذا وكان يفعل كذا، وفعل كذا، وهذه لها أخطاء أولها: أنها مجاهرة بالمعصية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن المجاهرة ليست إعلان المعصية، وإن كانت هي مجاهرة فعلاً، ومن أكبر وأشنع صور المجاهرة أن الإنسان يفعل المعصية أمام الناس، لكن قال: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله عز وجل، فيكشف ستر الله عليه، فيقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا) أنه وقع في معصية في الليل أو في النهار المهم أنه لا يعلم عنها الناس، وقد سترها الله عز وجل عليه، فيبدأ يتحدث بها عند الناس. أيضاً المجاهرة بالمعصية، أو الحديث عن الماضي يهون عليك أمر المعصية؛ لأن الإنسان الذي فعل المعصية وبقيت في داخله، تبقى تعتلج في داخله وتشكل عليه ضغطاً، وتدفعه للتوبة، والإكثار من الاستغفار والدعاء والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فتشكل عليه ضغطاً هو يحتاج إليه، لكنه عندما يتحدث بها ويعلنها أمام الناس تصبح القضية عنده سهلة. مثلاً: أحياناً تجد الشاب عنده مخالفة لا يعلم بها والده، فيعيش في رهبة من والده يخشى أن يعلم بهذه القضية، ودائماً يقول: كيف لو علم عني والدي وإلى غير ذلك، قد يحصل أنه يطلع عليه والده وهو يمارس المعصية، فيكتشف الخطأ والخلل، فتنتهي القضية عند الابن، ويحس أنه مكشوف فصار من الممكن أن يجاهر بعد ذلك. مثلاً: واحد يدخن ووالده لا يعلم أنه يدخن، وبعد فترة اكتشف والده أنه يدخن، فبعد ذلك صار عنده استعداد أن يشرب الدخان أمام والده لأن القضية صارت معروفة. فكذلك هذا الإنسان الذي تكون المعصية بينه وبين الله عز وجل لا يعلم عنها أحد، تصبح تعتلج في نفسه وتشكل عليه ضغطاً، هذا الضغط يصب في مصلحته؛ لأنه يدعوه إلى التوبة والإقبال على ربه، لكن عندما يتحدث بها أمام الناس تهون عنده. وأيضاً من نتائج الحديث عن المعصية: تهوينها على الناس؛ لأنك حين تجلس مع زميلك وتقول: أنا كنت أفعل كذا وكذا، ومن الله علي بالهداية، ومرة فعلت كذا وكذا، هونت عليه المعصية، وصارت -أحياناً- دعوة غير مباشرة للوقوع في المعصية. إذاً: فالقضية الأولى التي تعنيك في علاقتك مع الماضي ألا تتحدث عن الماضي بكل ما في الماضي، فتتحدث عن معاصيك التي كنت تفعلها، اللهم إلا إذا كان لذلك حاجة، فتسأل عن قضية شرعية، هل هذه القضية عليها كفارة أم ليس عليها كفارة؟ أو لها توبة معينة أم ليس لها توبة؟ ففي هذه الحالة يمكن أن تسأل، أما ما سوى ذلك فلا ينبغي أن تتحدث هذا الحديث بما فيه من السلبيات التي أشرنا إليها.

عدم التفكير بالماضي

عدم التفكير بالماضي ثانياً: يعيش بعض الشباب أزمة وهمّاً يفكر فيه بالماضي، فيشغله كثيراً، قد يكون فعل أخطاء ومعاصي وكبائر فتشكل عليه ضغطاً، فيبدأ يفكر فيها كثيراً، وتصبح هماً يشغله ويؤرقه ليلاً ونهاراً. أيضاً: قد يكون هذا عائقاً من حيث لا يشعر، ولذا فلا داعي للانشغال بالماضي، أنت تبت إلى الله عز وجل، وأقبلت على الله، والتوبة تجب ما قبلها، فدع عنك التفكير في الماضي. ثم -أيضاً- هذا التفكير لا ينفع أصلاً، هب أنك ستؤاخذ بما عملت، وأن توبتك أصبحت قاصرة، فإن التفكير الآن لن ينفعك، بل التفكير سيشغلك عما تحتاج إليه. إذاً: فلا تنشغل بالماضي وليكن تاريخك ما كان، ولست أهون عليك شأن المعصية، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، أنت تماماً مثل إنسان يسير في الطريق، وكمية الوقود عنده قليلة، فأضاء عنده المؤشر ولم يهتم، بل يتجاوز محطات الوقود حتى نفد ما عنده من الوقود، فجلس يفكر ويقول: أنا إنسان مهمل؟! كيف فرطت؟! نعم أنت مهمل، لكن هذه المرحلة قد انتهت ففكر تفكير واقعياً عملياً في المرحلة الجديدة ماذا ستفعل فيها، أنت أمام مشكلة فحل هذه المشكلة. أنا أقول: إن واقع هذا الإنسان الذي ينشغل بالتفكير في الماضي مثل هذا الشخص، وقع في خطأ، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، فلا تشغل نفسك بما مضى، ففكر بالمرحلة الجديدة، ودعك من التفكير فيما مضى. صحيح أن هذه المعاصي التي فعلتها، أو هذا التقصير أو هذا الإهمال يجب أن يدعوك إلى مزيد من التوبة والاستغفار والطاعة، والخوف من الماضي، لكن هذا شيء، وأن يستولي على تفكيرك، ويصير هماً دائماً يسيطر عليك، ودائماً تفكر: أنا كنت أفعل كذا وكنت أفعل كذا، هذا يعوقك عن العمل الذي تحتاج إليه.

مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله

مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله ثالثاً: لابد من مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشعور بخطر الماضي: وأظن أنك تفرق بين القضيتين: بين التفكير المزعج الذي تفكر فيه في الماضي، وبين التوبة والإقبال، والخوف من شؤم الذنب، هذه قضية وتلك قضية أخرى، هذه قضية واجبة، وينبغي أن تكون همّاً يؤرقك، أعني: تتوب وتستغفر وتخاف من ذنوبك. لكن الآن أنت تتذكر الماضي، فتتذكر أنك فعلت كذا وكذا، ومررت في الطريق ورأيت هذا المكان الذي فعلت فيه هذه المعصية، وهذا المكان الذي ذكرك بفلان، وذكرك بكذا وكذا، هذا لا يدعو إلى أن يصير هماً تفكر فيه، فاجعل هذا الموقف يدعوك إلى عمل صالح، يدعوك إلى الاستغفار، وإلى التوبة، بدلاً من أن يكون مجرد تفكير وهم يزعجك أكثر مما يكون عملاً منتجاً.

التخلص من متعلقات الماضي

التخلص من متعلقات الماضي رابعاً -وهي نقطة مهمة-: يجب أن تتخلص من متعلقات الماضي كان في الماضي عندك أشياء تدعوك إلى هذا من صور، أو أفلام، أو مواقف معينة، وقضايا كانت تشدك وتجذبك إلى المعصية، وتجذبك إلى الماضي، يجب أن تتخلص منها، وتكون حازماً مع نفسك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا بد من مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر). الآن لاحظ هنا النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بغض البصر ابتداءً، بل أمر بألا يجلس الإنسان في الطريق أصلاً، حتى يقطع الإنسان على نفسه كل طريق إلى المعصية، إذا جلست في الطريق لا محالة فغض البصر، مع أن هذا الخطاب كان موجهاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذاك المجتمع النظيف، ذاك المجتمع الذي كانت المرأة تلتصق بفي الحائط، حتى تؤثر في الحائط كما ورد في الحديث. إذاًَ: تخلص من القضايا التي تشدك إلى الماضي؛ لأنها يمكن أن تعيدك يوماً من الأيام، فتكون أنت في حالة ضعف، فيقوى عندك هذا الدافع فتهوي، والكثير من الشباب الذي يصاب بالحور بعد الكور، أو بالانتكاسة والضلال، السبب هو هذه القضية، هو بعض رواسب الماضي.

أصدقاء الماضي

أصدقاء الماضي خامساً: أصدقاء الماضي: أصدقاء الماضي يجب أن تتعامل معهم بصورة أخرى، فأحياناً الشخص له صداقات أيام غفلته وأيام إعراضه، وهؤلاء الأصدقاء يعرفون تاريخه، ويعرفون تفاصيل حياته، ويعرفون عنه كل شيء، هذا جانب. والجانب الثاني أنهم يعرفون نقاط الضعف لديه، المهم أنه من أكبر نقاط الضعف عند الشاب أصدقاء الماضي الذين يشدونه ويجرونه إلى المعصية، إما أنه إذا رآهم تذكر المعصية، وقد يشتاق إليها، أو إذا رآهم حن إلى الماضي بما فيه، أو أن هؤلاء يضغطون عليه، فهم يعرفون تاريخه ويعرفون نقاط الضعف عنده، فيمكن أن يضغطوا عليه من خلالها، فيعرفون كيف يفكر، ويعرفون متى يرجو، ومتى يرغب، ومتى يرهب، ومتى يخاف، إلى غير ذلك. الشاهد: أن من أكبر العوائق أصدقاء الماضي، ومن ثم لابد من التخلص -أيضاً- من أصدقاء الماضي، ويجب أن تحذر من أصدقاءك في الماضي أكثر من غيرهم، لأن الآخرين الذين يمكن أن يكونوا أكثر فساداً، هم أقل تأثيراً عليك من أصدقاء الماضي؛ لأن أصدقاء الماضي يعرفونك ويعرفون ما عندك. وسؤال هنا كثيراً ما يطرحه الشاب يقول: هل أدعو مثلاً أصدقائي؟ فيرتبط معهم بحجة أنه يريد أن يدعو، وهذا شعور طيب، أن الإنسان لما منَّ الله عليه بالهداية يشعر أن أولى الناس ببره وإحسانه ودعوته هم الناس الذين كانوا من قبل أصدقاء الغفلة. لكن هناك قضية أخرى، وهي أن هذه الدعوة قد تتسبب لك في أن تنجذب إليهم؛ لأنهم -كما قلت- يعرفون أسرارك وعلاقاتك السابقة، ويعرفون منك نقاط الضعف، فقد يكون وسيلة إلى جرك لهم؛ ولهذا فأنا أرى أنك لا تدعو أصدقاء الماضي، وينشغل بهم غيرك، ثم أنا لا أتصور أننا وصلنا إلى المرحلة التي ما عاد بقي أناس يحتاجون الدعوة إلا العشرة أو الخمسة عشر هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لك في الماضي، فالمجتمع الذي حولك مليء بالناس الذي يمكن أن يستهلكوا كل جهدك وطاقاتك، وبرامج الدعوة والخير كثيرة، ستستهلك كثيراً من طاقتك ووقتك، فلم تعد ضرورة قاصرة عليك أنت حتى تدعوهم. ثم نحن ما قلنا إن هؤلاء محرومون من الدعوة فليدعهم غيرك؛ لأن ارتباط الشاب بهؤلاء قد يكون سبباً في عودته إلى ما كان عليه. إذاً: يجب أن تقطع علاقتك بالتفكير المغرق في الماضي وما كنت عليه، وإذا أتاك تفكير تحوله إلى عمل صالح أو توبة أو استغفار، أما مجرد التفكير والهم فإنه لا يقدم ولا يؤخر. الانقطاع عن الماضي ورواسب الماضي بما فيه، الانقطاع عن الماضي وأصدقاء الماضي، الجوانب التي تجذبك وتشدك إلى أن تحن إلى الماضي وتعود إليه.

الحذر من الضلالة بعد الهدى

الحذر من الضلالة بعد الهدى سادساً: كن على حذر من الضلالة بعد الهدى، والحور بعد الكور -التي أشرنا إليها قبل قليل-: وهي نقطة يجب أن تكون هاجساً للجميع، فدائماً يسأل الله سبحانه وتعالى الثبات، ودائماً يخشى من هذه القضية، ويخشى أن يحال بينه وبين هذا الطريق، ويخشى أن يختم على قلبه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي). وكان يدعو في سفره، لأن الإنسان عندما يسافر يتغير من حال الإقامة إلى حال السفر، بكل ما في حياة السفر من متغيرات، فيذكره هذا بالقضية الأساس والأهم هو أنه كان مستقيماً على هذا الطريق، فيخشى أن يحال بينه وبينه. يا أخي! إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يثبته، ويخشى من الحور بعد الكور، ويقول له ربه سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فغيره من باب أولى. الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي، ويعبد الله عبادة حقه تعينه وتثبته على طاعة الله عز وجل، وهو أعلم الناس بالله، أما نحن فلنا شأن آخر، وحياة أخرى، ولنا جوانب كثيرة تشدنا إلى طريق الضلال والشهوات عافانا الله وإياكم. ومن ثم فنحن أولى أن نخشع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). فأقول: يجب أن يكون هذا هاجساً لنا يقودنا مرة أخرى إلى عمل، لا يكون مجرد تفكير، فنكون دائماً على حذر من هذه القضية، وهذا يقودنا إلى دعاء الله دائماً، وسؤال الله السلامة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن ندعو الله عند السفر، وقد علمنا أن ندعو الله عز وجل: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وقد علمنا أن نستهديه دائماً، وقد علمنا أن نسأل الله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فإنه سبحانه وتعالى لو وكلنا إلى أنفسنا فإن هذا يعني الضلال والخسارة. إذاً: هذه الخطوة نتيجة للخوف الداخلي الذي قادنا إلى الدعاء، والدعاء من أفضل الأعمال، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة)؟ جانب ثان أيضاً: أن يستزيد الإنسان من الأعمال الصالحة؛ لأنه يعرف أن الأعمال الصالحة تزيده تثبيتاً، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]. فلو استجابوا لأمر الله سبحانه وتعالى، وفعلوا ما يوعظون به لكان خيراً وأشد تثبيتاً لهم، ولهدوا صراطاً مستقيما، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. فالأعمال الصالحة بعد توفيق الله عز وجل تكون عوناً للمرء على الثبات، وعلى سلوك طريق الاستقامة. إذاً: هذه خطوة ثانية كانت نتيجة هذا التفكير، ونتيجة هذا الهاجس. خطوة ثالثة: الحذر من أسباب الضلال، ومن أهمها المعاصي، فإن المعصية تقول: أختي أختي، فتجر أختها، وتجر أختها، حتى تصبح عادة، فيعتادها الإنسان فينتقل إلى ما هو أكبر منها، حتى يضل عافانا الله وإياكم، وكم من الناس من كانت معصية واحدة سبباً في ضلالة وغوايته. إذاً: فيجب أن نحرص على هذه النعمة وأن نحافظ عليها، وقديماً كان يقال: المحافظة على النصر أصعب من الحصول عليه. وهذه القضية ليست عبارة كروية كما نستعملها ويتبادر إلى الذهن، هذه يقصدون بها النصر العسكري، فالإنسان يمكن أن يحقق النصر وينتصر في معركة، لكن المحافظة على هذا النصر قضية صعبة، أنا ممكن أن أستجمع قواي وطاقتي كلها وأحقق انتصاراً حاسماً، لكن أن أحافظ على هذا النصر وعلى هذا الموقع الذي حققته هذه قضية صعبة. فكذلك يجب ألا يقف تفكيرك عند هذا الحد، فتقول: أنا الآن استقمت وتجاوزت المرحلة! بل يجب أن تشعر أنك محتاج إلى الثبات، وإلى البحث عن أسباب عوامل الثبات حتى تسلكها لعل الله أن يوفقك إليها، وأن تكون على حذر باستمرار من الخلل أو أي انحراف يمكن أن يقودك إلى ذلك. وقلنا أيضاً: إن هذه القضية يجب ألا تكون مجرد هاجس فقط، فإذا صارت هاجساً صارت مرضاً، فصارت القضية مجرد تفكير لا تقدم ولا تؤخر، بل مع هذا الهم وهذا الهاجس تتحول إلى عمل، هذا العمل يتمثل في الدعاء، وبفعل أسباب الثبات وعوامل الثبات وتجنب عوامل الانحراف والضلال.

الشعور بالفتور بعد الحماس

الشعور بالفتور بعد الحماس سابعاً: سؤال كثيراً ما يطرحه بعض الشباب أو شكوى يشتكي منها يقول: أشعر أني بعد الاستقامة وبداية مرحلة الالتزام والاستقامة أشعر بحماس، وحب للخير، وإقبال على الطاعة، ثم بعد فترة أشعر بأني فقدت هذا الشيء الذي كنت أجده سابقاً، ويعتبر أن هذا مرض وقضية خطرة. وتفكير الإنسان في نفسه قضية مهمة، وشعوره بالمرض والخطأ قضية مهمة، لكن أيضاً يجب -على الأقل- أن نعطي نظرة حول هذه المشكلة التي يشتكي منها الشاب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أعلم الناس بأدواء النفوس والقلوب، لما جاءه عبد الله بن عمرو بن العاص وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويختم القرآن في كل يوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) الحديث رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر. هذا الإنسان عنده اندفاع، وكل عمل له شرة وحماس، ثم لكل شرة فترة، وكل حماس لابد أن يخفت، فمن كانت شرته إلى سنة فقد أفلح، وهذا الحماس والاندفاع يجب ألا يخرجه إلى حد ابتداع غير السنة، ومن كانت فترته إلى أن تجرأ فوقع في المعصية وقصر في الطاعة، فهذا نذير هلاكه. إذاًَ: لابد من الشرة والفترة، لابد من أن يكون الإنسان عنده في البداية إقبال وحماس، وشعور بالحرص على الطاعة والخير، ثم بعد فترة يشعر بالفتور. فنقول: هذا الفتور إذا تحول إلى أنه يجعل الإنسان يتجرأ على المعاصي ويقع فيها، وتحول إلى إنسان يقصر عن الطاعة والفرائض، فهذا فعلاً معيار الهلاك، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك). أما إذا كانت هذه الفترة ضعفاً في مشاعره الداخلية، وضعف الحماس لبعض السنن وبعض أفعال الخير المندوبة، فالقضية لا مناص منها، فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)، فلابد من الفترة، فيحرص الإنسان على أن يعالج نفسه ويستزيد، لكن لا يجب أن تؤدي بنا إلى القلق، وأن نتصور معها أنها مرض. وتكون مرضاً إذا تحولت إلى التجرؤ على المعصية، وإلى التفريط في الفرائض، فحينئذٍ يجب أن نحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونشعر أننا تجاوزنا الخط الأحمر، ودخلنا مرحلة الخطر.

شكر نعمة الهداية

شكر نعمة الهداية أخيراً: أد شكر هذه النعمة: هذه نعمة منَّ الله بها عليك فأد شكرها، من خلال: أولاً: ما ذكرناه من الاعتراف بالفضل للمنعم، فإنه من أكبر النكران لأي معروف وأي نعمة ألا تعترف بالفضل له، فأنت -مثلاً- قد تقدم خيراً لإنسان ثم يقول: أنت لم تفعل شيئاً، وما قدمت لي شيئاً، فتشعر أن هذا أكبر نكران يمكن أن يقوم به، قد لا تطلب منه أحياناً جزاءً ولا شكوراً، لكن عندما تشعر أنه قد أنكر جميلك فأنت تشعر أن هذا من عدم الوفاء. ولله المثل الأعلى، فإنه لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، فيجب أن تعترف اعترافاً داخلياً بقلبك وبلسانك أن صاحب الفضل والنعمة والمنة هو الله سبحانه وتعالى. ثم الحمد والثناء باللسان، بأن تحمد الله بلسانك، وتثني عليه، فالله يحب الثناء، ولهذا أثنى على نفسه، ولا أحد أحب إليه الثناء من الله سبحانه وتعالى. ثم بعد الاعتراف، وبعد الحمد والثناء، الخطوة الثالثة: أن تسعى في نقل هذه النعمة للآخرين، بالدعوة والنصح والتوجيه، وأن تقول للآخرين: ها أنا الآن عشت تلك التجربة، وها أنا سلكت هذا الطريق، ومن الله علي بسلوك هذا الطريق والعودة إليه، فهلم إلي، فأنا قد جربت ما أنتم عليه، وجربت هذا الطريق بكل ما فيه، واقتنعت قناعة تامة أن الحق هنا، فهلم إلي. الشاهد: أنه من شكر الله عز وجل لنعمة الهداية أن يسعى الإنسان لنقلها للآخرين، من خلال النصيحة، والدعوة، ومن خلال استخدام تجربته السابقة، فيقول: أنا كنت على مثلما أنت عليه، وما وجدت والله اللذة، ولا وجدت الطمأنينة، ولا السكون، ولا الراحة، إلا في هذا الطريق الذي سلكته. نكتفي بهذا القدر، ونترك بقية الوقت للإجابة على بعض الأسئلة.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن يحلق اللحية ويسبل الثوب مدعيا أن الدين ليس بالمظهر

نصيحة لمن يحلق اللحية ويسبل الثوب مدعياً أن الدين ليس بالمظهر Q بعض الشباب سواء في المركز أو في الخارج يلاحظ عليهم ملاحظات من إسبال الثوب أو حلق اللحية، وإذا نصحتهم قالوا: الدين ليس في الثوب أو في حلق اللحية، نرجو توجيه نصيحة لهم، مع أنك قلت: أول ما نبدأ به المظهر؟ A بعض الناس عنده عبارة يقول: الدين ليس في المظهر، أو المظاهر ليست كل شيء، هذه عبارة فيها إجمال، صحيح أنك لا تحكم على الإنسان من خلال المظهر وحده. لكن أنا أسألكم سؤالاً: نحن الآن في مجلس فدخل علينا شخص ونحن نشاهد التلفاز فقفز واحد وأغلق التلفاز، لماذا؟ لأنه عارف أن مظهره مظهر إنسان مستقيم، فهل أعطاك المظهر دلالة أم لا؟ أب رأى ابنه مع واحد من الشباب، فانزعج جداً لما رآه مع فلان، وهو لا يعرفه، ولا يعرف تاريخه، لكن ساءه مظهره، فغير صحيح إطلاقاً أن المظهر لا يدل على شيء. صحيح أنه لا يعطيك تصوراً كاملاً عن الإنسان؛ لكنك تأخذ دلالة عن هذا الإنسان، وهذا الإنسان الذي عصى الله في المظهر أمام الناس قد يكون أكثر جرأة على ما سوى ذلك. فهذه قضية غير صحيحة أنه لا عبرة بالمظهر، فنحن نجد في أنفسنا أننا نأخذ دلالات، فأنت ترى إنساناً فتأخذ قناعة وتصوراً عنه من مظهره، يمكن أن يعطيك دلالة أن هذا الإنسان خفيف العقل، هذا الإنسان ما عنده مروءة، هذا إنسان متزن، وهو ما تكلم بكلمة واحدة. هذا شيء. والشيء الثاني: أن هذه واجبات شرعية لا مجال للنقاش فيها، فما دام هذا محرماً شرعاً فلا يجوز لك أنك ترتكبه، وما دام أنه هذا واجب شرعاً فيجب أن تعمله، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

الأمن من الفتنة في الدين

الأمن من الفتنة في الدين Q أنا شاب لا أخشى ولا أخاف أن أنتكس بعد هداية، وحين أدعو بالدعاء الوارد لا أستشعر أنني من الممكن أن أعود وأرجع إلى طريق الضلال، فما رأيكم؟ A هذا خطأ لا شك، وهذا دليل على الإعجاب بالنفس والغرور، يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى التثبيت، فكيف بك؟! هل تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عبثاً عندما يقول: (أعوذ بك من الحور بعد الكور)، أم أنه كان يرى أنه بحاجة إلى هذا الدعاء؟ ولعلكم تذكرون جميعاً عبارة السلف في النفاق: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق. فنعوذ بالله من أن نأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من أن يصل بنا الإعجاب بالنفس إلى هذا الحد، إلى أن يتصور الإنسان أنه قد جاز القنطرة. وأقول: إذا وجدنا هذا في أنفسنا فيجب أن نشعر أن هذا مرض نعاني منه، أرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أليسوا كانوا يخافون من النفاق؟ وكما يقول ابن أبي مليكة: كل الذين أدركهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف النفاق على نفسه، ما فيهم أحد يقول: إيماني كإيمان أبي بكر وعمر. فما بالنا نحن لا نخشى على أنفسنا؟

كيفية تحاشي الوقوع في المعاصي

كيفية تحاشي الوقوع في المعاصي Q أنا شاب مستقيم أعمل بعض الصالحات والحمد لله كحفظ القرآن وغيره، لكن -كما لا يخفى عليكم- إنني كشاب لا أصبر عن بعض المعاصي، فبماذا تنصحونني؟ A لابد أن تجاهد نفسك، أحياناً يريد الشاب أن يصل إلى مرحلة أنه لا يكون عنده داع للمعصية، وأن شهواته كلها تنقطع، وهذا غير صحيح. هذه حكمة، فالله عز وجل ركب الشهوات فينا لحكمة، والشاب في هذه المرحلة أقوى من غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: وشاب نشأ في طاعة الله)؛ لأن الشهوات عنده أقوى، ودواعي المعصية أقوى، والغفلة أقوى؛ ولهذا إذا نشأ في طاعة الله كان يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. فأقول: أنك تتصور أن تصل إلى مرحلة لا تدعوك فيها الشهوة إطلاقاً هذا مستحيل، فلابد من ذلك، ولابد من مجاهدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، ولما خلق الله الجنة قال لجبريل: (اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بها فحفت بالمكاره، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لم يدخلها، ثم خلق النار، فقال: اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لن يدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها). الشاهد: أنك لن تصل إلى هذه المرحلة التي لا تخشى فيها من المعاصي، ولن تصل إلى المرحلة التي تستغني فيها عن الجهاد، لابد أن تجاهد نفسك، ولابد أن تعيش في صراع مرير مع الشهوات. ثم جاهد نفسك، وحاول ألا تترك المعصية فقط، بل تتخلص من أسباب المعصية، والعوامل التي تدعوك إلى الوقوع في المعصية، وأنت أعلم بنفسك، وأيضاً لو وقعت في المعصية فتب إلى الله سبحانه وتعالى وأقبل إليه.

الانتكاس في الدين وأسبابه

الانتكاس في الدين وأسبابه Q بعض الشباب هداهم الله يتضايقون من ظاهرة انتكاس بعض الشباب الذين يلتزمون بالدين ثم ينتكسون، فما توجيهكم لهؤلاء الشباب؟ ثم ما هي أبرز أسباب الانتكاسة التي ترونها؟ A سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة بعنوان: (الحور بعد الكور) فيمكن للأخ أن يرجع إليها.

كيف ننصح من ضل بعد هدى

كيف ننصح من ضل بعد هدى Q إذا كنت أعرف بعض الأصحاب قد ضل بعد أن كان مع الصالحين، فماذا أنصحه وأذكره به، وجزاكم الله خيراً؟ A تنصحه كما تنصح أي إنسان، فتذكره وتقول: إن هذه المعصية خطر عليك، وأنت لابد أن تطيع الله سبحانه وتعالى، ولابد أن تقبل على الله عز وجل، وقد تكون المعصية بوابة للكفر والخروج من دين الله عز وجل، وقد يختم للإنسان على غير ملة الإسلام ودين الإسلام. فهذا الكلام الذي تقوله لأي إنسان يمكن أن تقوله لهذا الإنسان، ولا فرق بينه وبين الآخرين؛ لكن يمكن أن تضيف على ذلك أن تذكره بماضيه: أنت كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، وتفعل كذا، وكنت يوماً من الأيام تحدثني عن كذا، ويوم اجتمعنا قلت كذا وكذا، وأنت الذي كنت تنصحني وتدعوني؛ فهذا يجعله يحن إلى الماضي، ويفكر في الماضي. أقول: إن التركيز على هذه القضية قد ينفع مع أمثال هؤلاء.

ما يفعل التائب إلى الله إذا هدده أصدقاؤه السابقون بكشف أسراره

ما يفعل التائب إلى الله إذا هدده أصدقاؤه السابقون بكشف أسراره Q أنا شاب رجعت إلى الله ولي أصدقاء ليسوا صالحين، وهؤلاء يعرفون أسراري وأحوالي، ويستهزئون بي، ويهددونني إن رجعت إلى الله أن سوف يكشفون أسراري، فكيف أعود إلى الله وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً: أسرارك لازم تكشف، فأنت أمام خيارين الآن، افترض فعلاً أنهم لا يجرءون على كشف هذه الأسرار؛ لأنهم ليس لهم مصلحة، وكشف الأسرار فضح لهم، لكن افترض أنك وصلت إلى نقطة أن أسرارك ستكشف، فليس الحل أن تتراجع، لأنك إذا رجعت فستكشف أسرارك مرة أخرى، لكن في موقف آخر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. فيا أخي! بالله عليك قارن بين أن أسرارك تكشف في محيط مهما كان فهو ضيق، وبين أن تكشف أمام الله عز وجل وأمام الخلائق يوم القيامة، هذا جانب. الجانب الثاني: أن هذا الأمر تهديد ومحاولة ضغط؛ ولهذا أنا قلت: ينبغي أن تبتعد عن أصدقائك السابقين، وللأسف بعض الشباب ينهار مع هذا الضغط، ثم ولو كشفت هذه الأسرار فما هي إلا معاص وكبائر كنت تفعلها، وافترض أنها كانت فواحش، فغايتها أن تقول: يا أخي! أنا فعلت هذا وتبت إلى الله عز وجل، وانتهينا. يا أخي! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقعون في الشرك، وليس الفواحش فقط، وأكثر ما تتصوره في هذا الشاب أنه وقع في بعض الفواحش، فليقل ما يقال، أنا تبت إلى الله ورجعت، فلا تلتفت إلى مثل هذا الكلام. وليس أيضاً من المصلحة أن تقول: نعم أنا كنت أفعل كذا وتبت، وإن كان هذا الكلام لو قلته فلن يلومك الناس، لكن يمكن أن تقوله بصورة أخرى، تقول: من يثبت هذا الشيء؟ تقول: كل إنسان قادر على أن يتكلم ويقول هذا الكلام. فأنت لم تقل أمراً تؤاخذ به شرعاً، وأيضاً نفيت ما تتهم به، وهؤلاء الناس الذين يتجرءون على الكبائر يمكن أن يتجرءوا على الكذب. وأقول: أبشر بطول سلامة، فالكثير من أمثالك يعانون، والمشكلة أن كثيراً من الشباب يمنعه من التوبة هذه القضية. يا أخي! ضع نفسك أمام خيارين: إما أن تتوب وتستمر، أو ترجع مرة أخرى إلى الذي خفت أن يكشف عنك، ثم تكون عرضة لأن تكشف أسرارك أمام الخلائق يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، تكون عرضة لأن تعيش أنت وأصدقاؤك هؤلاء في موقف الحساب فيتبرأ كل واحد منكم من الآخر: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]. افترض أنك حوصرت وما بقي أمامك إلا هذا الخيار، فسيبقى خيار كشف الأسرار أهون عليك بكثير من أن تكشف يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى. لكن أقول: استعن بالله سبحانه وتعالى، وادع الله عز وجل، وثق إن شاء الله أن الله سبحانه وتعالى سيعينك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، ويظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وأشكر الإخوة الذين شرفوني بحضور هذا اللقاء، والحديث مع إخواني الشباب، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العمل بما علمنا، وصدق النية والإخلاص. هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. ع

ماذا نريد من المرأة؟

ماذا نريد من المرأة؟ الهجمة الغربية الشرسة على المرأة المسلمة تتطلب منا جهداً عظيماً في التوجيه والتربية والسلوك، حتى نقي فتياتنا وبالتالي أمتنا من الانحراف والانجرار وراء الدعوات الهدامة.

حضور المرأة في تاريخ الإسلام

حضور المرأة في تاريخ الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان حديثنا في هذا اللقاء: ماذا نريد من المرأة؟ هُنئ أحدهم بالبنت فقال: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون. فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنس نشاطاً، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت. إن المرأة المسلمة لها دور -ولا شك- تحتاجه الأمة في كل عصر ووقت، وفي هذا العصر -عصر هذه الصحوة المباركة- نحن أحوج ما نكون إلى دور المرأة، ذلك أن أمام الصحوة تحديات كبيرة، وأهدافاً طموحة، وتطلعات عالية، لا يمكن أن تتم بجهد الرجال وحدهم، ولا يمكن أبداً أن نستغني عن دور المرأة وجهدها. ثم إن الصحوة الإسلامية تواجه تحدياً شرساً من أعدائها وكيداً وتآمراً، لهذا فهي أحوج ما تكون إلى أن تستنفر قواها، وأن تستثمر طاقاتها أجمع، والمرأة المسلمة جزء -ولاشك- من طاقة هذه الأمة، فنحن أحوج ما نكون إليه. وإنما الآخر كالأول، لقد قرأتِ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت أنه على مدى صفحات تاريخ سيرته صلى الله عليه وسلم لا تخطئك المرأة أبداً، فهناك في الفترة المكية، مرحلة الاستضعاف والتعذيب والإيذاء والمضايقة، مرحلة بداية الدعوة، قرأنا للمرأة دوراً بارزاً. ويبدو أمامك اسم خديجة رضي الله عنها التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة وفية، وكانت معه كخير ما تكون المرأة مع الرجال، حتى بشرها الله سبحانه وتعالى ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فهي لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، وحازت قصب السبق في اتباعه، ولذلك استحقت هذا الوعد وهذه البشارة منه سبحانه وتعالى، يحملها جبريل، ويبلغها محمد صلى الله عليه وسلم. وتقرئين أيضاً سيرة سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، وأسماء ذات النطاقين، وغيرهن من النساء المؤمنات اللاتي كان لهن دور بارز في تلك المرحلة الحرجة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة الدعوة المكية. وأما في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنك ترين أيضاً نماذج من ذلك، ترين أم سليم بنت ملحان وأم سلمة وصفية وعائشة وحفصة، وسائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وترين أم عمارة نسيبة بنت كعب وسائر المؤمنات من الصحابيات. إن هذا يعطينا شعوراً وقناعة بأننا نحتاج إلى دور المرأة، والآخر كالأول، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فما دام للمرأة دور هناك فلها دور أيضاً هنا.

المرأة أم

المرأة أم

صفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت أبي بكر

صفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت أبي بكر وحديثنا في هذا اللقاء -معشر الأخوات الكريمات- يدور حول محاور ثلاثة: أولها: المرأة أم: إنك على مدى التاريخ القريب والبعيد لابد أن تري أسماء لامعة كتبت في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ أمتها، وتلك الأسماء -القائدة والمجاهدة والعالمة والمصلحة- أياً كان موقعها لابد أنه كان وراء كل منهما امرأة صالحة أعدت هؤلاء حتى صاروا إلى ما صاروا إليه، وهذا الأمر ليس حكراً على المسلمين، بل حتى سائر الأمم -الصادقون منهم- يعترفون بدور المرأة في ذلك. حين هنئ لنكولن أحد الزعماء الأمريكان قال: لا تهنئوني وهنئوا أمي؛ فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا. ولسنا بحاجة إلى أن نستعرض سيرة هذا الرجل وأشباهه؛ فأمامنا صفحات واسعة قد لا نستطيع أن نأتي على جزء يسير منها في هذا اللقاء، أمامنا صفحات واسعة من تاريخ أمتنا، من أولئك النساء اللاتي كان لهن دور في إعداد الرجال على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل. فها هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تقبل حين استشهد حمزة رضي الله عنه؛ لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فيقول صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: (دونك أمك فامنعها)، وأكبر همه صلى الله عليه وسلم ألا يجد بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: دونك لا أم لك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها بذلك، فقال: (خل سبيلها)، فأتت إلى صفوف الناس، حتى أتت إلى أخيها، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، وقالت لابنها: قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله! وحين كان لـ عبد الله بن الزبير ما كان دخل على أمه، فقال: يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من نهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير! والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل! فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله. وحين قتل رضي الله عنه دخل ابن عمر المسجد فأبصره مطروحاً قبل أن يصلب، فقيل له: هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء رضي الله عنها: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. واسمعي إلى ما قالته للحجاج حين قتل ابن الزبير، دخل عليها فقال لها: يا أمه! إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكني أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار - وأما المبير فأنت. فقال لها: مبير المنافقين. وفي رواية عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث، وهو مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟! قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت! قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في ثقيف كذاب ومبير) الحديث. إن تلك الروح العالية التي كانت لدى أسماء رضي الله عنها هي التي صنعت الاستبسال والشجاعة في ابن الزبير رضي الله عنه. ويحتاج المصلحون الذين يدفعون أرواحهم وحياتهم وما لديهم ثمناً لدعوتهم وعقيدتهم، وترخص عندهم الأمور في سبيل الله سبحانه وتعالى، يحتاجون إلى مثل هذه الأم التي تدفعهم إلى ميدان البطولة، تدفعهم إلى ميدان الاستشهاد، تدفعهم إلى ميدان تحمل ضريبة كلمة الحق، وضريبة الموقف الحق حين يشعر صاحبه أنه إنما عمل لله، وأنه إنما قام لله، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأم. بعيداً عن تلك الأم التي تخدر، والتي تخاف على ابنها من مصائب الدنيا، وها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها أم معاوية بن أبي سفيان كان يفتخر بها إذا افتخر فيقول: أنا ابن أمي هند.

أم عمارة وأم عاصم

أم عمارة وأم عاصم وأيضاً من النساء اللاتي سطر لهن التاريخ صفحة سامقة عالية في ميدان الأمومة لأولئك الرجال الصادقين أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، هي أم عبد الله بن زيد الأنصاري الذي وصف حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وروي أنه قتل مسيلمة، وأم حبيب بن زيد الذي قابل مسيلمة في القصة المشهورة حين قطع مسيلمة -عليه من الله ما يستحق- أعضاءه قطعة قطعة، وهو يرفض أن يجيبه إلى ما يدعو. ولها مواقف مشهورة مشهودة في التاريخ ليس هذا وقت الحديث عنها، إنما نحن نحكي عن أم عمارة نسيبة رضي الله عنها جانب الأمومة، وكيف خرجت أولئك الأبناء. وأم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي أم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان لها دور في تربيته وإصلاحه. وأمير المؤمنين في الأندلس عبد الرحمن الناصر حكم خمسين سنة وستة أشهر، ووطئت أقدام جيوشه بلاد فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، الذي أزعج أوروبا، قتل أبوه وعمره واحد وعشرون يوماً فانفردت أمه بتربيته، فكان هذا الرجل من نتاجها.

نماذج من أمهات العلماء

نماذج من أمهات العلماء وفي ميدان العلم والفقه نرى أيضاً أن الأمهات كان لهن دور بارز في إعداد الرجال، سفيان الثوري الإمام الفقيه المحدث الذي قال فيه الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان. سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة، روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لـ سفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم. وقالت له توصيه: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك. والإمام الفقيه الثبت إمام أهل الشام وفقيههم أبو عمرو الأوزاعي الذي قال فيه بقية: إنا لنمتحن الناس بـ الأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة. كان يتيماً فقيراً في حجر أمه، فنقلته من بلد إلى بلد، حتى تعلم وبلغ مرتبة الإمامة والفقه. والإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن قصته مع أبيه مشهورة رواها ابن خلكان، وذلك أن أباه فروخ فارق أمه وهي حامل به، وترك عندها ثلاثين ألف ديناراً، وأوصاها بحملها خيراً، ففارقها إلى ميدان الجهاد، وغاب هناك سنوات طويلة، فعاد بعد أكثر من ثلاثين سنة، عاد ليطرق بيته فخرج إليه ابنه ربيعة، فقال له: كيف تهجم على بيتي وأهلي؟! فقال له: كيف أنت تدخل بيتي؟ فعلت أصواتهما، وارتفعت خصومتهما، حتى جاء الإمام مالك واللجج والخصومة بينهما، فقال: أنا صاحب هذا البيت أنا فروخ، فسمعت أم ربيعة صوته وسمعت كلامه فعرفت أنه زوجها، فنادته وقالت: هذا ولدك فتعانقا. ثم سألها عن المال الذي أودعها إياه، فقالت: إني دفنته واختبأته، ونام ثم لما استيقظ قالت له: اذهب واشهد صلاة الفجر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب ورأى رجلاً قد اجتمع حوله أفواج من الناس يستمعون إليه فسأل وهو مطرق رأسه خجلاً منه، فإذا هو ابنه ربيعة، فعاد إلى زوجه فوصف لها ما وصف، فقالت: أيسرك هذا أم الدنانير؟ قال: والله! هذا أحب إلي، فأخبرته أنها أنفقتها في تعليمه. لقد كان وراء الإمام ربيعة رحمه الله تلك الأم التي ربته وتعاهدته حتى بلغ ما بلغ. والإمام مالك أيضاً الذي درس على ربيعة قال لأمه: أذهب فأكتب العلم. فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، قال: فألبستني وعممتني، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. والإمام الشافعي الإمام الفقيه المجدد، مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وتنقلت به من غزة مهبطه إلى مكة مستقر أخواله، وكانت من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة. وحصلت لها قصة مشهورة عند أحد قضاة مكة، ذلك أنها شهدت هي وأم بشر فأجاز شهادتهما فذكرته بقول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]. والمهدي الخليفة العباسي الذي كان يلقب بقصاب الزنادقة وعدو الزنادقة أجمع المؤرخون أنه نتاج تربية أمه الخيزران التي أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي. ولله در القائل: وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات

موضي بنت أبي وهطان

موضي بنت أبي وهطان ومن النماذج القريبة زوجة الأمير محمد بن سعود رحمه الله موضي بنت أبي وهطان كان لها دور كبير في إقناعه بمناصرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد أتاها أخوا الإمام محمد بن سعود وطلبا منها أن تقوم بهذا الدور في إقناعه أن يتبنى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته، فما زالت به حتى أقنعته بذلك، وأمرته أن يذهب إليه ويقابله، وتم ما تم حتى كتب الله النصر والتمكين لدعوة هذا الإمام المجدد بتوفيق الله سبحانه وتعالى بعد أن ناصره هذا الإمام الصادق، وهي أم الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود رحمه الله الذي بلغ الغاية في العدل والعلم والورع، ولقب بمهدي زمانه. وهي نماذج طويلة -أختي الفاضلة- من الأمهات اللاتي صنعن القادة وأصحاب المواقف، واللاتي صنعن الفقهاء والعلماء، واللاتي صنعن المصلحين، لقد كان وراء كل واحد من أولئك أم صالحة، تعاهدته بالرعاية والتربية والإحسان حتى أبلغته ما بلغ. أتظنين أن تلك الأم التي تربي ابنها على أن يخاف حتى من ظله، التي تربي ابنها على أن يخاف من أي هاجس، وتخلق القلق والجزع والخوف والجبن لديه، أترين هذه قادرة أن تنتج ابناً يقول كلمة الحق حين يحتاج إلى ذلك؟ أترينها تنتج ابناً يحمل السلاح والجهاد في سبيل الله حين تفتقر الأمة إلى أمثاله؟ أم ترينها تنتج مصلحاً يدع الدنيا ويطلقها وراء ظهره؛ ليحمل على عاتقه أمانة الدعوة والإصلاح؟ أم ترين أن تلك المرأة التي تربي ابنها على حب الدنيا والتعلق بها وبمتاعها الزائل، أو تربي ابنها على أن يلبي داعي شهواته ورغباته، فلا ترى أن يكدر نومه، ولا أن يقلق راحته، ولا أن يهب عليه الهواء، أترين هذه الأم قادرة أن تنتج طالباً للعلم حاملاً لرسالته، متحملاً المشقة واللأواء والنصب في سبيل تحصيل العلم الذي ينفعه الله سبحانه وتعالى ويهديه به، ومن ثم يحمله بعد ذلك إلى أمته؟ إن أولئك الذين يتحدث عنهم التاريخ من القادة والمصلحين والحكماء والعلماء والدعاة، إن أولئك وغيرهم إما أن تكون وراء كل واحد منهم أم صالحة تعاهدته بالرعاية والتنشئة، أو أن يكون يتيماً، أو يكون قد خلف وصايا أمه المخذلة وراء ظهره، أما أولئك الذين يرضعون الجبن ويتربون في كنف المذلة والعار فلا يرتجى منهم أن يصلوا إلى هذه المنازل ولا أن يبلغوها. والأمة -أخواتي الفاضلات- أحوج ما تكون في هذه المرحلة إلى هؤلاء المصلحين والعلماء والدعاة والقائلين بالحق والقادة والمجاهدين، هي أحوج ما تكون إلى هذا الصنف الفريد من الناس، ولاشك أن كل واحد من هؤلاء لابد أن تكون له أم، فهلا أخذت على عاتقك أن تدعي ابنك ليكون من هؤلاء؟ هلا أخذت على عاتقك وأنت تداعبين ابنك وهو صغير أن يبلغ مبلغ الرجال، وأن تعديه لذلك، وتربيه على هذه المهمة، وأن تنشئيه من صغره وهو يحمل قضية الإسلام، وقضية الدين، وقضية هذه الأمة، ألا يعيش لنفسه، إنما يعيش لدين الله سبحانه وتعالى، أن يشعر بأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تعدل جناح بعوضة، وأنت حين تقومين بهذا الجهد فإنك تقدمين خيراً عظيماً لهذه الأمة، وتؤدين دوراً لن يؤديه إلا أنت، فهل أنت فاعلة ذلك؟

المرأة زوجة

المرأة زوجة أختي الفاضلة! هذا دور المرأة الأم، والحديث عن ذلك يطول، فنتجاوزه إلى دور المرأة زوجة، إن أولئك الذين كانت لهم أمهات في الصغر تعاهدتهم وعنيت بهم وربتهم، كان لهم بعد ذلك زوجات يعيشون معهن ليلهم ونهارهم، وكما أن للأم دوراً في تربية ولدها، وفي دفعه إلى ميادين العزة والكرامة، فالزوجة كذلك لها دور في إعانة زوجها ودفعه، أو في تثبيطه والقعود به. ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى عباده فقال: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ذلك أن المرء قد تقعد به زوجه، أو يقعد به أولاده عن ميادين العزة والفداء والتضحية، فيحذر الله سبحانه وتعالى عباده من أن يجبنوا، ومن أن يسيروا وراء أهواء أهليهم. إن أولئك كان لهن أزواج، وماذا ترين حال زوجات أولئك؟! إن زوجات أولئك لو كن كحال بعض زوجات زماننا، تخذله، وتزعجه، وتقلق ليله، فهو في نهاره مشغول بهم التعلم والتعليم، والدعوة والصبر على لأوائها، ويعود بعد ذلك إلى منزله ليحمل هماً آخر، ويعيش قلقاً آخر، فتزعجه في تأخره عنها، وفقدها له، وتضييعه لمصالحها، فلو كان حال الواحدة منهن مع زوجها بهذا المنطق وهذه اللغة لكان له شأن آخر، وحديث آخر، أما إذا أخذت هذه الزوجة على عاتقها أن تقف مع زوجها معينة له، ومؤيدة له، ومثبتة له، وأن تسد فراغه إذا غاب عن بيتها، وأن تسدد ما تراه عليه من خير، وأن تأخذ بيده إلى ما قد ترى أنه تجاوز أو قصر فيه؛ فلها أسوة حسنة في خديجة رضي الله عنها حينما كان لها القدح المعلى في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف معه حتى بشرت ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. حين أتاها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده بعد الوحي قالت له مطمئنة مثبتة: والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت إلى ورقة وكان قد تنصر، فحدثته بما صار من محمد صلى الله عليه وسلم، حتى طمأنها أن هذا هو الناموس الذي جاء على عيسى وموسى، وأنه يرجو أن يكون زوجها نبي هذه الأمة، وفعلاً تم ذلك، وطمأنها ورقة بأن زوجها محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي هذه الأمة. من خير ما يتخذ الإنسان في دنياه كيما يستقيم دينه قلب شكور ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينه

المرأة الداعية

المرأة الداعية

الهجمة التغريبية على المرأة المسلمة

الهجمة التغريبية على المرأة المسلمة الصفحة الثالثة من تاريخ المرأة: المرأة الداعية: المرأة أم للدعاة والمصلحين، والمرأة زوجة للدعاة والمصلحين، والمرأة أيضاً داعية هي في موقعها ومع بني جنسها، ولاشك أن هذا الدور يتأكد ويتزايد في هذه المرحلة التي نعيشها، وليست الأدوار الأولى من هذا الدور ولا أولى منه. إن الكثير من فتيات المسلمين في مراحل التعليم، واللاتي يعانين ما يعانين من نتاج الحملة الشرسة التي تشن على المرأة المسلمة في عفافها، وفي دينها، وفي حيائها، وفي أمور حياتها، إن الكثير من هؤلاء الفتيات لابد أنهن يقابلن كل صباح من تدرسهن، ومن تربيهن في المدرسة، ولن تعدم مدارس المسلمين وجامعاتهم من مدرسة صالحة وفية، ومن امرأة داعية مخلصة صادقة ناصحة، لن تعدم هذه المدارس -بإذن الله وحمده وتوفيقه- من هذا الصنف من الأخوات الفاضلات. ولو قام هؤلاء الأخوات بدورهن وواجبهن؛ لأبلغن هذه الكلمة، وأسمعن هذا الصوت كل فتاة في بلاد المسلمين في سن التعليم ومرحلة التعليم، وكانت مدارس المسلمين وجامعاتهم ميداناً للتربية والتنشئة والإصلاح والتطوير. فهل تدرك الأخت الفاضلة وهي تتحمل أمانة التدريس وعبء التربية أن دورها يتجاوز بكثير تلك الأسطر التي تقرؤها في الكتاب المدرسي، ثم تعيد بعد ذلك إلقاءها على فتياتنا وعلى بناتنا؟ أظن أننا ننتظر من أخواتنا دوراً أكبر من ذلك، وجهداً أعظم من هذا، ولا يسوغ بحال أن يقف دور المرأة على أن تلقن التلميذات، وأن تلقن الطالبات معلومات جافة، وعلى أن تستظهر هذه المعلومات التي تقرؤها في الكتاب، ثم تعيد بعد ذلك تسميعها وإلقاءها جافة على الطالبات، وهي تعلم أنهن يعانين ما يعانين، وهي تعلم أنهن يواجهن ما يواجهن. إن الفتاة المسلمة في عرض العالم الإسلامي وطوله قد أصبحت ضحية المجلة الهابطة، وضحية الفلم الساقط، وضحية تلك المؤامرة الشنيعة التي تشن على المرأة المسلمة؛ لتلحق بنساء الغرب، وتسير وفق طريقهن؛ لتأخذ طريق الهاوية والدمار والهلاك. وفي بلادنا يرد إليها أكثر من خمسين مجلة تهتم بالمرأة والأسرة، وهي مجلات كلها تنحى المنحى الغربي الساقط، وقد لا يمنعها من الإسفاف والوقاحة إلا رغبتها في مزيد من الانتشار وإسماع صوتها، هذه المجلات والصحف التي تتاجر بالغرائز، ويثرى أصحابها على حساب الفضيلة والعفة ممن يقرؤها ويقتنيها؟ تلك الأفلام من ينظر إليها ويستمع ما فيها؟ وتلك الأصوات النشاز التي تتحدث إلى المرأة عن قضيتها، تتحدث باسمها دون وكالة شرعية، تتحدث نيابة عنها، وهي لا تملك أدنى مؤهل يؤهلها لذلك، تلك الأصوات من يسمعها إلا الفتاة المسلمة هنا وهناك. وحين تعيش الفتاة في هذا المجتمع، وهي تقرأ هذه الأحداث، وتسمع هذه الأصوات، وترى تلك المشاهد، وتعيش في المقابل حين تعيش هذا الجو، فهي تبحث عمن يوجهها، عمن يأخذ بيدها، عمن ينقذها من هذا الطريق المظلم الذي تقاد إليه. فممن تريدين أن تسمع الصوت الناصح؟ وممن تريدين أن تتلقى التوجيه؟ إن لم تكن منك أنت التي تعلمينها، أنت التي تلقين عليها الدرس صباح مساء، إن المدرسة والمربية حين تريد أن تصل إلى أداء دور فعال في التربية والتنشئة والإصلاح والتقويم، إنها بحاجة إلى أن ترتقي أكثر في أسلوب الخطاب، ولغة التوجيه والحديث.

الخطاب الذي ينبغي أن يوجه للفتاة

الخطاب الذي ينبغي أن يوجه للفتاة وإننا -معشر الأخوات الفاضلات- ينبغي أن نتجاوز تلك اللغة، والتي لم تعد تعرف المرأة فيها إلا الحديث عن بعض القضايا التي تخص الفتاة، أو الحديث عن المخالفات التي تقع فيها النساء، فهي حين تتبع حديثاً يخصها تنتظر أن تسمع حديثاً عن الحجاب، والتحذير من السفور، وعن قوامة الرجل، وعن اختلاطها بالأجانب، وعن اللبس المحرم، والسماع المحرم، والكلام المحرم، إلى غير ذلك. وهو حديث لابد أن تسمعه، ولابد أن نقوله، ولا يجوز أبداً أن نقلل من شأنه وقيمته، لكن أليس هناك منطق آخر ينبغي أن نتحدث فيه مع المرأة؟ أليست الفتاة بحاجة إلى أسلوب آخر وصوت آخر يحدثها؟ لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى النساء؛ ليعظهن ويعلمهن، فكان مما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنين، قال: واثنين). إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا فتح لهن باباً في الرجاء، وحدثهن عن دور وأمر ينبغي أن يحتسبنه وتحتاج إليه المرأة، وفي موطن آخر أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وأخبر أنهن أكثر أهل النار -عافانا الله وإياكن جميعاً من عذاب النار- وأمرهن أن يتصدقن ولو من حليهن. والمقصود أنه لا ينبغي أن نقتصر على هذا اللون من الخطاب، ولا ينبغي ألا يعرف الناس من قضية المرأة إلا لزوم الحجاب، والمنع من النقاب، والمنع من اللباس الفاضح، والاختلاط بالرجال، والحديث عن الأخطاء التي تقع فيها المرأة. أقول وأؤكد: لاشك أن هذا ينبغي أن نقوله، وينبغي أن نكرره ونخاطب المرأة به، لكن أيضاً ينبغي أن نتحدث حديثاً آخر، إن تلك الفتاة التي نعاني منها الآن وهي تتهاون بأمر الله سبحانه وتعالى، فتتهاون في الحجاب، ويزعجنا هذا المنظر، ويؤلمنا هذا الموقف، إن الكثير منهن تعلم تمام العلم، وتوقن تمام اليقين أن هذا السلوك مخالفة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يرضي الله سبحانه وتعالى. فلو خاطبناها بلغة أخرى، وسعينا إلى أن نغرس الإيمان عند فتياتنا، وأن نعنى بهذه القضايا ونركز عليها، أن تعنى المدرسة والمربية والموجهة بتربية الإيمان في نفوس الفتيات، وتذكيرهن بالله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر؛ حتى تصبح الفتاة فتاة تخشى الله سبحانه وتعالى، وتخافه عز وجل، وتؤثر مرضاة الله سبحانه وتعالى على ما سواه، حينها يتعلق قلبها بالله سبحانه وتعالى، وتدرك تماماً العبودية والخضوع لله عز وجل، وترى أن الحجاب والعفاف أنه لباس عز وشرف؛ لأنه استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، وعبودية له عز وجل. ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فتفتخر الفتاة وتعتز بأن ترتدي هذا الحجاب، بأن تمتنع من هذا اللباس، بأن تمتنع من هذا السلوك، وتتجنب ذاك الموقف، وأن تقف هذا الموقف، وتلبس هذا اللباس، إنها تعتز بمثل هذه المواقف، وترى أنها تمثل عبودية لله سبحانه وتعالى، وأن هذا يزيدها رفعة وشرفاً وفخراً. إن المرأة تتعلق بالمظاهر، وتفتن بالزينة، وتسعى إليها، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فحين تربى الفتاة أن لباس التقوى خير، {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. حين ترى أن زينة الإيمان هي أعلى زينة وأتم زينة، فنغرس هذا المعنى في نفسها، ونربيه لديها بالكلمة المؤثرة، والقدوة، وسائر وسائل التربية وأساليبها، حين نغرس هذه المعاني في نفوس فتياتنا وبناتنا؛ فإننا حينئذٍ نتجاوز هذه العقبات، وتنطلق هذه الفتاة لتلتزم أمر الله سبحانه وتعالى، راغبة راضية متوجهة إليه لا أن تتجه له، وهي ترى أنه أمر تؤطر عليه أطراً، وتدفع إليه دفعاً. أقول: لو تحدثنا مع فتياتنا وبناتنا بهذه الصورة، وسعينا إلى التركيز على هذه الجوانب؛ على تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وتوحيد الله عز وجل، وتعظيمه سبحانه وتعالى، حتى لا يصبح في قلوبهن محبة فوق محبة الله سبحانه وتعالى، ولا يخفن غير الله عز وجل، ولا يتجهن لسواه سبحانه وتعالى، فإننا حينئذٍ نختصر على أنفسنا مراحل كثيرة من الطريق، ربما كانت تستوجب علينا قائمة طويلة من المناقشات والمجادلات؛ لإقناع هذه الفتاة بأن تترك هذا السلوك، أو تسلك هذا المسلك وتسير في هذا الطريق أو ذاك.

حاجة الشباب والفتيات إلى الحديث الدعوي ممن يعرف واقعهم

حاجة الشباب والفتيات إلى الحديث الدعوي ممن يعرف واقعهم جانب آخر له أهميته أخواتي الفاضلات: وهو أن فتياتنا وشبابنا يعيشون في هذا العصر أزمات هي جزء من نتاج هذه الهجمة الموجهة على هذه الأمة، ويعيشون واقعاً مؤلماً، فهم جميعاً شيباً وشباناً رجالاً ونساءً يحتاجون إلى من يحدثهم عن واقعهم، خاصة في مرحلة الشباب. فالفتاة بحاجة إلى أن تسمع من تلك المعلمة التي ترى أنها تعرف واقعها، وتدرك مشكلاتها، وتعي حقيقة معاناتها، أن تحدثها بلغة واقعية، وبلغة العارفة المدركة لواقعها، وتطرح عليها الحلول العملية، ليست تلك الحلول المثالية والمغرقة في الخيال، ولا تلك الحلول التي تراها تتناسب معها هي، أي: المتحدثة، إنما تخاطب الفتاة التي تستمع إليها بما ترى أنها تعاني منه، وتتحدث معها بكل صراحة ووضوح عن مشكلاتها ومعاناتها، ثم أيضاً تطرح لها الحلول العملية التي ترى أنها تطيق أن تسلكها. والفتاة حين تسمع مثل هذه اللغة، وتنصت إلى مثل هذا الخطاب، فإنها حينئذٍ تدرك أنها تستمع لصوت يجمع بين النصح والشفقة والعلم والوعي والمعرفة بالواقع، فهذا أدعى للاستجابة، وأدعى لأن تؤتي هذه الجهود بإذن الله عز وجل ثمرتها وبركتها. أخواتي الفاضلات! في قطاع التعليم أو غيره -مدرسة كنت أو مديرة أو موجهة- وفي أي ميدان كنت نحتاج إلى جهد ودور عظيم منك لا يمكن أن يؤديه غيرك، إن الرجل قد يكتب كتاباً، وقد يتحدث حديثاً يسجل، لكنه لا يستطيع أن يوصل هذه الكلمة المكتوبة، أو يسمع تلك الكلمة المسجلة إلى كل فتاة، لا يستطيع أن يسمع تلك الفتاة المعرضة الغافلة البعيدة. إن تلك الفتاة لا بد أن تكون تلميذة لمدرسة صالحة متدينة، لا بد أن تكون أختاً أو بنتاً لأم صالحة، أو قريبة لها، أو جارة لها، لا بد أن تعيش في واقعها القريب والبعيد، وأن ترى زميلةً لها أو أستاذةً أو أماً أو قريبةً أو جارة، أياً كان موقعها منها، لا بد أن ترى من أولئك النساء الخيرات الداعيات إلى الله سبحانه وتعالى. وحين تقوم المرأة بتحمل أمانتها ودورها ومسئوليتها، فإنها تبلغ كلمة لا يستطيع الرجال أن يبلغوها، وتخاطب من لا يستطيع الرجال أن يخاطبوه، وتشافه أولئك اللاتي لا يمكن أن يسمعن ولا يعين إلا منهن، فهل تدركين -أختي الفاضلة- عظم الأمانة والمسئولية التي حملك الله إياها؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). والله سبحانه وتعالى قد وصف الأمة بأنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأخبر أن هذا هو معيار ومناط خيريتها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. وخطاب الشرع يعم الرجال والنساء، فنحن أمة أمارة بالمعروف ناهية عن المنكر، أمة قائلة بالحق، أمة داعية إلى الله سبحانه وتعالى. الله الله -أخواتي الفاضلات- في تحمل هذه الأمانة، والقيام بدورها، وإبلاغ الكلمة لزميلتك إن كنت طالبة ودارسة، وإبلاغ الكلمة لتلميذاتك إن كنت مدرسة، وإبلاغ الكلمة لقريباتك، ولكل من تلقين، ولا تيأسي ولا تضجري من أن تبلغي كلمة، أو تبذلي جهداً، أو تأمري بخير، أو تنهي عن منكر، فنحن أحوج ما نكون إلى دورك، وإلى أن يتكاتف المسلمون جميعاً، وأن يحملوا الأمانة جميعاً، ويدركوا أنها أمانة لا تخص طائفة دون طائفة، ولا فئة دون فئة. أسأل الله سبحانه وتعالى لأخواتي الفاضلات الستر والعفاف والحياء، وأن يرزقهن الله الأزوج الصالحين الناصحين، والذرية الصالحة، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. وأكتفي بهذا الحديث؛ لأجيب على أسئلة الأخوات الفاضلات.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة في طريقة التحصيل العلمي والكتب المناسبة في ذلك

نصيحة في طريقة التحصيل العلمي والكتب المناسبة في ذلك Q ما هي الكتب التي تنصح بها كل من تود زيادة الحصيلة العلمية والدينية لديها، وتود طلب العلم بها، وهل تستطيع أن تخصص يوماً للنساء تقوم بتعليمهن أمور دينهن من فقه وعقيدة؟ A نجيب على الشق الثاني من السؤال فأقول: لست أنا من أهل هذه البلد، وإنما أنا زائر وراحل هذه الليلة. أما بالنسبة للشق الأول فالكتب لاشك أنها كثيرة بحمد الله في كل فن وفي كل علم، وعلى كل مستوى من المستويات، ولا أظن أن مشكلتنا تكمن في عدم معرفة الكتاب المناسب للقراءة، فمثلاً لو سألت الأخت السائلة أو غيرها أن تذكر لي بعض الكتب المناسبة في الحديث، وفي التفسير والفقه لعدت لي قائمة من ذلك، ولو وجهت لها السؤال بعد ذلك هل قرأت شيئاً من هذه الكتب؟ ربما تكون الإجابة غير مشجعة. فأقول: إن المشكلة لا تكمن في عدم معرفة الكتاب المناسب بقدر ما هي كامنة في وجود إرادة وعزيمة على القراءة والتحصيل. أما تحديد كتب معينة للمرأة فهذا يختلف على حسب سن المرأة، ومستوى تحصيلها وتعليمها، وعلى المرأة أن تستشير من هو قريب منها من أجل أن يعرف مستواها، فمثلاً الكتب التي تناسب الطالبة ليست من الكتب التي تناسب المدرسة، وكذلك التي تناسب المرأة التي قطعت مرحلة في التعلم ليست كالتي تناسب المرأة التي هي دون ذلك. وعموماً الكتب التي تناسب الرجال هي أيضاً مناسبة للنساء، قد كتب أهل العلم كتباً في منهج التعلم والتفقه وطرقه ووسائله وآدابه ومنهجيته، ينبغي للفتاة طالبة العلم أن يكون لها نصيب من قراءة مثل هذه الكتب.

طريقة ترقيق القلوب

طريقة ترقيق القلوب Q كيف يمكن لنا أن نرقق قلوبنا، ونبعد عنها شبح الفتور؟ A الله سبحانه وتعالى شرع لنا أن نستعين به في كل أمورنا، فنحن نقرأ في سورة الفاتحة كل يوم مرات عدة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ونحن نستعين بالله سبحانه وتعالى في أمور ديننا وفي أمور دنيانا، فكما أننا نستعين بالله سبحانه وتعالى على قضاء حوائجنا في دار الدنيا، فكذلك نحن نستعين بالله سبحانه وتعالى على أمور ديننا، كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)، فهو يستعين بالله سبحانه وتعالى على أن يعينه على اتباع الحق وعلى اجتناب الباطل. فلاشك أنه لا أرق للقلوب، ولا أنجع لعلاجها من ذكر الله سبحانه وتعالى، وتلاوة كتابه، والتوجه له عز وجل، وعبادته، والإقبال على الله سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء والتلاوة والعبادة، وسائر هذه الأبواب مدعاة لعلاج القلوب ورقتها. والله سبحانه وتعالى خلقنا ويعلم ما نحن فيه، ويعلم ما نعاني سبحانه وتعالى، ولم يتركنا سدى، بل أنزل علينا هذا الكتاب العظيم الذي ما من خير إلا ودلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه.

حكم الاستخارة في الأمور الواجبة

حكم الاستخارة في الأمور الواجبة Q هل تكون الاستخارة في الأمور الواجبة كالحج والعمرة وغيرها؟ A لا، هذه الأمور الواجبة يجب على الإنسان أن يعملها ولا تتوقف على الاستخارة، والاستخارة أن يتردد الإنسان في أمر لا يدري أهو خير له أم غير ذلك، فيستخير الله.

حكم حج المرأة مع الرفقة الصالحة دون محرم

حكم حج المرأة مع الرفقة الصالحة دون محرم Q ما حكم حج المرأة مع رفقة صالحة بدون محرم؟ A لا يجوز أن تسافر المرأة بدون محرم، سواء كانت مع رفقة صالحة أو ليسوا كذلك.

التحقق من الحب في الله

التحقق من الحب في الله Q كثيراً ما نسمع أن فلانة تحب أختاً لها في الله، وقد يدخل فيه شيء للدنيا، كيف يتحقق الإنسان أن حبه حقيقة لله؟ A هذا المعنى أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وفرق بين قوله: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وبين قوله: أن يحب المرء في الله؛ لأن قوله: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله نفي لكل أسباب ووسائل المحبة غير هذه المحبة. وقالوا: إن من علامات المحبة الخالصة لله أنها إذا زادت طاعة لله سبحانه وتعالى زادت محبة لها، وإذا رأت منها تقصيراً وضعفاً قلت محبتها لها.

حكم المسح على الجوارب

حكم المسح على الجوارب Q حكم المسح على الجوارب سواء على طهارة أو غير طهارة؟ A يشترط في المسح على الجورب أن تلبسها المرأة أو يلبسها الرجل على طهارة، فإن لبستها على غير طهارة لا يجوز لها أن تمسح عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).

عمل اليوم والليلة

عمل اليوم والليلة Q إن في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم منهجاً ودستوراً لنا، نريد منك أن تذكر لنا أعظم وأفضل ما يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال صالحة وأخلاق في يومه الواحد من الصباح إلى المساء؟ A أعظم وأفضل الأعمال هي الأعمال الواجبة، وأعظمها الصلاة، المحافظة على الصلاة في وقتها، وأداؤها كما ينبغي من أعظم الأعمال، ثم من الأعمال التي شرعت لنا في اليوم والليلة أن نبتدئ اليوم بذكر وقراءة أوراد وأدعية الصباح، وهي معروفة وقد دون أهل العلم كتباً صغيرة وكبيرة مطولة ومختصرة في هذه الأذكار، ثم أيضاً السنن الرواتب التي هي اثنتا عشرة ركعة أو عشر ركعات، قد أخبر صلى الله عليه وسلم (أن من صلى لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)، والوتر، وسائر الأعمال بعد ذلك من تلاوة القرآن، والإحسان إلى الناس، والصدقة، إلى غير ذلك.

حكم ارتداء المرأة للباس القصير

حكم ارتداء المرأة للباس القصير Q حكم ارتداء المرأة لبس قصير؟ A لا يجوز للمرأة أن تلبس القصير الفاتن أمام الرجال الأجانب، لكن إنما يجوز لها ذلك أمام زوجها فقط.

حكم كشف المرأة وجهها في بلاد الغربة

حكم كشف المرأة وجهها في بلاد الغربة Q ما حكم سفر المرأة إلى بلاد أجنبية ولا تغطي وجهها، مع العلم أن معها محرماً، وترتدي الطويل الساتر؟ A أحكام الله عز وجل لا تختص بهذه البلاد دون غيرها، فالذي أمرها بالحجاب في هذه البلاد أمرها سبحانه وتعالى بالحجاب في غير هذه البلاد.

حكم مس الحائض المصحف

حكم مس الحائض المصحف Q ما حكم مس الحائض للمصحف؟ A لا يجوز للحائض أن تمس المصحف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).

حكم الصلاة في الحافلة

حكم الصلاة في الحافلة Q نذهب إلى المدرسة في وقت مبكر حتى يؤذن الفجر ونحن في الطريق، ونصلي صلاة الصبح ونحن في الحافلة، فهل نقضي هذه الصلاة أم لا؟ A لا يجوز أن تصلي في الحافلة؛ لأن المرأة يجب أن تصلي وهي واقفة، وتستقبل القبلة، ولا يجوز أن يصلى على الراحلة إلا النافلة في السفر، فتنتظر حتى تصل إلى المدرسة إذا كانت تصل قبل خروج الوقت وتصلي، وإذا كانت لا تصل إلا بعد خروج الوقت ينبغي أن يرتب النساء لهن حلاً في الأمر، إما أن تذهب مع أذان الفجر أصلاً وتصلي، أو يتوقفن لأداء الصلاة، لكن لا يجوز ولا يعتبر هذا عذراً لهن أن يصلين في مثل هذه الحالة.

طلاق الحامل

طلاق الحامل Q هل يقع طلاق المرأة الحامل؟ A نعم يقع طلاق المرأة الحامل، وتنتهي عدتها بوضع الحمل.

حكم قطع الطواف لصلاة النافلة

حكم قطع الطواف لصلاة النافلة Q ما حكم قطع الطواف لصلاة نافلة بين الحجر والكعبة، وذلك عند رؤية المكان خالي، وهل يعاد الطواف الذي لم يكمل؟ A المرأة أولاً المفروض أن تبتعد عن هذه الأماكن للرجال، وتصلي في مكان بعيد وفي الأماكن الخاصة بالنساء، لكن عموماً الطواف لو أراد أن يقطعه المرء جاز له، وإن كان ينبغي له أن لا يقطعه إلا لحاجة، لكن المرأة ينبغي أن تبتعد عن هذه الأماكن، وتصلي في الأماكن المخصصة للنساء. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما سمعنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. هذا والله أعلم.

منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله

منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله الأنبياء قدوة الأنام لأنهم مؤيدون بالعصمة مصطفون من الله تعالى لتبليغ دينه والدعوة إلى عبادته وتوحيده، وقد ذكر الله قصصهم ومنهجم في الدعوة إلى الله في القرآن الكريم، فيجب على كل داعية الاهتداء بهديهم والاقتداء بسيرهم.

أهمية الحديث عن منهج الأنبياء

أهمية الحديث عن منهج الأنبياء الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: ففي هذه الليلة الطيبة المباركة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم نتحدث حول منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل، ولا أظن أن مثلي وفي هذه العجالة يمكن أن يأتي على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل بفروعه ومعالمه، لكنها إضاءات وخواطر أملاها الواقع الذي نعيشه. ثمة ثوابت -معشر الإخوة الكرام- اتفق عليها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، وهي قضايا ليست جديدة، وكيف تكون جديدة وهي قضايا المنهج؟! وقضايا المنهج ينبغي أن تكون معالم واضحة معالم لا يجهلها أحد معالم لا يزيغ عنها إلا من ضل وانحرف، وكيف تكون جديدة وهي حديث عن منهج الأنبياء الذي نقرؤه في كتاب الله سبحانه وتعالى؟! كلنا يقرأ القرآن، وكلنا يقرأ ويتلو آيات الله عز وجل التي فيها الحديث عن قصص الأنبياء، وعن منهج الأنبياء، وعن دعوتهم، ومن ثم فالحديث معشر الإخوة الكرام مع أمثالكم عن منهج الأنبياء لن يكون حديثاً جديداً إنما هو تذكير بحقائق نعرفها وندركها جميعاً إنما هو إعادة لأفراد المسائل والمواقف التي نقفها في الدعوة إلى الله عز وجل إلى أصولها وجذورها. ولعل أول تساؤل يطرح: لماذا الحديث عن منهج الأنبياء؟. يدعونا معشر الإخوة الكرام للحديث عن منهج الأنبياء أمور عدة

كثرة الحديث عن مناهج التغيير

كثرة الحديث عن مناهج التغيير أولها: أن الحديث كثير عن المنهج فيتحدث الكثير اليوم عن التغيير ومناهجه، وتتنوع الأطروحات الإسلامية وتتنافس في طرح برامج التغيير ومناهج الإصلاح، وتنوع الاجتهادات واختلاف المواقف أمر لا غبار عليه، لكن المرفوض أن تتحول الجزئيات والاجتهادات إلى ثوابت، وأن تتحول القناعات الشخصية إلى قضايا منهجية عند البعض يوالي ويعادي من أجلها، وينطلق من اقتناعات شخصية أو اجتهادات ليرسم من خلالها منهجاً يرفض الدعوة إلا من خلاله، ويسفه الآراء التي تنطلق من سواه ويوالي ويعادي عليها ويستنبط من خلال ذلك معايير لتقييم الناس والبرامج الدعوية. إن قضية المنهج قضية تهتم بالثوابت والإطار العام، ومع تأكيدنا على ضرورة انضباط المسائل الاجتهادية بضوابط الشرع، ومع رفضنا لتلك القسمة الضيزى لشرع الله عز وجل إلى لب وقشور؛ لكن مع ذلك كله لا يسوغ أن تتحول المسائل الاجتهادية إلى قضايا يؤثم فيها الناس ويخطئون ويضللون، أو أن تدعى الأمة إلى أن تجتمع على رأي فلان أو اجتهاد علان، ولا يجوز أن تتحول هذه القضايا إلى معيار للولاء والبراء. إن البعض من الناس يرسم ثوابت ومنطلقات يمليها عليه اجتهاده وربما تقليده لفلان من الناس، وربما كانت انعكاساً لوضع معين، فيرسم هذه الثوابت ثم يسعى بعد ذلك لتحويلها إلى منهج من خلال البحث عن نصوص شرعية تؤيد ذلك ولو أدى إلى أن يلوي أعناقها لياً، أو من خلال اجتهادات هي لآحاد من السلف تتحول هذه الاقتناعات عند صاحبنا إلى منهج من خالفه فهو منحرف ضال أفاك أثيم. وثمة طوائف لا تزال تعيش في عزلة عن النص الشرعي وغربة عن منهج الطائفة المنصورة، فلا تعدو مصادر المنهج أن تكون حسابات مرحلية، أو قضايا استراتيجية؛ ولهذا قد لا تكاد تفرق أحياناً بين حسابات بعض هؤلاء الدعاة وحسابات الساسة وأصحاب الأيدلوجيات الأرضية. لأجل هذا وذاك كان لا بد من الحديث عن منهج الأنبياء حتى لا تتحول القضية إلى فوضى وتسيب وانحراف عن النص الشرعي والثوابت الشرعية، وحتى أيضاً لا نشطط ونغلو فنحول اجتهاداتنا الشخصية التي لم ينص عليها نص واضح وصريح تتعبد الأمة به وربما كانت لا تعدو أن تكون مقولة لفلان، أو أن تكون وضعاً عشناه وألفناه، حتى لا تتحول هذه الاجتهادات إلى منهج وثوابت، ننصر الدعوة من خلالها ونقيم آمال الناس ونزنها من خلال هذا الميزان، إن هذا وذاك مرفوض؛ لهذا كان لا بد من الحديث عن منهج الأنبياء.

العصمة

العصمة من مزايا منهج الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى قد عصمهم من الانحراف والخطأ والخلل وعصمهم سبحانه وتعالى من الأهواء، ومن ثم فاتباع سبيلهم ضمان بإذن الله عز وجل في الاستقامة على الطريق والسلوك على الجادة، والأمن من الخلل وبنيات الطريق؛ لذا فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن لم يتركهم لاجتهادات البشر أو يعبدهم لآراء فكرهم، واقرأ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل تجد دليلاً واحداً يأمر الناس بالتقليد ويحثهم عليه، إنك لن تجد الحديث عن التقليد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا في مقام الذم والعيب لأولئك الذين عطلوا عقولهم، وعطلوا منطق البرهان والحجة، وساروا وراء وعي فلان وفلان من الناس. إنه مما لا يليق شرعاً وعقلاً أن يعبد الناس أحداً من البشر فتكون آراؤه حجة ملزمة للناس وديناً لا يسعهم الخروج عليه، فهؤلاء البشر قد يكونون أئمة، وقد يكونون دعاة، وقد يكونون موجهين، وقد يكونون أعلاماً للأمة تستفتيهم الأمة، وتصدر عن رأيهم وتستضيء بقولهم، لكن ذلك لا يمكن أن يحولهم إلى معصومين إلى حجة بين الله عز وجل وخلقه ينبغي عليهم أن يتبعوهم فمن خالف قولهم واجتهادهم صار ضالاً منحرفاً زائغاً. إن هذا معشر الإخوة الكرام خرق لإجماع السلف، وهو خلل في المنهج أترى في الأمة خيراً من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد قالا للناس جميعاً: إن أصبنا فأعينونا وإن أخطأنا فقومونا. ويرسم ابن عباس رضي الله عنه للأمة معالم هذا المنهج فيقول: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! معشر الإخوة الكرام! إن مما أجمع عليه أهل السنة وسلف الأمة قديماً وأتباعهم أنه لا عصمة لبشر بعد الأنبياء، ومما أجمعوا عليه أنه ليس هناك أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بين الله وخلقه، دع عنك أولئك الذين يرسمون أئمة بعدد شهور العام ويرون أن سواهم ضالون منحرفون إن لم يعطلوا عقولهم ويصموا آذانهم ويغمضوا أعينهم ويسيروا وراءهم؛ ولهذا تراهم ينادون ويدعون الإمام الغائب قائلين: عجل الله فرجه. أما الطائفة الناجية -أهل السنة والجماعة- فقد عصمهم الله عز وجل من ذلك، نعم لهم أئمة وأعلام وعلماء تصدر الأمة عن رأيهم وقادة يوجهون الأمة ويسيرونها؛ لكنهم مع ذلك يبقون بشراً لا يمكن أن يرتفعوا إلى درجة العصمة، ومن هنا كانت الحاجة ماسة وملحة للحديث عن منهج الأنبياء. البديل عن منهج الأنبياء هو أن يتعبد الناس لآراء البشر أمثالهم، والبشر أياً كانوا لا يمكن أبداً أن يكونوا محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، إنها طريق واحدة وسبيل واحدة هي سبيل المعصوم صلى الله عليه وسلم وما عداه فهو عرضة للخطأ والخلل والزيغ والانحراف إلا من عصم الله عز وجل.

أمر الله بالاقتداء بهدي الأنبياء

أمر الله بالاقتداء بهدي الأنبياء ثالثاً: يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] فيأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بمنهج الأنبياء، وأن يقتفي أثرهم، وأن يسير على سنتهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته من بعده إلى قيام الساعة. ونتساءل معشر الإخوة الكرام: لماذا يبدئ القرآن ويعيد في الحديث عن منهج الأنبياء، والحديث عن قصص الأنبياء، ويتكرر في الآيات والسور الحديث عن هذا المنهج إشارة وإيماء أحياناً، وتفصيلاً واستفاضة أحياناً، فما تكاد تقرأ في جزء من القرآن الكريم إلا وترى قصة دعوة نبي من الأنبياء أو ترى إشارة إليه وإلى ما جرى بينه وبين قومه أليست هذه دعوة لأولئك الذين يقرءون هذا الكتاب ويتعبدون الله بتلاوته إلى أن يسيروا وفق هذا المنهج وأن يرتسموا معالمه ويسلكوا خطاه.

الأنبياء هم أمة النجاح والإنجاز البشري

الأنبياء هم أمة النجاح والإنجاز البشري اعتاد الناس أياً كانت اتجاهاتهم ومذاهبهم وطرقهم على أن يثنوا على أولئك الذين ينجحون على أولئك الذين ينجزون على أولئك الذين يبدعون ولا يزال الناس يتحدثون كثيراً عن عوامل نجاح فلان، وعن سر إبداع فلان فهاأنت ترى الأدباء يتغنون كثيراً في الحديث عن سيرة فلان وفلان من الأدباء الذين قد تحولوا إلى رفات يتحدثون عن سيرهم ونجاحهم وإنجازهم، ويتحدث المؤرخون والساسة أيضاً عن أولئك الناجحين ويقرءون سيرهم ويأخذون منها معالم يقتفونها ويسيرون في إثرها، ولا يزال المصلحون والمجددون والدعاة يحظون بعناية أهل العلم وأهل الفكر والتوجيه دراسةً لأسباب النجاح وتحليلاً لعوامل النهوض والارتقاء لا يزال أولئك يتحدث عنهم الكثير وهم قد يستحقون ذلك. لكن قمة النجاح وغاية الإبداع والإنجاز هو ما حققه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، إن الله سبحانه وتعالى قد اختار الأنبياء للقيام بهذه الدعوة {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أفليس الدعاة إلى الله عز وجل أحوج إلى دارسة سير الأنبياء وكيف حققوا مقاصدهم ونجحوا فيما يسعون إليه؟! بلى والله، فإنهم أولى قبل أن يكونوا معصومين وقبل أن يؤمر بالاقتداء بهم؛ لأنهم في قمة النجاح والإبداع والإنجاز، فكيف وهم مع ذلك معصومون وكيف ونحن مأمورون بالاقتداء بهم والسير على طريقهم. معشر الإخوة الكرام! هذه عوامل وأسباب تؤكد لنا ضرورة العناية بدارسة منهج الأنبياء، ونحن حين ندرس منهج الأنبياء فإننا ينبغي أن نأخذه جملة بكل تفاصيله وكل معالمه لا يسوغ أن نقتطع أجزاء من هدي الأنبياء فنحتج بها ونتحدث عنها ونخاصم من أجلها وندع ما سواها. ولا يسوغ أن نرسم منهجاً ونقرر ثوابت ثم نبحث لما قررناه عما يعززه ويعضده من منهج الأنبياء، فينبغي أن نتجرد من الأهواء والتبعية والتقليد إلا لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وحينها نستطيع أن نترسم معالم هذا المنهج واضحاً جلياً مشرقاً بعيداً عن الزلل والانحراف؛ ولهذا فليس كل من تحدث عن منهج الأنبياء وعن دعوة الأنبياء قد تحدث حديثاً شاملاً كافياً وليس مبرأً عن الهوى وعن الخلفية السابقة التي يأتي إليها فيبحث لها عما يؤيدها. وأنا حين أقول ذلك لست أدعي العصمة فيما أقول، فأنا لا أعدو أن أكون قد رصدت نقاطاً ظهرت لي من خلال تلاوة آيات الله عز وجل فيما قصه الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، فسعيت أن أشير إلى بعض المعاني التي اتفق عليها الأنبياء عامتهم أو معظمهم وأرى أنها ينبغي أن تكون معالم وثوابت لمنهج الدعوة إلى الله عز وجل. وقد يكون في بعض ما أراه خطأ أو شطط، وهذا دليل على سلامة منهج الأنبياء أصلاً؛ لأن البشر أياً كانوا لا يمكن أن يتجردوا عن الأهواء والأخطاء.

التوحيد

التوحيد إن أول قضية من قضايا المنهج عند الأنبياء: هي قضية التوحيد. فهي قضية القضايا في دعوة الأنبياء، وهي الأساس الذي دعا إليه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ففي كل أمة خلت ومضت بعث الله عز وجل نبياً يدعو إلى عبادته والكفر بالطاغوت وينفي سبحانه وتعالى -وهو أعلم برسله- أن يكون أرسل رسولاً بغير شهادة التوحيد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وفي قصص الأنبياء المتعاقبة يذكر الله سبحانه وتعالى أن كل نبي قد قال لقومه أول ما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فما دام كل نبي بعث من أجل التوحيد وأرسل من أجل شهادة أن لا إله إلا الله، فمن يسير على منهجهم ويتبع خطاهم ما لم تكن قضية التوحيد هي القضية الأساس لديه، والأول في سلم اهتماماته فليعد النظر في منهجه، وهانحن نرى في عصرنا الحاضر صوراً صارخة من العدوان على التوحيد وركوب الشرك والطاغوت: أليس من المناقضة لأصل التوحيد ما نراه من أولئك الذين يمرغون جباههم أمام الأضرحة ساجدين أو متبركين بتربة ضريح ولي أو إمام؟! أو أولئك الذين يتوجهون لهم بالدعاء من دون الله عز وجل معتقدين فيهم قضاء الحاجات، وتنفيس الكربات؟! كم في بلاد الإسلام من طواغيت تشد إليها الرحال وتعقد عليها الخناصر، أفيسوغ أن تقوم دعوة من الدعوات وتجعل هذه الصورة الصارخة من الشرك المناقض للتوحيد قضية هامشية أو جزئية من جزئيات الدعوة. ومن صور العدوان على التوحيد: ما يعتقده أهل الخرافة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أوليائه يعلم أحد منهم الغيب أو يملك ضراً ونفعاً، أو أولئك الذين يفضلون كلام البشر وما ابتدعوه على كلام الله عز وجل، أتكون تلك الدعوة التي تحمل بين صفوفها بعض هؤلاء، أو تلتقي معهم أو تهادنهم وتجاملهم أتكون دعوة تسير على منهج الأنبياء؟! ومن صور العدوان على التوحيد والولوغ في الشرك: ما يعتقده الرافضة من تكفير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها لهجة، وما يتعبدون فيه لله بزعمهم من سب خيرة الخلق والتنقص لهم، واعتقاد أن أئمة لا يجاوز عددهم عدد شهور العام هم المعصومون الذين يعلمون الغيب والناس بهائم لا عقول لهم وليس عليهم إلا أن يسيروا ورائهم، وكم يفعل هؤلاء عند البقيع أو عند أضرحة أئمتهم مما يتفطر له قلب كل مخلص أفتكون تلك الدعوة التي تصور الخلاف هؤلاء خلافاً جزئياً أو تلك التي تداريهم أو تسكت عن شركهم وضلالهم أتكون دعوة على منهاج النبوة؟! ومن صور العدوان على التوحيد والجرأة على الشرك: اتخاذ طائفة من البشر أنداداً من دون الله يشرعون ويحلون ويحرمون فيصدرون قانوناً يبيح ما حرم الله عز وجل ويحرم ما أباح الله، ويبدل شرع الله سبحان وتعالى ويصبح هذا القانون شرعاً مطاعاً عند الناس متبعاً يقاد الناس إليه ويخضعون له ويجرمون ويبرئون على أساسه، فهل عرفت البشرية شركاً ومناقضة للتوحيد ومضاهاة لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره جل وعز أكبر وأشنع من هذا الشرك والعدوان على مقام الربوبية؟! لقد قال الله عز وجل عن أولئك الذين أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في إباحة بعض ما حرم وتحريم ما أباح: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. وقال مخاطباً للمؤمنين أنهم لو أطاعوا المشركين في إباحة مسألة من المسائل -أكل الميتة- أنهم مشركون: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] فكيف بمن شرع وأحل وحرم وبدل شرع الله عز وجل وصير ذلك شرعاً يقاد الناس إليه ويخضع الناس له أليس هذا أصرخ عدواناً وجرأة على مقام الربوبية وعلى مقام الله سبحانه وتعالى؟! إن الدعوة التي تسعى للالتقاء مع هؤلاء في منتصف الطريق، أو ترى لها مسوغاً في السكوت عن شركهم وضلالهم دعوة بعيدة كل البعد عن منهج الأنبياء. إن الذي يدين الله سبحانه وتعالى بالعقيدة الإسلامية ويتخذها منهجاً ونبراساً له ما لم يتخذ موقفاً واضحاً محدداً من أعداء العقيدة سواءًَ أكانوا عباد قبور وأضرحة، أو كانوا سبابة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كانوا باطنيين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر المحض، أو كانوا من المغضوب عليه والضالين إخوان القردة وعباد الصليب؛ إن الذي لا يتخذ من أولئك موقفاً واضحاً محدداً ليس إلا جاهلاً ببدهيات العقيدة مما لا يعذر مسلم بجهله، أو متاجراً بدعوى اتباع العقيدة والدعوة إليها أليس الأنبياء كلهم جميعاً قد بعثوا لعبادة الله واجتناب الطواغيت فأين اجتناب الطوا

المقصد الأعلى تعبيد الناس لله

المقصد الأعلى تعبيد الناس لله المعلم الثاني من معالم منهج الأنبياء: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]. ومقولة الأنبياء المتكررة: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) مع ما فيها من دلالة على التوحيد فهي دليل على قضية أساسة أخرى: ألا وهي أن دعوة الأنبياء دعوة لتعبيد الناس لله سبحانه وتعالى وحده، فالهدف الأساس والمقصد الأعلى هو تعبيد الناس لله رب العالمين. ومن ثم الداعية السائر على خطا الأنبياء المقتفي آثارهم جدير بأن يتذكر كل حين ويستشعر كل آن أن غاية دعوته ومنتهى مقصده هو تعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يعطي سائر أهدافه مكانها الطبيعي وحجمها المعقول، حينها لن يصبح داعية إلى نفسه لن يصبح داعياً لتجميع الناس حول شخصه أو حتى اجتهاداته أو حول اقتناعاته أو حول ما يرى أنه حق وقد يرى غيره أنه خلاف ذلك. إن غاية الدعوة ينبغي أن تكون: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] أن تكون تأليه الناس وتعبيدهم لله سبحانه وتعالى.

لا أسألكم عليه أجرا

لا أسألكم عليه أجراً ثالثاً: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90]. {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:105 - 109]. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124] إلى آخر الآيات، وكل نبي يقول هذه المقولة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] ويأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولها واضحة صريحة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. ومن ثم فإن السائر على منهج الأنبياء ينبغي أن يقولها صريحة للناس بلسان المقال: ما أسألكم عليه أجراً أنا لست أخاصم للدنيا إياكم ليست ترضيني أملي هدف أسمى أعلى نفسي لا ترضى بالدون. إنني أدعو إلى قضية واحدة إلى عبادة الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] عبادة الله بمعناها الشامل ومفهومها الواسع ولست أريد أي عجلة، وهذا المنهج ينبغي أن يكون منطق كل داعية لله سبحانه وتعالى بلسان مقاله، وأن يكون منطقه بلسان حاله. معشر الإخوة الكرام! أترون أولئك الذين يتاجرون بالكلمة فيقولون كلمة أو يصوغون أخرى ويرجون من ورائها أجراً أترى أولئك يفقهون حق الفقه منهج الأنبياء؟ أم هم منافقون أم هم متاجرون أم هم متزلفون؟ لست أدري. إن من الناس من يقول أحدهم كلمة ويشهد الله على ما في قلبه وهي كلمة يريد من ورائها أجراً، قد يكون هذا الأجر مالاً محدداً يقبضه ويتلقاه وقد يكون شهرة بين الناس وقد يكون جاهاً فالأجر في قوله: ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) نكرة في سياق النفي قد دخلت عليها (من) الزائدة فهي من أعلى صور العموم، إن أي أجر أي ثمرة عاجلة يريدها صاحبها في الدنيا كفيلة بأن تبعثر عليه الأوراق كفيلة بأن تكون هذه الكلمة التي يقولها، أو تلك التي يسطرها أن تكون وثيقة اتهام عليه لبراءته من منهج الأنبياء وانحرافه عن منهجهم، أما الدعاة الصادقون الذين يقتفون هدي النبوة ويسيرون على منهجها فهم أولئك الذين يقولون ما يعتقدون يقولون ما يعتقدون أنه الحق، ويدينون الله عز وجل به دون أن يرجوا من وراء ذلك أجراً دون أن يرجوا من وراء ذلك أجراً في دار الدنيا أياً كان هذا الأجر مالاً أو جاهاً أو ثراء.

الأمة الواحدة

الأمة الواحدة القضية الرابعة حول منهج الأنبياء: الأمة الواحدة. وتبدو قضية الأمة الواحدة قضيةً واضحة المعالم وصورةً محددة يدركها قارئ كتاب الله عز وجل حين يتأمل أي سياق ورد في قصص الأنبياء، بل قد نص الله عز وجل على ذلك تعقيباً على قصص الأنبياء قائلاً: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]. والأمة والواحدة لا ينتهي مداها في دار الدنيا بل يمتد إلى الدار الآخرة حين يقف الناس للحساب والجزاء والمساءلة، فيقف أنبياء الله عز وجل، إذ جاءوا لنوح عليه السلام فيقول الله سبحانه وتعالى له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد هذه الأمة. معشر الإخوة الكرام! إن هذا يجعل المسلم يتخطى حاجز الزمن ويلغي فوارق الزمن فيرى أنه ينتمي إلى جيل واحد وإلى أمة واحدة وحزب واحد هو حزب الله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] فهو يرى أن تاريخه لا يقف عند حدود ستين عاماً ولا عند حدود آبائه وأجداده أو حدود فلان وفلان بل ليس عند حدود هذه الأمة، فهو ضارب في أطناب وجذور التاريخ منذ أن هبط آدم عليه السلام فهو يرى أنه ينتمي إلى أمة واحدة. وتجنى هذه الثمرة وتتم وحدة هذه الأمة يوم القيامة حين تشهد هذه الأمة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم هناك المحاكمة والمقاضاة، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]. هناك يوم يقول الله عز وجل عن الظالمين: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:42 - 50]. حينها يتصل هذا الوثاق وهذا الرباط فتأتي هذه الأمة لتشهد في هذا المقام بأن نوحاً قد بلغ الرسالة، وأن هوداً قد أدى الأمانة، وأن صالحاً قد بلغ ما اؤتمن عليه، وتشهد لسائر أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم. إن من نتاج وحدة الأمة وحدة أمة الأنبياء إن اتحدت مواقف أعدائهم منهم، واقرءوا كتاب الله عز وجل لتروها صورة واحدة كل نبي يعيش صراعاً مع طغاة قومه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:75] الملأ الذين كفروا من قومه، وهكذا يتزعم الملأ قضية المواجهة من أنبياء الله عز وجل مع كل نبي ورسول يرسله الله إلى خلقه. ومن العجيب أن تتحد الأساليب والطرق ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] فكأن هؤلاء قد تواصوا واتفقوا على أسلوب واحد يواجهون به رسل الله والدعاة إلى منهجه لكنهم قوم طاغون. لا ينبغي العدوان بالسخرية والاستهزاء، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]. {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]. {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62]. وقالوا لهود: {إِنْ نَقُو

دعوة الناس باللسان التي يفهمون

دعوة الناس باللسان التي يفهمون القضية الخامسة من معالم منهج الأنبياء: بلسان قومه. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] {نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس:71] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [النمل:54] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] وهكذا فقد كان الأنبياء من أقوامهم، ويتكلمون بألسنتهم وهذا يحقق مقاصد ومكاسب أولها: حتى يفقه قومه ما يقول ويعون ما يدعوهم إليه، وإلى هذا أشار القرآن في قول الله عز وجل: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، ومن ثم الخطاب الدعوي الموجه للناس ينبغي أن يكون واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا يسوغ أن تتجاوز الرغبة في جمال العبارة وحسن الأسلوب لتحول الحديث إلى ألغاز تحتاج في إدراكها إلى خبرات لحل رموزه والبحث عن كوامنه؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الناس يتكلم بكلام فصل لو عده العاد لأحصاه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد لسائر الناس بل كان يكرر الكلمة ثلاثاً. ولئن دعت الداعية ضرورة أو وضع لا يمكنه من الإفصاح فليجأ إلى التلميح والإيماء، فإنه لا ينبغي أن يغلو فيحول القضية إلى قضية مبالغة فلا يدركها إلا هو، فيصبح المعنى في بطن الشاعر وحينها لا يعود لدعوته قيمة. ثانياً: كان النبي بلسان قومه، يعني: أنه منهم يعرفهم ويعرفونه، يعرف طباعهم وما هم عليه، ومن ثم فالداعية إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يعرف واقعه ويعي حال الناس وحال المخاطبون ولهذا اختار الله عز وجل الأنبياء من أقوامهم. ثالثاً: كون النبي بلسان قومه ومنهم يعني أنهم يعرفونه فليس غريباً عنهم وليس مهزلة فيهم؛ ولهذا قالوا لصالح: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62] أي كنا نعرفك قبل هذا ونؤمل فيك الخير، وكان صلى الله عليه وسلم معروفاً بين قومه بالصادق الأمين، وكان يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كان يأتيه الضعيف فيعينه والمحتاج فيسد حاجته. ولهذا فالدعاة إلى الله عز وجل السائرون على منهج الأنبياء حري بهم أن يكونوا أعلاماً شامخة في أقوامهم يعرفهم القاصي والداني، وقد كانت قريش وقبلهم الأمم المكذبة لأقوامهم يصفون أنبياءهم بصفات النقص ويلصقون بهم التهم الباطلة وهم يعلمون أنهم مكذبون مفترون ولكنه الهوى والمكابرة أما لو كان أولئك الأنبياء نكرات لا يعرفهم إلا أزواجهم وذرياتهم لاستطاع أولئك أن يقولوا فيهم ما يقولون.

ما من نبي إلا ورعى الغنم

ما من نبي إلا ورعى الغنم سادساً: ما من نبي إلا ورعى الغنم. حين سئل صلى الله عليه وسلم عن رعيه للغنم أجاب بأن هذا شأن الأنبياء، وأن هذا أمر اختاره الله سبحانه وتعالى لأنبيائه فما من نبي إلا ورعى الغنم، والسكينة والوقار كما قال صلى الله عليه وسلم في أهل الغنم ورعاة الغنم. لقد كان الأنبياء قادة ورعاة للبشرية، ومن ثم كان رعي الغنم تهيئة وتربية وإعداداً لهم؛ ولهذا نرى أسلوب الرفق والحكمة أمراً يغلب على منهج أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فيقول الله عز وجل لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] أي: إلى فرعون الطاغية الجبار الذي يضرب به المثل {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. وإبراهيم عليه السلام يقول مخاطباً لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:43 - 44] بلغة الهدوء والمنطق والحوار والإشفاق والنصيحة. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما عرفت البشرية أرحم منه صلى الله عليه وسلم: وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء فما عرفت البشرية أرحم ولا أرق فؤاداً منه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فالدعاة إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون الرفق ديدنهم، ورائدهم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق بشيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

المواجهة الصريحة للانحراف

المواجهة الصريحة للانحراف المعلم السابع من معالم منهج الأنبياء: أن الأنبياء ومع ما أوتوا من رفق وحكمة فقد واجهوا قومهم بانحرافاتهم مواجهة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، فلوط عليه السلام يقول لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80]. وشعيب عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:84 - 85] وفي آية أخرى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86]. وإبراهيم عليه السلام الذي كان رحيماً رقيقاً مع أبيه يعمد إلى أصنامهم فيكسرها ويحطمها ويعقد له مجلس المناظرة والمحاكمة فيقولون له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] فيقول ساخراً متهكماً: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63 - 65] قال يخاطب قومه: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67]. ويقول محاجاً لطاغية عصره: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258]. وموسى عليه السلام الذي أرسله الله إلى فرعون وأمره أن يقول له قولاً ليناً قال له عندما أعرض واستكبر: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]. {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:23 - 28]. وقال لـ فرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]. نعم، إنه موسى الذي أمره الله بالقول اللين، ولو قلنا إن الرفق والقول اللين مع أنه منهج لا يجوز تخطيه ولا المساومة عليه لكنه لا يعني السكوت عن قضايا الدعوة لا يعني السكوت عن مواجهة الناس بأخطائهم وانحرافاتهم وضلالهم، فهاهم أنبياء الله يعلنونها صريحة ويواجهون قومهم بشركهم وضلالهم مواجهة صريحة، أولئك الذي يعانون الفساد الأخلاقي يواجههم لوط بانحرافهم وضلالهم وأولئك يعانون الفساد الاقتصادي والاجتماعي وقطع الطريق يواجههم شعيب بذلك، وإبراهيم وموسى وهكذا فهي دعوة واحدة ومنهج واحد وأمة واحدة ومن ثم فالدعوة التي تقوم على منهج الأنبياء ينبغي أن تشعر أن قضايا الدعوة لا مجال فيها للمجاملة ولا مجال فيها للمداهنة، وأن الرفق والحكمة ليست ملازمة للصمت والإغضاء عن كلمة الحق حيث أرسل الله رسله وأخذ الله الأمانة والميثاق على من آتاهم الكتاب أن يبلغوه.

الاهتمام بقضايا العصر

الاهتمام بقضايا العصر المعلم الثامن: أن الأنبياء كانوا قضية عصرهم: فلوط عليه السلام دعا إلى التوحيد ثم ندد بالفساد الأخلاقي الذي كان عليه قومه، وشعيب عليه السلام دعا إلى التوحيد وندد بالفساد الاقتصادي والظلم الذي كان عليه قومه، وموسى دعا إلى التوحيد والإيمان وندد بالاستعباد والإهانة للناس: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22] وهكذا فالدعوة التي تسير على منهج الأنبياء ينبغي أن تقتفي معالم هذا المنهج وأن تسير على هذا الطريق فتعيش قضية عصرها. إنه لا يسوغ أن يعيش امرؤ في بلد يعج بدعاء غير الله وتقديس الأضرحة والاطراح بين يديها، ولا يعرف حينها من يعيش هذا العصر من قضية العقيدة إلا قضية الأسماء والصفات وأن القرآن منزل غير مخلوق، نعم هي قضايا من قضايا العقيدة، لكن قضية العصر ينبغي أن يعيشها. وحين يعيش المرء في موطن يحكم فيه بغير شرع الله فمعايشة العصر تعني أن تكون قضية الحكم بشرع الله عز وجل وتوحيده وإفراده قضية من أسس دعوته ونهجه، وهكذا في أي عصر ومصر ينبغي أن يعيش الداعية قضية عصره ومنهجه، بل حتى أولئك الأنبياء مع أن قومهم لم يستجيبوا بعد لقضية التوحيد إلا أنهم تحدثوا عن الفساد والضلال والانحراف الذي كان في عصرهم ونددوا به، فلا ترى سورة يذكر فيها لوط عليه السلام إلا ويذكر فيها تنديده بالفساد والشذوذ الذي كان عليه قومه، أو سورة يذكر فيها شعيب إلا وترى الحديث عن الفساد الاقتصادي وعن بخس الناس أموالهم وحقوقهم.

الولاء على أساس الحق وحده

الولاء على أساس الحق وحده المعلم التاسع من معالم منهج الأنبياء: الولاء على أساس الحق وحده، لقد ضرب الله عز وجل لنا في القرآن مثلاً: {اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ونوح حين وعده الله عز وجل أن ينجيه وأهله، وكان ابنه يرى أنه من أهله وكان في معزل ناداه نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42 - 43] حين دعا نوح ربه قال الله عز وجل له: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]. وإبراهيم حين شاقه أبوه وعانده قال له ولقومه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. إنها قضية الولاء والبراء فهي تلك التي يقولها صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأولياء إن أوليائي إلا المتقون)، فقضية الولاء والبراء قضية من أسس قضايا العقيدة لا يجوز الإخلال بها والمساومة عليها وخدشها، فهي قضية من قضايا الأمة الواحدة مما اتفق عليها الأنبياء إلى قيام الساعة؛ ولهذا توعد الله أولئك فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]. فمن يسير على منهج الأنبياء ينبغي أن يكون ولاؤه على أساس الإيمان وعلى أساس كلمة التوحيد وحدها لا غير.

الاستعانة بالله واللجوء إليه

الاستعانة بالله واللجوء إليه المعلم العاشر من معالم منهج الأنبياء منهج الأمة الواحدة: الاستعانة بالله سبحانه وتعالى واللجوء إليه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، ثم قال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فقد كان أنبياء الله يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى في السراء والضراء يلجئون إليه عبادةً وخضوعاً وتذللاً له سبحانه وتعالى، ويلجئون إليه استعانة واستنصاراً به سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان الجواب سريعاً عاجلاً: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:10 - 14]. وجدير بمن يكون على هذا المنهج ويقتفي أثره أن تكون له صلة بالله سبحانه وتعالى، دعاءً ورغبة ورهبة ولجوءاً إليه سبحانه وتعالى، واستعانة به عز وجل، واستمداداً للعون والثبات والتوفيق منه سبحانه وتعالى.

قضية النصر وحقيقته

قضية النصر وحقيقته المعلم الحادي عشر من معالم منهج الأنبياء ومعالم الأمة والواحدة وهو حول قضية النصر وحقيقته: لقد وعد الله عز وجل ووعده صادق: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]. وقد نصر الله عز وجل طائفة من أنبيائه وأهلك أقوامهم وجعلهم سبحانه وتعالى عبرة وعظة للمكذبين من بعدهم، لكن هناك من أنبياء الله من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، ومنهم أولئك الذين تجرأ عليهم إخوان القردة والخنازير المغضوب عليهم فقتلوهم، وقد عاب الله عز وجل في كتابه على أولئك الذين قتلوا الأنبياء {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112] {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21]. أترى أن أولئك الأنبياء الذين كتب الله لهم أن يقتلوا لم يتحقق فيهم وعد الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]؟ بلى والله، لقد تحقق فيهم هذا الوعد، لكن مفهوم النصر مفهوم أشمل. إنه ليس بالضرورة التمكين في دار الدنيا فقد يقتل أنبياء الله، وقد يمضون ولما يتبعهم أحد، لكن الله لن يخلف وعده رسله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] حينها يحقق الله عز وجل الوعد لأولئك، فحقيقة النصر والتمكين ليست قاصرة أو منتهية بهذه الدار. معشر الإخوة الكرام! هذه بعض معالم منهج الأنبياء، ومعالم الأمة الواحدة علنا أن نقتفي أثرهم وأن نترسم من خلالها منهجاً واضحاً محدداً نسير عليه في دعوتنا، فوالله إن منهج أنبياء الله خير وأزكى وأبر من اجتهادات البشر بأنفسهم التي هي ليست معصومة من الهوى أو الضلال أو الانحراف. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى الاقتداء بأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وأن يحشرنا تحت لوائهم وفي زمرتهم.

الأسئلة

الأسئلة

علاج الفتور الدعوي عند الدعاة

علاج الفتور الدعوي عند الدعاة Q الكثير من معاشر الدعاة يدعو إلى الله عز وجل ويجعل همه الأول: هو هداية الناس وتعبيدهم لله عز وعلا، ولكن إذا فتح الله عليه من زهرة الدنيا تقهقر عن طريقه وبدأ يتراجع عن الكثير من الهموم التي كان يحملها، ويحتج بكثير من الحجج والأسباب التي يعلق عليها؛ فضيلة الشيخ! هل من علاج لهذا الأمر وهذه الظاهرة في ضوء منهج الأنبياء؟ A نعم، فالعلاج في إدمان تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبر معانيه ومراجعته فإنه قد ينسى وقد يغفل وقد يأخذه الهوى وتأخذه دواعي الغفلة والخطأ والاجتهاد، لكن مداومته لتلاوة كتاب عز وجل وتدبره كفيلة بإذن الله بإعادته إلى جادة الصواب.

منهج الأنبياء في الدعوة توقيفي ووسائله اجتهادية

منهج الأنبياء في الدعوة توقيفي ووسائله اجتهادية Q هل منهج الأنبياء في الدعوة توقيفي أم هو اجتهادي؟ A فرق بين المنهج وبين وسائله، فالمنهج من جنس ما ذكرنا لا شك أنه توقيفي ولا بد من السير وفق ما كانوا عليه، لكن الوسائل لا تعدو أن تكون قوالب لإبلاغ المنهج وأدائه، فهي ليست توقيفية، فما دام استخدام الوسيلة جائزاً شرعاً فلا حرج من استخدامها في مجال الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأننا لم نتعبد بوسائل محددة لا يجوز الخروج عليها، وإلا فهذا يترتب عليه أن نلغي كل الوسائل المعاصرة الآن مثل وسائل الاتصال وأن لا نستخدمها؛ لأن هذه الوسائل لم تكن مستخدمة من قبل.

الصبر على البلاء في الدعوة

الصبر على البلاء في الدعوة Q القارئ لكتاب الله والمتأمل لقصص الأنبياء ودعوتهم يجد مدى ما واجه الأنبياء من التبعات والمشاق وصعوبة الطريق وثبتوا عليه عليهم الصلاة والتسليم، لكن الكثير منا إذا واجه أقل القليل مما واجه الأنبياء والمرسلون نكص على عقبيه وارتد عن طريقه نسأل الله الثبات، فهل من توجيه حفظكم الله فالأمر خطب وجلل؟ A هؤلاء من الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فالمرء ينبغي أن يعلم أن القضية قضية دين وعبودية لله سبحانه وتعالى، وأن الأمور بيد الله عز وجل أولاً وآخراً، وأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله الثبات، ويستعين به، وأن لا يسأل الله البلاء ولقاء العدو، فإذا واجه الابتلاء فعليه أن يثبت ويصبر. وقد يكون مبتلى ولا يعلم؛ لأن الابتلاء قد يكون في السراء وقد يكون في الضراء، ومن أشد صور الابتلاء أن يبتلى المرء وهو لا يعلم أنه مبتلى فيقع في الفتنة والابتلاء ويركب الغواية من حيث لا يشعر.

عصمة الرسل

عصمة الرسل Q هل الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ؟ A هنا كلام طويل حول قضية العصمة، لكنهم معصومون من الكبائر ومعصومون من الخطأ في مقام التبليغ والوحي، حتى لو اجتهد أحدهم وخالف اجتهاده النص والوحي فإنه لا يقر على اجتهاده؛ ولهذا فهو كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فالأنبياء معصومون عن الكبائر ومعصومون أيضاً في مقام التبليغ والوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي فلم يقره الله عز وجل على ذلك، وقصته مثلاً مع ابن أم مكتوم وإذنه للمنافقين إلى غير ذلك.

حكم السكوت عن الشرك

حكم السكوت عن الشرك Q يقول: هل على طالب العلم شيء عندما يرى بعض المناظر الشركية ولا يدعوهم إلى الإسلام مثل الشرك الحاصل الآن في البقيع؟ A لا شك أن الشرك يحصل في كل مكان، لكن لا شك أن عليه إثماً ووزراً، والمسلم العادي لا يسوغ له أن يسكت على منكر يراه فكيف إذا كان طالب علم، فكيف إذا كان المنكر هو من باب الشرك بالله عز وجل.

البدء في الدعوة بما يحتاجه المدعوين

البدء في الدعوة بما يحتاجه المدعوين Q بم تنصح طالب العلم الذي يريد الذهاب إلى الدعوة في الأمصار والقرى، بماذا يبدأ؟ A يبدأ الناس بما يحتاجون إليه، وأن قد تذهب إلى مناطق تنتشر فيها الخرافة والجهل والاعتقاد بالجن والسحرة، فينبغي أن تركز على هذا الأمر وقد تذهب إلى منطقة فيها أناس يجهلون الوضوء والصلاة ونحوها فتركز على هذه القضية، وقد تذهب إلى منطقة فيها فساد اجتماعي وسفور فتركز على هذه القضية، فتبدأ وتركز في الحديث ودعوة الناس على ما تراهم محتاجون إليه، وأن ترفق بالناس ولا تتصور أن الناس سيتركون المنكر سريعاً، فقد يرث هذه الأمور كابر عن كابر فتنقله منها بين عشية وضحاها، فأوصي بأن يتحدث مع الناس بما يحتاجون إليه، وأن يسأل ويعرف ما هم عليه، ثم أيضاً يرفق بالناس ويكون واقعياً فيما يطلبه ويريده من الناس.

حلاوة الإيمان

حلاوة الإيمان Q كيف أستطيع أن أذوق حلاوة الإيمان؟ A يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) ويقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).

أسباب تعين على قيام الليل

أسباب تعين على قيام الليل Q أوضح لنا بعض الأمور المعينة على قيام الليل؟ A من أهم ذلك: العزيمة الصادقة والبعد عن المعاصي واجتنابها، وسلوك الأسباب التي تعين الإنسان مثل التبكير في النوم والقيلولة وغيرها، لكن أهم سبب هو وجود العزيمة، فحين يكون عند الإنسان عزيمة وهمة يستطيع أن يفعل ما يريد، وحين تنقص العزيمة فمهما فعل من أسباب قد لا يستطيع ذلك.

أحسن كتب السير

أحسن كتب السير Q ما أحسن كتاب في هذه السير مثل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويعقوب إلى آخره؟ A قصص الأنبياء وردت في كتاب الله عز وجل، ومن أفضل شيء أن نقرأها في القرآن فتدبر ونعيد ونراجع، ثم نقرأ في كتب التفسير فإنها توضح الغامض وتجمع المتفرق وتستنبط ما كان خافياً.

نصيحة لمن يتأثر من النقد

نصيحة لمن يتأثر من النقد Q ما رأيكم في الشاب الحساس الذي يتأثر من النقد وغيره؟ وبماذا تنصحونه تجاه هذه الحساسية؟ A الله عز وجل قد نهى عن الظن، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. فقد أمر باجتناب كثير من الظن حتى لا يقع في بعض الظن، بحيث يجعل المرء بينه وبين الظن من حوله سترة فيجتنب الكثير حتى لا يقع في القليل، والمسلم عليه أولاً أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين ثم لا يشغل نفسه بما لا طائل وراءه، فالذي يشغل نفسه بأعمال الناس وأقوالهم وسلوكهم، لا يجني من وراء ذلك شيئاً، وقد يجني من وراء ذلك العقوبة العاجلة فيصاب بالهم والغم والتألم بأنه ظن بالناس ما ليسوا عليه.

معنى النصيحة في الدين

معنى النصيحة في الدين Q حديث: (الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) هل المقصود بالنصيحة في هذا الحديث الطاعة أم الوعظ والإرشاد والدعوة؟ A النصيحة: تعني قول كلمة الحق، والإعانة على الحق، والرد على الباطل، وتعني: الطاعة في غير معصية الله عز وجل.

الدعوة والعوائق التي تعترضها

الدعوة والعوائق التي تعترضها Q هل الاقتداء بالأنبياء في الدعوة يزيل العوائق التي تعيق الدعوة إلى الله ويخلص الداعية من كثير من العوائق؟ A لا، وهذه مشكلة، ومن المشكلات التي كنت أريد أن أشير إليها أن من أخطائنا أحياناً في تقويم المنهج أن تعرض الدعوة لعوائق وصعوبات يجعل هذا دليلاً على الخطأ والانحراف فيها، وهذا ليس بصحيح، بل هذا الأمر سنة الأنبياء فالأنبياء تعرضوا لعوائق وتعرضوا لصعوبات، بل العكس: قد يتهم الإنسان أحياناً إذا لم ير شيئاً من ذلك؛ لأن من طبيعة الدعوة الابتلاء والعقبات والصعوبات. لا شك أن المسلم يتحاشى ذلك ويبتعد عنه؛ لكن أيضاً لا يسوغ أن يكون هدفنا الابتعاد عن كل عائق وعن كل صعوبة لأجل أن تسلم دعوته، لقد كان إبراهيم عليه السلام حريصاً على أن تبلغ القاصي والداني ومع ذلك قال ما قال لقومه وفعل ما فعل معهم، ونوح ولوط وشعيب وغيرهم من أنبياء الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم واجه قومه وسفه أحلامهم وفعل ما فعل وواجه العقبات والصعوبات، فليست العقبات والصعوبات التي يواجهها الدعاة إلى الله عز وجل دليلاً على انحراف منهجهم، وأيضاً ليس مسئولاً عما يصيب المسلمين مما جرى، وإلا فإن ياسر وسمية قتلا لأنهما اتبعا النبي صلى الله عليه وسلم، أكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن ذلك؟! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجوا من ديارهم وأموالهم أكان صلى الله عليه وسلم هو السبب ودعوته ومنهجه هو السبب في ذلك؟! لا يمكن أن يقال ذلك. فأقول: أنه بالعكس لا بد من العوائق ولا بد من الصعوبات والعقبات وهكذا شأن الدعوة وشأن منهج الحق.

الدعوة إلى الله من غير حب مع المجتمع

الدعوة إلى الله من غير حب مع المجتمع Q إذا كان النقد والمواجهة يستلزم العداوة والأذى، كيف ترون إمكانية إصلاح المجتمع والأخطاء الصغيرة فيه دون أن يتحول المجتمع إلى ساحة قتال؟ A لا أحد يدعو إلى القتال، وإلى الصراع، لكن أيضاً لا بد منه، ولا يمكن أبداً أن نصحح الأخطاء بدونه، وها هو منهج الأنبياء إذا أردت غيره فابحث لك عن بديل فإبراهيم عليه السلام عاش صراعاً مع قومه، وموسى عاش صراعاً مع فرعون وقومه، ولوط وشعيب وغيرهم صرحوا بنقدهم لأقوامهم والمنكرات التي كانت شائعة في عصرهم ووقتهم، نعم الإنسان قد يرتب أموره قد يسقط بعض الأساليب قد يؤخر ويقدم لكن هذا كله لا ينبغي أن يكون على حساب المنهج لا ينبغي أن يكون على حساب مضمون الدعوة لا ينبغي أن يكون على حساب السكوت عن الأخطاء والتربيت على الأكتاف. أسال الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم من أتباع أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وأن يحشرنا تحت لوائهم وفي زمرتهم إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين الحجة والبرهان نور يضيء الطريق فيتضح الصواب من الخطأ، وإنما أرسل الله الرسل وأيدهم بالحجج الباهرات والأدلة النيرات حتى يعذر إلى الخلق ويقطع ألسنة المعاندين، ولذا ينبغي أن يتخذ المسلم في منهج حياته ألا يصدر ولا يرد إلا عن دليل.

مطالبة أصحاب الدعاوى بالبراهين والأدلة

مطالبة أصحاب الدعاوى بالبراهين والأدلة

مطالبة الذين اتخذوا من دون الله آلهة

مطالبة الذين اتخذوا من دون الله آلهة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فموضوع حديثنا هذه الليلة: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. ولعلنا نقف وقفات قد تطول حول آيات طويلة من كتاب الله عز وجل تؤيد هذا المعنى، وهي تطالب الناس جميعاً بأن يكون منطق الحجة والبرهان ولغة الدليل هي السائدة في الدعوى، فلا سيدعي أحد دعوى إلا بدليل وبرهان وحجة، وفي النقاش والحوار يكون النقاش والحوار أيضاً للحجة والبرهان، وحين حاولت أن أورد بعض الآيات في كتاب الله عز وجل رأيت آيات كثيرة جداً تشير إلى هذا المعنى، وهذا لعمق هذه القضية، ولكونها قضية مرتبطة بالمنهج، بالتلقي والحوار، والدعوة والإقناع كل هذه القضايا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمنطق البرهان والدليل والحجة. وسبق أن تحدثنا حول المنهج وأهميته، وحول بعض جوانب الخلل في المنهج، وأننا بحاجة إلى أن نترسم ضوابط ومعالم للمنهج. إن وقوعنا في خطأ في قضية جزئية واحدة أمر قد يتجاوز، ثم هو أمر قد تكون تبعته ليست ذات بأس، أما أن يكون الخلل والخطأ في المنهج فإن هذا مدعاة لتوالد الأخطاء، ومدعاة لتكاثرها وتعاظمها، ومن هنا كان لا بد من الحديث عن المنهج، والحديث عن المنهج أيضاً ينبغي أن يكون مربوطاً بما سبق أن قلناه سابقاً، فليس ما نعيشه ونتوهمه ونتلقاه هو بالضرورة المنهج الذي نرسم من خلاله ما نراه من اقتناعات ومناهج، والذي نقيس من خلاله الناس ونجعله كالمسطرة التي نقيس بها بعد الناس ودنوهم من المنهج. القرآن يطالب بالبرهان ويطالب بالدليل، وأن يكون منطق الناس ورائدهم هو البرهان والدليل، وهذا الأمر نراه في كتاب الله عز وجل كثير، يتمثل من خلال أمور وجوانب عدة: الأمر الأول: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى. وهذا نجده في كتاب الله عز وجل كثيراً، بل مع فئات لا يشك أحد في بطلان دعواهم وأنها لا تعدو أن تكون دعوى صادرة عن الهوى والتشهي، وعارية عن الدليل والحجة، ومع ذلك يطالبهم الله سبحانه وتعالى بالبرهان. أولاً: قد طلب الذين اتخذوا من دونه سبحانه وتعالى آلهة -وهل يشك عاقل في بطلان هذه الدعوى- طالبهم سبحانه وتعالى بالبرهان: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]. وفي سورة المؤمنون يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] ومن يشك في بطلان ألوهية غير الله؟ ومن قد يختلج لديه شك في أن الله سبحانه وتعالى الرزاق الخالق هو الواحد الأحد المستحق للعبادة؟ لكن من ادعى خلاف ذلك فليأت بالبرهان والدليل والحجة، والذي معه الحق ويملك الحق لا يخشى بحال من مطالبة الناس بالدليل، ولا يخشى مطالبة الناس بالبرهان. إنك تستطيع أن تطرح أي قضية على بساط البحث بكل وضوح وكل صراحة، وتستطيع أن تتحدى كل من يعارضك ويناقشك في هذه القضية التي تدعو الناس إليها، ولو كانت قضية بدهية، ولو كانت أكبر قضية من القضايا، هل هناك قضية أوضح وأجلى من قضية تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، ومع ذلك يطالب الله عز وجل أولئك الذين تنكبوا الطريق وعارضوا بالبرهان. وهكذا شأن من يحمل الحق، إن من يحمل الحق لا يخشى من الحوار، لا يخشى من النقاش، لا يخشى من الجدل؛ لأنه يملك الحق الذي لا لبس فيه ولا غموض، فما دام لديه برهان فليطالب الناس بالبرهان والحجة.

مطالبة الذين ادعوا لله الولد

مطالبة الذين ادعوا لله الولد ثانياً: طالب الله الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى، مع شناعة هذه القضية: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:88 - 94] ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يونس:68]. وفي سورة الصافات: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:151 - 157]. وفي سورة الكهف يقول سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5].

مطالبة الذين جعلوا الملائكة إناثا

مطالبة الذين جعلوا الملائكة إناثاً ثالثاً: طالب الله عز وجل بالدليل والبرهان أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثاً، يقول سبحانه وتعالى في سورة الزخرف: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:19 - 21].

مطالبة الذين جادلوا في آيات الله

مطالبة الذين جادلوا في آيات الله رابعاً: أيضاً طالب الله عز وجل بالبرهان والحجة والدليل أولئك الذين جادلوا في آيات الله عز وجل، ففي سورة غافر: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]. وفي سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]. وفي سورة لقمان يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20]، ولفظة العلم ترادف في كتاب الله عز وجل البرهان والحجة والدليل، إن العلم في شريعتنا ليست قضية لا يدركها إلا خاصة من الناس، قد يسوغ هذا الأمر عند النصارى الذين يرون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في فهم الكتاب المقدس، وفي تفسيره، وبيان مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا الأمر سائغاً عند أولئك الذين يجعلون لهم أئمة عدد شهور العام هم وحدهم المؤهلون لمعرفة الدين، وهم وحدهم الذين يفهمون مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا سائغاً عند أهل الخرافة الذين يرون أن التلميذ ينبغي أن يكون عند شيخه كالميت عند مغسله يقلبه كيف شاء، أما المسلمون فهم يقرءون في كتاب الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ومن يقول إن هذه الآيات يخاطب بها اثنا عشر إماماً، أو تخاطب بها فئة خاصة من الناس، فليأت بالبرهان والحجة والدليل. إذاً: فقضية العلم ونفي العلم ونفي البرهان كلها تدور حول قضية الدليل، ولهذا قال أهل العلم: إن المقلد الذي يأخذ الحكم دون دليل ليس طالب علم. والعلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد مستويان

مطالبة الذين ساووا بين المسلمين والمجرمين

مطالبة الذين ساووا بين المسلمين والمجرمين خامساً: أولئك الذين ادعوا المساواة بين المجرمين والمؤمنين، بين المسلمين والكافرين طالبهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالحجة والبرهان: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:35 - 40].

مطالبة اليهود والنصارى فيما ادعوا على الله

مطالبة اليهود والنصارى فيما ادعوا على الله سادساً: طالب الله عز وجل بالبرهان إخوان القردة اليهود والنصارى، وقد اعتاد الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم أن أولئك لا يعرفون منطق الدليل ولا البرهان والحجة، أولئك لا يحسبون لكلماتهم أي حساب، فهم إما قوم مغضوب عليهم قد لعنهم الله عز وجل وطبع على قلوبهم، أو قوم ضالون، فاليهود قوم قد غضب الله عز وجل عليهم وطبع على قلوبهم، وصاروا لا يحسبون لكلمتهم حساباً، أليسوا هم القائلون: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]؟ تعالى الله عما يقولون، أليسوا هم القائلون أخزاهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]؟ {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] يلعنهم الله عز وجل في كتابه لعنات متتابعة إلى يوم القيامة، ومع سخف مقالتهم وشناعتها وسخف مقالة إخوانهم من الضالين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، هم أولئك الذين أعاروا عقولهم لطغاة الرهبنة والقساوسة حتى يفكروا بالنيابة عنهم، وحتى يفهموا الكتاب المقدس بالنيابة عنهم، وحتى يمسخوا عقولهم ويقولون: ليس لكم حق في فهم كتاب الله عز وجل، مع ذلك يدعي اليهود والنصارى دعوى عريضة مضحكة: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، فيجادلهم الله بالقرآن، يجادلهم بالحجة والبرهان والدليل، يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً مقالتهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. نعم إن كان لديكم دليل أو حجة أو برهان فهاتوا برهانكم، وهاتوا دليلكم. وكل ما سبق من المطالبة بالدليل والبرهان، من مطالبة الذين اتخذوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، ومن مطالبة الذين اتخذوا الولد مع الله سبحانه وتعالى ونسبوا إليه الولد، ومن مطالبة الذين جعلوا الملائكة وهم عباد الرحمن إناثاً، ومن مطالبة المجادلين في آيات الله سبحانه وتعالى بغير علم، ومن مطالبة أولئك الذين ادّعوا التسوية في الدار الآخرة بين المؤمنين والكفار، وأخيراً مطالبة اليهود والنصارى بالدليل والبرهان على دعواهم أنهم وحدهم الذين يدخلون الجنة إن كل ما سبق يعطينا دلالة أنه لا يحق لأحد أن يدّعي دعوى إلا ببرهان وحجة وسلطان مبين، وأيضاً أنه لا يحق لامرئ أن يجادل أو يناقش، أو يُبطل دعوى أخرى إلا بالبرهان والحجة والسلطان. ويتنوع الحديث عن الدليل في القرآن، فتارة يأتي بالبرهان، وتارة بالحجة، وتارة بالسلطان، وتارة بالعلم، وكلها معان لها أثر ولها وقع في بيان مصدر التلقي، والحجة، والدليل، والجدل، والحوار، كله إنما ينبغي أن يكون بلغة الدليل والحجة والبرهان، والكتاب، والعلم، والسلطان وهي كلها معان تدور حول معنى الحجة وبعيداً عن العاطفة، بعيداً عن الأحكام المسبقة، بعيداً عما سماه الله عز وجل أماني ودعاوى كاذبة.

عيب القرآن ونعيه على المقلدين من غير دليل

عيب القرآن ونعيه على المقلدين من غير دليل الأمر الثاني: يؤيد هذا المعنى عيب القرآن ونعيه على أولئك الذين يقلدون غيرهم، فقد عاب الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يقلدون الآباء والأجداد، يقول عز وجل في سورة الزخرف: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22 - 23]. إن لكل أمة تراثاً ورثوه من آبائهم وأجدادهم، ويعتزون به، وينافحون عنه، أما وقد وصلت القضية إلى مبدأ الاعتقاد والدين فينبغي أن يطّرح ما عليه الآباء والأجداد، وأن يكون الدليل والبرهان والحجة هو السائد في التلقي، هو السائد في التعبد لله عز وجل، وهو السائد في منطق الحجة والبرهان، وعليه فإن من ينعى عليك أنك قد خالفت أمراً ألفه الآباء والأجداد، أو أنك أتيته بأمر لم يعهده فإن هذا قد سلك منطق أولئك الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] ولو كان يملك دليلاً وبرهاناً وحجة على ما يقول لصاغه، ولهذا صار يُضرب في وجه كل من يدعو إلى إحياء سنة قد أُميتت، أو إلى إنكار منكر ألفه الناس بأن هذا أمر لم نعهده، وهذا أمر جديد، ولو أحسنوا لقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].

عيب من قلدوا الأحبار والرهبان

عيب من قلدوا الأحبار والرهبان ثانياً: ينعى الله عز وجل على أولئك الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وتأمل في هذه الآية الكريمة، كيف ربط الله سبحانه وتعالى الأمر بعبادته والخضوع له: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31]. فمقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى تعني أن يسلّم المرء أمره لله عز وجل، بعيداً عما ورثه عن آبائه وأجداده، بعيداً عمّا تلقاه من فلان وفلان من الناس، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يتعبد الله عز وجل إلا بما جاء في كتابه سبحانه وتعالى، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

عيب الذين قلدوا السادة والكبراء

عيب الذين قلدوا السادة والكبراء ثالثاً: ينعى عز وجل على أولئك الذين يقلدون السادة والكبراء كما نعى على الذين قلدوا آباءهم وأجدادهم، وعلى الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول الله عز وجل في آيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى تحكي لنا ذاك الحوار الذي يجري يوم القيامة بين أهل النار، يقول سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67 - 68]. إن من يسير وراء سادته وكبرائه مغمضاً عينيه ينبغي أن يضع نصب عينيه هذه الآية الكريمة حتى لا يكون من أولئك الذين يقولون هذا الكلام: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67]. وفي سورة غافر يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48] نعم لقد حكم الله سبحانه وتعالى بينهم بالعدل والقسط، وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً، لقد كان على أولئك الذين استُضعفوا أن يحكّموا عقولهم وأن يفكروا ملياً فيما ورثوه عن أولئك الذين استكبروا، وأن لا يغمضوا عيونهم ويسيروا وراء أولئك ويتبعوهم دون حجة أو برهان، ألم يخلق الله لهم عقولاً؟ ألم ينزل الله سبحانه وتعالى كتباً متلوة؟ ألم يرسل الله سبحانه وتعالى رسلاً يدعون الناس لكلمة الحق؟ فلماذا يغمضوا أولئك عيونهم؟ ولماذا يعطلون عقولهم ليسيروا وراء كبراءهم ويتبعوهم وتكون النهاية أن يتبرءوا منهم يوم لا تنفع البراءة! ومع مشهد آخر في كتاب الله يحكي أيضاً هذا الجدل والتعاتب في سورة إبراهيم، يقول سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]. وفي سورة سبأ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:31 - 32] لقد سموه هدى وأتاهم الهدى {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:32 - 33]. نعم هذا عملهم، لقد كان باستطاعتهم أن يفكروا، كان باستطاعتهم أن يتبعوا الهدى الذي آتاهم الله إياه، الذي يقرءونه في كتاب الله عز وجل ويسمعونه من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، والله عز وجل يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]. إذاً فتقليدهم لكبرائهم، تقليدهم لأسيادهم، تقليدهم لطغاتهم الذين دعوهم إلى أن يمرّغوا جباههم أمام أضرحة يرجون منها التبرك، تقليدهم لكبرائهم الذين أفتوهم أن الصلاة قد تسقط عنهم، وأن الصيام لا يعدو أن يكون كتم أسرار، تقليدهم لكبرائهم وطغاتهم الذين أصبحوا يفسرون لهم كلام الله عز وجل على ما لا يحتمل فيسيرون وراءه، أو تقليدهم لكبرائهم الذين يدعونهم إلى الشهوات وإلى أن يسيروا وراءهم قادهم إلى هذه النهاية المؤلمة عافانا الله وإياكم، وهي أن يتخاصموا ويتجادلوا يوم القيامة في النار لكن حين لا ينفع الجدل، ولا تنفع الخصومة، ولن يجزيهم الله عز وجل إلا بما كانوا يعملون وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً. حينها يسدل الستار بعد أن يقول الشي

قصص الأنبياء ومطالبتهم بالحجة والبرهان

قصص الأنبياء ومطالبتهم بالحجة والبرهان لقد ساق الله عز وجل قصص أنبيائه في كتابه الكريم حتى تكون عبرة وعظة وقدوة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. ومن جوانب الاقتداء بالأنبياء الاقتداء بهم في منهج الدعوة ومخاطبة الناس، وها هي بعض الأمثلة التي تبيّن أن الأنبياء أيضاً كانوا في دعوتهم لأقوامهم وخطابهم معهم يطالبونهم بالحجة والبرهان. هود عليه السلام يقول الله عز وجل عنه في سورة الأعراف: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71] فهو يرى أن من عوامل بطلان آلهة قومه أن الله لم ينزل بها من سلطان، فلو كان لديهم سلطان فليأتوا به وليذكروه له. ويوسف عليه السلام يقول الله عز وجل عنه في سورة يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]. وإبراهيم يقول الله عز وجل عنه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:80 - 81]. ومحمد صلى الله عليه وسلم يأمره الله عز وجل أن يطلب الحجة والبرهان: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. ولو استطردنا في ذكر قصص الأنبياء في مطالبتهم بالحجة والبرهان لأقوامهم لطال المقام، والمقصود أيضاً كما أن الله سبحانه وتعالى طالب المكذبين والمعرضين والمعاندين بالحجة والبرهان والدليل، فكذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يطالبون أقوامهم بالحجة والبرهان والدليل، مع أن دعواهم كانت دعوى فاسدة، وقضيتهم كانت قضية تافهة، فهم يطالبون الذين يتخذون آلهة من دون الله بالبرهان والدليل، ويطالبون الذين يسمونها آلهة من تلقاء أنفسهم، فما بالكم بمن هو دون ذلك مما قد يكون فيه مجال للخلاف والنقاش والأخذ والعطاء؟

الحديث عن الجوارح في القرآن

الحديث عن الجوارح في القرآن

امتنان الله على الخلق بالجوارح

امتنان الله على الخلق بالجوارح الأمر الرابع أيضاً الحديث في القرآن عن الجوارح، وهو حديث كثيف، فالحديث عن الجوارح في القرآن فيه الإشارة إلى قضية الدليل والبرهان والحجة. أولاً يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن سخّر لهم هذه الجوارح، يقول في سورة النحل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78] وفي سورة الملك: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78] وفي سورة السجدة: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] وفي سورة الملك: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] ماذا يعني امتنان الله عز وجل بأن جعل لهم السمع والبصر والعقل؟ حين يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بالسمع والبصر والعقل، فهذا يعني بالضرورة أنها نعمة يمتن بها سبحانه وتعالى علينا، يعني أن تعطيلها من تعطيل خلق الله ومن تغيير خلق الله، ولا يجوز تغيير خلق الله بل هذا من تلبيس الشيطان، يقول الله عز وجل حاكياً سبيله وحجته: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]. فلماذا يخلق الله للناس السمع والأبصار والأفئدة والعقل؟ وإذا كانت سنة الله في الناس أن يتبعوا غيرهم وأن يسيروا وراءهم، فلم لم يخلق الله سبحانه وتعالى لنخبة خاصة من الناس عقولاً وسمعاً وأبصاراً، ويترك البقية كالذي ينعق بما لا يسمع، أما وقد خلق الله للناس سمعاً وأبصاراً وأفئدة وامتن بها عليهم، فهذا يعني أن يحكّموها وأن يستخدموها في البحث والوصول إلى الحق.

أمر الله عباده باستخدام هذه الجوارح

أمر الله عباده باستخدام هذه الجوارح ثانياً: أمر الله عز وجل خلقه باستخدام هذه الجوارح فيقول في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] أرأيت الذي يتلقف ما يسمع من فلان أو فلان دون أن يفكر ودون أن يتأمل ودون أن يسمع أو يبصر، أرأيت هذا قد أتى بأمر الله عز وجل فعلاً، وأتى بما أمره الله به؟ أرأيت الذي تُرفع له راية ويُعلى بصوت ويرى أمراً فيسير وراءه دون أن يسأل ويستخدم جوارحه، أترى هذا وذاك قد التزموا أمر الله سبحانه وتعالى أم تراهم ممن عابهم الله سبحانه وتعالى؟

العقوبة بالطبع على الجوارح

العقوبة بالطبع على الجوارح ثالثاً: أخبر الله عز وجل أن الطبع على هذه الجوارح عقوبة يعاقبهم الله بها، يقول الله عز وجل في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]. ويقول أيضاً: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] عجباً! يخبر الله سبحانه وتعالى أن الطمس على هذه الجوارح عقوبة يعاقب الله بها عباده، فكيف يطمس العبد جوارحه كيف يطمس قلبه ويطمس سمعه ويطمس بصره ليُصبح بعد ذلك إمّعة يقوده الناس فينقاد!

الحساب على الجوارح

الحساب على الجوارح رابعاً: أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب الناس على هذه الجوارح: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. الذي أمره الله أن يسمع، وأمره أن يبصر، وأمره أن يتفكر ويفكر، ولم يلتزم أمر الله عز وجل، أليس سيسأل عن هذا؟ سيسأله الله عن سمعه وبصره وفؤاده حين سمع ما حرّم الله، ونظر إلى ما حرّم الله، لكنه أيضاً سيسأل إذ عطّل هذا السمع والبصر والفؤاد وقد أمره الله بأن يسمع، وأمره الله بأن يُبصر، وأمره الله سبحانه وتعالى بأن يعقل بفؤاده.

عيب الذين لم ينتفعوا بجوارحهم

عيب الذين لم ينتفعوا بجوارحهم خامساً: لقد عاب الله عز وجل في القرآن على أولئك الذين لم ينتفعوا بهذه الجوارح ولم يستفيدوا منها، يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، ويقول: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:171] وهذه الآية فيها جانبان: الأمر الأول: بأن الله عابهم بأنهم صم بكم. الأمر الثاني: أن الله شبههم بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وهي الماشية والبهيمة، فهم مثل رجل يدعو بهيمته فينعق بها، فالبهيمة لا تسمع إلا دعاء ونداء، لكنها لا تفقه ما يقوله الراعي، تفهم أن هذه الكلمة كلمة زجر، تفهم أن هذه الكلمة دعوة للطعام، أن هذه الكلمة دعوة للشراب، أن هذه الكلمة دعوة للمراح والمبيت وحين يكون الناس كذلك فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فلقد عاب الله على الذين أصبحوا صماً بكماً وشبههم بالراعي الذي يقود القطيع، فينعق بما لا يسمع، حينها يأتي هذا القطيع يوم القيامة فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، ويقول عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]. إن هؤلاء الذين اتبعوا هم أولئك الذين كان يُنعق بهم، وكانوا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. وفي سورة الأنعام أيضاً يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] إذاً فالذي يُعطّل جوارحه عن سماع الحق وعن سماع الحجة والبرهان لا يسوغ أن يُمتدح بأنه يسير على الجادة، بل هو ممن قال الله عز وجل فيهم: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]. والإفاضة في الحديث عن آيات القرآن الكريم يطول، وأظن أن فيما تحدثنا عنه كفاية في دعوة الناس إلى أن يتعبدوا لله عز وجل بما في كتابه سبحانه وتعالى، وبما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، بعيداً عمّا ورثوه من آبائهم وأجدادهم، بعيداً عن تلك التقاليد والرسوم التي عهدوها وألفوها، بعيداً عمّا يسمعونه من رأي فلان وفلان من الناس، سواء كان عالماً متبوعاً أو كان سيداً مطاعاً. إن هذا كله أيضاً دليل على أن أولئك الذين يسيرون ويعطلون عقولهم ليسوا أهلاً للمدح والثناء بل هم أشبه بأولئك الذين ذمهم الله عز وجل وعابهم وأخبر أنهم ضالون.

معاناة السلف من المقلدة وذمهم للتقليد

معاناة السلف من المقلدة وذمهم للتقليد والسلف لهم مقالات طويلة في العيب على المقلّدة، وذمهم ونقدهم، ليس هذا وقت حصرها، لكني أورد أبياتاً لإمام المغرب ابن عبد البر رحمه الله يقول: يا سائلي عن موضع التقليد خذ عني الجواب بفهم لب حاضر وأصخ إلى قولي ودن بنصيحتي واحفظ عليّ بوادري ونوادري لا فرق بين مقلد وبهيمة تنقاد بين جنادل ودعاثر تباً لقاض أو لمفت لا يرى عللاً ومعنى للمقال السائر فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة ال مبعوث بالدين الحنيف الطاهر ثم الصحابة عند عدمك سنة فأولاك أهل نهى وأهل بصائر ولا يزال المصلحون يعانون من هذا الصنف من الناس الذي يحتج دائماً بما ورثه عن آبائه وأجداده، أو بما قلده عن فلان وفلان، وهي معاناة لا تعدو أن تكون كمعاناة الأنبياء حين يأتيهم قومهم يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]. المنذر بن سعيد رحمه الله كان مصلحاً، وكان يدعو للإصلاح، ولهذا يحكي معاناته مع قومه فيما رواه عنه ابن عبد البر يقول: عذيري من قومي يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن زدت قالوا قال سحنون قبلهم ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك نعم كان يعاني من أولئك الذين يحتجون عليه بقول الرجال، فإن قلت قال الله عز وجل ضجوا وصيحوا، وإن قلت قال النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن فلاناً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يترك ذاك إلا وقد أتته الحجة والبرهان في هذا.

لا اعتقاد ولا عبادة إلا بحجة وبرهان

لا اعتقاد ولا عبادة إلا بحجة وبرهان وبعد هذا السرد الطويل لهذه الآيات في كتاب الله عز وجل ولبعض ما روي عن سلف الأمة من عيبهم لأولئك لا بد من الحجة والبرهان في اعتقادنا وعبادتنا، فلا يسوغ أن نعتقد أمراً في ذات الله سبحانه وتعالى إلا وعندنا فيه حجة وبيّنة وبرهان، وإلا كنا مثل أولئك الذين حينما يأتيهم نبي يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص:7] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]. وفي عبادتنا أيضاً لا يسوغ حين يدعونا فلان من الناس ومعه حجة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعونا إلى أن نترك أمراً مبتدعاً في دين الله، فنحتج عليه بأنه أمر ورثناه واعتدنا عليه، ولم نشهد له نكيراً، فهذا هو منطق أولئك الذين يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24]. ولا يسوغ حين يُنكر علينا منكر، أو حين نؤمر بمعروف أو أمر لم نعهده، لا يسوغ حين نُدعى لذلك بدليل وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن نقابل الحجة والبرهان بما تلقيناه وورثناه من آبائنا وأجدادنا، أو ما سمعناه من فلان وفلان من الناس. وفي دعوتنا حين ندعو الناس ينبغي أن ندعو بالحجة والبرهان والدليل، وهكذا كان أنبياء الله. وفي المحاجة والمخاصمة حين نجادل وحين نخاصم الناس لا بد أن نُحاج بالدليل والبرهان والحجة، أليس الله عز وجل قد حاج الذين اتخذوا من دونه آلهة وطالبهم بالبرهان؟ أليس قد طلب السلطان من الذين جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً؟ أليس الله سبحانه وتعالى قد طلب من الذين ادعوا أنهم وحدهم هم الذين يدخلون الجنة يهوداً كانوا أو نصارى، قد طلب منهم البرهان؟ فأن يُطلب البرهان من غيرهم من باب أولى. ومن هنا فلا مقام في ميدان الحجة والجدل إلا بالدليل والبرهان مهما كنا نفترض بطلان حجة من نجادله ونُحاجه. صاحب البرهان هو الذي ينجح ويقنع الناس؛ لأن البرهان والحجة والدليل لا يقف أمامها أحد، ويخضع لها الناس الصادقون الذين ليس لديهم هوى وميل إلى حظوظ النفس. صاحب البرهان والحجة هو وحده الذي لا يتناقض، أما الذي تحكمه العواطف فهو يقول قولاً اليوم ثم تأتيه عاطفة أخرى فيقول بخلافه، ويوماً يقول القول وينقضه غداً، أما الذي دافعه ورائده الحجة والبرهان فإنه لا يتناقض، ولو رأى الدليل في غير ما قاله بالأمس فإنه يستطيع أن يقول وبكل ثقة وطمأنينة: قد كنت قلت هذا القول فبدا لي خلافه، والحق ضالة المؤمن، والرجل الشجاع الصادق هو الذي يرجع إلى الحق حين يستبين له. صاحب البرهان هو الذي يستطيع أن يطرح رأيه بوضوح بعيداً عن الضجيج والصخب والاتهام، والإرهاب الفكري، إن الذين يجنحون إلى الألقاب الواسعة والفضفاضة، الذين يعمدون إلى لغة الصخب والضجيج ورفع الأصوات، الذين يعمدون إلى مصادرة أصوات الخصوم هم أولئك الذين لا يملكون حجة ولا برهاناً، أما الذين يملكون الحجة والبرهان فهم يطرحون رأيهم بوضوح وهدوء، ويحملون أتم الاستعداد على أن يدافعوا عن قولهم، وينافحوا عنه بعيداً عن الاتهام والصخب والضجيج، والحديث عن النوايا والألفاظ المنمقة. وأخيراً: صاحب الحجة والبرهان والدليل هو الذي ينجو يوم القيامة ولو أخطأ نعم ولو أخطأ؛ لأن الله عز وجل سيسأل يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]. فالناس جميعاً سيسألون: ماذا أجبتم المرسلين فيما أتوكم به من كتاب الله سبحانه وتعالى؟ وفيما أتوكم به مما قالوه لكم وهم لا ينطقون عن الهوى؟ فلئن اجتهد المرء في أمر واتبع نصاً من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يوفق لاتباع الحق فهو مأجور على اجتهاده، أما الذين يتبعون البشر فيا ويلهم حين يسألون هذا Q ماذا أجبتم المرسلين؟ فماذا عساهم أن يقولوا؟ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في خصامه مع أهل البدع: لا بد أن نلقاه نحن وأنتم في موقف العرض العظيم الشان وهناك يسألنا جميعاً ربنا ولديه حقاً نحن مختصمان فنقول: قلت كذا وقال نبينا أيضاً كذا فإمامنا الوحيان فافعل بنا ما أنت أهل له نحن العبيد وأنت ذو الغفران أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا وإياكم الأهواء ومضلات الفتن إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

يا فتاة

يا فتاة الفتاة أمل الأمة، فهي مربية الأجيال، وسند الأبطال، ولذا اعتنى الإسلام بها فشرع لها ما يحفظ كرامتها ويصون حشمتها ويحوط عفتها وحياءها بالرعاية؛ لكن كثرت في هذا العصر الفتن وانتشرت وسائل الإثارة والانحراف، مما جعل كثيراً من الفتيات يهوين في منزلقات الرذيلة ويغفلن عما أنيط بهن من المسئولية وكأنهن لا يعرفن أنهن من بنات الإسلام.

لماذا الحديث إلى الفتاة

لماذا الحديث إلى الفتاة

لأنها الأم

لأنها الأم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (يا فتاة)، وهو حديث خاص من نوع خاص، وله لغة خاصة، إنه حديث نخاطب فيه الفتاة، نخاطب فيه الأم المسلمة أياً كان موقعها ومكانها، وهي وإن كانت فتاة يافعة الآن فهي في المستقبل الأم، وهي البانية لهذا المجتمع، وهي أساس المجتمع، فما أن ترى رجلاً إلا ووراءه أم أو زوجة، وراءه أم رعته وربته وقادته إلى ما صار إليه، أو وراءه زوجة إما أن تكون معينة له ومناصرة له ومؤيدة، أو أن تكون خلاف ذلك وتكون عقبة في طريقه. وهناك سؤال يفرض نفسه: لماذا الحديث إلى الفتاة؟ ولماذا نخصها بالخطاب؟ إنني أعرف أن الإجابة موجودة لدى أختنا، ولكني أقول: إننا نخاطب الفتاة لأنها أمنا، وهل خرج أحدنا للدنيا دون أم، وهل تنفس الصعداء قبل أن يعيش في بطن أمه أشهراً وبين أحضانها ثنيات من عمره وهي ترعاه وتعاهده، وحين يشب طوقه ويصلب عوده يعود به الحنين فطرة فُطر عليها، يعود به الحنين ليلتصق بشريكة حياته فالمرأة والرجل لصيقان، يبدأ حياته وتاريخه من خلالها، ويودع الدنيا كذلك.

لأن الكثير قد تحدثوا عنها فأساءوا

لأن الكثير قد تحدثوا عنها فأساءوا ثانياً: نتحدث إلى الفتاة لأن الكثير يتحدثون عنها، ويرفعون شعار نصرة قضيتها، فالأديب قد سطر شعره ونثره، والكاتب قد وظّف قلمه، والصحفي قد استنفر قواه فالجميع أجلبوا بخيلهم ورجلهم ما بين مفكر وعامل، ما بين متحدث وكاتب، الجميع نزلوا بثقلهم ليتحدثوا عنكِ يا فتاة، ليتحدثوا عن قضية المرأة وحقوق المرأة، ويعلو ضجيج وصخب الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتاً، لقد سمعت يا فتاة ذاك الصوت النشاز الذي كان يفخر بقضيتكِ وبكرامتكِ وبشرع الله حين يقول: حينما كنا صغاراً في الكتاتيب علمونا أن وجه المرأة عورة علمونا أن صوت المرأة عورة حقنونا بسخيف القول. علمونا أن صوت المرأة من خلف ثقب الباب عورة. وسمعت أيضاً هذا الشاعر وهو يتهكم بأعلى ما تملكين وما تعتزين به بالحجاب: مزقيه ذات البرقع لا تخافي مزقيه مزقيه لا تبالي بأمر الدين فيه مزقيه واسأليه واسألي الآيات مزقيه أي عار أنتِ فيه وسمعت الآخر وهو ابن بلدك يقول ساخراً: محجبة تريك سفور جهل ومسفرة تريك حجاب علم ومغضية تنوء من الخطايا وشاخصة إليك بغير جرم أرى كلتيهما فيذوب قلبي لآفات الهوى ويفور عزمي لقد يحيا العفاف بلا حجاب ولا يحيا بلا خلق وعزم إنها أصوات لا أشك أنكِ تسمعينها، وتقرأينها هنا وهناك، ويعلو ضجيجها، ويرتفع صخبها، وكلها تدعو إلى دعوة واحدة، وكلها تتحدث عن قضية واحدة هي قضيتكِ. لقد زعموا أنكِ مظلومة، لقد زعموا أنكِ مهانة، زعموا أنهم يتحدثون باسمكِ، ونقلوا وكالة من دون موافقة صاحبة الشأن، ودون موافقة الوكيل، فصار الجميع يتحدث ويبدئ ويعيد في قضية المرأة. يا فتاة يعلو ضجيج هذه الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح، الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتاً، ألا يحق بعد ذلك للناصحين أن يرفعوا عقيرتهم، وينادوا بصوت مسموع رافعين الراية ليقولوا: ها هنا الطريق يا فتاة، وإياكِ وبنيات الطريق وأزقة الغفلة.

لأن الإسلام أولاها العناية والاهتمام

لأن الإسلام أولاها العناية والاهتمام ثالثاً: نتحدث عن الفتاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليها العناية والاهتمام اللائق بمقامها، ففي كل عيد يخطب فيه كان يتحدث مع الرجال ثم ينصرف إلى النساء فيحدثهن ويعظهن، وتستغل النسوة هذا الأمر، وتتطلع إلى المزيد، فتبعث إحداهن لتقول له صلى الله عليه وسلم: ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا منك يوماً، فيواعدهن صلى الله عليه وسلم ويلقاهن يوماً يخصهن بحديث خاص لا شأن للرجال به. وحين نتصفح دواوين السنة، ونقرأ ما سُطّر فيها نرى الكثير من النصوص التي توصي بحقكِ ورعايتكِ والعناية بك، ولقد كان صلى الله عليه وسلم في مجمع عظيم في حجة الوداع يجعل قضية المرأة من أهم القضايا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (الله الله في النساء، اتقوا الله في النساء). ويجعل صلى الله عليه وسلم المرأة معياراً تقاس من خلاله خيرية الرجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) بل إن الأمر يتجاوز مجرد هذا التوجيه لنرى هديه صلى الله عليه وسلم العملي، ونرى تلك المكانة التي يوليها المرأة فيحبس صلى الله عليه وسلم جيشه ويؤخرهم لأن عقداً لزوجه عائشة قد انقطع، فيأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عائشة فينتهرها ويقول: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. ثم حين أقاموا الجمل وجدوا العقد تحته وقد فقدوا الماء، ونزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. إن آية التيمم يا فتاة والتي بعد ذلك أصبحت باباً من أبواب الفقه يتعلمه الصغير والكبير، المرأة والرجل، يتعلمه الجميع؛ كان بركة من بركة تلك المرأة الصالحة، أليس في هذا علو لشأن المرأة ورفعة لمكانتها؟ ويرتفع شأن المرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم منزلة أعظم من ذلك كله، فتأتي أم هانئ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقول له: (زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فيقول صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ). نعم يا فتاة هكذا كان صلى الله عليه وسلم يرفع شأن المرأة، إن كلمة هذه المرأة أصبحت نافذة على المسلمين كلهم جميعاً، فلا يجوز لهم أن يخفروا جوار هذه المرأة أو ذمتها، ويصدِّق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحكم وعلى هذا الأمان الذي تمنحه هذه المرأة أفبعد ذلك كله يحق لامرئ أن يهمل شأن المرأة ومكانتها؟ رابعاً: نتحدث عن الفتاة لأنها أم المصلحين والدعاة، أسمعتِ يا فتاة عن المصلحين والمجددين؟ أقرأتِ سير المجاهدين الصادقين؟ وهل خفيت عليكِ صفحات العلماء العاملين؟ تأملي في التاريخ وارفعي الرأس وانظري إلى سماء أمتكِ لتري هناك نجوماً تلوح في الأفق ساهمت في صياغة تاريخ الأمة وصناعة مجدها، وخطّت صفحاته البيضاء، فليس يغيب عن ناظريكِ أبداً اسم عمر بن عبد العزيز والشافعي والإمام أحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، ممن حاز قصب التجديد وأخذ منه بنصيب وافر، ولن تنسي سير نور الدين الشهيد أو صلاح الدين أو الغزنوي أو غيرهم ممن حمل روحه على كفه وسار في ميدان الوغى وشعاره: أذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بفتية يُمسون في فج من الأرض خائف يتغنى بها صادقاً من قلبه، وقد صفا قلبه لإخوانه أهل الإسلام، وغلا مرجله على أهل الأوثان، وها هي صفحات سيرة أبي حنيفة ومالك وأحمد والعز بن عبد السلام، وغيرهم كثير ممن أراد الله بهم خيراً، ففقههم في الدين فساروا ينشرون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل أولئك كلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا فتاة كم تهزكِ هذه الأسماء هزاً، وكم تطرب أذنكِ ويتشنف سمعكِ حين تسمعين بها، لكن لا تنسي أن أولئك وغيرهم كان لكل منهم أم برة صادقة طالما دعت الله عز وجل أن يجعل ابنها قرة عين لها، وكان له شريكة حياته يسكن إليها ويطمئن إليها، وهي تقول له كل صباح: والله لا يخزيك الله أبداً، وتحتمل اللأواء معه فتصبر وتصابر وتكون خير زاد له ومعين، فإذا كنتِ أنتِ أم الدعاة وأم المصلحين، وأنتِ بعد ذلك الزوجة الوفية لهم، فيحق لنا يا فتاة أن نخاطبكِ ونخصكِ بالحديث.

من أخاطب؟

من أخاطب؟ يا فتاة من أخاطب في هذه الرسالة؟ ولمن أتحدث؟ إني أخاطب الفتاة الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة، فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية، ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين وذات الشمال، وتلتفت إلى الوراء فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شاباً لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحياناً على فيلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة، فتعيش في دوامة الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمئة والتخلي عن كل معاني الفضيلة والعفة، وتسمع أحياناً أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزاً عنيفاً يقول لها: رويدكِ فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك. وتتصارع هذه الأصوات أمام سمعها، وتتموج هذه الأفكار في خاطرها، ولكن لمن الغلبة والنهاية؟ قد تكون الغلبة للصوت الناصح، والصوت الصادق، وقد تكون الأخرى فتزل بها القدم، وتهوي تحت ثقل داعي الشهوة والهوى، إنها تؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، لكن الصراع مع الشهوة قد رجح لغير كفتها، ومع ذلك كله فقد رُزقت أباً غافلاً قد شُغل بتجارته وعلاقاته مع أصدقائه وزملائه، وأماً بعيدة كل البعد عنها، لا يعنيها شأنها، ولا تشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة، والكلمة الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام. يا فتاة إن كنتِ كذلك فما أجدركِ أن نخاطبكِ، وما أجدركِ أن تقدري موقفي، فأصغي لصوتي وحكّمي عقلكِ، فإن سمعتِ خيراً فحي هلا، وإن كان غير ذلك فأنتِ وما تريدين، أما إن كنتِ من أهل الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول، وكوني رسول خير وترجمان صدق لمن وراءكِ إنني يا فتاة حين أتحدث عن هذه الظواهر فإني لستُ أخاطب كل فتاة تستمع لحديثي، سواء كانت حاضرة معي هذا المجلس، أو كانت تستمع من خلال جهاز التسجيل إني لا أخاطب كل فتاة على أنها على هذه الحال وهذه الصورة، فإن كانت كذلك فعلاً فإن الخطاب يعنيها بالدرجة الأولى، وإن كانت غير ذلك فلعلها أن تكون رسولة خير، ولعلها أن تساهم معنا في إبلاغ هذا الصوت والذي أصبح وللأسف صوتاً نشازاً، وقد اختفى تحت ركام الأصوات الهائلة التي تدعو الفتاة إلى الغواية، التي تدعو الفتاة إلى الضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحياتها وعفتها، عفواً بل صارت تتاجر بحياء الأمة كلها وعفتها وشباب الأمة، أقول: لقد اختفت تلك الأصوات الناصحة الصادقة، لقد خفت صوتها وصارت حبيسة هذا الركام من المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة والأصوات التي تعلو هنا وهناك، تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق، وتقول لهم بلسان الحال أو بلسان المقال: هيت لكم. يا فتاة اعتدت أن تسمعي الكثير من خلال الخطبة والمحاضرة والفصل الدراسي اعتدت أن تسمعي الوعظ والترغيب والترهيب، وهو مسلك مطلوب ومنهج سليم، كيف لا وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن الكريم، لكني هنا سأخاطبكِ بلغة أخرى، بلغة العقل ومنطق الحوار الهادئ لا رغبة عن الوعظ والترغيب والترهيب، ولا تفضيلاً لهذه اللغة، ولكن كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينوع أسلوبه وخطابه، بل قبل ذلك كله كان هذا من هدي ومنهج القرآن الكريم في خطابه للأمة. يا فتاة إنني حين أتحدث عن قضية الفتاة فلست أتحدث من فراغ، ولا أبني قصوراً في الرمال، أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه الثقات، فقد قرأت بعيني تلك الرسالة التي سطّرتها فتاة لصديق لم يستقبلها بالأحضان واعتذر عن مبادلة القبلات، فعاشت جحيماً لا يُطاق لتكدر خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا بسماع صوته. نعم قرأت تلك الرسالة التي سطّرتها أناملها لصديق السوء. والرسالة الأخرى، والتي كانت من شاب تائه لم يدرك الأمانة ولا مسئولية العمل فيأخذ ورقة رسمية ويطبع عليها رسالة غرام بالآلة الكاتبة ليرسلها إلى صديقته. وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن تلك المكالمة والتي كانت تفيض عاطفة وقد علا نشيج الفتاة، وارتفع بكاؤها وهي تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل، فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها، وسيختار أوفاهن له وما أبعده عن الوفاء! إنها صور كثيرة يا فتاة، لا أظن أني مهما بلغت من الإحاطة وحفظت من النماذج لا أظن أني سأدرك ما تدركين، وأحيط بما تحيطين، فأنتِ تعيشين هذا العالم، ولن أثير بعد ذلك في كشف الأسرار والحديث عمّا وراء ذلك، لكني أردت أن أقول لكِ: إني لا أتحدث من فراغ.

معذرة على المصارحة

معذرة على المصارحة يا فتاة ها أنا أتحدث عن قضايا ربما كانت فترة من الزمن في طي الخفاء، وتحت ستار الكتمان، لكنهما خياران لا ثالث لهما، أن نسدل الستار على النار وهي تدب وتشتعل، أو أن نقول الحقيقة وهي مُرة إلا أنها الخطوة الأولى للإصلاح. يا فتاة إن مبدأ المبالغة واتهام الناس أن عهودهم قد مرجت، وأن خيريتهم قد ولّت، مبدأ مرفوض، ولكن أيضاً في المقابل مع هذا الواقع لا يزال هناك في الزوايا خبايا، لا يزال في الناس بقايا من خير، وإن الحديث عن الأخطاء ينبغي أن لا ينسينا هذا الواقع، وإن الحديث حين يكون حديثاً ناصحاً ينبغي أن لا يكون حديثاً عن خطأ فلان أو فلانة، فإن هذا خرق لسياج العفة في المجتمع، وإشاعة للفاحشة، ولكن مع ذلك كله أيضاً فالتغافل والتعامي وإسدال الستار على هذه الحقائق لا أظن أنه يخدم إلا الأعداء، ولا أظن أنه يهيئ إلا لذاك الجو الذي بعد ذلك يتسع فيه الخرق على الراقع، ويهول الأمر فيه على الناصح. يا فتاة فلنكن صرحاء صراحة منضبطة بضوابط الشرع، وواضحين وضوحاً محاطاً بسياج الحياء والعفّة لتكون خطوة للتصحيح ونقلة للإصلاح، وهاهنا لن أتحدث عن الأسباب وتحليل الظاهرة، لكنها دعوة عاجلة للمراجعة وإعادة الحساب. إن غاية ما أريد أن أقوله في هذا المجلس هي الدعوة هي دعوة أرفع بها صوتي، وأشجو بها لكل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعود إلى طريق الاستقامة والصلاح، وأن تسلك الطريق التي خلقها الله عز وجل من أجله، واختارها سبحانه لتكون سائرة عليه، ولتكون أماً للأجيال.

ماذا يريدون منك؟

ماذا يريدون منكِ؟ يا فتاة لقد رأيته في السوق، وعند بوابة المدرسة، وسمعت صوته عبر جهاز الهاتف، وربما التقيت معه وسمعتِ الألفاظ المعسولة، والكلمات التي تسيل رقة وعاطفة مصحوبة بالأيمان المغلظة على صدق المحبة وعمق المودة، وربما كانت يده قد خطت رسالة لكِ تفيض بمعاني العشق والغرام، وربما دار في خاطركِ أن هذا زوج المستقبل. يا فتاة بعيداً عن العاطفة وعن سرابها الغادر، كوني منطقية مع نفسكِ واطرحي هذا السؤال ماذا يريد؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة؟ إن الصراحة خير من دفع الثمن الباهظ في المستقبل، ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم؟ وبأي لغة يتحدث عنكِ؟ إنني أجزم يا فتاة أنكِ حين تزيحين وهم العاطفة عن تفكيركِ فستقولين وبملء صوتكِ: إن مراده هو الشهوة، والشهوة الحرام ليس إلا. يا فتاة ألا تخشين الخيانة؟ أترين هذا أهلاً للثقة؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة، شاب لا يحميه دين أو خُلق أو وفاء، شاب لا يدفعه إلا الشهوة أولاً وآخراً، أتأمنينه على نفسكِ بعد ذلك؟ لقد خان ربه ودينه وأمه، وأنتِ يا فتاة لن تكوني أعز الناس لديه، أنتِ لن تكوني إلا طعماً سرعان ما يحقق مقصوده لتبقي بعد ذلك لا سمح الله صريعة الأسى والحزن والندم. يا فتاة هبي أنكِ قد بنيت علاقة مع فلان من الناس، وزادت المودة، وقويت العلاقة حتى صار خليلاً تبثينه الأشجان وتخشين لفراقه وتحزنين لوداعه، ولكن ألم تحدثي نفسكِ يوماً من الأيام بالمستقبل؟ ألم تسمعي أن هناك من ندم أشد الندم، وتمنى أنه لم يعرف فلاناً أو لم يعرف فلانة؟ ألم تسمعي أن هناك من تمنت أن فلاناً لم يمر طيفه بخاطرها وخيالها؟ من تمنت أنها لم تسمع صوته، أنها لم تخرج إلى تلك الدنيا كلها، والتي كانت سبباً في معرفته؟ وحين لا ينفع الندم في هذه الدار فقد يأتي يوماً تقولين فيه: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].

لماذا إهدار العاطفة؟

لماذا إهدار العاطفة؟ يا فتاة إن الله عز وجل حكيم عليم، ما خلق شيئاً إلا لحكمة، ولا قضى قضاء إلا وفيه الخير علم ابن آدم أو جهل. لقد شاء الله عز وجل بحكمته أن تكون المرأة ذات عاطفة جياشة تتجاوب مع ما يثيرها لتنفجر رصيداً هائلاً من المشاعر والتي تصنع سلوكها أو توجهه، وحين تصاب الفتاة بالتعلق بفلان من الناس قرب أو بعد، فأيُّ هيام سيبلغ بها؟ فتاة تعشق رجلاً فتقبِّل شاشة التلفاز حين ترى صورته، أو أخرى تعشق صوته فتنتظره على أحر من الجمر لتشنف سمعها بحديثه، وحين تغيب عن ناظرها صورته، أو تفقد أذنها صوته يرتفع مؤشر القلق لديها، ويتعالى انزعاجها فقد غدا هو البلسم الشافي. يا فتاة بعيداً عن تحريم ذلك وعمّا فيه من مخالفة شرعية، ماذا بقي في قلب الفتاة من حب لله ورسوله، ومن حب للصالحين بحب الله؟ ماذا بقي لتلاوة كلام الله عز وجل والتلذذ به؟ أين تلك التي تنتظر موعد المكالمة على أحر من الجمر، ومتى؟ في ثلث الليل الآخر وقت النزول الإلهي، فأين هي من التلذذ بمناجاة الله عز وجل والانطراح بين يديه؟ بل أين هي من مصالح دنياها، فهي على أتم الاستعداد أن تتخلف عن الدراسة من أجل أمر واحد، هو اللقاء به، إنها على أتم الاستعداد أن تُهمل شئون منزلها من أجل مطلب تافه، هو مطلب الإفاضة في سماع صوته والحديث معه، بل وما بالها تعيش هذا الجحيم والأسى فيبقى قلبها نهباً للعواطف المتناقضة والمشاعر المتضاربة. فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل حال مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق إن هذا الركام الهائل من العواطف المهدرة ليتدفق فيغرق كل مشاعر الخير والحب والوفاء للوالدين، إن هذه المشاعر والتي تهدر لفلان من الناس لا بد أن تكون حتماً على حساب ما يحتاجه أبناؤها، فحين تُرزق الأبناء فلن تجد بعد ذلك رصيداً من العواطف تصرفه لهم فينشئون نشأة شاذة ويتربون تربية نشازاً. يا فتاة العاقل حين يملك المال فإنه يكون رشيداً في التصرف فيه حتى لا يفقده حين يحتاجه، فما بالكِ تهدرين هذه العواطف والمشاعر فتصرفيها في غير مصرفها وهي لا تقارن بالمال، ولا تقاس بالدنيا؟ يا فتاة لقد خصك الله سبحانه بهذه العاطفة وهذا الحنان وهذه الرقة وهذا التجاوب مع هذه المشاعر لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، ليبقى هذا رصيداً يمد الحياة الزوجية بعد ذلك بماء الحياة والاستقرار والأنس، ليبقى رصيداً يدر على الأبناء الصالحين حتى ينشئوا نشأة صالحة، فما بالكِ تهدرين هذه العواطف لتجنين أنتِ وحدكِ الشقاء في الدنيا؟ فتارة تشتاقين إلى اللقاء، وأخرى تبكين خوف الفراق والأسى، وأخيراً تضعين يدكِ على قلبكِ خوف النهاية والفضيحة، خوف هذه النهاية المؤلمة التي أهدرتِ عواطفكِ، وأهدرتِ أعز ما تملكين من أجل أن تصلي إليها، أعرفتِ الثمن الباهض، الذي تدفعينه حين تصرفين هذه العاطفة في غير مصرفها الشرعي؟

إلى هذا الحد ترخص المرأة!

إلى هذا الحد ترخص المرأة! يا فتاة مظهر لا أشك أنكِ ترفضينه غاية الرفض، وتمقتينه غاية المقت، إنه يمثل إهداراً لشخصيتكِ وإهانة لكرامتكِ ومقومات أنوثتك، إنه تحويل للمرأة التي كرمها الله عز وجل، وجعل لها حقاً ومنزلة وأوصى ببرها وحسن صحابتها، وربط ذلك برضاه سبحانه وتعالى، وقرن عقوقها بالشرك به وعده من أكبر الكبائر. أي إهدار رخيص لقيمة المرأة حين تُجعل وسيلة للدعاية والإعلان لترويج السلع والمنتجات. فهل تصل قيمة المرأة والفتاة عند هؤلاء أن توضع صورتها على علبة الصابون أو المناديل؟ أو تزين بها أغلفة المجلات؟ أليس هذا وسيلة للإثارة والإغراء وترويج المطبوعة؟! ألا ترين يا فتاة أن في هذا إهانة وتحويلاً لكِ إلى مصدر للثراء ولجمع المال أيًّا كان مصدره. لقد بدأت يا فتاة حتى أفجر الممثلات في الغرب يشعرن بسقوط المرأة أمام قدمي الرجل ونفسيته الجشعة، فقد نشرت إحدى الصحف أن ممثلة فرنسية بينما كانت تمثل مشهداً عارياً أمام الكاميرا ثارت ثورة عارمة، وصاحت في وجه الممثل والمخرج قائلة: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا؛ حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا، ثم انفجرت باكية لقد استيقظت فطرة هذه المرأة في لحظة واحدة على الرغم من الحياة الفاسدة التي تغرق فيها، استيقظت لتقدم الدليل القاطع على عمق المأساة التي تعيشها تلك المرأة التي قالوا عنها إنها متقدمة.

قارني بين الصورتين

قارني بين الصورتين الصورة الأولى: شاب مستقيم محافظ على طاعة مولاه، قد سخَّر وقته وجهده لعبادة ربه، وأفنى شبابه في طاعته. والثاني: شاب تائه زائغ تقيمه شهوته وتقعده. فالأول: تعرض له الفتنة، وتبدو أمام ناظريه فيغض بصره ويعرض عنها، بل وينأى عن مواقعها، إنه كالآخرين يدعوه داعي الشهوة وتحركه العاطفة، لكنه يشعر أن عاطفته وشهوته مأسورة بإطار الشرع ومحاطة بسياجه. تحادثه الفتاة وتنبري أمامه وتسعى لإيقاعه، لكن لسان حاله يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. والثاني: ينهار أمام شهوته وينهزم أمامها؛ فيقضي سحابة نهاره وليله في التسكع في الأسواق، أو أمام بوابات المدارس، أو واقفاً تحت سماعة الهاتف، وربما كان يتحدث من خلال هاتف العملة فيبقى طويلاً طويلاً يحادث هذه الفتاة وتلك، يبحث هنا وهناك، يبحث عن الصورة الفاتنة والمجلة الساقطة. يا فتاة كوني واقعية، ومنطقية واحكمي بعيداً عن العاطفة، أيهما أكثر رجولة، ومن أحق بالثناء والإعجاب، الشاب الذي ينتصر على شهوته ويستعلي على رغبته استجابة لمرضاة الله عز وجل؟ أم الآخر الذي ينهار أمام داعي الشهوة ويسعى لتحقيقها على أشلاء كل خُلق وفضيلة؟

من أولى بالقدوة؟

من أولى بالقدوة؟ يا فتاة لكل أمة تاريخ تفخر به، ولكل امرئ مجد ينافح عنه ويتطلع إليه، وتتحكم ثقافة المرء وخلفيته في اختيار المحتوى التاريخي الذي يفتخر به وينتمي إليه. فهناك من غاية التاريخ عنده موروثات قديمة، ومقتنيات الآباء والأجداد من الأدوات والأواني والأثاث، وهناك من يشعر أن المنهج، والفكر، والمبدأ أثمن من هذا كله، فيعتبر أن هذا هو تراثه الحقيقي. يا فتاة حين نطبق هذه القاعدة على الفتيات فسنجد الصورة نفسها، فمنهن من لا تذكر من التاريخ إلا حكايات جدتها قبل النوم، وهناك من ترى التراث في إناء أو موروث قديم، وهناك من تمتد في التاريخ امتداداً أفقيًّا مع الجيل الحاضر والأمم المعاصرة؛ فترى قدوتها في عارضة أزياء ساقطة، أو ممثلة كافرة، أو مغنية فاجرة، ومنهن من تمتد امتداداً رأسيًّا لترى قدوتها في أم عمارة نسيبة بنت كعب، أو ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، أو في اللواتي أثنى عليهن الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] واللاتي قال الله عز وجل عنهن: {قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] ويتجاوز نظرها هذا المدى ليدرج ضمن هذه القائمة امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. يا فتاة أدعوكِ مرة أخرى لتحكمي وبمنطق العقل والموضوعية، من أولى بالقدوة؟ ومن الأحق بالأسوة؟ يا فتاة لو وضع لك الخيار أن تكوني كإحدى الطائفتين، فأين أراكِ تختارين؟ حزب عائشة وزينب وأسماء وآسية؟ أم حزب عارضات الأزياء والممثلات؟ يا فتاة حين يهديكِ عقلكِ الراشد إلى اختيار أحد الحزبين، وخير الطائفتين، فسوف تسعين حتماً للاقتداء بمن تختارين، والسير في ركابه، وإن لم تصلي النهاية التي وصلن إليها، إلا أنك في الطريق. وإليك النهاية التي تصل إليها الساقطات: إحدى الممثلات الساقطات، وأعتذر عن ذكر هذه الأسماء في مثل هذا المكان المبارك، فقد ذكر الله عز وجل في كتابه اسم فرعون وقارون وهامان. الممثلة الراحلة كما يقال مارلين مونرو نالت المال الذي تستطيع أن تحصل به على كل شيء، والشهرة التي جعلت اسمها وصورتها تملأ صحف العالم، والجمال الذي يشد أنظار الرجال إليها ويجذبهم نحوها، نالت كما يقال ثالوث السعادة: المال والشهرة والجمال، لقد وجد المحقق الذي درس قضية انتحار هذه الممثلة الشهيرة رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في بنك مانهاتن في نيويورك، حين فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخطها نفسها وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحتها عن الطريق إلى التمثيل فتقول في رسالتها: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إنني أتعس امرأة على هذه الأرض لم أستطع أن أكون أمًّا. إني امرأة أفضِّل البيت، أفضِّل الحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية. انتهى كلامها. إنه شاهد على تلك المأساة التي تعيشها أمثال هذه النسوة، والتي تراها بعض الفتيات قدوة لها وأسوة لها. وصرح بعض النقاد بأن الجاني هو كل فرد في المجتمع الغربي. قال أحدهم في إيطاليا: إنها لم تنتحر، نحن الذين قتلناها، نحن الذين نشاهد الأفلام ونقرأ المجلات. بل اعتبرها أديب آخر إنسانة لم تطق استمرار العيش في قاذورات تلك الحضارة، ولم تجد مفراً من موتها اليومي إلا بالموت النهائي. نعم لقد وجدت هذه الممثلة في الانتحار خلاصاً من شقائها، وتحرراً من واقعها، ونجاة من مستغليها والمثرين على حساب أنوثتها. قارني يا فتاة بين هذه الصورة وبين صورة تلك المرأة التي تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].

ألم تدخلي المصلى؟

ألم تدخلي المصلى؟ يا فتاة ألم تنقلك قدماك إلى المصلى؟ تفضلي علينا بدقائق من وقتكِ، وادلفي خطوات إلى مصلى الكلية، إلى هنا حيث يجتمع ثلة من الصالحات القانتات العابدات، فإحداهن تقرأ القرآن، والأخرى تركع ركعتي الضحى، والأخرى في مجلس علم وذكر. في حين يتحلق غيرهن على موائد من اللحوم البشرية، واحتفظي بهذه الصورة في الذاكرة. وحين تعودين إلى المنزل وتستلقين على الفراش تفضلي على نفسك بدقائق فاسترجعي تلك الصورة، وقارني بينها وبين فتاة تقف عند بوابة المدرسة، أو أمام محل تجاري وهي تسارع خطاها وأنظارها في كل اتجاه، هل جاء صاحبها أم لا؟ ثم هل يراكم من أحد؟ أو بين تلك التي تتصفح مجلة ساقطة، أو تحملق أمام الشاشة، أو تمسك بسماعة الهاتف؟ بالله عليكِ أيهما أهنأ عيشاً، وأكثر استقراراً؟ أيهما أولى بصفات المدح والثناء تلك التي تنتصر على نفسها ورغبتها، وتستعلي على شهوتها، وهي تعاني من الفراغ كما تعانين، وتشكو من تأجج الشهوة كما تشكين، أم الأخرى التي تنهار أمام شهوتها؟ يا فتاة تساؤل يطرح نفسه ويفرضه الواقع: لماذا هذه الفتاة تنجح ولا أنجح أنا؟ لماذا تجتاز هذه العقبة وأنهزم أمامها؟ إنها صورة تشخص أمام ناظريكِ يا فتاة، فأنتِ ترينها كل صباح في المدرسة، ترينها كل مساء في مناسبة عائلية، أو لقاء الأفراح، ترين هذه الصورة وأجزم وأنكِ وأنت تواجهينها بالسخرية اللاذعة والكلمة الجارحة؛ أنكِ تقولين من الداخل كلاماً آخر غير هذا كله. فلماذا لا تكونين صريحة؟ لماذا لا تعلني هذا الكلام الذي بداخلك؟ لماذا لا تفكرين مرة أخرى بمنطق العقل: كيف تنجح هذه وأفشل أنا؟

قبل أن تذبل الزهرة

قبل أن تذبل الزهرة يا فتاة ها أنتِ تتطلعين إلى المرآة فترين صورة وجه وضيء يتدفق حيوية وشباباً، ها أنتِ تغدين وتروحين وأنتِ تتمتعين بوافر الصحة وقوة الشباب. ولكن ألم تزوري جدتك يوماً؟ أو تري عجوزاً قد رق عظمها وخارت قواها؟ لقد كانت يوماً من الدهر شابة مثلك، وزهرة كزهرتك، ولكن سرعان ما مضت السنون وانقضت الأيام فاندفنت زهرة الشباب تحت ركام الشيخوخة، ومضت أيام الصبوة لتبقى صورة منقوشة في الذاكرة؟ وها أنت يا فتاة على الطريق، وما ترينه من صورة شاحبة وشيخوخة إنما هي مرآة لما ستكونين إليه في المستقبل بعد سنوات. إذاً فكيف تهدرين وقت الشباب وزهرته، وتضيعين الحيوية فيما لا يعود عليكِ إلا بالندم وسوء العاقبة؟ يا فتاة لقد وعد صلى الله عليه وسلم بأن من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله شاباً نشأ في طاعة الله عز وجل، والخطاب للرجال تدخل فيه النساء، في يوم تدنو الشمس فيه من الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعاً فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى أذنيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً فهلا فكرت أن تكوني من اللواتي في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟

ما للفتاة والرياضة؟

ما للفتاة والرياضة؟ يا فتاة هل صحيح ما سمعنا عنكِ، أنكِ تهتمين بمتابعة أخبار الرياضة، وأنكِ ربما لا تذكرين الدراسة، حين يكون هناك مباراة هامة، وأحياناً تستأذنين من المحاضرة لتتصلي بالهاتف فتسألي عن أخبار المباراة، ومن الفريق المنتصر؟ أصحيح أنكِ تُعجبين برياضي ماهر، وتتطلعين إلى صورته، وتتمنين أن تري منجزاته؟ يا فتاة اللهو المباح المنضبط أمر يقره الشرع، لكن هذا شأن وما تعيشه الفتاة مع الرياضة شأن آخر، أيليق بمربية الأجيال وأم الدعاة ومنجبة القادة أن تكون هذه نهاية اهتماماتها؟ وغاية طموحاتها؟ فاز الفريق وانتصر، وحصل على كذا وكذا من النقاط، فماذا حصل؟ وأي أمر كان؟ أليس للفتاة مهمة ووظيفة أعلى من هذا كله تستوجب عليها أن تحتفظ بوقتها وبعواطفها وبمشاعرها وبحماسها لما هو أسمى من هذا كله؟ معذرة يا فتاة أشعر أن الوقت يلاحقني، وأراني مضطراً للاختصار.

بم يعاب الرجل؟

بم يُعاب الرجل؟ إن أكبر عيب يوجّه للرجل أن يقال له: إنه امرأة، وحين يعيّر الرجل بالأنوثة فهذا غاية السب والشتم، إذاً ما بالكِ بالمرأة المسترجلة، ما بالكِ بالمرأة التي تتشبه بالرجال، أليست مدعاة بأن تقيم شاهداً على نفسها من واقعها، -والفعل أبلغ من القول- أنها امرأة مسترجلة أنها تدعو الآخرين إلى عيبها.

العذراء في خدرها

العذراء في خدرها يا فتاة يُمتدح الرجال بالشجاعة والكرم والنخوة، ولكن أتدرين بم تُمتدح الفتاة؟ إنها تُمتدح بالحياء، وحين يوصف الرجل بالحياء يشبّه بالعذراء ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، أتظنين يا فتاة أنكِ حين تطيلين اللسان وترفعين اللهجة، وحين تزيلين عنك غشاوة الحياء، أتظنين أنك تبلغين مبلغاً عالياً سامياً؟ أم أنكِ تضحين بشيء من أغلى ما تمدحين وتوصفين به؟

لا مجال للمخاطرة

لا مجال للمخاطرة قد يقود الفراغ -وربما الفضول- الفتاة لمكالمة هاتفية خاطفة قد تكون بداية المأساة لهذه الفتاة، فإما أن يعرف ذلك أحد الوالدين، فتقع الفتاة في دوامة من الحيرة والقلق لا نهاية لها، أو أن يتم اللقاء والفضيحة فتدمر مستقبلها وحياتها، أو أن يكون ذلك مدعاة لقتل عفافها، واسمعي لهذه الرواية في مجلة الأمة الصادرة بتاريخ 22/ 7/1987م نقرأ هذه المأساة أنا فتاة أبلغ من العمر التاسعة عشرة، في السنة الأولى في الجامعة اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، في كل مرة يبادلني التحية، وتصادف أن التقينا في مكان عام، وشعرت معه بمعنى الحياة، تعاهدنا على الزواج، ثم تقدم لخطبتي، وعشت أياماً سعيدة، وفي ذات يوم حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه عذريتي، ووعدني أن يسرع بالزواج، وبعد عدة شهور من لقائنا اختفى من حياتي وأرسل والدته لتنهي الخطوبة، ولتنهي معها حياتي كلها، فالحزن لا يفارق عيني، أعيش في سجن مظلم مليء بالحسرة واللوعة والأسى، ولا تقولي لي: إن الأيام كفيلة بأن تداويني بنعمة النسيان. فكيف أنسى ما أصابني من الذي أعطيته كل شيء، وجعلني لا أساوي شيئاً؟ إنها نهاية يا فتاة قد تكون هي النهاية التي تصل إليها كل فتاة تسلك هذا المسلك، وقد تكون أول خطوة في هذا الطريق وهذه النهاية، هي مكالمة خاطفة، فهل يستحق الأمر هذه المخاطرة؟

صور من حياة المرأة الغربية

صور من حياة المرأة الغربية يا فتاة لقد قص الله عز وجل علينا في القرآن قصص الأمم الكافرة والأمم الغابرة لنتعظ بها ونعتبر، فإليك هذه الصفحات العاجلة مما تعيشه المرأة في عالم الغرب، ذاك العالم الذي يراد لكِ أن تكوني مثلهم،

أولا هكذا تهان المرأة

أولاً هكذا تهان المرأة في دراسة أمريكية أُجريت عام 1407هـ، أشارت إلى أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء، وبخاصة إذا كانوا متزوجين منهن. وفي دراسةٍ فُحص فيها 1360 سجلاًّ للنساء في المستشفيات، تقول: إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تُصاب بها النساء، وأنها تفوق ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات والسرقة والاغتصاب مجتمعة. وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة إنها تمثل حوالي 10% من العائلات الفرنسية، أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة لمنع أن تبدو أعمال العنف هذه كأنها ظاهرة طبيعية. وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: إن الحيوانات تُعامل أحياناً أحسن منهن، فلو أن رجلاً ضرب كلباً في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجل زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد، وتقول صحيفة فرانسر عن الشرطة إن 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهن معاملتهن.

العلاقات غير الشرعية

العلاقات غير الشرعية دلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من 35 مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي نسبة تصل إلى 70% من الرجال المتزوجين. وبعبارة أخرى فإن 70% من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهن لهن. ويقول المحللون إن 90% من حوادث الاغتصاب لا تصل إلى سجلات البوليس، وفي المقابل تقول إحدى الإحصائيات: إن حادثة اختطاف تسجل كل 6 دقائق، هذه الحادثة لا تشكل إلا 10 % من صور حوادث الاغتصاب. وفي لوس إنجلوس التي أصبحت تشتهر بأنها عاصمة حوادث الاغتصاب في العالم واحدة من ثلاث فتيات فوق سن 14 عامًا معرضة للاغتصاب. وأما في فرنسا، فقد أذاع الراديو الفرنسي في يوم الأحد 25/ 9/1977م إحصائية ذكر فيها: أن في فرنسا 5 ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهن. وأذاع التلفزيون الفرنسي في القناة الأولى أن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى التي قدمها الزوج بحق زوجته التي تخونه، وبعد تقديم الدليل قالت المحكمة: ليس من حق الزوج أن يتدخل في الشؤون الخاصة بزوجته.

الدمار في الحياة العائلية

الدمار في الحياة العائلية وصورة أخرى من صور الدمار في الغرب: الدمار في الحياة العائلية. أنقذوا العائلة من الموت أنقذوا العائلة من الموت، هذا نداء أطلقه العالم الاجتماعي الفرنسي جيرند أوريل وهو النداء الثالث الذي يُطلقه خلال 30 سنة الماضية. وقد قام الباحث الغربي على امتداد سنتين ماضيتين بمسح ميداني للعائلة الغربية، تنقل فيه بين مختلف البلاد الأوروبية وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة وكندا ليعود بجعبة مليئة بالأصوات التي تحذر من اتجاه العائلة الغربية نحو الهلاك. هذه الأصوات مع تحليل واف لها جمعها في كتاب أطلق عليه عنوان: أنقذونا، والأصوات تلك هي عبارة عن الحوارات القصيرة التي أجراها المؤلف مع نساء وأطفال وآباء وأجداد حول طبيعة علاقة كل واحد منهم بأفراد العائلة الآخرين، والأصوات البعيدة كانت نادرة جداً بل هي استثنائية. وها هي المرأة الغربية تنادي: أريد العودة إلى منزلي. وهذا عنوان كتاب ألفته إحدى المفكرات الفرنسيات. وفي إحصائية في السويد تقول: إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهماً هائلاً -تقصد الحرية التي أعطيت لها- بثمن مفزع؛ وهو سعادتها الحقيقية. هذه هي حال المرأة في الغرب، هذا هو الحال الذي جنته تلك المرأة التي سارت على هذا الطريق، وهي الخطوة التي يراد لكِ يا فتاة أن تسيري إليها، وهي النهاية التي يُراد لكِ يا فتاة أن تصلي إليها، فهلا اختصرتِ الطريق من الآن؟ وهلا قطعتِ الطريق قبل أن تصلي إلى هذه النهاية.

أنت صاحبة القرار

أنت صاحبة القرار إن الاقتناع بخطأ طريق الغفلة، والممارسة الشاذة، والسلوك المنحرف أمر يشترك فيه الكثير من الشباب والفتيات ممن هم كذلك. بل أكثرهم يقتنع بحاجته إلى الالتزام والاستقامة، ولكن هذا القرار الشجاع، الحاسم يقف المرء معه متردداً متهيباً. لست أدري ما مصدر هذا التردد ما دام الاقتناع قد تكون لدى الفتاة بخطأ طريقها، وسلامة الطريق الآخر فماذا تنتظر؟ إنه التخوف من المستقبل الذي لا مبرر له. القضية باختصار يا فتاة: قرار جريء وشجاع تتخذينه، وبعد ذلك يتغير مجرى حياتكِ تلقائياً، ويهون ما بعده، فهل تعجزين عن اتخاذ هذا القرار؟ لا أخالكِ كذلك وقد عهدناكِ الجريئة، وقد عهدناكِ التي لا يقف دون رغبتكِ شيء، فأنتِ التي استطعتِ أن تسلكي خطاً ومساراً غير ما كانت عليه أمُكِ وأجدادكِ، أنتِ التي استطعتِ أن تتمردي على تلك التوجيهات التي سمعتها من أبيكِ وأمكِ، أنتِ التي استطعتِ أن تخرقي هذا السياج كله، فأين هذه الجرأة والشجاعة؟ إننا نريد أن تتضافر هذه الجرأة وهذه الشجاعة لتكوّن عندكِ دفعة لاتخاذ هذا القرار، واسألي من كُن شركاء لكِ في الماضي فاتخذن هذا القرار وسلكن طريق الهداية.

رسالة من فتاة

رسالة من فتاة أخيراً وردت إليّ رسائل كثيرة من بعض الفتيات، حول هذا الموضوع، وهي رسائل من حقهن أن نذكر بعضها، لكني أعتذر لكم وأعتذر لهن سلفاً أن أختصر بعضاً من رسالة طويلة وردت إليّ من إحدى الفتيات، إنها تصور هذا الواقع التي تعيشه هذه الفتاة. تقول: كيف يسهل لقلم مسلم أو مسلمة أن يكتب واقعاً مريراً مؤلماً لفتاة مسلمة؟ كيف يسهل لأقلامنا أن تكتب واقعاً هي متسببة فيه؟ اللهم ارزقنا الأقلام السيالة المجاهدة الداعية إليك بالحكمة والموعظة الحسنة. أولاً: واقعها في المدرسة. هي حائرة شاردة الذهن دائماً، من الطبيعي أن المسلمة كذلك وخاصة في هذا العصر الذي لا تجد فيه ما يبهج النفس، فهي لا تلام على حيرتها، ولكن الأمر الذي نلومها عليه والأدهى من ذلك هو في ماذا تفكّر؟ ولماذا الحيرة؟ من أجل أمتها؟ أم لها مكانة اجتماعية شغلت ذهنها؟ أم أنها تتأمل في ملكوت الله، أم ماذا؟ يا فتاة الإسلام للأسف لا هذا ولا ذاك، أخشى أن تُصعق يا أخي حينما تعلم الأمر الذي شغل فكر ابنة الإسلام، قبل أن تقرأه احمد الله تعالى على كل حال، وكأني بك وأنت تتخيلها وهي حائرة تفكر في عشيقها الذي كلمته البارحة، قد أتعبها وآلمها وحيّر عقلها غضبه منها. وإليك هذه الواقعة التي حدثت معي شخصياً، والتي ربما لو سمعتها من غيري لما صدقت أن تصل فتاة الإسلام وأمل الأمة إلى هذه المرحلة من الانحطاط بينما نحن في حصة فراغ وإذا بي أرغب زميلاتي وكل واحدة منهن في واد لا تعلمه الأخرى، فهذه تسرّح شعرها، والأخرى تكتب واجبها، والثالثة قد تحلّق حولها معظم البنات وكأنهن قد جمعن على مائدة! نعم مائدة من اللحوم البشرية، وأختنا المفقودة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، هي في واد آخر اقتربت منها فسلمت عليها فردت السلام باختصار شديد، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلت إلى السؤال المقصود: ما سبب حيرتها؟ أجابت بالحرف الواحد: حرف A! قلت: لماذا إنه سهل الكتابة؟ فضحكت ضحكة اتضح لي منها معنى السخرية وكأنها تقول: إنكِ جاهلة ولا تعرفين شيئاً ولستِ كالبنات، فقلت: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] وهنا تناديني زميلة أخرى من المقربات إلى صحابتنا لتسألني عن أمر ما، فقلت لها: ما بال فلانة؟ وأخبرتها الخبر فقالت: إنها تحب شاباً يسمى عبد الرحمن وقد حدث بينهما سوء تفاهم هذه الأيام، وهي على هذه الحالة من أسبوع. لا أدري ما أسطّر وماذا أدع؟ واقع تعيشه فتاة الإسلام يكاد ينطق الصخور، ربما تتهمني بالمبالغة، لا تلام يا أخي، فكيف لك يا ابن الإسلام أن تصدّق واقعاً كهذا لمسلمة؟ لا ألومك فأنت لم ترهن وهن يتحدثن بكل بجاحة وسوء أدب وكأن أمراً لم يحدث، صدقني يا ابن الإسلام أن كلماتي تكاد تنطق من حرارتها حزناً لواقعنا الأليم، وكثيراً ما أرى وأسمع وأُعاصر حوادث ووقائع تؤيد ما أقول. وأعتذر لكم لقراءة رسالتي كما وردت، أو لقراءة بعض العبارات كما وردت باللهجة العامية. تنتقل أختنا لتصور صوراً من حوارها مع بعض الفتيات، وتحدثها إحداهن عن برنامجها تقول: أصل إلى البيت الساعة الواحدة ظهراً ثم أصلي الظهر. كم تستغرقين؟ خمس دقائق. ثم ماذا تفعلين؟ بصراحة أكلم خالد. كم تستغرقين؟ نصف ساعة. سؤال آخر: متى تنامين؟ والله أنوم الساعة الواحدة أو الثانية عشرة. وتقومين الفجر؟ لا، سامحكِ الله أقوم متى كلمت محمداً. من محمد؟ محمد عمرها حياتها يكفي. الساعة كم؟ متى كلم الساعة الثانية أو الساعة الثالثة أستيقظ. وتستيقظين ولا تتعبين؟ نعم أقوم، وإذا ما قمت له فلمن أقوم؟ وكم تستمرون في المكالمة؟ والله متى ما رغب أغلقت السماعة، وأغلب الأحيان على رغبتي ساعة بعد الفجر. أين أهلكِ من هذا كله؟ ماذا تقولين؟ بعد أن أطلقت ضحكت عالية لفتت أنظار الجميع أهلي! أمي بعد العصر في زيارة، والوالد في العمل، وإخواني مع المعذرة لهذه العبارة وإخواني ألعن مني، وفي الليل نائمين. وبعد ذلك انتهى بنا المطاف، وهنا قفزت أسئلة كثيرة إلى ذهني، ووددت لو سألتها ولكن أين هي؟ لقد ذهبت مع صاحبتها. لا حول ولا قوة إلا بالله، أيعقل يا فتاة الإسلام أن يكون هذا يومكِ؟ وهكذا دوماً تسير حياتكِ؟ أين كتاب الله في قاموس حياتكِ؟ أين الأذكار النبوية؟ أين الدعاء والإلحاح على الله؟ أين المحافظة على الصلاة في وقتها والخشوع فيها؟ أين معاني الوحدة التي تربطنا بإخواننا؟ أين أين وأين يا فتاة الإسلام؟ آسفة يا أخي لقد أزعجتك وسمعك بهذا الواقع، ولكن هي الحقيقة، ولا بد أنك الآن شاخص العينين، مشدود الفكر في واقع أختنا والذي يعد واحداً من المئات، لا أدري ما شعورك الآن بعد قراءة هذه الكلمات من أفواه المسلمات؟ أما أنا فلم يعد في مقدوري المواصلة، وهنا يقف قلمي ليعلن استسلامه، وما بقي أكثر مما ذُكر ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهنا انتهت هذه الرسالة. هذه

لماذا لا نعمل؟

لماذا لا نعمل؟ كثير من الناس يؤمن بضرورة العمل للدين والدعوة إلى الله، ويعتقد أن ذلك من الواجبات، لكن حين يجيء التطبيق تفاجأ بالتقاعس والتقصير، وذلك له أسبابه ومشكلاته، ولها حلول يمكن العمل بها لتفادي هذا القصور.

مشكلة عدم العمل

مشكلة عدم العمل الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد. فلماذا لا نعمل؟ يُقال: إن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، ونحن أحوج ما نكون في تفكيرنا إلى أن ننظر إلى الأمام دائماً، وهناك قضايا قد استقرت في أذهاننا وأذهان الناس، إعادة مناقشتها وتقريرها والتأكيد عليها أظن أنه رجوع إلى الوراء، اللهم إلا إذا كانت وصايا للتذكير وإعادة الحافز فهذا أمر نراه في كتاب الله سبحانه وتعالى كثيراً. مشكلة تُطرح كثيراً ونُعاني منها في أوساط جيل الصحوة وشباب الصحوة، ذلكم أن قضية الدعوة إلى الله عز وجل أظن أنها أصبحت قضية مُدركة عند الجميع، فالجميع يدرك وجوب الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم، ولا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل في حق شباب الصحوة وجيل الصحوة قد غدت فرض عين، وأننا يجب أن نبحث عن الأساليب والوسائل ويجب أن ندعو ونعمل، وهي قضية لا يجادل فيها شخص ولا يناقش، لكن حينما نقارن بين هذه القناعة الموجودة عند الشباب وبين أثرها الواقعي -أي: بين القناعة وبين العمل- سنجد المفارقة، سنجد أن المسافة شاسعة جداً بين أولئك الذين يقتنعون بضرورة الدعوة والعمل والمشاركة، وبين أولئك الذين يعملون، وحتى تدرك صدق هذه الدعوى فانظر إلى أي تجمع في أي مكان، كمدرسة فيها ثمانمائة طالب أو يزيدون ستجد فيها مثلاً عدداً من الشباب المتدينين الذين يشاركونك هذا الشعور، وكل واحد منهم يشعر بأن الدعوة إلى الله عز وجل واجبة عليه، وأنه ينبغي أن يساهم فيها، لكن كم هم الذين يعملون من هؤلاء؟ ولو كان هؤلاء يعملون لرأيت أثرهم واضحاً ظاهراً في هذا التجمع الذي يعيشون فيه. تجمع مثلاً في حي سكني، لو فتشت فيه عن أولئك الذين يقتنعون تمام الاقتناع ولا يخالجهم أي شك أو تردد في وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وضرورة المشاركة والعمل ثم قارنت بين حجم هؤلاء وبين عملهم ونتاجهم لوجدت أن المسافة شاسعة جداً. من الطبيعي مثلاً أن تجد أناساً لا يعملون وهم يقتنعون، وقد لا تحصل مشكلة كبيرة عندما نجد اثنين أو ثلاثة بهذه الصفة، لكن حينما نجد أن المسافة واسعة إلى هذا الحد نشعر بهذه المشكلة، وأظن أننا جميعاً نشعر بهذه المشكلة، بدليل أننا نتساءل عن ذلك، وأنا أتوقع أنني سأجد اليوم من الأسئلة التي ترد إلي: أني شاب مقتنع بأني في الدعوة لكني لا أعمل، ما هو الحل في نظرك؟ فنحن نتساءل كثيراً، إذاً: نحن مقتنعون تماماً بهذه المشكلة، ويدفعنا شعور بضرورة حل هذه القضية، وبضرورة تحطيم هذه الحواجز التي تحول بيننا وبين العمل، فنتصور أن هذا الحل إنما يتم بإقناع الناس فيه بالدعوة، بإقناع الشباب بأهمية الدعوة، بإقناعهم بوجوب الدعوة إلى الله عز وجل، أنا أظن أن هذا رجوع إلى الوراء في التفكير. يا أخي هؤلاء مقتنعون تماماً بأن الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم قد غدت واجبة، بأن المشاركة في حقهم قضية ينبغي أن لا يناقشوا فيها، لكن لا يعملون؟ إذاً: هناك مشكلة أخرى غير هذه القضية، فيجب أن نفكر لماذا نحن لا نعمل؟ لماذا الناس لا يعملون؟ تذكير الناس بأهمية الدعوة، تذكير الناس بوجوبها، تذكير الناس بالقضايا البدهية المستقرة عندهم أمر لا شك فيه والنفس تحتاج إليه، ولهذا يأتي التكرار كثيراً في القرآن والسنة، لكن حينما نتصور نحن أن مكمن الداء هنا ومكمن المشكلة هنا! فهذا يعني أننا كما قلت نرجع بالتفكير إلى الوراء يا أخي هذه قضية تجاوزناها، ويجب أن نقول للناس إننا تجاوزناها، وأنا أقول بصراحة لمن يحتاج إلى أنه تقنعه بضرورة الدعوة والمشاركة: أنا أقترح أن ندعه جانباً ونتجاوزه، والوقت لا يحتمل، ويجب أن يشعر أنا نقول له: إننا قد اتجهنا إلى الأمام والقضية التي تريد أن نخاطبك فيها قضية قد تجاوزناها نحن، ونحن الآن همنا ومشكلتنا في البحث عن الوسائل، في البحث عن المشكلات، في البحث عن قضية: لماذا هؤلاء لا يعملون؟ أما أن نقنعك بأن هذه قضية مطلوبة! فهذه قد صارت قضية الناس كلهم، ربما من مرحلة سابقة كانت قضية الدعوة والدعاة مصطلحاً للنخبة كما يُقال، يعني: كانت قضية تهم جيل الصحوة، أما الآن فحينما تقول: فلان داعية فهذه كلمة لا تحتاج إلى توضيح، ولا تحتاج إلى شرح عند عامة الناس، عند الجميع، ولم تعد قضية خاصة بجيل الصحوة. إذاً أقول: إننا ونحن نريد من جيل الصحوة أن يعمل يجب أن نبحث عن مكمن الداء، وما هو أساس هذه المشكلة، وأنا أتصور أنه ليس أساس المشكلة هو أن هؤلاء يحتاجون إلى أن نقنعهم بالدعوة وضرورتها وفضائلها هذه قضية يمكن أن نذكرها من باب التذكير، من باب الحث مثلاً، عندما نشعر أن الهمم قد ضعفت وفترت، وهذا لا بد منه بين آونة وأخرى، أما أن نتصور أن هذه مكمن الداء وهذه المشكلة أنا أظن أنه رجوع بتفكير الناس إلى الوراء. يجب أن نشعر أن هناك قضايا كثيرة نحن بحاجة أن نتطلع إليها، وأن نتحدث

العوائق عن العمل

العوائق عن العمل

العجز والكسل

العجز والكسل من أول العوائق: العجز والكسل. ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله عز وجل منهما يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). ومرجع بلاء الإنسان أصلاً كله إلى العجز والكسل فإن الإنسان الذي يمتنع عن إتيان عمل إما أن يكون غير قادر على أداء هذا العمل، وهذا هو العجز، أو أن يكون قادراً لكنه لا يريد أن يعمل وهذا هو الكسل. والعجز والكسل هما مصدرا الهم والحزن أيضاً، فإن الهم والحزن قرينان، فالإنسان إن كان مصدر قلقه وألمه عن أمر مضى فهذا حزن، وإن كان مصدر قلقه عن أمر سيأتي فهذا هم، ومصدر الهم والحزن أصلاً يعود إلى العجز والكسل؛ لأن الإنسان مثلاً عندما يشعر بأن هناك شيئاً أمامه يمكن أن يواجهه ويعيش هماً وألماً وقلقاً فهذا في الواقع نتيجة عجز وكسل. يا أخي هذا الذي سيأتي وتتوقعه إن كنت قادراً عليه فتخلص من همه واعمل، وإن كنت غير قادر فعلاً فسلم أمرك لله وفكر كيف تتعامل مع هذا الأمر الواقع؛ لأن هذا أمر واقع فرض نفسه فكيف تتعامل معه؟ والحزن كذلك، هذا أمر مضى فهل تستطيع أن تعالج آثاره، وتتخفف منه فاعمل وبادر، وإذا كنت لا تستطيع فسلم الأمر لله عز وجل وفكّر فيما ينفعك، فالانشغال بالهم والحزن إنما هو صورة من صور العجز والكسل، ونتيجة للعجز والكسل. والمقصود أن العجز والكسل هو الذي يعوق الإنسان عن مصالح دينه ومصالح دنياه، وكم يرى الإنسان أن هناك فرصاً كثيرة يمكن أن تتاح في أي ميدان من الميادين. على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه النقطة؛ لأن هذا الأمر ندركه في أنفسنا، وستأتي قضايا لها ارتباط بهذا الأمر.

خوف الفشل

خوف الفشل عائق ثان: خوف الفشل. وهذه مشكلة خاصة في بداية الطريق عند أولئك الذين لا يعملون، هناك فئة من الناس يجيد أن يتصور الفشل، يا أخي أنت إذا أردت أن تعمل فلماذا تنظر نظرة سلبية؟ إذا كنت تريد أن تعمل فإن أمامك احتمالين: احتمال أن تنجح، واحتمال أن تفشل فلماذا تغلب احتمال أن تفشل؟ لماذا لا تفترض أنك ستنجح في العمل؟ والإنسان الذي يتصور الفشل في أي مشروع وأي عمل لا يمكن أن يعمل، وأعطيك نماذج من حياتك التي مرت عليك، فمثلاً: جميع الشباب الذي أمامي يدرسون وكثير منهم قد تجاوز المرحلة الثانوية، وعدد من الإخوان تجاوز المرحلة الجامعية، وربما يدرس دراسات ما بعد المرحلة الجامعية، كل واحد منكم وهو يسجّل في المرحلة الثانوية، أو وهو يدرس عنده احتمال واحتمال قوي أن يفشل، فلماذا لم يسيطر عليك هذا الاحتمال؟ ولم تتردد إطلاقاً في الدخول في هذا الميدان مثلاً حتى لا تفشل؟ وعندما تدخل الامتحان في أي مادة من المواد الصعبة يكون عندك احتمال كبير أن تفشل، فهل تغيب شخص يوماً من الأيام عن الامتحان، والسبب أنه خائف أن يفشل، وربما بعض الطلاب عنده احتمال النجاح بنسبة (1%)، يقول: يا أخي أنت ويش خسران، ادخل الامتحان ويمكن تفشل لكن افرض أنك فشلت فلا يضرك شيئاً، كثير من الطلاب قبل الامتحان يتخوفون كثيراً، ونسبة منهم عندما يرى الأسئلة يبدأ مؤشر النجاح يزيد عنده ومؤشر الفشل ينخفض، والبعض بالعكس، لكن ستجد نسبة كبيرة من هؤلاء عنده احتمال أن يفشل فعلاً، وبعد أن يطّلع على الأسئلة عنده احتمال فشل، وقبل النتيجة وهم في انتظار النتائج لا يزال عنده احتمال الفشل، والطلاب المتفوقون هم أكثر الناس خوفاً من الفشل؛ لأنه إذا كان الفشل بمقياسك هو الرسوب! فهو إذا حصل في هذه المادة على أقل من تقدير ممتاز فإنه يعتبر هذا فشلاً بالنسبة له، وهو من أكثر الناس هواجس، أنت ربما تعودت أن تأخذ بعض المواد في الدور الثاني أو تحملها معك إذا كنت في مرحلة جامعية وصارت القضية عندك سهلة، لكن هذا الطالب المتفوق من أكثر الناس خوفاً من الفشل المقصود أن هذه الآن تجربة مرت علينا جميعاً ولم تكن عائقاً لنا عن هذا العمل، مع أنه ربما يصل عندنا نسبة احتمال الفشل إلى نسبة كبيرة، ومر معنا مواقف في حياتنا الدراسية كنا نخاف فيها من الفشل ونجحنا واستطعنا أن نتجاوز هذه العقبة، وخذ كل الناس الذي يعملون في الحياة، أحياناً يأتي إعلان عن وظيفة، يقول لك: ليس عندنا إلا فرصة واحدة من خمسين واحد، أو مائة واحد، أو ثلاثمائة واحد! وما عنده مشكلة، فيتقدم ويدخل مقابلة شخصية ويقدم مؤهلاته ولو كان يشعر أن في هؤلاء كثيراً ممن يتفوقون عليه بالمؤهلات، لكن قدم واعمل ولن تخسر شيئاً. وفي سنة من السنوات في مرحلة من المراحل كانت الفرص قليلة عندنا، وكنت أقول لكل طالب يأتي في المقابلة: إن نسبة قبولك واحد إلى عشرة، يعني: من كل عشرة متقدمين سوف نقبل واحداً، فيجب أن تضع هذا في ذهنك، ويدخل المقابلة وهو بهذا الشعور مع أنه يعرف كل شيء، أنت الآن معدلاتك أقل من معدلات غيرك، مؤهلاتك قدراتك؟ يقول لك: أنا أدخل مقابلة ولن أخسر شيئاً، يا أخي أنا مستغرب صراحة من الروح التي عند هؤلاء، فكل واحد من هؤلاء يدخل وهو يعرف أنه لن يُقبل إلا بنسبة عشرة بالمائة! ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سينحسر الفرات على جبل من ذهب سيقتتل الناس عليه وما يبقى إلا واحد، وكل واحد يقول: يمكن أن أكون أنا الواحد. على كل حال أنا لو ضربت لكم أمثلة من حياتكم اليومية لطال بنا الوقت، لكن أظن أن الأمثلة التي ضربتها كافية، وكل واحد منا مرت عليه مواقف ولم يكن يوم من الأيام هاجس خوف الفشل عائقاً عن هذا العمل، خذ الناجحين في أي ميدان من الميادين في الحياة، مثلاً رجل تاجر، هل تتصور أن التجارة عامل مربح مائة بالمائة؟ لا يا أخي، هو عرضة لأن يفشل، ويمكن أن يفلس، وعرضة أن يدخل السجن لأجل مشكلة مالية، وقد يدخل صفقة كبيرة ممكن أن ينجح فيها ويحصل على أرباح طائلة وممكن أن يخسر فيها كل ما أنفق، ومع ذلك لا يعيقه هذا الاحتمال عن الدخول في الصفقة. خذ أي إنسان ناجح في الحياة، فالكاتب قد يكتب كتاباً ويفشل، متحدث، خطيب، شاعر، أي شخصية تعجبك ضعها في ذهنك، واعلم أنها كانت عرضة للفشل، ولو كان يفكر بالعقلية التي تفكر بها لما أقدم على هذا العمل أبداً إذاً يا أخي هذه طبيعة الحياة كلها، والفشل احتمال لكل من يعمل، فلماذا يسيطر علينا وحدنا هاجس الفشل، بينما أصحاب المطامع الدنيوية ليس عندهم مشكلة، ولا يخافون الفشل، حتى المجرمين واللصوص عنده احتمال فشل بنسبة عالية، ومع ذلك لا يعوقهم هذا الأمر عن مواصلة مسيرتهم. هذا مع أن قضية الفشل غير واردة عندنا أعني في الأمور الدعوية، افترض أنك قمت بأي عمل دعوي كأن تلقي موعظة، فأكبر مصيبة يمكن أن تحل عليك هي أن تقوم أمام الناس ثم يُغمى عليك، فافترض أن هذا قد حصل، فهل تعتبر هذا فشلاً؟ لا، ليس هو بفشل. ويمكن أن تتكلم وتتلعثم وتخطئ لكنك ستقول شيئاً

الخوف من تبعة الأخطاء

الخوف من تبعة الأخطاء أمر ثالث: الخوف من تبعة الأخطاء: الشخص الأول يخاف أن يفشل والشخص الثاني يخاف من تبعة الأخطاء، يقول: إني أخاف أن أقع في خطأ فأتحمل تبعة هذا الخطأ، فهو مثلاً يخاف أن يتحدث مع الناس ويقول كلمة يزل بها فيأثم، أو يخاف أن ينكر على شخص بطريقة معينة فيتسبب في كرهه للمعروف، وصده عن الخير. تعالوا مثلاً إلى الناس الذين كانوا في قمة النجاح بعد الأنبياء، وهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مرت عليهم مواقف وقعوا فيها في أخطاء، ومع ذلك لم تكن عائقاً، مثلاً أسامة رضي الله عنه عندما أراد أن يقتل رجلاً فلاذ منه ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قتله، وأتى أسامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، قال: أشققت عن قلبه؟) حتى ضاق الأمر على أسامة وقال: (وددت أني أسلمت يومئذ) من ثقل الأمر عليه. الآن أسامة وقع في خطأ بسبب الجهاد، فهل توقف أسامة عن الجهاد بعد ذلك؟ كلنا نعرف أنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جهّز جيشاً يقوده أسامة مع أنه وقع في الخطأ، لو كان يفكّر بنفس العقلية التي نفكّر فيها كان على الأقل يقول: يا أخي أنا أعيش مع الناس لكن عندما أقود الجيش أي مسئولية كبيرة سأتحملها؟ لكن كان يشعر أن هذا خطأ وقع فيه، وانتهى والله عز وجل يغفره، وفعلاً ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصعدوا المنازل العالية وليرتقوا وهم يفكرون هذه الأفكار، أو يعيشون هذه الأوهام التي نعيشها. خذ على سبيل المثال أيضاً: سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا في الشهر الحرام، وأنزل الله عز وجل فيهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217] ومع ذلك ما صدهم هذا ولا عرف أن واحداً من هؤلاء الذين قاتلوا في هذه السرية تخلف عن الجهاد حتى لا يقع في الخطأ نفسه، وهي مواقف كثيرة نراها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نرى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقعون في الخطأ بحكم الطبيعة البشرية؛ ومع ذلك لم يكن هذا الخطأ صاداً لهم عن أمرهم.

تهويل الأمر أو تهوينه

تهويل الأمر أو تهوينه أمر آخر: تهويل الأمر أو تهوينه. هما نقيضان، أحياناً يهول إنسان أمراً فيصور أنه قضية صعبة جداً، وهذه قضية لا يطيقها إلا الناس الكبار، فمثلاً: عندما تذكر الدعوة يقول: الله المستعان! الدعوة تحتاج إلى إنسان يحمل العلم الشرعي، يجب أن يكون إنساناً حليماً، يجب أن يكون إنساناً شجاعاً، يجب أن يكون إنساناً وقوراً، يجب أن يكون له قيمته وكلمته عند الناس، يجب يجب يجب، ويذكر قائمة طويلة جداً من الأمور التي أجزم لك أنها لا يمكن أن توجد في أحد، لأن الناس بشر، فيمكن أن تجد إنساناً عنده علم لكنه إنسان سريع الغضب، أو تجد رجلاً حليماً لكن عنده قصور في العلم، أو عنده قصور في قدرته على الإقناع. وأنت لو قرأت في تراجم السابقين لوجدت أن منهم من كان يغضب، ومنهم من كان فيه صفة أخرى وما كانت تنقص من قدره، وبقي إماماً ورجلاً مشهوراً، لا تزال الأمة تتغنى به وبما فعل. أقول: أحياناً يصور للناس أن الدعوة قضية صعبة جداً لا يقوم بها إلا أناس يحملون مواصفات معينة، أو أنه يهوّن لك القضية ويعتبرها قضية تافهة، وكلاهما مما يعوق عن العمل.

أوهام المستقبل

أوهام المستقبل من العوائق أوهام المستقبل: بعض الناس يجيد تصور الأوهام، ويجيد وضع احتمالات السوء، فيقول: محتمل أن يقع كذا، وكذا، والإنسان الذي يعيش هذه الاحتمالات لا يمكن أن يصنع شيئاً، وربما كان هذا جزءاً من القضية التي أشرنا إليها قبل قليل وهي قضية الفشل، لكن هذا قد يطرح لك قضايا أخرى، ويبدأ الإنسان يتخوف من أي عامل، ومن أي مؤثر، ويبدأ يخلق أمام نفسه حواجز وأوهاماً عجيبة جداً، وأنت تجد هذا عندما تطرح أي مشروع على شخص، يقول لك: يا أخي يمكن أن يحدث كذا، ويمكن أن يقال لك كذا، ويمكن أن يفهمك الناس خطأ، ويمكن كذا إلى آخره. نحن نقرأ كل يوم سير الأنبياء والمصلحين، فهل تتصور أنهم يعيشون على الأوهام التي نعيشها؟ فأنتم تقرءون في القرآن مثلاً مواقف إبراهيم وكيف بذل؟ وكيف دعا؟ وكيف تحمل؟ وكان يعرف هو أن الموقف الذي كان يقفه سيجد من ورائه تبعات. وكذلك تقرأ قصة موسى في القرآن، وتقرأ قصة هود، وصالح، وغيرهم من الأنبياء دعنا من الأنبياء وانظر في قصة مؤمن آل فرعون، فلا شك أنه كان يتوقع أشياء كثيرة لكن مع ذلك قام بهذا الدور حتى قص الله علينا قصته في القرآن فصارت عبرة لمن جاء بعده. تقرأ في القرآن مثلاً قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، وحين سمع رجل بهذه القضية جاء وقام بدوره وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:20 - 22] وحصل له مشكلة حتى قتل، وأظن أن هذا لو كان يفكّر بالعقلية التي نفكّر فيها ما كان يمكن أن يقوم بأي دور ولا أي عمل.

الورع الزائد

الورع الزائد من العوائق الورع الزائد: أحياناً تقول: يا أخي قل كلمة، افعل هذا الأمر، فيقول لك: يا أخي الله المستعان، ما أنا بأهله، وهذا منطق عجيب! فهو جاد يرى أن من الورع أن لا يقول هذه الكلمة. ذات مرة كان هناك طالب علم ورجل خيّر فقلت له: يا أخي أريدك أن تلقي كلمة أو محاضرة، فقال: لسنا أهلاً لهذا الأمر والله المستعان، قلت له: أنت الآن تدرس وتعلم طلاب العلم، وتقول كلاماً وتأخذ عليه أجراً فهل تورعت في يوم من الأيام وأنت تعلم العلم وتوقع عن رب العالمين وتدرس الناس العقيدة، أو تدرس الناس تفسير كلام الله عز وجل! إنك لم تفكر أبداً أنك تكون ممن قال في القرآن بما لا يعلم، ولا فكّرت يوماً من الأيام أنك تخشى أن تقول على الله عز وجل بغير علم في العقيدة أو الفقه لأنك تأخذ أجراً على هذا العمل، لكن حين تلقي موعظة على الناس تحسب ألف حساب وتتخيل أن هذا من الورع، إنها المفارقات عجيبة! ومنطق عجيب جداً! دعنا من هذا، فيمكن أن أعطيك سؤالاً آخر: أنت الآن تورعت عن أن تتكلم لكن أليس هناك باباً آخر في الورع؟ ألا تتورع عن السكوت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فبدأ بقول الخير، إذاً فأنت قل خيراً أو اصمت، لكن حينما تشعر أنك قادر أن تقول الخير فإنك يجب أن تقوله. أنت تتصور الآن أن من الورع أن تسكت، وأن لا تتكلم لكن يا أخي أليس من الورع أن تتكلم؟ وما فكّرت يوماً من الأيام أنك حين تهم بالسكوت، أو تهم بالقعود عن العمل أن الورع يدفعك إلى العمل، وأنك ترى أن من ورعك أن تعمل، لأنك عندما تفكر تجد أن هذا كلام لا بد منه، لأني عندما أعرف ما عند الناس من فساد، وأعرف حاجة الناس إلى ما عندي، وترددت بين أمرين: إما أن أسكت ولا أعمل شيئاً ورعاً، وإما أن أجتهد وأبذل السبب وأعمل ولو وقعت في خطأ ووقفت بين يدي الله عز وجل أقول له: يا ربي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فقد أتيت بما في وسعي واجتهدت، والله عز وجل يغفر للإنسان: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران). وهذي ليست قضية خاصة بالحاكم، فكل إنسان اجتهد في ميدان بذل وسعه وخطا خطوة وكانت خطوة غير صائبة فهو مثاب على ذلك، وإن أصاب فله أجران! الأنبياء هم أئمة الورع وهم الذين قص الله عز وجل قصصهم في القرآن، هل تورع واحد منهم في يوم من الأيام عن النصح، وأخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه أنه أخذ الميثاق على الذين آتاهم الكتاب: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران:187] وأنتم كلكم أوتيتم الكتاب، فأنتم تقرءون القرآن، وعدد منكم يحفظ القرآن أو يحفظ أجزاء من القرآن، أو على الأقل القضية الذي نريد القيام قد أوتيها من الكتاب، فهو يعلمها ويعلم حكمها، إذاً فقد أُخذ عليك الميثاق أن تبين للناس، وأن لا تكتم ما عندك، فلا مجال للورع في هذا الأمر. أفلا تشعر أنه قد أُخذ عليك ميثاق غليظ؟ ألا تشعر أن من الورع أن تتورع عن كتم هذا الأمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً أوتيه أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)؟ أم تتصور أن هذا الخطاب خاص بالعلماء؟ لماذا أنت تتورع أن تقول ما لا تعلم، أو تخشى أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت آمركم بالخير ولا آتيه) لكن لم تفكر في يوم من الأيام أنه يمكن أن ينطبق عليك: (أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)، والله عز وجل يقول في كتابه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]. وهذه الآية ليست خطاباً لفئة خاصة من الناس، بل كل إنسان يعلم شيئاً أنزله الله عز وجل للناس ثم كتمه مستحق لهذا الوعيد، فلماذا لا تتورع عن أن تنزل عليك لعنة الله، وأن يلعنك اللاعنون؟ فالذي يتصور أن من تمام الورع أن لا يقول كلمة، من تمام الورع أن لا يأمر بمعروف، من تمام الورع أن لا ينهى عن المنكر، من تمام الورع أن يغلق عليه بابه، وأن يعيش لوحده ويقول: أشغل نفسي بالعبادة والدعوة سيقوم بها غيري نقول له: لا يا أخي! الورع الحقيقي أن تتورع عن السكوت، أن تتورع عن عدم العمل ولا شك أننا لا ندعو الناس إلى أن يتهوروا، ولا ندعو الإنسان أن يقول ما لا يعلم، وأن يتصدى لما لم يتأهل له، لكن على الأقل الورع له ضوابط معينة، وكما يكون في الفعل فهو أيضاً في الترك، فكما أنك تتورع عن فعل شيء يجب أن تتورع عن ترك أمر هو واجب عليك.

الانشغال بالأمور المفضولة

الانشغال بالأمور المفضولة من المعوقات الانشغال بالأمور المفضولة: أحياناً يشغل الإنسان نفسه بأمور خيّرة وهي أمور مشروعة، لكنها أمور مفضولة، وقضية التفاضل قضية نسبية بين الناس، وأضرب لكم مثالاً تقيسون عليه: كلكم سمعتم وتسمعون لعدد من العلماء والدعاة والمتحدثين وقرأتم وتقرءون لكثير من المتحدثين وتدينون بالفضل لكثير من هؤلاء، وتعرفون أنكم استفدتم فائدة كبيرة من هؤلاء، أفلا تتصورون أن هذا العالم الذي سمعتم منه أو الكاتب الذي قرأتم له كان يود لو تفرغ للقراءة حتى يستفيد أكثر وهو من أكثر الناس شعوراً بالحاجة للعلم لأن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد علماً بحاجته للعلم، وازداد علماً بجهله، فلو كان العالم يفكر هذا التفكير لقال: أنا سأجلس وأتفرغ للتعلم فهذا خير لي. فنقول: نعم التعلم أمر فاضل، لكن حينما تنشغل بتحصيلك الذاتي عن تعليمك للناس، عن الإفتاء، عن القضاء بين الناس، عن التدريس، عن التأليف فقد انشغلت بمفضول عن فاضل، وهكذا قس على ذلك أموراً كثيرة، فبعض الناس مشتغل بأعمال من أعمال الخير عن هذه القضايا، وعندما تخاطبه يقول لك: أنا منشغل بكذا وكذا! وهذا صحيح لكن -يا أخي- هناك ميادين هي أولى من ذلك! دعني أضرب لك مثالاً افترض شخصاً من الناس تقتدي به الأمة ولو ذهبت إلى أي ميدان من الميادين ستجد اسم هذا الشخص معروفاً وخيره قد عم الجميع، فلو تصورت أنه تفرغ لأن يتتبع أحوال اليتامى وينفق عليهم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فأيهما أولى وأيهما أفضل بالنسبة لهذا الشخص: أن ينفق على الأيتام أم أن يخرج حتى يعلم الناس فيهتدي الكثير بسبب دعوته؟ إنه لو تفرغ للإنفاق على الأيتام عن الدعوة والتعليم لكان قد انشغل بعمل مفضول عن عمل فاضل. والقضية قضية نسبية، فقد يكون الأفضل لك أن تنفق على الأيتام، والأفضل لفلان أن يفعل كذا، والأفضل لفلان أن يفعل كذا المقصود أننا يجب أن نفقه مراتب الأعمال، والشيطان من وسائله في إضلال الناس أن يُشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فلابد أن نفقه مراتب الأعمال، وألا يتصور كل واحد منا أنه مجرد أن يعمل عملاً مفيداً أن هذا كاف بل يجب أن يفكر: هل هذا هو أفضل عمل يمكن أن يعمله أو لا؟

عدم الاقتناع بإمكانية التغيير

عدم الاقتناع بإمكانية التغيير من المعوقات عدم الاقتناع بإمكانية التغيير: بعض الناس غير مقتنعين بضرورة التغيير، فدع هؤلاء جانباً، لأن الانشغال بهم من إضاعة الوقت، ومن الانشغال بمفضول عن عمل فاضل، لكن قد تكون مشكلتنا مع إنسان مقتنع أن المجتمعات الإسلامية فيها فساد، بل ربما يكون متشبعاً بهذه القناعة حتى صار عنده يأس من التغيير، وصار يشعر أنه لا يمكن التغيير مطلقاً. نحن طريقنا طيب يا أخي طريقنا طريق الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي أرسل الله إليهم نبياً، لكن هذه الأمة ليس فيها إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه أن الأمة مؤهلة أن تقوم بدور الدعوة وحمل الرسالة، ولو لم تكن مؤهلة لأرسل الله فيها أنبياء. فلنأخذ سير الأنبياء، كان يرسل الله نبياً والناس مطبقون على الشرك، وكان يغير الله حالهم به، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعث وليس في مكة من يقول لا إله إلا الله، وإنما فيها ستة أو أربعة من الحنفاء كانوا يعتزلون الناس، وبقية الناس في شرك مطلق، فكانت البلاد كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله نظر إلى الناس عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب) فلما جاء صلى الله عليه وسلم غيّر الله به الأمة. قد تقول لي: إن هذا نبي ورسول مؤيد من الله، فأقول: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان الإسلام لم يتجاوز الجزيرة، ولما جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استلموا الأمر وهم على مصيبة كبيرة حصلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي الردة، حيث لم يبق إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولها، ولو فكّروا هذا التفكير لقالوا: إن الناس أسلموا واهتدوا فكيف يرجعون مرة ثانية؟ لكن جاهدوا حتى أعادوها إلى الإسلام ولم تنقض خلافة أبي بكر حتى كانت الفتوحات قد بدأت تطرق أبواب فارس والروم. وبلاد العراق وخراسان ومصر والشام كانت مطبقة على الشرك، ومع ذلك وصل عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى أذربيجان فاتحاً، ودفن أبو أيوب عند أسوار القسطنطينية، وهكذا ولو كان هؤلاء يفكرون هذا التفكير لقالوا: هؤلاء الناس لا يعرفون لغة العرب، وليس فيهم مسلم، ومع ذلك كانوا يشعرون أنهم يمكن أن يغيروا، واستطاعوا أن يغيروا. يا أخي الأمة مر بها حالات كثيرة، كيف كانت هذه البلاد قبل أن يأتي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؟ والله لو كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يفكر بهذه العقلية الذي نفكر بها لما عمل شيئاً. ويمكن أن أعكس عليك الصورة، فقد كانت مجتمعات المسلمين مجتمعات محافظة وتغيرت نحو الفساد، فما الذي غيرها؟ وأياً كان السبب فكما أنها كانت صالحة وتغيرت نحو الفساد فيمكن أن تكون فاسدة وتتغير نحو الصلاح، والمجتمعات كلها تتغير عندما يكون عندها إرادة فهذه أوروبا اليوم بلاد العلم والتقدم وقد كانت يوماً من الأيام بلاد الظلمات وكان أهلها لا يفقهون شيئاً، بل كانوا في قمة التخلف في كل مجالات الحياة، ثم بدءوا يتعلمون وتغيرت حياتهم. نحن نعرف أن هذا تغير فيه انحراف، لكن المقصود أن المجتمعات إذا أرادت تستطيع أن تغير ويمكن أن تغير، والله عز وجل أرسل هذه الرسالة الخاتمة، وأرسل هذا الدين وتعبد الناس به لأنهم قادرون أن يغيروا.

الانشغال بالنقد

الانشغال بالنقد ومن المعوقات الانشغال بالنقد: ولا شك أن النقد ضروري ومطلوب، ونحن لا يجوز أن نسكت الناقدين، ولا نعترض على أي إنسان ناقد، ولا يسوغ أبداً أن نتصور أن حسن النية ونبل القصد وسلامة الأهداف تجعلنا نستعصي على النقد فإنه يمكن أن نخطئ وتوجد أخطاء، لكن أحياناً يتحول النقد إلى صورة أخرى مثبطة عن العمل، وتوجد نماذج كثيرة من الناس تجيد النقد والتفكير بالنقد على حساب العمل، فهو مثلاً يقول لك: رجال الهيئات عندهم كذا وكذا وكذا! الدعاة يقعون في أخطاء، ويفعلون كذا وكذا! والشباب فيهم كذا وكذا، وهناك أناس يفعلون كذا وكذا ويبدأ يعطيك قائمة طويلة من هذه الأخطاء، وعندما تقول له: لماذا لا تعمل في أي ميدان من الميادين؟ يعدد هذه الأخطاء، فنقول له: هذا الكلام صحيح لكن لماذا لا تعمل أنت؟ ولماذا لا ترينا العمل السليم من هذه الأخطاء، ونحن نتمنى أن نجد عملاً سليماً من الأخطاء. هذا النوع من النقد أحياناً تشعر أن صاحبه جاد، وفيه خير، وربما يعطيك أشياء صحيحة وواقعة، لكن أحياناً يكون هذا النقد حيلة نفسية، حيث يكون الإنسان مثلاً متخوفاً من العمل لأي سبب، أو لا يريد أن يعمل، أو لا يستطيع أن يعمل، فيشعر بالفشل، ويتصور أن الذين يعملون في حلقات تحفيظ القرآن مثلاً أناس ناجحون فيلجأ إلى النقد هروباً من الواقع. وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه، والعاملين للدعوة، وأن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

التوفيق بين الانشغال بالنفس والدعوة إلى الله

التوفيق بين الانشغال بالنفس والدعوة إلى الله Q أحب العمل لله تبارك وتعالى، ولكن يغلب علي الانشغال بالاهتمام بنفسي، فكيف أوفّق بين العمل للناس ودعوتهم والاهتمام بنفسي ورفع مستواي من طلب العلم وغيره؟ A هذا السؤال يرد كثيراً، ولكن لماذا نفترض أن هناك مشكلة؟ ونفترض أن الاهتمام بالنفس وتعلم العلم يعني أن لا أدعو، وأن الدعوة تعني ألا أتعلم ولا أهتم بنفسي، مع أني أستطيع أن أعمل الأمرين كليهما. يعني دعني مثلاً أضرب لك مثالاً: كل واحد منا لا بد أن يعيش في مجتمع شاء أم أبى، سواء في ذلك الطالب، والمدرس، والموظف، والتاجر وغيرهم، ولابد أن يتعامل مع المجتمع، وهذه قضية لا ينفك عنها أحد، فهل فكرت أن تترك الدراسة حتى تتفرغ للعلم، أو فكرت أن تترك الوظيفة حتى تتفرغ للعلم، أو فكّرت أن تترك التجارة، أو تترك أي عمل. نحن نريد منك أن تسيطر عليك الدعوة وأنت في ميدانك في دراستك، في تدريسك، في عملك، في اختلاطك مع الناس أن تقوم بالدعوة فتقول كلمة هنا وكلمة هناك وتنصح فلاناً، والإنسان الداعية يشعر أن الدعوة قضية لا تفارقه في كل ميدان من الميادين، هذه أول قضية. قضية ثانية: هناك قدر مطلوب من الاهتمام بتربية النفس وتعلم العلم، لكن إلى متى؟ أعني هل تتصور أنه سيأتيك وقت تشعر أنك انتهيت؟ لا يمكن، فكلما تعلمت تشعر أنك بحاجة إلى مزيد من العلم والتعلم، أنا مثلاً عندما أتيت وقلت لك هذه الكلمة ووجهت أنت السؤال، أنا أجزم أني لو جلست في البيت أقرأ أو أتعلم سأستفيد، وأجزم أن مجيئي كان على حساب نوع الاهتمام بنفسي في أي جانب من الجوانب، لكن لما قارنت اقتنعت أنه ينبغي أن آتي، ولو فكّر الناس هذا التفكير لما عمل أحد ولا دعا، وكل إنسان سيقف. وليس هذا دعوة إلى إهمال النفس، لكن عندنا أوقات كثيرة، فأنت الآن في إجازة وعندك أوقات كثيرة تستطيع أن تقرأ فيها وتتعلم وتحضر دروس أهل العلم، وتستطيع أن تنشغل ببرامج دعوية، وتجمع بين كل هذه الأمور، والوقت في سعة إذا نظم الإنسان وقته وصار جاداً. ونحن الآن نجد ونرى من الناس من يحفظ القرآن وهو يدعو إلى الله عز وجل، ومن يتعلم العلم ويصل إلى مراتب عالية وهو قد قطع خطوات وله أدوار كبيرة.

الخوف من إنكار المنكر

الخوف من إنكار المنكر Q عندما أذهب إلى المسجد أرى بعض الشباب يقفون على الرصيف ولا يصلون وأنا لا أستطيع الإنكار عليهم باللسان ولكن أدعو لهم بالهداية، فما هو الحل في نظرك؟ A لماذا لا تستطيع؟ إن أكثر شيء يردون به هو أن يسخروا منك، وهذا لا ضرر فيه، {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31]. {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110]. فأكثر شيء يمكن أن يحصل لك هو السخرية، أما الدعاء لهم بالهداية، فهل تتصور أنك مجاب الدعوة، إذا كنت غير قادر على الإنكار عليهم باللسان، فكيف تتصور أنك بلغت القمة في الإيمان والصلاح والتقوى حتى صرت مجاب الدعوة وشعرت أن ذلك يكفي الأمة إذاً فادع للأمة حتى تحل مشكلاتها، ولا أظن أن هذا يسقط عنك الواجب أبداً.

الخطوات العملية لعلاج غض البصر

الخطوات العملية لعلاج غض البصر Q الأخ يشكو من غض البصر ويقول: أنه كثيراً ما يُطلق النظر إلى الحرام ويُبتلى بذلك، فما هي الخطوات العملية لغض البصر؟ A لماذا تعقد المشكلة، وهل تتصور أن هناك وصفة طبية تنجيك؟ يا أخي أمر حرّمه الله عز وجل وحذّرنا منه ومن آثاره ونتائجه فتخلص أنت منه، وجاهد نفسك، فالقضية تحتاج إلى جهاد كل هذه القضايا تحتاج إلى مجاهدة للنفس، وهذه هي الخطوات العملية: مجاهدة النفس وصبر وتحمل، ولجوء إلى الله بالدعاء. نحن أحياناً نعقد القضية أو نوهم أنفسنا أنه توجد خطوات معينة تساعدنا على حل المشكلة، بعض القضايا أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أن يبتعد الإنسان عن المواطن التي تكون مدعاة لإطلاق البصر، فلا يذهب للأسواق مثلاً، لا يذهب إلى مكان فيه مجال للتبرج والإثارة، يسعى قدر الإمكان إلى أن يبتعد عن المواطن التي يمكن أن يُطلق فيها البصر، وحينها يستعين بالله عز وجل ويتوكل على الله عز وجل ويسأل الله ويدعوه ويتوجه إليه. فإذا ابتعدت عن مواطن السوء التي هي مجال للنظر المحرم فإنك تكون قد أغلقت الأبواب ولم يبق إلا أبواب يسيرة يسهل أن تجاهد نفسك وأن تتخلص منها. أيضاً: أنا أتصور أن جزءاً من منشأ المشكلة هو نسبة التفكير، وأن قضية الشهوات مسيطرة علينا، لكن لو أن الإنسان شُغل بهموم، أو شغل بعبادة الله، وبطاعة الله وإصلاح نفسه، وتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله لما وجد وقتاً للانشغال بكل هذه القضايا، وشعر أنه مشغول بهم أكبر من كل هذا الهم، ولم يجد في ذهنه مجالاً للتفكير بهذه الأمور.

كيفية التمييز بين الفاضل والمفضول من الأعمال

كيفية التمييز بين الفاضل والمفضول من الأعمال Q كيف نميّز بين الفاضل والمفضول من الأعمال في مجال الدعوة؟ A هناك أعمال معروفة في الشرع أن بعضها أفضل من بعض، ثم إن هناك اعتبارات أخرى للتفاضل، فقد يكون هذا العمل أفضل باعتبار المكان، أو باعتبار الزمان، فالأفضل تعليم العلم في زمن الجهل مثلاً، وفي وقت تسلط الأعداء فالأفضل الجهاد، وقد يكون الفضل باعتبار الشخص نفسه، فيكون هذا الشخص أفضل لهذا العمل، والآخر أفضل لهذا العمل ومن علم القواعد الشرعية، والأدلة الشرعية ورزقه الله البصيرة في هذا استطاع أن يميز بين المفضول والفاضل، مع ملاحظة قضية الاختلاف بالنسبة للأشخاص، والاختلاف بالنسبة للزمان، والاختلاف بالنسبة للمكان.

تجديد الوسائل الدعوية

تجديد الوسائل الدعوية Q مجالات الدعوة المقدمة غير الفرص المتاحة الآن حلقات القرآن، والمراكز الصيفية والمكتبات، أم هي محصورة في هذه المجالات فقط؟ A لا هو أحياناً من المشكلات التي تسيطر علينا أنا نحصر أنفسنا بأنماط معينة من التفكير، ونتصور أنه لا يمكن أداء هذه الأعمال إلا من خلال هذا الأسلوب فقط، وأن غيره لا يمكن أبداً، مع أننا لو فكّرنا لوجدنا مجالات وميادين كثيرة، ووجود ميدان من الميادين نجح وظهر أكثره لا يعني أنه ليس إلا هذا الميدان. مثلاً تجد الآن ميادين دعوية اكتشفت واتجه إليها الناس، ولو كنا نفكّر بهذه العقلية ما وصلتنا هذه الميادين، فدعنا نستمر ونفكر بهذا التفكير حتى نجد ميادين ووسائل أخرى تخدم الدعوة، هذا جانب. الجانب الثاني: نحن الآن نملك طاقات كثيرة من الشباب، وطاقات من طلاب العلم، والبعض مثلاً لا يصلح له هذا الميدان، ويصلح لغيره، أعني أن بعض الناس لا يستطيع أن يتفرغ كل يوم لأجل أن يدرس في حلقة قرآن، والبعض لا يستطيع أن يتفرغ للعمل هنا، والبعض ليس عنده علم شرعي فلا يستطيع أن يلقي دروساً فعندنا طاقات كثيرة ومتفاوتة، ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى أن نفتح ميادين وفرصاً حتى نشغل هذه الطاقات. جانب آخر أيضاً: أن الناس المدعوين طبقات وفئات مختلفة، فهم أيضاً بحاجة إلى أن ننوع؛ لأنه كلما نوعنا المجالات والميادين استطعنا أن نخاطب ونتعامل مع فئات أوسع. أيضاً: أحياناً نحن نخسر بعض الميادين لسبب أو لآخر، فعندما نحصر أنفسنا في الميادين الأخرى قد نصل إلى مرحلة الإفلاس، لكن أطلقوا أفكاركم لا تضعوا أية حواجز أبداً، فقد تأتون بأفكار جديدة تخدم الدعوة، يمكن أن يأتي واحد بفكرة والثاني كذلك والثالث والرابع، وقد آتي بفكرة فتطورها أنت، وهكذا حتى نحقق نجاحاً أكبر.

عد التثبيط من العوائق عن العمل

عد التثبيط من العوائق عن العمل Q هل يجوز عد طبقة المثبطين في أوساط الشباب من العوائق في العمل؟ A أنا أتصور أن هذه لا تعوق، أعني أن الذي عنده استعداد وهو جاد ليس عنده مشكلة، وأنا أضرب لكم مثالاً لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب والمسلمون إلى غزوة تبوك كان بعض المنافقين يقول: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، وبعضهم يقول: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] وهكذا، ولكن هذا التثبيط ما صدهم. وهكذا في غزوة الأحزاب. وعلى العموم فإن التثبيط موجود، وهو يصد الناس الضعاف، كمن عنده بذرة من الفشل وليس عنده إرادة.

§1/1